إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

أسئلة الحداثة بين الواقع والشطح

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #16
    رد: أسئلة الحداثة بين الواقع والشطح

    الرأسمالية وأدب الأطفال

    الموضوع كالبحر سعة وعمقاً وتلاطم أمواج وغنى تناقضات، ولما كان البحر لا ينقل على الورق فسوف أسعى جاهداً كي أقدم لكم خريطة لبحر، أجل خريطة لا أكثر، وسأعمل جاهداً كي تكون خريطة دقيقة، وموضوعية وحيادية..‏

    أعلم أن الحياد المطلق غير موجود في الكون الذي نعيش فيه، والموضوعية المطلقة هي الأخرى أيضاً غير موجودة... فكيف يمكن أن نرى الموضوعي المطلق بوسائلنا الفردية المحدودة، وكيف يمكن أن نتخلص من تأثير مشاعرنا واحساساتنا وبها نتصل بالأشياء، ونتلقى المعطيات؟‏

    وقد يسأل سائل: وما نفع الكلام إذا لم يتسم بالشمول والموضوعية؟‏

    وأجيب بلا أدنى تردد: قدرنا ألاّ نصل إليهما... وإنما غاية جهدنا الاقتراب منهما ما استطعنا.‏

    تلك هي نقطة الانطلاق الأولى إلى الكلام على الموضوع - البحر.. وثمة متكأ آخر سأتخذه ذريعة للكلام المحدد ومنطلقاً له هو التالي:‏

    جاء في تعريف بالهيئة العالمية لأدب ألأطفال (نشرته جريدة النهار البيروتية) مايلي: "الكتابة للأطفال والأولاد فن مستحدث، ظهرت طلائعه في أواخر القرن السابع عشر، في أوروبا، مع الأديب الفرنسي شارل برو الذي ألف قصصاً للأولاد، أشهرها "ساندريلا" ثم في الفترة بين الثامن عشر والتاسع عشر زاد رواد هذا الفن، نذكر منهم على المثال (كذا) الأديبة الفرنسية الكونتسة دوسوغير واضعة حكايات تحت اسم "تعاسات صوفي" والكاتب الدانماركي هانس كريستيان أندرسن صاحب كتاب "حكايات للأولاد" والكاتب الأنكليزي لويس كارول الذي عرفت له سلسلة كتب باسم "أليس في بلاد العجائب" (النهار في 23/5/1991).‏

    تلت هذه المقدمة فقرة تتكلم على النهضة الأوروبية التي دعت إلى إرساء العدالة والمساواة بين البشر، وكان من أفكار هذه النهضة إدراك قيمة الفرد في المجتمع، والعمل على تنشئته منذ الطفولة تنشئة تراعي صحة الجسم، وسلامة العقل وتهذيب الخلق.. الخ".‏

    إن المعطيات غير الدقيقة هي كالمقدمات غير الدقيقة، في مقولات المنطق الصوري تؤدي الى تعميمات غير دقيقة وبالتالي غير صائبة.‏

    وإذا كان الكلام يدور حول أدب الأطفال الذي بدأ بحكاية ساندريلا ويقصد به أدب الأطفال في أوروبا وحدها فإن الخطأ في ذلك لن يكون فادحاً فداحته فيما لو قصد به أدب الأطفال، أي الحكاية الراقية في العالم بأسره.‏

    يقول الكاتب البلغاري إيفريم كارانفيلوف في كلامه على "الشيوخ والشبان" وعلاقة الإنسان بجذوره: "إن الأهم للتطور هو -ألاّ يعتقد الشبان أن كل شيء يبدأ معهم-وألا يعتقد الشيوخ أن كل شيء سينتهي معهم"( إيفريم كارانفيلوف- "الجذور والعجلات" ص 187).‏

    ويبدو لي أن هذه الحكمة تنطبق أيضاً على التشكيلات الاجتماعية المتعاقبة لا على الأجيال البشرية المتعاقبة وحسب. وليس من المنطق أن تزعم تشكيلة اجتماعية متأخرة تاريخياً مثل الرأسمالية أن الحكايات بجمالها وحكمتها فن استحدثته هي ثم طورته... وأما دعوتها "إلى إرساء العدالة والمساواة بين البشر" و"إدراك قيمة الفرد في المجتمع" فزعم قد يمكن تصديقه إلى حد ما إذا عدنا إلى مراحل اندفاعها الأولى حين حاربت باسم تلك القيم التشكيلة الاجتماعية التي سبقتها.‏

    أما الآن فكل المعطيات تؤكد أنها قد تخلت عن تلك القيم، وشرعت تحاربها بكل ماتملك من وسائل.‏

    إن "ساندريلا" هي إحدى الحكايات الناجحة التي أحبها الأطفال كثيراً، وهي ذات أكثر من بعد، ومستوياتها متعددة، وقد عدّها بعض النقاد مثالاً للمبدع الذي يخرج من مصهر العمل الشاق الدائب مبدعاً متألقاً، في حين تخيب آمال الذين يتهافتون على التبرج والسعي إلى حيث الاضواء الباهرة.... إن الحورية تخرج من المطبخ" (راجع ايفريم كارانفيلوف، "مقالات مختارة" ص 183 ومايليها).‏

    وقد توحي لنا الحكاية ذاتها بأفكار أخرى غير التي أوحت بها إلى كارنفيلوف إذا نظرنا إليها من زاوية نظر مختلفة عن الزاوية التي نظر منها إليها.‏

    ولكنها تبقى، على كل حال، احدى الحكايات الجيدة.... وكونها كذلك لا يسوّغ الزعم أنها وأخواتها: "فن الأطفال المستحدث الذي ظهرت طلائعه في أواخر القرن السابع عشر".‏

    يقول جان بول سارتر: "إن الإنسان هو دائماً سارد حكايات".(جان بول سارتر "الغثيان" ص 59)... وأزعم أن قوله هذا يصح على الإنسان في الماضي والحاضر، بل أزعم أيضاً أن الإنسان سيبقى سارد حكايات في المستقبل أيضاً. لقد ولدت الحكاية مع الإنسان وستبقى مابقي الإنسان... وإني لأزعم أن الإنسان قد حكى الحكايات حتى قبل أن يتعلم الكلام... ولا يمكن أن يكون الأمر إلاّ كذلك، فقد تكلم الجسد الإنساني قبل أن يتكلم لسان الإنسان، وعبر الجسد عن أفراح الناس وأحزانهم قبل اختراع الكلام بزمن طويل. أليس التاريخ حكاية، وهل يوجد فن خارج التاريخ، أليس في كل فن حكاية؟..‏

    زعم الناس منذ الأزمنة القديمة أن الأرض محور الكون، ثم جعلوا الإنسان سيد الأرض بلا منازع، وهاهم الأوروبيون بعد أن نشأت الرأسمالية بين ظهرانيهم يتبنون هذا الزعم القديم ويضيفون إليه زعماً آخر هو أنهم المبادرون إلى تأسيس كل شيء إنساني جميل، حتى الحكايات، وكل ذلك كي يجعلوا كلامهم على المركزية الأوروبية مقبولاً ومستنداً على قاعدة ما، ومن ثم كي يزعموا أن أوروبا مهد الحضارة الإنسانية ومرضعتها، وبالتالي فهي سيدة أناس الأرض، ومن ثم فهي سيدة الكون.‏

    ليس في إمكان أحد أن ينكر ماقدمته الثورة الصناعية المعاصرة من تطوير للقوى المنتجة ولا ما حققته الدول الصناعية المتطورة من إنجازات علمية، ولا ما ابتكرته من وسائل لنشر الثقافة. إن الصحافة المقروءة والمسموعة والمرئية قد غطت الكرة الأرضية بشبكة واسعة وغزيرة الإنتاج، ولقد قدمت للبشرية خدمات جليلة في هذا الميدان، وإذا نظرنا إلى هذا الكم الهائل الذي يضج به الأثير والذي تقذفه المطابع الحديثة من معلومات وقفنا ذاهلين... فحتى السحر القديم ماكان في وسعه أن يتخيل القليل مما يحدث أمام أنظارنا اليوم.‏

    ولكن للمسألة وجهها الآخر.. فلقد تحول كل شيء في أيامنا إلى "بزنس" وراحت الاحتكارات تتنافس في كل المجالات محولة كل شيء إلى سلعة... القيم العلمية والثقافية صارت تخضع لقوانين السوق، وكما انتشرت الحلي المزيفة انتشرت أيضاً الثقافة المزيفة، وأوجد البزنس الثقافي سوقاً رائجة جداً للقيم الهابطة جداً.... وهاهي ذي البشرية تستفيق من ذهولها لتجد نفسها في بيئة ملوثة... وقد اجتاز التلوث الحد الخطِر الذي يهدد بالقضاء الكامل على فاعلية التراب والماء والهواء الحيوية، وبالتالي القضاء الكامل على الحياة على الأرض.‏

    وأصاب أدب الأطفال ما أصاب الفنون والآداب وما أصاب السلع الأخرى... فقد اكتسبت كلها طابعاً استهلاكياً وجسدت كلها سمات "الأخلاق" التي حرصت الرأسمالية على تجسيدها في مختلف مناحي الحياة الاجتماعية والروحية.‏

    لكن ذلك لم يتم دفعة واحدة بل على مراحل نستطيع أن نقسمها، جوازاً، إلى ثلاث...‏

    "إذا عدنا إلى البداية التي حددوها بأواخر القرن السابع عشر، ثم انطلقنا من "ساندريلا" ثم من اندرسن معتبرين أن تلك المرحلة هي المرحلة الأولى نجد أن البرجوازية إذ عملت على بسط هيمنتها الروحية كي تفرض من ثم نمطها الاستهلاكي على مجتمعاتها وعلى العالم قد عملت جاهدة على خلق أساطير خاصة بها، وإبراز نماذج من الأبطال يحملون سماتها العامة التي تميزها كطبقة.. ولقد استفادت كثيراً من مكونات الحكايات والأساطير القديمة من حيث بناها الشكلانية كحكايات وأساطير وكذلك من عنصري الخيال الشعبي والأعاجيب التي كانت من مكونات تلك الحكايات وتلك الأساطير، ولقد أدركت بحسها الطبقي أن تلك الحكايات وتلك الأساطير يمكن استخدامها، مع شيء من التعديل، كسلاح فعّال في معركتها وخدمة لمصالحها، فتخلت عن ادعاء الصرامة العلمية، التي رفعتها شعاراً لها، في الموقف من "الخرافات" وقررت الإفادة منها...‏

    أما البطل البرجوازي الجديد، وقد تكوّن هو الآخر على مراحل ولا يزال يتطور مع تطور البرجوازية المعاصرة، فقد بدأ يمتاز بسمات جديدة أضيفت إلى سمات البطل القديم أو افترقت عنها كي يصير في نهاية المطاف بطلاً برجوازياً حقاً. ومن بعض سماته الخاصة فردانيته المفرطة وعدم اعتماده على الآخرين، بل إن الكاتب البرجوازي الصرف يضعه في تعارض شبه مطلق مع الآخرين جميعاً، ثم يجعله يتغلب أخيراً، على كل العقبات والصعاب وينتصر انتصاراً باهراً.. وقد يُصور وكأنه من طينة أخرى غير طينة البشر.. ولنتذكر أن "فرخ البط القبيح" لاندرسن قد خذله الجميع وكرهوه وتخلت عنه حتى أمه، وقد انتصر على الرغم من كل ذلك لأنه كان تماً وضعه القدر بين فراخ البط.. أجل.. حتى اندرسن العظيم لم يستطع التحرر تماماً من تأثير أفكار الطبقة السائدة، وقد سوّغ ذلك بأن بطله كان رمزاً للمبدع لا للإنسان عموماً.‏

    وإذا كان بطل الحكايات الشعبية القديم يذهب مغامراً في سبيل سعادة الآخرين أو لرد الأذى عنهم (جلجامش انطلق باحثاً عن الدواء الذي يرد سطوة الموت عن البشر، والكثيرون غيره انطلقوا لقتال الطغاة أو الهولات- غول أو تنين) وإذا كان البطل القديم يحمل حفنة من تراب الوطن لتكون حرزاً له، أو يتزود برغيف خبزته أمّه كي يستمد منه القوة التي لا تنضب، فإن للبطل البرجوازي الجديد هدفاً واحداً هو خلاصه الفردي، وكثيراً ما تصطنع الصعاب التي توضع في طريقه، وتصوّر على أنها صعاب، لاسمة اجتماعية أوطبقية لها، بل هي ناجمة عن سوء خلق زوجة الأب الشريرة، أو قسوة ذلك الأب الجاهل أو ما ماثل ذلك.‏

    في "ساندريلا" مثلاً، نجد فتاة تقسو عليها زوج أبيها وتحتقرها ابنتاها ظاهراً في حين تغاران منها وتحسدانها، يدفعهما الحسد والغيرة إلى مزيد من القسوة، وتتحمل الفتاة كل المنغصات بصبر وتقوم بأقسى الأعمال المنزلية، وتغتني روحاً فيضفي ذلك مزيداً من الجمال على جمالها، وكل هذه التراكمات الكمية تؤدي في النهاية إلى التبدل الكيفي الذي يأتي على شكل أحداث متلاحقة ومتواترة ومنسجمة مع منطق الحكاية الفني وإن خالفت منطق الواقع.. ومن ثم "الحجر الذي رفضه البناؤون صار رأس الزاوية... (انجيل متى /اصحاح/ 2 الآية41).‏

    إن فكرة الحكاية المحورية ليست مبتكرة، ولسنا بحاجة إلى إثبات ذلك.. فالأمثلة كثيرة جداً.. والمثل الذي أوردته من الانجيل يلخص فكرتها. إن مايهمني الآن هو مسألة أخرى تتعلق بالشكل وبالمواقف من الإنسان والعمل، في إحدى حكاياتنا وفي "ساندريلا" المبتكرة!‏

    الحكاية شرقية الطابع وحتى الآن لم أعثر على مصدر موثوق لها.. إنها إحدى الحكايات الشعبية المدهشة.. كانت أمي تحكيها لي يوم كنت طفلاً وما كنت أمّلُّ سماعها.. ولقد حفظتها بكل تفاصيلها منذ تلك السنوات البعيدة مع أنني لم أدرك، الا بعد أن نضجت، كل مغازيها الفلسفية والاجتماعية. تحكي الحكاية قصة حطاب فقير وقع على جذع شجرة يابسة في الغابة فحاول أن يقطعه ويبيعه حطباً فيطعم أولاده.. وبعد أن يئس من قطعه، جلس قانطاً قربه كي يرتاح، فانشق الجذع فجاءة وخرج منه رجل "طوله شبران، وقبعته ذراعان وعصاه أطول منه"، وعرض على الحطاب أن يعطيه كيساً من الليرات الذهبيات لقاء أن يجلب ابنته الكبرى إليه لتخدمه...‏

    ويرضخ المسكين وتقبل البنت التضحية في سبيل أسرتها.. ثم تنفد النقود فيعود الأب ويحاول قطع الجذع فيخرج إليه الرجل القزم ويعقد معه صفقة أخرى فيأخذ كيساً من النقود ويحضر ابنته الوسطى.. ثم تنفد النقود وتأتي الابنة الثالثة فندخل معها إلى منزل القزم فنرى منزلاً عجيباً ولكننا لا نجد أثراً للاختين... ثم يذهب الرجل في سفر وتفتح البنت الغرفة التي حظر عليها دخولها فتجد أختيها قد علقتا من شعرهما إلى السقف وقد هلكت الأولى وأشرفت الثانية على الهلاك..‏

    وتنزلها أختها وتسعفها ثم تخرجان من المكان اللعين وتهربان، لكن الرجل الساحر يأتي ويكتشف هربهما فيتبع أثرهما ويراهما من بعد تعبران النهر إلى جهة لا سلطان له على من يصلون إليها، فيدعوهما إلى العودة فتأبيان فيقرأ إحدى التعزيمات السحرية فتتحول الصغرى إلى كلبة وتتحول الكبرى إلى بغلة.‏

    وتصل المسكينتان إلى بيت في طرف المدينة يسكنه شيخ وزوجه العجوز فيأويانهما.. وتتوالى الأحداث.. وتعمل الكلبة والبغلة أعمالاً تدهش الشيخ وزوجه.. ثم تدخل الكلبة حديقة القصر الملكي لتحضر بعض النباتات الصالحة للأكل فترى البركة الرائعة فتخلع جلد الكلبة وتستحم في الماء وهي لا تعرف أن ابن الملك قد شاهدها.. وحين ينزل من القصر ويقترب منها ترتدي ثوب الكلبة سريعاً وتهرب إلى بيت الشيخ وزوجه بعد أن تقع فردة حذائها في الحديقة.‏

    ويمرض ابن الملك حباً.. ويرسل الملك جماعة من الجند تطوف بالبيوت بيتاً فبيتاً ومعها فردة الحذاء فلا تصلح لرجل أية فتاة من فتيات المدينة.. ثم يصل الجند إلى البيت الذي فيه الكلبة فيترددون ثم يدخلون ويجلسون كي يرتاحوا بعد أن وضعوا فردة الحذاء جانباً فتندفع الكلبة وتحتذيها وسط دهشة الجميع واستغرابهم.‏

