إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

الربع الخالي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الربع الخالي

    الربع الخالي

    - محسن خضر -

    قصص - منشورات اتحاد الكتاب العرب - 1997

    الربع الخالي...‏

    امرأة وحيدة في مجرة التبانة‏

    المغيــرون...‏

    القـط الأسود...‏

    حــدود العـالم...‏

    أيام الكازوزة...‏
    إذا الشعب يوما أراد الحياة
    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

  • #2
    الربع الخالي

    الربع الخالي

    - محسن خضر -

    قصص - منشورات اتحاد الكتاب العرب - 1997

    الربع الخالي...‏

    امرأة وحيدة في مجرة التبانة‏

    المغيــرون...‏

    القـط الأسود...‏

    حــدود العـالم...‏

    أيام الكازوزة...‏
    إذا الشعب يوما أراد الحياة
    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

    تعليق


    • #3
      رد: الربع الخالي

      الربع الخالي...

      يداي تستطيلان، تتعملقان، تحاولان لمس جدران الصحراء أو رفع مزلاج بابها، قدماي تتمددان لأستحيل كائناً أسطورياً فأمد يديَّ وأرفع قبة السماء من موضعها، وأقطف بضعة نجيمات من عناقيد الفضاء وأرصها فوق كفي. عنترة العبسي يمتلك قصراً منيفاً تضيئه الكهارب وتتدلى منه الثريات، ها هو ذا يسوق نياقه الحمر عائداً من بلاد الرافدين، قاصداً ديار عبله المرضعة لطفلين الآن وحبلى بالثالث، من يقبض مهرها: أبوها أم زوجها؟ يجف ريقي عطشاً، فأربو بحيرة الماء عند صرة الكثبان القصية، فمتى أدرك وهمي الكبير؟‏

      يأمرك طفلك الصغير " أعقد رباط الحذاء" فتنفذ الأمر.‏

      وتساعد الصغيرة على تمشيط شعرها وابدال ملابسها.‏

      تسلق الأرز وتدمعك رائحة البصل القوية، ولا تمل من اعداد كوب الشاي الرابع حتى الظهيرة.‏

      غداً سنعود إلى الوطن، سأصحبكم إلى الأهرام وأبو الهول، ونجوب أرجاء حديقة الحيوان لنشاهد عجائبها يا صغاري: أسودا وفيله ونمورا وطيوراً ملونة عجيبة من كل فج عميق.‏

      سنزور جديكما وأريكما رسومي في المدرسة الابتدائية بألوانها المدهشة، تسهر في الصالة بمفردك، تتذمر امرأتك في فراشها محتجة:‏

      - سيوقظ الضوء الطفلين.‏

      تكتم ضيقك وتنسحب إلى جلدك على أوراقك، لا يؤنسك إلا ضجيج المكيف اللاهث، ونشرة الواحدة صباحاً من "صوت العرب"، تخز مشاعرك وتطلق ذرات حنينك إلى الوطن.‏

      - اطفئ المذياع، صوته مقلق.‏

      تغالب بركاناً يمور في صدرك وتلوذ بكهفك الآمن، تبتلعك الرمال الناعمة حتى كتفيك، ويبقى الرأس طافياً شاهداً على غفلتك يغلفك أمل بتحقق المعجزة وينتشلك أحدهم في اللحظة الأخيرة، رأيت ذلك يحدث في فيلم قديم لفريد شوقي مثل فيه دور عنتره.‏

      حفظت شوارع البلدة الصغيرة. تقطعها في ربع ساعة، تتجاوزك سيارات مسرعة لا تميز راكبها وراء الزجاج الداكن، تشعر بمسام جلدك تغادره من وطأة الحر. همود يلم بك وتصر على أخذ نفس عميق ولكن الهواء الثقيل يعاكسك. هنا آخر بلدة على مشارف صحراء الربع الخالي الأسطورية الجهنمية، ما الذي قذف بك إلى هنا؟‏

      تبدو القطط والكلاب وكأنها هجرت المكان، ترمق طيوراً غريبة تمرق في السماء المكفهرة فتسأل نفسك أتنتسب إلى جدود شهدت الهجرة الميمونة إلى يثرب واعلاء راية الدين الجديد؟‏

      قسوة المناخ، وصلابة الملامح لا تخفي وداعة السكان الطيبين في هذه البلدة، وخلودهم إلى الصمت الموشى بالالفة.‏

      تتحرك زوجتك في مسافة لا تتجاوز ثلثمائة متر قاصدة مدرسة البنات المتوسطة الوحيدة هنا، تعود عصبية منهكة فتحتملها، تحاول ارضاءها فتقابلك بجفائها، في الأيام الأولى كانت تسترضيك وتتودد إليك في نفاق ملحوظ، بدأ التغيير مع المرتب الثاني، والتململ مع المرتب الثالث، وفي الشهر الرابع كشرت عن أنيابها، وبدت لبؤة صحراوية هربت من مصايد الانسان واكتسبت عيناها لمعة السعار، وها هي ذي تقذف بالحقيقة في مشاجرة ساخنة كزلة لسان وشت بما في قاع البحيرة "لا تكن عبءً يا أخي.‏

      تمقت في اللغة حروف كلمة "مرافق" بذلك عاهتك وتعطلك، ولكنك تتحمل من أجل الطفلين، وترد جميلها يوم وافقت على الاقتران بزوج أعرج.‏

      في اليوم المشهود بشرتك بصوت مزغرد وبوجه أبيض مضرج بدماء البهجة:‏

      أصابتني الاعارة. جاء الفرج أخيراً.‏

      تعتصر ذاكرتك مستعيداً مشاعر اللحظة وقتها: الفرح أم الضيق والمرارة.‏

      - .......؟‏

      - ولكننا واحد، مالي هو مالك؟‏

      - وعملي؟‏

      - وجودك أساسي، يشترطون محرماً..‏

      - ودراسة الماجستير؟‏

      - فلتضح من أجل الولدين، لا تكن وجه فقر.‏

      بدأت لعبة المساومة والضغط والتهديد المبطن بالتوسل، يسيل لعاب الخلاص، ويحلق طائر حلم اليسر والسعة، فتهادن.‏

      فلتعترف أن الجشع الصغير داخلك قد انتصر، فتتنازل.‏

      تفاتح أباك فيضحك بصوت عميق عركته السنون ولكنه ممرور:‏

      - وافق يا بني. سدت أبواب الخلاص إلا بابا.‏

      ونصحك رئيسك في العمل عندما استشرته.‏

      - كن فأراً. الفئران أول القافزين عندما تغرق السفينة، ونحن نغرق جميعاً الآن‏

      ينفرج قاموس الحوار عن مقررات جديدة: الواقعية والطموح والفرج والفرصة. تنظر حولك فتجد الجميع فئراناً، كل على طريقته يبغي خلاصه فحسب وجاءت إعارتها لتكون الكلمة السحرية على شفاه الواقف بالكهف الصخري المغلق، فلتهتف بها لتفتح الصخرة لتدخل تغترف وتنعم، وفي صغرك رسمت سلماً طويلاً يصل إلى المريخ بلونه الأرجواني، ورسمت طفلاً صغيراً يتلسقه، كان يشبهك. أضحى الحلم حقيقة، "لا تكن وجه فقر". يتعرف في عبارتها على وجوه لم تستوقفه من قبل: وجه الفقر" ووجه السعد" ووجه الشؤم، ووجه العز. يضيف إلى هذه الوجوه، وجهاً جديداً اكتشفه في هذه البلدة المنفية: وجه الملل والانسحاق، في أيام مكررة متشابهة.‏

      ينفرد إلى نفسه أغلب ساعات يقظته، يأتي النوم في النهاية خلاصاً مؤقتاً، يراقب الصغيرين في لعبهما، ويحاول التركيز في أوراقه ومراجعه. لا تخفي تبرمها من ركونه إلى الكتب فتبدي تذمرها بحجج مختلفة. بالتكرار عاف كتبه وافتقد شهية البحث العلمي.‏

      يتذكر البرص الضخم المسترخي فوق سلك نافذة الحمام.‏

      أدركه خوف وقشعريرة من حجمه الضخم، حاول أصابته بأصابع مرتعشه إلا أنه هوى في الخلف وعاود الصعود بعد دقائق.‏

      بالتكرار ألف وجوده في نفس الموضع، وسكنه تعاطف حقيقي معه، وتجاهل مخاوفه الكبيرة والطفليه، الآن وجد صديقاً في هذه البلدة الصموت يقاسمه الوحدة والأسى، صديقاً في بيته الموحش.‏

      حاول قراءة نظرات البرص الغامضة: أعداء أم شماتة أم اتهام!‏

      وحيداً في غيابها، وحيداً في حضورها، في البداية كان مدفع الثرثرة ينطلق يقص وقائع اليوم الدراسي: شغب التلاميذ، ومشاعرهم المحايدة، ومكائد زميلاتها المصريات، وتحفظ غير المصريات معها، ولكن التكرار جدُّ الرتابة وأبوالضيق، فركنتَ إلى الصمت ومداعبة الطفلين وأحلام الاقتناء المتصاعدة.‏

      ضبط نفسه أحياناً يفضفض إلى البرص بهمومه، الغريب أن الآخر تعود على وجوده، يقبع إلى الصمت محركاً ذيله وكأنه يرحب به.‏

      تعودت امرأته الخلود إلى النوم مبكراً، ينشدها فتصده.‏

      - متعبة.. ألا تفهم؟‏

      - فلنتحدث قليلاً.‏

      - للصبح أذنان وعينان.‏

      - أجن من الوحدة، أفتقدك.‏

      - الصباح رباح.‏

      ويجيء الصبح والظهر والعصر ولكنه لا يربح شيئاً في حين تستأثربالربح كله لنفسها، ينسحق إلى حبة رمل من بين حبات ربع مليون ميل مربع حجم صحراء الربع الخالي، قطرة في أكبر بحر رملي في العالم كله.‏

      يتذكر عبارة ياقوت الحموي في "معجم البلدان"، قرأها في مرجع في سنوات الدراسة بكلية العلوم " رمل لا تدرك أطرافه عن يمين مطلع الشمس من حجر اليمامة".‏

      تقعي وراء مرتفعات السراة في الغرب، تواجهك مرتفعات عمان من الشرق، وتحاصرك مرتفعات حضرموت من الجنوب.‏

      يصل خيالك إلى " الوبر " البلدة الأسطورية، مدينة عاد وثمود كما يزعمون، وأحفاد لوذ بن نوح، ولكنك لن تلقى مصيرهم، ولن تدفن مثلهم تحت طوفان الرمال التي ابتلعتهم منذ آلاف السنين، وستطير بأجنحتك حتى موضع قبر هود، لتسأل بلهفة عن مصير قومه.‏

      يناديك أصحابك وخصومك في مدرسة الحسينية الاعدادية بالعباسية "يا أعرج" وعندما تشاركهم لعب الكرة الشراب في "أرض النمسا" خلف مدرستك يتهرب الفريقان من اختيارك، فتقترح في أسى أن تقف حارس مرمى، فيوافقون على مضض،‏

      تخصك أمك بعطف مفرط، ويقدر أبوك محنتك فلا يقسو عليك، وان عجزا عن مواجهة نظرة الادانة في عينيك: من أورثني تلك العاهة منكما؟‏

      في سنوات الجامعة تراجع احساسك بالعجز، وازددت ثقة في نفسك، وان عرفت حدودك، ستحب "انتصار" زميلتك بالكلية طوال سنوات أربع بلا أمل حقيقي، حري بالقلب أن يسلم زمامه لأمل كوني، ولكنه يعرف حدوده أمام صرامة العقل، سيبقى سرّك فضيلتك الكبرى، وصمتك مزيه تقل في زماننا، تلتقط " انتصار" الرسالة من عينيك، تفضها ولا ترفضها وأن انتظرت البوح بك، فأي حكم كنت!‏

      عانيت الأمرين يا فتى: خلاص البوح وسعير الكتمان، وستصفر بأغنية حليم "خايف مرة أحب" مئات المرات بشفتيك دون أن تغنيها.‏

      تتبع أخبارها بعد التخرج، تزوجت ابن عمها ضابط الشرطة، وارتحلت معه بعيداً عن القاهرة أكنت عاشقاً من نوع خاص، أم أورثتك عاهتك الجبن والواقعية معاً؟ تسهر حتى الفجر، وعندما تستيقظ على جلبة الطفلين الوحيدين، تكون هي في الحصة الثالثة تقريباً، تقرأ ورقة التعليمات التي تكتبها كل صباح وتتركها فوق الكومدينو قبل ذهابها. للوساوس عفتها أحياناً، أصابك وسواس حديث العهد بشأن مالها، فأصبحت ترتاب فيه وتعافه..‏

      تسأل نفسك أحياناً: هل هذا الطعام حلال أم حرام؟‏

      تترك الطفلين وحدهما وتقصد السوق لتبتاع ما كتبته لك، تحدق إلى أوراق النقود وتشعر بتثاقل في يديك وأنت تلتقطها من الدرج، تحسد البرص الذي يروح ويجيء بلا رقيب، تتبادلان أسراركما، فتبوح بهمومك المختزنة وتطلب المعونة منه، ويقص عليك شجرة حياته ورأي بني جنسه في قضايا التوتر السياسية ويقدم حلولاً لأزمة السكان والفساد والبطالة.‏

      تعتذر له عن ترفعك وقرفك عندما أمسكت بالمشرط في المعمل لتشرح برصاً صغيراً في أول سنوات الجامعة، كنت غرا وقتها، فلتصفح عني يا صديق، أي قاتل كنت!‏

      تبحث سراً عن عمل، ولكن البلدة تضيق بك يا خريج العلوم.‏

      تحدق في الطفلين خلسة. يشبه الطفلان أمهما، كأن المؤامرة اكتملت إلا أنهما حملاً روحك. تقلقه تلك المسافة بينه وبينهما، وقذفته صغيرته بالسؤال يوماً ما: لماذا لا تسير مثلنا يا أبي؟‏

      أيهما أقدم في الوجود: البرص أم فريق الأهلي؟‏

      تحدق في امرأتك في الفراش فتكتشف كائناً غريباً عنك، أصبحت تنطوي على عالمها الخاص، يقلقك هذا البريق المخيف في عينيها عندما تجلس لتعد النقود وتسجل حساباتها في الورق، تضيف وتطرح وتضرب وأنت لا تفهم.‏

      أحياناً تحدثك بلهجة ثلجيةونظرة برقية سنتملك ونشتري ونقتني،تشعر بأن نغمة التملك في حديثها حبل مشنقة يلتف حول أعناقكم جميعاً، تبوح بضجرك فتلبسك وجه الفقر حتى لا تنساه. تكف عن سؤالها عن دخلها وعن مدخراتها، وتتعامى عن حليها الذهبية الجديدة التي تثقل يدها ورقبتها بلا توقف.‏

      - طلبت منك مراراً التخلص من هذا البرص.‏

      تناورها وتنتحل الأعذار، لا تسكن هذه المخلوقات أنانيتك ونظراتك الجشعة وأحلام التملك المستفز، في حديثك. لا تتذوق الأبراص المياه المعدنية ولا تضع "الكاتشاب" على الطعام ولا تعرف الزواج العرفي أوالخيانة الزوجية، فخليق بنا أن ننحني لها احتراماً.‏

      هل تحدثه عن قيس الذي أبصر قبر امرأة غريبة ماتت ودفنت في الصحراء، فشهق من الحسرة مواسياً: أيا رفيقتي ونحن غرباء، وكل غريب للغريب نسيب؟‏

      وفي الزمن القديم تصادق الديناصور والخنافس وكوناً شركة للاستيراد والتصدير، وكانت الكهوف فنادق خمسة نجوم، فهل عرفوا الدولار الأخضر في الزمن الميوزي، وهل بنى عثمان أحمد عثمان منشآت في قارة اطلانطيس الغارقة؟ وأول قبعة في التاريخ صنعت من درقة سلحفاة، وأول قرط ارتدته امرأة كان سحلية حية، وإذا كان حي العباسية موجوداً في زمن انسان الغاب، فهل كان يقع وقتها في ولاية كاليفورنيا أم في الريف الهندي؟‏

      يذكر المرة الأولى التي خرجا فيها سوياً بعد الخطبة، شاقته نظرات المارة التي تتابع خطواته الملتوية المهتزة وشعرها الأحمر الداكن قبل أن تضع الحجاب، تكسرت نصالهم فوق نصاله القديمة وحاول أن يشاغلها بحديث مدهش ليجنبها حرج النظرات الفضولية.‏

      يشغله اجتياز صحراء الربع الخالي الغامضة، يتوحد مع الرحالة المغامرين الذين عبروها من قبل: تشيزمان وتوماس فيلبي ويتسيفر يقطع معهم فيا في الأرض التي خاصمها المطر عشرات السنين.‏

      يصير فيلبي يسكنه ذلك المغامر ويتوحد فيه، يصطحب مثله 20رجلاً و32 ناقة وثلاث اناث ماشية وحلم مكسور، يصيد 400 نوع من الطيور العربية، ويقطع مع رجاله مسافة 400 ميل من الصحراء المقفرة وراء مصايد الرمال التي تغني.‏

      ستغني الرمال كما غنت لفيلبي، وتستطيل قدماك حتى تقفز ككنغر أو تمرق كغزال وستسرح أربع سنوات في هذه البلاد، ولكن سيحتضنك الحلم المدهش، وتخترق صحراء الربع الخالي الجهنمية في النهاية.‏

      تشهد امرأتك على بطولتك، تنصب خيامك في حماريرآل زيوير، وتجتاز حصن داهيو ايبان المهجور، وتعثر على شظايا الفخار وأساور ذهبية، وترعبك هياكل عظمية لذئاب وضباع وبوم، هل سكن حلم اختراق الربع الخالي هذه الكائنات مثلك؟.. سأقفز دون وجل إلى قاع البركان الخامد في "وابر"، وأفتش عن قوم هود في قاعه، وأجول في حصون عاد بن الينعاد الأثرية، وأتوقف عند سليل في أقصى طرف الربع الغربي، ومنها إلى طريق الفيلة باتجاه قرية وصايل لأصل إلى مكة.‏

      ستعبر الصحراء القاحلة هناك، وتعبرها هنا في صدرك، تعبرها مثل فيلبي وتتخلق انساناً جديداً خارقاً.‏

      يحمل عبء يومي العطلة الأسبوعية: الخميس والجمعة، يشعر بغربتها، وتقضي وقتها مع الطفلين لعلها تلقنهما نهمها الجشع أو تحفر فوق وجهيهما وجوه العز، تنفرد بنفسها وأحلامها المخيفة، أو تصطحب الطفلين معها لتزور زميلاتها في المدرسة مخلفة وحدته.‏

      تثقله اللحظة الخاصة، يمر موقف الاكتمال في آلية وسرعان ما يستردان الأنفاس ليتشرنق كل منهما في ذاته ويلفظان الشهوة المقدسة بعد الارتواء.‏

      أتموج القاهرة بضوضائها الأثير إلى القلب؟ وهل لا يزال جرس مدرسة الحسينية الاعدادية الصدىء يقرع في جلبته العظيمة ليفزع المارين بشارع الجيش بالعباسية؟ وسراديب القصر القديم الذي تشغله المدرسة أكان غرفاً لتعذيب المعارضين أم موضعاً لممارسة النزوات الفاسقة؟‏

