رد: خمســـون عامـــاً علــــى النكـــبة - د. فايز رشيد
إجابات السيدة/ فريدة النقاش
الكاتبة والناقدة المصرية المعروفة.
الجواب الأول:
هزمنا لأسباب كثيرة على رأسها طبيعة النظم الرجعية العربية المتعاونة مع الاستعمار التي حكمت البلدان العربية المحيطة بفلسطين، وقد ثبت أن بعضها قد تعاون مع الحركة الصهيونية، وكانت الجيوش العربية مختلفة من تسليحها من جهة، وخاضعة للنظم الرجعية من جهة أخرى ورغم إدراك العرب المبكر ومنذ نهاية القرن التاسع عشر لخطر الحركة الصهيونية لم تتبلور استراتيجية عربية موحدة لمواجهة هذا الخطر، فلم يكن الوعي القومي قد نضج بما فيه الكفاية ليكون حركة سياسية منظمة تواجه المشروع الصهيوني وتكشف عن ارتباطه العميق بالاستعمار. وكانت الشعوب العربية تكافح ضد الاحتلال المباشر لأراضيها، وتعاني من مصادرة حرياتها. بالإضافة لهذا كله كان المشروع الصهيوني مسلحاً بوعد بلفور من جهة، وبالدعم غير المحدود من الدول الاستعمارية من جهة أخرى. أما انحسار المشروع الوطني الفلسطيني بدءاً من شعار تحرير كامل فلسطين وصولاً إلى المرحلة الراهنة فهو محصلة الضعف والتراجع العربي، وانسحاب المشروع التحرري العربي كله الذي انتهى بالتبعية لأمريكا والخضوع أمام الصهيوني. وكانت أسباب انحسار المشروع التحرري القومي العربي كامنة فيه منذ البداية حين نشأ من الفكر ومن الممارسة تناقض مفتعل بين ما سمي بالديمقراطية الاجتماعية من جهة والحريات السياسية من جهة أخرى, وكانت نتيجتها عزل الشعب ومصادرة حريته وحركته المستقلة. حدث ذلك من أكثر تجارب التحرر القومي العربي جذرية وهي التجربة الناصرية التي سار على هديها الكثيرون، وكشفت هزيمة 1967 عن الأخطاء والانحرافات العميقة من هذا المشروع. وكانت هزيمة 1967 هي نقطة التحول التي قبل عندها العرب بقيادة مصر الناصرية فكرة الاعتراف بإسرائيل والتعايش معها على أساس من قرارات الأمم المتحدة. والفارق الرئيسي بين المشروع الناصري والمشروع الساداتي الذي بدأ منعطفاً جديداً من الصراع نجني ثماره المرة الآن هو أن عبد الناصر حين قبل بقرارات الأمم المتحدة أخذ يعد العدة لبناء جيش عصري جديد، وخاض حرب الاستنزاف ببسالة، وراهن على موقف عربي موحد بوسعه أن يفرض السلام العادل والدائم والشامل. وكان الجيش الذي خاض حرب الاستنزاف الباسلة هو نفسه الذي سجل انتصاره المحدود على العدو في أكتوبر 1973. والمفارقة هنا هي أن المهزوم من 1967 هو الذي أعد لنصر 73 ووضع أسس مشروع عربي للتعايش بندية وعلى أسس عادلة مع إسرائيل على أساس التضامن العربي. بينما قاد مسلسل زيارة السادات للقدس واتفاقيات الصلح المنفرد مع إسرائيل مروراً بكامب ديفيد إلى حالة الضعف العربي التي كانت"أوسلو" ووادي عربة والوضع الراهن كله نتيجة مرة لها. وقد بدأ مسلسل التنازل ونحن منتصرون.