    ويأتي الملك والوزير على استحياء، وقد ألح عليهما الفتى العاشق، ويخطبان الكلبة إلى الأمير فيتزوجها ويحتال عليها ويحرق ثوبها الكلابي فتعود فتاة رائعة الجمال وتتحرر أختها أيضاً من السحر وتعود فتاة جميلة.. ويخطبها ابن الوزير.. فيقام العرس للاختين ويعيش الجميع بسرور وهناء.‏

    إن فقدان فردة الحذاء عنصر مشترك بين الحكايتين.. ولكن الحكاية العربية، أو لنقل الشرقية، أغنى محتوى وأكثر التصاقاً بحياة الفقراء، وهي من ثم ذات محتوى اجتماعي- اقتصادي فائق الأهمية.. فلقد توصل الحاكي هنا إلى النتيجة التي توصل إليها بعض علماء الاقتصاد والاجتماع والتي تقول إن العمل هو الذي يرقى بالإنسان ويجعله إنساناً حقاً... بل ان الحكاية الشرقية تقول أكثر من ذلك.. فهي تقول لنا دون مواربة إن العمل القذر غير الإنساني قد يقتل جسد الإنسان أو يفقده إنسانيته ويحوله إلى حيوان ثم لا يكون له خلاص إلا بالعمل الإنساني.. ولقد احتاج الحاكي إلى اللجوء إلى "السحري" الخارق كي يبرر الانتقال النوعي- من إنسان إلى حيوان، ثم احتاج إلى النار فحرق بها سواد السحر وظلاميته كي يشرق وجه الإنسان الناصع.. وفي ساندريلا "خرجت الحورية من المطبخ" كما قال كارانفيلوف..‏

    ويخطر لي سؤال: هل سمع كاتب "ساندريلا" هذه الحكاية واستفاد من بعض عناصرها؟‏

    سيبقى الجواب معلقاً.. وثمة الكثير من الأسئلة التي لن نجد الأجوبة الشافية عنها.. فقد تمازجت حكايات الشعوب تمازجاً عجيباً على مر الزمن. ومالاشك فيه هو أن الدعوة إلى "إرساء العدالة والمساواة بين البشر"..... وادراك قيمة الفرد في المجتمع" لم يكونا اختراعاً "نهضوياً" أوروبياً كما يزعم الزاعمون.‏

    وثمة أمر آخر شديد الوضوح هو أن شارل برو قد استند إلى عنصر الأعجوبة، أي اعتمد على الخارق السحري، كي يكتمل سياق الحكاية الفني، والاستناد على مثل هذا العنصر ليس، هو الآخر، بالأمر المستحدث، وليس للقرن السابع عشر فضل في استحداثه، وإنني لأزعم أن في حكايات "كليلة ودمنة" وهي حكايات آسيوية صرف، وقد وضعت قبل القرن السابع عشر بقرون عديدة، من الابتعاد عن عنصر الاعجوبة المجاني، ومن الاقتراب من منطق عصر النهضة العلمي أكثر كثيراً مما في "ساندريلا" على سبيل المثال ناهيك عما في غيرها.‏

    فهل يدرك أصحاب نظرية "المركزية الأوروبية" ذلك ثم يتجاهلونه أم أنهم يجهلونه فعلاً؟‏

    وإذا كان كاتب "ساندريلا" لم يطلع على حكايات "كليلة ودمنة"، وهذا محتمل، فهل من المحتمل أيضاً ألاَّ يكون قد سمع أو قرأ، حكاية واحدة؛ على الأقل، من حكايات "ألف ليلة وليلة" وهي الحكايات الأكثر شعبية في العالم؟‏

    أما كاتب الحكايات الدانماركي العظيم أندرسن فقد اطلّع على حكايات "ألف ليلة وليلة" وثمة أمور أخرى في سيرته الذاتية تستدعي الوقوف عندها، وهي أمور ذات دلالة كبيرة فيما يخص المسألة التي نحن في صددها.‏

    يقول الكاتب البلغاري سفيتوسلاف مينكوف الذي ترجم حكايات أندرسن إلى البلغارية وقدم عليها مقدمة هامة: "في أماسي الشتاء الطويلة كان الحذّاء (والد اندرسن كان حذاء -ملحوظة من م.ع) يأخذ عن رف صغير قرب النافذة أحب الكتب ويقرأ لامرأته وابنه خرافات الفرنسي لافونتين، أو كوميديات الدانماركي هولبرغ، أو حكايات "ألف ليلة وليلة" (حكايات اندرسن- بالبلغارية، الصحفتان 5 و 6 -والمقتطف من ترجمة م.ع).‏

    "وساحر الكلمة الجبار هانس كريستيان اندرسن" كما يدعوه مينكوف (ص14 من المرجع المذكور أعلاه) قد "رضع مذ كان طفلاً حكايات العجائز الفقيرات المثيرة في مدينة أودينسيه" (ص 12- مقدمة حكايات اندرسن).‏

    وفي كتابيه الأول والثاني من كتب الحكايات، وفاقاً لكلمات المؤلف نفسه فإنه قد "حكيت بتصرف" بعض الحكايات الشعبية الدانماركية (الأميرة فوق حبة الحمص) و (طيور التم البرية) و (سيلدا) وغيرها.. (المرجع السابق ص123).‏

    ويورد مينكوف ملحوظة ذات دلالة وهي أن أندرسن الذي وضع كتابه الأول تحت عنوان "حكايات للأطفال" جعل عنوان كتابه الثاني "حكايات جديدة" أي أنه قد تخلى عن كلمة "للأطفال" وذلك لأن الصغار والكبار يقرؤون الحكاية (المرجع السابق ص 13).‏

    ويبرز مينكوف فكرة أخرى ذات دلالة هي قول اندرسن:‏

    "ليس ثمة حكايات أجمل من تلك التي تبتكرها الحياة ذاتها" (حكايات اندرسن ص 14).‏

    وما لاشك فيه هو أن الحياة قد وجدت قبل وجود النهضة الأوروبية، أي قبل القرن السابع عشر بقرون كثيرة، وقبل وجود "الحلم بقيام مركزية أوروبية" وقد ابتكرت الحياة حكايات جميلة منذ أن كانت الحياة.‏

    إن أندرسن بتخليه عن كلمة "للأطفال" قد انتهج الخطة ذاتها التي انتهجها واضع كتاب "كليلة ودمنة" التي ذكرها ابن المقفع في تقديمه الكتاب... فبعد أن يقول على الصفحة 81: "وينبغي لمن قرأ هذا الكتاب أن يعرف الوجوه التي وضعت له وإلى أي غاية جرى مؤلفه فيه عندما نسبه إلى البهائم وأضافه إلى غير مفصح وغير ذلك من الأوضاع التي جعلها أمثالاً.... الخ". "كليلة ودمنة" تحقيق مصطفى لطفي المنفلوطي -دار الكتاب العربي، بيروت- لبنان) يمضي إلى القول بمزيد من التفصيل مستفيداً من المقدمة التي وضعها بهنود بن سحوان المعروف بعلي بن الشاه الفارسي، يقول ابن المقفع:‏

    "وينبغي للناظر في هذا الكتاب أن يعلم أنه ينقسم إلى أربعة أغراض: أحدها ما قُصد فيه إلى وضعه على ألسنة البهائم غير الناطقة ليسارع لقراءاته أهل الهزل من الشبان فتستمال به قلوبهم له لأنه الغرض الوارد من حيل الحيوانات، والثاني إظهار خيالات الحيوانات بصنوف الأصباغ والألوان ليكون أنساً لقلوب الملوك ويكون حرصهم عليه أشد للنزهة في تلك الصور، والثالث أن يكون على هذه الصفة، فيتخذه الملوك والسوقة فيكثر بذلك انتساخه، ولا يبطل فيخلق على مرور الأيام، ولينتفع بذلك المصور والناسخ أبداً، والغرض الرابع وهو الأقصى مخصوص بالفيلسوف خاصة" ("كليلة ودمنة " ص 98 و ص 99).‏

    أجل إن العمل الإبداعي الحق له أكثر من مستوى، وأكثر من غرض، وقد أدرك ذلك ابن المقفع واندرسن وسواهما..‏

    لقد ترسخت الحكايات والأساطير واكتملت حيث قامت الحضارت العريقة، والتجربة الرأسمالية المعاصرة لم تترسخ بعد في وعي الشعوب، ولم تضرب جذوراً تصل إلى أعماق التربة التي تكونت عبر عشرات القرون، وليس لدى الحضارة المعاصرة الوقت لذلك، فهي مستعجلة جداً، ولهذا لا نراها قادرة على خلق أساطيرها وحكاياتها الخاصة بها، والتي تعبر عن ميثيولوجيتها.. والرأسمالية، أصلاً، لا تطمح إلى خلق ميثيولوجيا جديدة... إنها تسعى إلى فرض هيمنتها "الروحية" بوسائل أخرى، مع استخدامها الحكايات أحياناً، ووسائلها وسائل فظيعة تصل إلى حد القضاء على كل ماهو روحي، أو يمت بصلة إلى القيم الروحية والمناقب الأخلاقية.. لقد خلقت صنماً أوحد هو المال.. والبطل المعاصر هو الذي يستطيع الحصول على أكبر قدر من الربح.. وليس مهماً إطلاقاً أن يسأله أحد: كيف؟ فليس ثمة أهمية لمثل هذا السؤال.‏

    فالمال هو الغاية القصوى، وكل الوسائل مشروعة في سبيل الحصول عليه... فالغاية تبرر الواسطة.‏

    أما عبقرية أندرسن فقد تجلت وتألقت في عمله على خلق حكايات وأساطير معاصرة تعكس روح عصره بعمق ورحابة. لقد قرأ الواقع الذي عاشه وتطلع إلى المستقبل من غير أن يكف عن النظر إلى الماضي.ومن غير أن يقطع جذوره الضاربة في الماضي، وإذ فهم الماضي جيداً استطاع أن يرى رؤية واضحة الجديد الذي يولد، لقد أدرك أن بذرة القمح التي تبذر اليوم هي حبة القمح التي بذرت في الماضي، والتربة هي التربة، وأما الذي تغير فهو المحراث والحصّادة والمطحنة، وبعض الأسمدة... ولقد خشي أن تقتل الالة الروح الحي في الحبة وفي القلب الحي.‏

    ابتهج اندرسن بالمنجزات العلمية الجديدة وعبر عن إعجابه الشديد بها، وكانت حكاية "التنين البحري الكبير" "مديحة شاعرية لاقامة أول خط اتصال هاتفي عبر المحيط بين أوروبا وأمريكا" (حكايات اندرسن ص 14).‏

    ولأنه كان عبقرياً وثاقب النظر فقد رأى وجه الرأسمالية الآخر أيضاً، إنها تعمل على اختراع آلات تدير بها كل شيء... ولهذا وجهان متناقضان، وكانت حكاية "البلبل" أغنية فائقة العذوبة تمجد المبدع الحق، الكائن الحي ذا الحنجرة العجيبة الذي لن تحل محله أية آلة مهما أتقن صنعها.، "وكان السياح يؤمون مدينة الامبراطور من كافة نواحي العالم. فيعجبون بالمدينة وبالقصر والحديقة، لكنهم إذا سمعوا البلبل قالوا كلهم: "هذا خيرها جميعاً! " أقاصيص هانس أندرسن- ترجمة محمود إبراهيم الدسوقي- القاهرة، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر عام 1940- ص 76-77).‏

    وتطوف الكتب التي تتحدث عن البلبل أقطار العالم ثم يصل أحدها إلى يد الامبراطور.. ويكون سؤاله: "أيمكن أن يكون هناك طائر كهذا في امبراطوريتي، بل في حديقتي من دون أن أسمع به؟" (المصدر السابق ص 77).‏

    ويصدر الأمر الامبراطوري: "أريد أن يأتي ويغرد أمامي هذا المساء، أيصح أن تعلم الدنيا كلها ماعندي، وأنا لا أعلمه! (ص 77).‏

    وندرك مغزى هذا الكلام على حقيقته، إذا عرفنا أن النقاد الدانماركيين قد آذوا أندرسن وافتروا عليه... ثم جاءه المجد والشهرة من الخارج...‏

    ومضى نصف الحاشية مع "فتاة المطبخ" للبحث عن البلبل. ويعلو خوار بقرة ويقول غلمان البلاط: "الآن وقعنا عليه!" (ص 78) ثم يسمعون نقيق الضفادع: "فقال واعظ البلاط الأول: هذا مدهش فالآن أسمعه، إن له صوتاً كرنين أجراس الكنيسة الصغيرة"(ص 79).‏

    وحين أشارت البنت الصغيرة إلى طائر أشهب صغير بين الأغصان قال الفارس: "أممكن هذا؟ ماكنت أظن ذلك، فما أبسط منظره!" (ص79).‏

    ويذهب البلبل ويشدو في القصر الامبراطوري وتترقرق الدموع في عيني الامبراطور ويأمر بأن يطوق عنق البلبل بخفيه الامبراطوريين الذهبيين.. ويخبره البلبل أن دموعه أغلى عنده من الذهب.‏

    ويحاول الحمقى تقليد المبدع الحق فيخفقون ثم يحضرون للامبراطور بلبلاً صناعياً محلى بالذهب والفضة... ويهرب البلبل الحقيقي من القصر.‏

    يعجب الامبراطور وحاشيته بالاغنية الاصطناعية التي تتكرر على نمط واحد.. ويقول صياد السمك الذي سمع صوت البلبل الصناعي: "إن صوت هذا البلبل جميل جداً يكاد يشبه صوت البلبل الحقيقي، لكنه ينقصه شيء لا أدري ماهو.. "(المصدر السابق. ص 82 وص 83).‏

    ويسخر من النقاد الذين يؤلفون المجلدات الكثيرة في امتداح أغنية البلبل الصناعي اليتيمة.... ثم تتعطل آلية البلبل الصناعي. ويستدعى صانع الساعات ويصلحه بعض الاصلاح.. وحين يحاصر الموت الامبراطور يطلب من البلبل الصناعي الغناء فلا يستطيع:"فلم يكن هناك أحد يدير لولبه" (ص 85).‏

    ويأتي البلبل الحقيقي... وينشد أناشيده العذبة المبتكرة فيتعافى الامبراطور ويطلب من البلبل البقاء في القصر فيخبره البلبل أنه لا يطيق الانحباس في القصر: "إن المغني الصغير يطير بعيداً إلى كوخ السماك ومزرعة القروي، إلى جميع من هم بعيدون عنك وعن بلاطك، إن قلبك أحب إليَّ من تاجك" (المرجع السابق ص 86).‏

    وندرك أن أندرسن قد حدثنا حديث الماضي ليحذرنا مما سيحمله المستقبل، وكانت الآلات تتطور تطوراً صاعقاً أمام ناظريه... ولقد أهاب بنا ناصحاً: وازنوا بين الآلة وبين قلوبكم.. لقدخلقت الآلة كي تخدمكم فلا تدعوها تحل محلكم.‏

    وبعد أن ينذرنا في حكاية "قطرة الماء" (ص 318-319) مما سيجلبه التنافس الرأسمالي من ويلات وفواجع يهتف بنا في حكاية "مباراة الوثب": "أجل، إن البلادة والثقل يفوزان اليوم! البلادة والثقل يفوزان اليوم! "(المصدر نفسه ص340)‏

    كان احترام الإنسان والدعوة إلى تحريره وإطلاق قواه المبدعة في أساس الحكايات الجميلة التي طورها هانس كريستيان أندرسن، وفي أساس تلك الحكايات التي وضعها... وحين كانت الرأسمالية تكافح الارستقراطية لتحل محلها ماكانت لتمانع في استخدام كل الوسائل في نضالها هذا.. وكثيراً ماكانت تزعم أنها تخوض المعركة باسم الإنسان وفي سبيل الحرية والعدالة للجميع.. ولم تر مانعاً من أن تنتشر بين الناس حكايات أندرسن.‏

    في المرحلة التالية، المتوسطة من مراحل تطور أدب الأطفال في ظل سيادة الرأسمالية صارت الكثرة المطلقة من كتب الأطفال في بلدان الرأسمالية المتطورة تدور حول مصائر أبطال من الأطفال النظفاء البيض المهذبين جداً، الذين تعترضهم بعض المصاعب لا من حيث الوضع المعاشي-الاجتماعي بل هي مصاعب من نوع آخر، تخص تصرفهم الشخصي، يتغلبون عليها، في ذلك الجو الحميمي جداً والنظيف جداً... وكانت رحلات أليس في بلاد العجائب بداية الارتحال بعيداً إلى عالم آخر يبتعد كلياً عن هموم الفقراء، وعن المطامح الإنسانية الواقعية..وإذا عولجت مسألة من هذا القبيل كانت معالجتها سطحية ونمطية نرتاح لها ونحن نقرأها ونبتسم، ثم نعود لنرى المسألة على نحو آخر في واقع الحياة.. والأماكن التي تدور فيها هذه القصص هي قصور البرجوازيين الجميلة وحدائقهم ومزارعهم ومتنزهاتهم.. والفتيات فيها، خصوصاً لطيفات جداً، يشفقن على الخدم والملونين ويتفهمن هموهم الصغيرة جداً، فليس في عالم هذه القصص أية هموم كبيرة.‏