      ومبنى العزبة الأصفر الكئيب في نهاية المدرسة، والمقصف والمكتبة ومخازن الكتب في سرداب القصر اتغيرت أم قاومت شيخوختها تقلبات الزمان، والقبة الزجاجية المعشقة بالخشب الملون التي تغطي سطح القصر أقاومت زلزال الأكاذيب أم تهاوت مع الأيام؟ ماذا فعل الزمان بالأستاذ محفوظ معلم الرياضيات؟ تتسلل إلى سطح المدرسة لتنفرد بنفسك وتتأمل القبة الأثرية، وتصغر قامات التلاميذ في الفناء وتسكنك قوة الكشف والسمو إلى أن يلمحك الشيخ دسوقي معلم اللغة العربية فيأمر الفراش الضخم أمين باحضارك وتقييدك لتنال جزاء مروقك وتمردك، يتدخل الأستاذ طلعت معلم التربية الرياضية ليخفف عنك العقاب، ويشيد بأخلاقك فتنال العفو.‏

      تعاود التسلل إلى السطح مجدداً وتتمتع بالقبة الساحرة الملونة وتراقب أعشاش اليمام في تجاويفها وتمكث هناك تحت خيمة السماء.‏

      يقترب العام الدراسي من نهايته، وتبدأ امرأتك في تكديس الهدايا ورشق البطاقات فوق كل هدية باسم صاحبها، تملأ أنفك رائحة الوطن، ويستعيد لعابك طعم النهر المقدس، ويحتويك حضن الأبوين العزيزين بالرغم من وهنهما. تنبت أجنحتكم في فصول العودة إلى الوطن، ويكبر قرار صعب في رأسك، ستقفز من البحر إلى السفينة الموشكة على الغرق رغم دهشة الركاب. لنغرق معاً أو ننجو معاً، ويهنئك فيلبي على اجتيازك الربع الخالي، عبر بنو وطنك القناة في حرب رمضان وعبرت أنت بحر رمالك العظيم بساقيك العملاقين.‏

      ستتحرر من زوجتك وكل نساء العالم، وستعلن الوحدة الاندماجية مع فصيلة البرص، وتسترد حريتك مع عبيد سبارتكوس، وتعلن انتسابك إلى سادة روما، وستجوب شوارع العباسية بقدمين مسحورتين جديدتين، وتذعن امرأتك لمشيئتك وتقنع بلحم الوطن، وتبتلع مرارة العيش في الوطن الذي تعوّد لفظ أبنائه ونفيهم.. وستظل تفتقد في هذه البلدة الصموت صديقك البرص، فهل ستراسله بعد عودتك على عنوانه أم تحصل له على تأشيرة لدخول القاهرة والاقامة معك.‏

      عند اقتراب العودة تغير امرأتك لهجتها إلى لهجة التودد، تخاف عذرك، ولكن تظل أصابعك متشبثة بحواف السفينة الموشكة على الغرق وتصمم أن تنضم إلى ركابها في كبرياء يليق بالرجال.‏
      إذا الشعب يوما أراد الحياة
      فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
      و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
      و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

      تعليق


      • #4
        رد: الربع الخالي

        الربع الخالي...

        يداي تستطيلان، تتعملقان، تحاولان لمس جدران الصحراء أو رفع مزلاج بابها، قدماي تتمددان لأستحيل كائناً أسطورياً فأمد يديَّ وأرفع قبة السماء من موضعها، وأقطف بضعة نجيمات من عناقيد الفضاء وأرصها فوق كفي. عنترة العبسي يمتلك قصراً منيفاً تضيئه الكهارب وتتدلى منه الثريات، ها هو ذا يسوق نياقه الحمر عائداً من بلاد الرافدين، قاصداً ديار عبله المرضعة لطفلين الآن وحبلى بالثالث، من يقبض مهرها: أبوها أم زوجها؟ يجف ريقي عطشاً، فأربو بحيرة الماء عند صرة الكثبان القصية، فمتى أدرك وهمي الكبير؟‏

        يأمرك طفلك الصغير " أعقد رباط الحذاء" فتنفذ الأمر.‏

        وتساعد الصغيرة على تمشيط شعرها وابدال ملابسها.‏

        تسلق الأرز وتدمعك رائحة البصل القوية، ولا تمل من اعداد كوب الشاي الرابع حتى الظهيرة.‏

        غداً سنعود إلى الوطن، سأصحبكم إلى الأهرام وأبو الهول، ونجوب أرجاء حديقة الحيوان لنشاهد عجائبها يا صغاري: أسودا وفيله ونمورا وطيوراً ملونة عجيبة من كل فج عميق.‏

        سنزور جديكما وأريكما رسومي في المدرسة الابتدائية بألوانها المدهشة، تسهر في الصالة بمفردك، تتذمر امرأتك في فراشها محتجة:‏

        - سيوقظ الضوء الطفلين.‏

        تكتم ضيقك وتنسحب إلى جلدك على أوراقك، لا يؤنسك إلا ضجيج المكيف اللاهث، ونشرة الواحدة صباحاً من "صوت العرب"، تخز مشاعرك وتطلق ذرات حنينك إلى الوطن.‏

        - اطفئ المذياع، صوته مقلق.‏

        تغالب بركاناً يمور في صدرك وتلوذ بكهفك الآمن، تبتلعك الرمال الناعمة حتى كتفيك، ويبقى الرأس طافياً شاهداً على غفلتك يغلفك أمل بتحقق المعجزة وينتشلك أحدهم في اللحظة الأخيرة، رأيت ذلك يحدث في فيلم قديم لفريد شوقي مثل فيه دور عنتره.‏

        حفظت شوارع البلدة الصغيرة. تقطعها في ربع ساعة، تتجاوزك سيارات مسرعة لا تميز راكبها وراء الزجاج الداكن، تشعر بمسام جلدك تغادره من وطأة الحر. همود يلم بك وتصر على أخذ نفس عميق ولكن الهواء الثقيل يعاكسك. هنا آخر بلدة على مشارف صحراء الربع الخالي الأسطورية الجهنمية، ما الذي قذف بك إلى هنا؟‏

        تبدو القطط والكلاب وكأنها هجرت المكان، ترمق طيوراً غريبة تمرق في السماء المكفهرة فتسأل نفسك أتنتسب إلى جدود شهدت الهجرة الميمونة إلى يثرب واعلاء راية الدين الجديد؟‏

        قسوة المناخ، وصلابة الملامح لا تخفي وداعة السكان الطيبين في هذه البلدة، وخلودهم إلى الصمت الموشى بالالفة.‏

        تتحرك زوجتك في مسافة لا تتجاوز ثلثمائة متر قاصدة مدرسة البنات المتوسطة الوحيدة هنا، تعود عصبية منهكة فتحتملها، تحاول ارضاءها فتقابلك بجفائها، في الأيام الأولى كانت تسترضيك وتتودد إليك في نفاق ملحوظ، بدأ التغيير مع المرتب الثاني، والتململ مع المرتب الثالث، وفي الشهر الرابع كشرت عن أنيابها، وبدت لبؤة صحراوية هربت من مصايد الانسان واكتسبت عيناها لمعة السعار، وها هي ذي تقذف بالحقيقة في مشاجرة ساخنة كزلة لسان وشت بما في قاع البحيرة "لا تكن عبءً يا أخي.‏

        تمقت في اللغة حروف كلمة "مرافق" بذلك عاهتك وتعطلك، ولكنك تتحمل من أجل الطفلين، وترد جميلها يوم وافقت على الاقتران بزوج أعرج.‏

        في اليوم المشهود بشرتك بصوت مزغرد وبوجه أبيض مضرج بدماء البهجة:‏

        أصابتني الاعارة. جاء الفرج أخيراً.‏

        تعتصر ذاكرتك مستعيداً مشاعر اللحظة وقتها: الفرح أم الضيق والمرارة.‏

        - .......؟‏

        - ولكننا واحد، مالي هو مالك؟‏

        - وعملي؟‏

        - وجودك أساسي، يشترطون محرماً..‏

        - ودراسة الماجستير؟‏

        - فلتضح من أجل الولدين، لا تكن وجه فقر.‏

        بدأت لعبة المساومة والضغط والتهديد المبطن بالتوسل، يسيل لعاب الخلاص، ويحلق طائر حلم اليسر والسعة، فتهادن.‏

        فلتعترف أن الجشع الصغير داخلك قد انتصر، فتتنازل.‏

        تفاتح أباك فيضحك بصوت عميق عركته السنون ولكنه ممرور:‏

        - وافق يا بني. سدت أبواب الخلاص إلا بابا.‏

        ونصحك رئيسك في العمل عندما استشرته.‏

        - كن فأراً. الفئران أول القافزين عندما تغرق السفينة، ونحن نغرق جميعاً الآن‏

        ينفرج قاموس الحوار عن مقررات جديدة: الواقعية والطموح والفرج والفرصة. تنظر حولك فتجد الجميع فئراناً، كل على طريقته يبغي خلاصه فحسب وجاءت إعارتها لتكون الكلمة السحرية على شفاه الواقف بالكهف الصخري المغلق، فلتهتف بها لتفتح الصخرة لتدخل تغترف وتنعم، وفي صغرك رسمت سلماً طويلاً يصل إلى المريخ بلونه الأرجواني، ورسمت طفلاً صغيراً يتلسقه، كان يشبهك. أضحى الحلم حقيقة، "لا تكن وجه فقر". يتعرف في عبارتها على وجوه لم تستوقفه من قبل: وجه الفقر" ووجه السعد" ووجه الشؤم، ووجه العز. يضيف إلى هذه الوجوه، وجهاً جديداً اكتشفه في هذه البلدة المنفية: وجه الملل والانسحاق، في أيام مكررة متشابهة.‏

        ينفرد إلى نفسه أغلب ساعات يقظته، يأتي النوم في النهاية خلاصاً مؤقتاً، يراقب الصغيرين في لعبهما، ويحاول التركيز في أوراقه ومراجعه. لا تخفي تبرمها من ركونه إلى الكتب فتبدي تذمرها بحجج مختلفة. بالتكرار عاف كتبه وافتقد شهية البحث العلمي.‏

        يتذكر البرص الضخم المسترخي فوق سلك نافذة الحمام.‏

        أدركه خوف وقشعريرة من حجمه الضخم، حاول أصابته بأصابع مرتعشه إلا أنه هوى في الخلف وعاود الصعود بعد دقائق.‏

        بالتكرار ألف وجوده في نفس الموضع، وسكنه تعاطف حقيقي معه، وتجاهل مخاوفه الكبيرة والطفليه، الآن وجد صديقاً في هذه البلدة الصموت يقاسمه الوحدة والأسى، صديقاً في بيته الموحش.‏

        حاول قراءة نظرات البرص الغامضة: أعداء أم شماتة أم اتهام!‏

        وحيداً في غيابها، وحيداً في حضورها، في البداية كان مدفع الثرثرة ينطلق يقص وقائع اليوم الدراسي: شغب التلاميذ، ومشاعرهم المحايدة، ومكائد زميلاتها المصريات، وتحفظ غير المصريات معها، ولكن التكرار جدُّ الرتابة وأبوالضيق، فركنتَ إلى الصمت ومداعبة الطفلين وأحلام الاقتناء المتصاعدة.‏

        ضبط نفسه أحياناً يفضفض إلى البرص بهمومه، الغريب أن الآخر تعود على وجوده، يقبع إلى الصمت محركاً ذيله وكأنه يرحب به.‏

        تعودت امرأته الخلود إلى النوم مبكراً، ينشدها فتصده.‏

        - متعبة.. ألا تفهم؟‏

        - فلنتحدث قليلاً.‏

        - للصبح أذنان وعينان.‏

        - أجن من الوحدة، أفتقدك.‏

        - الصباح رباح.‏

        ويجيء الصبح والظهر والعصر ولكنه لا يربح شيئاً في حين تستأثربالربح كله لنفسها، ينسحق إلى حبة رمل من بين حبات ربع مليون ميل مربع حجم صحراء الربع الخالي، قطرة في أكبر بحر رملي في العالم كله.‏

        يتذكر عبارة ياقوت الحموي في "معجم البلدان"، قرأها في مرجع في سنوات الدراسة بكلية العلوم " رمل لا تدرك أطرافه عن يمين مطلع الشمس من حجر اليمامة".‏

        تقعي وراء مرتفعات السراة في الغرب، تواجهك مرتفعات عمان من الشرق، وتحاصرك مرتفعات حضرموت من الجنوب.‏

        يصل خيالك إلى " الوبر " البلدة الأسطورية، مدينة عاد وثمود كما يزعمون، وأحفاد لوذ بن نوح، ولكنك لن تلقى مصيرهم، ولن تدفن مثلهم تحت طوفان الرمال التي ابتلعتهم منذ آلاف السنين، وستطير بأجنحتك حتى موضع قبر هود، لتسأل بلهفة عن مصير قومه.‏

        يناديك أصحابك وخصومك في مدرسة الحسينية الاعدادية بالعباسية "يا أعرج" وعندما تشاركهم لعب الكرة الشراب في "أرض النمسا" خلف مدرستك يتهرب الفريقان من اختيارك، فتقترح في أسى أن تقف حارس مرمى، فيوافقون على مضض،‏

        تخصك أمك بعطف مفرط، ويقدر أبوك محنتك فلا يقسو عليك، وان عجزا عن مواجهة نظرة الادانة في عينيك: من أورثني تلك العاهة منكما؟‏

        في سنوات الجامعة تراجع احساسك بالعجز، وازددت ثقة في نفسك، وان عرفت حدودك، ستحب "انتصار" زميلتك بالكلية طوال سنوات أربع بلا أمل حقيقي، حري بالقلب أن يسلم زمامه لأمل كوني، ولكنه يعرف حدوده أمام صرامة العقل، سيبقى سرّك فضيلتك الكبرى، وصمتك مزيه تقل في زماننا، تلتقط " انتصار" الرسالة من عينيك، تفضها ولا ترفضها وأن انتظرت البوح بك، فأي حكم كنت!‏

        عانيت الأمرين يا فتى: خلاص البوح وسعير الكتمان، وستصفر بأغنية حليم "خايف مرة أحب" مئات المرات بشفتيك دون أن تغنيها.‏

        تتبع أخبارها بعد التخرج، تزوجت ابن عمها ضابط الشرطة، وارتحلت معه بعيداً عن القاهرة أكنت عاشقاً من نوع خاص، أم أورثتك عاهتك الجبن والواقعية معاً؟ تسهر حتى الفجر، وعندما تستيقظ على جلبة الطفلين الوحيدين، تكون هي في الحصة الثالثة تقريباً، تقرأ ورقة التعليمات التي تكتبها كل صباح وتتركها فوق الكومدينو قبل ذهابها. للوساوس عفتها أحياناً، أصابك وسواس حديث العهد بشأن مالها، فأصبحت ترتاب فيه وتعافه..‏

        تسأل نفسك أحياناً: هل هذا الطعام حلال أم حرام؟‏

        تترك الطفلين وحدهما وتقصد السوق لتبتاع ما كتبته لك، تحدق إلى أوراق النقود وتشعر بتثاقل في يديك وأنت تلتقطها من الدرج، تحسد البرص الذي يروح ويجيء بلا رقيب، تتبادلان أسراركما، فتبوح بهمومك المختزنة وتطلب المعونة منه، ويقص عليك شجرة حياته ورأي بني جنسه في قضايا التوتر السياسية ويقدم حلولاً لأزمة السكان والفساد والبطالة.‏

        تعتذر له عن ترفعك وقرفك عندما أمسكت بالمشرط في المعمل لتشرح برصاً صغيراً في أول سنوات الجامعة، كنت غرا وقتها، فلتصفح عني يا صديق، أي قاتل كنت!‏

        تبحث سراً عن عمل، ولكن البلدة تضيق بك يا خريج العلوم.‏

        تحدق في الطفلين خلسة. يشبه الطفلان أمهما، كأن المؤامرة اكتملت إلا أنهما حملاً روحك. تقلقه تلك المسافة بينه وبينهما، وقذفته صغيرته بالسؤال يوماً ما: لماذا لا تسير مثلنا يا أبي؟‏

        أيهما أقدم في الوجود: البرص أم فريق الأهلي؟‏

        تحدق في امرأتك في الفراش فتكتشف كائناً غريباً عنك، أصبحت تنطوي على عالمها الخاص، يقلقك هذا البريق المخيف في عينيها عندما تجلس لتعد النقود وتسجل حساباتها في الورق، تضيف وتطرح وتضرب وأنت لا تفهم.‏

        أحياناً تحدثك بلهجة ثلجيةونظرة برقية سنتملك ونشتري ونقتني،تشعر بأن نغمة التملك في حديثها حبل مشنقة يلتف حول أعناقكم جميعاً، تبوح بضجرك فتلبسك وجه الفقر حتى لا تنساه. تكف عن سؤالها عن دخلها وعن مدخراتها، وتتعامى عن حليها الذهبية الجديدة التي تثقل يدها ورقبتها بلا توقف.‏

        - طلبت منك مراراً التخلص من هذا البرص.‏

        تناورها وتنتحل الأعذار، لا تسكن هذه المخلوقات أنانيتك ونظراتك الجشعة وأحلام التملك المستفز، في حديثك. لا تتذوق الأبراص المياه المعدنية ولا تضع "الكاتشاب" على الطعام ولا تعرف الزواج العرفي أوالخيانة الزوجية، فخليق بنا أن ننحني لها احتراماً.‏

        هل تحدثه عن قيس الذي أبصر قبر امرأة غريبة ماتت ودفنت في الصحراء، فشهق من الحسرة مواسياً: أيا رفيقتي ونحن غرباء، وكل غريب للغريب نسيب؟‏

        وفي الزمن القديم تصادق الديناصور والخنافس وكوناً شركة للاستيراد والتصدير، وكانت الكهوف فنادق خمسة نجوم، فهل عرفوا الدولار الأخضر في الزمن الميوزي، وهل بنى عثمان أحمد عثمان منشآت في قارة اطلانطيس الغارقة؟ وأول قبعة في التاريخ صنعت من درقة سلحفاة، وأول قرط ارتدته امرأة كان سحلية حية، وإذا كان حي العباسية موجوداً في زمن انسان الغاب، فهل كان يقع وقتها في ولاية كاليفورنيا أم في الريف الهندي؟‏

        يذكر المرة الأولى التي خرجا فيها سوياً بعد الخطبة، شاقته نظرات المارة التي تتابع خطواته الملتوية المهتزة وشعرها الأحمر الداكن قبل أن تضع الحجاب، تكسرت نصالهم فوق نصاله القديمة وحاول أن يشاغلها بحديث مدهش ليجنبها حرج النظرات الفضولية.‏

        يشغله اجتياز صحراء الربع الخالي الغامضة، يتوحد مع الرحالة المغامرين الذين عبروها من قبل: تشيزمان وتوماس فيلبي ويتسيفر يقطع معهم فيا في الأرض التي خاصمها المطر عشرات السنين.‏

