رد: أسئلة الحداثة بين الواقع والشطح
الرأسمالية وأدب الأطفال
الموضوع كالبحر سعة وعمقاً وتلاطم أمواج وغنى تناقضات، ولما كان البحر لا ينقل على الورق فسوف أسعى جاهداً كي أقدم لكم خريطة لبحر، أجل خريطة لا أكثر، وسأعمل جاهداً كي تكون خريطة دقيقة، وموضوعية وحيادية..
أعلم أن الحياد المطلق غير موجود في الكون الذي نعيش فيه، والموضوعية المطلقة هي الأخرى أيضاً غير موجودة... فكيف يمكن أن نرى الموضوعي المطلق بوسائلنا الفردية المحدودة، وكيف يمكن أن نتخلص من تأثير مشاعرنا واحساساتنا وبها نتصل بالأشياء، ونتلقى المعطيات؟
وقد يسأل سائل: وما نفع الكلام إذا لم يتسم بالشمول والموضوعية؟
وأجيب بلا أدنى تردد: قدرنا ألاّ نصل إليهما... وإنما غاية جهدنا الاقتراب منهما ما استطعنا.
تلك هي نقطة الانطلاق الأولى إلى الكلام على الموضوع - البحر.. وثمة متكأ آخر سأتخذه ذريعة للكلام المحدد ومنطلقاً له هو التالي:
جاء في تعريف بالهيئة العالمية لأدب ألأطفال (نشرته جريدة النهار البيروتية) مايلي: "الكتابة للأطفال والأولاد فن مستحدث، ظهرت طلائعه في أواخر القرن السابع عشر، في أوروبا، مع الأديب الفرنسي شارل برو الذي ألف قصصاً للأولاد، أشهرها "ساندريلا" ثم في الفترة بين الثامن عشر والتاسع عشر زاد رواد هذا الفن، نذكر منهم على المثال (كذا) الأديبة الفرنسية الكونتسة دوسوغير واضعة حكايات تحت اسم "تعاسات صوفي" والكاتب الدانماركي هانس كريستيان أندرسن صاحب كتاب "حكايات للأولاد" والكاتب الأنكليزي لويس كارول الذي عرفت له سلسلة كتب باسم "أليس في بلاد العجائب" (النهار في 23/5/1991).
تلت هذه المقدمة فقرة تتكلم على النهضة الأوروبية التي دعت إلى إرساء العدالة والمساواة بين البشر، وكان من أفكار هذه النهضة إدراك قيمة الفرد في المجتمع، والعمل على تنشئته منذ الطفولة تنشئة تراعي صحة الجسم، وسلامة العقل وتهذيب الخلق.. الخ".
إن المعطيات غير الدقيقة هي كالمقدمات غير الدقيقة، في مقولات المنطق الصوري تؤدي الى تعميمات غير دقيقة وبالتالي غير صائبة.
وإذا كان الكلام يدور حول أدب الأطفال الذي بدأ بحكاية ساندريلا ويقصد به أدب الأطفال في أوروبا وحدها فإن الخطأ في ذلك لن يكون فادحاً فداحته فيما لو قصد به أدب الأطفال، أي الحكاية الراقية في العالم بأسره.
يقول الكاتب البلغاري إيفريم كارانفيلوف في كلامه على "الشيوخ والشبان" وعلاقة الإنسان بجذوره: "إن الأهم للتطور هو -ألاّ يعتقد الشبان أن كل شيء يبدأ معهم-وألا يعتقد الشيوخ أن كل شيء سينتهي معهم"( إيفريم كارانفيلوف- "الجذور والعجلات" ص 187).
ويبدو لي أن هذه الحكمة تنطبق أيضاً على التشكيلات الاجتماعية المتعاقبة لا على الأجيال البشرية المتعاقبة وحسب. وليس من المنطق أن تزعم تشكيلة اجتماعية متأخرة تاريخياً مثل الرأسمالية أن الحكايات بجمالها وحكمتها فن استحدثته هي ثم طورته... وأما دعوتها "إلى إرساء العدالة والمساواة بين البشر" و"إدراك قيمة الفرد في المجتمع" فزعم قد يمكن تصديقه إلى حد ما إذا عدنا إلى مراحل اندفاعها الأولى حين حاربت باسم تلك القيم التشكيلة الاجتماعية التي سبقتها.
أما الآن فكل المعطيات تؤكد أنها قد تخلت عن تلك القيم، وشرعت تحاربها بكل ماتملك من وسائل.
إن "ساندريلا" هي إحدى الحكايات الناجحة التي أحبها الأطفال كثيراً، وهي ذات أكثر من بعد، ومستوياتها متعددة، وقد عدّها بعض النقاد مثالاً للمبدع الذي يخرج من مصهر العمل الشاق الدائب مبدعاً متألقاً، في حين تخيب آمال الذين يتهافتون على التبرج والسعي إلى حيث الاضواء الباهرة.... إن الحورية تخرج من المطبخ" (راجع ايفريم كارانفيلوف، "مقالات مختارة" ص 183 ومايليها).
وقد توحي لنا الحكاية ذاتها بأفكار أخرى غير التي أوحت بها إلى كارنفيلوف إذا نظرنا إليها من زاوية نظر مختلفة عن الزاوية التي نظر منها إليها.
ولكنها تبقى، على كل حال، احدى الحكايات الجيدة.... وكونها كذلك لا يسوّغ الزعم أنها وأخواتها: "فن الأطفال المستحدث الذي ظهرت طلائعه في أواخر القرن السابع عشر".
يقول جان بول سارتر: "إن الإنسان هو دائماً سارد حكايات".(جان بول سارتر "الغثيان" ص 59)... وأزعم أن قوله هذا يصح على الإنسان في الماضي والحاضر، بل أزعم أيضاً أن الإنسان سيبقى سارد حكايات في المستقبل أيضاً. لقد ولدت الحكاية مع الإنسان وستبقى مابقي الإنسان... وإني لأزعم أن الإنسان قد حكى الحكايات حتى قبل أن يتعلم الكلام... ولا يمكن أن يكون الأمر إلاّ كذلك، فقد تكلم الجسد الإنساني قبل أن يتكلم لسان الإنسان، وعبر الجسد عن أفراح الناس وأحزانهم قبل اختراع الكلام بزمن طويل. أليس التاريخ حكاية، وهل يوجد فن خارج التاريخ، أليس في كل فن حكاية؟..
زعم الناس منذ الأزمنة القديمة أن الأرض محور الكون، ثم جعلوا الإنسان سيد الأرض بلا منازع، وهاهم الأوروبيون بعد أن نشأت الرأسمالية بين ظهرانيهم يتبنون هذا الزعم القديم ويضيفون إليه زعماً آخر هو أنهم المبادرون إلى تأسيس كل شيء إنساني جميل، حتى الحكايات، وكل ذلك كي يجعلوا كلامهم على المركزية الأوروبية مقبولاً ومستنداً على قاعدة ما، ومن ثم كي يزعموا أن أوروبا مهد الحضارة الإنسانية ومرضعتها، وبالتالي فهي سيدة أناس الأرض، ومن ثم فهي سيدة الكون.
ليس في إمكان أحد أن ينكر ماقدمته الثورة الصناعية المعاصرة من تطوير للقوى المنتجة ولا ما حققته الدول الصناعية المتطورة من إنجازات علمية، ولا ما ابتكرته من وسائل لنشر الثقافة. إن الصحافة المقروءة والمسموعة والمرئية قد غطت الكرة الأرضية بشبكة واسعة وغزيرة الإنتاج، ولقد قدمت للبشرية خدمات جليلة في هذا الميدان، وإذا نظرنا إلى هذا الكم الهائل الذي يضج به الأثير والذي تقذفه المطابع الحديثة من معلومات وقفنا ذاهلين... فحتى السحر القديم ماكان في وسعه أن يتخيل القليل مما يحدث أمام أنظارنا اليوم.
ولكن للمسألة وجهها الآخر.. فلقد تحول كل شيء في أيامنا إلى "بزنس" وراحت الاحتكارات تتنافس في كل المجالات محولة كل شيء إلى سلعة... القيم العلمية والثقافية صارت تخضع لقوانين السوق، وكما انتشرت الحلي المزيفة انتشرت أيضاً الثقافة المزيفة، وأوجد البزنس الثقافي سوقاً رائجة جداً للقيم الهابطة جداً.... وهاهي ذي البشرية تستفيق من ذهولها لتجد نفسها في بيئة ملوثة... وقد اجتاز التلوث الحد الخطِر الذي يهدد بالقضاء الكامل على فاعلية التراب والماء والهواء الحيوية، وبالتالي القضاء الكامل على الحياة على الأرض.
وأصاب أدب الأطفال ما أصاب الفنون والآداب وما أصاب السلع الأخرى... فقد اكتسبت كلها طابعاً استهلاكياً وجسدت كلها سمات "الأخلاق" التي حرصت الرأسمالية على تجسيدها في مختلف مناحي الحياة الاجتماعية والروحية.
لكن ذلك لم يتم دفعة واحدة بل على مراحل نستطيع أن نقسمها، جوازاً، إلى ثلاث...
"إذا عدنا إلى البداية التي حددوها بأواخر القرن السابع عشر، ثم انطلقنا من "ساندريلا" ثم من اندرسن معتبرين أن تلك المرحلة هي المرحلة الأولى نجد أن البرجوازية إذ عملت على بسط هيمنتها الروحية كي تفرض من ثم نمطها الاستهلاكي على مجتمعاتها وعلى العالم قد عملت جاهدة على خلق أساطير خاصة بها، وإبراز نماذج من الأبطال يحملون سماتها العامة التي تميزها كطبقة.. ولقد استفادت كثيراً من مكونات الحكايات والأساطير القديمة من حيث بناها الشكلانية كحكايات وأساطير وكذلك من عنصري الخيال الشعبي والأعاجيب التي كانت من مكونات تلك الحكايات وتلك الأساطير، ولقد أدركت بحسها الطبقي أن تلك الحكايات وتلك الأساطير يمكن استخدامها، مع شيء من التعديل، كسلاح فعّال في معركتها وخدمة لمصالحها، فتخلت عن ادعاء الصرامة العلمية، التي رفعتها شعاراً لها، في الموقف من "الخرافات" وقررت الإفادة منها...
أما البطل البرجوازي الجديد، وقد تكوّن هو الآخر على مراحل ولا يزال يتطور مع تطور البرجوازية المعاصرة، فقد بدأ يمتاز بسمات جديدة أضيفت إلى سمات البطل القديم أو افترقت عنها كي يصير في نهاية المطاف بطلاً برجوازياً حقاً. ومن بعض سماته الخاصة فردانيته المفرطة وعدم اعتماده على الآخرين، بل إن الكاتب البرجوازي الصرف يضعه في تعارض شبه مطلق مع الآخرين جميعاً، ثم يجعله يتغلب أخيراً، على كل العقبات والصعاب وينتصر انتصاراً باهراً.. وقد يُصور وكأنه من طينة أخرى غير طينة البشر.. ولنتذكر أن "فرخ البط القبيح" لاندرسن قد خذله الجميع وكرهوه وتخلت عنه حتى أمه، وقد انتصر على الرغم من كل ذلك لأنه كان تماً وضعه القدر بين فراخ البط.. أجل.. حتى اندرسن العظيم لم يستطع التحرر تماماً من تأثير أفكار الطبقة السائدة، وقد سوّغ ذلك بأن بطله كان رمزاً للمبدع لا للإنسان عموماً.
