“ طفولة “ الرايات خافقة تحت سماء لم تتكّون بعد… أما نحن المنذورون لنحملها تحت الريح وتحت المطر فعلينا أن نتكّون أيضاً. ـ سعدي يوسف ـ “ طفولة “ - 1 - هكذا كانت الصباحات تهلّ مؤتلقة ! وعبر البراري المنداحة على مدِّ النظر كنت تركض حتى تتوحـد بالسمـاء، وترى إلى مـا لا نهايـة، بدءاً بسفوح "طوروس" ذات الـلـون الأسود المتداخـل بالبنفسجي شمـالاً، وانتهـاء بجبل "عبد العزيز" الرمادي اللون، ينهض عـن الأرض كنهدٍ جنوباً ! مأخـوذاً بأصـداء الطفولـة كنت تقطـع الفلــوات المرصّعــــــة بالعاكول والخروب والأعشاب المتيبسة على ضفة "الزركـان"، وآنها لم تكن تعــرف أن زمنـاً سيجيء لا يشبـه ما قبلـه، زمنــاً تفتقـد الأشيـاء فيــه تناغمهــا، فيغيض " الزركــــان" من قبل أن يتناسل مع "الخابور"، وتتقزم من حوله أشجار البطم! وفي حـلّك وترحـالك كـــان قطيـع الغنــم، واندفــاع الطفـولـة النزقـة خارج مـدارات المألـوف يرافقانـك، بعيداً تقـذف عصـاك، فيركض "بطـاح" لإحضارها، وتسابقه مشجّعاً، قاطعـاً الغيضات المالحة، مخترقاً غلالة الغبار الرقيقة، لكن "بطاحاً" كان يسبقك إليها ! غرباً كنت توغـل حيث الهواء ـ بُعَيْد الفجر ـ مفعمٌ برطوبـة رخيّـة، فيما "الجدَيدْة" ماتزال نهب نـوم لذيذ، فيشرع "الأحيمر" صدره للريح الغربية، يفتح خياشيمه ليعبّ منها، وتصهل الروابي والتـلال الصغـيرة بصدى الجرس المعّلق في رقبة "المرياع" ! صعداً نحو مركز القبة الزرقـاء الشفيفة، يرتفع قـرص الشمس، فتنبعث في الجـــو رائحة عشب يفقـد ما تبقى في الأنساغ من ريـق، وتلجـأ الطيـور و الزواحف إلى حمى ذروة تقيها، و تتمايـل سوق القمح، و هي تنوء تحـت سنابلها، وتتلفح البرية بهواء راكد ! لابأس ! ما يزال الطقس محتملاً ! كنتَ تقــول، وتركـــض لتلاعب النعاج، تندفع من بعيد ملوحاً بعصاك، فيهتاج القطيع، وينحر يميناً و يساراً، ثم تعود لتجميعه، فينخفض ثغاؤه، تلاعب خروفـاً، وتضحــك، تأخــذ التراب بيـــن أصابعك، تفركه فيلثغ بالندى، تقذفه بعيداً إلى الأعلى، تنشره فـي وجه السماء، وترفع رأسك نحو الشمس، لكن هالة البهاء الخاطف لسناهـا يفجؤك، فتديـر رأسـك بسرعـة، و قد غطت يداك وجهك كله، بعد قليل تبعدهمـا، وتفتح عينيك، لكنك لا تـرى خلا السـواد ـ فيه ـ تومض نجوم صفر وحمر، ثم تعاودك الرؤية بالتدريج! كانت المسافـات تسرقك، والوهـاد المستلقية في البهاء الطلـق تطويك، وها أنت تبتعد عن القرية، ولا شيء يوقفك، وقد يحدث أن تمرّ بك عربـة سيارة، فتسابـق ظلك إليهـا، وتنقلب يداك إلى مناديل ملوحة، ففي المعتاد من الأحوال لم تكن ترى عربة مثلها إلا مرة كل عام! كــــان ذاك آن يحّل الآغـا بالقريـة، فيرتفع الصخب، ويجتمـع الفلاحون في بيت المختار،بينما يتراكض الأطفال حول المضافة، يتأملـون العربـة بدهشـة، ثم يسقـط خـروف مسكين ضحيــة لتلك الزيارة ! تخـوم المنطقـة الجبليـة تندفـع نحـوك، وبفـرح غـامر تعتلـــي الصخور، لا أحد ـ إلاّك ـ عبر الجهـات الأربع ! سيد ما حـولك أنت، و قد تحمل آخـر ألسنة الريــح صـوت دوري ، أو درغل واقـع في الفخـاخ العديـدة التي كنتَ تعدّها بمهـارة، فيصل إحساسك بالفـرح إلى الذروة ! عنـد الظهيـرة كـل شيء كـان يلتهب، ويصبح خانقـاً ومغبـراً، فتتمــدد في ظلِّ أشجـار البطم، وتمسح عرقـك، تسيح مـــع دورة الزمن متذكراً أيام الشتاء، فتبتسم ساخراً من نفسك! في الشتاء أيضاً لم يكن ثمة ملجأ خلا الصخور! حتى إذا وصلت أمك مع الحلاّبات عصراً، لـم تعـد الأرض تحملك، فتروح تنظر إلى وعاء الحليب وهو يمتلئ، ويعلـوه الزبـد، بينا تعالـج أصابـع أمـك أضرع النعـاج بخفـة ودرايـة، كنت تتمنّى أن تنحني لتـرى خيوط الحليب الحريرية، وهي تصطدم بالآنية النحاسية، بدلاً من الإمساك برؤوس الشياه العصية على الهدوء، لكنك ما تلبث أن ترفع الإناء نحو الأعلى، وتشرب الحليب الطازج بنهم، ناسياً كل شيء! وحين كانت أمك تبتعد، وتندمج مع خط الأفـق الراحــل نحــو القرية، كانت يدك تمتدّ متسللة إلى جيبك، لتخرج علبة الثقاب التي سرقتها من الدار، ثم تندفع هنا وهناك، تجمع روث البهائم، وبقايا القش الجـاف، وتشـوي مـا اصطدتـه مـن عصـافير، إلـه المكـان ــ أنـت ــ في لحظـة واقعـة خارج مسارات الزمن، وانكسارات العالم ! بيد أن الغروب ما يلبث أن يزحف، فينحدر الطريق المُترب عائداً إلى القرية، يجرك خلفه منهكاً ملوّحـاً، وخلفك يسير القطيع مطاطئاً سابحاً في آخر التماع للشمس المحتضرة، بينما يتدلى لسان "بطاح" الأحمر! ومع اقتراب القطعان من القرية، كانت غلالة كثيفة من الغبار تتداخل بثغاء النعاج، وأصوات الرعاة، فيتحول بئر القرية، ومورد الماء إلى قفير نحل ـ فيه ـ تصطف رؤوس النعاج العطشى، ويشعر المتأمل في المشهد عن كثب بذلك الاتسّاق المهيب في الطبيعة، وهي تكشف عن أسرارها عبر تلك الهمهمات الغامضة المتبادلة بين عناصر الكون الأزلية، فيما يرين وجوم غريب على الطيور الداجنة والزواحف والهوام، وكأنها هي الأخرى مأخوذة بقدرة الخالق، ويروح الكبار في السن يسبّحون بحمد الإله في ما تبقّى لهم من زمن،في الوقت الذي يتراكض ـ فيه ـ الأهالي لمساعـدة الرعاة على منع القطعان من الاختلاط، والتأكد من سلامتها، فإذا ورد القطيع، ألفيت أباك في الزريبة ينتظر، بعد أن أعدّ المذاود بالعلف! الإنهاك يداهمك، يأخذ مداه داخل الشرايين بعـــد يوم مرهق، و عيناك المطفأتان تجهدان في طلب الراحة ، فقط عليك أن تنتهي من تعليف القطيع، وتسكت تلك المعدة الجائعة ! ـ 2 ـ أنت الآن في مملكة النشوة ! وفي اللحظة المنفلتة من عقــال أزمنة البشر، يبــدو المـرء متماسكاً قوياً كقلعة عصية على السقوط، إلا أن اللحظات المسربلة بالغموض كانت على الأبواب، حادة كمدية انتُضيت تطعـن فـــلول المعقولات المهزومة، فمادت الأرض، وما بدا متماسكاً قوياً راح يتشظى، وينهار فتاتاً! كنت تحس بأنك تقف في الفراغ، وما استجد من حولك لم يكن نسيجاً مترابطاً مقنعاً لمنطق الطفولـــة! فوقفت متمزقاً، موزّع النفس بين الماضي الأليف، واحتمـــالات المستقبل الغامض، وما كان لك إلاّ أن تبتهل إلى الله كي لا يقع ما تخشاه! الله ! ذاك الطيف غير المرئي، الكلّي القدرة، والمتناهي الجبروت، الذي يهوّم فوق تلك المناطــق العذراء، وكنتَ تتســاءل بحيرة، ما الذي يدفع أباك إلى النزوح نحو المدينة!؟ لماذا يريد أن يقتلع النبتة مـن جذورها إلى بيئة غريبة!؟ أنت جزء مــن هذا المكان، تمامـاً كمـا الشجرة الواقفة بباب القرية، وهذا المكان وهج في دمك، ينغل فيه بساحاته ومساربه، فهل جاءت نهاية الأيام اللذيذة التي كنت تقضيها تحت الشموس المتوهجة، وعلى ضفاف "الزركان"، وبين غيضاته!؟ " أنت ترين يا أم أحمد، أن أحمد قد كبر، وأنهى المرحلة الإبتدائية "، ليتك لم تنه تلك المرحلة! لو كنت تعرف بأنها ستبعد الأقمار عن أفلاكها لما فعلت، ولكن أنّى لك أن تعرف!؟ مساءً كنت تعود إلى البيت مغموراً بوشاح من السعادة، فلا تستطيع انتظار أمك كي تخلع الحذاء من قدميك، وتهاجم "منسف" البرغل بنهم، ضاحكاً من زجرها، لكن سعال أبيك الأجش يرتفع ـ فجأة ـ من الغرفة المجاورة، فتستقيم في جلستك، وتنتظر ريثما تخلع أمك الفردة الثانية، لتنتقل إلى الغرفة الأخرى، تقعد قدام النار، وتنظر إلى "المنقل" بيد أبيك، يفتح به باب المدفأة، ويخرج منها قطعاً من روث البهائم، بعد أن تحولت إلى جمرات حمراء رائعة! كان أبوك كعادته يخرج كل ليلة إلى مضافة المختار للسمر، فتنسلُّ بدورك إلى أترابك، تقلبون العالم المحيط بكم إلى أعراس صغيرة على طريقتكم، لكن الهمهمات المبهمة التي أخذت تدور بين أبويك مؤخراً كانت تبدو غامضة، مثيرة للتوجس، والاهتمام الذي كان يرتسم على محياهما يدفعك إلى الاستماع " كما أنك تعرفين بأنني مريض، وأحتاج أن أكون قريباً من الأطباء"، وهكذا ـ وبكل بساطة ـ يؤول كل شيء نحو نهاية غير مشتهاة! كتب عليك ـ إذن ـ أن تترك "الجدَيدْة"، التي حفظتها في نبضك والأوردة، وتنسى فخاخك المخبأة طي التراب الرطب والقش المتقصف المبلول وبقايا الروث، فتتأكسد، ويحول لونها إلى أخضر عفن كذاك الذي يغطي الأرض غبّ تحلل الروث بمياه الأمطار، وتهجر أصدقاءك محمد وطه وحسّو! فمن بعدك لمطاردة الثعالب في الليالي المقمرة بين خطوط الفلاحة!؟ ومن ـ بعدك ـ "للغميضة" والركض الحافي على الحدود بين القرى المجاورة والقلب!؟ ومَنْ سيستخرج الفطر من باطن الأرض!؟ يا الله! و"الأحيمر" الذي ما يني يرافقك إلى المرعى مذ وعيت، مَنْ يمتطيه من بعدك!؟ ثم ما مصير "بطاح" رفيق اللعب، وحامي القطيع!؟ الفكرة تلو الفكرة تداهمك، وأنت كما سنونوة تاهت عن سربها، فدهمتها الثلـوج، وعـزّ الملجـأ، وفي ذلـك المدار الغامض لدورة الأشيــاء، راح الخيــط الأبيض يختلط بالخيط الأسود! و "الحسكة" هذه كيف تكون!؟ بكل ما التقطته أذناك من أحاديث متفرقة تطوف الذاكرة الذاهلة! "بيوتها كبيرة، يعلو بعضها فوق البعض!" كيف ذلك !؟ يلحّ السؤال ! وكيف ينزل ساكنو الأدوار العليا!؟ ثم لماذا يسكن الناس فوق بعضهم والبرية واسعة!؟ "وهي مضاءة بالكهرباء!" وما هذه!؟ "حتى شوارعها مضاءة بمصابيح كهربائية!" والشوارع أيضاً!؟ وتروح الذاكرة الواهنة تسيح على شتات الكلمات عن الحوانيت الملأى بالرز والعدس والسمن والسكر والدخان والأقمشة والأطعمة والحلوى والحبال والفاكهة والخضار! مكسورة هي المعادلة داخل الذهن المنهزم، فأين من هذا كله قريتك الخالية من الحوانيت، تنتظر "أبا عبدو الحواج" انتظار العيد، أو الموسم، فإذا أقبل بعربته المغلقة، حاملاً للأطفال السكاكر، والمناديل المصنوعة في "الموصل" للنساء، والدخان للرجال، قفزت القلوب من الفرحة، وتراكض الأطفال من حوله يحلمون،فيما تهوّم الأصوات المتداخلة، لتتكسر على حواف البيوت ونتوءاتها! "وما أكثر العربات السيارة في المدينة ! بعضها كبير، وبعضها صغير!" يا إلهي! يقفز السؤال: كيف يسير الناس في الدروب إذن، ولِمَ لا يملك أهل القرية عربات سيارة!؟ تلوّح بيديك في الهواء، تطرد أسراب الأفكار والأسئلة الملحة، هذه المدينة قناص يقتنص اللحظـــات الهانئة من حياتك، وأبوك مــا ينفك يقرأ في رأس أمك ! "وشوارعها مغطاة بالإسفلت!" فلا وحل في الشتاء، ولا غبار في الصيف! وهكذا يسلبونك القرية! مدية فوق العنق، أو عنق تحت السكين! والأشياء الأليفة الحبيبة إلى القلب تنأى، القطيع، وبيت المؤونة حيث الطماطم اللامعة تراودك عن نفسها إثر زيارة الحوّاج، و رفاق الليالي العابثة المليئة بالصخب والمرح! معهم سرقت دجاج الأرملة "أم قاسم"، وانتحيتم ركناً نائياً، تأكلون اللحم، وتخفون الريش والعظام! اشتعلي أيتها الذاكرة، واستحضري العالم كله، أو انطفئي و اخمدي، فلقد تعب المهر الصغير! أتذكر ليلة كدنا نحرق محصول القرية!؟ يسألك "إبراهيمو"، حتى لو نسيت، فإن العقـاب الذي طالكـم يبقى وشماً في الذاكرة! الثعلب الملعون جُنّ حينما أشعلتم النار في ذيله وطار ـ ليلتها ـ نحو الزرع! يتوهم المرء بأنه قد نسي! لكنه في لحظة خارجة عن الإرادة، يكتشف بأنه لم ينسَ شيئاً، ذلك أن المخزونات تندفع كطائر حبيس أطلق! وها أنتذا ـ مـع رفاق اللهو ـ في طريقكم إلى بستان "أبي خليل"، معهم ذبحت البطيخ المسروق، ولم توفروا الشمّام والخيار، ومعهم يسوقك الشتاء إلى المدرسة غيمة باردة، تنتابها أحاسيس متضاربة، تراوح بين الوجل والترقّب والرهبة والفضول! يا للمدينة التي لم تكن تخطر في البال! كيف غمرت تلك البليّة عقل أبيك وأمك، وأصبحت شغلهما الشاغل!؟ هي تتساءل، وهو يجيب! هي تتخوّف من الخطو نحو المجهول، وهو يطمئنها، ويهدّئ بالها " الرزق على الله، والمثل يقول مطرح ما ترزق إلزقْ! لن نموت من الجوع، ففيمَ خوفك!؟ الله خلقنا، وهو كفيل بإطعامنا! لن نخسر شيئاً من المحاولة! ماذا سنخسر!؟ هه!؟ أجيبيني ماذا سنخسر!؟ ما الذي نملكه في هذه القرية لنفقده!؟ لا شيء! لا أرض، لا أقرباء، إنهم ليسوا عرباً حتى! لست أدري أيّ ريح مشؤومة حملتنا إلى هذا المكان! حتى لو كنا نملك أرضاً، لذهب جلّ محصولها إلى الآغا، فماذا تخشين بعد!؟" يا الله! طفل أنت، و"الجدَيدْة" أمك ومشيمتك والرحم، فكيف صدر ذلك الكلام عن أبيك!؟ اختلاط غريب في الأشياء يحجب المدى، ويكثّف الزمن في لحظة مشحونة بالأسى والانحراف في البوصلة! أنت خجل من كلامه، وفي سرّك تحمد الله؛ لأن أهل القرية لم يسمعوا ما قاله، ومع ذلك فأنت مدين لهم بالاعتذار! عاتبون هم لو عرفوا، لاشيء لكم في هذه القرية! طيّب، وبيتكم، وقطيعكم الصغير، وحبل السرّة الذي يربطكم بأهلها مذْ وعيتَ!؟ أهلها الذين ما تركوا فرصة إلاّ وأثبتوا فيها حبّهم لكم! والعشرة التي لاتهون إلاّ على أولاد الحرام!؟ و التراب، والزّل، والغَرَب، وشجيرات البطم، والأودية!؟ مسارب القرية وساحاتها، أعراسها، مآتمها، ليالي السمر، والأحاديث الليلية الشائقة!؟ ألا تكفي تلك المفردات كلّها لبقاء السماء زرقاء في سمتها!؟ وإذا لـم تكن تلك الأمـور مجتمعـة تعطـي الإنسـان حسّ الانتمـاء، فـما الذي يعطيه ذلك الإحساس!؟ لا جواب! نهضت حالة انكسار عاجزة عن النفاذ إلى ما وراء الظواهر! لا شك في وجود خلل! نعم! ثمة قناع يحجب جوهر الأمور، ولكن أين يختفي ذلك القناع!؟ - 3 - الليل، آهة حرّى، وأسى هاجع تحت صفحة الوجه الساجي! والقمر، شرخ رقيق في القلب بين قرية وادعة حبيبة، ومدينة مُرتجة على أسرارها! "الجديدة"، أفق مفتوح على السكينة والهدوء الحالميَنْ، وزورق مُشرع تحت عباءة الليل! والبيوت، مربّعات سوداء لم تأخذ أبعادها بعد! وأنت مهزوم غبّ الأحداث الأخيرة، ومنكسر حتى آخر راية! ثمة ـ في الجوف ـ عطب مبهم يعتقل العينين، ويمنع عنهما الكرى! "لمبة الكاز" ترسم ظلالاً باهتة على السقف الخشبي والجدران الترابية! و كشجرة أنهكها النخر وقفتَ منقسماً، تريد أن تحيط بالأشياء لتروي شوقك إلى عوالم أنيسة توشك أن تغيب؛ متمنّياً أن تنقلب الذكريات إلى وشم مطبوع في مدخل القلب، قبل أن تسلس قيادك للأيام، فتمضي بك بعيداً، ذلك أنّ أجزاء القرار قد تكاملت، وغداً، أو ربما بعد غدٍ ستحضر شاحنة لكي تقلّكم إلى المدينة! أعوامك الثلاثة عشر تصرمّت بسرعة لا تلوي على شيء! وهذا السقف المتكوّم فوق رأسك بألفة، يفعل ذلك للمرة الأخيرة ربما، ولكن هل هذا ممكن!؟ نهضتَ، أنت تعرف الدار شبراً شبراً،وكلُّ زاوية فيها تهمس لك بذكريات حميمة! الظلمة سيّد مهاب، وشقوق الباب الخارجي تسرق شيئاً من ضوء القمر! كان زير الماء يتربّع على حامله في الزاوية الشمالية الشرقية للصالة، فيما ألقت يد الإهمال بدلو قديم إلى جانبه، أمّا الحائط الشمالي فتتوسطه كوّة صغيرة راحت تتلصّص على البيادر الشمالية الراحلة بعيداً، ومن غرفة الأهل إلى غرفة الضيافة، فغرفة المؤونة، فالمعلف، كان ذلك البيت يزوّدك بالأمان طيلة السنين التي تصرمّت! رحباً كان وأليفاً، فنما حبه في قلبك نمو عشب يكسر القشرة الخارجية للأرض ! عبر المعلف اندفعتَ إلى الزريبة المتّصلة بالدار، فشعرتَ بقبضة جبّارة تعتصر الجوف! كانت الزريبة خالية، وبدت لك في غبش الفجر واسعة! لعلها لم تكن ـ بالمعيار الموضوعي ـ كذلك! لكنها المرة الأولى التي كنتَ تدخل فيها المكان وهو فارغ! آثار التبن والشعير والروث كانت منتشرة في كل مكان، فيما كانت عيدان الحطب تغطّي السقف المُغبّر، فاستدرتَ لتهرب من تلك الأحاسيس الضاغطة، بيد أنك تفاجأت بأمك وهي تقف خلفك! كانت عيناها تحملان طيف دمعة، بينما كانت أرنبة أنفها تشي بنشيج وشيك، فألقيتَ بنفسك في حضنها هارباً من توحّدك، مشيحاً بوجهك لئلاّ ترى الدمعة المفلتة برغم التماسك، واحتضنتك بقوة، فهل كانت هي الأخرى تهرب من وحشتها وتوحّدها!؟ متأبّطاً وحدتك، فاقداً التواشج مع الزمن كنتَ، وكان الفجر يهيّج في النفس رغبة عارمة في التوجه إلى ساحة القرية ومساربها، لتمرّ على البيوت، والبئر، ومورد الماء، والقبور، والأرض المفلوحة، والبيادر! كلُّ شيء كان يدعوك لأن تراه، وتلمسه لآخر مرة! ومن الأعماق شاط حنين حارق إلى الرعاة يضيعون في رهج الضياء! ولكن أيّ جدوى لتلك الأمنيات بعد أن باع أبوك النعجتين، والكبش، والعنزة الوحيدة!؟ كسوف مفاجئ في الشمس، وخسوف في القلب! أن تعتلي ظهر "الأحيمر" لتطوف بحـــواف "الزركان" كحـاج، وتنتقل بين غيضاته وأوديته وتلاله وحجارته وشجيراته وأرضه السبخية، تلك كانت رغبتك الأخيرة الممعنة في النأي! فمن أوصل الأمور إلى الأعتاب الموصدة!؟ ومن دفعك إلى التعلق بحبال السرّة بحثاً عن اندماج تستحيل معه الانفصالات!؟ و هاأنت تكاد أن تجهش، فتلك أشياء لا تخطئها الأذن لندرتها!