        يصير فيلبي يسكنه ذلك المغامر ويتوحد فيه، يصطحب مثله 20رجلاً و32 ناقة وثلاث اناث ماشية وحلم مكسور، يصيد 400 نوع من الطيور العربية، ويقطع مع رجاله مسافة 400 ميل من الصحراء المقفرة وراء مصايد الرمال التي تغني.‏

        ستغني الرمال كما غنت لفيلبي، وتستطيل قدماك حتى تقفز ككنغر أو تمرق كغزال وستسرح أربع سنوات في هذه البلاد، ولكن سيحتضنك الحلم المدهش، وتخترق صحراء الربع الخالي الجهنمية في النهاية.‏

        تشهد امرأتك على بطولتك، تنصب خيامك في حماريرآل زيوير، وتجتاز حصن داهيو ايبان المهجور، وتعثر على شظايا الفخار وأساور ذهبية، وترعبك هياكل عظمية لذئاب وضباع وبوم، هل سكن حلم اختراق الربع الخالي هذه الكائنات مثلك؟.. سأقفز دون وجل إلى قاع البركان الخامد في "وابر"، وأفتش عن قوم هود في قاعه، وأجول في حصون عاد بن الينعاد الأثرية، وأتوقف عند سليل في أقصى طرف الربع الغربي، ومنها إلى طريق الفيلة باتجاه قرية وصايل لأصل إلى مكة.‏

        ستعبر الصحراء القاحلة هناك، وتعبرها هنا في صدرك، تعبرها مثل فيلبي وتتخلق انساناً جديداً خارقاً.‏

        يحمل عبء يومي العطلة الأسبوعية: الخميس والجمعة، يشعر بغربتها، وتقضي وقتها مع الطفلين لعلها تلقنهما نهمها الجشع أو تحفر فوق وجهيهما وجوه العز، تنفرد بنفسها وأحلامها المخيفة، أو تصطحب الطفلين معها لتزور زميلاتها في المدرسة مخلفة وحدته.‏

        تثقله اللحظة الخاصة، يمر موقف الاكتمال في آلية وسرعان ما يستردان الأنفاس ليتشرنق كل منهما في ذاته ويلفظان الشهوة المقدسة بعد الارتواء.‏

        أتموج القاهرة بضوضائها الأثير إلى القلب؟ وهل لا يزال جرس مدرسة الحسينية الاعدادية الصدىء يقرع في جلبته العظيمة ليفزع المارين بشارع الجيش بالعباسية؟ وسراديب القصر القديم الذي تشغله المدرسة أكان غرفاً لتعذيب المعارضين أم موضعاً لممارسة النزوات الفاسقة؟‏

        ومبنى العزبة الأصفر الكئيب في نهاية المدرسة، والمقصف والمكتبة ومخازن الكتب في سرداب القصر اتغيرت أم قاومت شيخوختها تقلبات الزمان، والقبة الزجاجية المعشقة بالخشب الملون التي تغطي سطح القصر أقاومت زلزال الأكاذيب أم تهاوت مع الأيام؟ ماذا فعل الزمان بالأستاذ محفوظ معلم الرياضيات؟ تتسلل إلى سطح المدرسة لتنفرد بنفسك وتتأمل القبة الأثرية، وتصغر قامات التلاميذ في الفناء وتسكنك قوة الكشف والسمو إلى أن يلمحك الشيخ دسوقي معلم اللغة العربية فيأمر الفراش الضخم أمين باحضارك وتقييدك لتنال جزاء مروقك وتمردك، يتدخل الأستاذ طلعت معلم التربية الرياضية ليخفف عنك العقاب، ويشيد بأخلاقك فتنال العفو.‏

        تعاود التسلل إلى السطح مجدداً وتتمتع بالقبة الساحرة الملونة وتراقب أعشاش اليمام في تجاويفها وتمكث هناك تحت خيمة السماء.‏

        يقترب العام الدراسي من نهايته، وتبدأ امرأتك في تكديس الهدايا ورشق البطاقات فوق كل هدية باسم صاحبها، تملأ أنفك رائحة الوطن، ويستعيد لعابك طعم النهر المقدس، ويحتويك حضن الأبوين العزيزين بالرغم من وهنهما. تنبت أجنحتكم في فصول العودة إلى الوطن، ويكبر قرار صعب في رأسك، ستقفز من البحر إلى السفينة الموشكة على الغرق رغم دهشة الركاب. لنغرق معاً أو ننجو معاً، ويهنئك فيلبي على اجتيازك الربع الخالي، عبر بنو وطنك القناة في حرب رمضان وعبرت أنت بحر رمالك العظيم بساقيك العملاقين.‏

        ستتحرر من زوجتك وكل نساء العالم، وستعلن الوحدة الاندماجية مع فصيلة البرص، وتسترد حريتك مع عبيد سبارتكوس، وتعلن انتسابك إلى سادة روما، وستجوب شوارع العباسية بقدمين مسحورتين جديدتين، وتذعن امرأتك لمشيئتك وتقنع بلحم الوطن، وتبتلع مرارة العيش في الوطن الذي تعوّد لفظ أبنائه ونفيهم.. وستظل تفتقد في هذه البلدة الصموت صديقك البرص، فهل ستراسله بعد عودتك على عنوانه أم تحصل له على تأشيرة لدخول القاهرة والاقامة معك.‏

        عند اقتراب العودة تغير امرأتك لهجتها إلى لهجة التودد، تخاف عذرك، ولكن تظل أصابعك متشبثة بحواف السفينة الموشكة على الغرق وتصمم أن تنضم إلى ركابها في كبرياء يليق بالرجال.‏
        إذا الشعب يوما أراد الحياة
        فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
        و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
        و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

        تعليق


        • #5
          رد: الربع الخالي

          امرأة وحيدة في مجرة التبانة

          "ها أنا وحدي‏

          وأمشي مثل ذئبين معاً فوق المياه‏

          رافعاً بالمخلب الأزرق‏

          ميزان جروحي‏

          تسقط الأنجم كالفخار في قبضة روحي‏

          ثم أعوى‏

          كي توافيني دلافين البحار"‏



          "محمد على شمس الدين"‏

          - من سنوات الأرق-‏







          1- اللهم أجعله خيراً‏



          ثلاث دقات بالمقبض الحديدي على الباب فتحت فوهة الجحيم، أجفل القلب المسكون‏

          بالترقب، أي تبديل طرأ على ناموس الكون هذه الليلة! أتستديم استدارة الأرض؟ وهذه النجوم‏

          النصف نائمة والنصف ساهرة متى تركن للتقاعد؟ وفي المبتدأ سادت الديناصورات العالم حتى‏

          طردت من الخدمة لبطئها الشديد، ولم تصرف مكافأة نهاية الخدمة، لو أكل نيوتن التفاحة بدلاً‏

          من التحديق فيها لجنب الكلبة "لايكا" مصيرها الأليم، للدهشة فصول للتفاحة؟‏

          - المهندس طارق الصاوي؟‏

          - نعم‏

          - شقيق السيدة حنان الصاوي‏

          - هه! نعم . ماذا؟‏

          - من فضلك وقع هنا، طلب حضور إلى قسم شرطة.. لمقابلة السيد معاون المباحث.‏

          للكوابيس ألوان زاهية. يستدعي كوابيسه السابقة. مررت بهذه الحالة من قبل. خيمتك‏

          بالكتيبة 47 مشاة، ظلام سيناء المقبض نسمع عواء الذئاب مختلطاً بدمدمة الجماجم. ربما‏

          تنتسب إلى أزمنة الفراعين أو العثمانيين، ربما كان جدك الأكبر واحداً منهم، ابن عم لأمك‏

          سقط في هجوم الغدر الثلاثي في 56، فلتحترم رقدته، وجارك عادل الأبيض راح في مذبحة‏

          67. كيف أميز أرواح الشهداء من عفاريت البغاة؟‏

          تترك شمعة مضيئة في الخيمة، نخفي أطرافنا بمهارة تحت غطاء البطاطين. للدفء‏

          شهوته الطاغية، فمن يستحضره لرقدتنا.‏

          كثيراً ما استيقظت في الليل يشطرني الخوف والبرد، طابور من الجرذان يطأ جسدك،‏

          ويناهز الواحد منها حجم قطة متوسطة، أتأكد من احكام الغطاء حولي، رفيقي السمين يمد كفه‏

          بضربة مباغته تدك أقربها إلى يده، تهرب بقيتها مؤقتاً قبل أن تعاود هجماتها، يخلد رفيقي إلى‏

          استنامته اللذيدة يؤشرها شخيره المنتظم الثقيل، هل تشم الفئران رائحة خوفك؟‏





          2- ولله في خلقه شئون‏



          عالمي كنت: النهر والضفتين، الخشية والرجفة فالدعة والسكون. تستحضر ردود‏

          أفعاله: انقباض عضلات وجهه حاجباه المرفوعان الأقرنان الكثيفان لازمته عندما يتشكك فيما‏

          يسمعه.‏

          كفه تمسح خصلة شعره المنزلقة على جبينه في حركة آلية، كتفاه المنحنيان من تأثير‏

          جلوسه الطويل فوق المكتب، أصابعه ترسم حروفاً وأشكالاً وهمية في الهواء الطلق عند‏

          انفعاله، أنسي يوم ارتميت في صدرك يوم طلاقي، يهبني الحضن احساساً مركباً من الدهشة‏

          والرفض والتحنان، يمتص الجدول البارد سعير نحيبك وتداعيك، وتتكفل كفك الرابتة علي بأن‏

          تهبني اطمئناناً حقيقياً وسلوى مستديمة.‏

          قادم في الطريق إلى قسم الشرطة لتنفجر فضيحتي في وجهه، بتحنانه وألمه الممزوج‏

          بالدهشة، فبأى وجه أطالع اشراقته؟ سنواتك السبع التي تكبرني بها سدّي وسندي.‏

          عندما نجحت في الاعدادية كنت في الصف الثاني الابتدائي، وعندما أنجزت مشروع‏

          تخرجك بكلية الهندسة كنت أتعثر في امتحان الثانوية العامة، وعندما انهيت معهدي ذا العامين‏

          كنت قد انهيت مدة تجنيدك، عند تخرجي بكت أمنا واحتضنتني وطرت بي في الهواء وسط‏

          ضحكاتنا الصاخبة علامات محفورة في ذاكرتي: تسلمك خطاب القوى العاملة، فرحة أول‏

          مرتب، بهجة سفرك في مهمة تدريب إلى فرنسا، نزهاتنا وأحاديثنا وأحلامنا... ويوم تسلمت‏

          بطاقة معايدتك الأولى من باريس كتبت لي:‏

          أختاه، عالمي ضيق بدونك، فمتى يعود لعالمي اتساعه وتمدده؟‏



          3- الملك لله... الملك لله‏



          تعرف ما بين الوريد والوريد من عشق قطرة الدم وقطرة الدم من صلة قربى، وما بين‏

          الزفرة والزفرة من تواد، وما بين المرفق والساعد، والعين والحاجب، والرقبة والرأس،‏

          والشفة والشفة، والكاحل والساق.‏

          لزمن الأكاذيب قدرة عجيبة على التخفي والمراوغة، وللوجوه لمعة مريبة أخاذة،‏

          للتصريحات نعومة الأفاعي وملمس المياه تنطلي على السذج رحم الله أمي يخزني دعاؤها‏

          المفضل "ربنا يسعد أوقاتكم" وقبل وفاتها الخاطفة أوصتني بك "خيتك يا طارق، دمك ولحمك،‏

          فليس لها رجل سواك"‏

          توصيك بي بالحاح:"في أيامنا العصيبة يا ضناي يندر وجود الرجال، أخوك الحائط‏

          والسد، فلوذي به".‏

          عندما أوصلتك إلى منزل عريسك، وعدت وحيداً تنازعني شعور أن الوحدة والراحة عيناك‏

          في رنوهما الأخير نشدت الصفح، وكأنك تعتذرين عن انفراط عقدنا.‏

          يوم وارينا أبانا مثواه الأخير عدنا ثلاثتنا منكسرين لأئذين ببعضنا البعض، وعندما‏

          رقدت أمنا في دار الحق، أعسرتني المسؤولية وشاقني أمرك، وعدنا وحيدين منفردين‏

          بفجيعتنا، وبعد وداعك عدت وحيداً إلى وطننا، الشقة الخاوية إلا مني، أدرت المسجل وغسلني‏

          صوت فيروز من حزني بعض الشيء تماماً كما كنا نفعل سوياً. سأسمعها بمفردي منذ الآن‏

          فصاعدً.‏

          الملك لك، الملك لك، استقبلنا الحياة بالصرخة ونودعها بالشهقة فطوبي للمحزونين. وما‏

          بين المنبع والمصب يمضي نهر العمر طاوياً أسراره في جوفه.‏



          4- والله يفعل ما يريد‏



          تقاسمنا اللقمة والثوب والفرح’، لا يمل أبونا من ترديد عبارته المفضلة عندما يضيق به‏

          الحال "استرها يا كريم".‏

          في أيام مراهقتك كنت أسمعه يتلو عليك وصيته، التي لا أعي معناها جيداً "يا بني، إذا‏

          أردت أن يحبك الله فخفه وأطعه، وإذا أردت أن يحبك المخلوقون، فأحسن إليهم، وأرفض ما‏

          في أيديهم، وإذا أردت أن يثرى مالك فزكه، وإذا أردت أن يطيل الله عمرك فصل ذوي‏

          أرحامك" يضغط أبونا على العبارة الأخيرة وكأنه يستودعك سره وأمانته وهمه.‏

          عندما كبرت فهمت التعويذة التي يلقنك أبي أياها باستمرار، أما أنت فكنت تردد في‏

          أوقات ضيقك أو ضيقي عبارتك المميزة الساخرة" فليدم الله علينا الفقر والجدعنه" وتسرع أمي‏

          تكمل في جزع "والستر يا بني".‏

          لو نطقت يمينك لقالتا: كنت كريماً معي، ولو نطقت عيناك قالت: كنت تؤثرني على‏

          نفسك.‏

          يوم سفرك إلى فرنسا أودعتك خصلة من شعري، وعند عودتك ابتعت لي أجمل فستان‏

          ارتديته في حياتي: فستان فرحي.‏

          تخونك عيناك عندما تسمع أغنية عبد المطلب "ودع هواك" يبثها المذياع. ترمق صورة‏

          أبينا بانكسار، تعرف كم كان يحبها ويرددها عندما يكون مزاجه رائقاً، وعندما أنسى وأشعل‏

          عود بخور، تسح عيناك، فقد كانت تلك عادة أمي كلما كانت هادئة، فتملأ المنزل برائحة‏

          البخور.‏

          زوجي كان يغير منك، تصارحني بشكوكك نحوه فأكذبك ولكني واجهته بالحقيقة في‏

          مشاجرة بيننا "أظافر أخي برقبتك" يشتعل وتمتد يده نحوي في وحشية.‏

          غداة زفافي أنذرته ضاحكاً "وأنت تزورنا في الصباحية":‏

          - سامزقك إذا مسستها بسوء.‏

          وعندما فاض بي ذات مرة، وبحت لك بعذاباتي، وطالعت آثار عدوانه فوق وجهي‏

          وذراعي كدت تفتك به، وقد استحلت عدوانياً لا عقال لك. جاء كلامي في النهاية مرفأ‏

          خلاصي الوحيد من نذالته: البخل والوحشية ولتكن خيبتي حملاً آخر ينوء به كاهلك.‏



          5- والكاظمين الغيظ‏



          ها هي ذي تسير بجانبك خافضة الرأس، أين جدران العالم الأربعة لأستند إليها‏

          "ضبطناها في منزله اثر بلاغ من مجهول، مديرها في العمل، ادعت أنها جاءت في مهمة‏

          عمل، ولكن ضبطت في ملابس منزلية، سأكتفي بتعهد في هذه المرة، قلبي معك، وأثق في‏

          حسن تدبيرك".‏

          يستدعي من الذاكرة مشهداً مماثلاً في فيلم لعمر الشريف وهو يجر أخته الساقطة، ثم يجبرها‏

          على القفز في النيل ويتبعها بدوره، أحسدك أيها النهر العجوز على التهام كل هذه الفضائح‏

          دون تذمر، فبأي وجه نلقاك.‏

          عندما أحضروها من الحجر رمقتك بنظرة لا تنساها، أي نقطة يبدأ عندها الانحدار:‏

          وشت النظرة بشعور الخزي أم التضرع؟ للسقوط جنسية مزدوجة، زاوية قائمة لا يكون مثلنا،‏

          تحتاج معظم الأنواع الحيوانية إلى اجتماع اثنين، لماذا لا يكون ثلاثة: الذكر والمؤنث وجنساً‏

          ثالثاً؟ ما المانع أن نتخيل عالماً يولد فيه الانسان باجماع ثلاثة أفراد بدلاً من اثنين؟ قد يكون‏

          النسل عندها مفزعاً: ديناصورات وسحالي وقناديل وديدان وساعتها ينقرض البشر، فأي ملهاة‏

          نمارسها ساعتها؟ ستتغير قوانين الأرث بالتأكيد، ويحمل الأبناء أسماء ثلاثية لأبائهم، ومن‏

          تكون له الكلمة العليا في الأسرة: الذكر أم الأنثى أم الجنس الثالث؟ يبقى للجنس الكلمة العليا‏

          في كوكبك أيها المسكين، يمتلك كل طرف نصف الحقيقة، وتحتاج الحقيقة المخبوءة إلى واحد‏

          صحيح لتنكشف وتروج، أحسد الكائنات العديمة الأعضاء التناسلية التي تتكاثر بالانشطار أو‏

          التبرعم، وتستغني عن طرف آخر.‏

          آه لو ينسحب ذلك على نوعنا البشري، آه لو فعلناها مكتفين بذواتنا، ألا يغدو العالم أكثر‏

          بهاء واشراقاً؟‏

          اكسري الصمت يا امرأة، فلننبس بشيء، فلينفجر أحدنا أو يختفي، من أكون في نظرك:‏

          عمر الشريف أم خط الصعيد؟‏



          6- والنفس أمارة بالسوء‏



          للوحدة قانونها النافذ وسطوتها الآسرة، تنحسر المدينة إلا عنك.‏

          وأنت يا عالمي ودفئي سافرت إلى البلاد المشرقية، وخلفتني دونك وحيدة، فأي حيز‏

          يلفني وأي فراغ يضمني، امرأة مطلقة وحيدة في مدينة صاخبة عجوز، عرف مديري نقطة‏

          ضعفي، رجل ناجح قوي يجيد ادراة الاسطوانات الكاذبة المعسولة، وامرأة وحيدة محبطة لأخ‏

          غائب، لعله استمع إلى أغنية القلب الكسير، يغدو العالم بك أكثر امتلاء وأرحب، تبدأ المكيدة‏