وإذا كان بطل الحكايات الشعبية القديم يذهب مغامراً في سبيل سعادة الآخرين أو لرد الأذى عنهم (جلجامش انطلق باحثاً عن الدواء الذي يرد سطوة الموت عن البشر، والكثيرون غيره انطلقوا لقتال الطغاة أو الهولات- غول أو تنين) وإذا كان البطل القديم يحمل حفنة من تراب الوطن لتكون حرزاً له، أو يتزود برغيف خبزته أمّه كي يستمد منه القوة التي لا تنضب، فإن للبطل البرجوازي الجديد هدفاً واحداً هو خلاصه الفردي، وكثيراً ما تصطنع الصعاب التي توضع في طريقه، وتصوّر على أنها صعاب، لاسمة اجتماعية أوطبقية لها، بل هي ناجمة عن سوء خلق زوجة الأب الشريرة، أو قسوة ذلك الأب الجاهل أو ما ماثل ذلك.
في "ساندريلا" مثلاً، نجد فتاة تقسو عليها زوج أبيها وتحتقرها ابنتاها ظاهراً في حين تغاران منها وتحسدانها، يدفعهما الحسد والغيرة إلى مزيد من القسوة، وتتحمل الفتاة كل المنغصات بصبر وتقوم بأقسى الأعمال المنزلية، وتغتني روحاً فيضفي ذلك مزيداً من الجمال على جمالها، وكل هذه التراكمات الكمية تؤدي في النهاية إلى التبدل الكيفي الذي يأتي على شكل أحداث متلاحقة ومتواترة ومنسجمة مع منطق الحكاية الفني وإن خالفت منطق الواقع.. ومن ثم "الحجر الذي رفضه البناؤون صار رأس الزاوية... (انجيل متى /اصحاح/ 2 الآية41).
إن فكرة الحكاية المحورية ليست مبتكرة، ولسنا بحاجة إلى إثبات ذلك.. فالأمثلة كثيرة جداً.. والمثل الذي أوردته من الانجيل يلخص فكرتها. إن مايهمني الآن هو مسألة أخرى تتعلق بالشكل وبالمواقف من الإنسان والعمل، في إحدى حكاياتنا وفي "ساندريلا" المبتكرة!
الحكاية شرقية الطابع وحتى الآن لم أعثر على مصدر موثوق لها.. إنها إحدى الحكايات الشعبية المدهشة.. كانت أمي تحكيها لي يوم كنت طفلاً وما كنت أمّلُّ سماعها.. ولقد حفظتها بكل تفاصيلها منذ تلك السنوات البعيدة مع أنني لم أدرك، الا بعد أن نضجت، كل مغازيها الفلسفية والاجتماعية. تحكي الحكاية قصة حطاب فقير وقع على جذع شجرة يابسة في الغابة فحاول أن يقطعه ويبيعه حطباً فيطعم أولاده.. وبعد أن يئس من قطعه، جلس قانطاً قربه كي يرتاح، فانشق الجذع فجاءة وخرج منه رجل "طوله شبران، وقبعته ذراعان وعصاه أطول منه"، وعرض على الحطاب أن يعطيه كيساً من الليرات الذهبيات لقاء أن يجلب ابنته الكبرى إليه لتخدمه...
ويرضخ المسكين وتقبل البنت التضحية في سبيل أسرتها.. ثم تنفد النقود فيعود الأب ويحاول قطع الجذع فيخرج إليه الرجل القزم ويعقد معه صفقة أخرى فيأخذ كيساً من النقود ويحضر ابنته الوسطى.. ثم تنفد النقود وتأتي الابنة الثالثة فندخل معها إلى منزل القزم فنرى منزلاً عجيباً ولكننا لا نجد أثراً للاختين... ثم يذهب الرجل في سفر وتفتح البنت الغرفة التي حظر عليها دخولها فتجد أختيها قد علقتا من شعرهما إلى السقف وقد هلكت الأولى وأشرفت الثانية على الهلاك..
وتنزلها أختها وتسعفها ثم تخرجان من المكان اللعين وتهربان، لكن الرجل الساحر يأتي ويكتشف هربهما فيتبع أثرهما ويراهما من بعد تعبران النهر إلى جهة لا سلطان له على من يصلون إليها، فيدعوهما إلى العودة فتأبيان فيقرأ إحدى التعزيمات السحرية فتتحول الصغرى إلى كلبة وتتحول الكبرى إلى بغلة.
وتصل المسكينتان إلى بيت في طرف المدينة يسكنه شيخ وزوجه العجوز فيأويانهما.. وتتوالى الأحداث.. وتعمل الكلبة والبغلة أعمالاً تدهش الشيخ وزوجه.. ثم تدخل الكلبة حديقة القصر الملكي لتحضر بعض النباتات الصالحة للأكل فترى البركة الرائعة فتخلع جلد الكلبة وتستحم في الماء وهي لا تعرف أن ابن الملك قد شاهدها.. وحين ينزل من القصر ويقترب منها ترتدي ثوب الكلبة سريعاً وتهرب إلى بيت الشيخ وزوجه بعد أن تقع فردة حذائها في الحديقة.
ويمرض ابن الملك حباً.. ويرسل الملك جماعة من الجند تطوف بالبيوت بيتاً فبيتاً ومعها فردة الحذاء فلا تصلح لرجل أية فتاة من فتيات المدينة.. ثم يصل الجند إلى البيت الذي فيه الكلبة فيترددون ثم يدخلون ويجلسون كي يرتاحوا بعد أن وضعوا فردة الحذاء جانباً فتندفع الكلبة وتحتذيها وسط دهشة الجميع واستغرابهم.
ويأتي الملك والوزير على استحياء، وقد ألح عليهما الفتى العاشق، ويخطبان الكلبة إلى الأمير فيتزوجها ويحتال عليها ويحرق ثوبها الكلابي فتعود فتاة رائعة الجمال وتتحرر أختها أيضاً من السحر وتعود فتاة جميلة.. ويخطبها ابن الوزير.. فيقام العرس للاختين ويعيش الجميع بسرور وهناء.
إن فقدان فردة الحذاء عنصر مشترك بين الحكايتين.. ولكن الحكاية العربية، أو لنقل الشرقية، أغنى محتوى وأكثر التصاقاً بحياة الفقراء، وهي من ثم ذات محتوى اجتماعي- اقتصادي فائق الأهمية.. فلقد توصل الحاكي هنا إلى النتيجة التي توصل إليها بعض علماء الاقتصاد والاجتماع والتي تقول إن العمل هو الذي يرقى بالإنسان ويجعله إنساناً حقاً... بل ان الحكاية الشرقية تقول أكثر من ذلك.. فهي تقول لنا دون مواربة إن العمل القذر غير الإنساني قد يقتل جسد الإنسان أو يفقده إنسانيته ويحوله إلى حيوان ثم لا يكون له خلاص إلا بالعمل الإنساني.. ولقد احتاج الحاكي إلى اللجوء إلى "السحري" الخارق كي يبرر الانتقال النوعي- من إنسان إلى حيوان، ثم احتاج إلى النار فحرق بها سواد السحر وظلاميته كي يشرق وجه الإنسان الناصع.. وفي ساندريلا "خرجت الحورية من المطبخ" كما قال كارانفيلوف..
ويخطر لي سؤال: هل سمع كاتب "ساندريلا" هذه الحكاية واستفاد من بعض عناصرها؟
سيبقى الجواب معلقاً.. وثمة الكثير من الأسئلة التي لن نجد الأجوبة الشافية عنها.. فقد تمازجت حكايات الشعوب تمازجاً عجيباً على مر الزمن. ومالاشك فيه هو أن الدعوة إلى "إرساء العدالة والمساواة بين البشر"..... وادراك قيمة الفرد في المجتمع" لم يكونا اختراعاً "نهضوياً" أوروبياً كما يزعم الزاعمون.
وثمة أمر آخر شديد الوضوح هو أن شارل برو قد استند إلى عنصر الأعجوبة، أي اعتمد على الخارق السحري، كي يكتمل سياق الحكاية الفني، والاستناد على مثل هذا العنصر ليس، هو الآخر، بالأمر المستحدث، وليس للقرن السابع عشر فضل في استحداثه، وإنني لأزعم أن في حكايات "كليلة ودمنة" وهي حكايات آسيوية صرف، وقد وضعت قبل القرن السابع عشر بقرون عديدة، من الابتعاد عن عنصر الاعجوبة المجاني، ومن الاقتراب من منطق عصر النهضة العلمي أكثر كثيراً مما في "ساندريلا" على سبيل المثال ناهيك عما في غيرها.
فهل يدرك أصحاب نظرية "المركزية الأوروبية" ذلك ثم يتجاهلونه أم أنهم يجهلونه فعلاً؟
وإذا كان كاتب "ساندريلا" لم يطلع على حكايات "كليلة ودمنة"، وهذا محتمل، فهل من المحتمل أيضاً ألاَّ يكون قد سمع أو قرأ، حكاية واحدة؛ على الأقل، من حكايات "ألف ليلة وليلة" وهي الحكايات الأكثر شعبية في العالم؟
أما كاتب الحكايات الدانماركي العظيم أندرسن فقد اطلّع على حكايات "ألف ليلة وليلة" وثمة أمور أخرى في سيرته الذاتية تستدعي الوقوف عندها، وهي أمور ذات دلالة كبيرة فيما يخص المسألة التي نحن في صددها.
يقول الكاتب البلغاري سفيتوسلاف مينكوف الذي ترجم حكايات أندرسن إلى البلغارية وقدم عليها مقدمة هامة: "في أماسي الشتاء الطويلة كان الحذّاء (والد اندرسن كان حذاء -ملحوظة من م.ع) يأخذ عن رف صغير قرب النافذة أحب الكتب ويقرأ لامرأته وابنه خرافات الفرنسي لافونتين، أو كوميديات الدانماركي هولبرغ، أو حكايات "ألف ليلة وليلة" (حكايات اندرسن- بالبلغارية، الصحفتان 5 و 6 -والمقتطف من ترجمة م.ع).
"وساحر الكلمة الجبار هانس كريستيان اندرسن" كما يدعوه مينكوف (ص14 من المرجع المذكور أعلاه) قد "رضع مذ كان طفلاً حكايات العجائز الفقيرات المثيرة في مدينة أودينسيه" (ص 12- مقدمة حكايات اندرسن).