نعم! إنّه الصوت الأبّح لمحّرك عربة! وإذن، فقد أزف الوقت! وبدأ الناس يتوافدون للوداع كأغنيات مبحوحة حزينة! ملتاثاً كنتَ، و مشتتاً، فلم تستطع الإحاطة بتفاصيل المشهد الذي راح يدنو من نقطة اللاعودة حثيثاً! أيدٍ مصافحة، وأخرى تربت على الأكتاف، أو تحتضن القامات والضلوع بشّدة، في محاولة منها لمنع الانفصام المهيمن على اللحظة، أو تأخيره للحظات، والزمن يتشقّق، فتتشقّق معه الشفاه التي تجاهد الكلام من غير أن تجده،ثمّ هدر المحّرك مبتعداً، وبقيت أنظاركم معلقّة بالثلّة البشرية التي راحت تتضاءل، والأيادي الملّوحة التي أخذت تنأى؛ زارعة في القلب انفطاراً وشيكاً، فاعتصرت يداك مسند المقعد بقوّة، وحده"بطّاح" ظل يركض خلف الشاحنة بجنون، وخيلّ إليك أنّ عينيه كانتا تبكيان! وحين غابت اللوحة اليتيمة الممهورة باسم "الجدَيدْة" عن الأنظار، تصاعد نشيج حزين من مركز الذاكرة، واندمجت لوعتك بالمشهد الذي مالبث أن اتّحد بخطّ الأفق! - 4 - أيّ سطوة للأمكنة تتبدّى، بحيث تبدو محاولة فصم عرى الاندماج معها معادلة للموت! الزمان هو الزمان أو أكثر قليلاً، لكن المكان اختلف! ولكل مكان بصمته وملامحه, تلك البصمة الواثقة التي تؤكّد ـ في المجتبى الأخير ـ أنَّ النصر صنو الهزيمة في معركة كهذه! صحيح أن ما تصرّم من زمن لم يكن كبيراً, لكنّ ما يجري من حولك كان ـ بكل المقاييس ـ موغلاً في الغرابة! فهناك, في ذلك المدى المترع بالغبار,المتدثر بالنسيان, استلقى الحّي الذي انتهت رحلتكم إليه على كتف تلّة وسيعة, منذوراً لأصابع الهاجرة والإهمال, فنما في خلسة من الزمن, وتوسّع شرقاً, وفي وسطه ارتفع الخزان الذي يمدّ المدينة بمياه الشرب, باسطاً سلطانه على المكان كطائر خرافي هائل! كانت البيوت الطينية المتناثرة قدام العين بطاقات احتجاج راشحة بالأسى, تستدعي المقارنة بين لوحتين؛ أنْ أين هي البيوت الكبيرة؛ التي كان أبوك يتكلّم عنها!؟ إنْ هي إلاّ أكواخ مهلهلة ترتطم ببعضها,وتستسلم لحواف أزقة متربة؛ شبيهة بعروق شاحبة في جسد منهك؛ فأين اختفت الكهرباء التي تنير هاتيك البيوت, وأين توارت المصابيح التي تضيء أزقّتها!؟ معمّداً بالانخداع الوالغ في الدم وقفتَ تتأمّل الحوش الذي توقّفت الشاحنة أمامه، فيما كّل شيء من حولك يتقصّف وينكسر! أهذا هو المكان الذي كان أبوك يغزل صورته بمغزل عاشق وله!؟ كــان الحـوش مبنيـاً بحجـارة سـوداء غيـر مليّصـة, فبـدا ـ وقــد عــلاه الغبـار ـ كئيباً وباهتاً, ولم يكن ثمة باب يسدّ المدخل! ولكن ما الذي أغراكم بتلك المقايضة التي لم تكن تعنّ في البال!؟ كلّ شيء من حولك كان غريباً, غير مألوف, وربما معادياً أيضاً! ذلك أن الدار التي ستطويكم تحت جناحها بدءاً من تلك اللحظة كانت تضمّ غرفة مستطيلة بلهاء، ضيقة وطويلة، تتّصل بغرفة أصغر، ربما كانت في أصل تصميمها مطبخاً! وراحت الألفة المُفتقدة بينكما تكشف لعينيك عيوب المكان تحت ستار مُسبق من الرفض المبطّن! كانت الجدران تنوء تحت وطأة السقف الخشبيّ المحمول على عوارض خشبية، وكانت يد الماء قد خطّت رسوماً غريبة على تلك الأعمدة؛ التي اسودّت بفعل الدخان الناجم عن التدفئة، فازدادت كآبة! أحاسيسك كلها كانت مرهونة لصالح بيت رحب أليف ظلّ هناك،أين منه هذا البيت الموحش؛ الذي يشكو ضيق ذات اليد، ابتداءً بدكّته الإسمنتية التي تنتهي إلى حفرة في الخارج أُعدّت لاستقبال مياه الاغتسال، وانتهاءً بالباب المتداعي ذي الشقوق الواسعة! بيد أن هذا كلّه لن يوازي جزءاً من معاناتك المرتبطة بمشكلة التغوّط، إذْ أن المرحاض ـ الذي عرفتَ اسمه فيما بعد ـ استوى في ركن من الحوش على شكل حفرة في الأرض، متدارياً بزاوية الحوش من جهة،في حين نهضت التلة الترابية؛التي اسُتخرجت من الحفرة نفسها،لترسم ساتره الأمامي من جهة أخرى. وهناك، على بعد خطوات من داركم راحت الأراضي الزراعية تغطّي المسافة الفاصلة بينك وبين أبيك بالأسئلة! إذن! فمـا الفرق بين هـذا المكـان والقريـة التي تركتموهـا وراءكـم!؟ هناك ـ في القرية ــ كـان الناس سيجتمعون مــن حولكم لمساعدتكم في ترتيب أثاثكـم، فيما لم يحركّ أحدهم ـ هنا ـ ساكناً! بل أخذوا يراقبونكم من خلف الأبواب المواربة من باب الفضول ربّما! هناك ما كان ليفوت أهل القرية أنكم مُتعبون، وأنّ أدوات المطبخ قد ضاعت بين أثاثكم، فيتسابقون إلى استضافتكم، و إطعامكم، في حين رسم الجيران ـ هنا ـ قطراً لدائرة ما تجاوزوها نحوكم! حتّى التّحية ضنّوا بها! ثمّ ما لبثوا أن أغلقوا أبوابهم، وانصرفوا إلى ما كانوا فيه! أنت تقرّ ـ مُكرهاً ـ أن هذا الحيّ ليس قرية، برغم علامات التشابه، ولكن أحداً لا يستطيع أن يّدعي التماثل بين ما تراه عيناك، وبين تلك الصورة الموشاة بالألق، التي كان أبوك يرسمها عن القصور الإسمنتية الفارهة،والشوارع النظيفة المُعبّدة،والحوانيت الكبيرة الملأى بمختلف أنواع البضائع، والسيارات التي لا تُحصى، لكي يزيّن لأمك مغامرتكم هذه! "يا امرأة أطلبي لبن العصفور هناك، وستجدينه في متناول اليد!" فهل كان أبوك ـ لا سمح الله ـ يغرّر بكم!؟ ما الذي حدا برجل مثله إلى سكنى دار إيجارها اثنتا عشرة ليرة سورية!؟ كانت الدور ـ على حدّ علمك ـ تشاد لسكنى أصحابها، أمّا أن يبني المرء داراً لكي يؤجرها، فأنت لم تكن قد سمعت بشيء من هذا القبيل! ومن غير أن تشعروا كان الليل قد أرخى غطاء معتماً على الكائنات، فأفسحت أمك مكاناً لنومكم وسط الأثاث المتكوّم بفوضى عجيبة! استلقيتَ فوق فراشك الجديد! كان التعب قد تسلل إلى الأعصاب المشدودة، التي نال منها السفر والقلق، موهناً محطات التماسك، فتوزّعت الأعضاء المُنهكة على أجزاء الفراش، تطلب راحة مرمّمة للخلايا، لكن النوم ـ بعكس ما هو مُتوقّع ـ أخذ ينأى، وراحت الغرفة الضيّقة تضغط على الأعصاب، وشعورك بالعزلة يسفّ روابي النفس العزلاء! أهي الغرفـة ضيّقـة إلى ذلك الحّد ، أم أنـه القلـب يضفـي علـى الأشيــاء هواجسه ومخاوفه وانكساراته!؟ تساءلتَ، وهرباً من ألم مفترس لا يعرف الرحمة أو المنطق،أخذتَ تتأمّل الأشياء التي كانت تتراءى ضائعة،ذلك أن بضع ساعات – فقط - كانت قد انقضت على رحيلكم عن القرية،لكنّ صورتها ـ برغم الإلحاح ـ أخذت تستعصي على الحضور، فتسرب الخوف إلى أعماق النفس المكروبة يرضّها! أيمكن لنا أن ننسى بهذه السرعة!؟ انبثق السؤال في الجوف يمور ويؤلم ، لكن ما يحدث، راح ـ ككّل جديد ـ يفرض سياقه الخاص،وفي وقت متأخّر من الليل؛ تغلبّ التعب على الأسئلة القلقة المحتشدة في الرأس، فذهبتَ في نوم مضطرب مُثقل بالكوابيس! - 5 - يوماً بعد يوم كانت معرفتك بالمكان الجديد تزداد، لتنتقل العلائق إلى فضاء القبول المضمر! لم يكن ما يحدث بينكما توافقاً، بل كان نوعاً من الهدنة المفروضة عليكما، ربما لأن سفنك كانت تسير بعكس الرغائب، ولم يكن في الإمكان الإعراب عن احتجاج صغير يضّمد العجز المحسوس في الداخل! غصنٌ ما كان مزهراً في الأعماق، بيد أنه تيبّس! قد يكون أشعة الطفولة التي أخذت تنضج، وتنتقل ـ قبل أوانها ـ إلى عالم الكبار! وقد تكون غربة داخلية أخذت تنمو، وتعتصر كل ما هو غضّ فيك، إلاّ أنك لم تكن تملك غير الاستمرار، فابتداءً بزقاقكم القصير الذي كان ينحدر من الشمال إلى الجنوب بشدة، وانتهاءً بالإعدادية التي فغرت بابها الحديدي البارد لابتلاعك؛ كان كل ما حولك يضغط، وينكأ الجراح الصغيرة! كان الصف الذي استقبلك ببرود وتجاهل إحدى تلك المنغصات، فلقد انتظم في نسيجه خليط عجيب من البشر ضمّ أبناء الريف إلى جانب أبناء المدينة، ليعسكوا سلوكاً متبايناً تباين الأصول المختلفة التي قدموا منها! وكان التلاميذ القادمون من الريف ينتبذون بأنفسهم زاوية نائية من ساحة المدرسة؛ هرباً من السخرية التي كانت تسحب ظلها على المدرسين والموجهين والتلاميذ، لكن التعويض لا يلبث أن يطّل برأسه عبر التفوق في الدراسة؛ على أساس من التحدي والتحدي المضاد ربما، ولكن شتّان بين التحديَيْن،بين الفجّ المشاكس والهــادئ الحيّي، إذ هـاهـو الأخير ينجح في وضع حــدٍّ لغرور خصمه اللدود، وينتزع منه اعترافاً متذمراً بشرعية وجوده! الجغرافيا بفضائها الملغّز، وأرضها المحيّرة، وأسمائها العصية على التذكّر، رسمت ـ بدورها ـ دائرة مرصودة حولها، فنشأ بينكما جفاء غريب، من غير أن تتبين طبيعة ذلك الجفاء أو منشئه، فإذا تصادف درس الجغرافيا ذاك مع الساعات الأخيرة من الدوام، فاض بك الكيل، ذلك أن الضغوط التي تنفر من شقوق الملل تتضافر مع استغاثات المعدة الجائعة، وسطوة النعاس، فيضحي التوفيق بين تلك الهزائم الصغيرة، ونظرات المدرّس الصارمة مشكلة بالغة الصعوبة! هذا إذا لم تتدخل عصاه في حل الإشكال الصغير بدلاً من عينيه المتربصّتين! وهاهو الجوع يضغط، والحركة في الجسد الغضّ تطالب بمجالها الحيوي، فيما ينقل السأم مشاعرك إلى خانة الإحباط، فتبدو تلك العذابات الصغيرة بلا نهاية، لكنّ المربع البليد يطلق سراحك أخيراً، فتتنفّس الصعداء، وتتخذ سمتك نحو الجسر الذي يصل حيكم بالبلدة! كان ذلك الجسر يفرض ضريبته على المارة، فلقد كانت السيارات التي تعبره تَشمُ أولئك المارة بنصيبهم من الغبار صيفاً، وحصتهم من الطين المتطاير عن عجلاتها شتاءً! غبّ الجسر كانت أقدام التلّة التي يربض عليها الحي تنهد بك إلى خاصرة ساقية؛ لتستريح بجوارها بعضاً من الوقت، متلهياً بالتطلّع إلى كوخ المجنونة "مارين"، المستلقي بإزاء خزان الماء كعلامة فارقة، فتتداعى لحظات اللهو الحمقاء متّكئة على عبث طفولي فظّ، إذْ ما تكاد المسكينة تصل إلى كوخها، إثر جولتها في أزقة البلدة، حتى تهاجمونها بقسوة، ليشهد المدى الممتد بينكم معركة حامية سلاحها الحجارة والشتائم، فلا تجــد فرصة للهدوء والراحـة غبّ يوم مـرهق! أمّا مـن هـي "ماريــن"!؟ ومن أين جاءت!؟ ومـن الذي أطلق عليها لقب "سيبورة"!؟ هل لها أقارب مثلاً!؟ فإنّ عالم الطفولة الشقية ما كان ليأبه بمعرفة الأجوبة،ثم أن أحداً لم يكن ليستطيع أن يضيء تلك البقع المعتمة من حياتها! أطفالاً كنتم، وما كان لشيء أن يقف في طريق لهوكم!وحين كانت "سيبورة" تمضي جلّ نهارها متنقلة من زقاق إلى زقاق؛ مسبوقة بثيابها الرثة المتباينة الألوان، كان الطريق يقودكم إلى كوخها لتلصّوه، إلا أنكم ما كنتم تعثرون على أي متاع خَلا دكّة خشبية قليلة الارتفاع، يعلوها فراش رثّ مغطّى بقطعة جلد صناعيّ تمنع عنه البلل، فيركبكم الحنق، وتروحون تبعثرون متاعها الزهيد، ثم تتخفون في انتظار عودتها! إنكم تتحرقون شوقاً لمعرفة ردّ فعلها على مزاحكم الثقيل، وهي توشك على إنهاء جولتها، ربما لأن بضعة قروش قد انتهت إلى جيوبها، لكنها تتفاجأ بالأثاث المتناثر حول الكوخ، فتتلفّت حولها، وهي تشتمكم في أصولكم والفروع، إنها تعرف بأنكم متخفوّن في مكان ما، لكنها لا تعرف أين! فتنتظر متربّصة لأنها متأكّدة بأنّ أحدكم سيفقد السيطرة على نفسه، وتفلت منه ضحكة مكتومة تدلّها على مكانكم، وعندها ستنخرطون في معركة جديدة غير متكافئة؛ لا يعلم نتائجها إلاّ الله! كان سكان الحيّ يشكّلون خليطاً غير متجانس، بعضه يستمدّ دمه من نزيف ريفيّ مستمّر عن المناطق المجاورة، في حين تضخ المحافظات الأخرى بعضه الأخر، ولم يكُ الأمر ليخلو من ملامح غير واضحة لتجمّع منسجم القوام عندما يكون ذلك متاحاً! أما غالبية سكان زقاقكم فكانوا قد قدموا من ريف "حلب"؛ هرباً من الحاجة التي سرقتهم من قراهم، وبعثرتهم "كحواجين" في المنطقة الممتدة بين "الحسكة" و "الموصل"! وكان البقية يتوزعون على أعمال موسمية كما هو حال المناطق الزراعية عادة، فلقد كان قسم منهم يعملون كعتّالين في موسم القمح أو القطن، فيما اتكأ البعض منهم على شهادة محو الأمية للعمل كمستخدمين في المدارس والدوائر الرسمية، أما الذين حُرموا من هذه وتلك، فلم يجدوا بدّاً من تحويل غرفة من غرف دورهم إلى"دكاكين"؛ أخذوا يبيعون فيها شيئاً من الخضار أو السكر أو الصابون، من غير أن تنقطع أواصرهم بالقرى التي انحدروا منها تماماً، إذْ أنّ بعضهم كانوا قد تركوا وراءهم قطعة من الأرض؛ راحوا يستثمرونها بأنفسهم أو بوساطة مزارع! وسط ذاك الخضّم أخذ أبوك يتفكّر في مهنة مريحة؛ تعينه على العيش من جهة، ولا توهن قلبه المريض من جهة أخرى، فقلّب الاحتمالات على وجوهها،بيد أنها لم تكُ تخلو من وجه كالح لا يتناسب ووضعه الصحي، ولمّا لم يقع على جواب مناسب، هدته أمك إلى الحلّ، فلم ينتظر طويلاً، بل عمد إلى باب الحوش يوسّعه، ثُمّ بنى بجانبه ـ من الداخل ـ ثلاثة جدران، ورفع فوقها شمسية من أكياس الخيش المشدودة إلى عوارض خشبية، وأخذ يعرض فيها الخضار نهاراً، أمّا في الليل فكانت أمك تعمد إلى إدخال بضاعته خشية أن تُسرق، إذْ لم يكن ثمة باب لدكانه! بتعثّرٍ كان الرجل يبحث عن ظلّه، ويحاول أن يمسح عن حياتكم الصدأ، في انتظار الأيام الحبلى بالتوقع! - 6 - شيئاً فشيئاً كانت التفاصيل تنمو، وتنفتح لك مغاليق المكان، ويتكامل المشهد في المخيّلة، فعند تزاوج "الخابور" بـ "الجغجغ"، أو قبله بقليل؛ انزوت البلدة على استحياء؛تخفي ضآلتها وصغر سنّها بين المدن القديمات! كان الأول يتقدّم من الشمال الغربي، ثمّ ينعطف شرقاً ليخطّ حدودها الغربية والجنوبية،بينما كان الثاني يتهادى نحو الجنوب مترسماً تخومها الشرقية! وفي أصل من ذاكرة الكبار كانت "الحسكة" مجموعة بيوت قليلة العدد، اجتمعت على خدمة الثكنة العسكرية؛ التي ابتناها الفرنسيون على شاطئ "الخابور"، غير أنّها اليوم تتمدد داخل أضلاع مثلث وادع؛ ضلعه الأول يمتد من ثكنة الهجانة غرباً، وحتى الثكنة العسكرية شرقاً، مروراً بالسجن، ودار المحافظة، أمّا ضلعه الثاني فيتّخذ سمته من ثكنة الهجانة جنوباً، لينطلق نحو ملجأ عسكري؛ بناه الفرنسيون على شاطئ "الجغجغ" شمالاً، في حين يعتقل الضلع الثالث ـ الذي ينطلق من ذلك الملجأ باتجاه الجسر المبني على نهر "الجغجغ" ـ المدينة، متمّماً دارة ناقصة تتخلّلها الفجوات غير المبنية بعد! قد لاتكون المفردات كثيرة، بيد أنه لاشيء يستطيع أن يغيب عن الخطا اللاهثة وراء تفاصيل جديدة تضمّها إلى مخزونات الذاكرة، إذْ هاهي الأقدام تلوب في الأحياء الثلاثة التي نمت حول البلدة بسرعة؛ مستمدّة نسغها من نزوح ريفي لاينضب! إلى الشرق، وعلى الطريق الذاهب إلى "الهول"، فالحدود العراقية؛ كان حي "العزيزية" يتكوّم بإهمال وكسل، متطلعاً إلى اللحظة التي يُخدَّم فيها كالبلدة! وإلى الشمال من المركز كان حي "تل حجر" يرمق البلدة بعين حاسدة، ربما للسبب ذاته! أمّا إلى الجنوب، فقد ترامى حيّ "غويران" عند أقدامها، مستأثراً بالعناية والتنظيم، ربما لقربه من البلدة، أو لأنّ غالبية الموظفين القادمين من المحافظات الأخرى كانوا يستقرون فيه! ثم راحت الأيام تتصّرم، وبتصرمها أنشأ المكان ينتقل من مناخ المهادنة إلى مناخ القبول تدريجياً، بحيث لم يمض وقت طويل حتى أخذتَ تقرّ بأنك تعلمت الكثير من الأشياء فيه! فأنت لا تنكر بأنّ أترابك في الحيّ هم الذين علمّوك السباحة، وإذا كانت المسألة تبدو عادية اليوم، إلا أن اللحظة الأولى ـ التي استطعتَ أن تضرب الماء فيها بيديك وقدميك ـ ستظلّ لحظة استثنائية مطبوعة في ذاكرة الطفولة! حدث الأمر ذات صيف، ولذلك فإنك تنتظر الأصياف المدهشة بفارغ الصبر! ثم أليست تلك الأصياف هي الفصول التي تغلق فيها المدارس أبوابها!؟ أما كيف وقعت المعجزة، فأنت لم تعد تتبين الأمر بوضوح! مرعوباً كنتَ، وكنتَ ترفض الخوض في الماء، وإذا امتدت يد أحدهم إليك ممازحة، تراجعتَ هلعاً، بيد أن التكرار والتشجيع أفقداك حذرك تدريجياً، وشيئاً فشيئاً أخذت تخوض في أماكن أكثر عمقاً! في ما بعد طغت رغبتك على الوجل والتردد إلى أن طفوتَ! ولم تصدق ما حدث ابتداءً، لكن المحاولة الثانية أكدّت لك حقيقة ما حصل، فخفق قلبك الصغير من الفرحة! كانت كرة القدم معروفة في القرية أيضاً، بيد أن الكرة التي كنتم تلعبون بها ـ هناك ـ كانت عبارة عن لفائف من الأقمشة البالية، بحيث لم تكن قابلة للدحرجة الحرة، كما أنها سرعان ما كانت تتفكّك بفعل الركل، وعليه فأنت مضطر للإقرار بأن الفضل في انضمامك إلى فريق كرة القدم؛ إنما يعود إلى أترابك في الحيّ، وأنك تجرّعت ـ مع هؤلاء الأتراب ـ مرارة الهزيمة، كما تذوقّتَ معهم حلاوة النصر، فأخذ اندغامك بالمجموع يتنامى شيئاً فشيئاً! لكن ما أذهلكم عن أنفسكم تماماً؛ كان يوم أن اكتشفتم صالة السينما المعتمة، فهناك، في تلك الصالة المدهشة تفتّحت حواسكم على عوالم بالغة التنوع والغرابة، عوالم حالمة رهنت أفئدتكم لمصلحة حالة من التماهي العجيب، فأخذت أبصاركم الحائرة تتابع مصائر وحيوات أبطالكم الُمحببّين بجوارح الطفولة البريئة؛ التي لم يُخطّ عليها الكثير بعد! ليسجل المؤشر في خوافقكم تمزّق الأحاسيس بين العواطف والأهواء المتباينة والمتناقضة! إلا أن ذلك الهوى ـ الذي كان في طريقه إلى الإدمان ـ كثيراً ما كان يصطدم بصعوبة تأمين ثمن التذكرة، فيفوتكم أن تروا "عنترة بن شداد" وابنة عمه "عبلة"و"هرقل الجبار" و"أوليس" و "طرزان"، وقردته المدهشة "شيتا"! ثم أنكم لستم مشاهدين سلبيين، إذْ قد يحلو لكم أن تعيدوا تشخيص ما استأثر بألبابكم على الشاشة البيضاء، فيروح أحدكم يتقمص دور "طرزان"، ويتوارى خلف نبتات السوس والإثل المنتشرة على ضفاف "الجغجغ"، بانتظار أن يجيء الوحش! وربمّا عنّ لكم أن تنقسموا إلى معسكرين متناحرَيْن، يضم الأول البطل ورفاقه على قلتهم، بينما يضم الثاني الملك الشرير وأتباعه، فتقعقع السيوف المصنّعة من الأطواق التي تُلفّ بها أكياس الخيش، والتروس التي كانت في الأصل قطع صاج دائرية أو بيضوية، في حين تتكفل الأشرطة المطاطية بحلّ مشكلة الأقواس والسهام! تشتد المعركة، فيزخ عرق الطفولة، وتقفز القلوب الغضّة عن الصدور، لكن النصر يمشي في ركاب البطل من كلّ بدّ، ذلك أنّ النهاية في الفيلم جاءت على تلك الصورة! والآن!؟ كيف تتدبّرون ثمن التذاكر!؟ تتفكرون، وتشبعون الموضوع تفكيراً، وتيأسون، وتكاد خطاكم الغضّة أن تتفرّق يائسة، إلا أن الحلّ ما يلبث أن يومض في فضاء الذاكرة! فهناك، بإزاء الدرب المتلوّي في طريقه إلى جبل "كوكب" كانت قمامة المدينة تنهض على شكل تلّة وسيعةغير مُنتظمة؛ يطلق عليها أبناء الحيّ اسم "الزبالات"! إنّها المكان الوحيد الذي يمكنه أن يمدّكم بثمن التذاكر !هناك،كنتم تجدون أكواماً هائلة من القمامة التي تضمّ خليطاً عجيباً من قشور البرتقال والطماطم المتعفّنة، وقشور التفاح والموز، وفضلات الأطعمة، ونوى التمر، والورق المُستهلك، والزجاج المكسور الذي كان يغطّي النوافذ أو الأبواب، والزجاجات الفارغة، والكؤوس المكسورة، والأواني النحاسية، أو تلك المصنوعة من "البافون"، وعلب الأدوية الفارغة، وبقايا الخضار والأحذية الجلدية أو البلاستيكية، ومزق الثياب، والمصابيح الكهربائية التي كانت تنير الشوارع والبيوت ذات يوم، وأعقاب السجائر،والأدوات البلاستكية التي لم تعد صالحة للاستعمال، وبقايا الحبال والقنّب! كان الرماد يغطّي كل شيء، وأسراب الذباب تسدّ الأفق، بيد أنّكم ما كنتم لتأبهون بها، ولا بالرائحة الكريهة المنبعثة في كلّ اتجاه، فما يهمّكم من ذلك الخليط ، يتلخصّ في آنية نحاسية، أو مداسات بلاستيكية كانت تعطيكم بطاقة مرور إلى صالتكم تلك! لم يكن حجم القرية، ولا طبيعة العلاقات بين أهلها تحيجهم إلى تكتلاّت كتلك التي عرفتها في البلدة، حيث الناس لا تعرف بعضها البعض، وحيث الميول والمشارب والأهواء والبيئات تختلف، لينضوي صبيتها تحت راية عصابات صغيرة بحسب أحيائهم، عصابات تضع حماية الحّي من صبية الأحياء الأخرى نصب أعينها! صحيح أنّها قد تتجاوز حدود تلك النوايا بفعل الإحساس بالقوة، لكنها ـ في النهاية ـ تتواضع على خطوط عامة لا تتخطّاها غالباً، فهي لا ترى تثريباً في التقاط بعض من أعقاب السجائر داخل صالة السينما المظلمة ، أو التسلّل نحو شاطىء "الجغجغ" من أجل السباحة في مياهه المالحة ، أو توجيه ضربة تأديبيّة ضدّ عصابة من عصابات الأحياء الأخرى، بيد أنّها لا تسمح بالسرقة، أو الإقدام على عمل مشين مثلاً! وهاهو اليوم يمضي قدماً نحو نهايته،ولم يبق شيء يستطيع أن يبعث في نفوسكم الإحساس بالنشوة والسرور؛ لم تقدموا على اقترافه تحت ضغط الإحساس الطفولي بالحياة، وحان وقت عودتكم إلى بيوتكم التي غبتم عنها طويلاً! لكن مشكلة صغيرة تعترض تلك العودة، وتهددّ متعتكم بنهاية غير سارة، إذْ من يقنع أمهاتكم بأنكم لم تسبحوا في مياه "الجغجغ"، بعد أن تركت بصماتها المالحة على شعوركم وسراويلكم الداخلية!؟ وما السبيل إلى إقناع أولاء الأمهات بأنكم كنتم تلعبون في الظّل، بعد أن وشمت الشمس جلودكم الغضّة بوشمها!؟ بل ما الطريقة لإقناعهنّ بأن الجروح التي خلفّها الزجاج المكسور في أقدامكم، أو أيديكم وقعت لكم في مكان آخر؛ لا علاقة له "بالزبالات" المحظورة عليكم !؟ وهرباً من تلك الأسئلة الممضّة التي ما كنتم تلاقون لها إجابات فورية، فإنكم ما كنتم ترون بأساً في قضاء بعض من الوقت عند السيد "علو "! و "علو" ـ هذا ـ رجل في نهايات العقد الخامس من عمره، لا يعلم أحد ـ على وجه التحديد ـ من أين جاء! كان شعره المصفّف إلى الخلف يتكشّف عن الجبهة قليلاً؛ يخالطه شيءً من البياض، فيما كان وجهه المكرمش يشي بآثار الزمن! بيد أنّ العلامة المميّزة التي أعطته شهرته الواسعة تلك جاءته من شاربه الطويل المعقوف نحو الأعلى! ذلك أنه كان يبذل الكثير من وقته وعنايته لذلك الشارب، فيروح يصففّه، ويدهنه، ويتأمله بكثير من الإعجاب، بحيث راح البعض يراهن على أنّه يدهن شاربه بالسمنة العربية، في حين راح البعض الآخر يقسم على أنّه يدهنه بدبق التمر! كان "علو" يلحم صفائح الجبن المُملّح للناس، فيدفعون إليه ببضعة قروش تقوم بأوده، ورغم أن قصته تبدو عادية في حيثياتها، إلاّ أنه بقصد منه، أو من غير قصد، كان قد دفع بالأمور إلى حدودها القصوى، فهو لم يكن يقيم في دار كبقية خلق الله، بل اتخذّ من المحرس العسكري الذي بناه الفرنسيون عند جسر "الجغجغ" مسكناً، ولم يكن لداره تلك نوافذ بالمعنى المألوف للكلمة، إذْ استُبدلت بشقوق طولانية تمكّن المتمترس في الداخل من النظر! كما لم يكن لها ثمة باب، بل فتحة ضيّقة منخفضة كان "علو" يسّدها بلوح من التنك في الليل! وكان الدخان الناجم عن اللحام يغطّي الجدران؛ باسطاً ظلّه على المتاع النزر الزهيد! بقي أن تأتي القصة على تتمّتها، وتحاول أن تجيب عن السبب الذي حدا بالأمهات إلى تهديد أولادهن بذلك المسكين، من غير أن تستطيع إحداهنّ أن تقدّم تفسيراً مقنعاً لتلك النقطة! ألأنّ الرجل كان يربّي مجموعة من كلاب الصيد في كوخه مثلاً!؟ أم لأنه كان غامض الهوية للناس، مجهول الماضي!؟ هل كان " علو" صياداً قديماً؛ يدفعه هوى متأصل إلى تقديم كلابه على نفسه في المأكل والمشرب!؟ لكن تلك الأسئلة ستظل سرّاً مستعصياً على الناس، ربما لأن أحداً منهم لم يكن قد كشف في الرجل ما يضير، بل أنه على العكس كان كثير المزاح، محبّاً للأطفال، وكثيراً ما ارتفع صوته بأغان تركية رخيمة، فهل كان " علو" تركيّاً ألقت به يد الترحال على ضفة " الجغجغ"، أم أن الأيام العاتيات هي التي بعثرت فقرات عمره بتلك الطريقة!؟ بيد أن الوقت أخذ يتأخر، ولم يبق أمامكم إلاّ أن تعودوا إلى دوركم، إذْ ليس من المعقول أن تبيتوا ليلتكم في الكوخ، ولا بدّ من المجازفة! ثم أنكم متيقنّون ـ في النهاية ـ من أن قلوب أمهاتكم ستلين، وعندها فإن تلك القلوب ستميل إلى تصديق أكاذيبكم برغم المظاهر المكذّبة، فتعودون، وأنتم ترددون في سرّكم أن لا بدّ مما ليس منه بدّ!
إذا الشعب يوما أراد الحياة
فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر
“ طفولة “ الرايات خافقة تحت سماء لم تتكّون بعد… أما نحن المنذورون لنحملها تحت الريح وتحت المطر فعلينا أن نتكّون أيضاً. ـ سعدي يوسف ـ “ طفولة “ - 1 - هكذا كانت الصباحات تهلّ مؤتلقة ! وعبر البراري المنداحة على مدِّ النظر كنت تركض حتى تتوحـد بالسمـاء، وترى إلى مـا لا نهايـة، بدءاً بسفوح "طوروس" ذات الـلـون الأسود المتداخـل بالبنفسجي شمـالاً، وانتهـاء بجبل "عبد العزيز" الرمادي اللون، ينهض عـن الأرض كنهدٍ جنوباً ! مأخـوذاً بأصـداء الطفولـة كنت تقطـع الفلــوات المرصّعــــــة بالعاكول والخروب والأعشاب المتيبسة على ضفة "الزركـان"، وآنها لم تكن تعــرف أن زمنـاً سيجيء لا يشبـه ما قبلـه، زمنــاً تفتقـد الأشيـاء فيــه تناغمهــا، فيغيض " الزركــــان" من قبل أن يتناسل مع "الخابور"، وتتقزم من حوله أشجار البطم! وفي حـلّك وترحـالك كـــان قطيـع الغنــم، واندفــاع الطفـولـة النزقـة خارج مـدارات المألـوف يرافقانـك، بعيداً تقـذف عصـاك، فيركض "بطـاح" لإحضارها، وتسابقه مشجّعاً، قاطعـاً الغيضات المالحة، مخترقاً غلالة الغبار الرقيقة، لكن "بطاحاً" كان يسبقك إليها ! غرباً كنت توغـل حيث الهواء ـ بُعَيْد الفجر ـ مفعمٌ برطوبـة رخيّـة، فيما "الجدَيدْة" ماتزال نهب نـوم لذيذ، فيشرع "الأحيمر" صدره للريح الغربية، يفتح خياشيمه ليعبّ منها، وتصهل الروابي والتـلال الصغـيرة بصدى الجرس المعّلق في رقبة "المرياع" ! صعداً نحو مركز القبة الزرقـاء الشفيفة، يرتفع قـرص الشمس، فتنبعث في الجـــو رائحة عشب يفقـد ما تبقى في الأنساغ من ريـق، وتلجـأ الطيـور و الزواحف إلى حمى ذروة تقيها، و تتمايـل سوق القمح، و هي تنوء تحـت سنابلها، وتتلفح البرية بهواء راكد ! لابأس ! ما يزال الطقس محتملاً ! كنتَ تقــول، وتركـــض لتلاعب النعاج، تندفع من بعيد ملوحاً بعصاك، فيهتاج القطيع، وينحر يميناً و يساراً، ثم تعود لتجميعه، فينخفض ثغاؤه، تلاعب خروفـاً، وتضحــك، تأخــذ التراب بيـــن أصابعك، تفركه فيلثغ بالندى، تقذفه بعيداً إلى الأعلى، تنشره فـي وجه السماء، وترفع رأسك نحو الشمس، لكن هالة البهاء الخاطف لسناهـا يفجؤك، فتديـر رأسـك بسرعـة، و قد غطت يداك وجهك كله، بعد قليل تبعدهمـا، وتفتح عينيك، لكنك لا تـرى خلا السـواد ـ فيه ـ تومض نجوم صفر وحمر، ثم تعاودك الرؤية بالتدريج! كانت المسافـات تسرقك، والوهـاد المستلقية في البهاء الطلـق تطويك، وها أنت تبتعد عن القرية، ولا شيء يوقفك، وقد يحدث أن تمرّ بك عربـة سيارة، فتسابـق ظلك إليهـا، وتنقلب يداك إلى مناديل ملوحة، ففي المعتاد من الأحوال لم تكن ترى عربة مثلها إلا مرة كل عام! كــــان ذاك آن يحّل الآغـا بالقريـة، فيرتفع الصخب، ويجتمـع الفلاحون في بيت المختار،بينما يتراكض الأطفال حول المضافة، يتأملـون العربـة بدهشـة، ثم يسقـط خـروف مسكين ضحيــة لتلك الزيارة ! تخـوم المنطقـة الجبليـة تندفـع نحـوك، وبفـرح غـامر تعتلـــي الصخور، لا أحد ـ إلاّك ـ عبر الجهـات الأربع ! سيد ما حـولك أنت، و قد تحمل آخـر ألسنة الريــح صـوت دوري ، أو درغل واقـع في الفخـاخ العديـدة التي كنتَ تعدّها بمهـارة، فيصل إحساسك بالفـرح إلى الذروة ! عنـد الظهيـرة كـل شيء كـان يلتهب، ويصبح خانقـاً ومغبـراً، فتتمــدد في ظلِّ أشجـار البطم، وتمسح عرقـك، تسيح مـــع دورة الزمن متذكراً أيام الشتاء، فتبتسم ساخراً من نفسك! في الشتاء أيضاً لم يكن ثمة ملجأ خلا الصخور! حتى إذا وصلت أمك مع الحلاّبات عصراً، لـم تعـد الأرض تحملك، فتروح تنظر إلى وعاء الحليب وهو يمتلئ، ويعلـوه الزبـد، بينا تعالـج أصابـع أمـك أضرع النعـاج بخفـة ودرايـة، كنت تتمنّى أن تنحني لتـرى خيوط الحليب الحريرية، وهي تصطدم بالآنية النحاسية، بدلاً من الإمساك برؤوس الشياه العصية على الهدوء، لكنك ما تلبث أن ترفع الإناء نحو الأعلى، وتشرب الحليب الطازج بنهم، ناسياً كل شيء! وحين كانت أمك تبتعد، وتندمج مع خط الأفـق الراحــل نحــو القرية، كانت يدك تمتدّ متسللة إلى جيبك، لتخرج علبة الثقاب التي سرقتها من الدار، ثم تندفع هنا وهناك، تجمع روث البهائم، وبقايا القش الجـاف، وتشـوي مـا اصطدتـه مـن عصـافير، إلـه المكـان ــ أنـت ــ في لحظـة واقعـة خارج مسارات الزمن، وانكسارات العالم ! بيد أن الغروب ما يلبث أن يزحف، فينحدر الطريق المُترب عائداً إلى القرية، يجرك خلفه منهكاً ملوّحـاً، وخلفك يسير القطيع مطاطئاً سابحاً في آخر التماع للشمس المحتضرة، بينما يتدلى لسان "بطاح" الأحمر! ومع اقتراب القطعان من القرية، كانت غلالة كثيفة من الغبار تتداخل بثغاء النعاج، وأصوات الرعاة، فيتحول بئر القرية، ومورد الماء إلى قفير نحل ـ فيه ـ تصطف رؤوس النعاج العطشى، ويشعر المتأمل في المشهد عن كثب بذلك الاتسّاق المهيب في الطبيعة، وهي تكشف عن أسرارها عبر تلك الهمهمات الغامضة المتبادلة بين عناصر الكون الأزلية، فيما يرين وجوم غريب على الطيور الداجنة والزواحف والهوام، وكأنها هي الأخرى مأخوذة بقدرة الخالق، ويروح الكبار في السن يسبّحون بحمد الإله في ما تبقّى لهم من زمن،في الوقت الذي يتراكض ـ فيه ـ الأهالي لمساعـدة الرعاة على منع القطعان من الاختلاط، والتأكد من سلامتها، فإذا ورد القطيع، ألفيت أباك في الزريبة ينتظر، بعد أن أعدّ المذاود بالعلف! الإنهاك يداهمك، يأخذ مداه داخل الشرايين بعـــد يوم مرهق، و عيناك المطفأتان تجهدان في طلب الراحة ، فقط عليك أن تنتهي من تعليف القطيع، وتسكت تلك المعدة الجائعة ! ـ 2 ـ أنت الآن في مملكة النشوة ! وفي اللحظة المنفلتة من عقــال أزمنة البشر، يبــدو المـرء متماسكاً قوياً كقلعة عصية على السقوط، إلا أن اللحظات المسربلة بالغموض كانت على الأبواب، حادة كمدية انتُضيت تطعـن فـــلول المعقولات المهزومة، فمادت الأرض، وما بدا متماسكاً قوياً راح يتشظى، وينهار فتاتاً! كنت تحس بأنك تقف في الفراغ، وما استجد من حولك لم يكن نسيجاً مترابطاً مقنعاً لمنطق الطفولـــة! فوقفت متمزقاً، موزّع النفس بين الماضي الأليف، واحتمـــالات المستقبل الغامض، وما كان لك إلاّ أن تبتهل إلى الله كي لا يقع ما تخشاه! الله ! ذاك الطيف غير المرئي، الكلّي القدرة، والمتناهي الجبروت، الذي يهوّم فوق تلك المناطــق العذراء، وكنتَ تتســاءل بحيرة، ما الذي يدفع أباك إلى النزوح نحو المدينة!؟ لماذا يريد أن يقتلع النبتة مـن جذورها إلى بيئة غريبة!؟ أنت جزء مــن هذا المكان، تمامـاً كمـا الشجرة الواقفة بباب القرية، وهذا المكان وهج في دمك، ينغل فيه بساحاته ومساربه، فهل جاءت نهاية الأيام اللذيذة التي كنت تقضيها تحت الشموس المتوهجة، وعلى ضفاف "الزركان"، وبين غيضاته!؟ " أنت ترين يا أم أحمد، أن أحمد قد كبر، وأنهى المرحلة الإبتدائية "، ليتك لم تنه تلك المرحلة! لو كنت تعرف بأنها ستبعد الأقمار عن أفلاكها لما فعلت، ولكن أنّى لك أن تعرف!؟ مساءً كنت تعود إلى البيت مغموراً بوشاح من السعادة، فلا تستطيع انتظار أمك كي تخلع الحذاء من قدميك، وتهاجم "منسف" البرغل بنهم، ضاحكاً من زجرها، لكن سعال أبيك الأجش يرتفع ـ فجأة ـ من الغرفة المجاورة، فتستقيم في جلستك، وتنتظر ريثما تخلع أمك الفردة الثانية، لتنتقل إلى الغرفة الأخرى، تقعد قدام النار، وتنظر إلى "المنقل" بيد أبيك، يفتح به باب المدفأة، ويخرج منها قطعاً من روث البهائم، بعد أن تحولت إلى جمرات حمراء رائعة! كان أبوك كعادته يخرج كل ليلة إلى مضافة المختار للسمر، فتنسلُّ بدورك إلى أترابك، تقلبون العالم المحيط بكم إلى أعراس صغيرة على طريقتكم، لكن الهمهمات المبهمة التي أخذت تدور بين أبويك مؤخراً كانت تبدو غامضة، مثيرة للتوجس، والاهتمام الذي كان يرتسم على محياهما يدفعك إلى الاستماع " كما أنك تعرفين بأنني مريض، وأحتاج أن أكون قريباً من الأطباء"، وهكذا ـ وبكل بساطة ـ يؤول كل شيء نحو نهاية غير مشتهاة! كتب عليك ـ إذن ـ أن تترك "الجدَيدْة"، التي حفظتها في نبضك والأوردة، وتنسى فخاخك المخبأة طي التراب الرطب والقش المتقصف المبلول وبقايا الروث، فتتأكسد، ويحول لونها إلى أخضر عفن كذاك الذي يغطي الأرض غبّ تحلل الروث بمياه الأمطار، وتهجر أصدقاءك محمد وطه وحسّو! فمن بعدك لمطاردة الثعالب في الليالي المقمرة بين خطوط الفلاحة!؟ ومن ـ بعدك ـ "للغميضة" والركض الحافي على الحدود بين القرى المجاورة والقلب!؟ ومَنْ سيستخرج الفطر من باطن الأرض!؟ يا الله! و"الأحيمر" الذي ما يني يرافقك إلى المرعى مذ وعيت، مَنْ يمتطيه من بعدك!؟ ثم ما مصير "بطاح" رفيق اللعب، وحامي القطيع!؟ الفكرة تلو الفكرة تداهمك، وأنت كما سنونوة تاهت عن سربها، فدهمتها الثلـوج، وعـزّ الملجـأ، وفي ذلـك المدار الغامض لدورة الأشيــاء، راح الخيــط الأبيض يختلط بالخيط الأسود! و "الحسكة" هذه كيف تكون!؟ بكل ما التقطته أذناك من أحاديث متفرقة تطوف الذاكرة الذاهلة! "بيوتها كبيرة، يعلو بعضها فوق البعض!" كيف ذلك !؟ يلحّ السؤال ! وكيف ينزل ساكنو الأدوار العليا!؟ ثم لماذا يسكن الناس فوق بعضهم والبرية واسعة!؟ "وهي مضاءة بالكهرباء!" وما هذه!؟ "حتى شوارعها مضاءة بمصابيح كهربائية!" والشوارع أيضاً!؟ وتروح الذاكرة الواهنة تسيح على شتات الكلمات عن الحوانيت الملأى بالرز والعدس والسمن والسكر والدخان والأقمشة والأطعمة والحلوى والحبال والفاكهة والخضار! مكسورة هي المعادلة داخل الذهن المنهزم، فأين من هذا كله قريتك الخالية من الحوانيت، تنتظر "أبا عبدو الحواج" انتظار العيد، أو الموسم، فإذا أقبل بعربته المغلقة، حاملاً للأطفال السكاكر، والمناديل المصنوعة في "الموصل" للنساء، والدخان للرجال، قفزت القلوب من الفرحة، وتراكض الأطفال من حوله يحلمون،فيما تهوّم الأصوات المتداخلة، لتتكسر على حواف البيوت ونتوءاتها! "وما أكثر العربات السيارة في المدينة ! بعضها كبير، وبعضها صغير!" يا إلهي! يقفز السؤال: كيف يسير الناس في الدروب إذن، ولِمَ لا يملك أهل القرية عربات سيارة!؟ تلوّح بيديك في الهواء، تطرد أسراب الأفكار والأسئلة الملحة، هذه المدينة قناص يقتنص اللحظـــات الهانئة من حياتك، وأبوك مــا ينفك يقرأ في رأس أمك ! "وشوارعها مغطاة بالإسفلت!" فلا وحل في الشتاء، ولا غبار في الصيف! وهكذا يسلبونك القرية! مدية فوق العنق، أو عنق تحت السكين! والأشياء الأليفة الحبيبة إلى القلب تنأى، القطيع، وبيت المؤونة حيث الطماطم اللامعة تراودك عن نفسها إثر زيارة الحوّاج، و رفاق الليالي العابثة المليئة بالصخب والمرح! معهم سرقت دجاج الأرملة "أم قاسم"، وانتحيتم ركناً نائياً، تأكلون اللحم، وتخفون الريش والعظام! اشتعلي أيتها الذاكرة، واستحضري العالم كله، أو انطفئي و اخمدي، فلقد تعب المهر الصغير! أتذكر ليلة كدنا نحرق محصول القرية!؟ يسألك "إبراهيمو"، حتى لو نسيت، فإن العقـاب الذي طالكـم يبقى وشماً في الذاكرة! الثعلب الملعون جُنّ حينما أشعلتم النار في ذيله وطار ـ ليلتها ـ نحو الزرع! يتوهم المرء بأنه قد نسي! لكنه في لحظة خارجة عن الإرادة، يكتشف بأنه لم ينسَ شيئاً، ذلك أن المخزونات تندفع كطائر حبيس أطلق! وها أنتذا ـ مـع رفاق اللهو ـ في طريقكم إلى بستان "أبي خليل"، معهم ذبحت البطيخ المسروق، ولم توفروا الشمّام والخيار، ومعهم يسوقك الشتاء إلى المدرسة غيمة باردة، تنتابها أحاسيس متضاربة، تراوح بين الوجل والترقّب والرهبة والفضول! يا للمدينة التي لم تكن تخطر في البال! كيف غمرت تلك البليّة عقل أبيك وأمك، وأصبحت شغلهما الشاغل!؟ هي تتساءل، وهو يجيب! هي تتخوّف من الخطو نحو المجهول، وهو يطمئنها، ويهدّئ بالها " الرزق على الله، والمثل يقول مطرح ما ترزق إلزقْ! لن نموت من الجوع، ففيمَ خوفك!؟ الله خلقنا، وهو كفيل بإطعامنا! لن نخسر شيئاً من المحاولة! ماذا سنخسر!؟ هه!؟ أجيبيني ماذا سنخسر!؟ ما الذي نملكه في هذه القرية لنفقده!؟ لا شيء! لا أرض، لا أقرباء، إنهم ليسوا عرباً حتى! لست أدري أيّ ريح مشؤومة حملتنا إلى هذا المكان! حتى لو كنا نملك أرضاً، لذهب جلّ محصولها إلى الآغا، فماذا تخشين بعد!؟" يا الله! طفل أنت، و"الجدَيدْة" أمك ومشيمتك والرحم، فكيف صدر ذلك الكلام عن أبيك!؟ اختلاط غريب في الأشياء يحجب المدى، ويكثّف الزمن في لحظة مشحونة بالأسى والانحراف في البوصلة! أنت خجل من كلامه، وفي سرّك تحمد الله؛ لأن أهل القرية لم يسمعوا ما قاله، ومع ذلك فأنت مدين لهم بالاعتذار! عاتبون هم لو عرفوا، لاشيء لكم في هذه القرية! طيّب، وبيتكم، وقطيعكم الصغير، وحبل السرّة الذي يربطكم بأهلها مذْ وعيتَ!؟ أهلها الذين ما تركوا فرصة إلاّ وأثبتوا فيها حبّهم لكم! والعشرة التي لاتهون إلاّ على أولاد الحرام!؟ و التراب، والزّل، والغَرَب، وشجيرات البطم، والأودية!؟ مسارب القرية وساحاتها، أعراسها، مآتمها، ليالي السمر، والأحاديث الليلية الشائقة!؟ ألا تكفي تلك المفردات كلّها لبقاء السماء زرقاء في سمتها!؟ وإذا لـم تكن تلك الأمـور مجتمعـة تعطـي الإنسـان حسّ الانتمـاء، فـما الذي يعطيه ذلك الإحساس!؟ لا جواب! نهضت حالة انكسار عاجزة عن النفاذ إلى ما وراء الظواهر! لا شك في وجود خلل! نعم! ثمة قناع يحجب جوهر الأمور، ولكن أين يختفي ذلك القناع!؟ - 3 - الليل، آهة حرّى، وأسى هاجع تحت صفحة الوجه الساجي! والقمر، شرخ رقيق في القلب بين قرية وادعة حبيبة، ومدينة مُرتجة على أسرارها! "الجديدة"، أفق مفتوح على السكينة والهدوء الحالميَنْ، وزورق مُشرع تحت عباءة الليل! والبيوت، مربّعات سوداء لم تأخذ أبعادها بعد! وأنت مهزوم غبّ الأحداث الأخيرة، ومنكسر حتى آخر راية! ثمة ـ في الجوف ـ عطب مبهم يعتقل العينين، ويمنع عنهما الكرى! "لمبة الكاز" ترسم ظلالاً باهتة على السقف الخشبي والجدران الترابية! و كشجرة أنهكها النخر وقفتَ منقسماً، تريد أن تحيط بالأشياء لتروي شوقك إلى عوالم أنيسة توشك أن تغيب؛ متمنّياً أن تنقلب الذكريات إلى وشم مطبوع في مدخل القلب، قبل أن تسلس قيادك للأيام، فتمضي بك بعيداً، ذلك أنّ أجزاء القرار قد تكاملت، وغداً، أو ربما بعد غدٍ ستحضر شاحنة لكي تقلّكم إلى المدينة! أعوامك الثلاثة عشر تصرمّت بسرعة لا تلوي على شيء! وهذا السقف المتكوّم فوق رأسك بألفة، يفعل ذلك للمرة الأخيرة ربما، ولكن هل هذا ممكن!؟ نهضتَ، أنت تعرف الدار شبراً شبراً،وكلُّ زاوية فيها تهمس لك بذكريات حميمة! الظلمة سيّد مهاب، وشقوق الباب الخارجي تسرق شيئاً من ضوء القمر! كان زير الماء يتربّع على حامله في الزاوية الشمالية الشرقية للصالة، فيما ألقت يد الإهمال بدلو قديم إلى جانبه، أمّا الحائط الشمالي فتتوسطه كوّة صغيرة راحت تتلصّص على البيادر الشمالية الراحلة بعيداً، ومن غرفة الأهل إلى غرفة الضيافة، فغرفة المؤونة، فالمعلف، كان ذلك البيت يزوّدك بالأمان طيلة السنين التي تصرمّت! رحباً كان وأليفاً، فنما حبه في قلبك نمو عشب يكسر القشرة الخارجية للأرض ! عبر المعلف اندفعتَ إلى الزريبة المتّصلة بالدار، فشعرتَ بقبضة جبّارة تعتصر الجوف! كانت الزريبة خالية، وبدت لك في غبش الفجر واسعة! لعلها لم تكن ـ بالمعيار الموضوعي ـ كذلك! لكنها المرة الأولى التي كنتَ تدخل فيها المكان وهو فارغ! آثار التبن والشعير والروث كانت منتشرة في كل مكان، فيما كانت عيدان الحطب تغطّي السقف المُغبّر، فاستدرتَ لتهرب من تلك الأحاسيس الضاغطة، بيد أنك تفاجأت بأمك وهي تقف خلفك! كانت عيناها تحملان طيف دمعة، بينما كانت أرنبة أنفها تشي بنشيج وشيك، فألقيتَ بنفسك في حضنها هارباً من توحّدك، مشيحاً بوجهك لئلاّ ترى الدمعة المفلتة برغم التماسك، واحتضنتك بقوة، فهل كانت هي الأخرى تهرب من وحشتها وتوحّدها!؟ متأبّطاً وحدتك، فاقداً التواشج مع الزمن كنتَ، وكان الفجر يهيّج في النفس رغبة عارمة في التوجه إلى ساحة القرية ومساربها، لتمرّ على البيوت، والبئر، ومورد الماء، والقبور، والأرض المفلوحة، والبيادر! كلُّ شيء كان يدعوك لأن تراه، وتلمسه لآخر مرة! ومن الأعماق شاط حنين حارق إلى الرعاة يضيعون في رهج الضياء! ولكن أيّ جدوى لتلك الأمنيات بعد أن باع أبوك النعجتين، والكبش، والعنزة الوحيدة!؟ كسوف مفاجئ في الشمس، وخسوف في القلب! أن تعتلي ظهر "الأحيمر" لتطوف بحـــواف "الزركان" كحـاج، وتنتقل بين غيضاته وأوديته وتلاله وحجارته وشجيراته وأرضه السبخية، تلك كانت رغبتك الأخيرة الممعنة في النأي! فمن أوصل الأمور إلى الأعتاب الموصدة!؟ ومن دفعك إلى التعلق بحبال السرّة بحثاً عن اندماج تستحيل معه الانفصالات!؟ و هاأنت تكاد أن تجهش، فتلك أشياء لا تخطئها الأذن لندرتها!نعم! إنّه الصوت الأبّح لمحّرك عربة! وإذن، فقد أزف الوقت! وبدأ الناس يتوافدون للوداع كأغنيات مبحوحة حزينة! ملتاثاً كنتَ، و مشتتاً، فلم تستطع الإحاطة بتفاصيل المشهد الذي راح يدنو من نقطة اللاعودة حثيثاً! أيدٍ مصافحة، وأخرى تربت على الأكتاف، أو تحتضن القامات والضلوع بشّدة، في محاولة منها لمنع الانفصام المهيمن على اللحظة، أو تأخيره للحظات، والزمن يتشقّق، فتتشقّق معه الشفاه التي تجاهد الكلام من غير أن تجده،ثمّ هدر المحّرك مبتعداً، وبقيت أنظاركم معلقّة بالثلّة البشرية التي راحت تتضاءل، والأيادي الملّوحة التي أخذت تنأى؛ زارعة في القلب انفطاراً وشيكاً، فاعتصرت يداك مسند المقعد بقوّة، وحده"بطّاح" ظل يركض خلف الشاحنة بجنون، وخيلّ إليك أنّ عينيه كانتا تبكيان! وحين غابت اللوحة اليتيمة الممهورة باسم "الجدَيدْة" عن الأنظار، تصاعد نشيج حزين من مركز الذاكرة، واندمجت لوعتك بالمشهد الذي مالبث أن اتّحد بخطّ الأفق! - 4 - أيّ سطوة للأمكنة تتبدّى، بحيث تبدو محاولة فصم عرى الاندماج معها معادلة للموت! الزمان هو الزمان أو أكثر قليلاً، لكن المكان اختلف! ولكل مكان بصمته وملامحه, تلك البصمة الواثقة التي تؤكّد ـ في المجتبى الأخير ـ أنَّ النصر صنو الهزيمة في معركة كهذه! صحيح أن ما تصرّم من زمن لم يكن كبيراً, لكنّ ما يجري من حولك كان ـ بكل المقاييس ـ موغلاً في الغرابة! فهناك, في ذلك المدى المترع بالغبار,المتدثر بالنسيان, استلقى الحّي الذي انتهت رحلتكم إليه على كتف تلّة وسيعة, منذوراً لأصابع الهاجرة والإهمال, فنما في خلسة من الزمن, وتوسّع شرقاً, وفي وسطه ارتفع الخزان الذي يمدّ المدينة بمياه الشرب, باسطاً سلطانه على المكان كطائر خرافي هائل! كانت البيوت الطينية المتناثرة قدام العين بطاقات احتجاج راشحة بالأسى, تستدعي المقارنة بين لوحتين؛ أنْ أين هي البيوت الكبيرة؛ التي كان أبوك يتكلّم عنها!؟ إنْ هي إلاّ أكواخ مهلهلة ترتطم ببعضها,وتستسلم لحواف أزقة متربة؛ شبيهة بعروق شاحبة في جسد منهك؛ فأين اختفت الكهرباء التي تنير هاتيك البيوت, وأين توارت المصابيح التي تضيء أزقّتها!؟ معمّداً بالانخداع الوالغ في الدم وقفتَ تتأمّل الحوش الذي توقّفت الشاحنة أمامه، فيما كّل شيء من حولك يتقصّف وينكسر! أهذا هو المكان الذي كان أبوك يغزل صورته بمغزل عاشق وله!؟ كــان الحـوش مبنيـاً بحجـارة سـوداء غيـر مليّصـة, فبـدا ـ وقــد عــلاه الغبـار ـ كئيباً وباهتاً, ولم يكن ثمة باب يسدّ المدخل! ولكن ما الذي أغراكم بتلك المقايضة التي لم تكن تعنّ في البال!؟ كلّ شيء من حولك كان غريباً, غير مألوف, وربما معادياً أيضاً! ذلك أن الدار التي ستطويكم تحت جناحها بدءاً من تلك اللحظة كانت تضمّ غرفة مستطيلة بلهاء، ضيقة وطويلة، تتّصل بغرفة أصغر، ربما كانت في أصل تصميمها مطبخاً! وراحت الألفة المُفتقدة بينكما تكشف لعينيك عيوب المكان تحت ستار مُسبق من الرفض المبطّن! كانت الجدران تنوء تحت وطأة السقف الخشبيّ المحمول على عوارض خشبية، وكانت يد الماء قد خطّت رسوماً غريبة على تلك الأعمدة؛ التي اسودّت بفعل الدخان الناجم عن التدفئة، فازدادت كآبة! أحاسيسك كلها كانت مرهونة لصالح بيت رحب أليف ظلّ هناك،أين منه هذا البيت الموحش؛ الذي يشكو ضيق ذات اليد، ابتداءً بدكّته الإسمنتية التي تنتهي إلى حفرة في الخارج أُعدّت لاستقبال مياه الاغتسال، وانتهاءً بالباب المتداعي ذي الشقوق الواسعة! بيد أن هذا كلّه لن يوازي جزءاً من معاناتك المرتبطة بمشكلة التغوّط، إذْ أن المرحاض ـ الذي عرفتَ اسمه فيما بعد ـ استوى في ركن من الحوش على شكل حفرة في الأرض، متدارياً بزاوية الحوش من جهة،في حين نهضت التلة الترابية؛التي اسُتخرجت من الحفرة نفسها،لترسم ساتره الأمامي من جهة أخرى. وهناك، على بعد خطوات من داركم راحت الأراضي الزراعية تغطّي المسافة الفاصلة بينك وبين أبيك بالأسئلة! إذن! فمـا الفرق بين هـذا المكـان والقريـة التي تركتموهـا وراءكـم!؟ هناك ـ في القرية ــ كـان الناس سيجتمعون مــن حولكم لمساعدتكم في ترتيب أثاثكـم، فيما لم يحركّ أحدهم ـ هنا ـ ساكناً! بل أخذوا يراقبونكم من خلف الأبواب المواربة من باب الفضول ربّما! هناك ما كان ليفوت أهل القرية أنكم مُتعبون، وأنّ أدوات المطبخ قد ضاعت بين أثاثكم، فيتسابقون إلى استضافتكم، و إطعامكم، في حين رسم الجيران ـ هنا ـ قطراً لدائرة ما تجاوزوها نحوكم! حتّى التّحية ضنّوا بها! ثمّ ما لبثوا أن أغلقوا أبوابهم، وانصرفوا إلى ما كانوا فيه! أنت تقرّ ـ مُكرهاً ـ أن هذا الحيّ ليس قرية، برغم علامات التشابه، ولكن أحداً لا يستطيع أن يّدعي التماثل بين ما تراه عيناك، وبين تلك الصورة الموشاة بالألق، التي كان أبوك يرسمها عن القصور الإسمنتية الفارهة،والشوارع النظيفة المُعبّدة،والحوانيت الكبيرة الملأى بمختلف أنواع البضائع، والسيارات التي لا تُحصى، لكي يزيّن لأمك مغامرتكم هذه! "يا امرأة أطلبي لبن العصفور هناك، وستجدينه في متناول اليد!" فهل كان أبوك ـ لا سمح الله ـ يغرّر بكم!؟ ما الذي حدا برجل مثله إلى سكنى دار إيجارها اثنتا عشرة ليرة سورية!؟ كانت الدور ـ على حدّ علمك ـ تشاد لسكنى أصحابها، أمّا أن يبني المرء داراً لكي يؤجرها، فأنت لم تكن قد سمعت بشيء من هذا القبيل! ومن غير أن تشعروا كان الليل قد أرخى غطاء معتماً على الكائنات، فأفسحت أمك مكاناً لنومكم وسط الأثاث المتكوّم بفوضى عجيبة! استلقيتَ فوق فراشك الجديد! كان التعب قد تسلل إلى الأعصاب المشدودة، التي نال منها السفر والقلق، موهناً محطات التماسك، فتوزّعت الأعضاء المُنهكة على أجزاء الفراش، تطلب راحة مرمّمة للخلايا، لكن النوم ـ بعكس ما هو مُتوقّع ـ أخذ ينأى، وراحت الغرفة الضيّقة تضغط على الأعصاب، وشعورك بالعزلة يسفّ روابي النفس العزلاء! أهي الغرفـة ضيّقـة إلى ذلك الحّد ، أم أنـه القلـب يضفـي علـى الأشيــاء هواجسه ومخاوفه وانكساراته!؟ تساءلتَ، وهرباً من ألم مفترس لا يعرف الرحمة أو المنطق،أخذتَ تتأمّل الأشياء التي كانت تتراءى ضائعة،ذلك أن بضع ساعات – فقط - كانت قد انقضت على رحيلكم عن القرية،لكنّ صورتها ـ برغم الإلحاح ـ أخذت تستعصي على الحضور، فتسرب الخوف إلى أعماق النفس المكروبة يرضّها! أيمكن لنا أن ننسى بهذه السرعة!؟ انبثق السؤال في الجوف يمور ويؤلم ، لكن ما يحدث، راح ـ ككّل جديد ـ يفرض سياقه الخاص،وفي وقت متأخّر من الليل؛ تغلبّ التعب على الأسئلة القلقة المحتشدة في الرأس، فذهبتَ في نوم مضطرب مُثقل بالكوابيس! - 5 - يوماً بعد يوم كانت معرفتك بالمكان الجديد تزداد، لتنتقل العلائق إلى فضاء القبول المضمر! لم يكن ما يحدث بينكما توافقاً، بل كان نوعاً من الهدنة المفروضة عليكما، ربما لأن سفنك كانت تسير بعكس الرغائب، ولم يكن في الإمكان الإعراب عن احتجاج صغير يضّمد العجز المحسوس في الداخل! غصنٌ ما كان مزهراً في الأعماق، بيد أنه تيبّس! قد يكون أشعة الطفولة التي أخذت تنضج، وتنتقل ـ قبل أوانها ـ إلى عالم الكبار! وقد تكون غربة داخلية أخذت تنمو، وتعتصر كل ما هو غضّ فيك، إلاّ أنك لم تكن تملك غير الاستمرار، فابتداءً بزقاقكم القصير الذي كان ينحدر من الشمال إلى الجنوب بشدة، وانتهاءً بالإعدادية التي فغرت بابها الحديدي البارد لابتلاعك؛ كان كل ما حولك يضغط، وينكأ الجراح الصغيرة! كان الصف الذي استقبلك ببرود وتجاهل إحدى تلك المنغصات، فلقد انتظم في نسيجه خليط عجيب من البشر ضمّ أبناء الريف إلى جانب أبناء المدينة، ليعسكوا سلوكاً متبايناً تباين الأصول المختلفة التي قدموا منها! وكان التلاميذ القادمون من الريف ينتبذون بأنفسهم زاوية نائية من ساحة المدرسة؛ هرباً من السخرية التي كانت تسحب ظلها على المدرسين والموجهين والتلاميذ، لكن التعويض لا يلبث أن يطّل برأسه عبر التفوق في الدراسة؛ على أساس من التحدي والتحدي المضاد ربما، ولكن شتّان بين التحديَيْن،بين الفجّ المشاكس والهــادئ الحيّي، إذ هـاهـو الأخير ينجح في وضع حــدٍّ لغرور خصمه اللدود، وينتزع منه اعترافاً متذمراً بشرعية وجوده! الجغرافيا بفضائها الملغّز، وأرضها المحيّرة، وأسمائها العصية على التذكّر، رسمت ـ بدورها ـ دائرة مرصودة حولها، فنشأ بينكما جفاء غريب، من غير أن تتبين طبيعة ذلك الجفاء أو منشئه، فإذا تصادف درس الجغرافيا ذاك مع الساعات الأخيرة من الدوام، فاض بك الكيل، ذلك أن الضغوط التي تنفر من شقوق الملل تتضافر مع استغاثات المعدة الجائعة، وسطوة النعاس، فيضحي التوفيق بين تلك الهزائم الصغيرة، ونظرات المدرّس الصارمة مشكلة بالغة الصعوبة! هذا إذا لم تتدخل عصاه في حل الإشكال الصغير بدلاً من عينيه المتربصّتين! وهاهو الجوع يضغط، والحركة في الجسد الغضّ تطالب بمجالها الحيوي، فيما ينقل السأم مشاعرك إلى خانة الإحباط، فتبدو تلك العذابات الصغيرة بلا نهاية، لكنّ المربع البليد يطلق سراحك أخيراً، فتتنفّس الصعداء، وتتخذ سمتك نحو الجسر الذي يصل حيكم بالبلدة! كان ذلك الجسر يفرض ضريبته على المارة، فلقد كانت السيارات التي تعبره تَشمُ أولئك المارة بنصيبهم من الغبار صيفاً، وحصتهم من الطين المتطاير عن عجلاتها شتاءً! غبّ الجسر كانت أقدام التلّة التي يربض عليها الحي تنهد بك إلى خاصرة ساقية؛ لتستريح بجوارها بعضاً من الوقت، متلهياً بالتطلّع إلى كوخ المجنونة "مارين"، المستلقي بإزاء خزان الماء كعلامة فارقة، فتتداعى لحظات اللهو الحمقاء متّكئة على عبث طفولي فظّ، إذْ ما تكاد المسكينة تصل إلى كوخها، إثر جولتها في أزقة البلدة، حتى تهاجمونها بقسوة، ليشهد المدى الممتد بينكم معركة حامية سلاحها الحجارة والشتائم، فلا تجــد فرصة للهدوء والراحـة غبّ يوم مـرهق! أمّا مـن هـي "ماريــن"!؟ ومن أين جاءت!؟ ومـن الذي أطلق عليها لقب "سيبورة"!؟ هل لها أقارب مثلاً!؟ فإنّ عالم الطفولة الشقية ما كان ليأبه بمعرفة الأجوبة،ثم أن أحداً لم يكن ليستطيع أن يضيء تلك البقع المعتمة من حياتها! أطفالاً كنتم، وما كان لشيء أن يقف في طريق لهوكم!