          بكلمة محايدة، فعبارة موجبة، فعرض مفتوح، فمبادرة صريحة وقحة تصب في أذن امرأة بلا‏

          ذكر، مصيدة كبيرة تبتلعك وفخ تعيه ولكنك تندفع. للجدران برودتها لعللك كابدتها بعد‏

          زواجي، في الأمسيات الباردة الصامتة تطبق عليك الجدران فتصهرك وتتركك بلا أمل.‏

          تشي المدينة ببرودتها وتسخو بفضائحها، وعندما لا يكون متاحاً لك إلا أن تستنشق‏

          أكسجين الأكاذيب والخيانة، أين يكون الفكاك؟‏

          رجل قوي كاذب وامرأة وحيدة محبطة.‏

          أفرغت ما بمعدتي وأنا أشم رائحة عرق المرأة المكتنزة المتهمة بالاتجار بالمخدرات‏

          كانت أبشع رائحة شممتها في حياتي.‏

          رجل قوي يضمك إلى دفئه ويغويك بفحولته ويخدرك بأكاذيبه فلتكن فضيحتي نقطة‏

          تضاف إلى نهر الخزي في مدينتنا.‏

          امرأة وحيدة في مدينة بائسة، في وطن عجوز، في كوكب بالمجموعة الشمسية بمجرة‏

          التبانة يضم الكون مائة مليار مجرة كمجرتنا، بها عشرة مليارات تريليون نجماً.‏

          يوجد بمجرتنا فقط 400 مليار نجم، ومن كل هذه النجوم لا يعرف سكان كوكبنا سوى‏

          نجم واحد هو الشمس، وأصغر نجم يمر بسقف الكون الذي يظلل امرأة وحيدة محبطة، يحتوي‏

          عشرة آلاف شمس كشمسنا في الحجم، أو تريليون كرة أرضية!‏

          من أبلغهم بسقوطي: مطلقي أم زوجته؟‏

          تكلم، أخرج من جلدك، اسحقني أو هبني الخلاص، لم أحتمل سفرك طوال ثلاث سنوات‏

          كاملة تسخو فيها بمكالمة هاتفية كل أسبوع، وعطلة شهر في كل عام، فهل تحتمل فضيحتي.‏



          7- والعافين عن الناس‏



          اخترت طريقك يا بنت أبي هذا نيري وقدري، فلا تعاتب يا ابن أمي، قيل لي يا غريبة‏

          عني: لو أهلناك لهذا، لما احرقناك بهذا، من أذن لك بفض ما طويناه ومن أباحك الاطلاع‏

          على ما خبأناه، أهذا فراق بيني وبينك يا رجلي الوحيد في المجرة، أحببتك فلا تبتغض،‏

          أخلصت فأقلعت، وسألتك فسافرت، وأبطأت فتعثرت، وغبت فجبنت ووقعت، من يقاسمني‏

          وحدتي وخيبتي، ثلاثة رجال في طريقي: الغادر والقادر والمأخوذ، قال الأولان! إنني رائعة‏

          في الفراش، وتركني الثالث لأواجه المدينة وحدي، فهل تقاسمني فضيحتي يا أعز الناس، لو‏

          يقع زلزال، تطيح بنا سيارة، أو يقضي الله أمره، من يقطع هذا الصمت الممرور- الذي يلفنا؟‏

          أعجز عن الاستدارة نحوك، وأن أحدثك، كيف سيضمنا منزل واحد، ومن يمد يده فيستعيد‏

          عصر البراءة والعذوبة، سأريحك من عاري، قسم الله أن نفترق ويمضي كل منا في طريق،‏

          ما طعم السقوط يا بنت أبي؟ هل أستسيغ طعم الصفح لو صفحت يا ابن أمي؟‏

          من..؟هل..؟‏

          القاهرة في 10/7/1995‏
          إذا الشعب يوما أراد الحياة
          فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
          و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
          و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

          تعليق


          • #6
            رد: الربع الخالي

            امرأة وحيدة في مجرة التبانة

            "ها أنا وحدي‏

            وأمشي مثل ذئبين معاً فوق المياه‏

            رافعاً بالمخلب الأزرق‏

            ميزان جروحي‏

            تسقط الأنجم كالفخار في قبضة روحي‏

            ثم أعوى‏

            كي توافيني دلافين البحار"‏



            "محمد على شمس الدين"‏

            - من سنوات الأرق-‏







            1- اللهم أجعله خيراً‏



            ثلاث دقات بالمقبض الحديدي على الباب فتحت فوهة الجحيم، أجفل القلب المسكون‏

            بالترقب، أي تبديل طرأ على ناموس الكون هذه الليلة! أتستديم استدارة الأرض؟ وهذه النجوم‏

            النصف نائمة والنصف ساهرة متى تركن للتقاعد؟ وفي المبتدأ سادت الديناصورات العالم حتى‏

            طردت من الخدمة لبطئها الشديد، ولم تصرف مكافأة نهاية الخدمة، لو أكل نيوتن التفاحة بدلاً‏

            من التحديق فيها لجنب الكلبة "لايكا" مصيرها الأليم، للدهشة فصول للتفاحة؟‏

            - المهندس طارق الصاوي؟‏

            - نعم‏

            - شقيق السيدة حنان الصاوي‏

            - هه! نعم . ماذا؟‏

            - من فضلك وقع هنا، طلب حضور إلى قسم شرطة.. لمقابلة السيد معاون المباحث.‏

            للكوابيس ألوان زاهية. يستدعي كوابيسه السابقة. مررت بهذه الحالة من قبل. خيمتك‏

            بالكتيبة 47 مشاة، ظلام سيناء المقبض نسمع عواء الذئاب مختلطاً بدمدمة الجماجم. ربما‏

            تنتسب إلى أزمنة الفراعين أو العثمانيين، ربما كان جدك الأكبر واحداً منهم، ابن عم لأمك‏

            سقط في هجوم الغدر الثلاثي في 56، فلتحترم رقدته، وجارك عادل الأبيض راح في مذبحة‏

            67. كيف أميز أرواح الشهداء من عفاريت البغاة؟‏

            تترك شمعة مضيئة في الخيمة، نخفي أطرافنا بمهارة تحت غطاء البطاطين. للدفء‏

            شهوته الطاغية، فمن يستحضره لرقدتنا.‏

            كثيراً ما استيقظت في الليل يشطرني الخوف والبرد، طابور من الجرذان يطأ جسدك،‏

            ويناهز الواحد منها حجم قطة متوسطة، أتأكد من احكام الغطاء حولي، رفيقي السمين يمد كفه‏

            بضربة مباغته تدك أقربها إلى يده، تهرب بقيتها مؤقتاً قبل أن تعاود هجماتها، يخلد رفيقي إلى‏

            استنامته اللذيدة يؤشرها شخيره المنتظم الثقيل، هل تشم الفئران رائحة خوفك؟‏





            2- ولله في خلقه شئون‏



            عالمي كنت: النهر والضفتين، الخشية والرجفة فالدعة والسكون. تستحضر ردود‏

            أفعاله: انقباض عضلات وجهه حاجباه المرفوعان الأقرنان الكثيفان لازمته عندما يتشكك فيما‏

            يسمعه.‏

            كفه تمسح خصلة شعره المنزلقة على جبينه في حركة آلية، كتفاه المنحنيان من تأثير‏

            جلوسه الطويل فوق المكتب، أصابعه ترسم حروفاً وأشكالاً وهمية في الهواء الطلق عند‏

            انفعاله، أنسي يوم ارتميت في صدرك يوم طلاقي، يهبني الحضن احساساً مركباً من الدهشة‏

            والرفض والتحنان، يمتص الجدول البارد سعير نحيبك وتداعيك، وتتكفل كفك الرابتة علي بأن‏

            تهبني اطمئناناً حقيقياً وسلوى مستديمة.‏

            قادم في الطريق إلى قسم الشرطة لتنفجر فضيحتي في وجهه، بتحنانه وألمه الممزوج‏

            بالدهشة، فبأى وجه أطالع اشراقته؟ سنواتك السبع التي تكبرني بها سدّي وسندي.‏

            عندما نجحت في الاعدادية كنت في الصف الثاني الابتدائي، وعندما أنجزت مشروع‏

            تخرجك بكلية الهندسة كنت أتعثر في امتحان الثانوية العامة، وعندما انهيت معهدي ذا العامين‏

            كنت قد انهيت مدة تجنيدك، عند تخرجي بكت أمنا واحتضنتني وطرت بي في الهواء وسط‏

            ضحكاتنا الصاخبة علامات محفورة في ذاكرتي: تسلمك خطاب القوى العاملة، فرحة أول‏

            مرتب، بهجة سفرك في مهمة تدريب إلى فرنسا، نزهاتنا وأحاديثنا وأحلامنا... ويوم تسلمت‏

            بطاقة معايدتك الأولى من باريس كتبت لي:‏

            أختاه، عالمي ضيق بدونك، فمتى يعود لعالمي اتساعه وتمدده؟‏



            3- الملك لله... الملك لله‏



            تعرف ما بين الوريد والوريد من عشق قطرة الدم وقطرة الدم من صلة قربى، وما بين‏

            الزفرة والزفرة من تواد، وما بين المرفق والساعد، والعين والحاجب، والرقبة والرأس،‏

            والشفة والشفة، والكاحل والساق.‏

            لزمن الأكاذيب قدرة عجيبة على التخفي والمراوغة، وللوجوه لمعة مريبة أخاذة،‏

            للتصريحات نعومة الأفاعي وملمس المياه تنطلي على السذج رحم الله أمي يخزني دعاؤها‏

            المفضل "ربنا يسعد أوقاتكم" وقبل وفاتها الخاطفة أوصتني بك "خيتك يا طارق، دمك ولحمك،‏

            فليس لها رجل سواك"‏

            توصيك بي بالحاح:"في أيامنا العصيبة يا ضناي يندر وجود الرجال، أخوك الحائط‏

            والسد، فلوذي به".‏

            عندما أوصلتك إلى منزل عريسك، وعدت وحيداً تنازعني شعور أن الوحدة والراحة عيناك‏

            في رنوهما الأخير نشدت الصفح، وكأنك تعتذرين عن انفراط عقدنا.‏

            يوم وارينا أبانا مثواه الأخير عدنا ثلاثتنا منكسرين لأئذين ببعضنا البعض، وعندما‏

            رقدت أمنا في دار الحق، أعسرتني المسؤولية وشاقني أمرك، وعدنا وحيدين منفردين‏

            بفجيعتنا، وبعد وداعك عدت وحيداً إلى وطننا، الشقة الخاوية إلا مني، أدرت المسجل وغسلني‏

            صوت فيروز من حزني بعض الشيء تماماً كما كنا نفعل سوياً. سأسمعها بمفردي منذ الآن‏

            فصاعدً.‏

            الملك لك، الملك لك، استقبلنا الحياة بالصرخة ونودعها بالشهقة فطوبي للمحزونين. وما‏

            بين المنبع والمصب يمضي نهر العمر طاوياً أسراره في جوفه.‏



            4- والله يفعل ما يريد‏



            تقاسمنا اللقمة والثوب والفرح’، لا يمل أبونا من ترديد عبارته المفضلة عندما يضيق به‏

            الحال "استرها يا كريم".‏

            في أيام مراهقتك كنت أسمعه يتلو عليك وصيته، التي لا أعي معناها جيداً "يا بني، إذا‏

            أردت أن يحبك الله فخفه وأطعه، وإذا أردت أن يحبك المخلوقون، فأحسن إليهم، وأرفض ما‏

            في أيديهم، وإذا أردت أن يثرى مالك فزكه، وإذا أردت أن يطيل الله عمرك فصل ذوي‏

            أرحامك" يضغط أبونا على العبارة الأخيرة وكأنه يستودعك سره وأمانته وهمه.‏

            عندما كبرت فهمت التعويذة التي يلقنك أبي أياها باستمرار، أما أنت فكنت تردد في‏

            أوقات ضيقك أو ضيقي عبارتك المميزة الساخرة" فليدم الله علينا الفقر والجدعنه" وتسرع أمي‏

            تكمل في جزع "والستر يا بني".‏

            لو نطقت يمينك لقالتا: كنت كريماً معي، ولو نطقت عيناك قالت: كنت تؤثرني على‏

            نفسك.‏

            يوم سفرك إلى فرنسا أودعتك خصلة من شعري، وعند عودتك ابتعت لي أجمل فستان‏

            ارتديته في حياتي: فستان فرحي.‏

            تخونك عيناك عندما تسمع أغنية عبد المطلب "ودع هواك" يبثها المذياع. ترمق صورة‏

            أبينا بانكسار، تعرف كم كان يحبها ويرددها عندما يكون مزاجه رائقاً، وعندما أنسى وأشعل‏

            عود بخور، تسح عيناك، فقد كانت تلك عادة أمي كلما كانت هادئة، فتملأ المنزل برائحة‏

            البخور.‏

            زوجي كان يغير منك، تصارحني بشكوكك نحوه فأكذبك ولكني واجهته بالحقيقة في‏

            مشاجرة بيننا "أظافر أخي برقبتك" يشتعل وتمتد يده نحوي في وحشية.‏

            غداة زفافي أنذرته ضاحكاً "وأنت تزورنا في الصباحية":‏

            - سامزقك إذا مسستها بسوء.‏

            وعندما فاض بي ذات مرة، وبحت لك بعذاباتي، وطالعت آثار عدوانه فوق وجهي‏

            وذراعي كدت تفتك به، وقد استحلت عدوانياً لا عقال لك. جاء كلامي في النهاية مرفأ‏

            خلاصي الوحيد من نذالته: البخل والوحشية ولتكن خيبتي حملاً آخر ينوء به كاهلك.‏



            5- والكاظمين الغيظ‏



            ها هي ذي تسير بجانبك خافضة الرأس، أين جدران العالم الأربعة لأستند إليها‏

            "ضبطناها في منزله اثر بلاغ من مجهول، مديرها في العمل، ادعت أنها جاءت في مهمة‏

            عمل، ولكن ضبطت في ملابس منزلية، سأكتفي بتعهد في هذه المرة، قلبي معك، وأثق في‏

            حسن تدبيرك".‏

            يستدعي من الذاكرة مشهداً مماثلاً في فيلم لعمر الشريف وهو يجر أخته الساقطة، ثم يجبرها‏

            على القفز في النيل ويتبعها بدوره، أحسدك أيها النهر العجوز على التهام كل هذه الفضائح‏

            دون تذمر، فبأي وجه نلقاك.‏

            عندما أحضروها من الحجر رمقتك بنظرة لا تنساها، أي نقطة يبدأ عندها الانحدار:‏

            وشت النظرة بشعور الخزي أم التضرع؟ للسقوط جنسية مزدوجة، زاوية قائمة لا يكون مثلنا،‏

            تحتاج معظم الأنواع الحيوانية إلى اجتماع اثنين، لماذا لا يكون ثلاثة: الذكر والمؤنث وجنساً‏

            ثالثاً؟ ما المانع أن نتخيل عالماً يولد فيه الانسان باجماع ثلاثة أفراد بدلاً من اثنين؟ قد يكون‏

            النسل عندها مفزعاً: ديناصورات وسحالي وقناديل وديدان وساعتها ينقرض البشر، فأي ملهاة‏

            نمارسها ساعتها؟ ستتغير قوانين الأرث بالتأكيد، ويحمل الأبناء أسماء ثلاثية لأبائهم، ومن‏

            تكون له الكلمة العليا في الأسرة: الذكر أم الأنثى أم الجنس الثالث؟ يبقى للجنس الكلمة العليا‏

            في كوكبك أيها المسكين، يمتلك كل طرف نصف الحقيقة، وتحتاج الحقيقة المخبوءة إلى واحد‏

            صحيح لتنكشف وتروج، أحسد الكائنات العديمة الأعضاء التناسلية التي تتكاثر بالانشطار أو‏

            التبرعم، وتستغني عن طرف آخر.‏

            آه لو ينسحب ذلك على نوعنا البشري، آه لو فعلناها مكتفين بذواتنا، ألا يغدو العالم أكثر‏

            بهاء واشراقاً؟‏

            اكسري الصمت يا امرأة، فلننبس بشيء، فلينفجر أحدنا أو يختفي، من أكون في نظرك:‏

            عمر الشريف أم خط الصعيد؟‏



            6- والنفس أمارة بالسوء‏



            للوحدة قانونها النافذ وسطوتها الآسرة، تنحسر المدينة إلا عنك.‏

            وأنت يا عالمي ودفئي سافرت إلى البلاد المشرقية، وخلفتني دونك وحيدة، فأي حيز‏

            يلفني وأي فراغ يضمني، امرأة مطلقة وحيدة في مدينة صاخبة عجوز، عرف مديري نقطة‏

            ضعفي، رجل ناجح قوي يجيد ادراة الاسطوانات الكاذبة المعسولة، وامرأة وحيدة محبطة لأخ‏

            غائب، لعله استمع إلى أغنية القلب الكسير، يغدو العالم بك أكثر امتلاء وأرحب، تبدأ المكيدة‏

            بكلمة محايدة، فعبارة موجبة، فعرض مفتوح، فمبادرة صريحة وقحة تصب في أذن امرأة بلا‏

            ذكر، مصيدة كبيرة تبتلعك وفخ تعيه ولكنك تندفع. للجدران برودتها لعللك كابدتها بعد‏

            زواجي، في الأمسيات الباردة الصامتة تطبق عليك الجدران فتصهرك وتتركك بلا أمل.‏

            تشي المدينة ببرودتها وتسخو بفضائحها، وعندما لا يكون متاحاً لك إلا أن تستنشق‏

            أكسجين الأكاذيب والخيانة، أين يكون الفكاك؟‏

            رجل قوي كاذب وامرأة وحيدة محبطة.‏

            أفرغت ما بمعدتي وأنا أشم رائحة عرق المرأة المكتنزة المتهمة بالاتجار بالمخدرات‏

            كانت أبشع رائحة شممتها في حياتي.‏

            رجل قوي يضمك إلى دفئه ويغويك بفحولته ويخدرك بأكاذيبه فلتكن فضيحتي نقطة‏

            تضاف إلى نهر الخزي في مدينتنا.‏

            امرأة وحيدة في مدينة بائسة، في وطن عجوز، في كوكب بالمجموعة الشمسية بمجرة‏

            التبانة يضم الكون مائة مليار مجرة كمجرتنا، بها عشرة مليارات تريليون نجماً.‏

            يوجد بمجرتنا فقط 400 مليار نجم، ومن كل هذه النجوم لا يعرف سكان كوكبنا سوى‏

            نجم واحد هو الشمس، وأصغر نجم يمر بسقف الكون الذي يظلل امرأة وحيدة محبطة، يحتوي‏

            عشرة آلاف شمس كشمسنا في الحجم، أو تريليون كرة أرضية!‏

            من أبلغهم بسقوطي: مطلقي أم زوجته؟‏

            تكلم، أخرج من جلدك، اسحقني أو هبني الخلاص، لم أحتمل سفرك طوال ثلاث سنوات‏

            كاملة تسخو فيها بمكالمة هاتفية كل أسبوع، وعطلة شهر في كل عام، فهل تحتمل فضيحتي.‏



            7- والعافين عن الناس‏



            اخترت طريقك يا بنت أبي هذا نيري وقدري، فلا تعاتب يا ابن أمي، قيل لي يا غريبة‏

            عني: لو أهلناك لهذا، لما احرقناك بهذا، من أذن لك بفض ما طويناه ومن أباحك الاطلاع‏

            على ما خبأناه، أهذا فراق بيني وبينك يا رجلي الوحيد في المجرة، أحببتك فلا تبتغض،‏

            أخلصت فأقلعت، وسألتك فسافرت، وأبطأت فتعثرت، وغبت فجبنت ووقعت، من يقاسمني‏

            وحدتي وخيبتي، ثلاثة رجال في طريقي: الغادر والقادر والمأخوذ، قال الأولان! إنني رائعة‏

            في الفراش، وتركني الثالث لأواجه المدينة وحدي، فهل تقاسمني فضيحتي يا أعز الناس، لو‏

            يقع زلزال، تطيح بنا سيارة، أو يقضي الله أمره، من يقطع هذا الصمت الممرور- الذي يلفنا؟‏

            أعجز عن الاستدارة نحوك، وأن أحدثك، كيف سيضمنا منزل واحد، ومن يمد يده فيستعيد‏

            عصر البراءة والعذوبة، سأريحك من عاري، قسم الله أن نفترق ويمضي كل منا في طريق،‏

            ما طعم السقوط يا بنت أبي؟ هل أستسيغ طعم الصفح لو صفحت يا ابن أمي؟‏

            من..؟هل..؟‏

            القاهرة في 10/7/1995‏
            إذا الشعب يوما أراد الحياة
            فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
            و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
            و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

            تعليق


            • #7
              رد: الربع الخالي

              المغيــرون...