    أما الأمثلة على ذلك فهي أكثر من أن تحصى، والتعرض لها بالتحليل سيدفع الدارس إلى تأليف كتاب ضخم جداً، ولا سبيل إلى ذلك، وليس ذلك بالأمر الضروري... فمن يشاهد المسلسلات التلفزيونية الخاصة بالأطفال التي يعرضها التلفزيون العربي السوري وغيره، وهي منتقاة، فسوف يجد عينة جيدة جداً.... ففي "الدببة الطيبون" حيث الأبطال من البشر والحيوانات تصور لنا إحدى الحلقات كيف عمل الدببة الطيبون وفريقهم على إيصال النجوم المسكينة الى أماكنها في السماء كي لا تفقد بريقها إن هي لبثت طويلاً على الأرض.. ونعيش جواً من العواطف المتبادلة بين النجوم والحيوانات الصغيرة والأطفال ثم تنطلق القافلة.. ويعترض طريقها شرشبيل المحب للشر أو على الأصح المبغض للخير... فهو يكره وكلمة الحب بغيضة إلى نفسه.‏

    ويعلن معاونه: "سأعمل على تدمير مشاعر العالم وقيمه تدميراً شاملاً" وتفشل محاولات الشرير وأعوانه.. وتصل النجوم إلى السماء وتأتلق أنوارها، وتكون لحظة الوداع عاطفية وعلى درجة رفيعة من النبل، ولا أظن أن أحداً ينكر بعض الجوانب العامة التي تربي بعض الصفات الفردية الجميلة عموماً في مثل هذه الحكايات والمسلسلات، ولكن نمطيتها الرتيبة تبقى مسألة أخرى.‏

    قبل الانتقال إلى الكلام على أدب الأطفال في المرحلة الثالثة من تطور الرأسمالية أرى لزاماً أن أذكر أن هذا التقسيم هو تقسيم اصطلاحي لتسهيل الدراسة، إذا لم يقم أي جدار كتيم بين هذه المرحلة أو تلك وكذلك هي الحال في التشكيلات الاجتماعية المتعارضة إذ كثيراً مارأينا التشكيلة الجديدة تولد في قلب التشكيلة القديمة ويستمر الصراع بينهما طوال العديد من السنوات إلى أن ينتصر الجديد، وماكان انتصار الجديد يعني القضاء التام والشامل على القديم قطعاً.‏

    في المرحلة الثالثة... وبعد أن استقرت الرأسمالية كنظام مهيمن في الاقتصاد العالمي أخذت تشجع قصصاً من نوع آخر، قصصاً يغلب عليها طابع المغامرات الفردية أو طابع الحكايات الخيالية المثيرة للدهشة، والتي مسحت منها جيداً أطراف القضايا الاجتماعية الشائكة... وأبعدت عن مركز الأضواء حكايات مثل "بائعة الكبريت الصغيرة" التي وضعها أندرسن وأعيد الاعتبار من جديد "لساندريلا" وسلط عليها المزيد من الأضواء وكثرت طبعات "ذات القبعة الحمراء" وانتشرت انتشاراً واسعاً الحكايات التي تقدم للأطفال معلومات علمية مبسطة.. وكانت تبدو محايدة أول الأمر.. ثم انتقلت الرأسمالية العالمية إلى الهجوم على عقول الأطفال بالحكايات الموجهة جيداً، والتي تخدم نمط التفكير الفردي ونمط الحياة الاستهلاكية، وحل البطل الفرد "السوبرمان" الأقرب إلى الإنسان الآلي محل الإنسان الذي من لحم ودم، واستبعدت من مناهج التعليم الابتدائي حكاية "ملابس الملك الجديدة" التي كنا نقرأها صغاراً في تلك المناهج.‏

    وصارت ثقافة الأطفال ميداناً من ميادين الحرب النفسية وأقامت الاحتكارات الدولية مؤسسات عملاقة لانتاج "ثقافة للأطفال" تخدم مصالحها.. وغمرت أسواق العالم طبعات "شعبية" من كتب الألغاز والمغامرات وقصص الجريمة وغيرها، وكانت رخيصة الأسعار فدخلت بيوت الناس على الرغم من رخص محتوها.. وانتصر هذا "البزنس" الجديد الضخم وشملت العالم شبكات من المطابع والمكتبات فأفلست دور النشر النظيفة أو كادت، وأقيمت الحواجز في وجه الكتاب الجاد.. وأخذ البلبل الصناعي مكان البلبل الحي... وخبّأ الكثير من البلابل الحقة ريشه "بمشمعات" اصطناعية وراحوا يقسرون حناجرهم المبدعة على التعود على ترداد النغمات الاصطناعية الرتيبة.‏

    ويستطيع الدارس أن يذكر من بين السمات العامة لأدب الأطفال في المرحلة الثالثة السمات التالية:‏

    - تمجيد القوة الغاشمة وإظهار القوي بمظهر جميل ومحبب، وتصوير عدوانه على الآخرين وكأنه انتصار جميل ومجيد على الأشرار والهمج.. (إبادة الهنود الحمر والأفارقة والعرب وغيرهم).‏

    - الدعاية المباشرة للبرامج العسكرية الحديثة وفي مقدمتها حرب النجوم التي تكلف البشرية المليارات من الدولارات التي تحجب عن مشاريع التنمية الاجتماعية والخدمات العامة.‏

    - تمجيد "السوبرمان" الغربي والسخرية من الآخرين، التركيز على المباريات الرياضية مثل كرة القدم والجودو والكاراتيه.- العودة إلى قصص النبلاء والملوك وتشويه التاريخ أو إعادة صياغته لخدمة أهدافهم.إن جرّافاتهم الفولاذية الضخمة تعمل في كل الحقول ليل نهار، وهي تقتلع بأصابعها الصلبة اللامعة الكثير من الجذور التي تكونت تاريخياً.‏

    وتبدلت قيم كثيرة... استبدلوا "العجلة بالجذور" ولم تعد للأماكن مكانتها السابقة.. فحتى مسقط الرأس قد يكون الآن سفينة، أو سيارة، أو طائرة.‏

    لقد حذرنا الكثيرون من الفلاسفة والعلماء، والكثيرون من الكتاب المبدعين أمثال أندرسن، واكزوبيري، وجاني روداري وسواهم من خطورة مايجري.. ولكنه جرى ولم نستفد من التحذيرات التي أطلقوها...‏

    قد يقول قائل: تبدو متشائماً... ألا ترى أن موجة من الاهتمام بالفلكلور عامة، ومنه الحكايات، وقد اكتسحت أرجاء العالم؟‏

    وأقول: بلى، إنني أرى ذلك... ولكنهم يجمعونها كي توضع في المتاحف، كما توضع هياكل الحيوانات المنقرضة، التي أصبحت بدورها موضوعاً "لبزنس" جديد هو البزنس السياحي المقولب على الطريقة الاستهلاكية.‏

    إن الذين لا جذر حضاري لهم يزعمون أنهم مركز العالم الجديد وسادته... وهم يعملون بوسائلهم الضخمة على فرض "حكاياتهم" محاولين تدمير التراث الأصيل الذي ابتدعته الإنسانية في مسيرتها الطويلة التي لا يعرف أحد بدايتها.‏

    إن عصر ازدهارهم ليس سوى مرحلة طارئة على تاريخ الحضارة الطويل.. فهل ستولد على أنقاضه حكاية تحكي للعالم الذي سيولد قصة الوحش الآلي الذي يقتلع الجذور ويسمم الماء والهواء؟‏

    كان المفكرون والمبدعون في بداية هذا القرن يشفقون على الراقصات في الملاهي وعلى بائعات الهوى.. وهاهم جماعة من المثقفين في أيامنا يعلنون أحياناً، ولو على سبيل المزاح، أنهم يحسدون هؤلاء وأولئك "على رواج بضاعتهن" مع كساد "بضاعة" المفكرين والمبدعين الجادين.‏

    أجل ثمة من يسمون القتلة والمجرمين أبطالاً.. وهم يعملون كي يفقد العالم عقله.‏

    فهل سيذعن العالم لهم؟ هل سيدوي من جديد صوت طفل حكاية أندرسن:"إن الملك عار، إن الملك عار!".‏

    هل سيتجدد شباب العالم وتعود إليه نضارته؟‏

    وهل ستطير البلابل إلى حيث يعيش الناس ويعملون، ويحلمون بالدفء الإنساني ويبحثون عنه؟‏

    سنظل نحلم بذلك، ولن نسى أن العالم بارد جداً.‏

    المراجع طبقاً لورودها في المقال‏

    1- جريدة "النهار" اللبنانية -تاريخ 23/5/1991.‏

    2- كارانفيلوف - افريم ("الجذور والعجلات" ترجمة ميخائيل عيد - دار طلاس- دمشق - 1986).‏

    3- كارانفيلوف - افريم ("مقالات مختارة"، ترجمة ميخائيل عيد، دار حطين- دمشق- عام 1989).‏

    4- سارتر- جان بول ("الغثيان" ترجمة سهيل ادريس- دار الآداب - بيروت- عام؟‏

    5- انجيل متى- اصحاح 21 الآية 41 ونص الآية هو (الحجر الذي رفضه البناؤون قد صار رأس الزاوية).‏

    6- مينكوف -سفيتوسلاف- "حكايات أندرسن" بالبلغارية، منشورات "شبيبة الشعب" صوفيا- 1976.‏

    7- ابن المقفع ("كليلة ودمنة" تحقيق مصطفى لطفي المنفلوطي- دار الكتاب العربي- بيروت- لبنان- 1966).‏

    8- اندرسن- هانس ("أقاصيص اندرسن" ترجمة محمود إبراهيم الدسوقي- مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر- القاهرة عام 1940).وقد أشرنا إلى أرقام الصحفات في أماكنها.‏
    إذا الشعب يوما أراد الحياة
    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

    تعليق


    • #17
      رد: أسئلة الحداثة بين الواقع والشطح

      مسائل الفن في بعض الحكايات

      " حين سئل أندرسن عن سيرة حياته أجاب: "أقرأوا حكاية فرخ البط القبيح" (ايفريم كارانفيلوف- "أبطال وطباع" ص79) لقد لخص هانس كريستيان أندرسن سيرته الذاتية وسير الكثيرين من ذوي المواهب الكبيرة الذين لم يفهمهم أهل زمانهم على حقيقتهم فاحتقروهم أو اضطهدوهم معتبر ينهم فراخ بط قبيحة في حين كانوا طيوراً من نوع آخر، طيور تمٍّ رائعة وضعها القدر بين فراخ البط العادي..‏

      وفي الحكايات الكثير من سيرالابطال والمبدعين، وإني لاذهب إلى حد الزعم أن على من يريد أن يطلع على تاريخ البشر الحقيقي أن يقرأ حكايات الشعوب وأساطيرها‏

      في التاريخ الذي يكتبه المؤرخون نقرأ الأحداث الكبرى في خطوطها العامة وحسب.. أما في الحكايات فنقرأ، ونشم، ونلمس ونسمع ونرى تفاعل العناصر التي جعلت الحياة حيا ة والتاريخ تاريخا، نسير في المسالك التي سار فيها الناس، ونطير بأحلامهم الى الذرا، نلمس جراحهم الراعفة، نسمع التأوهات والضحكات، ونغوص إلى الأعماق حيث الدوافع، الفطرية الأولى، حيث المياه النقية التي تفجرت منها الينابيع التي روت أشجار الحضارة التي نشم أزهارها ونتغذى بثمارها الشهية، وتجرحنا أشواكها فنحاول أن نمسح برفق عن الوجه الجميل مانثر عليه الزمن من غبار ودم وسخام ,‏

      فإذا وجدنا في الحكايات والأساطير محاولات عديدة هدفها الإجابة عن الأسئلة التي شغلت ذهن الإنسان القديم ولا يزال بعضها يشغل بال الإنسان المعاصر، وإذا وجدنا أن كثرة من القيم الأخلاقية التي صورتها الحكايات تصويراً جميلاً لاتزال قيماً تحظى بإعجاب الناس المعاصرين، لم نستغرب أن تكون الحكايات قد حاولت الإجابة عن مسائل العمل وقيمته، وعن مسائل الإبداع الفني وعلاقة المبدع بفنه وبالآخرين، ولن نستغرب أن نجد أن بعضاً من تلك الحكايات قد طرح آراء عامة لم يتجاوزها، من حيث الجوهر، كبار الفلاسفة العالميين الذين عالجوا قضايا علم الجمال على مستوى عصري رفيع.‏

      والمدهش في أمثال هذه الحكايات هو أنها تعالج هذه المسائل الشائكة والمعقدة بمنتهى السلاسة والعفوية والبساطة فنرى الأمور واضحة غاية الوضوح لكنها في منتهى العمق أيضاً.‏

      قيل لي إن صانعي السجاد الإيرانيين كانوا في عهد الشاه من أفقر فئات الشعب في إيران، ومعروفة في كل أرجاء العالم شهرة السجاد الايراني، ومعروف في العالم جمال ذلك السجاد. فما الذي يجعل هؤلاء الصناع المهرة وامثالهم لايبحثون عن مهنة أخرى يتخلصون بها من الفقر. ؟‏

      لن نطرح، هنا، المسألة من الناحية السياسية أو الاجتماعية، فتصبح مسألة أخرى تطرحها الفئات الاجتماعية والأحزاب السياسية.‏

      قد يكون ما جعلني أطرح هذه المسألة هو شأن شخصي إلى حد ما إذ ترجمت حكاية شعبية هندية منذ قرابة عشرين عاماً وقد أثارت في نفسي من المشاعر ما جعلني لا استطع نسيانها حتى الآن، وقد لاأنساها طوال الحياة، بل قد تكون هي التي ولدت في اعماقي الرغبة في أن اكتب في مثل هذا الموضوع لكثرة مافكرت في مغزاها.‏

      الحكاية بسيطة كل البساطة، وقد تحدث كل يوم بشكل من الأشكال، وقد يكون آلاف الحرفيين المهرة قد مروا بمثل التجربة التي مربها (صانع السجاد) الهندي الذي تحكي الحكاية ما جرى له ,‏

      وملخص الحكاية هو أن أحد صانعي السجاد المهرة كسر نوله ذات يوم فذهب إلى الغابة والفأس في يده كي يقطع شجرة يصنع من خشبها نولاً جديداً . ووجد ضالته قرب شاطئ البحر، وحين هم بقطعها ناداه صوت من داخلها وطلب منه أن يبحث عن غيرها وأن يطلب منه ما يشاء‏

      كانت تلك الشجرة مسكن ساحر الغابة .. وعاد صانع السجاد كي يستشير زوجه في الأمر فالتقى جاره الحلاق الذي نصحه أن يطلب من الساحر أن يجعله ملكاً ويكون الحلاق مستشاره فيتخلصان من الفقر.. ويصر صانع السجاد على أن يستشير زوجه. ويصل إلى البيت ويحكي ماجرى لزوجه فتسفّه المرأة رأي الحلاق..فالخونة والمتملقون يحيطون بالملك، وحياته خالية من السعادة . ثم تنصح زوجها بان يطلب من الساحر أن يعطيه نولاً سحرياً يصنع له العدد الذي يطلبه من السجاجيد الجميلة التي لم ير الناس لها مثيلاً .‏

      يفرح الرجل بنصيحة زوجه ثم يتجه إلى حيث تنتصب الشجرة التي فيها الساحر.. كان يشعر بمزيد من الأسى وهو يقترب من المكان إذ راح يفكر:‏

      - سيعطيني ساحر الغابة نولاً عجيبا يحوك سجاداً رائع الرسوم، فماذا سأفعل أنا؟ سأذهب إلى السوق لأبيع السجاجيد واكدس النقود! هذا ليس شغلي .. "كتاب الشموس الثلاث"ص9.‏

      ووصل إلى الشجرة فطلب من الساحر أن يصلح له نوله العتيق، ثم عاد إلى بيته فوجد نوله صالحاً للعمل "جلس الصانع إليه وانكب على عمله فنسي كل مافي العالم"(ص9)‏

      "وكان الصانع يتأمل السجادة طويلاً بإمعان حين تكتمل ثم يبتسم ويقول:‏

      - لا أحد يعرف مقدار سعادتي الآن ! كان بإمكاني أن أصير ملكاً وأحصل على ثروة ضخمه وعلى الكثير من العبيد والخدم والمتملقين. لكني ماكنت سأحصل على صديق حقيقي واحد. باستطاعة ساحر الغابة أن يجعلني غنياً، لكني سأعاني،حينذاك، من الملل والكسل والخشية من أن أفقد ثروتي، أية سعادة تمكن مقارنتها مع سعادتي حين أرى الرسوم تتشكل على السجادة ويتكامل ما تصنعه يداي، أو حين أسمع كلمات الإعجاب بما صنعت ؟ "(المرجع السابق ص10)‏