وهنا لابد أن نسجل أن منظمة التحرير الفلسطينية لم تكن في يوم من الأيام بعيدة عن كونها جزءاً من النظام العربي رغم أنها هي التي بدأت الكفاح المسلح، ولم تشكل أبداً نقلة كيفية من الكفاح التحرري العربي يخط معالم ثورية جديدة من هذا الكفاح فتأثرت بالصراعات الداخلية في البلدان العربية وانتهجت سياسة شراء الأنصار وإفساد الحياة السياسية في بعض البلدان العربية والعدوان على استقلال منظمات وأحزاب، وخلق تراتبية طبقية داخل المنظمة نفسها بالرغم من أنها ولدت في زمن ثوري كانت فيتنام فيه قد قدمت نموذجاً بهر العالم بتكامله واتساقه، بينما تقاتلت الفصائل الفلسطينية فيما بينها، ومع النظم العربية من البلدان التي لجأ إليها الفلسطينيون بعد اغتصاب وطنهم ولا أقول أن المنظمة كانت مسؤولة دائماً لكننا لا نستطيع إعفاءها من المسؤولية عن الحالة البائسة، التي وصل إليها الوضع الفلسطيني. وحين أبتدع الشعب الفلسطيني صيغته الخلاقة من انتفاضة الحجارة جرى اللعب عليها فصائلياً، بدلاً من تقديم أقصى العون لها لتنضج آليات الاستقلال، انقضت المنظمة عليها قبل أن تستكمل الانتفاضة بناء مؤسساتها التي أصابت العدو بالذعر. ثم كانت حرب الخليج وكان الموقف الفلسطيني المنحاز لصدام حسين وتأثيره المباشر الفادح على أوضاع الفلسطينيين في الخليج الذين كانت تحويلاتهم المالية إلى الداخل أحد أركان صمود الانتفاضة وتواصلها والتي عبأت القوى المنتجة في المجتمع الفلسطيني واختل الميزان التجاري الإسرائيلي الفلسطيني لصالح فلسطين لأول مرة وكانت أوسلو هي الطامّة الكبرى لأن المنظمة بدلاً من أن تحتمي بالمظلة العربية في مدريد دخلت في اتفاقية منفردة جديدة على النهج الساداتي وبدأ مسلسل التنازلات الذي لم ينته حتى الآن. وأصبحنا عاجزين حتى عن إرغام العدو على تطبيق اتفاق أوسلو الذي جرى التنازل عن بعض مبادئه من القاهرة. وحين دخلت المنظمة إلى فلسطين بعد أوسلو كنت مع القائلين إنه من الأفضل على أي حال أن تكافح المنظمة من الداخل وأن تشرع في بناء الدولة طوبة طوبة، كما نقول نحن المصريين، ووجودها في فلسطين هو أفضل على أي حال من وجودها في تونس. ولكنها حملت إلى الشعب الصابر الصامد والمكافح في الداخل كل أمراض مرحلة الشتات وصراعاتها المريرة، ومهما تكن المبالغات من حكايات الفساد التي كشفت عنها تقرير اللجنة التي شكلها المجلس التشريعي فإن النتائج العملية لوجود السلطة في الداخل هي نتائج مريرة حيث زادت البطالة وانهار مستوى المعيشة ولم ينشأ نظام ديمقراطي كافح الشعب من أجله. وانتشر الفساد والانقسام الطبقي والفقر حتى وصف أحد الكتاب(الشعب الفلسطيني في ظل السلطة) بأنه شعب يتيم. وعلى هذا الشعب اليتيم أن يكافح الآن على جبهتين: ضد الاحتلال من جهة، وضد طغيان السلطة وفسادها من جهة أخرى.
وما يزيد الطين بلة أن غالبية الشعوب العربية مكبّلة وترزح تحت وطأة نظم عشائرية وعائلية استبدادية ولا تمد يد العون للشعب الفلسطيني إلا في الحدود الدنيا.
ولكن بوادر نهوض أخذت تتبلور هنا وهناك، ويتفاقم الغضب الشعبي العربي ضد الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل بصورة تؤذن بالخروج من النفق المظلم خروجاً صحياً. ولعل أبرز وأهم مثل هو نجاح المقاومة الوطنية اللبنانية في الجنوب من إرغام العدو الصهيوني على التفكير جدياً في الانسحاب من لبنان، ولابد من أن نسجل هنا أن الموقف الإسرائيلي هذا أخذ يتغير تحت وطأة المقاومة الباسلة من جهة، ومطالبة الرأي العام الإسرائيلي بالانسحاب من الجنوب اللبناني من جهة أخرى، إذ تحسب الحكومة الإسرائيلية حساب شعبها وتصغي له من نظام قائم على تداول حقيقي للسلطة وهو ما علينا أن نتعلم منه.
الجواب الثاني:
نعم تغير المشروع الصهيوني تغيراً جذرياً حين تخلت الدولة العبرية عملياً عن ما تسميه بأرض إسرائيل الكبرى من الفرات إلى النيل-واعترفت- رغم كل السياسات التمييزية والعنصرية الحمقاء بأن هناك شعباً فلسطينياً. وقال"شمعون بيريز" وهو صهيوني قح ما معناه: أن الهيمنة ليس من الضروري أن تتحقق بعدد السكان الذين تسيطر عليهم الدولة وإنما بالقوة الاقتصادية.