وفي كتابيه الأول والثاني من كتب الحكايات، وفاقاً لكلمات المؤلف نفسه فإنه قد "حكيت بتصرف" بعض الحكايات الشعبية الدانماركية (الأميرة فوق حبة الحمص) و (طيور التم البرية) و (سيلدا) وغيرها.. (المرجع السابق ص123).
ويورد مينكوف ملحوظة ذات دلالة وهي أن أندرسن الذي وضع كتابه الأول تحت عنوان "حكايات للأطفال" جعل عنوان كتابه الثاني "حكايات جديدة" أي أنه قد تخلى عن كلمة "للأطفال" وذلك لأن الصغار والكبار يقرؤون الحكاية (المرجع السابق ص 13).
ويبرز مينكوف فكرة أخرى ذات دلالة هي قول اندرسن:
"ليس ثمة حكايات أجمل من تلك التي تبتكرها الحياة ذاتها" (حكايات اندرسن ص 14).
وما لاشك فيه هو أن الحياة قد وجدت قبل وجود النهضة الأوروبية، أي قبل القرن السابع عشر بقرون كثيرة، وقبل وجود "الحلم بقيام مركزية أوروبية" وقد ابتكرت الحياة حكايات جميلة منذ أن كانت الحياة.
إن أندرسن بتخليه عن كلمة "للأطفال" قد انتهج الخطة ذاتها التي انتهجها واضع كتاب "كليلة ودمنة" التي ذكرها ابن المقفع في تقديمه الكتاب... فبعد أن يقول على الصفحة 81: "وينبغي لمن قرأ هذا الكتاب أن يعرف الوجوه التي وضعت له وإلى أي غاية جرى مؤلفه فيه عندما نسبه إلى البهائم وأضافه إلى غير مفصح وغير ذلك من الأوضاع التي جعلها أمثالاً.... الخ". "كليلة ودمنة" تحقيق مصطفى لطفي المنفلوطي -دار الكتاب العربي، بيروت- لبنان) يمضي إلى القول بمزيد من التفصيل مستفيداً من المقدمة التي وضعها بهنود بن سحوان المعروف بعلي بن الشاه الفارسي، يقول ابن المقفع:
"وينبغي للناظر في هذا الكتاب أن يعلم أنه ينقسم إلى أربعة أغراض: أحدها ما قُصد فيه إلى وضعه على ألسنة البهائم غير الناطقة ليسارع لقراءاته أهل الهزل من الشبان فتستمال به قلوبهم له لأنه الغرض الوارد من حيل الحيوانات، والثاني إظهار خيالات الحيوانات بصنوف الأصباغ والألوان ليكون أنساً لقلوب الملوك ويكون حرصهم عليه أشد للنزهة في تلك الصور، والثالث أن يكون على هذه الصفة، فيتخذه الملوك والسوقة فيكثر بذلك انتساخه، ولا يبطل فيخلق على مرور الأيام، ولينتفع بذلك المصور والناسخ أبداً، والغرض الرابع وهو الأقصى مخصوص بالفيلسوف خاصة" ("كليلة ودمنة " ص 98 و ص 99).
أجل إن العمل الإبداعي الحق له أكثر من مستوى، وأكثر من غرض، وقد أدرك ذلك ابن المقفع واندرسن وسواهما..
لقد ترسخت الحكايات والأساطير واكتملت حيث قامت الحضارت العريقة، والتجربة الرأسمالية المعاصرة لم تترسخ بعد في وعي الشعوب، ولم تضرب جذوراً تصل إلى أعماق التربة التي تكونت عبر عشرات القرون، وليس لدى الحضارة المعاصرة الوقت لذلك، فهي مستعجلة جداً، ولهذا لا نراها قادرة على خلق أساطيرها وحكاياتها الخاصة بها، والتي تعبر عن ميثيولوجيتها.. والرأسمالية، أصلاً، لا تطمح إلى خلق ميثيولوجيا جديدة... إنها تسعى إلى فرض هيمنتها "الروحية" بوسائل أخرى، مع استخدامها الحكايات أحياناً، ووسائلها وسائل فظيعة تصل إلى حد القضاء على كل ماهو روحي، أو يمت بصلة إلى القيم الروحية والمناقب الأخلاقية.. لقد خلقت صنماً أوحد هو المال.. والبطل المعاصر هو الذي يستطيع الحصول على أكبر قدر من الربح.. وليس مهماً إطلاقاً أن يسأله أحد: كيف؟ فليس ثمة أهمية لمثل هذا السؤال.
فالمال هو الغاية القصوى، وكل الوسائل مشروعة في سبيل الحصول عليه... فالغاية تبرر الواسطة.
أما عبقرية أندرسن فقد تجلت وتألقت في عمله على خلق حكايات وأساطير معاصرة تعكس روح عصره بعمق ورحابة. لقد قرأ الواقع الذي عاشه وتطلع إلى المستقبل من غير أن يكف عن النظر إلى الماضي.ومن غير أن يقطع جذوره الضاربة في الماضي، وإذ فهم الماضي جيداً استطاع أن يرى رؤية واضحة الجديد الذي يولد، لقد أدرك أن بذرة القمح التي تبذر اليوم هي حبة القمح التي بذرت في الماضي، والتربة هي التربة، وأما الذي تغير فهو المحراث والحصّادة والمطحنة، وبعض الأسمدة... ولقد خشي أن تقتل الالة الروح الحي في الحبة وفي القلب الحي.
ابتهج اندرسن بالمنجزات العلمية الجديدة وعبر عن إعجابه الشديد بها، وكانت حكاية "التنين البحري الكبير" "مديحة شاعرية لاقامة أول خط اتصال هاتفي عبر المحيط بين أوروبا وأمريكا" (حكايات اندرسن ص 14).
ولأنه كان عبقرياً وثاقب النظر فقد رأى وجه الرأسمالية الآخر أيضاً، إنها تعمل على اختراع آلات تدير بها كل شيء... ولهذا وجهان متناقضان، وكانت حكاية "البلبل" أغنية فائقة العذوبة تمجد المبدع الحق، الكائن الحي ذا الحنجرة العجيبة الذي لن تحل محله أية آلة مهما أتقن صنعها.، "وكان السياح يؤمون مدينة الامبراطور من كافة نواحي العالم. فيعجبون بالمدينة وبالقصر والحديقة، لكنهم إذا سمعوا البلبل قالوا كلهم: "هذا خيرها جميعاً! " أقاصيص هانس أندرسن- ترجمة محمود إبراهيم الدسوقي- القاهرة، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر عام 1940- ص 76-77).
وتطوف الكتب التي تتحدث عن البلبل أقطار العالم ثم يصل أحدها إلى يد الامبراطور.. ويكون سؤاله: "أيمكن أن يكون هناك طائر كهذا في امبراطوريتي، بل في حديقتي من دون أن أسمع به؟" (المصدر السابق ص 77).
ويصدر الأمر الامبراطوري: "أريد أن يأتي ويغرد أمامي هذا المساء، أيصح أن تعلم الدنيا كلها ماعندي، وأنا لا أعلمه! (ص 77).
وندرك مغزى هذا الكلام على حقيقته، إذا عرفنا أن النقاد الدانماركيين قد آذوا أندرسن وافتروا عليه... ثم جاءه المجد والشهرة من الخارج...
ومضى نصف الحاشية مع "فتاة المطبخ" للبحث عن البلبل. ويعلو خوار بقرة ويقول غلمان البلاط: "الآن وقعنا عليه!" (ص 78) ثم يسمعون نقيق الضفادع: "فقال واعظ البلاط الأول: هذا مدهش فالآن أسمعه، إن له صوتاً كرنين أجراس الكنيسة الصغيرة"(ص 79).
وحين أشارت البنت الصغيرة إلى طائر أشهب صغير بين الأغصان قال الفارس: "أممكن هذا؟ ماكنت أظن ذلك، فما أبسط منظره!" (ص79).
ويذهب البلبل ويشدو في القصر الامبراطوري وتترقرق الدموع في عيني الامبراطور ويأمر بأن يطوق عنق البلبل بخفيه الامبراطوريين الذهبيين.. ويخبره البلبل أن دموعه أغلى عنده من الذهب.
ويحاول الحمقى تقليد المبدع الحق فيخفقون ثم يحضرون للامبراطور بلبلاً صناعياً محلى بالذهب والفضة... ويهرب البلبل الحقيقي من القصر.
يعجب الامبراطور وحاشيته بالاغنية الاصطناعية التي تتكرر على نمط واحد.. ويقول صياد السمك الذي سمع صوت البلبل الصناعي: "إن صوت هذا البلبل جميل جداً يكاد يشبه صوت البلبل الحقيقي، لكنه ينقصه شيء لا أدري ماهو.. "(المصدر السابق. ص 82 وص 83).
ويسخر من النقاد الذين يؤلفون المجلدات الكثيرة في امتداح أغنية البلبل الصناعي اليتيمة.... ثم تتعطل آلية البلبل الصناعي. ويستدعى صانع الساعات ويصلحه بعض الاصلاح.. وحين يحاصر الموت الامبراطور يطلب من البلبل الصناعي الغناء فلا يستطيع:"فلم يكن هناك أحد يدير لولبه" (ص 85).
ويأتي البلبل الحقيقي... وينشد أناشيده العذبة المبتكرة فيتعافى الامبراطور ويطلب من البلبل البقاء في القصر فيخبره البلبل أنه لا يطيق الانحباس في القصر: "إن المغني الصغير يطير بعيداً إلى كوخ السماك ومزرعة القروي، إلى جميع من هم بعيدون عنك وعن بلاطك، إن قلبك أحب إليَّ من تاجك" (المرجع السابق ص 86).
وندرك أن أندرسن قد حدثنا حديث الماضي ليحذرنا مما سيحمله المستقبل، وكانت الآلات تتطور تطوراً صاعقاً أمام ناظريه... ولقد أهاب بنا ناصحاً: وازنوا بين الآلة وبين قلوبكم.. لقدخلقت الآلة كي تخدمكم فلا تدعوها تحل محلكم.
وبعد أن ينذرنا في حكاية "قطرة الماء" (ص 318-319) مما سيجلبه التنافس الرأسمالي من ويلات وفواجع يهتف بنا في حكاية "مباراة الوثب": "أجل، إن البلادة والثقل يفوزان اليوم! البلادة والثقل يفوزان اليوم! "(المصدر نفسه ص340)
كان احترام الإنسان والدعوة إلى تحريره وإطلاق قواه المبدعة في أساس الحكايات الجميلة التي طورها هانس كريستيان أندرسن، وفي أساس تلك الحكايات التي وضعها... وحين كانت الرأسمالية تكافح الارستقراطية لتحل محلها ماكانت لتمانع في استخدام كل الوسائل في نضالها هذا.. وكثيراً ماكانت تزعم أنها تخوض المعركة باسم الإنسان وفي سبيل الحرية والعدالة للجميع.. ولم تر مانعاً من أن تنتشر بين الناس حكايات أندرسن.