      ويروي إيفريم كارانفيلوف ماجرى بين الكاتب ايفان حاجيسكي وحطاب من ترويان التقى به الكاتب يحمل حملاً من الحطب ليبيعه في المدينة بمبلغ من المال.. أوقف الكاتب الحطاب فوق جسر وعرض عليه مبلغا اكبرمن المبلغ الذي قال الحطاب إنه سيبيع الحطب لقاءه، شريطه أن يرمي الحطاب الحطب في النهر فلا يستفيد منه أحد، ورفض الحطاب العرض المغري، وفضل أن يتحمل مزيداً من الجهد والبرد. ("البعث2/6/ 1982)‏

      أجل، ثمة في الأشياء التي نصنعها ماهو أغلى على قلوبنا من النقود التي نبيعها بها .‏

      ولم تقف الحكايات الشعبية عند هذا الجانب وحده من جوانب علاقة المبدع بإبداعه، بل هي تتصدى لجوانب أخر تمس عملية الإبداع من الداخل وتقترب من الحرم القدسي، حرم السر المعجز الذي ندعوه سر الإبداع، أو سر العبقرية. والحكايات لاتدّعي أنها تتعرض للجانب الفلسفي من المسألة، ولانطرح السؤال النظري الذي لم يجد أحد جواباً شافياً عنه حتى الآن، سؤال : ماهو الابداع؟لكنها تتعرض لجوانب جوهرية من سمات شخصية المبدع وطبعه. ومن أبرز هذه السمات الاستعداد للتضحية في سبيل الفن، واعتباره عملاً اجتماعيا نافعاً .‏

      وتنهض في ذاكرتي أصداء رنين جرس سحري ينبعث من حكاية قديمة قرأتها منذ سنوات عديدة.ولايزال وجه صانع الأجراس الصيني الشيخ منطبعاً في ذاكرتي ولاتزال دموعه الحارة تسيل على خديه المغضنين، وهو يمسح بيديه الخشنتين وجنتي ابنته الوحيدة الجميلة، ويتأمل عينيها الوادعتين.‏

      كان يحبها حباً لاحدود له . وكان يعرف أن عليه أن يضحي بها كي يحصل على سبيكة الجرس العجيب الذي سيبقى رنينه يتردد عبر الازمنه كلها. ويدور الصراع عنيفاً في صدر الشيخ الواهن، صراع بين العاطفة الأبوية العارمة وبين الواجب الذي يلقيه التاريخ على كاهل. المبدع وتقع المأساة.. ويتغلب الواجب الفني على العاطفة، ويخرج الجرس إلى الوجود آيه فنية لم تحك الحكايات عن جمال فتان يماثل جمال رنينه الساحر. وتصير ابنة المبدع عنصراً من عناصر الأسطورة الحزينة الرائعة .. وتنتقل صورة وجهها الجميل من جيل إلى جيل فلا يعتريها شحوب ولاتزيدها القرون إلا شباباًً وجمالاً . ويبقى الجرس يرسل رنينه الساحر على مر العصور.‏

      وتستدعي الحكاية الحكاية، وتستدعي الصورة الصورة، وها أنا ذا أرى بعين الخيال جسراً حجريا يمتد فوق مياه نهر صاخبة ويربط الضفتين إحداهما بالأخرى، فتعبر عربات القرويين المحملة بالمحصول من الحقول إلى القرية تجرها الثيران والخيول ويغرد في مقدمتها طائر عجيب التغريد.‏

      أما حكاية الجسر فأعرف اسمها واسم مؤلفها.. إنها حكاية (جسر روسيتسا الحجري) للكاتب البلغاري الكبير أنجل كارا ليتشيف.‏

      وحكاية هذا الجسر الحجري التي صارت أغنية تمجد العمل الإنساني تصور لنا عذاب الشاب الذي بنى الجسر لأنه اضطر إلى أن يضع في أساس بنيانه "ظل" التي هي أحب الناس أليه.‏

      كان والده يحلم ببناء الجسر ليوفر على الناس العناء ويحميهم من غطرسة النهر.. لكن الشيخوخة أدركته قبل أن يحقق هذا الحلم .ورأى أن ابنه الذي ورث المهنه عنه أهل للقيام بالمهمة فأورثه إياها.‏

      وحين فاتح الأب الابن بالأمر ارتبك الشاب وتردد، فالثمن المطلوب باهظ... إذ عليه، هو العاشق، أن يضحي بمن يحب في سبيل ذلك .. وكانت وصيه الأب واضحة:‏

      "فلتحبس فيه ظل أحب الناس إليك" ( "مجلة النافذة" العدد 5/6 ص9 )‏

      وقبل الفنان المهمة وبني الجسر :"أحاط الشيوخ بالجسر، دقوا عليه بعصيهم .. تلمسوا حجارته الباردة وقالوا:‏

      - مدهش ما صنعته يدا مانويل ( المرجع السابق ص9)‏

      وصار الجسر حكاية يطل منها وجه الفنان الذي أسقمه الشقاء ويتألق فيها وجه الحبيبة "ميلكا" الجميل ويزداد جمالاً وشبابا على الزمن.‏

      ويكتب كاتب كلاسيكي بلغاري آخر هو إيلين بيلين حكايتين جميلتين لهما صلة بموضوع الفن والموقف منه وموضوع الحكايتين متماثل تقريباً لولا بعض اللمسات الاجتماعية في الأولى، ولولا اللمسات الأكثر حميميه وشاعرية في الثانية .‏

      الحكاية الأولى هي حكاية (ذكر النحل الغني) من كتاب (دموع العصفورة ذات الجناحين الفضيين ص37 ومايليها ) والحكاية الثانية هي حكاية (السنجابان) ( المرجع السابق ص39 ومايليها)‏

      والحكايتان دفاع عن الفن واعادة اعتبار للفنان كمنتج اجتماعي لا باعتباره مضياعاً للوقت كما اعتبرته حكاية "النملة والصرار" الشهيرة التي مجدت العمل بطريقة غريبة إذ كان يمكن تمجيده من غير أن تلحق الإهانة بالفن .. فالصرار، وهو "مطرب الطبيعة ومغني الحقول" صوّر في هيئة الكسول الذي لاعمل له سوى التسكع وإضاعة الوقت. ولا يجوز اعتبار الفن إضاعة للوقت . في حكاية (ذكر النمل الغني)يجعل ايلين بيلين الصرار، رمز الفنان يرد الإهانة التي لحقت به من قبل (ذكر النمل الغني) لا باعتباره عاملاً كادحاً، ولا باعتباره أنثى، فالأنثى أرق قلباً، بل باعتباره طماعاً جشعاً وبخيلاً يكنز الثروات ويعيش في سراديبه المعتمة منفرداً يمضي أوقات الشتاء الباردة في ملل وضجر .. وما هو بالعامل المجد فالعامل مخلوق شهم لا يبخل بلقمة على كائن جائع ولايرده خائباً .. أما المحتكر فيفعل ذلك، ولهذا فهو يستحق العقوبة والاحتقار. وقد جوزي بهما، وحكاية (السنجابان ) حكاية شاعرية تصور لنا الشتاء في الغابة وتصف لنا كيف يرحب السنجاب العامل بالسنجاب الذي أمضى الصيف وهو يراقب أحداث الغابة ويرود جنباتها فيدخر الكثير من الحكايات والخبرات، وكيف يمضيان الشتاء البارد معاً كمخلوقين لاغنى لأحدهما عن الآخر.. ونحس دفئاً ينسينا برد الشتاء المخيف.‏

      وفي الحكاية الشعبية الكازاخستانية (الصانع الماهر ) نرى العازف الماهر يمر بأصابعه على أوتار آلته الموسيقية :‏

      "تأوهت الأوتار ومر فوق خيمة الأمير صوت كعويل الريح ثم سمع ما يشبه حفيف أشجار الغابة نعومة ولطفاً .. ارتفع عويل الريح ثم تحول إلى عواء وحش ضار.. وأرسلت الأوتار صريراً حاد النغمة، ثم تحول صوتها إلى صوت إنسان يطلب النجدة، وتلاه زئير الوحش مرة أخرى,, ثم جاء نحيب الغابة الملتاعة وكأنه مرثية تفتت الأكباد" (كتاب "الشموس الثلاث" حكاية "الصانع الماهر"ص112)‏

      ويفهم الأمير الظالم أن ولده الوحيد قد هلك، وينجو خدمه من الهلاك إذ كان قد هددهم بأنه سيقتل من سيخبره بأن ولده أصيب بمكروه.‏

      ما كان يخطر في بال الفنان الشعبي أن يفصل الفن عن حياة الناس. فالفن عنده جزء من هذه الحياة تغذيه وتغنيه ويغذيها ويغنيها، يضرب جذوره عميقاً في تربتها فيزداد ازدهاراُ ويزيدها خصوبة .وهو يتخذ الفن حرفة جميلة ونافعة، فالفن بالتالي وظيفة اجتماعية.‏

      هكذا كان الفن الحق قديماً، وهكذا هو كائن، وهكذا سوف يكون أو لن يكون.‏

      وكان الفنان إنساناً شجاعاً وشهماً ومسؤولاً وسيبقى كذلك أو لايكون.‏

      ولقد أدرك كاتب الحكايات الدانماركي العظيم هانس كريستيان اندرسن هذه الحقيقة وجسدها في حكاياته... وما يعنينا مما كتب أندرسن حكايتان جميلتان تعالجان الموضوع الذي نحن بصدده‏

      الحكاية الأولى "فرخ البط القبيح"وفيها ملامح كثيرة من سيرة الكاتب كما ذكرنا وبطل الحكاية طائرتم، بين جناحيه قلب شاعر، جعله القدر يولد في أسرة بط عادية فعاش طفولته فيها "غريب الوجه واليد واللسان"..‏

      ويهرب الصغير من الوسط الخانق، وقد ضاق ذرعاً بالنفاق والرياء والغرور والسطحية .. ويتعرض لمخاطر جمة. ويحميه قبحه من كلاب الصيد.. فحتى كلب الصيد الضاري تعاف نفسه الفرخ القبيخ . ويأوي إلى بيت فيه امرأة عجوز وقط ودجاجة وفيه الطعام والدفء والأمن .. لكنه لا يلبث إلا قليلاً حتى يشعر بالرتابة المملة ويكاد يختنق، إنهم يرون الرتابة نعيماً، ويسمون خرير القط علماً ما بعده علم، ويرون وضع الدجاجة البيض عملاً من أمجد الاعمال.. ويأتي الربيع، فيلبي (فرخ البط القبيح) نداء الحياة وينطلق نحو الافاق الواسعة.‏

      ويعلم العالم أخيراُ أنه لم يكن من نسل البط بل كان تماً، هو الأجمل بين طيور التم، ويفرد التم الرائع جناحية ويغني أغنيته . (ترجم محمود ابراهيم الدسوقي الحكاية باسم "البطيطةالدميمة") وذلك في كتاب (أقاصيص هانس أندرسن ) الصادر عام 1940 عن لجنة التأليف والترجمة والنشرفي عداد سلسلة (عيون الادب الغربي) وترجمها آخرون باسم ( فرخ البط القبيح) وإذا كانت حكاية (فرخ البط القبيح) هي حكاية المبدع على الدرب إلى الابداع، وإذا كانت تصور طبعه وشجاعته قبل الوصول، فإن الحكاية الثانية، حكاية "البلبل" تحكي حكاية المبدع وقد نضجت موهبته وصار العالم يتحدث عنه "وكان الشعراء يختصون بلبل الغابة المجاورة للبحر بابدع القصائد." ( " أقاصيص هانس اندرسن" ص77 ) وأما أهل بلده، وليس لنبي كرامة في بلده، فكانوا لايعرفون عنه شيئاً، وخصوصاً حاشية الامبراطور وكانوا يتساءلون عن هذا البلبل العجيب الذي تحدثت الدنيا عنه ولم يعلم أهل البلاط من أمره شيئاً" (المصدر السابق ص78)‏

      كانت "فتاة المطبخ" تعرفه جيداً :"وفي أثناء عودتي أمكث في الغابة قليلاً وأستريح، فاسمع البلبل يغرد تغريداً يسيل مني العبرات، فكأنه، حين يغرد، أمي تقبلني" (المصدر السابق ص78)‏

      يدهش الفارس المكلف باحضاره إذ يراه: "فما أبسط منظره!" (ص79)‏

      وكيف لاتكون البساطة الفاتنة أمراً مدهشاً لمن يغطون التفاهه والضحالة بالزينة والبهرج؟‏

      ولم يكن مستغرباً أن يظن البلبل أن الفارس هو الامبراطور فهو لم يره من قبل...‏

      ويمضي إلى القصر وهو يعلم أن صوته أجمل ما في الغابة .‏

      ويشدو البلبل في القصر وتخضل عينا الامبراطور بالدموع ويأمر بأن يوضع خفاه الذهبيان حول عنق البلبل مكافأه له.‏

      ولكن البلبل يرى أن دموع الامبراطور خير جزاء يناله(ص80)‏

      ولكي تكتمل اللوحة ويظهر تألقها على خلفية من نقيضها ينقل لنا أندرسن صورة المقلدين التافهين الذين لايخلو منهم مكان. فهاهن سيدات البلاط تناولن" في أفواههن بعض الماء، وحاولن أن يحركن حناجرهن أثناء الكلام كما يفعل البلبل، ذلك لأنهن فكرن في أن يكن بلابل أيضا" (ص80)‏

      ويأتون للامبراطور ببلبل اصطناعي (يشبه البلبل الحي، لكنه كان مرصعاً كله بالماس والياقوت الأحمر والأزرق فإذا أدير لولب هذا البلبل الآلي أمكنه أن يغني لحناً واحداً من ألحان البلبل الحي)(ص81)‏

      ويمعن أندرسن في السخرية فيجعل الذي أحضر البلبل الآلي يحصل على لقب" محضر البلبل الامبراطوري الأول" (ص81) ثم يورد لنا رأي فنان القصر الذي يرى أن عيب البلبل الحي هو أن أحداً لايعرف ماذا سوف يغني في كل مرة... (أما البلبل الصناعي فان كل شيء مقرر له من قبل) (ص82)‏

      ويسمع صياد السمك صوت البلبل الآلي فيقول :" إن صوت هذا البلبل جميل جداً يكاد يشبه صوت البلبل الحقيقي، لكنه ينقصه شيء لاأدري ماهو" (ص82-83) كان أندرسن يعرف ـ النقص في صوت البلبل الالي، لكنه جعل صياد السمك يعلن بعفويته أن ثمه نقصاً ما، نقصاً لايدرك جوهره لكنه يحس به بسليقته.. فهل أفقدت حياة القصر أهل البلاط سليقتهم فخفي ذلك النقص عليهم، أم أنهم لمسوه ولم يجهروا به خوفاً ونفاقاً؟‏

      الأمران لايشرفانهم. واندرسن لايهمه رأي أهل البلاط.. إن من يسهمون في إفساد ذائقة الناس هم النقاد المسخرون وهاكم سخريته الموجعة منهم:‏

      " وألف الفنان خمسة وعشرين مجلداً عن الطائر الصناعي، تحوي أطول العبارات وأصعبها في اللغة الصينية.. وقال الجميع طبعا إنهم قرأوا هذه المجلدات ووعوها، حتى لايتهموا بأنهم أغبياء فيعرضوا أجسادهم للجلد" (ص83)‏

      ويتعطل البلبل الآلي ويصلحه صانع الساعات بعض الاصلاح.. ويمرض الامبراطور فينفضّ عنه من حوله وينتخبوا سواه...‏

      ويطلب من البلبل الصناعي أن يغني فتبتعد عنه سيئاته التي زحمت ذاكرته " لكن الطائر ظل صامتاً، فلم يكن هناك أحد يدير لولبه" (ص85)‏

      وحط البلبل الحي على غصن قرب النافذة وراح يشدو، وأمعنت الاشباح في التواري (وتدفق الدم إلى أعضاء الامبراطور الخائرة، وحتى الموت كان يصغي ويقول: "إمض في غنائك ايها البلبل الصغير، إمض في غنائك ‍!" (ص86)‏

      وغنى البلبل أغنية أثارت أشواق الموت "فانطلق من النافذة طيفاُ بارد الهبوب" (ص86)‏

      واعلن الامبراطور أنه سيحطم الطائر الصناعي "فأجاب البلبل: لاتفعل ذلك، فقد فعل مافي طاقته، فاعتن به، أما أنا فلا قبل لي بالبقاء في القصر، فدعني آتي كلما حلالي"(ص86) ثم يقول للملك : "إن قلبك أحب إليّ من تاجك" فهل ثمة أعظم من فنان يرى الدمع أثمن من الذهب والقلب أحب إليه من التاج؟‏