وليست إسرائيل في ظل اليوتوبيا الصهيونية الرجعية سوى دولة مثل أية دولة رأسمالية أخرى تتفاقم فيها البطالة ويعيش مليون من مواطنيها الخمسة تحت خط الفقر، وتختلف عن أيّة دولة أخرى بأن رفاهها يعتمد أساساً على المعونات الخارجية والأمريكية خاصة. والاحتمال ضعيف نتيجة العلاقات العضوية التاريخية بين دولة إسرائيل ومؤسسة الحكم الأمريكية بل وحتى قطاعات واسعة من المجتمع الأمريكي أقول: لذلك أن الاحتمال ضعيف أن يتغير مثل هذا الوضع في المستقبل المنظور، وإذا ما حدث وتغير سوف ينكشف ظهر الحركة الصهيونية والدولة العبرية انكشافاً خطيراً مما سوف يحدث حتماً تغيرات عميقة من بنيتها ومنطلقاتها ذاتها.
كذلك فإن الحركة الصهيونية التي قدمت نفسها باعتبارها حركة تحرير الشعب اليهودي تلقت ضربة قاصمة بقرار الأمم المتحدة لسنة 1975 الذي ساوى بين الصهيونية والعنصرية والذي لا يقلل من شأنه أن الضغوط الإمبريالية وتفكك حركة التحرر الوطني العربية والعالمية قد أدت إلى إلغائه، بل إن الأمين العام للأمم المتحدة أخذ يعتذر للإسرائيليين عن صدور القرار.
وانكشاف الروح العنصرية الاستعلائية للحركة الصهيونية مرهون الآن بمدى قدرة العرب والفلسطينيين خاصة على المزيد من فضح الممارسات العنصرية الإسرائيلية، وتشكيل قوة ضغط متصاعدة من المجتمع الأمريكي والمجتمعات الأوروبية.
ولكن الأهم من ذلك كله هو بلورة مشروع للتعايش بين كل الديانات والأعراق على أرض فلسطين ذي مضمون تحرري وتقدمي يزيل الشوائب عن بعض الممارسات العنصرية في عدد من بلدان الوطن العربي جرت حيناً باسم العروبة كما حدث لأكراد العراق، وحيناً آخر باسم الإسلام كما يحدث في جنوب السودان.
إن مثل هذا المشروع التقدمي التحرري العربي المفتوح لكل الديانات والأعراق والأجناس هو وحده الذي سيحدث تغييراً جوهرياً في الصهيونية ويردها إلى الأصل الديني الأسطوري لتفقد وظيفتها كأداة قومية استعلائية. أي باختصار يبطلها.
وقد بدأت في إسرائيل محاولات جنينية لإعادة كتابة تاريخ الدولة يسهر عليها باحثون ومؤرخون جدد يؤكدون على طابع الاغتصاب وطرد الفلسطينيين في وطنهم ويشككون في الحكاية الرسمية.
كذلك فإن مؤشرات تراجع الهجرة إلى إسرائيل بعد كل ما عاناه اليهود السوفييت ويهود الفلاشا السود، ويهود أوروبا الشرقية فضلاً عن أن وجودهم نفسه يشكك في أسطورة النقاء العرقي، فإنه يقدم للعالم صورة لبلد غير متجانس مهدّد بالانفجار من داخله يمكن أن يتقلص سكانه بدلاً من أن يتزايدوا ليحققوا الحلم التوراتي لإسرائيل الكبرى.
الجواب الثالث:
جرى إبرام الاتفاقيتين الأخيرتين أي أوسلو ووادي عربة في زمن كانت الآثار المدمرة لكامب دافيد واتفاقية الصلح المنفرد بين الحكومتين المصرية والإسرائيلية قد مزّقت بالفعل التضامن العربي الذي كان حجر الزاوية في محاصرة المشروع الصهيوني، ويكفي أن نعرف أن إسرائيل قد خسرت على امتداد تاريخها ما قيمته أربعين ملياراً من الدولارات نتيجة للمقاطعة العربية التي عجز العرب بعد كامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة عن استعادتها رغم قرار مؤتمر القمة بضرورة العودة للمقاطعة ذلك أن اتفاقيات كانت قد أبرمت وأنشأت شبكات الاتصال وعلاقات تجارية قبل أن يحصل العرب على الحد الأدنى من حقوقهم فيما يخص القضية المركزية في الصراع وهي قضية الشعب الفلسطيني. أهدرت هذه الاتفاقيات عناصر القوة العربية في الصراع وأصبحنا نواجه إسرائيل كل بمفرده وهو أخطر ما حدث.