في المرحلة التالية، المتوسطة من مراحل تطور أدب الأطفال في ظل سيادة الرأسمالية صارت الكثرة المطلقة من كتب الأطفال في بلدان الرأسمالية المتطورة تدور حول مصائر أبطال من الأطفال النظفاء البيض المهذبين جداً، الذين تعترضهم بعض المصاعب لا من حيث الوضع المعاشي-الاجتماعي بل هي مصاعب من نوع آخر، تخص تصرفهم الشخصي، يتغلبون عليها، في ذلك الجو الحميمي جداً والنظيف جداً... وكانت رحلات أليس في بلاد العجائب بداية الارتحال بعيداً إلى عالم آخر يبتعد كلياً عن هموم الفقراء، وعن المطامح الإنسانية الواقعية..وإذا عولجت مسألة من هذا القبيل كانت معالجتها سطحية ونمطية نرتاح لها ونحن نقرأها ونبتسم، ثم نعود لنرى المسألة على نحو آخر في واقع الحياة.. والأماكن التي تدور فيها هذه القصص هي قصور البرجوازيين الجميلة وحدائقهم ومزارعهم ومتنزهاتهم.. والفتيات فيها، خصوصاً لطيفات جداً، يشفقن على الخدم والملونين ويتفهمن هموهم الصغيرة جداً، فليس في عالم هذه القصص أية هموم كبيرة.
أما الأمثلة على ذلك فهي أكثر من أن تحصى، والتعرض لها بالتحليل سيدفع الدارس إلى تأليف كتاب ضخم جداً، ولا سبيل إلى ذلك، وليس ذلك بالأمر الضروري... فمن يشاهد المسلسلات التلفزيونية الخاصة بالأطفال التي يعرضها التلفزيون العربي السوري وغيره، وهي منتقاة، فسوف يجد عينة جيدة جداً.... ففي "الدببة الطيبون" حيث الأبطال من البشر والحيوانات تصور لنا إحدى الحلقات كيف عمل الدببة الطيبون وفريقهم على إيصال النجوم المسكينة الى أماكنها في السماء كي لا تفقد بريقها إن هي لبثت طويلاً على الأرض.. ونعيش جواً من العواطف المتبادلة بين النجوم والحيوانات الصغيرة والأطفال ثم تنطلق القافلة.. ويعترض طريقها شرشبيل المحب للشر أو على الأصح المبغض للخير... فهو يكره وكلمة الحب بغيضة إلى نفسه.
ويعلن معاونه: "سأعمل على تدمير مشاعر العالم وقيمه تدميراً شاملاً" وتفشل محاولات الشرير وأعوانه.. وتصل النجوم إلى السماء وتأتلق أنوارها، وتكون لحظة الوداع عاطفية وعلى درجة رفيعة من النبل، ولا أظن أن أحداً ينكر بعض الجوانب العامة التي تربي بعض الصفات الفردية الجميلة عموماً في مثل هذه الحكايات والمسلسلات، ولكن نمطيتها الرتيبة تبقى مسألة أخرى.
قبل الانتقال إلى الكلام على أدب الأطفال في المرحلة الثالثة من تطور الرأسمالية أرى لزاماً أن أذكر أن هذا التقسيم هو تقسيم اصطلاحي لتسهيل الدراسة، إذا لم يقم أي جدار كتيم بين هذه المرحلة أو تلك وكذلك هي الحال في التشكيلات الاجتماعية المتعارضة إذ كثيراً مارأينا التشكيلة الجديدة تولد في قلب التشكيلة القديمة ويستمر الصراع بينهما طوال العديد من السنوات إلى أن ينتصر الجديد، وماكان انتصار الجديد يعني القضاء التام والشامل على القديم قطعاً.
في المرحلة الثالثة... وبعد أن استقرت الرأسمالية كنظام مهيمن في الاقتصاد العالمي أخذت تشجع قصصاً من نوع آخر، قصصاً يغلب عليها طابع المغامرات الفردية أو طابع الحكايات الخيالية المثيرة للدهشة، والتي مسحت منها جيداً أطراف القضايا الاجتماعية الشائكة... وأبعدت عن مركز الأضواء حكايات مثل "بائعة الكبريت الصغيرة" التي وضعها أندرسن وأعيد الاعتبار من جديد "لساندريلا" وسلط عليها المزيد من الأضواء وكثرت طبعات "ذات القبعة الحمراء" وانتشرت انتشاراً واسعاً الحكايات التي تقدم للأطفال معلومات علمية مبسطة.. وكانت تبدو محايدة أول الأمر.. ثم انتقلت الرأسمالية العالمية إلى الهجوم على عقول الأطفال بالحكايات الموجهة جيداً، والتي تخدم نمط التفكير الفردي ونمط الحياة الاستهلاكية، وحل البطل الفرد "السوبرمان" الأقرب إلى الإنسان الآلي محل الإنسان الذي من لحم ودم، واستبعدت من مناهج التعليم الابتدائي حكاية "ملابس الملك الجديدة" التي كنا نقرأها صغاراً في تلك المناهج.
وصارت ثقافة الأطفال ميداناً من ميادين الحرب النفسية وأقامت الاحتكارات الدولية مؤسسات عملاقة لانتاج "ثقافة للأطفال" تخدم مصالحها.. وغمرت أسواق العالم طبعات "شعبية" من كتب الألغاز والمغامرات وقصص الجريمة وغيرها، وكانت رخيصة الأسعار فدخلت بيوت الناس على الرغم من رخص محتوها.. وانتصر هذا "البزنس" الجديد الضخم وشملت العالم شبكات من المطابع والمكتبات فأفلست دور النشر النظيفة أو كادت، وأقيمت الحواجز في وجه الكتاب الجاد.. وأخذ البلبل الصناعي مكان البلبل الحي... وخبّأ الكثير من البلابل الحقة ريشه "بمشمعات" اصطناعية وراحوا يقسرون حناجرهم المبدعة على التعود على ترداد النغمات الاصطناعية الرتيبة.
ويستطيع الدارس أن يذكر من بين السمات العامة لأدب الأطفال في المرحلة الثالثة السمات التالية:
- تمجيد القوة الغاشمة وإظهار القوي بمظهر جميل ومحبب، وتصوير عدوانه على الآخرين وكأنه انتصار جميل ومجيد على الأشرار والهمج.. (إبادة الهنود الحمر والأفارقة والعرب وغيرهم).
- الدعاية المباشرة للبرامج العسكرية الحديثة وفي مقدمتها حرب النجوم التي تكلف البشرية المليارات من الدولارات التي تحجب عن مشاريع التنمية الاجتماعية والخدمات العامة.
- تمجيد "السوبرمان" الغربي والسخرية من الآخرين، التركيز على المباريات الرياضية مثل كرة القدم والجودو والكاراتيه.- العودة إلى قصص النبلاء والملوك وتشويه التاريخ أو إعادة صياغته لخدمة أهدافهم.إن جرّافاتهم الفولاذية الضخمة تعمل في كل الحقول ليل نهار، وهي تقتلع بأصابعها الصلبة اللامعة الكثير من الجذور التي تكونت تاريخياً.
وتبدلت قيم كثيرة... استبدلوا "العجلة بالجذور" ولم تعد للأماكن مكانتها السابقة.. فحتى مسقط الرأس قد يكون الآن سفينة، أو سيارة، أو طائرة.
لقد حذرنا الكثيرون من الفلاسفة والعلماء، والكثيرون من الكتاب المبدعين أمثال أندرسن، واكزوبيري، وجاني روداري وسواهم من خطورة مايجري.. ولكنه جرى ولم نستفد من التحذيرات التي أطلقوها...
قد يقول قائل: تبدو متشائماً... ألا ترى أن موجة من الاهتمام بالفلكلور عامة، ومنه الحكايات، وقد اكتسحت أرجاء العالم؟
وأقول: بلى، إنني أرى ذلك... ولكنهم يجمعونها كي توضع في المتاحف، كما توضع هياكل الحيوانات المنقرضة، التي أصبحت بدورها موضوعاً "لبزنس" جديد هو البزنس السياحي المقولب على الطريقة الاستهلاكية.
إن الذين لا جذر حضاري لهم يزعمون أنهم مركز العالم الجديد وسادته... وهم يعملون بوسائلهم الضخمة على فرض "حكاياتهم" محاولين تدمير التراث الأصيل الذي ابتدعته الإنسانية في مسيرتها الطويلة التي لا يعرف أحد بدايتها.
إن عصر ازدهارهم ليس سوى مرحلة طارئة على تاريخ الحضارة الطويل.. فهل ستولد على أنقاضه حكاية تحكي للعالم الذي سيولد قصة الوحش الآلي الذي يقتلع الجذور ويسمم الماء والهواء؟
كان المفكرون والمبدعون في بداية هذا القرن يشفقون على الراقصات في الملاهي وعلى بائعات الهوى.. وهاهم جماعة من المثقفين في أيامنا يعلنون أحياناً، ولو على سبيل المزاح، أنهم يحسدون هؤلاء وأولئك "على رواج بضاعتهن" مع كساد "بضاعة" المفكرين والمبدعين الجادين.
أجل ثمة من يسمون القتلة والمجرمين أبطالاً.. وهم يعملون كي يفقد العالم عقله.
فهل سيذعن العالم لهم؟ هل سيدوي من جديد صوت طفل حكاية أندرسن:"إن الملك عار، إن الملك عار!".
هل سيتجدد شباب العالم وتعود إليه نضارته؟
وهل ستطير البلابل إلى حيث يعيش الناس ويعملون، ويحلمون بالدفء الإنساني ويبحثون عنه؟
سنظل نحلم بذلك، ولن نسى أن العالم بارد جداً.
المراجع طبقاً لورودها في المقال
1- جريدة "النهار" اللبنانية -تاريخ 23/5/1991.
2- كارانفيلوف - افريم ("الجذور والعجلات" ترجمة ميخائيل عيد - دار طلاس- دمشق - 1986).
3- كارانفيلوف - افريم ("مقالات مختارة"، ترجمة ميخائيل عيد، دار حطين- دمشق- عام 1989).
4- سارتر- جان بول ("الغثيان" ترجمة سهيل ادريس- دار الآداب - بيروت- عام؟
5- انجيل متى- اصحاح 21 الآية 41 ونص الآية هو (الحجر الذي رفضه البناؤون قد صار رأس الزاوية).
6- مينكوف -سفيتوسلاف- "حكايات أندرسن" بالبلغارية، منشورات "شبيبة الشعب" صوفيا- 1976.
7- ابن المقفع ("كليلة ودمنة" تحقيق مصطفى لطفي المنفلوطي- دار الكتاب العربي- بيروت- لبنان- 1966).
8- اندرسن- هانس ("أقاصيص اندرسن" ترجمة محمود إبراهيم الدسوقي- مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر- القاهرة عام 1940).وقد أشرنا إلى أرقام الصحفات في أماكنها.