      وهل ثمة أطيب قلباً وأكثر تسامحاً ونبلاُ من الفنان المبدع: "لاتفعل ذلك فقد فعل مافي طاقته، فاعتن به"‏

      وهل ثمة من هو أحرص على حريته من الفنان الحق:‏

      "أما أنا فلا قبل لي بالبقاء في القصر، فدعني آتي كلما حلالي"‏

      كنت أنوي الاسترسال في الكلام وإبراز جوانب أخرى من الموضوع على ضوء حكايات أخرى، لكنني فطنت إلى ماكان أجدادنا يحرصون على ترداده:‏

      "خير الكلام ماقل ودل، وما أغناك قليله عن كثيره"‏

      ولقد أكثرت وما أغنيت .. بل هي اشارات لاأكثر..‏

      وعلى ضوء المسائل التي تناقش الان بحماسة وانفعال اسمح لنفسي بسؤال:‏

      هل نحن أمام مسائل تتجدد باستمرار ولاتولد أبداً ؟‏

      قد تكون المسائل الكبرى دائماً هكذا وقد تكون الصغرى كذلك أيضا.‏

      المراجع‏

      1- كارانفيلوف- ايفريم (أبطال وطباع) ترجمه ميخائيل عيد -وزارة الثقافة والارشاد القومي-دمشق 1982‏

      2- جماعة من المؤلفين (الشموس الثلاث) ترجمة ميخائيل عيد -وزارة الثقافة والارشادالقومي- دمشق 1976‏

      3- جريدة (البعث) تاريخ 2/6/ 1982‏

      4- كار اليتشيف ـ انجل (جسر روسيتسا الحجري) ترجمه ميخائيل عيد- مجله النافذة - دمشق العدد 5- 6 عام 1991‏

      5- جماعة من المؤلفين (دموع العصفورة ذات الجناحين الفضيين) ترجمه ميخائيل عيد- وزارة الثقافة والارشاد القومي - دمشق 1977‏

      6- اندرسن -هانس (أقاصيص هانس اندرسن) ترجمه محمود ابراهيم الدسوقي- لجنة التأليف والترجمة والنشر- سلسلة (عيون الادب الغربي) القاهرة-1940‏
      إذا الشعب يوما أراد الحياة
      فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
      و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
      و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

      تعليق


      • #18
        رد: أسئلة الحداثة بين الواقع والشطح

        مسائل الفن في بعض الحكايات

        " حين سئل أندرسن عن سيرة حياته أجاب: "أقرأوا حكاية فرخ البط القبيح" (ايفريم كارانفيلوف- "أبطال وطباع" ص79) لقد لخص هانس كريستيان أندرسن سيرته الذاتية وسير الكثيرين من ذوي المواهب الكبيرة الذين لم يفهمهم أهل زمانهم على حقيقتهم فاحتقروهم أو اضطهدوهم معتبر ينهم فراخ بط قبيحة في حين كانوا طيوراً من نوع آخر، طيور تمٍّ رائعة وضعها القدر بين فراخ البط العادي..‏

        وفي الحكايات الكثير من سيرالابطال والمبدعين، وإني لاذهب إلى حد الزعم أن على من يريد أن يطلع على تاريخ البشر الحقيقي أن يقرأ حكايات الشعوب وأساطيرها‏

        في التاريخ الذي يكتبه المؤرخون نقرأ الأحداث الكبرى في خطوطها العامة وحسب.. أما في الحكايات فنقرأ، ونشم، ونلمس ونسمع ونرى تفاعل العناصر التي جعلت الحياة حيا ة والتاريخ تاريخا، نسير في المسالك التي سار فيها الناس، ونطير بأحلامهم الى الذرا، نلمس جراحهم الراعفة، نسمع التأوهات والضحكات، ونغوص إلى الأعماق حيث الدوافع، الفطرية الأولى، حيث المياه النقية التي تفجرت منها الينابيع التي روت أشجار الحضارة التي نشم أزهارها ونتغذى بثمارها الشهية، وتجرحنا أشواكها فنحاول أن نمسح برفق عن الوجه الجميل مانثر عليه الزمن من غبار ودم وسخام ,‏

        فإذا وجدنا في الحكايات والأساطير محاولات عديدة هدفها الإجابة عن الأسئلة التي شغلت ذهن الإنسان القديم ولا يزال بعضها يشغل بال الإنسان المعاصر، وإذا وجدنا أن كثرة من القيم الأخلاقية التي صورتها الحكايات تصويراً جميلاً لاتزال قيماً تحظى بإعجاب الناس المعاصرين، لم نستغرب أن تكون الحكايات قد حاولت الإجابة عن مسائل العمل وقيمته، وعن مسائل الإبداع الفني وعلاقة المبدع بفنه وبالآخرين، ولن نستغرب أن نجد أن بعضاً من تلك الحكايات قد طرح آراء عامة لم يتجاوزها، من حيث الجوهر، كبار الفلاسفة العالميين الذين عالجوا قضايا علم الجمال على مستوى عصري رفيع.‏

        والمدهش في أمثال هذه الحكايات هو أنها تعالج هذه المسائل الشائكة والمعقدة بمنتهى السلاسة والعفوية والبساطة فنرى الأمور واضحة غاية الوضوح لكنها في منتهى العمق أيضاً.‏

        قيل لي إن صانعي السجاد الإيرانيين كانوا في عهد الشاه من أفقر فئات الشعب في إيران، ومعروفة في كل أرجاء العالم شهرة السجاد الايراني، ومعروف في العالم جمال ذلك السجاد. فما الذي يجعل هؤلاء الصناع المهرة وامثالهم لايبحثون عن مهنة أخرى يتخلصون بها من الفقر. ؟‏

        لن نطرح، هنا، المسألة من الناحية السياسية أو الاجتماعية، فتصبح مسألة أخرى تطرحها الفئات الاجتماعية والأحزاب السياسية.‏

        قد يكون ما جعلني أطرح هذه المسألة هو شأن شخصي إلى حد ما إذ ترجمت حكاية شعبية هندية منذ قرابة عشرين عاماً وقد أثارت في نفسي من المشاعر ما جعلني لا استطع نسيانها حتى الآن، وقد لاأنساها طوال الحياة، بل قد تكون هي التي ولدت في اعماقي الرغبة في أن اكتب في مثل هذا الموضوع لكثرة مافكرت في مغزاها.‏

        الحكاية بسيطة كل البساطة، وقد تحدث كل يوم بشكل من الأشكال، وقد يكون آلاف الحرفيين المهرة قد مروا بمثل التجربة التي مربها (صانع السجاد) الهندي الذي تحكي الحكاية ما جرى له ,‏

        وملخص الحكاية هو أن أحد صانعي السجاد المهرة كسر نوله ذات يوم فذهب إلى الغابة والفأس في يده كي يقطع شجرة يصنع من خشبها نولاً جديداً . ووجد ضالته قرب شاطئ البحر، وحين هم بقطعها ناداه صوت من داخلها وطلب منه أن يبحث عن غيرها وأن يطلب منه ما يشاء‏

        كانت تلك الشجرة مسكن ساحر الغابة .. وعاد صانع السجاد كي يستشير زوجه في الأمر فالتقى جاره الحلاق الذي نصحه أن يطلب من الساحر أن يجعله ملكاً ويكون الحلاق مستشاره فيتخلصان من الفقر.. ويصر صانع السجاد على أن يستشير زوجه. ويصل إلى البيت ويحكي ماجرى لزوجه فتسفّه المرأة رأي الحلاق..فالخونة والمتملقون يحيطون بالملك، وحياته خالية من السعادة . ثم تنصح زوجها بان يطلب من الساحر أن يعطيه نولاً سحرياً يصنع له العدد الذي يطلبه من السجاجيد الجميلة التي لم ير الناس لها مثيلاً .‏

        يفرح الرجل بنصيحة زوجه ثم يتجه إلى حيث تنتصب الشجرة التي فيها الساحر.. كان يشعر بمزيد من الأسى وهو يقترب من المكان إذ راح يفكر:‏

        - سيعطيني ساحر الغابة نولاً عجيبا يحوك سجاداً رائع الرسوم، فماذا سأفعل أنا؟ سأذهب إلى السوق لأبيع السجاجيد واكدس النقود! هذا ليس شغلي .. "كتاب الشموس الثلاث"ص9.‏

        ووصل إلى الشجرة فطلب من الساحر أن يصلح له نوله العتيق، ثم عاد إلى بيته فوجد نوله صالحاً للعمل "جلس الصانع إليه وانكب على عمله فنسي كل مافي العالم"(ص9)‏

        "وكان الصانع يتأمل السجادة طويلاً بإمعان حين تكتمل ثم يبتسم ويقول:‏

        - لا أحد يعرف مقدار سعادتي الآن ! كان بإمكاني أن أصير ملكاً وأحصل على ثروة ضخمه وعلى الكثير من العبيد والخدم والمتملقين. لكني ماكنت سأحصل على صديق حقيقي واحد. باستطاعة ساحر الغابة أن يجعلني غنياً، لكني سأعاني،حينذاك، من الملل والكسل والخشية من أن أفقد ثروتي، أية سعادة تمكن مقارنتها مع سعادتي حين أرى الرسوم تتشكل على السجادة ويتكامل ما تصنعه يداي، أو حين أسمع كلمات الإعجاب بما صنعت ؟ "(المرجع السابق ص10)‏

        ويروي إيفريم كارانفيلوف ماجرى بين الكاتب ايفان حاجيسكي وحطاب من ترويان التقى به الكاتب يحمل حملاً من الحطب ليبيعه في المدينة بمبلغ من المال.. أوقف الكاتب الحطاب فوق جسر وعرض عليه مبلغا اكبرمن المبلغ الذي قال الحطاب إنه سيبيع الحطب لقاءه، شريطه أن يرمي الحطاب الحطب في النهر فلا يستفيد منه أحد، ورفض الحطاب العرض المغري، وفضل أن يتحمل مزيداً من الجهد والبرد. ("البعث2/6/ 1982)‏

        أجل، ثمة في الأشياء التي نصنعها ماهو أغلى على قلوبنا من النقود التي نبيعها بها .‏

        ولم تقف الحكايات الشعبية عند هذا الجانب وحده من جوانب علاقة المبدع بإبداعه، بل هي تتصدى لجوانب أخر تمس عملية الإبداع من الداخل وتقترب من الحرم القدسي، حرم السر المعجز الذي ندعوه سر الإبداع، أو سر العبقرية. والحكايات لاتدّعي أنها تتعرض للجانب الفلسفي من المسألة، ولانطرح السؤال النظري الذي لم يجد أحد جواباً شافياً عنه حتى الآن، سؤال : ماهو الابداع؟لكنها تتعرض لجوانب جوهرية من سمات شخصية المبدع وطبعه. ومن أبرز هذه السمات الاستعداد للتضحية في سبيل الفن، واعتباره عملاً اجتماعيا نافعاً .‏

        وتنهض في ذاكرتي أصداء رنين جرس سحري ينبعث من حكاية قديمة قرأتها منذ سنوات عديدة.ولايزال وجه صانع الأجراس الصيني الشيخ منطبعاً في ذاكرتي ولاتزال دموعه الحارة تسيل على خديه المغضنين، وهو يمسح بيديه الخشنتين وجنتي ابنته الوحيدة الجميلة، ويتأمل عينيها الوادعتين.‏

        كان يحبها حباً لاحدود له . وكان يعرف أن عليه أن يضحي بها كي يحصل على سبيكة الجرس العجيب الذي سيبقى رنينه يتردد عبر الازمنه كلها. ويدور الصراع عنيفاً في صدر الشيخ الواهن، صراع بين العاطفة الأبوية العارمة وبين الواجب الذي يلقيه التاريخ على كاهل. المبدع وتقع المأساة.. ويتغلب الواجب الفني على العاطفة، ويخرج الجرس إلى الوجود آيه فنية لم تحك الحكايات عن جمال فتان يماثل جمال رنينه الساحر. وتصير ابنة المبدع عنصراً من عناصر الأسطورة الحزينة الرائعة .. وتنتقل صورة وجهها الجميل من جيل إلى جيل فلا يعتريها شحوب ولاتزيدها القرون إلا شباباًً وجمالاً . ويبقى الجرس يرسل رنينه الساحر على مر العصور.‏

        وتستدعي الحكاية الحكاية، وتستدعي الصورة الصورة، وها أنا ذا أرى بعين الخيال جسراً حجريا يمتد فوق مياه نهر صاخبة ويربط الضفتين إحداهما بالأخرى، فتعبر عربات القرويين المحملة بالمحصول من الحقول إلى القرية تجرها الثيران والخيول ويغرد في مقدمتها طائر عجيب التغريد.‏

        أما حكاية الجسر فأعرف اسمها واسم مؤلفها.. إنها حكاية (جسر روسيتسا الحجري) للكاتب البلغاري الكبير أنجل كارا ليتشيف.‏

        وحكاية هذا الجسر الحجري التي صارت أغنية تمجد العمل الإنساني تصور لنا عذاب الشاب الذي بنى الجسر لأنه اضطر إلى أن يضع في أساس بنيانه "ظل" التي هي أحب الناس أليه.‏

        كان والده يحلم ببناء الجسر ليوفر على الناس العناء ويحميهم من غطرسة النهر.. لكن الشيخوخة أدركته قبل أن يحقق هذا الحلم .ورأى أن ابنه الذي ورث المهنه عنه أهل للقيام بالمهمة فأورثه إياها.‏

        وحين فاتح الأب الابن بالأمر ارتبك الشاب وتردد، فالثمن المطلوب باهظ... إذ عليه، هو العاشق، أن يضحي بمن يحب في سبيل ذلك .. وكانت وصيه الأب واضحة:‏

        "فلتحبس فيه ظل أحب الناس إليك" ( "مجلة النافذة" العدد 5/6 ص9 )‏

        وقبل الفنان المهمة وبني الجسر :"أحاط الشيوخ بالجسر، دقوا عليه بعصيهم .. تلمسوا حجارته الباردة وقالوا:‏

        - مدهش ما صنعته يدا مانويل ( المرجع السابق ص9)‏

        وصار الجسر حكاية يطل منها وجه الفنان الذي أسقمه الشقاء ويتألق فيها وجه الحبيبة "ميلكا" الجميل ويزداد جمالاً وشبابا على الزمن.‏

        ويكتب كاتب كلاسيكي بلغاري آخر هو إيلين بيلين حكايتين جميلتين لهما صلة بموضوع الفن والموقف منه وموضوع الحكايتين متماثل تقريباً لولا بعض اللمسات الاجتماعية في الأولى، ولولا اللمسات الأكثر حميميه وشاعرية في الثانية .‏

        الحكاية الأولى هي حكاية (ذكر النحل الغني) من كتاب (دموع العصفورة ذات الجناحين الفضيين ص37 ومايليها ) والحكاية الثانية هي حكاية (السنجابان) ( المرجع السابق ص39 ومايليها)‏

        والحكايتان دفاع عن الفن واعادة اعتبار للفنان كمنتج اجتماعي لا باعتباره مضياعاً للوقت كما اعتبرته حكاية "النملة والصرار" الشهيرة التي مجدت العمل بطريقة غريبة إذ كان يمكن تمجيده من غير أن تلحق الإهانة بالفن .. فالصرار، وهو "مطرب الطبيعة ومغني الحقول" صوّر في هيئة الكسول الذي لاعمل له سوى التسكع وإضاعة الوقت. ولا يجوز اعتبار الفن إضاعة للوقت . في حكاية (ذكر النمل الغني)يجعل ايلين بيلين الصرار، رمز الفنان يرد الإهانة التي لحقت به من قبل (ذكر النمل الغني) لا باعتباره عاملاً كادحاً، ولا باعتباره أنثى، فالأنثى أرق قلباً، بل باعتباره طماعاً جشعاً وبخيلاً يكنز الثروات ويعيش في سراديبه المعتمة منفرداً يمضي أوقات الشتاء الباردة في ملل وضجر .. وما هو بالعامل المجد فالعامل مخلوق شهم لا يبخل بلقمة على كائن جائع ولايرده خائباً .. أما المحتكر فيفعل ذلك، ولهذا فهو يستحق العقوبة والاحتقار. وقد جوزي بهما، وحكاية (السنجابان ) حكاية شاعرية تصور لنا الشتاء في الغابة وتصف لنا كيف يرحب السنجاب العامل بالسنجاب الذي أمضى الصيف وهو يراقب أحداث الغابة ويرود جنباتها فيدخر الكثير من الحكايات والخبرات، وكيف يمضيان الشتاء البارد معاً كمخلوقين لاغنى لأحدهما عن الآخر.. ونحس دفئاً ينسينا برد الشتاء المخيف.‏

        وفي الحكاية الشعبية الكازاخستانية (الصانع الماهر ) نرى العازف الماهر يمر بأصابعه على أوتار آلته الموسيقية :‏