ورغم أنني أساند إلى أقصى حد خيار السلام والتعايش على أساس التكافؤ والندية بدءاً بالجلاء عن كل الأراضي العربية المحتلة بعد عدوان 1967 ووصولاً إلى إنشاء الدولة الفلسطينية المستقلة، فإن هذه الاتفاقيات أدت إلى إضعاف العرب حتى وهم يختارون السلام حيث مزقت شملهم وأخضعتهم للإرادة الأمريكية والإسرائيلية لأنهم حتى بلغة المساومات قاموا بالدفع مقدماً وعقدوا اتفاقيات سميت باتفاقيات السلام دون أن يواكبها جلاء شامل عن الأرض بل إن الأرض التي جلت عنها القوات الإسرائيلية مثل سيناء أصبحت مقيدة ومنزوعة السلاح ومنقوصة السيادة. أما الأرض الفلسطينية المحدودة التي جرى الانسحاب منها فقد كبلتها المستوطنات والطرق الاتفاقية والشروط التي تنتقص من سيادة السلطة الفلسطينية.
الجوابان الرابع والخامس:
من وجهة نظري سوف يجري حل الصراع ضد الصهيونية تاريخياً، أي حين تتمكن الشعوب العربية على المستوى المحلي في كل بلد على حدة من انتزاع حقوقها الديمقراطية وإزاحة الاستبداد والتسلط العشائري والأُسري وحتى الجماهيري، ولم أعد أخجل الآن من المقارنة مع إسرائيل من زاوية الحقوق الديموقراطية المتوافرة للإسرائيليين-وليس للعرب- حين تنتزع الشعوب العربية حقوقها في التعبير والتنظيم والاعتقاد والتظاهر وحتى الديموقراطية الأولية التي سوف تساعد هذه الشعوب على القيام بإعادة توزيع الثروات المنهوبة لصالح المنتجين، واستعادة الثروات العربية المرهونة في الخارج وسوف تبتدع الجماهير نفسها من خضّم هذا الصراع أشكالاً جديدة ومبتكرة لبناء الجبهة الوطنية الشعبية لمقاومة الصهيونية. وتقدم خبرة الشعب المصري في مقاومة التطبيع على مدى عشرين عاماً(هي عمر اتفاقيات كامب ديفيد والصلح المنفرد) زاداً كبيراً في هذا السياق، وفي ظني أن توسيع القاعدة العربية للفكر الاشتراكي النقدي وإتاحة الفرصة للرؤية الاشتراكية للعالم وزيادة المنابر التي تعبر عنها في سياق المزيد من الحريات الديموقراطية سوف يؤسس قاعدة متينة للإطاحة بكل الأوهام العنصرية سواء كانت صهيونية أو معادية للساميّة باسم أي دين آخر، وتمهد بذلك الأرض للتعايش في المستقبل بعد أن يندحر المشروع الصهيوني العدواني كما اندحرت من قبل مشاريع عنصرية أخرى من جنوب إفريقيا أو زيمبابوي....
إن الثقافة الوطنية الجديدة المعادية للعنصرية لابد أن تكون في الوقت نفسه معادية للاستغلال فمشروعها هو التحرر الإنساني الشامل. هناك ضرورة ملحة للاستثمار الأمثل لما بدأ في الساحة العربية من سعي لاستعادة التضامن العربي الرسمي ليكون ذلك هو الأساس الذي تبني عليه الحركة الديموقراطية العامة خططها قصيرة وطويلة المدى للخروج من المأزق الراهن. فالخروج من المأزق هو مسألة نضالية صراعية، وليست تصورات نظرية فقط. وفي اعتقادي أن القرار الذي اتخذته الأمانة المركزية لحزب التجمع، وأصدرت بمقتضاه توجيهاً لكل منظمات الحزب بأن تضع قضية القدس كبند دائم على جدول أعمالها في كل الأوقات هو مثل للاهتمام الأصيل، ولكون القضية الفلسطينية، والقدس في.... قلبها، هي هم مصري وطني.
وقد أدرك الجميع الآن بعد كل محاولات الخروج المنفرد من الأزمة مدى عقم هذا الطريق فنحن أمة واحدة مهددة بالتبعية وبالهيمنة الإمبريالية الصهيونية ويمكن لكل منا أن يخسر على حدة، لكنه بالقطع لن يكسب على حدة بمنطق استعادة الأرض المحتلة.
أتصور أن تفعيل الجامعة العربية كإطار قومي يمثل الحد الأدنى من التضامن، والتلويح للعدو باتفاقية الدفاع العربي المشترك التي لها الأولوية كاتفاقية جماعية على كل الاتفاقيات الثنائية والشروع في استعادة ولو جزء من الأموال العربية المودعة بالخارج لاستثمارها في الوطن العربي، ومساندة العراق وليبيا لرفع الحصار عنهما هي كلها خطوات أولية للخروج من المأزق، خاصة وإن الصراع المحتد بين أوروبا وأمريكا على المنطقة يتيح للدبلوماسية العربية فرصة لا بأس بها للحركة.