الموضوع كالبحر سعة وعمقاً وتلاطم أمواج وغنى تناقضات، ولما كان البحر لا ينقل على الورق فسوف أسعى جاهداً كي أقدم لكم خريطة لبحر، أجل خريطة لا أكثر، وسأعمل جاهداً كي تكون خريطة دقيقة، وموضوعية وحيادية..
أعلم أن الحياد المطلق غير موجود في الكون الذي نعيش فيه، والموضوعية المطلقة هي الأخرى أيضاً غير موجودة... فكيف يمكن أن نرى الموضوعي المطلق بوسائلنا الفردية المحدودة، وكيف يمكن أن نتخلص من تأثير مشاعرنا واحساساتنا وبها نتصل بالأشياء، ونتلقى المعطيات؟
وقد يسأل سائل: وما نفع الكلام إذا لم يتسم بالشمول والموضوعية؟
وأجيب بلا أدنى تردد: قدرنا ألاّ نصل إليهما... وإنما غاية جهدنا الاقتراب منهما ما استطعنا.
تلك هي نقطة الانطلاق الأولى إلى الكلام على الموضوع - البحر.. وثمة متكأ آخر سأتخذه ذريعة للكلام المحدد ومنطلقاً له هو التالي:
جاء في تعريف بالهيئة العالمية لأدب ألأطفال (نشرته جريدة النهار البيروتية) مايلي: "الكتابة للأطفال والأولاد فن مستحدث، ظهرت طلائعه في أواخر القرن السابع عشر، في أوروبا، مع الأديب الفرنسي شارل برو الذي ألف قصصاً للأولاد، أشهرها "ساندريلا" ثم في الفترة بين الثامن عشر والتاسع عشر زاد رواد هذا الفن، نذكر منهم على المثال (كذا) الأديبة الفرنسية الكونتسة دوسوغير واضعة حكايات تحت اسم "تعاسات صوفي" والكاتب الدانماركي هانس كريستيان أندرسن صاحب كتاب "حكايات للأولاد" والكاتب الأنكليزي لويس كارول الذي عرفت له سلسلة كتب باسم "أليس في بلاد العجائب" (النهار في 23/5/1991).
تلت هذه المقدمة فقرة تتكلم على النهضة الأوروبية التي دعت إلى إرساء العدالة والمساواة بين البشر، وكان من أفكار هذه النهضة إدراك قيمة الفرد في المجتمع، والعمل على تنشئته منذ الطفولة تنشئة تراعي صحة الجسم، وسلامة العقل وتهذيب الخلق.. الخ".
إن المعطيات غير الدقيقة هي كالمقدمات غير الدقيقة، في مقولات المنطق الصوري تؤدي الى تعميمات غير دقيقة وبالتالي غير صائبة.
وإذا كان الكلام يدور حول أدب الأطفال الذي بدأ بحكاية ساندريلا ويقصد به أدب الأطفال في أوروبا وحدها فإن الخطأ في ذلك لن يكون فادحاً فداحته فيما لو قصد به أدب الأطفال، أي الحكاية الراقية في العالم بأسره.
يقول الكاتب البلغاري إيفريم كارانفيلوف في كلامه على "الشيوخ والشبان" وعلاقة الإنسان بجذوره: "إن الأهم للتطور هو -ألاّ يعتقد الشبان أن كل شيء يبدأ معهم-وألا يعتقد الشيوخ أن كل شيء سينتهي معهم"( إيفريم كارانفيلوف- "الجذور والعجلات" ص 187).
ويبدو لي أن هذه الحكمة تنطبق أيضاً على التشكيلات الاجتماعية المتعاقبة لا على الأجيال البشرية المتعاقبة وحسب. وليس من المنطق أن تزعم تشكيلة اجتماعية متأخرة تاريخياً مثل الرأسمالية أن الحكايات بجمالها وحكمتها فن استحدثته هي ثم طورته... وأما دعوتها "إلى إرساء العدالة والمساواة بين البشر" و"إدراك قيمة الفرد في المجتمع" فزعم قد يمكن تصديقه إلى حد ما إذا عدنا إلى مراحل اندفاعها الأولى حين حاربت باسم تلك القيم التشكيلة الاجتماعية التي سبقتها.
أما الآن فكل المعطيات تؤكد أنها قد تخلت عن تلك القيم، وشرعت تحاربها بكل ماتملك من وسائل.
إن "ساندريلا" هي إحدى الحكايات الناجحة التي أحبها الأطفال كثيراً، وهي ذات أكثر من بعد، ومستوياتها متعددة، وقد عدّها بعض النقاد مثالاً للمبدع الذي يخرج من مصهر العمل الشاق الدائب مبدعاً متألقاً، في حين تخيب آمال الذين يتهافتون على التبرج والسعي إلى حيث الاضواء الباهرة.... إن الحورية تخرج من المطبخ" (راجع ايفريم كارانفيلوف، "مقالات مختارة" ص 183 ومايليها).
وقد توحي لنا الحكاية ذاتها بأفكار أخرى غير التي أوحت بها إلى كارنفيلوف إذا نظرنا إليها من زاوية نظر مختلفة عن الزاوية التي نظر منها إليها.
ولكنها تبقى، على كل حال، احدى الحكايات الجيدة.... وكونها كذلك لا يسوّغ الزعم أنها وأخواتها: "فن الأطفال المستحدث الذي ظهرت طلائعه في أواخر القرن السابع عشر".
يقول جان بول سارتر: "إن الإنسان هو دائماً سارد حكايات".(جان بول سارتر "الغثيان" ص 59)... وأزعم أن قوله هذا يصح على الإنسان في الماضي والحاضر، بل أزعم أيضاً أن الإنسان سيبقى سارد حكايات في المستقبل أيضاً. لقد ولدت الحكاية مع الإنسان وستبقى مابقي الإنسان... وإني لأزعم أن الإنسان قد حكى الحكايات حتى قبل أن يتعلم الكلام... ولا يمكن أن يكون الأمر إلاّ كذلك، فقد تكلم الجسد الإنساني قبل أن يتكلم لسان الإنسان، وعبر الجسد عن أفراح الناس وأحزانهم قبل اختراع الكلام بزمن طويل. أليس التاريخ حكاية، وهل يوجد فن خارج التاريخ، أليس في كل فن حكاية؟..
زعم الناس منذ الأزمنة القديمة أن الأرض محور الكون، ثم جعلوا الإنسان سيد الأرض بلا منازع، وهاهم الأوروبيون بعد أن نشأت الرأسمالية بين ظهرانيهم يتبنون هذا الزعم القديم ويضيفون إليه زعماً آخر هو أنهم المبادرون إلى تأسيس كل شيء إنساني جميل، حتى الحكايات، وكل ذلك كي يجعلوا كلامهم على المركزية الأوروبية مقبولاً ومستنداً على قاعدة ما، ومن ثم كي يزعموا أن أوروبا مهد الحضارة الإنسانية ومرضعتها، وبالتالي فهي سيدة أناس الأرض، ومن ثم فهي سيدة الكون.
ليس في إمكان أحد أن ينكر ماقدمته الثورة الصناعية المعاصرة من تطوير للقوى المنتجة ولا ما حققته الدول الصناعية المتطورة من إنجازات علمية، ولا ما ابتكرته من وسائل لنشر الثقافة. إن الصحافة المقروءة والمسموعة والمرئية قد غطت الكرة الأرضية بشبكة واسعة وغزيرة الإنتاج، ولقد قدمت للبشرية خدمات جليلة في هذا الميدان، وإذا نظرنا إلى هذا الكم الهائل الذي يضج به الأثير والذي تقذفه المطابع الحديثة من معلومات وقفنا ذاهلين... فحتى السحر القديم ماكان في وسعه أن يتخيل القليل مما يحدث أمام أنظارنا اليوم.
ولكن للمسألة وجهها الآخر.. فلقد تحول كل شيء في أيامنا إلى "بزنس" وراحت الاحتكارات تتنافس في كل المجالات محولة كل شيء إلى سلعة... القيم العلمية والثقافية صارت تخضع لقوانين السوق، وكما انتشرت الحلي المزيفة انتشرت أيضاً الثقافة المزيفة، وأوجد البزنس الثقافي سوقاً رائجة جداً للقيم الهابطة جداً.... وهاهي ذي البشرية تستفيق من ذهولها لتجد نفسها في بيئة ملوثة... وقد اجتاز التلوث الحد الخطِر الذي يهدد بالقضاء الكامل على فاعلية التراب والماء والهواء الحيوية، وبالتالي القضاء الكامل على الحياة على الأرض.
وأصاب أدب الأطفال ما أصاب الفنون والآداب وما أصاب السلع الأخرى... فقد اكتسبت كلها طابعاً استهلاكياً وجسدت كلها سمات "الأخلاق" التي حرصت الرأسمالية على تجسيدها في مختلف مناحي الحياة الاجتماعية والروحية.
لكن ذلك لم يتم دفعة واحدة بل على مراحل نستطيع أن نقسمها، جوازاً، إلى ثلاث...
"إذا عدنا إلى البداية التي حددوها بأواخر القرن السابع عشر، ثم انطلقنا من "ساندريلا" ثم من اندرسن معتبرين أن تلك المرحلة هي المرحلة الأولى نجد أن البرجوازية إذ عملت على بسط هيمنتها الروحية كي تفرض من ثم نمطها الاستهلاكي على مجتمعاتها وعلى العالم قد عملت جاهدة على خلق أساطير خاصة بها، وإبراز نماذج من الأبطال يحملون سماتها العامة التي تميزها كطبقة.. ولقد استفادت كثيراً من مكونات الحكايات والأساطير القديمة من حيث بناها الشكلانية كحكايات وأساطير وكذلك من عنصري الخيال الشعبي والأعاجيب التي كانت من مكونات تلك الحكايات وتلك الأساطير، ولقد أدركت بحسها الطبقي أن تلك الحكايات وتلك الأساطير يمكن استخدامها، مع شيء من التعديل، كسلاح فعّال في معركتها وخدمة لمصالحها، فتخلت عن ادعاء الصرامة العلمية، التي رفعتها شعاراً لها، في الموقف من "الخرافات" وقررت الإفادة منها...
أما البطل البرجوازي الجديد، وقد تكوّن هو الآخر على مراحل ولا يزال يتطور مع تطور البرجوازية المعاصرة، فقد بدأ يمتاز بسمات جديدة أضيفت إلى سمات البطل القديم أو افترقت عنها كي يصير في نهاية المطاف بطلاً برجوازياً حقاً. ومن بعض سماته الخاصة فردانيته المفرطة وعدم اعتماده على الآخرين، بل إن الكاتب البرجوازي الصرف يضعه في تعارض شبه مطلق مع الآخرين جميعاً، ثم يجعله يتغلب أخيراً، على كل العقبات والصعاب وينتصر انتصاراً باهراً.. وقد يُصور وكأنه من طينة أخرى غير طينة البشر.. ولنتذكر أن "فرخ البط القبيح" لاندرسن قد خذله الجميع وكرهوه وتخلت عنه حتى أمه، وقد انتصر على الرغم من كل ذلك لأنه كان تماً وضعه القدر بين فراخ البط.. أجل.. حتى اندرسن العظيم لم يستطع التحرر تماماً من تأثير أفكار الطبقة السائدة، وقد سوّغ ذلك بأن بطله كان رمزاً للمبدع لا للإنسان عموماً.