        "تأوهت الأوتار ومر فوق خيمة الأمير صوت كعويل الريح ثم سمع ما يشبه حفيف أشجار الغابة نعومة ولطفاً .. ارتفع عويل الريح ثم تحول إلى عواء وحش ضار.. وأرسلت الأوتار صريراً حاد النغمة، ثم تحول صوتها إلى صوت إنسان يطلب النجدة، وتلاه زئير الوحش مرة أخرى,, ثم جاء نحيب الغابة الملتاعة وكأنه مرثية تفتت الأكباد" (كتاب "الشموس الثلاث" حكاية "الصانع الماهر"ص112)‏

        ويفهم الأمير الظالم أن ولده الوحيد قد هلك، وينجو خدمه من الهلاك إذ كان قد هددهم بأنه سيقتل من سيخبره بأن ولده أصيب بمكروه.‏

        ما كان يخطر في بال الفنان الشعبي أن يفصل الفن عن حياة الناس. فالفن عنده جزء من هذه الحياة تغذيه وتغنيه ويغذيها ويغنيها، يضرب جذوره عميقاً في تربتها فيزداد ازدهاراُ ويزيدها خصوبة .وهو يتخذ الفن حرفة جميلة ونافعة، فالفن بالتالي وظيفة اجتماعية.‏

        هكذا كان الفن الحق قديماً، وهكذا هو كائن، وهكذا سوف يكون أو لن يكون.‏

        وكان الفنان إنساناً شجاعاً وشهماً ومسؤولاً وسيبقى كذلك أو لايكون.‏

        ولقد أدرك كاتب الحكايات الدانماركي العظيم هانس كريستيان اندرسن هذه الحقيقة وجسدها في حكاياته... وما يعنينا مما كتب أندرسن حكايتان جميلتان تعالجان الموضوع الذي نحن بصدده‏

        الحكاية الأولى "فرخ البط القبيح"وفيها ملامح كثيرة من سيرة الكاتب كما ذكرنا وبطل الحكاية طائرتم، بين جناحيه قلب شاعر، جعله القدر يولد في أسرة بط عادية فعاش طفولته فيها "غريب الوجه واليد واللسان"..‏

        ويهرب الصغير من الوسط الخانق، وقد ضاق ذرعاً بالنفاق والرياء والغرور والسطحية .. ويتعرض لمخاطر جمة. ويحميه قبحه من كلاب الصيد.. فحتى كلب الصيد الضاري تعاف نفسه الفرخ القبيخ . ويأوي إلى بيت فيه امرأة عجوز وقط ودجاجة وفيه الطعام والدفء والأمن .. لكنه لا يلبث إلا قليلاً حتى يشعر بالرتابة المملة ويكاد يختنق، إنهم يرون الرتابة نعيماً، ويسمون خرير القط علماً ما بعده علم، ويرون وضع الدجاجة البيض عملاً من أمجد الاعمال.. ويأتي الربيع، فيلبي (فرخ البط القبيح) نداء الحياة وينطلق نحو الافاق الواسعة.‏

        ويعلم العالم أخيراُ أنه لم يكن من نسل البط بل كان تماً، هو الأجمل بين طيور التم، ويفرد التم الرائع جناحية ويغني أغنيته . (ترجم محمود ابراهيم الدسوقي الحكاية باسم "البطيطةالدميمة") وذلك في كتاب (أقاصيص هانس أندرسن ) الصادر عام 1940 عن لجنة التأليف والترجمة والنشرفي عداد سلسلة (عيون الادب الغربي) وترجمها آخرون باسم ( فرخ البط القبيح) وإذا كانت حكاية (فرخ البط القبيح) هي حكاية المبدع على الدرب إلى الابداع، وإذا كانت تصور طبعه وشجاعته قبل الوصول، فإن الحكاية الثانية، حكاية "البلبل" تحكي حكاية المبدع وقد نضجت موهبته وصار العالم يتحدث عنه "وكان الشعراء يختصون بلبل الغابة المجاورة للبحر بابدع القصائد." ( " أقاصيص هانس اندرسن" ص77 ) وأما أهل بلده، وليس لنبي كرامة في بلده، فكانوا لايعرفون عنه شيئاً، وخصوصاً حاشية الامبراطور وكانوا يتساءلون عن هذا البلبل العجيب الذي تحدثت الدنيا عنه ولم يعلم أهل البلاط من أمره شيئاً" (المصدر السابق ص78)‏

        كانت "فتاة المطبخ" تعرفه جيداً :"وفي أثناء عودتي أمكث في الغابة قليلاً وأستريح، فاسمع البلبل يغرد تغريداً يسيل مني العبرات، فكأنه، حين يغرد، أمي تقبلني" (المصدر السابق ص78)‏

        يدهش الفارس المكلف باحضاره إذ يراه: "فما أبسط منظره!" (ص79)‏

        وكيف لاتكون البساطة الفاتنة أمراً مدهشاً لمن يغطون التفاهه والضحالة بالزينة والبهرج؟‏

        ولم يكن مستغرباً أن يظن البلبل أن الفارس هو الامبراطور فهو لم يره من قبل...‏

        ويمضي إلى القصر وهو يعلم أن صوته أجمل ما في الغابة .‏

        ويشدو البلبل في القصر وتخضل عينا الامبراطور بالدموع ويأمر بأن يوضع خفاه الذهبيان حول عنق البلبل مكافأه له.‏

        ولكن البلبل يرى أن دموع الامبراطور خير جزاء يناله(ص80)‏

        ولكي تكتمل اللوحة ويظهر تألقها على خلفية من نقيضها ينقل لنا أندرسن صورة المقلدين التافهين الذين لايخلو منهم مكان. فهاهن سيدات البلاط تناولن" في أفواههن بعض الماء، وحاولن أن يحركن حناجرهن أثناء الكلام كما يفعل البلبل، ذلك لأنهن فكرن في أن يكن بلابل أيضا" (ص80)‏

        ويأتون للامبراطور ببلبل اصطناعي (يشبه البلبل الحي، لكنه كان مرصعاً كله بالماس والياقوت الأحمر والأزرق فإذا أدير لولب هذا البلبل الآلي أمكنه أن يغني لحناً واحداً من ألحان البلبل الحي)(ص81)‏

        ويمعن أندرسن في السخرية فيجعل الذي أحضر البلبل الآلي يحصل على لقب" محضر البلبل الامبراطوري الأول" (ص81) ثم يورد لنا رأي فنان القصر الذي يرى أن عيب البلبل الحي هو أن أحداً لايعرف ماذا سوف يغني في كل مرة... (أما البلبل الصناعي فان كل شيء مقرر له من قبل) (ص82)‏

        ويسمع صياد السمك صوت البلبل الآلي فيقول :" إن صوت هذا البلبل جميل جداً يكاد يشبه صوت البلبل الحقيقي، لكنه ينقصه شيء لاأدري ماهو" (ص82-83) كان أندرسن يعرف ـ النقص في صوت البلبل الالي، لكنه جعل صياد السمك يعلن بعفويته أن ثمه نقصاً ما، نقصاً لايدرك جوهره لكنه يحس به بسليقته.. فهل أفقدت حياة القصر أهل البلاط سليقتهم فخفي ذلك النقص عليهم، أم أنهم لمسوه ولم يجهروا به خوفاً ونفاقاً؟‏

        الأمران لايشرفانهم. واندرسن لايهمه رأي أهل البلاط.. إن من يسهمون في إفساد ذائقة الناس هم النقاد المسخرون وهاكم سخريته الموجعة منهم:‏

        " وألف الفنان خمسة وعشرين مجلداً عن الطائر الصناعي، تحوي أطول العبارات وأصعبها في اللغة الصينية.. وقال الجميع طبعا إنهم قرأوا هذه المجلدات ووعوها، حتى لايتهموا بأنهم أغبياء فيعرضوا أجسادهم للجلد" (ص83)‏

        ويتعطل البلبل الآلي ويصلحه صانع الساعات بعض الاصلاح.. ويمرض الامبراطور فينفضّ عنه من حوله وينتخبوا سواه...‏

        ويطلب من البلبل الصناعي أن يغني فتبتعد عنه سيئاته التي زحمت ذاكرته " لكن الطائر ظل صامتاً، فلم يكن هناك أحد يدير لولبه" (ص85)‏

        وحط البلبل الحي على غصن قرب النافذة وراح يشدو، وأمعنت الاشباح في التواري (وتدفق الدم إلى أعضاء الامبراطور الخائرة، وحتى الموت كان يصغي ويقول: "إمض في غنائك ايها البلبل الصغير، إمض في غنائك ‍!" (ص86)‏

        وغنى البلبل أغنية أثارت أشواق الموت "فانطلق من النافذة طيفاُ بارد الهبوب" (ص86)‏

        واعلن الامبراطور أنه سيحطم الطائر الصناعي "فأجاب البلبل: لاتفعل ذلك، فقد فعل مافي طاقته، فاعتن به، أما أنا فلا قبل لي بالبقاء في القصر، فدعني آتي كلما حلالي"(ص86) ثم يقول للملك : "إن قلبك أحب إليّ من تاجك" فهل ثمة أعظم من فنان يرى الدمع أثمن من الذهب والقلب أحب إليه من التاج؟‏

        وهل ثمة أطيب قلباً وأكثر تسامحاً ونبلاُ من الفنان المبدع: "لاتفعل ذلك فقد فعل مافي طاقته، فاعتن به"‏

        وهل ثمة من هو أحرص على حريته من الفنان الحق:‏

        "أما أنا فلا قبل لي بالبقاء في القصر، فدعني آتي كلما حلالي"‏

        كنت أنوي الاسترسال في الكلام وإبراز جوانب أخرى من الموضوع على ضوء حكايات أخرى، لكنني فطنت إلى ماكان أجدادنا يحرصون على ترداده:‏

        "خير الكلام ماقل ودل، وما أغناك قليله عن كثيره"‏

        ولقد أكثرت وما أغنيت .. بل هي اشارات لاأكثر..‏

        وعلى ضوء المسائل التي تناقش الان بحماسة وانفعال اسمح لنفسي بسؤال:‏

        هل نحن أمام مسائل تتجدد باستمرار ولاتولد أبداً ؟‏

        قد تكون المسائل الكبرى دائماً هكذا وقد تكون الصغرى كذلك أيضا.‏

        المراجع‏

        1- كارانفيلوف- ايفريم (أبطال وطباع) ترجمه ميخائيل عيد -وزارة الثقافة والارشاد القومي-دمشق 1982‏

        2- جماعة من المؤلفين (الشموس الثلاث) ترجمة ميخائيل عيد -وزارة الثقافة والارشادالقومي- دمشق 1976‏

        3- جريدة (البعث) تاريخ 2/6/ 1982‏

        4- كار اليتشيف ـ انجل (جسر روسيتسا الحجري) ترجمه ميخائيل عيد- مجله النافذة - دمشق العدد 5- 6 عام 1991‏

        5- جماعة من المؤلفين (دموع العصفورة ذات الجناحين الفضيين) ترجمه ميخائيل عيد- وزارة الثقافة والارشاد القومي - دمشق 1977‏

        6- اندرسن -هانس (أقاصيص هانس اندرسن) ترجمه محمود ابراهيم الدسوقي- لجنة التأليف والترجمة والنشر- سلسلة (عيون الادب الغربي) القاهرة-1940‏
        إذا الشعب يوما أراد الحياة
        فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
        و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
        و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

        تعليق


        • #19
          رد: أسئلة الحداثة بين الواقع والشطح

          في الواقع والواقعية

          يدور جدل ميدانه الساحة الثقافية العالمية حول الواقع والواقعية، وحول علاقة الادب بالواقع، وحول طبيعة الواقعي عموماً، وولدت "مدارس واقعية"عديدة وظل الأدب الواقعي غير محدد.‏

          وتشعبت الاسئلة وتعقدت فصارت مشكلات، وتباعدت وجهات النظر وتضاربت الآراء. و(تمترست) وراء متاريس المدارس الأدبية والثقافية جهات غير أدبية، وكانت الجهات السياسية وراء أكثر المتاريس، ولم يصل أحد من المتجادلين إلى تعريف دقيق وشامل للواقعي.. وكثر الخروج من الأدبي إلى السياسي ومن السياسي إلى الأدبي .. وقالت فئة : الواقعي هو الموضوعي وعرفت الموضوعي تعريفات تحتاج إلى تعريفات وشروح .... فالموضوعي وفق أحد التعاريف هو: ماهو خارج ذهني وليس بحاجة إلى أي ذهن كي يوجد .‏

          ودار الصدام بين ماهو خارج ذهني وبين ماهو داخل ذهني واقيمت بينهما جدران واسوار كتيمة، واستخدمت في الاشتباكات القتالية مدفعية الميدان الفلسفية بعيدة المدى .. وضاقت الشقة أحياناً بين "علم الأدب" وبين "علم الجمال" وعادت إلى الاتساع في أحيان أخر.. وكثر العجيج والضجيج، وعلا الغبار وكثرت الاتهامات، والاتهامات المضادة، وكانت كل فئة تعبر عن ديمقراطيتها الكاملة بالدعوة إلى نسف الآخر وهدم كامل بنيانه وعدم الاستفادة من انقاضه في إقامة ابنية جديدة.. لأن أبنية جميع المتجادلين كانت كاملة :"على المفتاح" .‏

          وشغلت ذهني طويلاً في المسألة، وكان ذهني المتعب يعيدني إلى البساطة كلما تعقدت الأمور. كنت أفكر أحياناً، على سبيل المثال، بالعملية الحسابية البسيطة جداً:"1+1=2" إذ لاوجود مجرد لكلمة واحد في الواقع، والمسألة هي مسألة تجريدية مارسها الذهن البشري وحل انطلاقاً منها وبناء عليها الكثير من مسائل الفكر عموماً، وكذلك الكثير من مشكلات الحياة، واقنعت نفسي، من ثم، بأن مسائل الرياضيات الحديثة والفيزياء الحديثة وغيرها هي مسائل ذهنية- واقعية، أو واقعية ذهنية إذا شئتم ..وصرت أرى أن حركة الفكر وعملية التفكير التي تجري داخل الذهن هي واقعية نسبياً، ومن ثم، هي موضوعية نسبياً.‏

          وبعد أن تعبت من متابعة المجادلات الصاخبة والهادئة، الحامية والفاترة والباردة، ومع احترامي لجلال قدر الكثيرين من الذين أسهموا في الجدال، قررت أن أطرح أمامكم في هذه السطور هذه المسألة العويصة طرحاً يتسم بالبساطة قدر الامكان .. وقد صغت السؤال على الشكل التالي: ماهو الشئ غير الواقعي؟ وما هوالادب غير الواقعي؟ آملاً أن تستبعد هنا المسائل السياسية إلى حين، وهي المسائل التي تقحم مباشرة في كل مجال وفي كل حين.‏

          قد يكون الجواب الأبسط والأشمل عن هذا السؤال هو : الواقعي هو الموجود، وكل مايوجد يصير واقعاً أو واقعياً ولافرق، العدم المطلق، المستحيل فلسفياً وعقلياً، هو وحده غير واقعي، والذين يؤكدون نفي صلة الأدب بالتجربة الحياتية، أي بالممارسة معيشياً، لا عبر الثقافة فحسب، مسمين ذلك نفياً لصلة الأدب بالواقع أو بالحياة إنما يقعون في غلطين كبيرين، لايختلف أثنان بشأنهما، وإن كنا قد نختلف في مسألة تحديد أي منهما أكبر من الآخر. أولهما أنهم ينسون أو يتناسون أن إمكان استقلال الإبداع عن التجربة لايكون إلاّ نسبياً جداً .. إذ يستحيل ألاّ تلقي البيئة والزمان وأحداث الحياة الشخصية "أي التجربة الحياتية" شيئاً من ظلالها، أو أن تضفي شيئاً من تلويناتها على الناتج الابداعي. ولو كان الأمر خلاف ذلك لأنتج مبدعان لهما ثقافة متماثلة اعمالاً ابداعية متماثلة، وهذا نادر الحدوث، ونكاد نزعم أنه مستحيل الحدوث، وأكثر من ذلك يستحيل أن يعيد الكاتب نفسه كتابة رواية أو قصة، تماماً كما سبق له أن كتبها. ومن هنا يكون من قبيل المبالغة زعم الشكلانيين أن سيرة الأديب أوالفنان ليست سوى نتاج ثانوي للفن، وليست السبب في وجوده، أو من أسباب وجوده، كمايبدو مبالغة أكبر قولهم (إن المبدع هو "نتاج الإبداع" وليس منتجاً له)‏

          والخطأ الثاني هو فصلهم ثقافة المبدع عن سيرته، وبالتالي عن تجربته، فصلاً تعسفياً.‏