              تلتقط أذناه المدربتان حفيف الروب الزاهي الفخم، والنقرات الخفيفة للخف، يميز سمة الحركة: تأنق وحذر.‏

              في اللحظة التالية يملأ جسده الفارع الضخم بصلعته اللامعة الحيز أعلى الدرج، يهمس بصوت يجمع بين الرقة والتنبيه: عم محمد.‏

              تقفز عينا الأخير من فورهما إلى الاتجاه المعتاد، تشتهي عيناه المشهد، لا تخلو يد الهابط المتأنق من أطايب: طعام العشاء، ترمس شاي، علبة سجائر محلية أو مستوردة، قطع الجاتوه والشراب المثلج.‏

              علمته مهنته كمخبر أن يخترق الظاهر، ويفترض الأسوأ، ويحتاط للخطر، ويتشمم اتجاه الريح: لا يستنيم للعادة أو يستمريء المألوف، يحاول النفاذ إلى هيبة الرجل المهم المكلف بحراسته في النوبة الليلية منذ أن وضعوا اسمه في قوائم الاغتيال وضعوا حراسة مشددة حول منزله طوال الأربع والعشرين ساعة، وكلف حارس آخر بمرافقته في تنقلاته، أما هو فقد اختير لنوبة الحراسة الليلية والتي تنتهي في السابعة صباحاً.‏

              لم يفهم حتى اللحظة لماذا يهدد مجهولون الرجل المهم بالتصفية الجسدية؟‏

              منذ أن كلف بالمهمة تكونت بينه وبين القاضي المهدد علاقة خاصة تقرب من خط الاحتياج المتبادل يمازجها نوع من الألفة.‏

              يغالب الحارس سؤال نيزكي الطبع، ذئبي الأثر!‏

              - وماذا إذا قدموا ونفذوا تهديدهم؟‏

              تكر الأيام حياته الليلية، وتحوطه شهور متتالية آمنة حبلى بالترقب والحذر:‏

              يمارس القاضي حياته المألوفة دون أن يفقد توازنه أو يسكنه خوف قوي: يمضي في الصباح إلى المحكمة، ويقضي ساعات المساء في النادي أو النقابة أو مع الأصدقاء قبل أن يهجع إلى منزله متأخراً عند منتصف الليل تقريباً.‏

              عندما تلتقط أذنه جلبة السيارة القديمة نوعاً، يقفز من فوق الدكة الخشبية في مدخل العمارة الفخمة ليكون في استقبال الرجل المهم.‏

              كان الأخير قد سأم مرافقة الحارس الذي يلازمه في تنقلاته فطلب منهم أن يصرفوه بعد انتهاء موعد عمله بالمحكمة، ليكون حراً في نصف اليوم الآخر واستجابوا له مع تحذيره وتزويده بسلاح شخصي.‏

              يمضي الوقت بطيئاً ثقيلاً بعد أوبة الرجل المهم من سهرته، تستطيل أذناه وتضخم خيالاته أشباه الأصوات مترقباً انفتاح الباب ونزول الرجل المهم على الدرج بخطواته الواثقة الحذرة حاملا ما يجود به من طعام.‏

              تتحرك أمعاؤه ويزدرد ريقه منتظراً أوان الفرج.‏

              لا يتيح مرتبه المحدود أن ينعم بأيامه، وتضيق ذات اليد عن تأمين حياة حقيقية لأسرة من ستة أفراد.‏

              يقضي نهاره نائماً ويقطع بقية نهاراته بين التردد على المقهى القريب من سكنه أو حضور الصلاة بالزاوية القريبة، يسود حياته جفاف يميزه العوز والوحدة وآلام ركبتيه.‏

              مل من السؤال: أين اختفت المرأة المليحة التي تزوجها منذ سنوات بعيدة وراء الطبقات الشحيمة لتلك الثرثارة الشرسة؟‏

              لابنائه عوالمهم، يتظاهرون باحترامه ولكنهم يقيمون حاجزاً بينه وبينهم يخفف الجفاف دفء نفوذ صغير يحظى به بين جيرانه وسكان الحارة بالحي الشعبي البعيد.‏

              - يا عم محمد.‏

              تجيء البشارة أخيراً، يسخو الظلام بفيضه، فيشعر أن شحوب ضوء الدرج يستحيل وهجا من نور. يدغدغ النداء الواثق الهادي الحازم مشاعره، فتلفه حالة من النشوة فيستعيد أوقات انفراده بأمرأته في صدر حياتهما.‏

              يكرر الرجل المهم استدعاءه، يقفز الحارس من مكمنه في مدخل العمارة المظلم الدامس ويستجيب للنداء في خفة ورشاقة. يشعر بأطرافه ترتخي، ويلفه توحد غريب فيندمج تكوينه، وتنضغط ذراته فيشعر بكينونته حاضرة متوثبة.‏

              عندما يتناول اللفافة من الهابط تعزف موسيقى خفية في أذنه، وتزدحم كلمات الشكر والتعفف على لسانه، ويسقط معظمها في الطريق.‏

              يؤجل فضوله المختلط بفرحة طاغية حتى يعود الرجل أدراجه، وينفرد بنفسه بخبرة أوجدها التكرار تميز أصابعه محتويات اللفافة، يميل الطعام إلى السخونة في الشتاء، أما في الصيف فيرفد الطعام بزجاجة مثلجة تمتص حرارة أمسيات الصيف ، تبرع الطاهية التي تأتي مرتين في الأسبوع في اعداد الطعام، عندما يؤوب الرجل المهم في الليل يقوم بتسخينه إذا كان الوقت مبكراً، أو يكتفي بالزبادي والفاكهة إذا تأخر في الخارج.‏

              ضبط نفسه مراراً متلبساً باستعارة المشهد واسترجاع الانفعالات، في سكنه أو على المقهى أو في أحلامه، تنجح وجبة العشاء الشهية في امتصاص احباطاته وتبديد أحزانه.‏

              يحتضنه حنان "الباشا" كما تعود أن يناديه، لم يدلله أحد من قبل فحياته مسكونه بالشك والترقب، يلمح نظرهةالحذر الممزوجة بالشك في وجوه كل من يعرفهم، هو نفسه يسكنه تشكك متعمق، يتخلل جوانحه ودواخله.‏

              ويحتار في تحديد مشاعره الحقيقية تجاه الشك والخوف والترحاب الظاهر الذي يستقبله به الآخرون! هل يسعده أم يشقيه.‏

              يعجز عن تقديم اجابة محددة، يتبقى له على أي حال ما يشبع غروره، تسميته بينهم "محمد المخبر".‏

              في البداية كان يقص على أسرته بذخ القاضي معه، ولكنه قرأ بالتكرار في عيونهم لمعة الحسد، فكف عن الحكي وحبس في صدره شئونه، استدرج البواب في الحديث فعرف أن الرجل المهم عاف الزواج حتى الآن، وفي القسم فهم لماذا يطلبون دمه ويسعون وراءه، لأنه حكم على بعض المعارضين بالاعدام فانتفض رفاقهم للثأر لهم والسعي وراءه. بالتكرار عرف أهمية الرجل: شاهده مرة فوق شاشة التلفاز يتحدث في برنامج ما، ورأى صورته مرتين في الجريدة، يذيب دفء التقارب برودة الحواجز الطبيعية، فيتحول من مراقب وحارس إلى تابع: قد يحمل للرجل حاجياته، أوينادي له البواب عند الضرورة.‏

              في المرات التي يستدعيه فيها إلى أعلى تدهشه فخامة الشقة وإن كانت الاضاءة المعتمة والألوان الداكنة تميز محتوياتها.‏

              تتواتر أنباء مؤكدة عن اختراقات هنا أو اخفاق هناك، ينجحون في النيل من بعض المرصودين من خصومهم أحياناً، ويفشل هجومهم غير مرة، فتثير أخبار النجاح والفشل توتر الرؤساء ومخاوف أطقم الحراسة وخاصة مع تكرار التعليمات المشددة المهددة باليقظة والاستنفار.‏

              يلوذ بالأمان الذي تسبغه البوابه الحديدية المغلقة بالجنزير والقفل من الداخل، فيقطع بطء ليالي الحراسة بقصر الغفوات وانتهاب الكرى، وخاصة في الوقت الذي يتوسط منتصف الليل الشتوي وتباشير الفجر، لا تعادل لذة نعاس السحر لذة، وعندما يسطع آذان الفجر من أقرب مسجد لا يخرج ساكن من سكان العمارة الضخمة لصلاة الفجر ولا مرة واحدة.‏

              لا تفلح البطانية السوداء الثقيلة ولا معطفه الميري الثقيل في دفع شعوره بالبرودة، ترتعد فرائصه فيلوذ بالنعاس الذي يخونه أحياناً، يحسد البواب الصعيدي القابع في غرفته الخشبية يستفزه شخيره المنتظم المرتفع الصادر من الغرفة الضيقة المزدحمة، تدهشه قدرة هذه الأجساد المكدسة على شغل حيز الغرفة الواقعة أسفل الدرج، دافع خواطر خبيثة، ومقاومة ماكرة عن الوسيلة التي ينفرد بها البواب مع امرأته وسط حصار العيون المحدقة، لديه خبرة شخصية لا تنسى في هذا الشأن.‏

              يؤرقه قطع الزجاج الذي يملأ فراغات باب العمارة الحديدي قلقاً لا ينكره، فلو جاءوا بليل وسددوا أسلحتهم من موضع الزجاج لكوموه قبل أن ينتبه، أيستحق الأمر كله أن يودع هذه الحياة الجافة، أن تدركه راحة طويلة أخيراً؟‏

              يظل طائر الخطر محلقاً على أية حال: يبصره ولا يأمنه، وان تظل حماية الخالق المأمن والملاذ.‏

              للأيام ألوانها، وأغمقها يوم راحته الأسبوعي، أو يوم راحة القاضي أو يوم مرضه المفاجىء.‏

              يعني ذلك أنه سيحرم من وجبته الشهية المعتادة. يعترف أن مهنته الأصلية تراجعت إلى الخلف، وأنه أصبح يختزل العمل كله، واليوم كله، والأحداث كلها في حدث واحد محدد هو امتلاء معدته ولعق لسانه بعد تناول وجبته المعهودة والتي يزدردها في بطء، ويلوكها بين أسنانه وضرورسه في متعة هائلة، كأنها عملية تعارف وتحسيس واستقبال، تبدأ لحظاته المشهودة، والحدث الجلل عندما يلتقط ردار أذنه حفيف الروب ونقرات الخف فوق الدرجات الملساء، تم يعقبها النداء الهادىء الحازم بأسمه، تعود أن يتلكأ في مغادرة نوبته في الصباح، حتى بعد تسلم زميله الحراسة منه إلى موعد مغادرة القاضي المنزل، وتحرك سيارته وبجواره حارسه الآخر.‏

              يتعمد أن يراه الرجل المهم واقفاً في انتظاره حتى المغادرة كنوع من الاعتراف بالصنيع، وعندما يظهر عند قمة الدرج يهرع إليه ليحمل حقيبته الجلدية الأنيقة تدوخه رائحة عطر نفاذه كمخدر لذيذ، ويلقي الرجل عليه تحية الصباح في لهجة رسمية كأنه لا يعرفه من قبل.‏

              في اليوم العاشر من الشهر العاشر للمراقبة هبط الطائر ناحيته، أستنام إلى راحة كونية، وهدأت مخاوفه حتى كادت تتلاشى.... المدينة هادئة كانت، والحي هادئاً كان، والقلب ينشد أغنيته، ولليل طعم الحليب في فمه.‏

              وقفت سيارتهم بعيداً ثم ترجلوا منها، وحاذروا في سيرهم، كان مذياعه الصغير يثرثر ببرنامج ليلي، والحارس يحلق في مدار آخر بعد وجبة العشاء الشهية والتي ضمت نصف دجاجة كاملة وقطعة معكرونة كبيرة وتفاحة، عندما كسرت الماسورة الحديدية الباردة قطعة الزجاج التي تصل قضيبين حديديين بالباب الضخم، لم تكن بعيدة عن مكمنه فوق الدكة الخشبية في مدخل العمارة.‏

              آخر ما شغله سؤال غريب عن صلعة الأغنياء ولماذا تلمع باستمرار عكس صلعة الفقراء...‏

              عندما كانت الفوهة فوق صدغه تماماً كانت ابتسامة ترف على شفتيه، ابتسامة هانئة ممتعة، هادئة.‏

              القاهرة في 3/7/1995‏
              إذا الشعب يوما أراد الحياة
              فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
              و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
              و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

              تعليق


              • #8
                رد: الربع الخالي

                المغيــرون...

                تلتقط أذناه المدربتان حفيف الروب الزاهي الفخم، والنقرات الخفيفة للخف، يميز سمة الحركة: تأنق وحذر.‏

                في اللحظة التالية يملأ جسده الفارع الضخم بصلعته اللامعة الحيز أعلى الدرج، يهمس بصوت يجمع بين الرقة والتنبيه: عم محمد.‏

                تقفز عينا الأخير من فورهما إلى الاتجاه المعتاد، تشتهي عيناه المشهد، لا تخلو يد الهابط المتأنق من أطايب: طعام العشاء، ترمس شاي، علبة سجائر محلية أو مستوردة، قطع الجاتوه والشراب المثلج.‏

                علمته مهنته كمخبر أن يخترق الظاهر، ويفترض الأسوأ، ويحتاط للخطر، ويتشمم اتجاه الريح: لا يستنيم للعادة أو يستمريء المألوف، يحاول النفاذ إلى هيبة الرجل المهم المكلف بحراسته في النوبة الليلية منذ أن وضعوا اسمه في قوائم الاغتيال وضعوا حراسة مشددة حول منزله طوال الأربع والعشرين ساعة، وكلف حارس آخر بمرافقته في تنقلاته، أما هو فقد اختير لنوبة الحراسة الليلية والتي تنتهي في السابعة صباحاً.‏

                لم يفهم حتى اللحظة لماذا يهدد مجهولون الرجل المهم بالتصفية الجسدية؟‏

                منذ أن كلف بالمهمة تكونت بينه وبين القاضي المهدد علاقة خاصة تقرب من خط الاحتياج المتبادل يمازجها نوع من الألفة.‏

                يغالب الحارس سؤال نيزكي الطبع، ذئبي الأثر!‏

                - وماذا إذا قدموا ونفذوا تهديدهم؟‏

                تكر الأيام حياته الليلية، وتحوطه شهور متتالية آمنة حبلى بالترقب والحذر:‏

                يمارس القاضي حياته المألوفة دون أن يفقد توازنه أو يسكنه خوف قوي: يمضي في الصباح إلى المحكمة، ويقضي ساعات المساء في النادي أو النقابة أو مع الأصدقاء قبل أن يهجع إلى منزله متأخراً عند منتصف الليل تقريباً.‏

                عندما تلتقط أذنه جلبة السيارة القديمة نوعاً، يقفز من فوق الدكة الخشبية في مدخل العمارة الفخمة ليكون في استقبال الرجل المهم.‏

                كان الأخير قد سأم مرافقة الحارس الذي يلازمه في تنقلاته فطلب منهم أن يصرفوه بعد انتهاء موعد عمله بالمحكمة، ليكون حراً في نصف اليوم الآخر واستجابوا له مع تحذيره وتزويده بسلاح شخصي.‏

                يمضي الوقت بطيئاً ثقيلاً بعد أوبة الرجل المهم من سهرته، تستطيل أذناه وتضخم خيالاته أشباه الأصوات مترقباً انفتاح الباب ونزول الرجل المهم على الدرج بخطواته الواثقة الحذرة حاملا ما يجود به من طعام.‏

                تتحرك أمعاؤه ويزدرد ريقه منتظراً أوان الفرج.‏

                لا يتيح مرتبه المحدود أن ينعم بأيامه، وتضيق ذات اليد عن تأمين حياة حقيقية لأسرة من ستة أفراد.‏

                يقضي نهاره نائماً ويقطع بقية نهاراته بين التردد على المقهى القريب من سكنه أو حضور الصلاة بالزاوية القريبة، يسود حياته جفاف يميزه العوز والوحدة وآلام ركبتيه.‏

                مل من السؤال: أين اختفت المرأة المليحة التي تزوجها منذ سنوات بعيدة وراء الطبقات الشحيمة لتلك الثرثارة الشرسة؟‏

                لابنائه عوالمهم، يتظاهرون باحترامه ولكنهم يقيمون حاجزاً بينه وبينهم يخفف الجفاف دفء نفوذ صغير يحظى به بين جيرانه وسكان الحارة بالحي الشعبي البعيد.‏

                - يا عم محمد.‏

                تجيء البشارة أخيراً، يسخو الظلام بفيضه، فيشعر أن شحوب ضوء الدرج يستحيل وهجا من نور. يدغدغ النداء الواثق الهادي الحازم مشاعره، فتلفه حالة من النشوة فيستعيد أوقات انفراده بأمرأته في صدر حياتهما.‏

                يكرر الرجل المهم استدعاءه، يقفز الحارس من مكمنه في مدخل العمارة المظلم الدامس ويستجيب للنداء في خفة ورشاقة. يشعر بأطرافه ترتخي، ويلفه توحد غريب فيندمج تكوينه، وتنضغط ذراته فيشعر بكينونته حاضرة متوثبة.‏

                عندما يتناول اللفافة من الهابط تعزف موسيقى خفية في أذنه، وتزدحم كلمات الشكر والتعفف على لسانه، ويسقط معظمها في الطريق.‏

                يؤجل فضوله المختلط بفرحة طاغية حتى يعود الرجل أدراجه، وينفرد بنفسه بخبرة أوجدها التكرار تميز أصابعه محتويات اللفافة، يميل الطعام إلى السخونة في الشتاء، أما في الصيف فيرفد الطعام بزجاجة مثلجة تمتص حرارة أمسيات الصيف ، تبرع الطاهية التي تأتي مرتين في الأسبوع في اعداد الطعام، عندما يؤوب الرجل المهم في الليل يقوم بتسخينه إذا كان الوقت مبكراً، أو يكتفي بالزبادي والفاكهة إذا تأخر في الخارج.‏

                ضبط نفسه مراراً متلبساً باستعارة المشهد واسترجاع الانفعالات، في سكنه أو على المقهى أو في أحلامه، تنجح وجبة العشاء الشهية في امتصاص احباطاته وتبديد أحزانه.‏