فريدة النقاش.
الجواب الأول:
هزمنا لأسباب كثيرة على رأسها طبيعة النظم الرجعية العربية المتعاونة مع الاستعمار التي حكمت البلدان العربية المحيطة بفلسطين، وقد ثبت أن بعضها قد تعاون مع الحركة الصهيونية، وكانت الجيوش العربية مختلفة من تسليحها من جهة، وخاضعة للنظم الرجعية من جهة أخرى ورغم إدراك العرب المبكر ومنذ نهاية القرن التاسع عشر لخطر الحركة الصهيونية لم تتبلور استراتيجية عربية موحدة لمواجهة هذا الخطر، فلم يكن الوعي القومي قد نضج بما فيه الكفاية ليكون حركة سياسية منظمة تواجه المشروع الصهيوني وتكشف عن ارتباطه العميق بالاستعمار. وكانت الشعوب العربية تكافح ضد الاحتلال المباشر لأراضيها، وتعاني من مصادرة حرياتها. بالإضافة لهذا كله كان المشروع الصهيوني مسلحاً بوعد بلفور من جهة، وبالدعم غير المحدود من الدول الاستعمارية من جهة أخرى. أما انحسار المشروع الوطني الفلسطيني بدءاً من شعار تحرير كامل فلسطين وصولاً إلى المرحلة الراهنة فهو محصلة الضعف والتراجع العربي، وانسحاب المشروع التحرري العربي كله الذي انتهى بالتبعية لأمريكا والخضوع أمام الصهيوني. وكانت أسباب انحسار المشروع التحرري القومي العربي كامنة فيه منذ البداية حين نشأ من الفكر ومن الممارسة تناقض مفتعل بين ما سمي بالديمقراطية الاجتماعية من جهة والحريات السياسية من جهة أخرى, وكانت نتيجتها عزل الشعب ومصادرة حريته وحركته المستقلة. حدث ذلك من أكثر تجارب التحرر القومي العربي جذرية وهي التجربة الناصرية التي سار على هديها الكثيرون، وكشفت هزيمة 1967 عن الأخطاء والانحرافات العميقة من هذا المشروع. وكانت هزيمة 1967 هي نقطة التحول التي قبل عندها العرب بقيادة مصر الناصرية فكرة الاعتراف بإسرائيل والتعايش معها على أساس من قرارات الأمم المتحدة. والفارق الرئيسي بين المشروع الناصري والمشروع الساداتي الذي بدأ منعطفاً جديداً من الصراع نجني ثماره المرة الآن هو أن عبد الناصر حين قبل بقرارات الأمم المتحدة أخذ يعد العدة لبناء جيش عصري جديد، وخاض حرب الاستنزاف ببسالة، وراهن على موقف عربي موحد بوسعه أن يفرض السلام العادل والدائم والشامل. وكان الجيش الذي خاض حرب الاستنزاف الباسلة هو نفسه الذي سجل انتصاره المحدود على العدو في أكتوبر 1973. والمفارقة هنا هي أن المهزوم من 1967 هو الذي أعد لنصر 73 ووضع أسس مشروع عربي للتعايش بندية وعلى أسس عادلة مع إسرائيل على أساس التضامن العربي. بينما قاد مسلسل زيارة السادات للقدس واتفاقيات الصلح المنفرد مع إسرائيل مروراً بكامب ديفيد إلى حالة الضعف العربي التي كانت"أوسلو" ووادي عربة والوضع الراهن كله نتيجة مرة لها. وقد بدأ مسلسل التنازل ونحن منتصرون.