          ويعتبر من قبيل المبالغة أيضاً زعم أصحاب مدرسة التحليل النفسي أن الابداع عملية مرتبطة باللاشعور وحده، فما هواللاشعور؟ وهل هو غير الواقع الذي عشناه ونسيناه أو عاشه أجدادنا في أثناء مراحل تطور الجنس البشري ثم توارثوه جيلاُ بعد جيل، وتطوروا عبره وبه فكراً وجسداً وحسن أداء إلى أن وصل إلينا ؟ إن اللاشعور هو واقع كان فاعلاً وعلى السطح، ثم توالت الأحداث والوقائع فاغرقته إلى حيث سكينة الأعماق، وشغلنا عنه بما يستجد من أمور يومية واحداث، وقد يرقد هناك لكنه لايفقد فاعليته..(فما من شيء يفنى في الطبيعة ).‏

          وقد يكون مسوّغا السؤال التالي: لماذا يستيقظ اللاشعور، أو هذا الجانب منه إثر هذا الحادث أو ذاك؟ ولماذا لايستيقظ كله، بكل مخزوناته دفعة واحدة، أوحين نطلب منه إرادياً أن يستيقظ؟ وهل يحدث التداعي إلا بتأثير حادث واقعي محدث.؟ وحتى لو كان هذا لامكان له .. فهل يمكن نفي أن اللاشعور كان واقعاً شخصياً أو كونياً، كمن في أعماقنا ثم استيقظ؟ وهل كمونه يلغي أنه كان واقعاً ؟ وهل استيقاظه يلغي، تماماً، الحاضر الذي نعيش فيه، أم أن التداخل والتمازج أمر قائم وموضوعي، ومن ثم واقعي.؟‏

          وإذا كان الواقعي أو الموضوعي غير محتاج إلى ذهني كي يوجد فان ذهن الانسان محتاج إلى وجوده، إذ لاوجود له إلاّبه . ونحن محتاجون إلى إدراكه بعمق وإلى فهم النواميس الطبيعية التي يسير طبقاً لها. وعملية الابداع لاتحتاج إلى وجود الاشياء الموضوعي خارج اذهاننا وحسب بل هي تحتاج إلى وجود تصور محدد عنها في أذهاننا تحديداً، والتصور الذي يتشكل في أذهاننا يصير المادة الاساس لابداعنا، وبصيرورته ابداعاً يصير واقعاً ملموساً خارج أذهان الآخرين، إلى أن يطلعوا عليه، ويصير بالتالي جزءاً من بنية أذهانهم لتولد من تفاعله مع مافي أذهانهم ومع مافي خارجها أعمال جديدة، فنزداد إدراكا للواقع، ويتطور فهمنا لجوانبه المتعددة. وتغتني صورته في أذهاننا وتتبدل تطورياً مع الزمن.‏

          ويكون كل ماهو ذهني واقعياً بمعنى من المعاني، إذ يتجسد في عمل فكري أو في ممارسة مكوناً بنية من بنى الواقع الفاعلة فيه. وقد نختلف حول مدى دقة عكس الذهني للواقع، فنقول: هذا تصور غير متكامل أو ساذج، أو غير جوهري، أو حتى خرافي، ومع ذلك نكون مضطرين إلى القول إنه عكس للواقع. فالعدم المطلق، لافكرة العدم التي صارت واقعاً، العدم المطلق لايغني شيئاً ولايغتني بشيء.‏

          وإذاكان الواقع معطى كاملاً وشاملاً فإن عملية إدراكنا له ليست كذلك.إنها تتكامل وتتسع مع كل إبداع، وبعد كل ممارسة.. وليست إقامة الجدران المصطنعة بين الواقعي والمعرفي في صالح أحد، بالمعنى الاستراتيجي للتطور البشري. أما السؤال: كيف نعكس هذا الواقع فينقلنا من تخوم الأدب إلى تخوم علم الجمال.. وأما السؤال: من يخدم عكسنا هذا الجانب من الواقع وبهذه الطريقة فيخرجنا من عالمي الجمالي والأدبي ويدخلنا أويزج بنا في عالم السياسة، ويضعنا أمام مسألة الطبقات والفئات الاجتماعية، وتآلفها، أو تنافرها، تآخيها أو تصارعها.. وهي مسألة شائكة.. ولن تحسم عبر مناقشات مسائل الادب.‏

          إن مهمة الأدب الأساسية هي أن يبدع الجمالي، ولن يتاح له ذلك إلاّ إذا عكس فنياً المسائل الجوهرية التي يطرحها عصر المبدع. وإنها لمهمة جليلة ومجيدة. ويكفيه مجداً أن يؤديها في كل حقبة من حقب التاريخ.‏
          إذا الشعب يوما أراد الحياة
          فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
          و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
          و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

          تعليق


          • #20
            رد: أسئلة الحداثة بين الواقع والشطح

            في الواقع والواقعية

            يدور جدل ميدانه الساحة الثقافية العالمية حول الواقع والواقعية، وحول علاقة الادب بالواقع، وحول طبيعة الواقعي عموماً، وولدت "مدارس واقعية"عديدة وظل الأدب الواقعي غير محدد.‏

            وتشعبت الاسئلة وتعقدت فصارت مشكلات، وتباعدت وجهات النظر وتضاربت الآراء. و(تمترست) وراء متاريس المدارس الأدبية والثقافية جهات غير أدبية، وكانت الجهات السياسية وراء أكثر المتاريس، ولم يصل أحد من المتجادلين إلى تعريف دقيق وشامل للواقعي.. وكثر الخروج من الأدبي إلى السياسي ومن السياسي إلى الأدبي .. وقالت فئة : الواقعي هو الموضوعي وعرفت الموضوعي تعريفات تحتاج إلى تعريفات وشروح .... فالموضوعي وفق أحد التعاريف هو: ماهو خارج ذهني وليس بحاجة إلى أي ذهن كي يوجد .‏

            ودار الصدام بين ماهو خارج ذهني وبين ماهو داخل ذهني واقيمت بينهما جدران واسوار كتيمة، واستخدمت في الاشتباكات القتالية مدفعية الميدان الفلسفية بعيدة المدى .. وضاقت الشقة أحياناً بين "علم الأدب" وبين "علم الجمال" وعادت إلى الاتساع في أحيان أخر.. وكثر العجيج والضجيج، وعلا الغبار وكثرت الاتهامات، والاتهامات المضادة، وكانت كل فئة تعبر عن ديمقراطيتها الكاملة بالدعوة إلى نسف الآخر وهدم كامل بنيانه وعدم الاستفادة من انقاضه في إقامة ابنية جديدة.. لأن أبنية جميع المتجادلين كانت كاملة :"على المفتاح" .‏

            وشغلت ذهني طويلاً في المسألة، وكان ذهني المتعب يعيدني إلى البساطة كلما تعقدت الأمور. كنت أفكر أحياناً، على سبيل المثال، بالعملية الحسابية البسيطة جداً:"1+1=2" إذ لاوجود مجرد لكلمة واحد في الواقع، والمسألة هي مسألة تجريدية مارسها الذهن البشري وحل انطلاقاً منها وبناء عليها الكثير من مسائل الفكر عموماً، وكذلك الكثير من مشكلات الحياة، واقنعت نفسي، من ثم، بأن مسائل الرياضيات الحديثة والفيزياء الحديثة وغيرها هي مسائل ذهنية- واقعية، أو واقعية ذهنية إذا شئتم ..وصرت أرى أن حركة الفكر وعملية التفكير التي تجري داخل الذهن هي واقعية نسبياً، ومن ثم، هي موضوعية نسبياً.‏

            وبعد أن تعبت من متابعة المجادلات الصاخبة والهادئة، الحامية والفاترة والباردة، ومع احترامي لجلال قدر الكثيرين من الذين أسهموا في الجدال، قررت أن أطرح أمامكم في هذه السطور هذه المسألة العويصة طرحاً يتسم بالبساطة قدر الامكان .. وقد صغت السؤال على الشكل التالي: ماهو الشئ غير الواقعي؟ وما هوالادب غير الواقعي؟ آملاً أن تستبعد هنا المسائل السياسية إلى حين، وهي المسائل التي تقحم مباشرة في كل مجال وفي كل حين.‏

            قد يكون الجواب الأبسط والأشمل عن هذا السؤال هو : الواقعي هو الموجود، وكل مايوجد يصير واقعاً أو واقعياً ولافرق، العدم المطلق، المستحيل فلسفياً وعقلياً، هو وحده غير واقعي، والذين يؤكدون نفي صلة الأدب بالتجربة الحياتية، أي بالممارسة معيشياً، لا عبر الثقافة فحسب، مسمين ذلك نفياً لصلة الأدب بالواقع أو بالحياة إنما يقعون في غلطين كبيرين، لايختلف أثنان بشأنهما، وإن كنا قد نختلف في مسألة تحديد أي منهما أكبر من الآخر. أولهما أنهم ينسون أو يتناسون أن إمكان استقلال الإبداع عن التجربة لايكون إلاّ نسبياً جداً .. إذ يستحيل ألاّ تلقي البيئة والزمان وأحداث الحياة الشخصية "أي التجربة الحياتية" شيئاً من ظلالها، أو أن تضفي شيئاً من تلويناتها على الناتج الابداعي. ولو كان الأمر خلاف ذلك لأنتج مبدعان لهما ثقافة متماثلة اعمالاً ابداعية متماثلة، وهذا نادر الحدوث، ونكاد نزعم أنه مستحيل الحدوث، وأكثر من ذلك يستحيل أن يعيد الكاتب نفسه كتابة رواية أو قصة، تماماً كما سبق له أن كتبها. ومن هنا يكون من قبيل المبالغة زعم الشكلانيين أن سيرة الأديب أوالفنان ليست سوى نتاج ثانوي للفن، وليست السبب في وجوده، أو من أسباب وجوده، كمايبدو مبالغة أكبر قولهم (إن المبدع هو "نتاج الإبداع" وليس منتجاً له)‏

            والخطأ الثاني هو فصلهم ثقافة المبدع عن سيرته، وبالتالي عن تجربته، فصلاً تعسفياً.‏

            ويعتبر من قبيل المبالغة أيضاً زعم أصحاب مدرسة التحليل النفسي أن الابداع عملية مرتبطة باللاشعور وحده، فما هواللاشعور؟ وهل هو غير الواقع الذي عشناه ونسيناه أو عاشه أجدادنا في أثناء مراحل تطور الجنس البشري ثم توارثوه جيلاُ بعد جيل، وتطوروا عبره وبه فكراً وجسداً وحسن أداء إلى أن وصل إلينا ؟ إن اللاشعور هو واقع كان فاعلاً وعلى السطح، ثم توالت الأحداث والوقائع فاغرقته إلى حيث سكينة الأعماق، وشغلنا عنه بما يستجد من أمور يومية واحداث، وقد يرقد هناك لكنه لايفقد فاعليته..(فما من شيء يفنى في الطبيعة ).‏

            وقد يكون مسوّغا السؤال التالي: لماذا يستيقظ اللاشعور، أو هذا الجانب منه إثر هذا الحادث أو ذاك؟ ولماذا لايستيقظ كله، بكل مخزوناته دفعة واحدة، أوحين نطلب منه إرادياً أن يستيقظ؟ وهل يحدث التداعي إلا بتأثير حادث واقعي محدث.؟ وحتى لو كان هذا لامكان له .. فهل يمكن نفي أن اللاشعور كان واقعاً شخصياً أو كونياً، كمن في أعماقنا ثم استيقظ؟ وهل كمونه يلغي أنه كان واقعاً ؟ وهل استيقاظه يلغي، تماماً، الحاضر الذي نعيش فيه، أم أن التداخل والتمازج أمر قائم وموضوعي، ومن ثم واقعي.؟‏

            وإذا كان الواقعي أو الموضوعي غير محتاج إلى ذهني كي يوجد فان ذهن الانسان محتاج إلى وجوده، إذ لاوجود له إلاّبه . ونحن محتاجون إلى إدراكه بعمق وإلى فهم النواميس الطبيعية التي يسير طبقاً لها. وعملية الابداع لاتحتاج إلى وجود الاشياء الموضوعي خارج اذهاننا وحسب بل هي تحتاج إلى وجود تصور محدد عنها في أذهاننا تحديداً، والتصور الذي يتشكل في أذهاننا يصير المادة الاساس لابداعنا، وبصيرورته ابداعاً يصير واقعاً ملموساً خارج أذهان الآخرين، إلى أن يطلعوا عليه، ويصير بالتالي جزءاً من بنية أذهانهم لتولد من تفاعله مع مافي أذهانهم ومع مافي خارجها أعمال جديدة، فنزداد إدراكا للواقع، ويتطور فهمنا لجوانبه المتعددة. وتغتني صورته في أذهاننا وتتبدل تطورياً مع الزمن.‏

            ويكون كل ماهو ذهني واقعياً بمعنى من المعاني، إذ يتجسد في عمل فكري أو في ممارسة مكوناً بنية من بنى الواقع الفاعلة فيه. وقد نختلف حول مدى دقة عكس الذهني للواقع، فنقول: هذا تصور غير متكامل أو ساذج، أو غير جوهري، أو حتى خرافي، ومع ذلك نكون مضطرين إلى القول إنه عكس للواقع. فالعدم المطلق، لافكرة العدم التي صارت واقعاً، العدم المطلق لايغني شيئاً ولايغتني بشيء.‏

            وإذاكان الواقع معطى كاملاً وشاملاً فإن عملية إدراكنا له ليست كذلك.إنها تتكامل وتتسع مع كل إبداع، وبعد كل ممارسة.. وليست إقامة الجدران المصطنعة بين الواقعي والمعرفي في صالح أحد، بالمعنى الاستراتيجي للتطور البشري. أما السؤال: كيف نعكس هذا الواقع فينقلنا من تخوم الأدب إلى تخوم علم الجمال.. وأما السؤال: من يخدم عكسنا هذا الجانب من الواقع وبهذه الطريقة فيخرجنا من عالمي الجمالي والأدبي ويدخلنا أويزج بنا في عالم السياسة، ويضعنا أمام مسألة الطبقات والفئات الاجتماعية، وتآلفها، أو تنافرها، تآخيها أو تصارعها.. وهي مسألة شائكة.. ولن تحسم عبر مناقشات مسائل الادب.‏

            إن مهمة الأدب الأساسية هي أن يبدع الجمالي، ولن يتاح له ذلك إلاّ إذا عكس فنياً المسائل الجوهرية التي يطرحها عصر المبدع. وإنها لمهمة جليلة ومجيدة. ويكفيه مجداً أن يؤديها في كل حقبة من حقب التاريخ.‏
            إذا الشعب يوما أراد الحياة
            فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
            و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
            و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

            تعليق


            • #21
              رد: أسئلة الحداثة بين الواقع والشطح

              بعد انقشاع الغبار

              كل اكتشاف جديد يثير زوبعة.. ومن طبيعة الزوابع أن تثير الكثير من الغبار ... وربما كان القرن العشرون بين أكثر القرون التي عرفها التاريخ إثارة للزوابع.. فقد ورث هذا القرن الكثير من المشكلات التي طرحها القرن التاسع عشر.. وقد خيل للعلماء وقادة الفكر وللساسة، ولاصحاب النظريات الفنية والأدبية أنهم سيحسمون كل المشكلات دفعة واحدة .. وها نحن اولاء نقرع باب القرن الحادي والعشرين وفي حقائبنا من المشكلات التي سنورثها للآتين أكثر مما ورثنا من القرون الخوالي. وربما كانت مأثرة الفكر البشري الكبرى ومطمحه الاسمى منذ عهد الاساطير الاولى وحتى أيامنا، هي سعيه إلى تكوين نظريات كاملة شاملة تجيب عن كل الاسئلة التي يمكن أن تطرح في كل الامكنة وفي كل الأزمنة.. والمؤسف أن مفخرته ومأثرته كانت ومازالت احدى الثغرات فيه، وربما كانت نقطة ضعفه الاساسية.. فالنظريات الكلية لاتكون كذلك إلا إذا أغلقت دائرة النظر، ودوائر النظر المغلقة، أياً كانت رحابة آفاقها وآمادها، ستبقى دوائر مغلقة... ولن تكون أكثر من ذلك .. وإذا كانت كل دائرة من دوائر النظريات تحتوي على شيء فمن غير المنطقي أن تحتوي احداها على كل شيء..‏

              والمفترض أن تكون النظرية خلاصة للخلاصات التي وصلت إليها العلوم في مرحلة معينة من مراحل تطورها، لكن التخصصات الضيقة منذ بدايات هذا القرن، أو قبلها، تخرق هذه القاعدة الأساسية، أو المفترض أن تكون أساسية، وبدأنا نرى الاجزاء تزعم أنها بديل الكل، فصار الانسان مجموعة من العقد الجنسية في نظر الفرويدية، واختزل المجتمع إلى وسائل الانتاج في النظريات الاقتصادية - الاجتماعية، فصار الاساس بديلاُ للبناء بكامله.. ونسي الكثيرون أن حتى الاساس لايمكن أن يكون أكثر من أساس، وأن حتى الهيكل العظمي الذي هو مرتكز الجسد الانساني ليس أكثر من هيكل عظمي..‏