وإذا كان بطل الحكايات الشعبية القديم يذهب مغامراً في سبيل سعادة الآخرين أو لرد الأذى عنهم (جلجامش انطلق باحثاً عن الدواء الذي يرد سطوة الموت عن البشر، والكثيرون غيره انطلقوا لقتال الطغاة أو الهولات- غول أو تنين) وإذا كان البطل القديم يحمل حفنة من تراب الوطن لتكون حرزاً له، أو يتزود برغيف خبزته أمّه كي يستمد منه القوة التي لا تنضب، فإن للبطل البرجوازي الجديد هدفاً واحداً هو خلاصه الفردي، وكثيراً ما تصطنع الصعاب التي توضع في طريقه، وتصوّر على أنها صعاب، لاسمة اجتماعية أوطبقية لها، بل هي ناجمة عن سوء خلق زوجة الأب الشريرة، أو قسوة ذلك الأب الجاهل أو ما ماثل ذلك.
في "ساندريلا" مثلاً، نجد فتاة تقسو عليها زوج أبيها وتحتقرها ابنتاها ظاهراً في حين تغاران منها وتحسدانها، يدفعهما الحسد والغيرة إلى مزيد من القسوة، وتتحمل الفتاة كل المنغصات بصبر وتقوم بأقسى الأعمال المنزلية، وتغتني روحاً فيضفي ذلك مزيداً من الجمال على جمالها، وكل هذه التراكمات الكمية تؤدي في النهاية إلى التبدل الكيفي الذي يأتي على شكل أحداث متلاحقة ومتواترة ومنسجمة مع منطق الحكاية الفني وإن خالفت منطق الواقع.. ومن ثم "الحجر الذي رفضه البناؤون صار رأس الزاوية... (انجيل متى /اصحاح/ 2 الآية41).
إن فكرة الحكاية المحورية ليست مبتكرة، ولسنا بحاجة إلى إثبات ذلك.. فالأمثلة كثيرة جداً.. والمثل الذي أوردته من الانجيل يلخص فكرتها. إن مايهمني الآن هو مسألة أخرى تتعلق بالشكل وبالمواقف من الإنسان والعمل، في إحدى حكاياتنا وفي "ساندريلا" المبتكرة!
الحكاية شرقية الطابع وحتى الآن لم أعثر على مصدر موثوق لها.. إنها إحدى الحكايات الشعبية المدهشة.. كانت أمي تحكيها لي يوم كنت طفلاً وما كنت أمّلُّ سماعها.. ولقد حفظتها بكل تفاصيلها منذ تلك السنوات البعيدة مع أنني لم أدرك، الا بعد أن نضجت، كل مغازيها الفلسفية والاجتماعية. تحكي الحكاية قصة حطاب فقير وقع على جذع شجرة يابسة في الغابة فحاول أن يقطعه ويبيعه حطباً فيطعم أولاده.. وبعد أن يئس من قطعه، جلس قانطاً قربه كي يرتاح، فانشق الجذع فجاءة وخرج منه رجل "طوله شبران، وقبعته ذراعان وعصاه أطول منه"، وعرض على الحطاب أن يعطيه كيساً من الليرات الذهبيات لقاء أن يجلب ابنته الكبرى إليه لتخدمه...
ويرضخ المسكين وتقبل البنت التضحية في سبيل أسرتها.. ثم تنفد النقود فيعود الأب ويحاول قطع الجذع فيخرج إليه الرجل القزم ويعقد معه صفقة أخرى فيأخذ كيساً من النقود ويحضر ابنته الوسطى.. ثم تنفد النقود وتأتي الابنة الثالثة فندخل معها إلى منزل القزم فنرى منزلاً عجيباً ولكننا لا نجد أثراً للاختين... ثم يذهب الرجل في سفر وتفتح البنت الغرفة التي حظر عليها دخولها فتجد أختيها قد علقتا من شعرهما إلى السقف وقد هلكت الأولى وأشرفت الثانية على الهلاك..
وتنزلها أختها وتسعفها ثم تخرجان من المكان اللعين وتهربان، لكن الرجل الساحر يأتي ويكتشف هربهما فيتبع أثرهما ويراهما من بعد تعبران النهر إلى جهة لا سلطان له على من يصلون إليها، فيدعوهما إلى العودة فتأبيان فيقرأ إحدى التعزيمات السحرية فتتحول الصغرى إلى كلبة وتتحول الكبرى إلى بغلة.
وتصل المسكينتان إلى بيت في طرف المدينة يسكنه شيخ وزوجه العجوز فيأويانهما.. وتتوالى الأحداث.. وتعمل الكلبة والبغلة أعمالاً تدهش الشيخ وزوجه.. ثم تدخل الكلبة حديقة القصر الملكي لتحضر بعض النباتات الصالحة للأكل فترى البركة الرائعة فتخلع جلد الكلبة وتستحم في الماء وهي لا تعرف أن ابن الملك قد شاهدها.. وحين ينزل من القصر ويقترب منها ترتدي ثوب الكلبة سريعاً وتهرب إلى بيت الشيخ وزوجه بعد أن تقع فردة حذائها في الحديقة.
ويمرض ابن الملك حباً.. ويرسل الملك جماعة من الجند تطوف بالبيوت بيتاً فبيتاً ومعها فردة الحذاء فلا تصلح لرجل أية فتاة من فتيات المدينة.. ثم يصل الجند إلى البيت الذي فيه الكلبة فيترددون ثم يدخلون ويجلسون كي يرتاحوا بعد أن وضعوا فردة الحذاء جانباً فتندفع الكلبة وتحتذيها وسط دهشة الجميع واستغرابهم.
ويأتي الملك والوزير على استحياء، وقد ألح عليهما الفتى العاشق، ويخطبان الكلبة إلى الأمير فيتزوجها ويحتال عليها ويحرق ثوبها الكلابي فتعود فتاة رائعة الجمال وتتحرر أختها أيضاً من السحر وتعود فتاة جميلة.. ويخطبها ابن الوزير.. فيقام العرس للاختين ويعيش الجميع بسرور وهناء.
إن فقدان فردة الحذاء عنصر مشترك بين الحكايتين.. ولكن الحكاية العربية، أو لنقل الشرقية، أغنى محتوى وأكثر التصاقاً بحياة الفقراء، وهي من ثم ذات محتوى اجتماعي- اقتصادي فائق الأهمية.. فلقد توصل الحاكي هنا إلى النتيجة التي توصل إليها بعض علماء الاقتصاد والاجتماع والتي تقول إن العمل هو الذي يرقى بالإنسان ويجعله إنساناً حقاً... بل ان الحكاية الشرقية تقول أكثر من ذلك.. فهي تقول لنا دون مواربة إن العمل القذر غير الإنساني قد يقتل جسد الإنسان أو يفقده إنسانيته ويحوله إلى حيوان ثم لا يكون له خلاص إلا بالعمل الإنساني.. ولقد احتاج الحاكي إلى اللجوء إلى "السحري" الخارق كي يبرر الانتقال النوعي- من إنسان إلى حيوان، ثم احتاج إلى النار فحرق بها سواد السحر وظلاميته كي يشرق وجه الإنسان الناصع.. وفي ساندريلا "خرجت الحورية من المطبخ" كما قال كارانفيلوف..
ويخطر لي سؤال: هل سمع كاتب "ساندريلا" هذه الحكاية واستفاد من بعض عناصرها؟
سيبقى الجواب معلقاً.. وثمة الكثير من الأسئلة التي لن نجد الأجوبة الشافية عنها.. فقد تمازجت حكايات الشعوب تمازجاً عجيباً على مر الزمن. ومالاشك فيه هو أن الدعوة إلى "إرساء العدالة والمساواة بين البشر"..... وادراك قيمة الفرد في المجتمع" لم يكونا اختراعاً "نهضوياً" أوروبياً كما يزعم الزاعمون.
وثمة أمر آخر شديد الوضوح هو أن شارل برو قد استند إلى عنصر الأعجوبة، أي اعتمد على الخارق السحري، كي يكتمل سياق الحكاية الفني، والاستناد على مثل هذا العنصر ليس، هو الآخر، بالأمر المستحدث، وليس للقرن السابع عشر فضل في استحداثه، وإنني لأزعم أن في حكايات "كليلة ودمنة" وهي حكايات آسيوية صرف، وقد وضعت قبل القرن السابع عشر بقرون عديدة، من الابتعاد عن عنصر الاعجوبة المجاني، ومن الاقتراب من منطق عصر النهضة العلمي أكثر كثيراً مما في "ساندريلا" على سبيل المثال ناهيك عما في غيرها.
فهل يدرك أصحاب نظرية "المركزية الأوروبية" ذلك ثم يتجاهلونه أم أنهم يجهلونه فعلاً؟
وإذا كان كاتب "ساندريلا" لم يطلع على حكايات "كليلة ودمنة"، وهذا محتمل، فهل من المحتمل أيضاً ألاَّ يكون قد سمع أو قرأ، حكاية واحدة؛ على الأقل، من حكايات "ألف ليلة وليلة" وهي الحكايات الأكثر شعبية في العالم؟
أما كاتب الحكايات الدانماركي العظيم أندرسن فقد اطلّع على حكايات "ألف ليلة وليلة" وثمة أمور أخرى في سيرته الذاتية تستدعي الوقوف عندها، وهي أمور ذات دلالة كبيرة فيما يخص المسألة التي نحن في صددها.
يقول الكاتب البلغاري سفيتوسلاف مينكوف الذي ترجم حكايات أندرسن إلى البلغارية وقدم عليها مقدمة هامة: "في أماسي الشتاء الطويلة كان الحذّاء (والد اندرسن كان حذاء -ملحوظة من م.ع) يأخذ عن رف صغير قرب النافذة أحب الكتب ويقرأ لامرأته وابنه خرافات الفرنسي لافونتين، أو كوميديات الدانماركي هولبرغ، أو حكايات "ألف ليلة وليلة" (حكايات اندرسن- بالبلغارية، الصحفتان 5 و 6 -والمقتطف من ترجمة م.ع).
"وساحر الكلمة الجبار هانس كريستيان اندرسن" كما يدعوه مينكوف (ص14 من المرجع المذكور أعلاه) قد "رضع مذ كان طفلاً حكايات العجائز الفقيرات المثيرة في مدينة أودينسيه" (ص 12- مقدمة حكايات اندرسن).