وهنا لابد أن نسجل أن منظمة التحرير الفلسطينية لم تكن في يوم من الأيام بعيدة عن كونها جزءاً من النظام العربي رغم أنها هي التي بدأت الكفاح المسلح، ولم تشكل أبداً نقلة كيفية من الكفاح التحرري العربي يخط معالم ثورية جديدة من هذا الكفاح فتأثرت بالصراعات الداخلية في البلدان العربية وانتهجت سياسة شراء الأنصار وإفساد الحياة السياسية في بعض البلدان العربية والعدوان على استقلال منظمات وأحزاب، وخلق تراتبية طبقية داخل المنظمة نفسها بالرغم من أنها ولدت في زمن ثوري كانت فيتنام فيه قد قدمت نموذجاً بهر العالم بتكامله واتساقه، بينما تقاتلت الفصائل الفلسطينية فيما بينها، ومع النظم العربية من البلدان التي لجأ إليها الفلسطينيون بعد اغتصاب وطنهم ولا أقول أن المنظمة كانت مسؤولة دائماً لكننا لا نستطيع إعفاءها من المسؤولية عن الحالة البائسة، التي وصل إليها الوضع الفلسطيني. وحين أبتدع الشعب الفلسطيني صيغته الخلاقة من انتفاضة الحجارة جرى اللعب عليها فصائلياً، بدلاً من تقديم أقصى العون لها لتنضج آليات الاستقلال، انقضت المنظمة عليها قبل أن تستكمل الانتفاضة بناء مؤسساتها التي أصابت العدو بالذعر. ثم كانت حرب الخليج وكان الموقف الفلسطيني المنحاز لصدام حسين وتأثيره المباشر الفادح على أوضاع الفلسطينيين في الخليج الذين كانت تحويلاتهم المالية إلى الداخل أحد أركان صمود الانتفاضة وتواصلها والتي عبأت القوى المنتجة في المجتمع الفلسطيني واختل الميزان التجاري الإسرائيلي الفلسطيني لصالح فلسطين لأول مرة وكانت أوسلو هي الطامّة الكبرى لأن المنظمة بدلاً من أن تحتمي بالمظلة العربية في مدريد دخلت في اتفاقية منفردة جديدة على النهج الساداتي وبدأ مسلسل التنازلات الذي لم ينته حتى الآن. وأصبحنا عاجزين حتى عن إرغام العدو على تطبيق اتفاق أوسلو الذي جرى التنازل عن بعض مبادئه من القاهرة. وحين دخلت المنظمة إلى فلسطين بعد أوسلو كنت مع القائلين إنه من الأفضل على أي حال أن تكافح المنظمة من الداخل وأن تشرع في بناء الدولة طوبة طوبة، كما نقول نحن المصريين، ووجودها في فلسطين هو أفضل على أي حال من وجودها في تونس. ولكنها حملت إلى الشعب الصابر الصامد والمكافح في الداخل كل أمراض مرحلة الشتات وصراعاتها المريرة، ومهما تكن المبالغات من حكايات الفساد التي كشفت عنها تقرير اللجنة التي شكلها المجلس التشريعي فإن النتائج العملية لوجود السلطة في الداخل هي نتائج مريرة حيث زادت البطالة وانهار مستوى المعيشة ولم ينشأ نظام ديمقراطي كافح الشعب من أجله. وانتشر الفساد والانقسام الطبقي والفقر حتى وصف أحد الكتاب(الشعب الفلسطيني في ظل السلطة) بأنه شعب يتيم. وعلى هذا الشعب اليتيم أن يكافح الآن على جبهتين: ضد الاحتلال من جهة، وضد طغيان السلطة وفسادها من جهة أخرى.
وما يزيد الطين بلة أن غالبية الشعوب العربية مكبّلة وترزح تحت وطأة نظم عشائرية وعائلية استبدادية ولا تمد يد العون للشعب الفلسطيني إلا في الحدود الدنيا.
ولكن بوادر نهوض أخذت تتبلور هنا وهناك، ويتفاقم الغضب الشعبي العربي ضد الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل بصورة تؤذن بالخروج من النفق المظلم خروجاً صحياً. ولعل أبرز وأهم مثل هو نجاح المقاومة الوطنية اللبنانية في الجنوب من إرغام العدو الصهيوني على التفكير جدياً في الانسحاب من لبنان، ولابد من أن نسجل هنا أن الموقف الإسرائيلي هذا أخذ يتغير تحت وطأة المقاومة الباسلة من جهة، ومطالبة الرأي العام الإسرائيلي بالانسحاب من الجنوب اللبناني من جهة أخرى، إذ تحسب الحكومة الإسرائيلية حساب شعبها وتصغي له من نظام قائم على تداول حقيقي للسلطة وهو ما علينا أن نتعلم منه.
الجواب الثاني:
نعم تغير المشروع الصهيوني تغيراً جذرياً حين تخلت الدولة العبرية عملياً عن ما تسميه بأرض إسرائيل الكبرى من الفرات إلى النيل-واعترفت- رغم كل السياسات التمييزية والعنصرية الحمقاء بأن هناك شعباً فلسطينياً. وقال"شمعون بيريز" وهو صهيوني قح ما معناه: أن الهيمنة ليس من الضروري أن تتحقق بعدد السكان الذين تسيطر عليهم الدولة وإنما بالقوة الاقتصادية.