              وكما جعل فرويد اللاشعور أساس العالم الروحي والابداعي للانسان، واختصر اللاشعور إلى مايخص العقد الجنسية وحدها، فان أصحاب المدارس النقدية والأدبية قد أصيبوا بهذه العدوى وظلوا يعانون من حماها ولايزالون.. وكانت الحمى مصحوبة بالكثير من الحماسة والحميا.. وتعالى الكثير من الغبار في شتى الميادين .. وأرخى الكثيرون لمهار مخيلاتهم العنان.. وبلغت صرخات دعاواهم أجواز الفضاء.. وكثرت المزاعم.. صارت كل مدرسة تزعم أنها قالت الكلمة الاخيرة ..ونسي الجميع، في غمرة الحماسة أو بتأثير الحمى، أن الكلمة الأخيرة لن تقال أبداً..‏

              ودخلت البنيوية المعمعة بطبول وأبواق، كي لايضيع صوتها وسط الصخب.. وكان لها فرسانها الذين صالوا وجالوا على هواهم، وبلغت صيحاتهم أسماع دارسي الأدب عندنا فشحذوا أقلامهم على مسنها وراحوا ينافحون عنها. وقد برز بينهم دارسون موهوبون ومجتهدون أدوا لثقافتنا الحديثة خدمات لاينكرها إلا مكابر مسرف في تجاهله.‏

              وبقيت المسألة هي هي.. فنحن جميعاً ننسى أن ما نأتي به هو المكمل لماأتى أو يأتي به سوانا وليس نقيضه، إنه الاضافة إلى وليس البديل عن، وهنا أيضاً كانت نقطة ضعف البنيوية، وهنا كان أساس مشكلة البنيويين، إذ حاولوا عزل النص عزلاً تاماً عن زمانه ومكانه ودراسته لذاته وبذاته ناسين أو متناسين أنه قد ولد في زمن محدد تاريخياً، وفي بيئة بعينها. والعمل الابداعي ليس تاريخاً، لكنه لايمكن أن يولد خارج التاريخ ولايمكن أن يخرج من تاريخيته بمعنى أن لايعلق به شيء من ملامح زمانه، وهو ليس فرعاً من فروع علم الاجتماع أو علم النفس لكنه لايولد بعيداً جداً عن هذين العلمين ولابعيداً عن سواهما من العلوم الانسانية أو الطبيعية.ونسوا أيضاً أن للغة تاريخها..‏

              وكما أن القديم لايصير قديماً كله، دفعة واحدة، كذلك هي حال الجديد، فهو لايكون جديداً كله، ففي كل جديد شيء من القديم، وتاريخ الأفكار والنظريات كلها يشهد على ذلك . والنظريات الأدبية لاتولد أدبية صرفاً بل تولد معها أوقبلها نظريات لها سمات النظر العلمي الفكري، فالحداثة كانت حداثة في الفكر الفلسفي وفي نظريات العلوم أساساً، وكانت الحداثة في الأدب كنظرية رديفاً للحداثة الأخرى الأساس. وكثيراً ماتطبق النظريات في الممارسة الابداعية، أقصد الأدبية والفنية كنوع من البرهنة على شمول النظرية الفكرية- العلمية شتى الميادين، وهذا لايعني أن ليس للمبدعين قصبات سبق في هذا الجانب أو ذاك، إذ كثيراً ماتكون عناصرالنظرية الرئيسة في هذا الميدان الابداعي أو غيره قد وردت متفرقة قبل أن يخطر للمنظرين لملمة هذه العناصر وشد بعضها إلى بعض...‏

              وتكون العناصر المتناثرة في الابداع نضرة غضة، وحين يعالجها المنظرون تصبح جافة.. وشتان مابين عذوبة القصائد وجفاف علم العروض..‏

              لقد أفاد علم العروض النظاّمين وحتى الشعراء، لكنه لم يصبح شعراً ولابديلاُ للشعر، بل ماكان له أن يوجد لو لم يكن ثمة أجيال وأجيال من الشعراء، والكثير الكثير من الشعر... هل تراني مضيت بعيداً فخرجت عن الموضوع ؟ لا فالشعر هنا مثال لاأكثر.. الشعر هنا هو الصورة الحية للحياة والعروض، كمثال، نظرة تنظيرية جزئية، واحادية الجانب إلى الشعر.. وكما في الشعر كذلك في الحياة لن تكون النظريه أكثر من نظرة جزئية واحادية الجانب إلى الحياة -ولهذا ستبقى نظرة قاصرة -وأما النظرة إلى الحياة والكون بكل أبعادهما ومن جوانبهما كلها فأمر فوق طاقة البشر في مثل هذه المرحلة من مراحل تطورهم، وفي مراحل تطورهم المنظورة.ولقد رأى، يونغ، تلميذ فرويد النبيه ضيق أفق أو محدودية نظرية فرويد فحاول تعميقها وتوسيعها، مع أحترامه الكبير لاستاذه، وتقديره لجهوده، فحورب من رفاقه.. وقد حورب آخرون وسيحارب أخرون، في الميادين الاخرى، لكن العلم سيتقدم والنظرات ستغتني وتتكامل، والافاق ستتسع..‏

              ومع أنقشاع الغبار شيئاً فشيئاً بدأنا نرى الفرويديين، أو بعضهم، بدأوا يأخذون بطرف من التحليل الماركسي، وصار الماركسيون يأخذون بطرف من الفرويدية والبنيوية، ويتكلم واقعيون اشتراكيون على (رومانسية ثورية) كما أن البنيويين بدأوا يفككوون البنيوية وصار البنيويون، أو بعضهم، يتكئون أيضاً على شيء من عناصر الماركسية والفرويدية وغيرها..‏

              هل في الامر شيء من التلفيقية؟ لا.. ليست تلفيقية وإنما هي أبتكارات الذهن البشري يكمل بعضها بعضاً، على الرغم من إنها تبدو للوهلة الأولى متعارضة.. إنها وجهات نظر في الحياة من زوايا نظر مختلفة، وقد تخدم فئات اجتماعية ذات مصالح اجتماعية متعارضة، لكن العنصر المشترك فيها هو كونها نتاج جهد الذهن البشري الذي يبحث عن الحقيقة، وإن كنا لاننكر أن كثيرين قد عملوا عامدين على طمس الحقيقة أو إخفائها وراء الغبار الذي افتُعلت إثارته.‏

              تبقى مسألة أخيرة هي : لكن، هل سينجلي الغبار تماماً وتصفو الاجواء تماماً؛ أو هل ستهدأ الزوابع؟‏

              هذا محال.. لا لأن الماضي مستمر في الحاضر وسيستمر هو والحاضر في المستقبل فحسب، بل لأن زوايا النظر إلى الأمور ستظل متباينة تبعاً للمصالح ولغير المصالح أيضاً، وستثور زوابع جديدة وسوف يتصاعد الغبار والدخان، وقد يرافقها الضباب الكثيف، وستبقى للشمس فرجة تطل منها على الناس المنهمكين في البحث عنها والتوجه نحوها.‏

              المهم بعد كل زوبعة أن يستطيع الفكر المستنير إحصاء النتائج واستخلاص الزبدة بروية وموضوعية، وحينئذ ستكون الخطوة إلى الأمام أكبر ... مع ان الدرب سيمتد إلى اللانهاية.‏
              إذا الشعب يوما أراد الحياة
              فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
              و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
              و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

              تعليق


              • #22
                رد: أسئلة الحداثة بين الواقع والشطح

                بعد انقشاع الغبار

                كل اكتشاف جديد يثير زوبعة.. ومن طبيعة الزوابع أن تثير الكثير من الغبار ... وربما كان القرن العشرون بين أكثر القرون التي عرفها التاريخ إثارة للزوابع.. فقد ورث هذا القرن الكثير من المشكلات التي طرحها القرن التاسع عشر.. وقد خيل للعلماء وقادة الفكر وللساسة، ولاصحاب النظريات الفنية والأدبية أنهم سيحسمون كل المشكلات دفعة واحدة .. وها نحن اولاء نقرع باب القرن الحادي والعشرين وفي حقائبنا من المشكلات التي سنورثها للآتين أكثر مما ورثنا من القرون الخوالي. وربما كانت مأثرة الفكر البشري الكبرى ومطمحه الاسمى منذ عهد الاساطير الاولى وحتى أيامنا، هي سعيه إلى تكوين نظريات كاملة شاملة تجيب عن كل الاسئلة التي يمكن أن تطرح في كل الامكنة وفي كل الأزمنة.. والمؤسف أن مفخرته ومأثرته كانت ومازالت احدى الثغرات فيه، وربما كانت نقطة ضعفه الاساسية.. فالنظريات الكلية لاتكون كذلك إلا إذا أغلقت دائرة النظر، ودوائر النظر المغلقة، أياً كانت رحابة آفاقها وآمادها، ستبقى دوائر مغلقة... ولن تكون أكثر من ذلك .. وإذا كانت كل دائرة من دوائر النظريات تحتوي على شيء فمن غير المنطقي أن تحتوي احداها على كل شيء..‏

                والمفترض أن تكون النظرية خلاصة للخلاصات التي وصلت إليها العلوم في مرحلة معينة من مراحل تطورها، لكن التخصصات الضيقة منذ بدايات هذا القرن، أو قبلها، تخرق هذه القاعدة الأساسية، أو المفترض أن تكون أساسية، وبدأنا نرى الاجزاء تزعم أنها بديل الكل، فصار الانسان مجموعة من العقد الجنسية في نظر الفرويدية، واختزل المجتمع إلى وسائل الانتاج في النظريات الاقتصادية - الاجتماعية، فصار الاساس بديلاُ للبناء بكامله.. ونسي الكثيرون أن حتى الاساس لايمكن أن يكون أكثر من أساس، وأن حتى الهيكل العظمي الذي هو مرتكز الجسد الانساني ليس أكثر من هيكل عظمي..‏

                وكما جعل فرويد اللاشعور أساس العالم الروحي والابداعي للانسان، واختصر اللاشعور إلى مايخص العقد الجنسية وحدها، فان أصحاب المدارس النقدية والأدبية قد أصيبوا بهذه العدوى وظلوا يعانون من حماها ولايزالون.. وكانت الحمى مصحوبة بالكثير من الحماسة والحميا.. وتعالى الكثير من الغبار في شتى الميادين .. وأرخى الكثيرون لمهار مخيلاتهم العنان.. وبلغت صرخات دعاواهم أجواز الفضاء.. وكثرت المزاعم.. صارت كل مدرسة تزعم أنها قالت الكلمة الاخيرة ..ونسي الجميع، في غمرة الحماسة أو بتأثير الحمى، أن الكلمة الأخيرة لن تقال أبداً..‏

                ودخلت البنيوية المعمعة بطبول وأبواق، كي لايضيع صوتها وسط الصخب.. وكان لها فرسانها الذين صالوا وجالوا على هواهم، وبلغت صيحاتهم أسماع دارسي الأدب عندنا فشحذوا أقلامهم على مسنها وراحوا ينافحون عنها. وقد برز بينهم دارسون موهوبون ومجتهدون أدوا لثقافتنا الحديثة خدمات لاينكرها إلا مكابر مسرف في تجاهله.‏

                وبقيت المسألة هي هي.. فنحن جميعاً ننسى أن ما نأتي به هو المكمل لماأتى أو يأتي به سوانا وليس نقيضه، إنه الاضافة إلى وليس البديل عن، وهنا أيضاً كانت نقطة ضعف البنيوية، وهنا كان أساس مشكلة البنيويين، إذ حاولوا عزل النص عزلاً تاماً عن زمانه ومكانه ودراسته لذاته وبذاته ناسين أو متناسين أنه قد ولد في زمن محدد تاريخياً، وفي بيئة بعينها. والعمل الابداعي ليس تاريخاً، لكنه لايمكن أن يولد خارج التاريخ ولايمكن أن يخرج من تاريخيته بمعنى أن لايعلق به شيء من ملامح زمانه، وهو ليس فرعاً من فروع علم الاجتماع أو علم النفس لكنه لايولد بعيداً جداً عن هذين العلمين ولابعيداً عن سواهما من العلوم الانسانية أو الطبيعية.ونسوا أيضاً أن للغة تاريخها..‏

                وكما أن القديم لايصير قديماً كله، دفعة واحدة، كذلك هي حال الجديد، فهو لايكون جديداً كله، ففي كل جديد شيء من القديم، وتاريخ الأفكار والنظريات كلها يشهد على ذلك . والنظريات الأدبية لاتولد أدبية صرفاً بل تولد معها أوقبلها نظريات لها سمات النظر العلمي الفكري، فالحداثة كانت حداثة في الفكر الفلسفي وفي نظريات العلوم أساساً، وكانت الحداثة في الأدب كنظرية رديفاً للحداثة الأخرى الأساس. وكثيراً ماتطبق النظريات في الممارسة الابداعية، أقصد الأدبية والفنية كنوع من البرهنة على شمول النظرية الفكرية- العلمية شتى الميادين، وهذا لايعني أن ليس للمبدعين قصبات سبق في هذا الجانب أو ذاك، إذ كثيراً ماتكون عناصرالنظرية الرئيسة في هذا الميدان الابداعي أو غيره قد وردت متفرقة قبل أن يخطر للمنظرين لملمة هذه العناصر وشد بعضها إلى بعض...‏

                وتكون العناصر المتناثرة في الابداع نضرة غضة، وحين يعالجها المنظرون تصبح جافة.. وشتان مابين عذوبة القصائد وجفاف علم العروض..‏

                لقد أفاد علم العروض النظاّمين وحتى الشعراء، لكنه لم يصبح شعراً ولابديلاُ للشعر، بل ماكان له أن يوجد لو لم يكن ثمة أجيال وأجيال من الشعراء، والكثير الكثير من الشعر... هل تراني مضيت بعيداً فخرجت عن الموضوع ؟ لا فالشعر هنا مثال لاأكثر.. الشعر هنا هو الصورة الحية للحياة والعروض، كمثال، نظرة تنظيرية جزئية، واحادية الجانب إلى الشعر.. وكما في الشعر كذلك في الحياة لن تكون النظريه أكثر من نظرة جزئية واحادية الجانب إلى الحياة -ولهذا ستبقى نظرة قاصرة -وأما النظرة إلى الحياة والكون بكل أبعادهما ومن جوانبهما كلها فأمر فوق طاقة البشر في مثل هذه المرحلة من مراحل تطورهم، وفي مراحل تطورهم المنظورة.ولقد رأى، يونغ، تلميذ فرويد النبيه ضيق أفق أو محدودية نظرية فرويد فحاول تعميقها وتوسيعها، مع أحترامه الكبير لاستاذه، وتقديره لجهوده، فحورب من رفاقه.. وقد حورب آخرون وسيحارب أخرون، في الميادين الاخرى، لكن العلم سيتقدم والنظرات ستغتني وتتكامل، والافاق ستتسع..‏

                ومع أنقشاع الغبار شيئاً فشيئاً بدأنا نرى الفرويديين، أو بعضهم، بدأوا يأخذون بطرف من التحليل الماركسي، وصار الماركسيون يأخذون بطرف من الفرويدية والبنيوية، ويتكلم واقعيون اشتراكيون على (رومانسية ثورية) كما أن البنيويين بدأوا يفككوون البنيوية وصار البنيويون، أو بعضهم، يتكئون أيضاً على شيء من عناصر الماركسية والفرويدية وغيرها..‏

                هل في الامر شيء من التلفيقية؟ لا.. ليست تلفيقية وإنما هي أبتكارات الذهن البشري يكمل بعضها بعضاً، على الرغم من إنها تبدو للوهلة الأولى متعارضة.. إنها وجهات نظر في الحياة من زوايا نظر مختلفة، وقد تخدم فئات اجتماعية ذات مصالح اجتماعية متعارضة، لكن العنصر المشترك فيها هو كونها نتاج جهد الذهن البشري الذي يبحث عن الحقيقة، وإن كنا لاننكر أن كثيرين قد عملوا عامدين على طمس الحقيقة أو إخفائها وراء الغبار الذي افتُعلت إثارته.‏

                تبقى مسألة أخيرة هي : لكن، هل سينجلي الغبار تماماً وتصفو الاجواء تماماً؛ أو هل ستهدأ الزوابع؟‏

                هذا محال.. لا لأن الماضي مستمر في الحاضر وسيستمر هو والحاضر في المستقبل فحسب، بل لأن زوايا النظر إلى الأمور ستظل متباينة تبعاً للمصالح ولغير المصالح أيضاً، وستثور زوابع جديدة وسوف يتصاعد الغبار والدخان، وقد يرافقها الضباب الكثيف، وستبقى للشمس فرجة تطل منها على الناس المنهمكين في البحث عنها والتوجه نحوها.‏

                المهم بعد كل زوبعة أن يستطيع الفكر المستنير إحصاء النتائج واستخلاص الزبدة بروية وموضوعية، وحينئذ ستكون الخطوة إلى الأمام أكبر ... مع ان الدرب سيمتد إلى اللانهاية.‏
                إذا الشعب يوما أراد الحياة
                فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                تعليق

                يعمل...
                X