                يحتضنه حنان "الباشا" كما تعود أن يناديه، لم يدلله أحد من قبل فحياته مسكونه بالشك والترقب، يلمح نظرهةالحذر الممزوجة بالشك في وجوه كل من يعرفهم، هو نفسه يسكنه تشكك متعمق، يتخلل جوانحه ودواخله.‏

                ويحتار في تحديد مشاعره الحقيقية تجاه الشك والخوف والترحاب الظاهر الذي يستقبله به الآخرون! هل يسعده أم يشقيه.‏

                يعجز عن تقديم اجابة محددة، يتبقى له على أي حال ما يشبع غروره، تسميته بينهم "محمد المخبر".‏

                في البداية كان يقص على أسرته بذخ القاضي معه، ولكنه قرأ بالتكرار في عيونهم لمعة الحسد، فكف عن الحكي وحبس في صدره شئونه، استدرج البواب في الحديث فعرف أن الرجل المهم عاف الزواج حتى الآن، وفي القسم فهم لماذا يطلبون دمه ويسعون وراءه، لأنه حكم على بعض المعارضين بالاعدام فانتفض رفاقهم للثأر لهم والسعي وراءه. بالتكرار عرف أهمية الرجل: شاهده مرة فوق شاشة التلفاز يتحدث في برنامج ما، ورأى صورته مرتين في الجريدة، يذيب دفء التقارب برودة الحواجز الطبيعية، فيتحول من مراقب وحارس إلى تابع: قد يحمل للرجل حاجياته، أوينادي له البواب عند الضرورة.‏

                في المرات التي يستدعيه فيها إلى أعلى تدهشه فخامة الشقة وإن كانت الاضاءة المعتمة والألوان الداكنة تميز محتوياتها.‏

                تتواتر أنباء مؤكدة عن اختراقات هنا أو اخفاق هناك، ينجحون في النيل من بعض المرصودين من خصومهم أحياناً، ويفشل هجومهم غير مرة، فتثير أخبار النجاح والفشل توتر الرؤساء ومخاوف أطقم الحراسة وخاصة مع تكرار التعليمات المشددة المهددة باليقظة والاستنفار.‏

                يلوذ بالأمان الذي تسبغه البوابه الحديدية المغلقة بالجنزير والقفل من الداخل، فيقطع بطء ليالي الحراسة بقصر الغفوات وانتهاب الكرى، وخاصة في الوقت الذي يتوسط منتصف الليل الشتوي وتباشير الفجر، لا تعادل لذة نعاس السحر لذة، وعندما يسطع آذان الفجر من أقرب مسجد لا يخرج ساكن من سكان العمارة الضخمة لصلاة الفجر ولا مرة واحدة.‏

                لا تفلح البطانية السوداء الثقيلة ولا معطفه الميري الثقيل في دفع شعوره بالبرودة، ترتعد فرائصه فيلوذ بالنعاس الذي يخونه أحياناً، يحسد البواب الصعيدي القابع في غرفته الخشبية يستفزه شخيره المنتظم المرتفع الصادر من الغرفة الضيقة المزدحمة، تدهشه قدرة هذه الأجساد المكدسة على شغل حيز الغرفة الواقعة أسفل الدرج، دافع خواطر خبيثة، ومقاومة ماكرة عن الوسيلة التي ينفرد بها البواب مع امرأته وسط حصار العيون المحدقة، لديه خبرة شخصية لا تنسى في هذا الشأن.‏

                يؤرقه قطع الزجاج الذي يملأ فراغات باب العمارة الحديدي قلقاً لا ينكره، فلو جاءوا بليل وسددوا أسلحتهم من موضع الزجاج لكوموه قبل أن ينتبه، أيستحق الأمر كله أن يودع هذه الحياة الجافة، أن تدركه راحة طويلة أخيراً؟‏

                يظل طائر الخطر محلقاً على أية حال: يبصره ولا يأمنه، وان تظل حماية الخالق المأمن والملاذ.‏

                للأيام ألوانها، وأغمقها يوم راحته الأسبوعي، أو يوم راحة القاضي أو يوم مرضه المفاجىء.‏

                يعني ذلك أنه سيحرم من وجبته الشهية المعتادة. يعترف أن مهنته الأصلية تراجعت إلى الخلف، وأنه أصبح يختزل العمل كله، واليوم كله، والأحداث كلها في حدث واحد محدد هو امتلاء معدته ولعق لسانه بعد تناول وجبته المعهودة والتي يزدردها في بطء، ويلوكها بين أسنانه وضرورسه في متعة هائلة، كأنها عملية تعارف وتحسيس واستقبال، تبدأ لحظاته المشهودة، والحدث الجلل عندما يلتقط ردار أذنه حفيف الروب ونقرات الخف فوق الدرجات الملساء، تم يعقبها النداء الهادىء الحازم بأسمه، تعود أن يتلكأ في مغادرة نوبته في الصباح، حتى بعد تسلم زميله الحراسة منه إلى موعد مغادرة القاضي المنزل، وتحرك سيارته وبجواره حارسه الآخر.‏

                يتعمد أن يراه الرجل المهم واقفاً في انتظاره حتى المغادرة كنوع من الاعتراف بالصنيع، وعندما يظهر عند قمة الدرج يهرع إليه ليحمل حقيبته الجلدية الأنيقة تدوخه رائحة عطر نفاذه كمخدر لذيذ، ويلقي الرجل عليه تحية الصباح في لهجة رسمية كأنه لا يعرفه من قبل.‏

                في اليوم العاشر من الشهر العاشر للمراقبة هبط الطائر ناحيته، أستنام إلى راحة كونية، وهدأت مخاوفه حتى كادت تتلاشى.... المدينة هادئة كانت، والحي هادئاً كان، والقلب ينشد أغنيته، ولليل طعم الحليب في فمه.‏

                وقفت سيارتهم بعيداً ثم ترجلوا منها، وحاذروا في سيرهم، كان مذياعه الصغير يثرثر ببرنامج ليلي، والحارس يحلق في مدار آخر بعد وجبة العشاء الشهية والتي ضمت نصف دجاجة كاملة وقطعة معكرونة كبيرة وتفاحة، عندما كسرت الماسورة الحديدية الباردة قطعة الزجاج التي تصل قضيبين حديديين بالباب الضخم، لم تكن بعيدة عن مكمنه فوق الدكة الخشبية في مدخل العمارة.‏

                آخر ما شغله سؤال غريب عن صلعة الأغنياء ولماذا تلمع باستمرار عكس صلعة الفقراء...‏

                عندما كانت الفوهة فوق صدغه تماماً كانت ابتسامة ترف على شفتيه، ابتسامة هانئة ممتعة، هادئة.‏

                القاهرة في 3/7/1995‏
                إذا الشعب يوما أراد الحياة
                فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                تعليق


                • #9
                  رد: الربع الخالي

                  القـط الأسود...

                  ارتدى معطفه الثقيل وتدثر بالشال الصوفي اتقاء للسعات الهواء المؤلمة، تأكد من أحكام غلق المزاليج، واقفال نوافذ وأبواب الغرف.‏

                  لم ينس أن يتزود بمسدسه الثقيل وبطارية الضوء.. ترك أنوار الغرف مضاءة ومن وراء فصاصات الشيش راقب حركة الشارع ولم يجد ما يريبه أو يثير شكوكه.. إنهم غير موجودين.‏

                  مطر ديسمبر ينقر اسفلت الشوارع في دقات منتظمة رتيبةلا يقطعها إلا مرور السيارات الحذرة في سيرها خشية الانزالاق.. الشارع نفسه خلا من العابرين إلا نفراً منهم حاول الاحتياط في سيره فوق الأرض اللزجة.‏

                  أسدل الستار وأجال النظر حوله للمرة الأخيرة للتأكد من كافة الترتيبات قبل أن يغادر الشقة، أدار المفتاح في الثقب عدة مرات.‏

                  تردد لحظة قبل أن يهبط الدرج مخترقاً ببصره عتمة الظلام المطبق خوفاً من أن يكون أحدهم كامناً له في الظلام.. وأحس ببعض الاطمئنان رغم صعوبة التحديق.. أخذ يهبط درجات السلم مستعيناً بضوء البطارية الخافت حتى وصل الطابق الثالث، ولكن بين الطابقين الثالث والثاني لمح شيئاً يشق طريقه في الظلام نحو مكانه.. ارتبك ونفرت عروقه وحاول السيطرة على انفعالاته ولكن قبل أن يقبض بيده على المسدس كانت الكتلة المتحركة قد وصلت إليه وأوقفت الحركة.. اختل توازنه وتعثرت قدماه وسقط فوق السلم في ضجة كبيرة عندما تكور في ركن السلم ندت عنه صرخة مكتومة تردد صداها الغريب في صمت المساء الثقيل في المكان.. اذن لقد ظفروا به أخيراً، وسقط في فخهم! الوداع لعالم الأحياء، والعزاء للمظلومين والمضطهدين.‏

                  ولكن الثواني تمر مبشرة بالنجاة والهجوم الخاطف تبدد عن مفاجأة، ومواء القط التعيس الحظ كشف عن آلامه عندما فوجىء به يسقط فوق صدره فاستنجد بأنفاسه كأنها حبل نجاة والتقط مصباحه المضاء والملقى على مقربة، واعتدل واقفاً ولم ينس أن يركل القط ركلة قوية عكست غيظه وأطاحت بالقط إلى الحائط المقابل، فأخذ يموء مثل الأطفال الجوعى.‏

                  عندما هبط إلى الشارع كانت حدة المطر قد ازدادت، وتصاعدت معها حدة القلق والتشاؤم داخله بعد ظهور القط في ليلته.. اللعنة على كل قطط العالم، تلفت حوله قبل أن يتقدم على الأرض المبتلة، الطريق كان خالياً تماماً، مما بعث بالأمان إلى جوانحه بعض الشيء.. أسرع الخطى حتى دلف إلى سيارته المركونة في الشارع الجانبي القريب، ولم يحس بالراحة تماماً إلا بعد أن زمجر المحرك، فأخذ نفساً طويلاً عبر عن ارتياحه وأعاد له ثقته في نفسه.. تساءل في دهشة عن سر تأخرهم هذه الليلة، هل يلاعبونه لعبة القط والفأر؟ أم أنهم أجلوا تصفية الحساب ليوم آخر أكثر اعتدالاً في طقسه؟‏

                  الخواطر حاصرته فلم يدر كيف قاد العربة إلى وجهته، وساعد على شدة استغراقه دقات المطر الرتيبة على جوانب السيارة والايقاع المنتظم لمساحات المطر في تتابع دقيق يشبه حركة بندول ساعة الحائط في الغرفة التي اختبأ فيها سنينَ في المدينة الأوربية النائية، كانت ساعة قديمة تعود إلى أوائل القرن على ما يبدو، وكانت حركات بندولها الثقيلة سميره الدائم في أيام النفي الطويلة.. ظلت المساحات تجفف العرق فوق جبين الزجاج الأمامي للسيارة.. وظلت خيوط ضوء المصابيح الأمامية تطارد الضباب الجاثم فوق رئة الشارع دون يأس، ضغط على مزود السرعة ليلحق بموعده الذي تأخر عنه، وعلت وجهه تقطبية تعكس تصميمه على مقاومة الأوغاد، وأحس أنه في حالة معنوية طيبة تعده لمواجهتهم الحاسمة.. اشتاق الزناد الصدىء إلى الحركة، ودمهم النجس شاخ في العروق، وآن الأوان لأن تتطهر منه.. المكالمتان الغامضتان اللتان تلقاهما دون أن يسمع صوت المتحدث. زادتاه قلقاً، هل اهتدوا إلى مخبئه؟‏

                  توقف قبل المقهى المظلم بعدة شوارع، وهنأ رفيقه في نفسه على اختيار هذا المكان المثالي للموعد.. ولكن ما سمعه منه قلب تفاؤله وهز جوانحه.. حذره في حسم وخوف:‏

                  لا يغيب عنهم دبيب النمل في البلد، عيونهم تمسح كل الزوايا والأرجاء، وأجهزتهم المتقدمة ترصد الرغبات في الصدور وتترجم ايقاع النبض في العروق.. رجالهم منبثون في كل مكان، وقبضتهم تبطش بلا رحمة، ومعتقلاتهم تفيض بالمعارضين من كل الاتجاهات.. يحصون عدد مرات المضاجعة فوق الأسرة، ويميزون بين الزفرات الصيفية وزفرات التذمر من الأوضاع.. ويفسرون أوراد ما قبل النوم وتمتمة الأدعية على الألسن في لحظات التأهب للموت الأصفر.. وقوائمهم تحصي الطيور السارحة في السماء من كل نوع، والبهم القابعة في الحظائر والسارحة في الخلاء.. تحر اليقظة والحذر.. لقد علموا بعودتك السرية إلى البلاد من المنفى أثناء مرحلة التخطيط، ويبدو أنه بيننا خونة.. قد يقتصونك في غمضة عبين أو يسحقونك بلا رحمة.. أنت الذي اخترت العودة فلا تتراجع.. أرهقتهم سنوات طوال وانتظروا هذه اللحظة منذ زمن.. كما اقمسنا فلا تنس، نحن لا نموت إلا واقفين كالأشجار.. ستستمر القضية وستكون موجوداً معنا حياً أو ميتاً..‏

                  رددا معاً في صوت خافت ورؤوسهما المتقاربة تحجبه عن الأسماع: نموت.. ونموت. ويحيا الوطن..‏

                  أثناء عودته، غرق في خواطره من جديد، ضغط على أسنانه بعصبية وتعجب من سرعتهم في الاهتداء إلى مكانه في هذه المدينة المزدحمة البعيدة.. صمم على ابادتهم قبل أن ينالوه، لن يصلوا إليه إلا فوق جثته.. شعر بعظم الرسالة، وبأن نداء الوطن يحتويه ويزيده صلابة.. لم يندم على شيء إلا ندمه على سنوات المطاردة والنفي في البلد الأجنبي لينفد بحياته منهم، ولكن الحنين إلى كل حجر وحبة رمل ووجوه العجائز وضحكات أطفال وطنه عجلا بعودته، سيضرب ضربته الكبيرة المؤلمة وليسقط في أيديهم بعد ذلك، لن يهم، فالقضية العادلة قبل الجميع، وفوق الفك المستطيل سرت ابتسامة تعكس ثقته في نفسه وأخذ يصفر لحناً لأغنية "إنا قادمون" المعروفة.‏

                  القمر كان غائباً هذه الليلة وثوب السواد يغطى الشوارع والخيالات المتحركة: الهواء والقطط وثياب شرطي الدورية. وطمي الأرض، وتكفلت موجة البرودة بحجز الناس في بيوتهم، مختبين تحت الأغطية الثقيلة. مضت ساعتان على خروجه وعودته، وأوقف سيارته في شارع خلفي مواز ثم عبر إلى شارعه من طريق آخر، وقبل أن يصل إلى باب المنزل قبض على مسدسه الضخم في حركة متصلبة بينما أمسك بيسراه مصباحه ذا الأشعة القوية النافذة، لا صوت لأي حي كأن السكان اتفقوا على تجاهله، حاذى الحائط وأخذ يصعد السلم درجة درجة محاذراً أن يصدر عنه صوت، بدا الطريق آمناً بلا ارتياب.. واستطاع أن يشق طريقه وسط الظلام الدامس بمساعدة الأشعة الرفيعة، وقوة ابصاره النافذة رغم بلوغه الأربعين.‏

                  وفجأة شقت صرخته سكون اليلل عندما أحس بكتلة ثقيلة ترتمي فوق صدره قبل أن يبلغ باب شقته بعدة درجات، فقد توازنه وتعثر فوق درجات السلم وارتطمت رأسه بأسفل الحائط المواجه في قوة فجرت غيظه، ومن وسط الظلام حدقت العينان الحمراوان، فعرف هوية مهاجمه، إنه القط اللعين مرة أخرى، استعاد توازنه وجمع شجاعته وفشل في السيطرة على غيظه ولم يهدأ إلا بعد أن ركل القط المسكين ركلة سببت صياحه المتألم الشاكي.. صعد الدرجات الباقية حتى الباب، وقبل أن يعالجه بالمفتاح مسح السلالم فلم يجد ما يريبه، ووضع أذنيه على الباب فلم يسمع صوتاً غير عادي.. وعندما خطا إلى الداخل زاد اطمئناناً.. تأكد من سلامة النوافذ وأحكم غلق المزلاج، وفتش في المكان والزوايا.. إذن لم يحضروا هذه الليلة، تخلى عن حذره، وأخذ يتصرف بشكل طبيعي، وبدل ثيابه وقبل أن يتوجه لفراشه التقطت أذناه صوتاً غامضاً، كان الصوت صادراً من وراء باب الشقة، التقط مسدسه وتقدم بخطوات هادئة حتى جمد وراء الباب، حاول أن يكتم أنفاسه حتى لا تفضحه ولكنه لم يفلح فقد تصاعدت بشكل حاد.. توترت أعصابه وانقبضت عضلاته وتأهب للمفاجآت .‏

                  وراء هذا الباب يقف أعداؤه. جلادو الشعب.. مصاصو الدماء المستبدون.. جاؤا اذن، فعلى رسلهم، وليضف إلى قائمة ضحاياهم عدداً منهم ليذوقوا طعم الغدر، ربما تنبض عروقهم بالحق أو تتطهر قلوبهم المتكلسة.‏

                  لم يتوقف صوت الخشخشة، فزاد انقباض عضلاته.. يسترقون السمع. هو أيضاً.. تأهب للعمل، فأزاح المزلاج في هدوء، وتراجع خطوة إلى الوراء استعداداً للهجوم، وفي سرعة خاطفة أدار المقبض وفتح الباب في حركة مباغتة شاهراً مسدسة ولكنه لم يجد أحداً منهم.. تقدم إلى الردهةوفحص السلم العلوي والسفلي فلم يجد شيئاً ولكن قدمه اليمنى داست على جسم لين فانتفض راجعاً للوراء، ولكنه تبين ذيل القط الأسود، والقط الأسود نفسه متكور في ذلة أسفل العتبة.. سال عرقه ولعن في سره قطط العالم حتى جدها الأعلى وللمرة الثانية في هذه الليلة.. فكر في أن يصرعه بطلقة ليستريح ولكنه خشى من افتضاح أمره.. نظرات القط المسترحمة أثنته عن الاقدام على ما أنتواه. القط كان يرتجف من البرد فلان قلب الرجل الذي اتسع للملايين من سكان وطنه، فهل يضيق بحيوان أعجم؟ حمل القط إلى الداخل وهو يتفحصه في شفقه أو غمرته عاطفةمن الذنب عبرت عن خجله من قسوته.. ربت على القط المذعور وبعد دقائق كان القط يلتهم وجبة ساخنة من اللبن.. تمدد الرجل في فراشه وزفر زفرة طويلة، ولم ينزعج عندما قفزالقط الآمن إلى فراشه طلباً للدفء والمسامرة.. سحبه معه تحت الغطاء الثقيل. وبعد دقائق غط في سبات عميق متناسياً أحداث الليلة المثيرة..‏