وليست إسرائيل في ظل اليوتوبيا الصهيونية الرجعية سوى دولة مثل أية دولة رأسمالية أخرى تتفاقم فيها البطالة ويعيش مليون من مواطنيها الخمسة تحت خط الفقر، وتختلف عن أيّة دولة أخرى بأن رفاهها يعتمد أساساً على المعونات الخارجية والأمريكية خاصة. والاحتمال ضعيف نتيجة العلاقات العضوية التاريخية بين دولة إسرائيل ومؤسسة الحكم الأمريكية بل وحتى قطاعات واسعة من المجتمع الأمريكي أقول: لذلك أن الاحتمال ضعيف أن يتغير مثل هذا الوضع في المستقبل المنظور، وإذا ما حدث وتغير سوف ينكشف ظهر الحركة الصهيونية والدولة العبرية انكشافاً خطيراً مما سوف يحدث حتماً تغيرات عميقة من بنيتها ومنطلقاتها ذاتها.
كذلك فإن الحركة الصهيونية التي قدمت نفسها باعتبارها حركة تحرير الشعب اليهودي تلقت ضربة قاصمة بقرار الأمم المتحدة لسنة 1975 الذي ساوى بين الصهيونية والعنصرية والذي لا يقلل من شأنه أن الضغوط الإمبريالية وتفكك حركة التحرر الوطني العربية والعالمية قد أدت إلى إلغائه، بل إن الأمين العام للأمم المتحدة أخذ يعتذر للإسرائيليين عن صدور القرار.
وانكشاف الروح العنصرية الاستعلائية للحركة الصهيونية مرهون الآن بمدى قدرة العرب والفلسطينيين خاصة على المزيد من فضح الممارسات العنصرية الإسرائيلية، وتشكيل قوة ضغط متصاعدة من المجتمع الأمريكي والمجتمعات الأوروبية.
ولكن الأهم من ذلك كله هو بلورة مشروع للتعايش بين كل الديانات والأعراق على أرض فلسطين ذي مضمون تحرري وتقدمي يزيل الشوائب عن بعض الممارسات العنصرية في عدد من بلدان الوطن العربي جرت حيناً باسم العروبة كما حدث لأكراد العراق، وحيناً آخر باسم الإسلام كما يحدث في جنوب السودان.
إن مثل هذا المشروع التقدمي التحرري العربي المفتوح لكل الديانات والأعراق والأجناس هو وحده الذي سيحدث تغييراً جوهرياً في الصهيونية ويردها إلى الأصل الديني الأسطوري لتفقد وظيفتها كأداة قومية استعلائية. أي باختصار يبطلها.
وقد بدأت في إسرائيل محاولات جنينية لإعادة كتابة تاريخ الدولة يسهر عليها باحثون ومؤرخون جدد يؤكدون على طابع الاغتصاب وطرد الفلسطينيين في وطنهم ويشككون في الحكاية الرسمية.
كذلك فإن مؤشرات تراجع الهجرة إلى إسرائيل بعد كل ما عاناه اليهود السوفييت ويهود الفلاشا السود، ويهود أوروبا الشرقية فضلاً عن أن وجودهم نفسه يشكك في أسطورة النقاء العرقي، فإنه يقدم للعالم صورة لبلد غير متجانس مهدّد بالانفجار من داخله يمكن أن يتقلص سكانه بدلاً من أن يتزايدوا ليحققوا الحلم التوراتي لإسرائيل الكبرى.
الجواب الثالث:
جرى إبرام الاتفاقيتين الأخيرتين أي أوسلو ووادي عربة في زمن كانت الآثار المدمرة لكامب دافيد واتفاقية الصلح المنفرد بين الحكومتين المصرية والإسرائيلية قد مزّقت بالفعل التضامن العربي الذي كان حجر الزاوية في محاصرة المشروع الصهيوني، ويكفي أن نعرف أن إسرائيل قد خسرت على امتداد تاريخها ما قيمته أربعين ملياراً من الدولارات نتيجة للمقاطعة العربية التي عجز العرب بعد كامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة عن استعادتها رغم قرار مؤتمر القمة بضرورة العودة للمقاطعة ذلك أن اتفاقيات كانت قد أبرمت وأنشأت شبكات الاتصال وعلاقات تجارية قبل أن يحصل العرب على الحد الأدنى من حقوقهم فيما يخص القضية المركزية في الصراع وهي قضية الشعب الفلسطيني. أهدرت هذه الاتفاقيات عناصر القوة العربية في الصراع وأصبحنا نواجه إسرائيل كل بمفرده وهو أخطر ما حدث.