وفي كتابيه الأول والثاني من كتب الحكايات، وفاقاً لكلمات المؤلف نفسه فإنه قد "حكيت بتصرف" بعض الحكايات الشعبية الدانماركية (الأميرة فوق حبة الحمص) و (طيور التم البرية) و (سيلدا) وغيرها.. (المرجع السابق ص123).
ويورد مينكوف ملحوظة ذات دلالة وهي أن أندرسن الذي وضع كتابه الأول تحت عنوان "حكايات للأطفال" جعل عنوان كتابه الثاني "حكايات جديدة" أي أنه قد تخلى عن كلمة "للأطفال" وذلك لأن الصغار والكبار يقرؤون الحكاية (المرجع السابق ص 13).
ويبرز مينكوف فكرة أخرى ذات دلالة هي قول اندرسن:
"ليس ثمة حكايات أجمل من تلك التي تبتكرها الحياة ذاتها" (حكايات اندرسن ص 14).
وما لاشك فيه هو أن الحياة قد وجدت قبل وجود النهضة الأوروبية، أي قبل القرن السابع عشر بقرون كثيرة، وقبل وجود "الحلم بقيام مركزية أوروبية" وقد ابتكرت الحياة حكايات جميلة منذ أن كانت الحياة.
إن أندرسن بتخليه عن كلمة "للأطفال" قد انتهج الخطة ذاتها التي انتهجها واضع كتاب "كليلة ودمنة" التي ذكرها ابن المقفع في تقديمه الكتاب... فبعد أن يقول على الصفحة 81: "وينبغي لمن قرأ هذا الكتاب أن يعرف الوجوه التي وضعت له وإلى أي غاية جرى مؤلفه فيه عندما نسبه إلى البهائم وأضافه إلى غير مفصح وغير ذلك من الأوضاع التي جعلها أمثالاً.... الخ". "كليلة ودمنة" تحقيق مصطفى لطفي المنفلوطي -دار الكتاب العربي، بيروت- لبنان) يمضي إلى القول بمزيد من التفصيل مستفيداً من المقدمة التي وضعها بهنود بن سحوان المعروف بعلي بن الشاه الفارسي، يقول ابن المقفع:
"وينبغي للناظر في هذا الكتاب أن يعلم أنه ينقسم إلى أربعة أغراض: أحدها ما قُصد فيه إلى وضعه على ألسنة البهائم غير الناطقة ليسارع لقراءاته أهل الهزل من الشبان فتستمال به قلوبهم له لأنه الغرض الوارد من حيل الحيوانات، والثاني إظهار خيالات الحيوانات بصنوف الأصباغ والألوان ليكون أنساً لقلوب الملوك ويكون حرصهم عليه أشد للنزهة في تلك الصور، والثالث أن يكون على هذه الصفة، فيتخذه الملوك والسوقة فيكثر بذلك انتساخه، ولا يبطل فيخلق على مرور الأيام، ولينتفع بذلك المصور والناسخ أبداً، والغرض الرابع وهو الأقصى مخصوص بالفيلسوف خاصة" ("كليلة ودمنة " ص 98 و ص 99).
أجل إن العمل الإبداعي الحق له أكثر من مستوى، وأكثر من غرض، وقد أدرك ذلك ابن المقفع واندرسن وسواهما..
لقد ترسخت الحكايات والأساطير واكتملت حيث قامت الحضارت العريقة، والتجربة الرأسمالية المعاصرة لم تترسخ بعد في وعي الشعوب، ولم تضرب جذوراً تصل إلى أعماق التربة التي تكونت عبر عشرات القرون، وليس لدى الحضارة المعاصرة الوقت لذلك، فهي مستعجلة جداً، ولهذا لا نراها قادرة على خلق أساطيرها وحكاياتها الخاصة بها، والتي تعبر عن ميثيولوجيتها.. والرأسمالية، أصلاً، لا تطمح إلى خلق ميثيولوجيا جديدة... إنها تسعى إلى فرض هيمنتها "الروحية" بوسائل أخرى، مع استخدامها الحكايات أحياناً، ووسائلها وسائل فظيعة تصل إلى حد القضاء على كل ماهو روحي، أو يمت بصلة إلى القيم الروحية والمناقب الأخلاقية.. لقد خلقت صنماً أوحد هو المال.. والبطل المعاصر هو الذي يستطيع الحصول على أكبر قدر من الربح.. وليس مهماً إطلاقاً أن يسأله أحد: كيف؟ فليس ثمة أهمية لمثل هذا السؤال.
فالمال هو الغاية القصوى، وكل الوسائل مشروعة في سبيل الحصول عليه... فالغاية تبرر الواسطة.
أما عبقرية أندرسن فقد تجلت وتألقت في عمله على خلق حكايات وأساطير معاصرة تعكس روح عصره بعمق ورحابة. لقد قرأ الواقع الذي عاشه وتطلع إلى المستقبل من غير أن يكف عن النظر إلى الماضي.ومن غير أن يقطع جذوره الضاربة في الماضي، وإذ فهم الماضي جيداً استطاع أن يرى رؤية واضحة الجديد الذي يولد، لقد أدرك أن بذرة القمح التي تبذر اليوم هي حبة القمح التي بذرت في الماضي، والتربة هي التربة، وأما الذي تغير فهو المحراث والحصّادة والمطحنة، وبعض الأسمدة... ولقد خشي أن تقتل الالة الروح الحي في الحبة وفي القلب الحي.
ابتهج اندرسن بالمنجزات العلمية الجديدة وعبر عن إعجابه الشديد بها، وكانت حكاية "التنين البحري الكبير" "مديحة شاعرية لاقامة أول خط اتصال هاتفي عبر المحيط بين أوروبا وأمريكا" (حكايات اندرسن ص 14).
ولأنه كان عبقرياً وثاقب النظر فقد رأى وجه الرأسمالية الآخر أيضاً، إنها تعمل على اختراع آلات تدير بها كل شيء... ولهذا وجهان متناقضان، وكانت حكاية "البلبل" أغنية فائقة العذوبة تمجد المبدع الحق، الكائن الحي ذا الحنجرة العجيبة الذي لن تحل محله أية آلة مهما أتقن صنعها.، "وكان السياح يؤمون مدينة الامبراطور من كافة نواحي العالم. فيعجبون بالمدينة وبالقصر والحديقة، لكنهم إذا سمعوا البلبل قالوا كلهم: "هذا خيرها جميعاً! " أقاصيص هانس أندرسن- ترجمة محمود إبراهيم الدسوقي- القاهرة، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر عام 1940- ص 76-77).
وتطوف الكتب التي تتحدث عن البلبل أقطار العالم ثم يصل أحدها إلى يد الامبراطور.. ويكون سؤاله: "أيمكن أن يكون هناك طائر كهذا في امبراطوريتي، بل في حديقتي من دون أن أسمع به؟" (المصدر السابق ص 77).
ويصدر الأمر الامبراطوري: "أريد أن يأتي ويغرد أمامي هذا المساء، أيصح أن تعلم الدنيا كلها ماعندي، وأنا لا أعلمه! (ص 77).
وندرك مغزى هذا الكلام على حقيقته، إذا عرفنا أن النقاد الدانماركيين قد آذوا أندرسن وافتروا عليه... ثم جاءه المجد والشهرة من الخارج...
ومضى نصف الحاشية مع "فتاة المطبخ" للبحث عن البلبل. ويعلو خوار بقرة ويقول غلمان البلاط: "الآن وقعنا عليه!" (ص 78) ثم يسمعون نقيق الضفادع: "فقال واعظ البلاط الأول: هذا مدهش فالآن أسمعه، إن له صوتاً كرنين أجراس الكنيسة الصغيرة"(ص 79).
وحين أشارت البنت الصغيرة إلى طائر أشهب صغير بين الأغصان قال الفارس: "أممكن هذا؟ ماكنت أظن ذلك، فما أبسط منظره!" (ص79).
ويذهب البلبل ويشدو في القصر الامبراطوري وتترقرق الدموع في عيني الامبراطور ويأمر بأن يطوق عنق البلبل بخفيه الامبراطوريين الذهبيين.. ويخبره البلبل أن دموعه أغلى عنده من الذهب.
ويحاول الحمقى تقليد المبدع الحق فيخفقون ثم يحضرون للامبراطور بلبلاً صناعياً محلى بالذهب والفضة... ويهرب البلبل الحقيقي من القصر.
يعجب الامبراطور وحاشيته بالاغنية الاصطناعية التي تتكرر على نمط واحد.. ويقول صياد السمك الذي سمع صوت البلبل الصناعي: "إن صوت هذا البلبل جميل جداً يكاد يشبه صوت البلبل الحقيقي، لكنه ينقصه شيء لا أدري ماهو.. "(المصدر السابق. ص 82 وص 83).
ويسخر من النقاد الذين يؤلفون المجلدات الكثيرة في امتداح أغنية البلبل الصناعي اليتيمة.... ثم تتعطل آلية البلبل الصناعي. ويستدعى صانع الساعات ويصلحه بعض الاصلاح.. وحين يحاصر الموت الامبراطور يطلب من البلبل الصناعي الغناء فلا يستطيع:"فلم يكن هناك أحد يدير لولبه" (ص 85).
ويأتي البلبل الحقيقي... وينشد أناشيده العذبة المبتكرة فيتعافى الامبراطور ويطلب من البلبل البقاء في القصر فيخبره البلبل أنه لا يطيق الانحباس في القصر: "إن المغني الصغير يطير بعيداً إلى كوخ السماك ومزرعة القروي، إلى جميع من هم بعيدون عنك وعن بلاطك، إن قلبك أحب إليَّ من تاجك" (المرجع السابق ص 86).
وندرك أن أندرسن قد حدثنا حديث الماضي ليحذرنا مما سيحمله المستقبل، وكانت الآلات تتطور تطوراً صاعقاً أمام ناظريه... ولقد أهاب بنا ناصحاً: وازنوا بين الآلة وبين قلوبكم.. لقدخلقت الآلة كي تخدمكم فلا تدعوها تحل محلكم.
وبعد أن ينذرنا في حكاية "قطرة الماء" (ص 318-319) مما سيجلبه التنافس الرأسمالي من ويلات وفواجع يهتف بنا في حكاية "مباراة الوثب": "أجل، إن البلادة والثقل يفوزان اليوم! البلادة والثقل يفوزان اليوم! "(المصدر نفسه ص340)
كان احترام الإنسان والدعوة إلى تحريره وإطلاق قواه المبدعة في أساس الحكايات الجميلة التي طورها هانس كريستيان أندرسن، وفي أساس تلك الحكايات التي وضعها... وحين كانت الرأسمالية تكافح الارستقراطية لتحل محلها ماكانت لتمانع في استخدام كل الوسائل في نضالها هذا.. وكثيراً ماكانت تزعم أنها تخوض المعركة باسم الإنسان وفي سبيل الحرية والعدالة للجميع.. ولم تر مانعاً من أن تنتشر بين الناس حكايات أندرسن.