                  مرت ساعتان..‏

                  انزاحت غيمة ضالة من وسط السحاب الأشهب، وانسلت أخرى لترقد أعلى الشارع الطويل حيث يقيم، اختفت النجوم في هذا الليل الطويل، حاولت عينا شرطي الحراسة أن تجدا أثراً للقمر المختفي كي يستهدي بنوره في سيره ولكن عبثاً حصد، خلت الشوارع من الناس والقطط والكلاب والسيارات والأفكار، اختبأ الناس في دورهم تحت الأغطية، اتحد البرد والمكر والوحشة في عنف حقيقي.. حاول طفل صغير أن يقوم من فراشه بجانب أمه ليروي ظمأه ولكن صفعات المطر الحاد فوق خدود النوافذ ردته، فأوهم نفسه بالارتواء ولاذ بالنوم..‏

                  اكتظت سرائر الحدة بالأجساد تحت الأغطية الصوفية تعوض دفئاً مفقوداً في الجو.. ووجد بعض الرجال في مضاجعة نسائهم وسيلة لبعث الدفء إلى أن غلبهم النوم والتعب.‏

                  كانت ساعات اللليل مهيئة للخيانة والانتقام وتصفية الحساب، ولانهم لا يضربون إلا في الظلام خلسة وغدراً فقد جاؤا قبل ضوء الفجر بنصف ساعة.. تنبه الرجل من عالمه البعيد على أصوات وجلبة تشده إلى عالم الأحياء، وبرغم أن عقله الواعي ظل خاضعاً لحالة الخدر اللذيذ إلا أنه بدأ يستجمع حواسه ويعي الموقف، مد يديه ليلتقط مسدسه من تحت الوسادة بينما كان القط الأسود جاثماً فوق صدره، ولكن يداه توقفت في منتصف الطريق أجسادهم العملاقة التي سدت باب الغرفة والردهة لم تمهله فرصة المقاومة وأمطروه برصاصهم الغادر بينما كان المطر منهمراً في الخارج..‏

                  ناله الأوغاد أخيراً وظفروا به بغدر ووحشية..‏

                  أحس أنه يغيب يغيب.. يحلق في الفضاء الأثيري.. تحررت بلاده من قبضتهم، وندت عن دماء الشهداء وضحايا بطشهم رائحة زكية، وتنسم شعبه الهواء النقي من جديد، وعادت الابتسامة ترف على شفاههم.. وتحقق الحلم النبيل، مرت ساعات بطيئة.. تسلل ضوء الشمس من بين خصاصات الشيش ترسم خطوطاً من الضوء داخل الغرفة، فتح عينيه في بطء، فلم يدر حقيقة المكان.. هل هي معالم الآخرة ولكن تفاصيل غرفته المألوفة بدأت تتجمع في وعيه، ظن أن معالم الآخرة تشبه معالم الحياة، ولكن أبواق السيارات في الشارع أجلت وهمه وتأكد من انتمائه إلى عالم الأحياء بالفعل، حاول الاعتدال في فراشه ولكن الدماء كانت تنزف من ذراعيه وكتفه، وشعر بخدر هائل.. وجهه كانت تغطيه الدماء اللزجة فشعر بنذر الكارثة، لكن جثة القط الأسود فوق صدره كانت مصدر تلك الدماء، فاختلطت دماؤه بدماء القط المسكين.. حاول تحريك ذراعيه فنجح قليلاً مع ألم غير قليل، ولكن أنفاسه الطبيعية المنتظمة زودته بقوة واطمئنان.. تعجب من كمية الدماء الحيوانية الغزيرة التي فاضت عن جسد القط.. رفع بيده اليسرى النازفة جثة القط المتشنجة في صمت وقد شعر بامتنان كوني لكل عالم الحيوانات الأليفة..‏

                  وبنصف دورة تحسس مسدسه تحت الوسادة فوجده في موضعه. التقطه بيده النازفة في أعلى الذراع، وشدد قبضته عليه، وعض على نواجزه متوعداً بالانتقام.‏
                  إذا الشعب يوما أراد الحياة
                  فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                  و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                  و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                  تعليق


                  • #10
                    رد: الربع الخالي

                    القـط الأسود...

                    ارتدى معطفه الثقيل وتدثر بالشال الصوفي اتقاء للسعات الهواء المؤلمة، تأكد من أحكام غلق المزاليج، واقفال نوافذ وأبواب الغرف.‏

                    لم ينس أن يتزود بمسدسه الثقيل وبطارية الضوء.. ترك أنوار الغرف مضاءة ومن وراء فصاصات الشيش راقب حركة الشارع ولم يجد ما يريبه أو يثير شكوكه.. إنهم غير موجودين.‏

                    مطر ديسمبر ينقر اسفلت الشوارع في دقات منتظمة رتيبةلا يقطعها إلا مرور السيارات الحذرة في سيرها خشية الانزالاق.. الشارع نفسه خلا من العابرين إلا نفراً منهم حاول الاحتياط في سيره فوق الأرض اللزجة.‏

                    أسدل الستار وأجال النظر حوله للمرة الأخيرة للتأكد من كافة الترتيبات قبل أن يغادر الشقة، أدار المفتاح في الثقب عدة مرات.‏

                    تردد لحظة قبل أن يهبط الدرج مخترقاً ببصره عتمة الظلام المطبق خوفاً من أن يكون أحدهم كامناً له في الظلام.. وأحس ببعض الاطمئنان رغم صعوبة التحديق.. أخذ يهبط درجات السلم مستعيناً بضوء البطارية الخافت حتى وصل الطابق الثالث، ولكن بين الطابقين الثالث والثاني لمح شيئاً يشق طريقه في الظلام نحو مكانه.. ارتبك ونفرت عروقه وحاول السيطرة على انفعالاته ولكن قبل أن يقبض بيده على المسدس كانت الكتلة المتحركة قد وصلت إليه وأوقفت الحركة.. اختل توازنه وتعثرت قدماه وسقط فوق السلم في ضجة كبيرة عندما تكور في ركن السلم ندت عنه صرخة مكتومة تردد صداها الغريب في صمت المساء الثقيل في المكان.. اذن لقد ظفروا به أخيراً، وسقط في فخهم! الوداع لعالم الأحياء، والعزاء للمظلومين والمضطهدين.‏

                    ولكن الثواني تمر مبشرة بالنجاة والهجوم الخاطف تبدد عن مفاجأة، ومواء القط التعيس الحظ كشف عن آلامه عندما فوجىء به يسقط فوق صدره فاستنجد بأنفاسه كأنها حبل نجاة والتقط مصباحه المضاء والملقى على مقربة، واعتدل واقفاً ولم ينس أن يركل القط ركلة قوية عكست غيظه وأطاحت بالقط إلى الحائط المقابل، فأخذ يموء مثل الأطفال الجوعى.‏

                    عندما هبط إلى الشارع كانت حدة المطر قد ازدادت، وتصاعدت معها حدة القلق والتشاؤم داخله بعد ظهور القط في ليلته.. اللعنة على كل قطط العالم، تلفت حوله قبل أن يتقدم على الأرض المبتلة، الطريق كان خالياً تماماً، مما بعث بالأمان إلى جوانحه بعض الشيء.. أسرع الخطى حتى دلف إلى سيارته المركونة في الشارع الجانبي القريب، ولم يحس بالراحة تماماً إلا بعد أن زمجر المحرك، فأخذ نفساً طويلاً عبر عن ارتياحه وأعاد له ثقته في نفسه.. تساءل في دهشة عن سر تأخرهم هذه الليلة، هل يلاعبونه لعبة القط والفأر؟ أم أنهم أجلوا تصفية الحساب ليوم آخر أكثر اعتدالاً في طقسه؟‏

                    الخواطر حاصرته فلم يدر كيف قاد العربة إلى وجهته، وساعد على شدة استغراقه دقات المطر الرتيبة على جوانب السيارة والايقاع المنتظم لمساحات المطر في تتابع دقيق يشبه حركة بندول ساعة الحائط في الغرفة التي اختبأ فيها سنينَ في المدينة الأوربية النائية، كانت ساعة قديمة تعود إلى أوائل القرن على ما يبدو، وكانت حركات بندولها الثقيلة سميره الدائم في أيام النفي الطويلة.. ظلت المساحات تجفف العرق فوق جبين الزجاج الأمامي للسيارة.. وظلت خيوط ضوء المصابيح الأمامية تطارد الضباب الجاثم فوق رئة الشارع دون يأس، ضغط على مزود السرعة ليلحق بموعده الذي تأخر عنه، وعلت وجهه تقطبية تعكس تصميمه على مقاومة الأوغاد، وأحس أنه في حالة معنوية طيبة تعده لمواجهتهم الحاسمة.. اشتاق الزناد الصدىء إلى الحركة، ودمهم النجس شاخ في العروق، وآن الأوان لأن تتطهر منه.. المكالمتان الغامضتان اللتان تلقاهما دون أن يسمع صوت المتحدث. زادتاه قلقاً، هل اهتدوا إلى مخبئه؟‏

                    توقف قبل المقهى المظلم بعدة شوارع، وهنأ رفيقه في نفسه على اختيار هذا المكان المثالي للموعد.. ولكن ما سمعه منه قلب تفاؤله وهز جوانحه.. حذره في حسم وخوف:‏

                    لا يغيب عنهم دبيب النمل في البلد، عيونهم تمسح كل الزوايا والأرجاء، وأجهزتهم المتقدمة ترصد الرغبات في الصدور وتترجم ايقاع النبض في العروق.. رجالهم منبثون في كل مكان، وقبضتهم تبطش بلا رحمة، ومعتقلاتهم تفيض بالمعارضين من كل الاتجاهات.. يحصون عدد مرات المضاجعة فوق الأسرة، ويميزون بين الزفرات الصيفية وزفرات التذمر من الأوضاع.. ويفسرون أوراد ما قبل النوم وتمتمة الأدعية على الألسن في لحظات التأهب للموت الأصفر.. وقوائمهم تحصي الطيور السارحة في السماء من كل نوع، والبهم القابعة في الحظائر والسارحة في الخلاء.. تحر اليقظة والحذر.. لقد علموا بعودتك السرية إلى البلاد من المنفى أثناء مرحلة التخطيط، ويبدو أنه بيننا خونة.. قد يقتصونك في غمضة عبين أو يسحقونك بلا رحمة.. أنت الذي اخترت العودة فلا تتراجع.. أرهقتهم سنوات طوال وانتظروا هذه اللحظة منذ زمن.. كما اقمسنا فلا تنس، نحن لا نموت إلا واقفين كالأشجار.. ستستمر القضية وستكون موجوداً معنا حياً أو ميتاً..‏

                    رددا معاً في صوت خافت ورؤوسهما المتقاربة تحجبه عن الأسماع: نموت.. ونموت. ويحيا الوطن..‏

                    أثناء عودته، غرق في خواطره من جديد، ضغط على أسنانه بعصبية وتعجب من سرعتهم في الاهتداء إلى مكانه في هذه المدينة المزدحمة البعيدة.. صمم على ابادتهم قبل أن ينالوه، لن يصلوا إليه إلا فوق جثته.. شعر بعظم الرسالة، وبأن نداء الوطن يحتويه ويزيده صلابة.. لم يندم على شيء إلا ندمه على سنوات المطاردة والنفي في البلد الأجنبي لينفد بحياته منهم، ولكن الحنين إلى كل حجر وحبة رمل ووجوه العجائز وضحكات أطفال وطنه عجلا بعودته، سيضرب ضربته الكبيرة المؤلمة وليسقط في أيديهم بعد ذلك، لن يهم، فالقضية العادلة قبل الجميع، وفوق الفك المستطيل سرت ابتسامة تعكس ثقته في نفسه وأخذ يصفر لحناً لأغنية "إنا قادمون" المعروفة.‏

                    القمر كان غائباً هذه الليلة وثوب السواد يغطى الشوارع والخيالات المتحركة: الهواء والقطط وثياب شرطي الدورية. وطمي الأرض، وتكفلت موجة البرودة بحجز الناس في بيوتهم، مختبين تحت الأغطية الثقيلة. مضت ساعتان على خروجه وعودته، وأوقف سيارته في شارع خلفي مواز ثم عبر إلى شارعه من طريق آخر، وقبل أن يصل إلى باب المنزل قبض على مسدسه الضخم في حركة متصلبة بينما أمسك بيسراه مصباحه ذا الأشعة القوية النافذة، لا صوت لأي حي كأن السكان اتفقوا على تجاهله، حاذى الحائط وأخذ يصعد السلم درجة درجة محاذراً أن يصدر عنه صوت، بدا الطريق آمناً بلا ارتياب.. واستطاع أن يشق طريقه وسط الظلام الدامس بمساعدة الأشعة الرفيعة، وقوة ابصاره النافذة رغم بلوغه الأربعين.‏

                    وفجأة شقت صرخته سكون اليلل عندما أحس بكتلة ثقيلة ترتمي فوق صدره قبل أن يبلغ باب شقته بعدة درجات، فقد توازنه وتعثر فوق درجات السلم وارتطمت رأسه بأسفل الحائط المواجه في قوة فجرت غيظه، ومن وسط الظلام حدقت العينان الحمراوان، فعرف هوية مهاجمه، إنه القط اللعين مرة أخرى، استعاد توازنه وجمع شجاعته وفشل في السيطرة على غيظه ولم يهدأ إلا بعد أن ركل القط المسكين ركلة سببت صياحه المتألم الشاكي.. صعد الدرجات الباقية حتى الباب، وقبل أن يعالجه بالمفتاح مسح السلالم فلم يجد ما يريبه، ووضع أذنيه على الباب فلم يسمع صوتاً غير عادي.. وعندما خطا إلى الداخل زاد اطمئناناً.. تأكد من سلامة النوافذ وأحكم غلق المزلاج، وفتش في المكان والزوايا.. إذن لم يحضروا هذه الليلة، تخلى عن حذره، وأخذ يتصرف بشكل طبيعي، وبدل ثيابه وقبل أن يتوجه لفراشه التقطت أذناه صوتاً غامضاً، كان الصوت صادراً من وراء باب الشقة، التقط مسدسه وتقدم بخطوات هادئة حتى جمد وراء الباب، حاول أن يكتم أنفاسه حتى لا تفضحه ولكنه لم يفلح فقد تصاعدت بشكل حاد.. توترت أعصابه وانقبضت عضلاته وتأهب للمفاجآت .‏

                    وراء هذا الباب يقف أعداؤه. جلادو الشعب.. مصاصو الدماء المستبدون.. جاؤا اذن، فعلى رسلهم، وليضف إلى قائمة ضحاياهم عدداً منهم ليذوقوا طعم الغدر، ربما تنبض عروقهم بالحق أو تتطهر قلوبهم المتكلسة.‏

                    لم يتوقف صوت الخشخشة، فزاد انقباض عضلاته.. يسترقون السمع. هو أيضاً.. تأهب للعمل، فأزاح المزلاج في هدوء، وتراجع خطوة إلى الوراء استعداداً للهجوم، وفي سرعة خاطفة أدار المقبض وفتح الباب في حركة مباغتة شاهراً مسدسة ولكنه لم يجد أحداً منهم.. تقدم إلى الردهةوفحص السلم العلوي والسفلي فلم يجد شيئاً ولكن قدمه اليمنى داست على جسم لين فانتفض راجعاً للوراء، ولكنه تبين ذيل القط الأسود، والقط الأسود نفسه متكور في ذلة أسفل العتبة.. سال عرقه ولعن في سره قطط العالم حتى جدها الأعلى وللمرة الثانية في هذه الليلة.. فكر في أن يصرعه بطلقة ليستريح ولكنه خشى من افتضاح أمره.. نظرات القط المسترحمة أثنته عن الاقدام على ما أنتواه. القط كان يرتجف من البرد فلان قلب الرجل الذي اتسع للملايين من سكان وطنه، فهل يضيق بحيوان أعجم؟ حمل القط إلى الداخل وهو يتفحصه في شفقه أو غمرته عاطفةمن الذنب عبرت عن خجله من قسوته.. ربت على القط المذعور وبعد دقائق كان القط يلتهم وجبة ساخنة من اللبن.. تمدد الرجل في فراشه وزفر زفرة طويلة، ولم ينزعج عندما قفزالقط الآمن إلى فراشه طلباً للدفء والمسامرة.. سحبه معه تحت الغطاء الثقيل. وبعد دقائق غط في سبات عميق متناسياً أحداث الليلة المثيرة..‏

                    مرت ساعتان..‏

                    انزاحت غيمة ضالة من وسط السحاب الأشهب، وانسلت أخرى لترقد أعلى الشارع الطويل حيث يقيم، اختفت النجوم في هذا الليل الطويل، حاولت عينا شرطي الحراسة أن تجدا أثراً للقمر المختفي كي يستهدي بنوره في سيره ولكن عبثاً حصد، خلت الشوارع من الناس والقطط والكلاب والسيارات والأفكار، اختبأ الناس في دورهم تحت الأغطية، اتحد البرد والمكر والوحشة في عنف حقيقي.. حاول طفل صغير أن يقوم من فراشه بجانب أمه ليروي ظمأه ولكن صفعات المطر الحاد فوق خدود النوافذ ردته، فأوهم نفسه بالارتواء ولاذ بالنوم..‏

                    اكتظت سرائر الحدة بالأجساد تحت الأغطية الصوفية تعوض دفئاً مفقوداً في الجو.. ووجد بعض الرجال في مضاجعة نسائهم وسيلة لبعث الدفء إلى أن غلبهم النوم والتعب.‏

                    كانت ساعات اللليل مهيئة للخيانة والانتقام وتصفية الحساب، ولانهم لا يضربون إلا في الظلام خلسة وغدراً فقد جاؤا قبل ضوء الفجر بنصف ساعة.. تنبه الرجل من عالمه البعيد على أصوات وجلبة تشده إلى عالم الأحياء، وبرغم أن عقله الواعي ظل خاضعاً لحالة الخدر اللذيذ إلا أنه بدأ يستجمع حواسه ويعي الموقف، مد يديه ليلتقط مسدسه من تحت الوسادة بينما كان القط الأسود جاثماً فوق صدره، ولكن يداه توقفت في منتصف الطريق أجسادهم العملاقة التي سدت باب الغرفة والردهة لم تمهله فرصة المقاومة وأمطروه برصاصهم الغادر بينما كان المطر منهمراً في الخارج..‏

                    ناله الأوغاد أخيراً وظفروا به بغدر ووحشية..‏

                    أحس أنه يغيب يغيب.. يحلق في الفضاء الأثيري.. تحررت بلاده من قبضتهم، وندت عن دماء الشهداء وضحايا بطشهم رائحة زكية، وتنسم شعبه الهواء النقي من جديد، وعادت الابتسامة ترف على شفاههم.. وتحقق الحلم النبيل، مرت ساعات بطيئة.. تسلل ضوء الشمس من بين خصاصات الشيش ترسم خطوطاً من الضوء داخل الغرفة، فتح عينيه في بطء، فلم يدر حقيقة المكان.. هل هي معالم الآخرة ولكن تفاصيل غرفته المألوفة بدأت تتجمع في وعيه، ظن أن معالم الآخرة تشبه معالم الحياة، ولكن أبواق السيارات في الشارع أجلت وهمه وتأكد من انتمائه إلى عالم الأحياء بالفعل، حاول الاعتدال في فراشه ولكن الدماء كانت تنزف من ذراعيه وكتفه، وشعر بخدر هائل.. وجهه كانت تغطيه الدماء اللزجة فشعر بنذر الكارثة، لكن جثة القط الأسود فوق صدره كانت مصدر تلك الدماء، فاختلطت دماؤه بدماء القط المسكين.. حاول تحريك ذراعيه فنجح قليلاً مع ألم غير قليل، ولكن أنفاسه الطبيعية المنتظمة زودته بقوة واطمئنان.. تعجب من كمية الدماء الحيوانية الغزيرة التي فاضت عن جسد القط.. رفع بيده اليسرى النازفة جثة القط المتشنجة في صمت وقد شعر بامتنان كوني لكل عالم الحيوانات الأليفة..‏

                    وبنصف دورة تحسس مسدسه تحت الوسادة فوجده في موضعه. التقطه بيده النازفة في أعلى الذراع، وشدد قبضته عليه، وعض على نواجزه متوعداً بالانتقام.‏
                    إذا الشعب يوما أراد الحياة
                    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                    تعليق


                    • #11
                      رد: الربع الخالي

                      حــدود العـالم...