ورغم أنني أساند إلى أقصى حد خيار السلام والتعايش على أساس التكافؤ والندية بدءاً بالجلاء عن كل الأراضي العربية المحتلة بعد عدوان 1967 ووصولاً إلى إنشاء الدولة الفلسطينية المستقلة، فإن هذه الاتفاقيات أدت إلى إضعاف العرب حتى وهم يختارون السلام حيث مزقت شملهم وأخضعتهم للإرادة الأمريكية والإسرائيلية لأنهم حتى بلغة المساومات قاموا بالدفع مقدماً وعقدوا اتفاقيات سميت باتفاقيات السلام دون أن يواكبها جلاء شامل عن الأرض بل إن الأرض التي جلت عنها القوات الإسرائيلية مثل سيناء أصبحت مقيدة ومنزوعة السلاح ومنقوصة السيادة. أما الأرض الفلسطينية المحدودة التي جرى الانسحاب منها فقد كبلتها المستوطنات والطرق الاتفاقية والشروط التي تنتقص من سيادة السلطة الفلسطينية.
الجوابان الرابع والخامس:
من وجهة نظري سوف يجري حل الصراع ضد الصهيونية تاريخياً، أي حين تتمكن الشعوب العربية على المستوى المحلي في كل بلد على حدة من انتزاع حقوقها الديمقراطية وإزاحة الاستبداد والتسلط العشائري والأُسري وحتى الجماهيري، ولم أعد أخجل الآن من المقارنة مع إسرائيل من زاوية الحقوق الديموقراطية المتوافرة للإسرائيليين-وليس للعرب- حين تنتزع الشعوب العربية حقوقها في التعبير والتنظيم والاعتقاد والتظاهر وحتى الديموقراطية الأولية التي سوف تساعد هذه الشعوب على القيام بإعادة توزيع الثروات المنهوبة لصالح المنتجين، واستعادة الثروات العربية المرهونة في الخارج وسوف تبتدع الجماهير نفسها من خضّم هذا الصراع أشكالاً جديدة ومبتكرة لبناء الجبهة الوطنية الشعبية لمقاومة الصهيونية. وتقدم خبرة الشعب المصري في مقاومة التطبيع على مدى عشرين عاماً(هي عمر اتفاقيات كامب ديفيد والصلح المنفرد) زاداً كبيراً في هذا السياق، وفي ظني أن توسيع القاعدة العربية للفكر الاشتراكي النقدي وإتاحة الفرصة للرؤية الاشتراكية للعالم وزيادة المنابر التي تعبر عنها في سياق المزيد من الحريات الديموقراطية سوف يؤسس قاعدة متينة للإطاحة بكل الأوهام العنصرية سواء كانت صهيونية أو معادية للساميّة باسم أي دين آخر، وتمهد بذلك الأرض للتعايش في المستقبل بعد أن يندحر المشروع الصهيوني العدواني كما اندحرت من قبل مشاريع عنصرية أخرى من جنوب إفريقيا أو زيمبابوي....
إن الثقافة الوطنية الجديدة المعادية للعنصرية لابد أن تكون في الوقت نفسه معادية للاستغلال فمشروعها هو التحرر الإنساني الشامل. هناك ضرورة ملحة للاستثمار الأمثل لما بدأ في الساحة العربية من سعي لاستعادة التضامن العربي الرسمي ليكون ذلك هو الأساس الذي تبني عليه الحركة الديموقراطية العامة خططها قصيرة وطويلة المدى للخروج من المأزق الراهن. فالخروج من المأزق هو مسألة نضالية صراعية، وليست تصورات نظرية فقط. وفي اعتقادي أن القرار الذي اتخذته الأمانة المركزية لحزب التجمع، وأصدرت بمقتضاه توجيهاً لكل منظمات الحزب بأن تضع قضية القدس كبند دائم على جدول أعمالها في كل الأوقات هو مثل للاهتمام الأصيل، ولكون القضية الفلسطينية، والقدس في.... قلبها، هي هم مصري وطني.
وقد أدرك الجميع الآن بعد كل محاولات الخروج المنفرد من الأزمة مدى عقم هذا الطريق فنحن أمة واحدة مهددة بالتبعية وبالهيمنة الإمبريالية الصهيونية ويمكن لكل منا أن يخسر على حدة، لكنه بالقطع لن يكسب على حدة بمنطق استعادة الأرض المحتلة.
أتصور أن تفعيل الجامعة العربية كإطار قومي يمثل الحد الأدنى من التضامن، والتلويح للعدو باتفاقية الدفاع العربي المشترك التي لها الأولوية كاتفاقية جماعية على كل الاتفاقيات الثنائية والشروع في استعادة ولو جزء من الأموال العربية المودعة بالخارج لاستثمارها في الوطن العربي، ومساندة العراق وليبيا لرفع الحصار عنهما هي كلها خطوات أولية للخروج من المأزق، خاصة وإن الصراع المحتد بين أوروبا وأمريكا على المنطقة يتيح للدبلوماسية العربية فرصة لا بأس بها للحركة.
فريدة النقاش.
تعليق