وحين كانت "سيبورة" تمضي جلّ نهارها متنقلة من زقاق إلى زقاق؛ مسبوقة بثيابها الرثة المتباينة الألوان، كان الطريق يقودكم إلى كوخها لتلصّوه، إلا أنكم ما كنتم تعثرون على أي متاع خَلا دكّة خشبية قليلة الارتفاع، يعلوها فراش رثّ مغطّى بقطعة جلد صناعيّ تمنع عنه البلل، فيركبكم الحنق، وتروحون تبعثرون متاعها الزهيد، ثم تتخفون في انتظار عودتها! إنكم تتحرقون شوقاً لمعرفة ردّ فعلها على مزاحكم الثقيل، وهي توشك على إنهاء جولتها، ربما لأن بضعة قروش قد انتهت إلى جيوبها، لكنها تتفاجأ بالأثاث المتناثر حول الكوخ، فتتلفّت حولها، وهي تشتمكم في أصولكم والفروع، إنها تعرف بأنكم متخفوّن في مكان ما، لكنها لا تعرف أين! فتنتظر متربّصة لأنها متأكّدة بأنّ أحدكم سيفقد السيطرة على نفسه، وتفلت منه ضحكة مكتومة تدلّها على مكانكم، وعندها ستنخرطون في معركة جديدة غير متكافئة؛ لا يعلم نتائجها إلاّ الله! كان سكان الحيّ يشكّلون خليطاً غير متجانس، بعضه يستمدّ دمه من نزيف ريفيّ مستمّر عن المناطق المجاورة، في حين تضخ المحافظات الأخرى بعضه الأخر، ولم يكُ الأمر ليخلو من ملامح غير واضحة لتجمّع منسجم القوام عندما يكون ذلك متاحاً! أما غالبية سكان زقاقكم فكانوا قد قدموا من ريف "حلب"؛ هرباً من الحاجة التي سرقتهم من قراهم، وبعثرتهم "كحواجين" في المنطقة الممتدة بين "الحسكة" و "الموصل"! وكان البقية يتوزعون على أعمال موسمية كما هو حال المناطق الزراعية عادة، فلقد كان قسم منهم يعملون كعتّالين في موسم القمح أو القطن، فيما اتكأ البعض منهم على شهادة محو الأمية للعمل كمستخدمين في المدارس والدوائر الرسمية، أما الذين حُرموا من هذه وتلك، فلم يجدوا بدّاً من تحويل غرفة من غرف دورهم إلى"دكاكين"؛ أخذوا يبيعون فيها شيئاً من الخضار أو السكر أو الصابون، من غير أن تنقطع أواصرهم بالقرى التي انحدروا منها تماماً، إذْ أنّ بعضهم كانوا قد تركوا وراءهم قطعة من الأرض؛ راحوا يستثمرونها بأنفسهم أو بوساطة مزارع! وسط ذاك الخضّم أخذ أبوك يتفكّر في مهنة مريحة؛ تعينه على العيش من جهة، ولا توهن قلبه المريض من جهة أخرى، فقلّب الاحتمالات على وجوهها،بيد أنها لم تكُ تخلو من وجه كالح لا يتناسب ووضعه الصحي، ولمّا لم يقع على جواب مناسب، هدته أمك إلى الحلّ، فلم ينتظر طويلاً، بل عمد إلى باب الحوش يوسّعه، ثُمّ بنى بجانبه ـ من الداخل ـ ثلاثة جدران، ورفع فوقها شمسية من أكياس الخيش المشدودة إلى عوارض خشبية، وأخذ يعرض فيها الخضار نهاراً، أمّا في الليل فكانت أمك تعمد إلى إدخال بضاعته خشية أن تُسرق، إذْ لم يكن ثمة باب لدكانه! بتعثّرٍ كان الرجل يبحث عن ظلّه، ويحاول أن يمسح عن حياتكم الصدأ، في انتظار الأيام الحبلى بالتوقع! - 6 - شيئاً فشيئاً كانت التفاصيل تنمو، وتنفتح لك مغاليق المكان، ويتكامل المشهد في المخيّلة، فعند تزاوج "الخابور" بـ "الجغجغ"، أو قبله بقليل؛ انزوت البلدة على استحياء؛تخفي ضآلتها وصغر سنّها بين المدن القديمات! كان الأول يتقدّم من الشمال الغربي، ثمّ ينعطف شرقاً ليخطّ حدودها الغربية والجنوبية،بينما كان الثاني يتهادى نحو الجنوب مترسماً تخومها الشرقية! وفي أصل من ذاكرة الكبار كانت "الحسكة" مجموعة بيوت قليلة العدد، اجتمعت على خدمة الثكنة العسكرية؛ التي ابتناها الفرنسيون على شاطئ "الخابور"، غير أنّها اليوم تتمدد داخل أضلاع مثلث وادع؛ ضلعه الأول يمتد من ثكنة الهجانة غرباً، وحتى الثكنة العسكرية شرقاً، مروراً بالسجن، ودار المحافظة، أمّا ضلعه الثاني فيتّخذ سمته من ثكنة الهجانة جنوباً، لينطلق نحو ملجأ عسكري؛ بناه الفرنسيون على شاطئ "الجغجغ" شمالاً، في حين يعتقل الضلع الثالث ـ الذي ينطلق من ذلك الملجأ باتجاه الجسر المبني على نهر "الجغجغ" ـ المدينة، متمّماً دارة ناقصة تتخلّلها الفجوات غير المبنية بعد! قد لاتكون المفردات كثيرة، بيد أنه لاشيء يستطيع أن يغيب عن الخطا اللاهثة وراء تفاصيل جديدة تضمّها إلى مخزونات الذاكرة، إذْ هاهي الأقدام تلوب في الأحياء الثلاثة التي نمت حول البلدة بسرعة؛ مستمدّة نسغها من نزوح ريفي لاينضب! إلى الشرق، وعلى الطريق الذاهب إلى "الهول"، فالحدود العراقية؛ كان حي "العزيزية" يتكوّم بإهمال وكسل، متطلعاً إلى اللحظة التي يُخدَّم فيها كالبلدة! وإلى الشمال من المركز كان حي "تل حجر" يرمق البلدة بعين حاسدة، ربما للسبب ذاته! أمّا إلى الجنوب، فقد ترامى حيّ "غويران" عند أقدامها، مستأثراً بالعناية والتنظيم، ربما لقربه من البلدة، أو لأنّ غالبية الموظفين القادمين من المحافظات الأخرى كانوا يستقرون فيه! ثم راحت الأيام تتصّرم، وبتصرمها أنشأ المكان ينتقل من مناخ المهادنة إلى مناخ القبول تدريجياً، بحيث لم يمض وقت طويل حتى أخذتَ تقرّ بأنك تعلمت الكثير من الأشياء فيه! فأنت لا تنكر بأنّ أترابك في الحيّ هم الذين علمّوك السباحة، وإذا كانت المسألة تبدو عادية اليوم، إلا أن اللحظة الأولى ـ التي استطعتَ أن تضرب الماء فيها بيديك وقدميك ـ ستظلّ لحظة استثنائية مطبوعة في ذاكرة الطفولة! حدث الأمر ذات صيف، ولذلك فإنك تنتظر الأصياف المدهشة بفارغ الصبر! ثم أليست تلك الأصياف هي الفصول التي تغلق فيها المدارس أبوابها!؟ أما كيف وقعت المعجزة، فأنت لم تعد تتبين الأمر بوضوح! مرعوباً كنتَ، وكنتَ ترفض الخوض في الماء، وإذا امتدت يد أحدهم إليك ممازحة، تراجعتَ هلعاً، بيد أن التكرار والتشجيع أفقداك حذرك تدريجياً، وشيئاً فشيئاً أخذت تخوض في أماكن أكثر عمقاً! في ما بعد طغت رغبتك على الوجل والتردد إلى أن طفوتَ! ولم تصدق ما حدث ابتداءً، لكن المحاولة الثانية أكدّت لك حقيقة ما حصل، فخفق قلبك الصغير من الفرحة! كانت كرة القدم معروفة في القرية أيضاً، بيد أن الكرة التي كنتم تلعبون بها ـ هناك ـ كانت عبارة عن لفائف من الأقمشة البالية، بحيث لم تكن قابلة للدحرجة الحرة، كما أنها سرعان ما كانت تتفكّك بفعل الركل، وعليه فأنت مضطر للإقرار بأن الفضل في انضمامك إلى فريق كرة القدم؛ إنما يعود إلى أترابك في الحيّ، وأنك تجرّعت ـ مع هؤلاء الأتراب ـ مرارة الهزيمة، كما تذوقّتَ معهم حلاوة النصر، فأخذ اندغامك بالمجموع يتنامى شيئاً فشيئاً! لكن ما أذهلكم عن أنفسكم تماماً؛ كان يوم أن اكتشفتم صالة السينما المعتمة، فهناك، في تلك الصالة المدهشة تفتّحت حواسكم على عوالم بالغة التنوع والغرابة، عوالم حالمة رهنت أفئدتكم لمصلحة حالة من التماهي العجيب، فأخذت أبصاركم الحائرة تتابع مصائر وحيوات أبطالكم الُمحببّين بجوارح الطفولة البريئة؛ التي لم يُخطّ عليها الكثير بعد! ليسجل المؤشر في خوافقكم تمزّق الأحاسيس بين العواطف والأهواء المتباينة والمتناقضة! إلا أن ذلك الهوى ـ الذي كان في طريقه إلى الإدمان ـ كثيراً ما كان يصطدم بصعوبة تأمين ثمن التذكرة، فيفوتكم أن تروا "عنترة بن شداد" وابنة عمه "عبلة"و"هرقل الجبار" و"أوليس" و "طرزان"، وقردته المدهشة "شيتا"! ثم أنكم لستم مشاهدين سلبيين، إذْ قد يحلو لكم أن تعيدوا تشخيص ما استأثر بألبابكم على الشاشة البيضاء، فيروح أحدكم يتقمص دور "طرزان"، ويتوارى خلف نبتات السوس والإثل المنتشرة على ضفاف "الجغجغ"، بانتظار أن يجيء الوحش! وربمّا عنّ لكم أن تنقسموا إلى معسكرين متناحرَيْن، يضم الأول البطل ورفاقه على قلتهم، بينما يضم الثاني الملك الشرير وأتباعه، فتقعقع السيوف المصنّعة من الأطواق التي تُلفّ بها أكياس الخيش، والتروس التي كانت في الأصل قطع صاج دائرية أو بيضوية، في حين تتكفل الأشرطة المطاطية بحلّ مشكلة الأقواس والسهام! تشتد المعركة، فيزخ عرق الطفولة، وتقفز القلوب الغضّة عن الصدور، لكن النصر يمشي في ركاب البطل من كلّ بدّ، ذلك أنّ النهاية في الفيلم جاءت على تلك الصورة! والآن!؟ كيف تتدبّرون ثمن التذاكر!؟ تتفكرون، وتشبعون الموضوع تفكيراً، وتيأسون، وتكاد خطاكم الغضّة أن تتفرّق يائسة، إلا أن الحلّ ما يلبث أن يومض في فضاء الذاكرة! فهناك، بإزاء الدرب المتلوّي في طريقه إلى جبل "كوكب" كانت قمامة المدينة تنهض على شكل تلّة وسيعةغير مُنتظمة؛ يطلق عليها أبناء الحيّ اسم "الزبالات"! إنّها المكان الوحيد الذي يمكنه أن يمدّكم بثمن التذاكر !هناك،كنتم تجدون أكواماً هائلة من القمامة التي تضمّ خليطاً عجيباً من قشور البرتقال والطماطم المتعفّنة، وقشور التفاح والموز، وفضلات الأطعمة، ونوى التمر، والورق المُستهلك، والزجاج المكسور الذي كان يغطّي النوافذ أو الأبواب، والزجاجات الفارغة، والكؤوس المكسورة، والأواني النحاسية، أو تلك المصنوعة من "البافون"، وعلب الأدوية الفارغة، وبقايا الخضار والأحذية الجلدية أو البلاستيكية، ومزق الثياب، والمصابيح الكهربائية التي كانت تنير الشوارع والبيوت ذات يوم، وأعقاب السجائر،والأدوات البلاستكية التي لم تعد صالحة للاستعمال، وبقايا الحبال والقنّب! كان الرماد يغطّي كل شيء، وأسراب الذباب تسدّ الأفق، بيد أنّكم ما كنتم لتأبهون بها، ولا بالرائحة الكريهة المنبعثة في كلّ اتجاه، فما يهمّكم من ذلك الخليط ، يتلخصّ في آنية نحاسية، أو مداسات بلاستيكية كانت تعطيكم بطاقة مرور إلى صالتكم تلك! لم يكن حجم القرية، ولا طبيعة العلاقات بين أهلها تحيجهم إلى تكتلاّت كتلك التي عرفتها في البلدة، حيث الناس لا تعرف بعضها البعض، وحيث الميول والمشارب والأهواء والبيئات تختلف، لينضوي صبيتها تحت راية عصابات صغيرة بحسب أحيائهم، عصابات تضع حماية الحّي من صبية الأحياء الأخرى نصب أعينها! صحيح أنّها قد تتجاوز حدود تلك النوايا بفعل الإحساس بالقوة، لكنها ـ في النهاية ـ تتواضع على خطوط عامة لا تتخطّاها غالباً، فهي لا ترى تثريباً في التقاط بعض من أعقاب السجائر داخل صالة السينما المظلمة ، أو التسلّل نحو شاطىء "الجغجغ" من أجل السباحة في مياهه المالحة ، أو توجيه ضربة تأديبيّة ضدّ عصابة من عصابات الأحياء الأخرى، بيد أنّها لا تسمح بالسرقة، أو الإقدام على عمل مشين مثلاً! وهاهو اليوم يمضي قدماً نحو نهايته،ولم يبق شيء يستطيع أن يبعث في نفوسكم الإحساس بالنشوة والسرور؛ لم تقدموا على اقترافه تحت ضغط الإحساس الطفولي بالحياة، وحان وقت عودتكم إلى بيوتكم التي غبتم عنها طويلاً! لكن مشكلة صغيرة تعترض تلك العودة، وتهددّ متعتكم بنهاية غير سارة، إذْ من يقنع أمهاتكم بأنكم لم تسبحوا في مياه "الجغجغ"، بعد أن تركت بصماتها المالحة على شعوركم وسراويلكم الداخلية!؟ وما السبيل إلى إقناع أولاء الأمهات بأنكم كنتم تلعبون في الظّل، بعد أن وشمت الشمس جلودكم الغضّة بوشمها!؟ بل ما الطريقة لإقناعهنّ بأن الجروح التي خلفّها الزجاج المكسور في أقدامكم، أو أيديكم وقعت لكم في مكان آخر؛ لا علاقة له "بالزبالات" المحظورة عليكم !؟ وهرباً من تلك الأسئلة الممضّة التي ما كنتم تلاقون لها إجابات فورية، فإنكم ما كنتم ترون بأساً في قضاء بعض من الوقت عند السيد "علو "! و "علو" ـ هذا ـ رجل في نهايات العقد الخامس من عمره، لا يعلم أحد ـ على وجه التحديد ـ من أين جاء! كان شعره المصفّف إلى الخلف يتكشّف عن الجبهة قليلاً؛ يخالطه شيءً من البياض، فيما كان وجهه المكرمش يشي بآثار الزمن! بيد أنّ العلامة المميّزة التي أعطته شهرته الواسعة تلك جاءته من شاربه الطويل المعقوف نحو الأعلى! ذلك أنه كان يبذل الكثير من وقته وعنايته لذلك الشارب، فيروح يصففّه، ويدهنه، ويتأمله بكثير من الإعجاب، بحيث راح البعض يراهن على أنّه يدهن شاربه بالسمنة العربية، في حين راح البعض الآخر يقسم على أنّه يدهنه بدبق التمر! كان "علو" يلحم صفائح الجبن المُملّح للناس، فيدفعون إليه ببضعة قروش تقوم بأوده، ورغم أن قصته تبدو عادية في حيثياتها، إلاّ أنه بقصد منه، أو من غير قصد، كان قد دفع بالأمور إلى حدودها القصوى، فهو لم يكن يقيم في دار كبقية خلق الله، بل اتخذّ من المحرس العسكري الذي بناه الفرنسيون عند جسر "الجغجغ" مسكناً، ولم يكن لداره تلك نوافذ بالمعنى المألوف للكلمة، إذْ استُبدلت بشقوق طولانية تمكّن المتمترس في الداخل من النظر! كما لم يكن لها ثمة باب، بل فتحة ضيّقة منخفضة كان "علو" يسّدها بلوح من التنك في الليل! وكان الدخان الناجم عن اللحام يغطّي الجدران؛ باسطاً ظلّه على المتاع النزر الزهيد! بقي أن تأتي القصة على تتمّتها، وتحاول أن تجيب عن السبب الذي حدا بالأمهات إلى تهديد أولادهن بذلك المسكين، من غير أن تستطيع إحداهنّ أن تقدّم تفسيراً مقنعاً لتلك النقطة! ألأنّ الرجل كان يربّي مجموعة من كلاب الصيد في كوخه مثلاً!؟ أم لأنه كان غامض الهوية للناس، مجهول الماضي!؟ هل كان " علو" صياداً قديماً؛ يدفعه هوى متأصل إلى تقديم كلابه على نفسه في المأكل والمشرب!؟ لكن تلك الأسئلة ستظل سرّاً مستعصياً على الناس، ربما لأن أحداً منهم لم يكن قد كشف في الرجل ما يضير، بل أنه على العكس كان كثير المزاح، محبّاً للأطفال، وكثيراً ما ارتفع صوته بأغان تركية رخيمة، فهل كان " علو" تركيّاً ألقت به يد الترحال على ضفة " الجغجغ"، أم أن الأيام العاتيات هي التي بعثرت فقرات عمره بتلك الطريقة!؟ بيد أن الوقت أخذ يتأخر، ولم يبق أمامكم إلاّ أن تعودوا إلى دوركم، إذْ ليس من المعقول أن تبيتوا ليلتكم في الكوخ، ولا بدّ من المجازفة! ثم أنكم متيقنّون ـ في النهاية ـ من أن قلوب أمهاتكم ستلين، وعندها فإن تلك القلوب ستميل إلى تصديق أكاذيبكم برغم المظاهر المكذّبة، فتعودون، وأنتم ترددون في سرّكم أن لا بدّ مما ليس منه بدّ!
إذا الشعب يوما أراد الحياة
فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر
“ الشتاء “ - 1 - الغيوم تندفع نحو الفراغ المتبقّي في القبة الزرقاء، ترسم أشكالاً خرافية، وتحجب الشمس الغاربة! والمطر بوّابات تدفّقت تكسر حدود المدينة، تدغدغ رحم الأرض، وتهيّئها لانبعاث جديد! غاضبة ومزمجرة اندفعت السماء تصبّ ميازيبها، فخوت الشوارع كشرايين شاحبة هجرتها الدماء، وأغلقت المتاجر أبوابها، وتسرّب صمت مبلول ينفي موران المدينة الصاخب إلى كهف الموات، ولم تبق كوى مفتوحة على بداية الليل؛ خَلا بعض المتاجر ذات الواجهات الزجاجية، التي احتجز المطر قسماً من أصحابها، ومنعهم من العودة إلى بيوتهم، بينما تأخّر بعضهم في الإغلاق على ظنّ منهم بأنّ ساعة الحظ مجهولة! ومع إيغال المساء في ليلة شتائية باردة، أنشأ الأفق الغربي الموشّى بالحمرة يميل إلى الدكنة، في حين كانت قدماك ما تزالان تجرّانك خلفهما من شارع إلى آخر، بحثاً عن زبون يقبل أن يشتري منك ورقة "يانصيب" أُخرى، فتغيب داخل أحد المقاهي وراء رائحة الدخان الممزوجة بعبق الشاي الدافئ، وتطلب إلى أحدهم أن يشتري منك بطاقة، لكنه يستشيط غضباً،وينهرك النادل، فتضيع فرصتك في التمتّع بشيء من الدفء، وتخرج! ثانية يتلقّاك الطريق متلفعاً بالبرد والمطر،باحثاً عن ملجأ يقيك من البلل! أصابعك الراشحة بالبرد لم تعد قادرة على الإمساك بأوراق "اليانصيب"، فتبدّلها بأصابع اليد الأخرى، وتُدخل الأولى في عبّك، منتظراً من الطبيعة أن تتراجـع عـن حصـار الكائنـات ، لكنّها تأبى، فتقـف مـوزّعاً في مدخل أحد الأبنية! هل تعود إلى البيت، أم تقصد ثلّة الشباب الذين كنتَ قد تعرّفتَ عليهم مؤخراً؟ وعندما يمرّ أحدهم، تنادي على بضاعتك، بيد أنه لا يلتفت، فتبتسم بمرارة! من يتوقّف في جوِّ كهذا لشراء بطاقة!؟ قدماك آخذتان بالتجمد؛ بعد أن نجحت المياه في التسلل إلى الحذاء المثقوب، وهاأنت تخرجهما بصعوبة، وتدلكّهما بحثاً عن شيء من الدفء! لكن الوقوف في تلك الزاوية يعييك، ولا أحد يجيء، فلا تجد بأساً في ولوج مقهى آخر وراء رائحة الشاي والدفء الإنساني المُستمّد من الشعور بالتواجد مع الآخرين! إلا أن اليوم الطويل والبرد يفعلان فعلهما في الجسد المنهك، فيداهمك السغب، ولا تعود قادراً على الاستمرار بعد، فتعبر الشوارع نحو مقهى "الشباب" حيث ثلة الشباب تلك! وحين تدنو من المكان؛ تلتقط أذناك تتمة الحوار المحتدم! ـ أليست نذالة ما بعدها نذالة!؟ ما البطولة في أن تجتمع دول ثلاث على مدينة واحدة!؟ يتصاعد الدم إلى الوجنات! ـ ولكن أين هي مشاركتنا نحن!؟ وتأخذ الآراء الممسوسة بغضب خفيّ بالتباين، فإذا هدأ الإعصار، وعادت إلى الحوار لفحة الهدوء، تنحنحتَ على استحياء، وتغلبّتَ على خجلك مستفسراً! أنْ ما هي قصة "بور سعيد" هذه!؟ فيتوقّفون هنيهة، ثم يبتسمون، لقد رؤوك أخيراً، وهـاهم يحدثونك عن المدينة التي هاجمها الصهاينة والإنكليز والفرنسيون؛ من غير أن تجد الكلمات لنفسها معادلات موضوعية، وتتحرّج من السؤال ثانية، لكن علامات الاستفهام الممتدة بينكم تفصح، فيتسابقون إلى الإيضاح، وببطء عشب يتململ تحت الثلج، يأخذ الفهم بالدنّو، فما تعود تلك الأغاني التي تذاع مراراً، والتظاهرات التي اجتاحت البلدة في الآونة الأخيرة ضّد حلف بغداد سديماً ملغزاً، وتشعر بأنك تحتاج إلى استعادة الحديث كلمة كلمة حتى تفهم جيداً! ـ أن لا شيء كالألم يجمعنا! لقد قالها الأقدمون: "آخر الطب هو الكيّ"! ويبدو أن لا بديل لنا عن الوحدة! ويشتعل أحدهم بالحماسة: ـ فعلها أبو خالد، وأمّم القناة! ـ بل قل فعلها العمال السوريون الذين فجّروا أنابيب النفط كي لا يستفيد منها العدو! ومع تقّدم الحوار كان شيء ما تحت الشغاف يتململ، يتكسّر الكلام، يتثلّم، ويتوّقف، ثم يعود متدّفقاً! ـ وكيف تريد للوحدة أن تتحقق بين أنظمة مختلفة، الإمارة هنا، والسلطنة هناك، و … !؟ يصيب الكلام مقتلاً، فتتحول الأعصاب إلى سهام قيد الإطلاق، ويتوتر الجو منذراً بالانفجار، ويحلّق الدخان مهوّماً! ـ قل إنك ضد الوحدة! ـ يــا أخي المسألة ليست على نحو ما ذكرت، ولكن قل لي أنت، كيف نتحّد مع الجزائر المستعمرة، أو محميات الخليج!؟ يوغل الكلام في مدار الاتهامات، وتتشعّب الردود، فتصعب عليك المتابعة، وتتساءل: من أين يأتيهم كل ذلك الحديث المنمّق!؟ لكن الكلام يهمد دفعة واحدة، وتصافح المياه الشواطئ بوداعة صلح غير معلن! ـ هه! ألم تجد عملاً بعد!؟ يتوجّهون إليك بالسؤال بعد صمت! ـ آه! من أين يا صديقي!؟ وتلتمع العيون ثانية، ويتوهج الدم في الأوردة، يسقط الهدنة المُضمرة! ـ أين الدولة مما يحصل!؟ تتداخل الآراء، فيما تتساءل ـ أنت ـ في سرّك مندهشاً! ما علاقة الدولة بالموضوع!؟ إلا أنك لا تود أن تفقدهم، فتفقد بذلك حسّاً نامياً بالتعاطف، باندماج الفرد في المجموع، فتروح تسأل، وتقرأ، وتمحّص، وبمرور الزمن تبدأ الصورة تنهض على عودها، وتجد الكلمات لنفسها ماهيّات! كان الليل يتقّدم منذراً ببرد قارس، فاستأذنتهم في الانصراف، ونهضتَ! الأضواء تنعكس على صفحة الرصيف المغسول، وحبة المطر ترسم في محيطها فقاعة دائرية، والشوارع تتشّح بالوحشة والخواء، وأنت تغذّ السير محتمياً بالجدران والشرفات ما أمكن، وبرغم البرد والبلل راحت الذاكرة تغزل في حلمها صورة ما يجري خلف تلك الجدران من اجتماع العائلة حول الموقد! الأطفال يلعبون فوق البساط الصوفيّ الدافئ، بينما تلتف يد الزوج حول كتف زوجته! مسكوناً بالرعب عبرتَ الجسر! كان النهر يصطفق هادراً، والريح تعول في الظلام كذئاب جائعة، فراحت الذاكرة تستعيد الحكايات المرعبة التي كان الناس يتداولونها ؛ عن عصابات مجهولة تعترض السابلة في طريق عودتهم، وتسلبهم ما في جيوبهم، ومن يدري، إذْ ربما كانت ستسلبهم حياتهم أيضاً، لولا ستار الظلام الذي كان يحميها من الانكشاف، وأخذ الخوف يسري في الفقرات المتوجّسة المتأهبّة لتلقّي طعنة غادرة، فيما بدت خطاك مُضخّمة، وغريبة عنك! كانت بدايات الحيّ غارقة في ظلمة موحشة تنداح على الأزقة والبيوت والمفاصل، تحيل بمجملها إلى حالة شبيهة بالهدوء، لكنّها ليست هدوءاً بمقدار ما هي استكانة أو انكسار! وبتؤدة حاولتَ أن تتجنّب برك الماء والطين التي تناثرت في الدروب الترابية الضيقة، لكن نباح الكلاب لم يترك للأعصاب المشدودة فرصة للراحة إلى أن وصلتَ! كان باب الحوش منتفخ الأوداج بفعل الرطوبة، فدفعته بصعوبة! ـ من !؟ ـ أنا يا أماه! وانتشر ضوء "اللمبة" الشاحب مرخياً على الأشياء كآبة قد لا تكون في أصلها، بقدر ما كانت النفس المسكونة بالهواجس هي التي تراها من خلال كربتها بتلك الصورة! وببطء، بغير ما شهية أخذتَ تلوك العشاء المُكوّن من البطاطس المقلية بالزيت؛ بعد أن سخّنَتها أمك، ثم اندسستَ في الفراش، وشيئاً فشيئاً أخذ الدفء يشيع في الجسد، والأطراف المُتعبة تسترخي غبّ يوم بارد، فتدافع شريط غير منتظم من الذكريات؛ مستغلاً حياد الإرادة الواهنة، بيد أن النوم ظلّ ينأى، ربما لأن وقع مياه الدلف المتسرّبة عن السقف في الآنية بقي يضغط على الأعصاب مناكفاً! ـ أمّاه، لماذا لا تبعدين هذه الآنية، إنّها تمنعني من النوم!؟ ـ لأنّ المياه ستغرق الأغطية يا بنيّ! وأغمضتَ عينيك على دوار مميت! سنوات بائسة من عمرك كانت قد تسرّبت من بين أصابعك بسرعة! قد تكون قليلة في عددها، ولكنها نقلتك من سنّ الطفولة إلى سنّ الشباب، بعد أن اقتنص الشحّ وضيق ذات اليد بهجة تلك السنّ وزهوها، وترك لها الخيبات والأحلام المخفقة وأوراق "اليانصيب"، التي ظلت عالقة بجلدك كوشم! كانت صورة القرية قد بهتت، إذْ كان ثمة مسافة طويلة تفصلك عنها، مسافة تقاس بما تركته في الروح من أثر ربّما، وربّما بما استجّد من أمور في الأفق، وما أكثر جديدك في تلك الفترة! ذلك أن المرض كان قد شدّد من هجمته على أبيك، وما كان الدواء رخيصاً، وحين راح الشفاء يعزّ، وأظهرت الأيام لكم وجهها المربد؛ تركتَ المدرسة في منتصف المسافة، فيما اضطرت أمك للعمل في الحقول المجاورة للبلدة، وفي الوقت الذي كانت الأحلام ـ فيه ـ ما تنفّك تفقد بريقها على مذبح الأيام راحت الصرخة من مختلف أنحاء الجسد المتعب تعلو، فهل كنتَ ـ حقاً ـ قد قدمتَ إلى هذا العالم خطأً!؟ - 2 - في الوقت الذي كان البلد يمور ـ فيه ـ بالحركة، وكلّ مواطن يشعر بأنّه قد أسهم في إسقاط عقب " الشيشكلي" العاتية، بعد أن رزح الناس تحتها طويلاً، ويحقّ له أن يصرخ بملء فمه، أو يجهر بما يريد، كنتَ أنت خارج السياق وحيداً مع مشكلتك، فراحت خطاك التائهة ترتطم ببعضها فوق الأرصفة، تلوب على غير هدى! ومع الجواب الذي تلقيّته من الدائرة الرسمية قبل قليل "أنْ لا يوجد عمل" أخذت المساحات بين اندفاعات الذات المقهورة والواقع تغتال أحلامك! خفق الفؤاد حزنٌ يهدر متمرّداً على مدار الصمت، محتجاً على فداحة الخسران، فيما كل شيء من حولك أخرس، محايد، وحادٍ كمشرط، وبغير ما هدف راحت الأزقّة تسحبك خلفها، لتدور وتدور، تتقّدم حيناً، وتترّدد، وتحجم! ثم تحزم أمرك ثانية، وتقصد دائرة أخرى، لكن الإجابة ذاتها تصفعك! فتخرج من المبنى الرسمي متداعياً، منكسراً، ذاهلاً عمّا حولك! أين تذهب الخطا المتعبة، وفي العالم كل هذا الخواء!؟ بيد أن الزمن ما كان ليقدّم أجوبة شافية وفورية، فترتد إلى أوراقك كسيراً، فيما الأماني تتضاءل! ومن حولك كانت الأمور تأخذ إيقاعاً مختلفاً، بحيث راحت تلوح للناظر ممسوسة بعصا سحرية، وأنشأت الأحلام تكبر مأخوذة بأصداء النصر بين أن يبقى الفلاحون في الأراضي التي كانوا يعملون بها! وأن يُربط الأجر بالإنتاج، وأن تتحقّق "الديموقراطية" لكلِّ المواطنين! كلّ فرد كان يحاول ـ من جانبه ـ أن يبني حاجزاً في وجه الزمن الراشح بالرعب ليعزلـه، ويطــرد آونة الرداءة، إلا أن جدار العزلـة بينك وبين مـا يحدث أخذ يعلو! فهل كان ذلك الجدار إحساساً بالقصور عن التواصل مع الجماعة التي لم تمنح لقامتك مداها!؟ أم كان شعوراً بالظلم والفوات؛ من غير أن تستطيع تلمّس مصدر ذلك الظلم بوضوح!؟ لكن الأجوبة راحت تراوغ؛ مستعصية على مداركك المتواضعة، فكنت تمضي مع الأرصفة،في الوقت الذي كانت الحياة فيه ـ تتصرّم ـ صاخبة؛ لا تلوي على شيء! ـ شدّادي، مَرْكدة! شدّادي، مَرْكدة! يرتفع صوت دلال المرآب، وتنطلق السيارات بسرعة البرق؛ تمزق براءة الصمت، وحياده المخاتل، بينما ثلّة من البدو تساوم بائعاً على صحيفة دبس، نادل المطعم يحمل طبقاً كبيراً ـ فوقه ـ اصطفت صحون عديدة، ومجموعة صغيرة من النساء اجتمعن لشراء الجبن، عربة شاحنة راحت تفرغ حمولتها في أحد المستودعات، واللحّام يصرخ في "صبيّه" موبخّاً، وعلى الرصيف تهاوت أسرة ريفية أمام عيادة الطبيب، وفي انتظاره تمدّد مريضها على الأرض؛ واضعاً رأسه في حجر أمه! الكلّ مشغول بنفسه، ولا أحد يدري ما بك ! ألستَ والبلد شيئاً واحداً!؟ أليس البلد مجموع مواطنيه!؟ أليس الخاص جزءاً من العام!؟ تتساءل وطعم المرارة يسفُّ الحلق، وتتساءل أيضاً! والآن، إلى أين!؟ لكن المشاعر المتشظّية لاتجيب، والأسئلة تضغط، تجرح المشاعر الكليمة، وتبحث عن يد حانية رحيمة، فلا ترى ملاذاً يخلصّك من الألم غير ثلّة الشباب تلك؛ حيث يمكنك أن تطلب توازناً مُفتقداً، وتتخفّف من الثقل الذي يبهظ كاهلك! لكنك تعرف بأنّ الوقت غير مناسب، ذلك أنهم ـ الآن ـ منهمكون في أعمالهم، فكيف ستتخفّف من تلك الأحمال التي تنوء بها!؟ كيف!؟ وهرباً من الأسئلة المحتشدة في الرأس؛ لا ترى ضيراً في المحاولة؛ بأمل أن تقع على بعضهم هناك! حين وصلتَ؛ فاجأك دخان كثيف يصعب معه التنفسّ! كان إيقاع النرد يتداخل مع قرقرة "الأراكيل"، والأصوات المبهمة التي تنداح في أرجاء المكان! وفي زاوية قصّية وقعت عيناك على بعضهم، فتنفسّتَ الصعداء، ودنوت منهم متهاوياً على الكرسيّ، متدارياً بتماسك هشّ، لكنه لم يكن كفيلاً بإخفاء حالتك، فكان أن وضعوا أيديهم على الخلل! ـ ما بك لستَ على ما رام!؟ وكمن كان ينتظر ذلك السؤال اندفعتَ ثائراً مثل بركان حبيس زالت الطبقة الرقيقة من التربة عن سطحه، فتدافع الكلام متشنّجاً؛ مزدحماً بالمرارة والعكر والدموع التي استطاعت أن تفلت رغم الكبح! وشيئاً فشيئاً راح الاحتقان المؤلم يخفّف من غلوائه، والغصّة الجريحة في الحلق ترخي من قبضتها! ـ هوّن عليك يا رجل! ربتَ أحدهم على كتفك، فيما انبرى آخر بغضب! ـ ولكن بالله عليكم؛ أين الدولة مما يجري!؟ وفي غمرة الحوار الذي احتدم، تداخلت الآراء، اشتطّت وتباينت، بيد أنكّ كنت عاجزاً عن الاندماج والتواصل! ربما لأنّ عمرك المنقرض راح يهبّ زمناً أجوف تذروه الأيام، و لا شيء إلاّ قبض الريح، فأنت تريد عملاً حقيقياً، لا كلاماً عن العمل! عملاً يشعر المرء بعده بالتعب، فيلقي بجسده على الفراش لينام من غير كوابيس، بينما ينصرفون إلى معالجة المسألة في إطار هلاميّ، فيتحدّثون عن الدولة، ودور الدولة، واجباتها وحقوقها، متى قصّرت، وأين! كلُّ شيء مكّرر ومُعاد، وألمك الخاص يصدّع النفس، فتنأى ـ بها ـ عنهم، وتنسحب نحو الأعماق، نحو الفقرات الضائعة من تاريخك الشخصيّ! بعد قليل كنتَ تجد نفسك في الطريق مهاجراً أبدياً معمّداً بالتشتّت وانقسام الخلايا! ولأكثر من مرة تُفاجأ بجرمك على قيد خطوة أو أقل من سيارة استطاع سائقها أن يكبح جماحها في آخر لحظة، لأنك كنتَ تقطع الطريق ساهماً، وتسمع ذيل شتيمة أو تحذير أو معاتبة؛ فيما الأشياء تبهت، وتنشرخ ألفتها المستوطنة في العينين والقلب بحكم التعوّد، فتبدو الشقوق ـ التي كانت محطات التماسك تخفيها ـ جلية في جدران البيوت الكابية التي كنت تراها كلّ يوم! وتتساءل بحيرة! أهي البيوت ذاتها، والشوارع، والأزقة!؟ كل شيء يلوح لك غريباً، صلفاً، ومنصرفاً لذاته، ذلك أن الجواب الذي تلقّيته ما يزال يحفر في الجوف ويؤلم، فتروح الأزمنة والأمكنة والألوان تختلط في شبكيّة الذاكرة، وتحسّ بأنك رأيتَ ما تراه الآن آلاف المرات، وأنّ ما يحدث لك حدث كثيراً من قبل، ربّما في أزمنة غير هذه الأزمنة، أو في حيوات أخرى؛ ويبدو لك مفهوم الزمان والمكان نوعاً من الوهم! وهكذا تظلّ الشوارع تستأثر بخطاك الحائرة عبر الدروب والأزقة والسكك ذاتها من غير أن تشعر، ثم لا تعود السيالة العصبية المُستفّزة تكفي لصدّ التعب، فتخور قواك، ويشهر الجوع سيفه، وعندها فقط تقطع الدروب نحو البيت سغباً، حاملاً وجعك لتصدى به! - 3 - حاملاً أملاً مبهماً عن غدٍ مورق، غدٍ أكثر ثباتاً؛ كنت تخرج من الدار كلّ يوم، ورغم أن ذلك الحلم لم يكن يستند إلى أساس واقعيّ ملموس، إلاّ أن الأعماق راحت تنتفض من تحت الركام، مبعدة عن الضلوع مرارة اليأس في محاولة منها للتماسك، أو الإرجاء، فمن يدري! أمّا من أين كانت الروح تستمد ذلك الافترار الغامض، فأنت لم تحاول أن تتفكّر في الأمر كثيراً، بيد أنك ترجّح أنها ربما كانت تمتح انفراجها من اليأس نفسه، لتقودك خطاك خلف ذلك الانفراج إلى مركز البلدة على أمل أن يختلف اليوم عن البارحة! وعلى امتداد الساحات في تلك البلدان التي عُرفت ـ في ما بعد ـ بالعالم الثالث؛ أخذ الغرب يلملم حوائجه على عجل، ويرحل، فراحت الصحارى والكثبان والغابات العذراء تستفيق، وتنفض عن الجسد المُداس انتهاك الغريب وقسوته! كانت الدماء الزكية تكتب صفحات جديدة في تاريخ تلك البلدان، وتضمّخ أرضها الطاهرة بعبيقها! الآن ـ قالوا ـ يمكننا أن نبكي شهداء هذه الأرض، ونعيد كتابة اسمها في سفر العصر! ومن كلّ مكان راح صوت "عبد الناصر" ينساب عبر المذياع هادئاً، واثقاً، مستفيضاً في شرح دوافع العدوان وأهدافه، بينما أخذت الأحداث تتسارع بشكل يصعب معه التتبع! إذْ هاهي المدارس تغلق أبوابها مستنكرة اعتداء الدول الثلاث على المدينة التي استعصت عليهم، فامتلأت أزقة البلدة بالطلبة الذين أفلتتهم مدارسهم من عقالها، لينقسموا إلى مجموعات صغيرة تبعثرت هنا وهناك بحسب الجنس فعلى الواجهات الزجاجية المزدانة بالثياب الزاهية توزّعت الفتيات ثللاً أشبه ما تكون بباقات من الزهور، في حين تناثر الشبان من حولهنّ، وراحوا يتأملون الوجوه الشابة التي تشفّ بالروعة والحسن، والعيون الناعسة التي راحت تتطلّع إلى الدنيا بدهشة الاكتشاف! القامات مشيقة فيها هَيَف، والخصور ضامرة فيها خَوَص، والأرداف مثلما حقول القمح خصبة وناضجة! أنت الآخر كنت تنساق وراء الصدور الرجراجة،والأرداف العامرة بتوق، ومن مركز الرغبة كان السؤال يشيل! هل سيكون لك خفراء مثلهنّ يوماً!؟ أيمكن لعالمك القاسي أن يتضوّع بذلك الشذا كلّه!؟واحدة كهذه الجميلة التي تغسل الرصيف أمام بابهم مثلاً !؟ أيّ قدّ هذا الذي راح يفصح عن الحدود المدهشة لمملكة الجسد التي تنغل في الدم!؟ بيد أن أوراق "اليانصيب" ما تني تذكّرك بنفسها، فتتثلمّ الأحلام،وتتكسّر تكسّر موجة وانية على شاطئ صخّري! وتظلّ الأزقة تلحقك بذيلها مُسيراً بقوة غامضة، باحثاً عن لاشيء، أو عن شيء تجهله! تلوب وتلوب إلى أن يهبط الليل، وتزنّ العضلات المرشومة بالتعب، فتعود إلى الدار متكدّراً هامداً! أمّا كيف وهنت رقابة الأعصاب في تلك الليلة، بحيث لم يعد التراجع ممكناً، فأنت لا تملك إجابة محدّدة، إذ قد يكون التعب آنَ يتجاوز العتبة هو السبب، وقد تكون حالة التشظّي الممسكة بجماع النفس، ذلك أنك كنت تروغ عن ذلك الجزء من شارع "الفردوس" عادة، لكنّ الفخ أطبق عليك هذه المرة، وإلى اليمين راح مكتب الحزب الشيوعي يرمي رشاشاً من الضوء نحو الخارج، فأخذت منابت النفس تنضح بحصار نفور، وطفقت الاندفاعات المختزنة في الأعماق تطفو على السطح؛ متأرجحة بين الرهبة والفضول! في البدء أنشأت محطة الرفض تتململ،فهؤلاء الناس يريدون تسليم البلد "للسوفييت"،ومع ارتفاع الهمس إلى تخوم اللغط راح شعورك يصّعّد إلى مرتبة الكراهية،ربّما لأنك ابن تربية زميّتة، وهؤلاء كفاّر لا يقيمون للدين وزناً، كما أنهم والغون في الإباحة! كان اللغظ المثار يضعك على حواف الإقياء،ويثير في بدنك القشعريرة، بينا الطيوف تجول في الرأس كأفراس برية جامحة، مسترجعة الخشوع اللامتناهي للمصلّين من ذاكرة الماضي! تواصل غريب مع المجهول المقدس يُستعاد من زمن الطفولة؛ آنَ كنت ترافق أبيك إلى مسجد القرية حيث الطهارة والنظافة والهدوء! شعور ثالث راح يتململ، ناقلاً العلائق إلى مدارات الفضول في محاولة لاكتشاف ما يمور تحت الجلد، إلاّ أنّ التردّد كان يكبح ذلك الشعور، تردّد يمتح ماءه من كلمات أبيك الفيّاضة بجرسٍ حادٍّ ما يزال يطرق جدار الذاكرة "أنّ من كفر بالله أُدخل جهنمّ، وساء مصيراً، وهل ترى نار المدفأة يا بنّي!؟ إذن، فلا تنسَ بأنّ نار جهنمّ أشدّ حرارة منها بمرات سبع! كلّما احترق جلد الكافر فيها، أبُدل بجلد آخر!" فيتزعزع أمانك الداخلي، ويتقوّض تقوضّ بيت متداعي الأركان؛ فاجأته ريحٌ زعزع! ولكن، ألا نموت!؟ تسأل، فيجيبك أبوك: ـ هناك لا نموت يا بنّي! هناك يُدخل الله المؤمن إلى الجنة ليتنعمّ فيها بما يشاء، ويعدّ للكافر عذاباً شديداً، إذ يخرجه من النار ليلقي به في نهرٍ من الجليد، ثمّ ينقله إلى جبل مُضرّس بالأدوات الحادة، ويلقي به من علٍ، فيتدحرج، وتنغرس المدى والشفرات في ظهره وخاصرته وبطنه وصدره! يا الله!! تنكمش العضوية في حالة دفاع لا إرادي عن النفس، وينتصب شعر البدن من هول الصورة، وما يكاد أبوك ينهي موعظته متفننّاً في رسم مشاهد التعذيب المُعدّة للكافرين؛ حتى يكون الخوف قد شلّ كلّ شيء فيك، فتنهض للصلاة خاشعاً مواظباً إلى حين! لكن الزمن ـ ذلك الغول المرعب الذي يأتي على كل بريء وجميل ـ يجد طريقه إلى الذاكرة، فتتراخى مواظبتك، تتحلّل، ورغم محاولات التذكّر التي تطلّ برأسها بفعل الخوف المتأصِّل في النفس، يؤازر الكسلُ والطفولة ـ التي تمجّ التكرار والواجب ـ ذلك النسيان، أو التناسي، إلى أن يكون لك مع أبيك موعد آخر! وبسرعة ابتعدتَ عن المكان، ميمّماً وجهك نحو الجسر، بعد قليل كانت العتمة تغيّب خطواتك، فيما راح ظلّك يتطاول مع ابتعادك عن مصدر النور! - 4 - متشبّثاً بذكريات القرية الغافية على مرمى حجر من الحافة الشمالية للحدود السورية كنتَ، كما طفل وُلد في خوف الأزمنة، وظلّ راغباً في العودة إلى الرحم الآمن، فحينما يكون الحاضر لوحة قاتمة الألوان خارج شبكية الرغبة، والمستقبل مُضببّاً بحجاب من القلق والاهتزاز؛ لا يملك المرء إلاّ النكوص نحو الماضي الأثير بحثاً عن السويعات الآمنة المسروقة في غفلة من الزمن! ساعات طويلة كانت تمضي وئيدة وانية، وأنت مستلقٍ على ظهرك تستحضر ذلك الماضي لحظة بلحظة، لعلّ الصدع في النفس المكروبة يلتئم! لكن الطيوف لم تعد أماناً مُطلقاً، لا لأمر خارج عن إيقاع الحدث، وإنمّا لأنّ إدراكاً خفيّاً بدأ يطفو على السطح كبقعة زيت، ويتسّع كاشفاً سراب طمأنينتك الخادعة، إذ لم تكن القرية الجنة التي توهمتها! شبيه طعنة في سويداء القلب فاجأك الاكتشاف، فترنّحتَ، وإثر كلّ حوار مع ثلّة الشباب تلك كانت حصون الماضي ـ بالتتابع ـ تُدكّ، وتتهاوى، فتتشظّى بقعة أخرى من بقاع النفس، إثر انتقالها إلى مملكة المعرفة، أو الشك، أو الحدس المُبهم بأنّ ثمة شيئاً ما ليس على ما يرام! نهماً إلى التعلّم كنتَ، راغباً في معرفة المزيد، في تعلّم كلّ ما يحيط بك، ذلك أنك لم تكن تتصّور بأنّ المعرفة يمكن لها أن تؤلم! ـ يشاع عنكم الكفر! أخبرني، أما تخشون عذاب الآخرة!؟ وجم "حسين" مُباغتاً بفجاجة السؤال، ثم استوعب الموقف المفاجئ، وانطلق في قهقهة مديدة! ـ ما رأيك في أن نتمشّى قليلاً!؟ كان الأصيل يهبط فوق البلدة ببطء! ـ أنتم في الأصل قرويّون، أليس كذلك!؟ أنْ نعم! هززتَ رأسك بدهشة، وأكمل! ـ وأهل قريتكم يعملون في الزراعة!؟ وبماذا يعمل أهل القرى عادة!؟ هذا ما أرادت النفس المفاجأة بأسئلته الغريبة أن تجهر به، لكنك فضّلت أنْ تتروّى، فكفكفتَ مشاعرك في انتظار التتمة! ـ ولكنكم ـ كما علمت منك ـ لا تملكون أرضاً زراعية، فهل تساءلت عن السبب!؟ نحن لا نلعب الشطرنج ـ هجستَ، وهجستَ أيضاً ـ وهو يعرف كل شيء عنك، إذْ سبق لك أن كلّمته عن نفسك، فلماذا يتهرب من أسئلتك!؟ ثم أنك لم تكن قد طرحتَ على نفسك سؤالاً كهذا، بل أن أسئلة من هذا القبيل لم تكن قد خطرت لك على بال! ـ السبب!؟ هكذا! نحن في الأصل لم نكن نملك أرضاً!! وكمن وضع يده على سرّ مهّم قال: ـ حسناً! حسناً، ومن يملك الأراضي الزراعية في قريتكم!؟ فأجبته بضيق: ـ نصفها للآغا، والبقية حصص متفاوتة! هناك أيضاً فلاحون يعملون بالحصة، وهؤلاء لا يملكون أرضاً! ـ ولكن الآغا لا يقيم في القرية، فكيف آل إليه ذلك النصف، في الوقت الذي لايملك فيه الفلاحون المقيمون الذين أشرتَ إليهم شيئاً!؟ متعجباً من طبيعة أسئلته كنتَ، ومستاءً، فانبريتَ له بصوت عال: ـ كيف "من أين له" !؟ لقد ورثها أباً عن جد، ثم أنه الآغا! وما كانت المسألة محسومة بعد، وما كانت واضحة، وكان ذهنك أشبه بغابة عذراء! في ما بعد عرفتَ كم تعب هذا "الحسين" حتى يرجّ الثوابت المعششّة في الرأس، وتحوز الفهم! مكابراً كنتَ وعنيداً، رافضاً أن ينهار عالمك المورق البهيّ من الداخل، لينهض محلّه السؤال: كل ذلك السوس أين كان يختبئ! عن سلاطين بني عثمان حدثّك، وعن ولاتهم، فعرفتَ كيف انتقلت الأراضي من نظام الحيازة الإسلامي إلى الإقطاع ذي الملكية الثابتة! وبشكل غامض استطعتَ أن تحدس كيف جرت الأمور في ما بعد! إذْ أن المستعمر الغربي اعتمد على أولئك الآغاوات، ليبقى أطول مدة ممكنة في المنطقة! وبشكل أقلّ غموضاً استطعتَ أن تحدس كيف بقيتم بلا أرض، فبدا هذا الكوكب المسحوق بالأسماء عارياً في ذهنك من غير حجاب، وأنشأتْ صورة جديدة لأبي العبّاس، وأبي سفيان، وابن الحكم، والحجاج، ومعاوية، والرشيد، وابن طولون، وكافور الإخشيدي ترتسم في فضاء الذاكرة! التاريخ يكتبه الأقوياء! والحديث يتداخل بالقراءة في سفر الفتوحات، والأراضي المُستصلحة، وقادة الجيش، والاستغلال الذي سبق له أن أثار الزنج والقرامطة وبابك الخرمّي! وقالت عكرشة بنت الأطرش: لماذا لا تردّ علينا صداقنا يا بن أبي سفيان!؟ فأجاب: لأن للدولة أموراً أولى وأهمّ! وقالت: عجباً يا بن أبي سفيان! أكلّ ما فيه منفعة لنا، فيه لكم ضرر! فردّ متأففّاً: ما ينفع فيكم يا أهل العراق! فقّهكم ابن أبي طالب! الآن ـ تفكّرتَ ـ علينا أن نبحث عن قبر أبي ذرّ، ونرثي ابن أبي طالب، وغيلان الدمشقي! وكأعمى أبصر فجأة كنتَ تترنحّ بين الومضة وصدمة الواقع! ذلك أن تراكم الأحاديث كان قد خلخل الصور المغزولة في الذاكرة ببهائها وألقها، لتحلّ محلها صورة جديدة للقرية، فبدت خارج حيثيات العاطفة أكواخاً مسكونة بالفقر والاستلاب، وراحت الخيوط التي كانت تشدّك إلى القرية الملاذ تتقطّع، فبقيتَ في معدة المدينة رقماً ضئيلاً، مُهملاً، ومجهولاً! هذا لأنها لم تتمكّن من تحويلك إلى إنسان مدينيّ! فترسّبتَ فيها كطعام غير قابل للامتصاص! وهاأنت تمضي فوق الأرصفة كعربة خرجت لتوّها من ضباب كثيف، ربما لأنك لم تعد ذلك القرويّ البسيط كالماء، الواضح كحقيقة عارية لا جدال فيها، في الوقت الذي لم تظهر لك فيه ـ هذه البلدة ـ إلاّ وجهها الرافض! وفي سرّك رحت تردّد: هكذا إذن! فهذه الأراضي لم تكن قديماً على ما هي عليه اليوم! أمّا كيف تمّ تسجيلها في الدوائر الرسمية باسم الآغا،أو غيره، فإنّ الوسيلة في هذا العالم الموبوء ما عادت مجهولة! وربما لذلك السبب تراه يسرف في ملاهي حلب ودمشق وسواها، فهو لم يكدّ فيها، لم يتعب، لذلك هانت عليه، فأجرّها إلى المزارعين عندما عزّ عليه تأمين ما يلزمها من بذار وأجور وخلافه! بيد أنّ وضوح الصورة، أو التفاصيل هي ما كانت تنقصك! ـ حسناً، ونحن!؟ ـ أنتم تمثلوّن حالة خاصة حسبما فهمت منك، لأنكم كنتم مطلوبين بثأر، وعليه فلقد تفرقّتم في القرى البعيدة عن قرية المغدور، وكان أن قاد الحظّ أسرتكم إلى قرى الأكراد، فبقيتم من غير أرض! ومرة أخرى أردتَ أن يبقى السهم في مرماه! ـ وماذا عن الإلحاد!؟ فهزّ كتفيه قائلاً: ـ هي علاقة خاصة بين المرء وربّه! ولم يكن جوابه مقنعاً لك، فترددّتَ قليلاً، ثم تغلّبتَ على ترددك، وأطلقتَ آخر سهامك! ـ و الإباحية!؟ وكانت المدينة شاهداً على شخص مندغمٍ بالأسى لأنه لم يُفهم، فردّ معاتباً! ـ وهل تصدّق كلّ ما يُقال!؟ نحن ندعو إلى مشاركة المرأة في الحياة العامة، لأننا نرى كم هو صعب أن نلحق بركب الأمم المتطوّرة، بينما نصف مجتمعنا مُقيّد! لكن أعداءنا يشيّعون عنا الكثير! إنهم يريدون أن تبقى الأمور كما هي، لأنهم أصحاب مصلحة في ذلك، فما لك ولهم!؟ كان الكلام يوغل ويتشعّب، فيما كانت البلدة تغيّبكم في أزقتها الضيّقة، ولمّا لاحظ رغبتك في الانصراف، ربت على ذراعك بمودة! ـ نلتقي! ولـم تكن المحاكمــة المنعقدة فـي الداخـل قـد توصّلت إلــى قرارهـا غبّ انصرافك، إذْ كان ثمة أكثر من توجّه يتوزعّك، إلا أنّ بساطة الرجل وقدرته على الإقناع لم تفلحا في دحر التحفظات الضاربة جذورها في الأعماق! في ما بعد أخذت البلدة تحتضن شابين منشغلين عما يدور حولهما بأحاديث طويلة، هامسة، أو محتدمة! وبالرغم من الحذر الذي تسلّحت به النفس؛ كنتَ تشعر بأن ضباباً كثيفاً ينزاح عن الأعماق بعد كلّ حوار، وأنّ بقعة أخرى تسلم نفسها لدائرة الضوء! فأين تكمن المشكلة!؟ ولماذا لا تستطيع أن تسلّم نفسك بكليّتها إلى "حسين"!؟ هل يختبئ تحفظّك خلف الجذر التربوي الصارم!؟ أم هو حسّ الإثم، ينهض من تحت ركام التربية الدينية المتزمتة!؟ أنت لا تملك إجابات قاطعة، لكنك تكاد تلمس ذلك الحاجز الذي لا يُرى! جدار غير محسوس، غير أنه موجود بيننا وبين الآخرين، ما يدفعنا للاحتفاظ بمسافة تفصلنا عنهم، ويصعب علينا تخطيّها، بل أن الأيام كثيراً ما تثبت صحة ما ذهبت إليه انطباعاتنا الأولى، وهي تقيم جدارها باسم الخجل مرة، وباسم الرهبة مرة أخرى، وباسم الشعور بالعيب، أو الحس بالإثم، أو باسم مسافة تروم النفس من ورائها الأمان مرّات ! كان كلامه مقنعاً، مترابطاً، يلمس فيك المواجع، ويرشّ الملح فوق الجراح الراعفة، فتتولاّك الحيرة والانقسام، لكن الأجوبة تتوه وتماري، فتعود إلى أوراق "اليانصيب"، التي أكلت من عمرك وأعصابك سنوات، لترجع إلى البيت في نهاية اليوم متداعياً تماماً، ذلك أن الجهد الذي كنتَ تبذله لم يعد جهداً عضلياً فقط، بله عضلياً وعصبيّاً بآن! وهاأنت تدرك بأن ذكريات الطفولة ـ تلك ـ لم تكن إلاّ حاضناً لطفولتك، وأنّ مشاعرك نحوها مُستمدة من بهاء الطفولة نفسها، لا من طبيعة تلك الذكريات، إلاّ أنك بقيتَ على عادتك في الاسترخاء فوق فراشك، مستعيداً حياتك حرفاً حرفاً، باحثاً في الثنايا الندية عن تلك اللحظات الفارة من كلّ قيد، لتضع قوانينها وفق منطقها الخاص، من غير أن تعبأ بالعالم كله، وذلك في حالة نكوص ربما! فإذا انتقلتَ بخيالك إلى ما بعد، إلى الراهن المربد، فاجأتك بلدة كالحة، عصيّة على الإمساك، تأبى التفهّم، فيما أنت على حوافها كمّ بيولوجيّ رثّ ومُهمل! - 5 - كأن أحداً ما ضايق الشمس ، أو أبعدها بيديه ، فلم تعد تلك الشمس الكاوية ، بل أضحت شمساً أخرى ، وانية ربما ، فاترة ومتعبة ، والهواء الذي كان زفرة حرى وحارقة قادمة من أتون عظيم ، استمد – هو الآخر – من الأفق الغربي برودة وروى ، وشيئاً من الغبار أيضاً, وراحت التربة التي تشققت شفاهها ترجو مطراً يروي الأعماق العطشى ، فيما أنشأت الأشجار تتخلى عن أوراقها الصفراء الذابلة ، في محاولة مخفقة لاستجداء عطف السماء ، إنه مساء خريفي آخر يحيل إلى الإحساس بالنهايات ، ويؤسس لوحشة لا تريم ! موسم القطن كان قد أضحى على الأبواب ، فتوشت الحقول بألوان شتى مستمدة طيفها الواسع من ثياب العاملات في جنبه ، وراح بياض القطن يمازج خضرته بنصاعة رائعة ، بيد أن أمك كانت مكرهة على ترك عملها في الحقول ؛ بعد أن أحكم المرض قبضته على أبيك ، لتلازمه ، وتسقيه الدواء ، وكان عليك أن تعود إلى البيت بسرعة في الأيام الأخيرة مخافة أن يحصل مكروه أثناء غيابك عنه ! كانت الصورة الكلية قاتمة ، فأنت لم تكن قادراً على ترك عملك ، لتلازم أبيك في مرضه ، لكن تخليك عنه يعني ببساطة تامة ضياع آخر مورد لكم ، في الوقت الذي كان المرض فيه – أساساً – يلتهم جل ذلك المورد ، ثم من يعرف إلام ستؤول الأمور في النهاية !؟ وهرباً من هاجس مخيف راح يحفر في المخيلة ، أخذت تتحرى في تفاصيل أخرى ، لعلها تشغلك عما حولك قليلاً ! كانت ألوان الخريف الباهتة قد التفت بسواد الليل ، بينما توارى القمر خلف غيوم بيضاء متفرقات ؛وبتؤدة مرت عيناك بأمك المقعية على حافة فراش أبيك الذاهل عن نفسه ، ثم انتقلت إلى علب الدواء المتناثرة حول المخدة ، فالسقف الخشبي ذي الرسوم الغريبة ! كل شيء كان يرسف في هواء راكد ، يندغم فيه حامض البول ببقايا الطعام الخاص بالمريض ، ورائحة الدواء النفاذة ! -أماه ، لو ترتاحين قليلاً ، سآخذ محلك في العناية به ! تنهدت المرأة بحرقة ! - حسناً يا بني ! وتمددت على جنبها الأيمن لترتاح بعضاً من الوقت ، فأسندت خدك إلى يدك متفكراً في الجسد المسجى على الفراش ، بعد أن تضاءل إلى حدوده الدنيا ، وأضحت عروقه بارزة ! كان الجلد قد تدلى عن كثير من المواضع . بعد أن تناقصت الكتلة العضلية بسرعة ، أما الوجه الذاوي فقد علاه شحوب مرعب ! وخلا القلب المريض ، الذي راح يدفدف جاهداً لتأمين شيء من الدم ، لم يكن في الكتلة النائمة أي حركة تنم عن الحياة ! يا الله ! أهذا هو الرجل الذي كانت خطاه تفتت الحصا من تحتها !؟ أهذا هو الأب الذي كانت ضحكته الفياضة تجلجل مدوية عارمة !؟ طويلاً شاغلتك مثل تلك الأسئلة ، وراحت تفاصيل بعينها تترى على شاشة الذاكرة – ربما – لخصوصية فيها ! بعضها يعود إلى أيام الطفولة المبكرة التي كنت تمتطي فيها ظهره ، أو ترافقه إلى المسجد لترى إلى تلك الحركات الطقسية الغامضة التي يقوم بها المصلون ! وفي الحالات كلها كنت تعرف كيف تأخذ منه ما تريد ، بعد أن وضعت يدك بصورة غامضة على تلك الروح المتسامحة المتدارية بمظهره الخشن ، فقط كان عليك أن تتحاشى ساعات غضبه النادرة ! بينما بعضها الآخر يعود إلى الفترة التي بلغت فيها مبلغ الرجال ، وجلها يقوم على تفاهم عميق من غير لغط أو لغو ! كان الرجل يتابعك بصمت وأمل ، يريدك أن تكبر بسرعة ، فهل كان يدري بما ستؤول إليه حاله !؟ أما كم من الوقت ظلت تلك الأسئلة تلح ، فأنت لا تدري ! وكيف سرقك النوم جلوساً ، فأنت أيضاً لا تدري ! ولا تدري متى أو كيف اكتشفت أمك ما حدث ! كل ما تعيه أن صرختها المفاجئة شقت جهامة الليل إلى شطرين ، فاستويت في جلستك مداهماً بحس الانخطاف ، وتطلعت حولك مستطلعاً ! كان الوقت قد تجاوز منتصف الليل بقليل ، وللحظات اختلط عليك المكان والزمان والحدث ، فأجهدت تفكيرك تريد أن تتذكر كيف ومن ومتى ولماذا ! كانت أمك تولول وتلطم خديها ، فأسرعت إلى حيث فراش أبيك ، ووضعت يدك على صدره ، لكن قلبه لم يكن ينبض ! التفت إلى أمك ، ففاجأك شعرها المنقوش ، والذعر العميق الذي يطل من عينيها ! كان منظرها غريباً ، يبعث على الخوف ، فوقفت زائغاً مجفلاً كحيوان صغير فاجأته الأضواء الكشافة ! ومن أنحاء الغرفة المنذورة للذهول ، راح طقس جنائزي يعلو وينتشر ، فيما تمدد الموت في المكان بكثافة ، وأخذت عيناك الحائرتان تمران على كل شيء ، بيد أنهما ما كانتا لتربان ، أو أنهما كانتا تريان ، لكن العقل الداخل في مدار الصدمة لم يكن قادراً على التحليل والربط والتفسير ! أين اختفت الدموع !؟ وأي يبس أصاب مفاصل الروح !؟ أي قصور ممعن في السيطرة على الأشياء تبدى !؟ وأي إحساس بالعجز !؟ شيئاً فشيئاً أخذت الأبعاد تتضح في الذهن المضبب ، وأدركت بشكل أولي فداحة الخسران الذي ألم بكم ، فأردت أن تصرخ ، أن تضرب الأرض بقدميك ، أو تبكي ، لكن اليباس الذي غل الروح لم يكن قد فارقها بعد ! شئ ما كان يريد الخروج على شكل نقمة أو عويل ، لكن الوسيلة أعيته ، فانشبحت فوق الجثة العزيزة بطولك ! إلا أن الأيام ظلت تخب كما كانت ، فأخذت الحادثة تنأى ، وراحت التفاصيل تتأبى على الحضور ، فإن فعلت، فإنها أخذت تفتقد إلى الترابط والوضوح ، بحيث ما عادت لحظات التذكر الغامضة تترافق بتلك النار الكاوية التي كانت تلفح الضلوع إثر الأيام الأولى لمصابكم الأليم ، بل إنها اكتفت بإيقاع من الأسى الهادئ فقط ! إيقاع مبهم لعله – أصلاً – يتعلق بما تكشف لك خلال المأتم ، ذلك أنك أمضيت الأيام القليلة التي تلت الوفاة مختنقاً بوحدتك ، إذ راح الآخرون يمرون بداركم من غير أن يعرجوا عليها ، تاركين لك مشاعر الضآلة ، والإحسـاس بفداحة الفـقـر الذي يشتت الصلات ، ويقتنص من النفس كل ما هو إنساني ونبيل ، مخلقاً لها المياه الآسنة والصدأ ومشاعر القسوة ! واليوم ، فإن الذكريات والوقائع تزدحم في الذاكرة، إلا أن حس الفقد والفقر والانكسار المستمر ؛ كلها أدخلت تلك الذكريات في المحرقة ، وأنضجتها ، بعد أن أسلمتك إلى حالة من الحياد أقرب إلى التسليم ، فأخذت تتأمل في محيطك بانتظار ما سيحمله الغد ربما ! -6- أنت لا تطلب ملكاً ضائعاً ، ولا مالاً ينهمر عليك كالمطر ، بل أن كل ما تبغيه هو موطئ قدم ، ولقمة نظيفة ، وثوب خال من الرقع ، فهل هذا كثير على بلد راح يعد بغير حساب !؟ ثم أن تلك المطالب هي الأخرى مطالب مؤقتة ، فأمورك لا يمكن لها أن تستمر على تلك الحال ، إذ أنك لـن تـبقى مترهباً إلى الأبد ، وغداً أو بعد غد ستهمس لك فتاة من وراء الزجاج ، فتستجيب لها ، وتؤسسان معاً أسرة متكاتفة ؛ قد تكون صغيرة في البدء ، لكنها ستكبر في ما بعد ، ويملأ فراخها أركان الأرض الأربعة ! وهذا كله يحتاج إلى دخل ثابت ومستقر ! وبالأعراف والسنن كلها تبدو مطاليبك مشروعة ومتواضعة ، فلماذا تاهت في زحام الحياة على تلك الصورة !؟ كانت التساؤلات العديدة تبرق في فضاء الذهن بلا استئذان محمومة أو مراوغة ، تفند ذاتها ، أو تدحض بعضها البعض بالتتالي ، ثم تعاود انطلاقها على صفحة وجهك المربد ، بحيث تستطيع العين الملاحظة تلمس آثارها فرادى أو مجتمعة، بينما كانت قدماك تقودانك بشكل آلي نحو السوق! كانت الشوارع والأزقة مزدحمة بطلبة المدارس ، ولم يكن هذا جديداً عليك ، إذ سبق لهم أن غادروا مدارسهم قبل أيام ، لكن الجديد في الأمر أن إضرابهم هذه المرة كان موجهاً ضد الحكومة ذاتها ، وهذا ما أثار فضولك ، فنسيت هواجسك الصغيرة ، وانزرعت وسط لغة جديدة تفرض منطقها وسياقها ! موظفو الإدارات ، وأصحاب دكاكين البقالة ، ومتاجر الألبسة الجاهزة ، وسوق الصاغة ، والحلاقون ، وأصحاب المطاعم ، الكل أسلموا أنفسهم لصمت مريب ينذر بالانفجار ! ثم جاء الهدير مزلزلاً ، جارفاً في طريقه كل شيء ! ومن كل مكان راح الناس ينحدرون نحو الساحة المركزية ، التي تستطيل أمام دار المحافظة ، فدنوت من أطراف المكان لإرضاء فضولك ، كانت الساحة تعج بحشود غفيرة ، فيما أنشأت جموع أخرى تتقدم نحوها من جهة دار البلدية ، وأخذت الأطراف تضخ المزيد من الناس في المحيط البشري الهائل ، إلى أن اكتظ المكان ، وأضحى محشراً حقيقياً يموج ويترنح كسفينة في طريقها إلى الغرق ، بما جعل أي حركة وسط تلك الحشود أمراً بالغ الصعوبة ! بعضهم كان محمولاً على الأكتاف يهتف مستنهضاً فيهم الهمم ، فترتهج الجموع ، وتروح تردد الهتافات التي تدفع عن الصدور غيظاً ظل مكتوماً فيها زماناً ، بينما كانت الشعارات تتداخل ، فهذه تهتف للوحدة ، وتلك للديمقراطية ، وثالثة للخبز والسلم والحرية ! البعثيون والشيوعيون وقلة من القوميين العرب قد تجمهروا في المكان ، في حين غاب عنه القوميون السوريون أو تداروا ، بعد أن اتجهت أصابع الاتهام إليهم إثر مقتل العقيد عدنان المالكي ! أما الإخوان المسلمون فكانوا يعدون على الأصابع ، برغم ما يشاع عن كثرة أعدادهم في المحافظات الأخرى ! كان العرق يزخ من الجباه ، يرشح بغزارة عبر الأجساد المتراصة ، لكن المد راح يتزايد – لحظة فلحظة – مع تدفق المزيد من الناس نحو المكان، فأخذ بعضهم بتسلق الأشجار وأسوار الأبنية المجاورة ، أو باعتلاء ظهور العربات السيارة المصطفة على الأطراف ، بحيث أضحى التقدم أو التراجع وسط تلك اللجة في حكم المستحيل ! فجأة ترنحت الجموع المتداخلة ، فماجت ذات اليمين وذات الشمال كموج شرس لا يعرف طريقه ، وأنشأت تتفرق بفعل قوة مجهولة ! ومن خلال فرجة في الحشود المتراجعة لمحت رجال الشرطة الذين كانوا يتقدمون لتفريق المتظاهرين ! كانت الهراوات والعصي المنذرة تلمع في أيديهم، فآثرت السلامة ، وانسحبت من زاويتك بسرعة ! كانت الشوارع البعيدة عن الساحة تكاد تخلو من الناس ، والمتاجر ما تزال موصدة ، فيما كان سوق الهال – الذي ينهض على ربض من الأرض – بدوره مغلقاً ، فبدت أزقته الضيقة الخالية من الناس موحشة ، مع أنها كانت تبدو أكثر سعة لخلوها من البشر والعربات والخضار المعروضة على جوانبها ! لم تكن قد بعت شيئاً من أوراق اليانصيب في يومك هذا ، بينما راح النهار ينسحب من البلدة كموجة ناكصة ، ولم يكن ثمة أمل في أن تجد مشترياً ، ذلك أن المدينة كانت قد نذرت نفسها للصمت ، فخوت شوارعها إلا في ما ندر ، ولم يبق أمامك إلا العودة إلى البيت ، فقطعت الشوارع مهموماً متكدراً ! ومع اقترابك من الحي راحت حركة غير مألوفة تملأ أزقته ، فدفعك فضولك لتتبع الأمر ! كان اللغط يعلو عن طعنة سكين تلقاها أحد شباب الحي في تظاهرة اليوم ، وراحت الأزقة الغارقة في ظلال المساء تنقل الخبر بشيء من الخوف والترقب ، إذ كان ثمة سؤال ملح ! والآن ما العمل !؟ نقل الشاب إلى المشفى كان مستحيلاً ، لأن مشاركته في التظاهرة ستنكشف ، وعندها فإنه سيتعرض لغضب رجال الأمن ! أما إسعافه بالوسائل البدائية فلم يكن مضموناً ! وكانت القصة تلامس فيك وتراً ما ، فأخذت تتابعها عن بعد ، من غير أن تتقدم نحو دائرة الضوء كثيراً ، كان الفضول يدفعك إلى الأمام ، لكن الخوف كان يسمرك في مكانك ، مصراً على تذكيرك بكلمات أبيك التي ما تزال ترن في الذاكرة / أن ابتعد عن السياسة يا بني ، فهي لا تطعم خبزاً ، ثم أن العين لا تقدر أن تقاوم المخرز ، هذه حكومة يا بني ! حكومة ن فلا تلعب بالنار ، وإلا عرضت نفسك للخطر !/ فقعدت في الدار تتسقط الأخبار ، ومع أنك لم تكن تعرف الشاب ، إلا أنك شعرت براحة عميقة حينما سمعت بأنه يتماثل للشفاء ! فألقيت بالموضوع جانباً ، ورجعت إلى أوراق اليانصيب التي توالجت بحياتك توالج اللحمة في السدى ! -7- وأخيرا، هاهو التاريخ الأبكم ينشق عن فجر مؤنس طال انتظاره، فابتداء بالغمر الأزرق ، وانتهاء بمدى الصحراء راحت الأشياء تشع بسحر خاص ، كأنما مسها ساحر ! وفي البيوت والمتاجر والأزقة والأسواق والسكك أنشأت الأمور تتخذ إيقاعاً متسارعاً مع إعلان الوحدة بين سورية ومصر ! فأخذت تتأمل في الناس والحدث ، وتعد نفسك للإقلاع مع الريح ! لم يكن ثمة شيء واضح في مدى الرؤية ، لكن جزءاً مهماً من الحلم كان قد تحقق ، جزءاً استقى ماءه من المدرسة والشارع والإذاعة والصحافة والتظاهرات الغاضبة التي كانت تدعو إلى الوحدة ، ربما لأنها كانت ترى بأن الأوان لردم الهوة التي تفصل تلك الأرض عن الأمم الراقية قد أزف ، فأخذ الجميع يعدون أنفسهم لخير عميم هلت بشائره ! كل شيء كان يندغم بطقس من القبول ، خلا بضع أسئلة راحت تطفو على السطح ! لماذا لم يقف حسين ورفاقه إلى جانب تلك الوحدة !؟ بيد أن توجيه سؤال كهذا إليهم لم يعد ممكناً ، لأنهم اختفوا كما يخـتفي الماء في اـلرمل ! فاختلفت الآراء في تفسير اختفائهم ! بعضهم قال بأنهم انتهوا إلى السجن ! وقال البعض : إنما هم متخفون هنا وهناك ! بينما قال آخرون : لكن قسماً كبيراً منهم غادر البلد ! كنت تتمنى أن يكون حسين نفسه إلى جانب تلك الوحدة ، ربما بسبب من المودة التي كنت تكنها له ، لكنه غاب مع الغائبين ، فيما انشغلت - أنت – بالبحث عن عمل يدرأ عنك تقلبات الأيام ! فبقيت تتردد على الدوائر الرسمية كعادتك ، من غير أن تنتبه إلىأن ذلك التردد كان يتطابق مع اللحظات التي لا تجد فيها أوراق ( اليانصيب ) المشهرة في يدك مشترياً ، فتنضح النفس باليأس ، وتظل تلوب في تلك الأزقة التي كانت تنهبك كل يوم بحثاً عن الرغيف ، إلى أن يزحف التعب نحو العضوية المحاصرة بين واقعها المؤسي وأحلامها الممزقة ، ثم ينتهي يومك عند ثلة الشباب التي انشغلت – في تلك الفترة – برسم أحلام وردية للأيام القادمة ! كانت بشائر المصريين قد وصلت إلى البلدة ، وكان للحياة أن تمضي هادئة واعدة ، ريثما تنجلي الخطوة القادمة ! ولكن ، لماذا أمحلت السماء في هذه السنة !؟ سؤال راحت الشفاه تلهج به في منطقة تعد الزراعة عمودها الفقري ، فيما أخذت عيون الفلاحين تتعلق بقزعات الغيوم القادمة من الأفق الغربي ، تنطر مطراً راح يعز ، وفي البحث عن الإجابات كان ثمة ما يدعو إلى التوجس ! غضب هذا ! قال البعض ! ممن وعلام !؟ غير أنك انشغلت عن اللغط المثار الذي أخذ يتغلغل في ثنايا الأرض وشقوقها بما استجد في أفقك ، فلقد وقعت أخيراً على عمل بصفة (( قياس )) لدى مديرية المساحة ، وبدا لوهلة أن النحس الذي وشم خطواتك قد تنحى قليلاً ! فاندفعت نحو الدائرة باكراً في صبيحة اليوم التالي ! لم تكن الساعة قد بلغت الثامنة ، فراحت خطاك تذ رع الأزقة المحيطة بها، بينما كانت الأعماق مرسحاً لمشاعر عديدة ومتناقضة بآن ! ولما أزف الوقت ، خطوت نحو الداخل بخطا متقصفة ! كان قلبك قد ضاعف من وجيبه ، وجبهتك ترشح بعرق غزير وبارد ، فيما أخذت أعصابك تتوتر تحت تأثير النظرات الفضولية التي انصبت عليك من كل حدب ! فالتجأت إلى عب الطاولة المخصصة لك ، وراحت عيناك تتحاشيان نظرات الآخرين المربكة ، متلهية بالتطلع عـبر الـنافذة المواجهة ! شيئاً فشيئاً أنشأ المحيط يخفف من ضغطه ، والأعصاب المشدودة تعود إلى مدارها الهادئ، فشرعت في اختلاس النظرات إلى المكان بين الحين والآخر ، مستغلاً انشغال الآخرين بما بين أيديهم من أوراق ! كانت الغرفة التي ستضمك مع آخرين إلى حين ضيقة ، ومع ذلك فقد غصت بأربع طاولات، احتل رجلان توسطت بهما سنون العمر اثنتين منها، بينما استأثرت سيدة أصغر منهما بالثالثة ، والى حائطها الجنوبي اتكأت خزانات حديدية ضاعفت من ضيق المكان ووحشته، أما نافذتها الوحيدة فراحت تقتنص من الحديقة المجاورة رؤوس أشجارها ! شـرح رئـيس الشـعبة طبـيعة العـمل الـمطلـوب منـك إنجازه، فغرقت في الأوراق المكدسة فوق المنضدة ! وكان الأمر جديداً عليك، فغاب عنك أن ليس ثمة رابطة بين صفتك في العمل والعمل الذي كلفك به ! وما كنت قد اعتدت البقاء في مكان واحد لفترة طويلة، لكن إحساسك بأنك مراقب، وحجم العمل الكبير سرقاك، فلم تنتبه إلى تصرم الوقت إلا مع تهيؤا الآخرين للانصراف ! كـان الجوع قد انضم إلى حبات العرق المتلألئة فوق الجبين ، وكان ثمة دوار خفيف في الرأس، فترسمت دربك نحو البيت بسرعة ! إلا أن الأيام التي تلت لـم تـنقض بالطـريـقة ذاتها، إذ بدأت - أكثر فأكثر _ تشعر بأنك تقف على ارض صلبة، وأن المكان يخصك بقدر ما يخص الآخرين ، فتراجعوا إلى حدودهم الطبيعية ! أما اللحظة التي لا تنسى بحق ، فهي تلك التي أمسكت فيها أصابعك المرتعشة بأول اجر شهري لك ، ذلك أن المبلغ كان كبيراً ، فأخذت تحملق فيه بذهول !ألف طيف التمع في الذهن ، وألف حلم مكسور هاجس النفس مذكراً ! وعلى قلق أنشأت تستعيد الخطط التي كنت قد أعددتها حول أوجه التصرف به ، وراح ذهنك يجتهد في اصطفاء ما يمكن شراؤه في ذلك الشهر ، وما يمكن أن يؤجل إلى شهر آخر ، ولكن الأولوية في المشاريع الصغيرة كلها كانت من نصيب ثوب أمك الجديد ،لأ ن ثوبها كان قد بلي تماماً ، وفقد ألوانه ، بحيث لم يعد ارتداؤه يليق بها ! حذاؤك هو الآخر كان قد اهترأ ، فبدا شراء حذاء آخر مطلباً ملحاً لا يقبل التسويف ! كان الزمن قد شرع بالانتظام في مدار اكثر هدوءاً ، لأنك _ الآن _ تتحصل على (( معاش )) ثابت ، يردع عنك التقلبات الحادة للأيام ، فاستكنت النفس لحاضرها إلى حين ! لكن المقام لم يطل بك في تلك الغرفة ، إذ طرأ ما حسبته في صالحك ، بسبب من مقاربته لطبيعة التجوال فيك ، وذلك عندما صدر قرار بضمك إلى فرقة من فرق المساحة ، فأخذت القرى المتناثرات في أنحاء المحافظة تتجاذبكم ، وتحتفظ كل واحدة منها بكم زمناً يطول أو يقصر ، لتمضي شبكة الدروب بكم _ من ثم _ نحو قرية أخرى ! - 8 - ربما كان الشتاء بأمطاره وأوحاله في منطقة تفتقد إلى الطرق المعبدّة كمنطقتكم، هو العائق الوحيد في وجه عملكم، ذلك أنّ الدروب الترابية التي تصل بين القرى المتناثرة كحباّت عقد؛ كانت تنقلب إلى مصائد حقيقية للسيارات عقب الأيام المطيرة! بحيث يضحي السير عليها مغامرة محفوفة بالمخاطر، ولولا ذاك الفصل الأهوج الذي يبطن احتمالات شتّى يصعب التكهّن بها، لما وقف شيء كحجر عثرة في طريقكم، لا الصيف الأحمق الغاضب أبداً والمتعرًق، ولا الخريف الأعجف بشمسه المحايدة المحتضرة! وعندها، فإنّ الكثير من العطلات الأسبوعية كانت ستندرج في محيط عملكم الميداني، ثّم من يدري، إذْ ربماّ طال الأمر بعض الأعياد أيضاً! كانت القرى شديدة التماثل كسبحة من الطين تزيّن حباّتها صدر الأرض، لأنها كانت متقاربة التصميم، ليس من الخارج فحسب، بل في تقسيمات بيوتها من الداخل أيضاً، تلك البيوت التي كانت تشبه بيتاً ما، في مكان ما، في زمان ما لم يعد موجوداً! ليزهر الحنين إلى فترة وادعة أضحت طيّ ماضٍٍ بعيد، ربمّا بسبب من رؤية تلك السقوف الخشبيّة المقوّسة تحت ثقل التراب المليّص، والكوى الصغيرة، والأحواش الواطئة، وأعشاش العصافير، لكن ذلك الحنين لم يعد يشبه الحرقة الكاوية التي كانت تجتاح الأعماق بعد الفترة الأولى لرحيلكم عن القرية، وككلّ مبهظ كنت تتنهّد هامساً! هو الزمن يؤكدّ في المجتبى الأخير، أنه الرابح الأوحد،وأن لا رابح سواه! كانت أعمال التحديد والتحرير تختلسكم من حضن دوركم، وتلقي بكم في محرقـة عمل مديد وصعب، يبدأ صباحـاً بإعـادة رسم حدود القريـة، وفرز العقارات الزراعية عن البيادر والمقابر والتلال، ومن ثمّ تسجيل أسماء مستثمريها، وينتهي مساءً برسم المخططّات، وحساب المساحات الزراعية، ليجمعكم الليل تحت عباءته، فتنطلق أحاديث شتّى، تبدأ من نهاركم الذي رحل لتوّه، مستعيدة الأحداث الطريفة التي وقعت لكم فيه، وتنتهي عند حواف البرهة التي تجمعكم حول إبريق الشاي، بعد أن تمرّ على المواضيع المطروحة للنقاش، سواء منها ما يتعلّق بظروف العمل ومشاكله، أو ما يتعلّق بالشؤون العامة المتحررّة من أسار العمل ورتابته، وما كان الأمر ليخلو من علاقات متفاوتة تنشأ بينكم وبين الأهالي! وللسنة الثانية على التوالي أمحلت السماء إذْ لم تغب الشمس الوانية عن نهاراتها إلاّ لماماً طيلة فصل الشتاء، فلم تبلّل نهاياتها العطشى بالمطر، بما جففّ الضرع، ولم تنبت الحنطة التي أودعت الأرض السمراء أسرارها، وراحت الماشية تنفق جوعاً على تخوم البادية بعد هزال! كان الأصفر يطالع الناس هشاً متقصفاً، حتى لكأنهم ما يزالون في فصل الخريف، في الوقت الذي كان الربيع ـ فيه ـ قد عبر نصفه المؤسّس للأخضر عادة، فعاد الهمس يطال موضوع الساعة ! أما قلنا لكم إنّه غضب! كان الخوف من المحل وشلاً مدّملاً عرف الناس ألمه، فراحوا يتأمّلون الأرض المختنقة بعطشها، والسماء التي لم تستبدل ثوبها الأزرق بترقبّ وقلق، ثّم أردفوا بمرارة! أنبأناكم بأنّ هذه الوحدة لا تحمل لنا خيراً، فما صدقّتمونا! وفي المفارق والمنعطفات أخذ الهمس يتعاظم؛ بأنّ "عبد الناصر" يخطّط لإسكان خمسة ملايين نسمة في الجزيرة السورية، فرّد المتعاطفون: ليس في الجزيرة وحدها، وإنمّا في كامل الإقليم الشمالي! لكنّ المتطيرّين من مواقعهم تابعوا: أرأيتم!؟ فيما تابع المؤيدّون : وما الذي يشكل في الأمر!؟ فتساءل المتشككوّن بدهشة: كيف! وهل تظنوّن الإقليم الشمالي هذا بقرة حلوباً!؟ سنموت في الشوارع جوعاً! سترون! وكان ذلك الهمس يجرحك! طلبنا الوحدة، فتحققّت، فما الغريب في الأمر!؟ ولم تكن قد نشأت أيّ علاقة مباشرة بينك وبين المصرّيين فلم تصدّق ما كان يشاع عنهم! من أنهّم ينظرون إلينا كمستعمرة! وهم يتجاوزون القوانين! يا أخي، ما عاد بإمكان الرجل أن يصرّح بما يجول في ذهنه حتى لزوجته خوفاً من رجال المخابرات!أمّا بالنسبة لك، فإنّ الوحدة كانت فأل خير، ذلك أنك وقعتَ في مستهلّها على عملك الحالي! وكنت تتفكّر بأنّ إسرائيل هزمتنا عام ثمانية وأربعين وتسعمائة وألف لتَفَرقّنا! وقلتَ: نسينا مَثَل الرجل الذي استدعى أولاده الثلاثة قبيل الموت، وفرّق عليهم عصّياً، طالباً إليهم كسرها، ففعلوا! ثمّ جمع العصّي في حزمة، وطلب إليهم إعادة الكرّة، فامتنعت عليهم العصّي! فقال لهم: مَثَلكم مَثَل هذه العصّي، إن افترقتم حلّ بكم الضعف والهوان، وإن توحدّتم اجتمعت لكم القوة والمنعة! إلاّ أنّ الآراء المتباينة كانت تستعصي على اللقاء، فتمضي بقية السهرة بين ورق الشدّة، أو لعبة إخفاء الخاتم، ثمّ يُغرّم الفريق الخاسر بديك رومي، أو بشيء من الفاكهة! في صبيحة اليوم التالي كنت تنطلق نحو الخلاء متوحداً، أو برفقة المجموعة، بما يقتضيه الظرف، وذلك بعد أن سقطت تلك الحساسيات الصغيرة من حساب أفرادها، ربّما بحكم المعاشرة الطويلة، فصار بإمكان أيّ منهم أن يحلّ محل الآخر بحدود! وعليه؛ فإنك لم تكن كثير الاختلاط بالأهالي، وكنت تذهب في تفسير احتفائهم بكم إلى سجاياهم الكريمة، لكن الفلاح الذي دنا منك ذات صباح، ظلّل ذلك التفسير بغلالة من الشّك والحيرة! ربما كان اللطف الذي أظهرته له هو السبب في تجرؤّه، ولكنّك كنت معذوراً، لأنك كنت تودّ أن تعرب له عن امتنانكم لما تلاقونه من استقبال حسن، فكيف بدر منه ما بدر!؟ شديد الغيظ كنت ومهاناً، إذ لم يكن ثمة مجال للخطأ في فهم مراده! إنهّ يعرض عليك رشوة مبطنّة! حاراً تصاعد الدم إلى قمة رأسك، وثرت في وجهه بشدّة، فأُسقط في يده، وانصرف عنك بارتباك، لكّن الأعصاب المتوقدّة لم تستعد هدوءها إلا بعد حين، ومن يومها أخذت تدقّق النظر في الناس جيداً، لتفهم الدوافع اللاطية خلف ما يظهر من سلوكهم! وهـاهـو غيابكـم عـن بيوتكم يطـول، فيزداد شوقكـم إلى أهلكـم، بيد أنّكم تتحاشون إثارة الموضوع في تواطؤ شبه معلن، رغم أنه أضحى مقروءاً في عيونكم، إلى أن يطفح الكيل، موهناً فيكم القدرة على التغاضي، وما يعود التجاهل مجدياً، فتلحّون على رئيس الفرقة من أجل أن يسمح لكم بزيارة خاطفة للبلدة، وتلحفون، لكنّه يماطل قليلاً في البدء، إلاّ أنّه ـ في ما بعد ـ يتنبّه إلى أنكّم تكادون لا تنجزون عملاً يُذكر، فيدرك بأنّ مماطلته لم تعد مجدية، ويرضخ لإلحاحكم، وعندها تركبون الدروب شمالاً، أو جنوباً بحسب الجهة التي كنتم تعملون فيها، تسبقون توقكم إلى أحضان زوجاتكم وأطفالكم، فتمضون ليلة دافئة في بيوتكم، لتعيدكم العربة السيّارة في صباح اليوم التالي إلى مواقع العمل، بعد أن تكونوا قد استعدتم شيئاً من نشاطكم! فما الذي ألقى "بحسين" في طريق الذاكرة !؟ ما الذي أعاد صوته الهادئ إلى الذاكرة السمعية!؟ هناك، في ذلك العراء المديد استلقت القرية ـ التي غادرتموها منذ سنوات بعيدات ـ على حواف "الزركان" بكسل! وعلى الفور تداعت ذكريات عزيزة على قلبك، فأخذتَ تتحراهّا بعين الشوق والفضول! كلّ شيء كان ما يزال على حاله تقريباً، أو أسوأ قليلاً! الساحة الضيّقة، البيوت المتماثلة التي تتزاحم من حولها، وتغيّب ملامح الدروب المتفرّعة عنها، المتابن، والدروب القصيرة الضيقة! ليس هذا فحسب، بل أنّ بعض بيوتها كانّ قد تهدّم جزئياً، أو كلياً، بعد أن غادرها أهلوها قاصدين المدينة، فنهضت محلّها تلّة ترابية، وتيبسّت البساتين الصغيرة المسيجّة التي كانت تفصل هاتيك البيوت عن بعضها، فيما لم تقع عيناك على شجرة بطم واحدة حول المكان، بعد أن طالتها يد الاحتطاب بشكل فظيع، وعدا الخراب العميم، فلم يكن ثمة شيء قد تغيرّ، وتداعت أصوات وأصداء وألوان وطيوف وروائح بعينها، إلاّ أنها اليوم ما عادت موجودة، بعد أن غاب من غاب، ورحل من رحل! حتّى الذين بقوا كان الزمن قد طالهم، فما عادوا أولئك الأشخاص الذين عرفتهم ذات يوم! الآن فقط، كانت صورة القرية قد استقرّت في خلايا الذاكرة بلا رتوش أو إضافات على شكل أكواخ تنضح بالفاقة والجهل والتخلفّ! وكان "لحسين" دور أساسيّ في نزع الغلالة الرقيقة عن عينيك! كنت تتمنىّ أن يكون مخطئاً في ما رسمه، لكن السيف الذي هوى مزّق الحجب، وحين دارت العربة حول القرية فاجأك بناءان جديدان في الجهة الغربية، فتساءلتَ عنهما، ثمّ عرفتَ بأنهّما مستودعان لمزارعين يقيمان في البلدة المجاورة! كان التماثل بين كلام "حسين" واللوحة التي تراها كبيراً، فتداعت ذكراه بإلحاح، وراحت الأسئلة تضجّ وتتلاحق "أن كيف عشتَ تلك السعادة في عبّها!؟ أنت لا تستطيع أن تمضي في هذا المكان ليلة واحدة فقط! ربما استطعتَ أن تمضي فيه فترة قصيرة كضيف، ولكن حتى تلك الفترة ـ على قصرها ـ ستمّر عليك بطيئة، ثقيلة ومملة!" وبرغم أن الاكتشاف لم يعد جديداً إلاّ أن حزناً رهيفاً كحرف شفرة راح يتنامى نادباً الصلات الإنسانية المتشظيّة، إذ أن ملاذاً وهمياً آخر أخذ يتداعى، تاركاً مكانه أسلاكاً شائكة تحفر في النفس، وتجرحها! عبر النافذة كان السكون عميماً، وكان ثمة قمر شاحب يضفي على السكون جلالاً ومهابة، فانكفأتَ في فراشك، مصعّداً آهة سخونة! ولأيام عديدة تلت راح ضيق مبهم يثقل على الصدر كلمّا نهضت الصورة في المخيلّة! - 9 - قد لا تكون سعادة خالصة، ولا خوفاً خالصاً ما يتوزّع القلب، بل هي مزيج من هذه وتلك راحت تلهج في الدمّ، لتغرق في عرقك مهتزّاً كقصبة في مهبّ الريح! ومن حولك كان الناس يتدافعون، فلم يبق ثمة مكان لقدم، وراح صوت الطبل يقوّض هدوء الحي، في الوقت الذي أخذ الأطفال ـ فيه ـ يتراكضون حول حلقة الدبكة! كان الزقاق مُتخماً، ومن فوق الرؤوس ارتفعت غلالة من الغبار الذي أنشأ ينطلق عن أقدام الراقصين، بينما كانت الزغاريد المنطلقة من أفواه النساء تصّم الآذان! وعلى الرغم من المظاهر المؤكدّة، كنت ما تزال تكذّب ما تراه عيناك! مؤشّر الذاكرة مضطرب، يرتحل إلى الوراء، أو إلى الأمام، ينسج ما قبل وما بعد، ما حدث وما يمكن أن يحدث، ليودعه في صندوقها المقفل إلى حين، فيما راحت أحداث الأيام القليلة المتصرّمة تتداعى، إذ أن كآبة غامضة أخذت ترين على روابي النفس مؤخّراً، واسمة مزاجك بكدر قلق، ولياليك بأرق عنيد، لتستيقظ عند الصباح خاملاً، متكسّر الأطراف! وكان ثمة خيال نسائي غامض يتكشّف جزئياً عن كوابيس تناهبتك، من غير أن تشير الذاكرة إلى امرأة بعينها، بمقدار ما كانت تشير إلى المرأة كجنس مختلف! لم يكن ثمة نسوة في حياتك، لذلك راح توقك اللايُحدّ إلى امرأة يتضوع أريجها في محيط العمر يرهج الدم، وينتش في النفس الكثير من الآمال، لكن الأيام التي توالت رتيبة بلا جديد، دفعت النجوم إلى التساقط في شقوق النهار الباهتة، فلقد كنت جاهلاً بعالم النساء الرخيّ، ولم تكن تعرف شيئاً عن الكلام الذي يمكن أن يقال في حضرتهّن، فإن تصادف وجودك معهن في مكان واحد؛ جّف حلقك، وشحب وجهك مع هجرة الدماء عنه، ثمّ تورّد بالدم المتدفق من الوجنات حتى تحمرّ أذناك! ولم تكن تعرف سبيلاً إلى التغلب على تلك المشكلة! كل محاولاتك في هذا الاتجاه أخفقت، كما أخفقت محاولاتك الرامية إلى تناسيها أيضاً، وهاأنت تعمل وتسير وتأكل، تنام وتسافر وتعود، لكن جزءاً من دماغك يأبى الاندغام في تمام اللحظة، بل يظل يعمل في اتجاه آخر، فإذا سايرته بمكر لسبر ما يمكن سبره، قادك إلى صورة غامضة لامرأة غائمة الملامح، نائية! وهكذا راحت الأيام تمرّ بطيئة، ثقيلة الظل والخطو، تنشر هنا وهناك ردود أفعال تتسم بالعصبية، ردود تدخل في باب التفريج ربما، بيد أنّها لم تكن تسفر عن شيء، فيطل الإحباط برأسه ضارباً جذور التماسك في أسّها! وكمن يقرأ في كتاب مفتوح كانت أمك تتابع أحوالك من ركنها المنزوي، إلى أن فاجأتك يوماً: ـ أحمد! لماذا لا تتزوج!؟ كضوء كشّاف باغتك السؤال، فأجبتها مأخوذاً: ـ أتزوج!؟ ـ نعم تتزوج، فأنت لم تعد صغيراً أم أنني مخطئة!؟ فقلتَ بحيرة: ـ كيف!؟ أنت ترين الظروف، و…… ـ وهل تعتقد أن الظروف ستتغيّر برمشة عين!؟ أنت لستَ ساحراً يا بني، فما الذي يمكن أن يتبدّل في حالنا بعد سنوات خمس مثلاً!؟ لا تقل لي
تعليق