في المرحلة التالية، المتوسطة من مراحل تطور أدب الأطفال في ظل سيادة الرأسمالية صارت الكثرة المطلقة من كتب الأطفال في بلدان الرأسمالية المتطورة تدور حول مصائر أبطال من الأطفال النظفاء البيض المهذبين جداً، الذين تعترضهم بعض المصاعب لا من حيث الوضع المعاشي-الاجتماعي بل هي مصاعب من نوع آخر، تخص تصرفهم الشخصي، يتغلبون عليها، في ذلك الجو الحميمي جداً والنظيف جداً... وكانت رحلات أليس في بلاد العجائب بداية الارتحال بعيداً إلى عالم آخر يبتعد كلياً عن هموم الفقراء، وعن المطامح الإنسانية الواقعية..وإذا عولجت مسألة من هذا القبيل كانت معالجتها سطحية ونمطية نرتاح لها ونحن نقرأها ونبتسم، ثم نعود لنرى المسألة على نحو آخر في واقع الحياة.. والأماكن التي تدور فيها هذه القصص هي قصور البرجوازيين الجميلة وحدائقهم ومزارعهم ومتنزهاتهم.. والفتيات فيها، خصوصاً لطيفات جداً، يشفقن على الخدم والملونين ويتفهمن هموهم الصغيرة جداً، فليس في عالم هذه القصص أية هموم كبيرة.
أما الأمثلة على ذلك فهي أكثر من أن تحصى، والتعرض لها بالتحليل سيدفع الدارس إلى تأليف كتاب ضخم جداً، ولا سبيل إلى ذلك، وليس ذلك بالأمر الضروري... فمن يشاهد المسلسلات التلفزيونية الخاصة بالأطفال التي يعرضها التلفزيون العربي السوري وغيره، وهي منتقاة، فسوف يجد عينة جيدة جداً.... ففي "الدببة الطيبون" حيث الأبطال من البشر والحيوانات تصور لنا إحدى الحلقات كيف عمل الدببة الطيبون وفريقهم على إيصال النجوم المسكينة الى أماكنها في السماء كي لا تفقد بريقها إن هي لبثت طويلاً على الأرض.. ونعيش جواً من العواطف المتبادلة بين النجوم والحيوانات الصغيرة والأطفال ثم تنطلق القافلة.. ويعترض طريقها شرشبيل المحب للشر أو على الأصح المبغض للخير... فهو يكره وكلمة الحب بغيضة إلى نفسه.
ويعلن معاونه: "سأعمل على تدمير مشاعر العالم وقيمه تدميراً شاملاً" وتفشل محاولات الشرير وأعوانه.. وتصل النجوم إلى السماء وتأتلق أنوارها، وتكون لحظة الوداع عاطفية وعلى درجة رفيعة من النبل، ولا أظن أن أحداً ينكر بعض الجوانب العامة التي تربي بعض الصفات الفردية الجميلة عموماً في مثل هذه الحكايات والمسلسلات، ولكن نمطيتها الرتيبة تبقى مسألة أخرى.
قبل الانتقال إلى الكلام على أدب الأطفال في المرحلة الثالثة من تطور الرأسمالية أرى لزاماً أن أذكر أن هذا التقسيم هو تقسيم اصطلاحي لتسهيل الدراسة، إذا لم يقم أي جدار كتيم بين هذه المرحلة أو تلك وكذلك هي الحال في التشكيلات الاجتماعية المتعارضة إذ كثيراً مارأينا التشكيلة الجديدة تولد في قلب التشكيلة القديمة ويستمر الصراع بينهما طوال العديد من السنوات إلى أن ينتصر الجديد، وماكان انتصار الجديد يعني القضاء التام والشامل على القديم قطعاً.
في المرحلة الثالثة... وبعد أن استقرت الرأسمالية كنظام مهيمن في الاقتصاد العالمي أخذت تشجع قصصاً من نوع آخر، قصصاً يغلب عليها طابع المغامرات الفردية أو طابع الحكايات الخيالية المثيرة للدهشة، والتي مسحت منها جيداً أطراف القضايا الاجتماعية الشائكة... وأبعدت عن مركز الأضواء حكايات مثل "بائعة الكبريت الصغيرة" التي وضعها أندرسن وأعيد الاعتبار من جديد "لساندريلا" وسلط عليها المزيد من الأضواء وكثرت طبعات "ذات القبعة الحمراء" وانتشرت انتشاراً واسعاً الحكايات التي تقدم للأطفال معلومات علمية مبسطة.. وكانت تبدو محايدة أول الأمر.. ثم انتقلت الرأسمالية العالمية إلى الهجوم على عقول الأطفال بالحكايات الموجهة جيداً، والتي تخدم نمط التفكير الفردي ونمط الحياة الاستهلاكية، وحل البطل الفرد "السوبرمان" الأقرب إلى الإنسان الآلي محل الإنسان الذي من لحم ودم، واستبعدت من مناهج التعليم الابتدائي حكاية "ملابس الملك الجديدة" التي كنا نقرأها صغاراً في تلك المناهج.
وصارت ثقافة الأطفال ميداناً من ميادين الحرب النفسية وأقامت الاحتكارات الدولية مؤسسات عملاقة لانتاج "ثقافة للأطفال" تخدم مصالحها.. وغمرت أسواق العالم طبعات "شعبية" من كتب الألغاز والمغامرات وقصص الجريمة وغيرها، وكانت رخيصة الأسعار فدخلت بيوت الناس على الرغم من رخص محتوها.. وانتصر هذا "البزنس" الجديد الضخم وشملت العالم شبكات من المطابع والمكتبات فأفلست دور النشر النظيفة أو كادت، وأقيمت الحواجز في وجه الكتاب الجاد.. وأخذ البلبل الصناعي مكان البلبل الحي... وخبّأ الكثير من البلابل الحقة ريشه "بمشمعات" اصطناعية وراحوا يقسرون حناجرهم المبدعة على التعود على ترداد النغمات الاصطناعية الرتيبة.
ويستطيع الدارس أن يذكر من بين السمات العامة لأدب الأطفال في المرحلة الثالثة السمات التالية:
- تمجيد القوة الغاشمة وإظهار القوي بمظهر جميل ومحبب، وتصوير عدوانه على الآخرين وكأنه انتصار جميل ومجيد على الأشرار والهمج.. (إبادة الهنود الحمر والأفارقة والعرب وغيرهم).
- الدعاية المباشرة للبرامج العسكرية الحديثة وفي مقدمتها حرب النجوم التي تكلف البشرية المليارات من الدولارات التي تحجب عن مشاريع التنمية الاجتماعية والخدمات العامة.
- تمجيد "السوبرمان" الغربي والسخرية من الآخرين، التركيز على المباريات الرياضية مثل كرة القدم والجودو والكاراتيه.- العودة إلى قصص النبلاء والملوك وتشويه التاريخ أو إعادة صياغته لخدمة أهدافهم.إن جرّافاتهم الفولاذية الضخمة تعمل في كل الحقول ليل نهار، وهي تقتلع بأصابعها الصلبة اللامعة الكثير من الجذور التي تكونت تاريخياً.
وتبدلت قيم كثيرة... استبدلوا "العجلة بالجذور" ولم تعد للأماكن مكانتها السابقة.. فحتى مسقط الرأس قد يكون الآن سفينة، أو سيارة، أو طائرة.
لقد حذرنا الكثيرون من الفلاسفة والعلماء، والكثيرون من الكتاب المبدعين أمثال أندرسن، واكزوبيري، وجاني روداري وسواهم من خطورة مايجري.. ولكنه جرى ولم نستفد من التحذيرات التي أطلقوها...
قد يقول قائل: تبدو متشائماً... ألا ترى أن موجة من الاهتمام بالفلكلور عامة، ومنه الحكايات، وقد اكتسحت أرجاء العالم؟
وأقول: بلى، إنني أرى ذلك... ولكنهم يجمعونها كي توضع في المتاحف، كما توضع هياكل الحيوانات المنقرضة، التي أصبحت بدورها موضوعاً "لبزنس" جديد هو البزنس السياحي المقولب على الطريقة الاستهلاكية.
إن الذين لا جذر حضاري لهم يزعمون أنهم مركز العالم الجديد وسادته... وهم يعملون بوسائلهم الضخمة على فرض "حكاياتهم" محاولين تدمير التراث الأصيل الذي ابتدعته الإنسانية في مسيرتها الطويلة التي لا يعرف أحد بدايتها.
إن عصر ازدهارهم ليس سوى مرحلة طارئة على تاريخ الحضارة الطويل.. فهل ستولد على أنقاضه حكاية تحكي للعالم الذي سيولد قصة الوحش الآلي الذي يقتلع الجذور ويسمم الماء والهواء؟
كان المفكرون والمبدعون في بداية هذا القرن يشفقون على الراقصات في الملاهي وعلى بائعات الهوى.. وهاهم جماعة من المثقفين في أيامنا يعلنون أحياناً، ولو على سبيل المزاح، أنهم يحسدون هؤلاء وأولئك "على رواج بضاعتهن" مع كساد "بضاعة" المفكرين والمبدعين الجادين.
أجل ثمة من يسمون القتلة والمجرمين أبطالاً.. وهم يعملون كي يفقد العالم عقله.
فهل سيذعن العالم لهم؟ هل سيدوي من جديد صوت طفل حكاية أندرسن:"إن الملك عار، إن الملك عار!".
هل سيتجدد شباب العالم وتعود إليه نضارته؟
وهل ستطير البلابل إلى حيث يعيش الناس ويعملون، ويحلمون بالدفء الإنساني ويبحثون عنه؟
سنظل نحلم بذلك، ولن نسى أن العالم بارد جداً.
المراجع طبقاً لورودها في المقال
1- جريدة "النهار" اللبنانية -تاريخ 23/5/1991.
2- كارانفيلوف - افريم ("الجذور والعجلات" ترجمة ميخائيل عيد - دار طلاس- دمشق - 1986).
3- كارانفيلوف - افريم ("مقالات مختارة"، ترجمة ميخائيل عيد، دار حطين- دمشق- عام 1989).
4- سارتر- جان بول ("الغثيان" ترجمة سهيل ادريس- دار الآداب - بيروت- عام؟
5- انجيل متى- اصحاح 21 الآية 41 ونص الآية هو (الحجر الذي رفضه البناؤون قد صار رأس الزاوية).
6- مينكوف -سفيتوسلاف- "حكايات أندرسن" بالبلغارية، منشورات "شبيبة الشعب" صوفيا- 1976.
7- ابن المقفع ("كليلة ودمنة" تحقيق مصطفى لطفي المنفلوطي- دار الكتاب العربي- بيروت- لبنان- 1966).
8- اندرسن- هانس ("أقاصيص اندرسن" ترجمة محمود إبراهيم الدسوقي- مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر- القاهرة عام 1940).وقد أشرنا إلى أرقام الصحفات في أماكنها.
تعليق