                      حدود العالم تنتهي لكليهما عند جدران السطح، ولكنها تظفر أحياناً بفرصة تخطي هذه الحدود إلى أرجاء جديدة، عندما تصحب أمها مساء يوم الجمعة لشراء لوازم الاسبوع، أو عندما تصحبها إلى جدتها لأبيها..‏

                      أما هو فيومه يمتد من السادسة صباحاً، وينتهي عند الثانية ظهراً، وعندما تعود أم سوسن من عملها وتتسلمها منه يخيم ليله مبكراً، ويلوذ بغرفته الوحيدة في انتظار فجر اليوم التالي، ليتسلم سوسن من أمها المهرولة إلى عملها.‏

                      يقطع ساعات ليله الطويل مسترقاً السمع على خطوات البنت وأمها، فربما يخرجان ثانية من غرفتهما إلى السطح، وبذا يظفر بوقت اضافي مع سوسن.‏

                      - أين ذهبت رجلك؟‏

                      - أكلها العاو..‏

                      تسأله، فيجيبها مقلداً صوت الوحش الخرافي، فتتظاهر بالفزع وتخبىء رأسها في حجره،وهل تفهم لو حدثها عن المنجم وكوارثه، واليوم المشئوم الذي انهار فيه، ليخرج وحده حياً من بين زملائه بعد ثلاثة أيام من الدفن تحت تراب الجبل، وقد فقد ساقه ولكنه اكتسب عمراً جديداً.. تعود لتسأله عن أبيها المسافر دائماً.. تحدثها أمها عنه، وعن سفره، ولكنه لا يعود أبداً محملاً بالهدايا كما تسمع منها دائماً.. أبوها الذي رحل يوم كانت بذرة في رحم الغيب؛ وعندما احتضنت عيناها نور الدنيا، كان أبوها قد ابتلعته الرمال الصفراء الملتهبة وسط سيناء..‏

                      هل تفهم إذا حدثها عن الأعداء والموت واليهود والحرب..؟‏

                      - فسحني..‏

                      يطيعها كالمأخوذ، يرفعها بيد واحدة، لتصبح فوق المقعد الحديدي، وبيده اليمنى يعرك عجلاته لتجوب بهما محيط السطح، وهي تتقافز فرحاً، وتملأ السماء بضحكاتها الصافية، وتتجمع العصافير مستمتعة بضحكاتها.. تتعب يده، وتتعب بدورها من الضحك، فترتكن على صدره وتنام.. ويظل جامداً فوق مقعده حتى لا يوقظها، ويكاد أن يخنق أنفاسه في صدره حتى لا تهز رأسها المسترخي..‏

                      بعد نصف ساعة تقريباً تستيقط، تطلب طعاماً، يقترب مقعده من باب غرفته الخشبية، يلتقط لفافة الساندوتشات التي يعدها بنفسه في الصباح الباكر استعداداً لهذ اللحظة.. يأكلان سوياً، عاتبته الأم كثيراً في البداية، نبهته إلى الساندوتشات التي تتركها فوق المائدة خلف باب غرفتهما المفتوح، ولكنها تجدها عند عودتها دون أن يمسها.. لم يغيره عتابها المتكرر، فاستسلمت بدورها لمنطقه واصراره. يحترم الأرملة الصغيرة التي عاشت على ذكرى رجلها المدفون في سيناء، رفضت عروضاً مغرية للزواج بعده، والتحقت بمشغل للملابس لتتكسب منه، إلى جانب ما تقبضه من معاش ضئيل.‏

                      نمت سوسن على يديه، منذ أن كانت تزحف على أربع.. راقبها وهي تحاول المشي وتتعثر، إلى أن أصبحت تختال كالنسيم.. منذ الحادث لم يفارق هذا السطح، يتكفل زميل باحضار معاشه كل شهر.. ويكفيه عناء الخروج واستعمال العكاز..‏

                      هاجمته الكآبة في البداية حتى تمكنت منه.. غزا البياض شعره، تعمقت تغاضينه وسقطت معظم أسنانه، وغدت الدنيا في اتساع مقعده المتحرك الذي لا يفارقه إلا عند النوم أو قضاء حاجة.. ولكن عندما ظهرت سوسن في حياته، أو بالأصح برقت في سماه أصبحت تعني عنده الدنيا كلها، لم يندم على عدم زواجه، فقد عوضته عن كل شقائه وجفاف أيامه.. نسي الحادث ونسي سنوات عمله الملول الطويلة في مناجم الصحراء النائية..‏

                      لا تستوقفه شيخوخته إلا عندما تنادية معابثة:‏

                      - يا رجل يا عجوز..مناخيرك..‏

                      تهجم عليه، تغرز أسنانها اللينة في طرف فخذه، تهم بابتلاعه، تتشبه بالشبح، فيتظاهر بالفزع، ويستعطفها حتىتطلق ضحكتها الواسعة علامة العفو عنه، وتعود للسؤال عن ساقيه المقطوعتين، تحاول جذبه من فوق مقعده ليلعب معها، ولكنها آلفت في النهاية مشاركته من فوق المقعد..‏

                      الشمس شمسنا، لا تشرق إلا من أجلنا، تحاول سوسن أن تحدق فيها، فتدمع عيناها.. يقول لها: عندما تكبرين ستنظرين إليها بلا دموع.. تسأله: ومتى أكبر؟، فيجيبها: غدا..‏

                      العصافير التي تتقافز فوق الأرض، وتنشغلين بمطاردتها، تجىء لتسترق السمع على حواديتنا.. إنها تحب سماع الحواديت مثلك.. يضطر لابتكار حواديت جديدة، وخلق مواقف وأحداث جذابة بعد أن حفظت حواديته القليلة في الأيام الأولى.. يحدثها عن بطولاته الوهمية، وأسفاره المختلفة ومعاركه الجبارة.. تحدق فيه باهتمام، تلتمع عنياها بفرحة أيامها البكر وهي تنصت إليه.. يعشق التماعة شعرها الأسود الفاحم، ويعشق رائحته، ويسأل نفسه:‏

                      - ماذا لو كان أبوك حياً؟‏

                      تملأ خياشيمه مزيج من رائحة الياسمين والريحان والقرنفل آتية من خصلات شعرها، ورائحة رمال سيناء اللزجة مختلطة بدماء الشهداء..‏

                      سأل نفسه مراراً: لماذا لا تتزوج أرامل شهداء الحروب؟..‏

                      الأم كانت على درجة كبيرة من الجمال، ولكن سوسن كانت أجمل بالتأكيد.. أصبح يخصم الساعات التي تفارقه فيها سوسن من عمره، ويحسب عمره الحقيقي وهي معه، منذ أن يتسلمها من أمها في الصباح الباكر..‏

                      يدور يعد الدقائق، ويراقب من وارء خصاصات شيش نافذته نافذتهما، ويتناوب النوم بين السرير والمقعد وتناول الشاي وسماع المذياع، حتى تدور الدنيا دورة كاملة، ويشرق يوم جديد على الخلق.. لايقطع صمته الطويل إلا طرقات أم سوسن على بابه في العصر، تناوله أطباقاً مختلفة من الطعام الذي أعدته بعد عودتها من العمل، يسألها عن سوسن، فتجيبه ضاحكة متعجبة، فلم يفارقها إلا منذ ساعة أوساعتين.. وتصبره حتى الصباح، وتهون عليه الانتظار.. في السادسة صباحاً يكون مستعداً تماماً للطرقات الموسيقية، تبعث الحياة في أوصاله الباردة، فتدفع سوسن إليه موصية بها كعادتها، ويطمئنها، ثم يبتلعها باب الدرج وسرعان ما تتلاشى دقات أقدامها فوق السلالم المتآكلة..‏

                      يبدأ يومهما.. الجنيهات القلائل التي تتبقى بعد سداد ايجار الغرفة تتوزع بين سجائره وطعامه وحلوى سوسن.. يئست أمها من تغيير مسلكه، وانهائه عن ذلك.. وبالتكرار استسملت لحنانه المتدفق.. والذي يضفي على الأشياء والمواقف منطقاً غلاباً..‏

                      تشاركهما الطبيعة فرحتهما، تمد الشمس أذرعها لاهية معهما، وتتلكأ السحب المارة فوق السطح لتمسح بأعينها مشهدهما الممتع، ويخيل له أن السطح يرتفع، حتى ينفصل عن العالم الأرضي ويلتحق بمدار كوني آخر بصحبة ملاكه الصغير..‏

                      تمنى أن يقتصر طول اليوم على ساعاته الثماني معها، ويقتص من التوقيت الزمني الساعات التي يقضيها بعيداً عنها، بعد أن تأخذها أمها.. غالبته رغبة قوية في البداية أن يستبدل اسمها باسم "هدى" يحب هذا الأسم ولا يعرف سبباً لذلك.. تمنى أن يطلقه على ابنته إذا تزوج يوماً، وبمرور الأيام، وتكاثر الضربات عليه تراجعت أمنيته إلى مكان قاص في قلبه..‏

                      تتوالى الساعات، وتنكمش ساعاته، ويشعر أن وقع خطوات أمها عند الظهر، وهي عائدة من العمل تعني انقضاء سعادته وتكدر يومه.. ينتظر يوم الجمعة بفارع الصبر، تنشغل الأم في شئون التنظيف والغسيل والطهي وتتركها معه، تمد لهما بساطاً على الأرض فيجلس معها ينعمان بدفء الشمس، وتنعم بحكاياته الخرافية، إلى أن تفرغ الأم من مشاغلها فتجلس معه، تحدثه عن أحوال الحي، وتشكو إليه الغلاء ومتاعب المواصلات، واستغلال صاحب المشغل لهن ومظاهرات الطلاب في الشارع،والبوتيكات الجديدة التي تفتتح في الحي الشعبي..‏

                      ثم في المساء تصحب سوسن لشراء حاجيات الأسبوع وزيارة حماتها..آه.. ما أقسى الأيام..‏

                      وما أسرع دورة الحياة.. وما أضيق ابتسامة الزمن.. ففي صباح يوم صيفي تلقى الخبر الذي نغص عليه حياته..‏

                      - سوف أضع سوسن هذا العام في المدرسة..‏

                      قالتها واستدارت، وغالب دمعة كبيرة انزلقت على شعيرات لحيته البيضاء والتي لم يحلقها منذ يومين..‏

                      يشيخ الزمن، ويهرم الرجل، ويسلب متعته.. ففي العام القادم ستدخل سوسن المدرسة..
                      إذا الشعب يوما أراد الحياة
                      فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                      و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                      و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                      تعليق


                      • #12
                        رد: الربع الخالي

                        حــدود العـالم...

                        حدود العالم تنتهي لكليهما عند جدران السطح، ولكنها تظفر أحياناً بفرصة تخطي هذه الحدود إلى أرجاء جديدة، عندما تصحب أمها مساء يوم الجمعة لشراء لوازم الاسبوع، أو عندما تصحبها إلى جدتها لأبيها..‏

                        أما هو فيومه يمتد من السادسة صباحاً، وينتهي عند الثانية ظهراً، وعندما تعود أم سوسن من عملها وتتسلمها منه يخيم ليله مبكراً، ويلوذ بغرفته الوحيدة في انتظار فجر اليوم التالي، ليتسلم سوسن من أمها المهرولة إلى عملها.‏

                        يقطع ساعات ليله الطويل مسترقاً السمع على خطوات البنت وأمها، فربما يخرجان ثانية من غرفتهما إلى السطح، وبذا يظفر بوقت اضافي مع سوسن.‏

                        - أين ذهبت رجلك؟‏

                        - أكلها العاو..‏

                        تسأله، فيجيبها مقلداً صوت الوحش الخرافي، فتتظاهر بالفزع وتخبىء رأسها في حجره،وهل تفهم لو حدثها عن المنجم وكوارثه، واليوم المشئوم الذي انهار فيه، ليخرج وحده حياً من بين زملائه بعد ثلاثة أيام من الدفن تحت تراب الجبل، وقد فقد ساقه ولكنه اكتسب عمراً جديداً.. تعود لتسأله عن أبيها المسافر دائماً.. تحدثها أمها عنه، وعن سفره، ولكنه لا يعود أبداً محملاً بالهدايا كما تسمع منها دائماً.. أبوها الذي رحل يوم كانت بذرة في رحم الغيب؛ وعندما احتضنت عيناها نور الدنيا، كان أبوها قد ابتلعته الرمال الصفراء الملتهبة وسط سيناء..‏

                        هل تفهم إذا حدثها عن الأعداء والموت واليهود والحرب..؟‏

                        - فسحني..‏

                        يطيعها كالمأخوذ، يرفعها بيد واحدة، لتصبح فوق المقعد الحديدي، وبيده اليمنى يعرك عجلاته لتجوب بهما محيط السطح، وهي تتقافز فرحاً، وتملأ السماء بضحكاتها الصافية، وتتجمع العصافير مستمتعة بضحكاتها.. تتعب يده، وتتعب بدورها من الضحك، فترتكن على صدره وتنام.. ويظل جامداً فوق مقعده حتى لا يوقظها، ويكاد أن يخنق أنفاسه في صدره حتى لا تهز رأسها المسترخي..‏

                        بعد نصف ساعة تقريباً تستيقط، تطلب طعاماً، يقترب مقعده من باب غرفته الخشبية، يلتقط لفافة الساندوتشات التي يعدها بنفسه في الصباح الباكر استعداداً لهذ اللحظة.. يأكلان سوياً، عاتبته الأم كثيراً في البداية، نبهته إلى الساندوتشات التي تتركها فوق المائدة خلف باب غرفتهما المفتوح، ولكنها تجدها عند عودتها دون أن يمسها.. لم يغيره عتابها المتكرر، فاستسلمت بدورها لمنطقه واصراره. يحترم الأرملة الصغيرة التي عاشت على ذكرى رجلها المدفون في سيناء، رفضت عروضاً مغرية للزواج بعده، والتحقت بمشغل للملابس لتتكسب منه، إلى جانب ما تقبضه من معاش ضئيل.‏

                        نمت سوسن على يديه، منذ أن كانت تزحف على أربع.. راقبها وهي تحاول المشي وتتعثر، إلى أن أصبحت تختال كالنسيم.. منذ الحادث لم يفارق هذا السطح، يتكفل زميل باحضار معاشه كل شهر.. ويكفيه عناء الخروج واستعمال العكاز..‏

                        هاجمته الكآبة في البداية حتى تمكنت منه.. غزا البياض شعره، تعمقت تغاضينه وسقطت معظم أسنانه، وغدت الدنيا في اتساع مقعده المتحرك الذي لا يفارقه إلا عند النوم أو قضاء حاجة.. ولكن عندما ظهرت سوسن في حياته، أو بالأصح برقت في سماه أصبحت تعني عنده الدنيا كلها، لم يندم على عدم زواجه، فقد عوضته عن كل شقائه وجفاف أيامه.. نسي الحادث ونسي سنوات عمله الملول الطويلة في مناجم الصحراء النائية..‏

                        لا تستوقفه شيخوخته إلا عندما تنادية معابثة:‏

                        - يا رجل يا عجوز..مناخيرك..‏

                        تهجم عليه، تغرز أسنانها اللينة في طرف فخذه، تهم بابتلاعه، تتشبه بالشبح، فيتظاهر بالفزع، ويستعطفها حتىتطلق ضحكتها الواسعة علامة العفو عنه، وتعود للسؤال عن ساقيه المقطوعتين، تحاول جذبه من فوق مقعده ليلعب معها، ولكنها آلفت في النهاية مشاركته من فوق المقعد..‏

                        الشمس شمسنا، لا تشرق إلا من أجلنا، تحاول سوسن أن تحدق فيها، فتدمع عيناها.. يقول لها: عندما تكبرين ستنظرين إليها بلا دموع.. تسأله: ومتى أكبر؟، فيجيبها: غدا..‏

                        العصافير التي تتقافز فوق الأرض، وتنشغلين بمطاردتها، تجىء لتسترق السمع على حواديتنا.. إنها تحب سماع الحواديت مثلك.. يضطر لابتكار حواديت جديدة، وخلق مواقف وأحداث جذابة بعد أن حفظت حواديته القليلة في الأيام الأولى.. يحدثها عن بطولاته الوهمية، وأسفاره المختلفة ومعاركه الجبارة.. تحدق فيه باهتمام، تلتمع عنياها بفرحة أيامها البكر وهي تنصت إليه.. يعشق التماعة شعرها الأسود الفاحم، ويعشق رائحته، ويسأل نفسه:‏

                        - ماذا لو كان أبوك حياً؟‏

                        تملأ خياشيمه مزيج من رائحة الياسمين والريحان والقرنفل آتية من خصلات شعرها، ورائحة رمال سيناء اللزجة مختلطة بدماء الشهداء..‏

                        سأل نفسه مراراً: لماذا لا تتزوج أرامل شهداء الحروب؟..‏

                        الأم كانت على درجة كبيرة من الجمال، ولكن سوسن كانت أجمل بالتأكيد.. أصبح يخصم الساعات التي تفارقه فيها سوسن من عمره، ويحسب عمره الحقيقي وهي معه، منذ أن يتسلمها من أمها في الصباح الباكر..‏

                        يدور يعد الدقائق، ويراقب من وارء خصاصات شيش نافذته نافذتهما، ويتناوب النوم بين السرير والمقعد وتناول الشاي وسماع المذياع، حتى تدور الدنيا دورة كاملة، ويشرق يوم جديد على الخلق.. لايقطع صمته الطويل إلا طرقات أم سوسن على بابه في العصر، تناوله أطباقاً مختلفة من الطعام الذي أعدته بعد عودتها من العمل، يسألها عن سوسن، فتجيبه ضاحكة متعجبة، فلم يفارقها إلا منذ ساعة أوساعتين.. وتصبره حتى الصباح، وتهون عليه الانتظار.. في السادسة صباحاً يكون مستعداً تماماً للطرقات الموسيقية، تبعث الحياة في أوصاله الباردة، فتدفع سوسن إليه موصية بها كعادتها، ويطمئنها، ثم يبتلعها باب الدرج وسرعان ما تتلاشى دقات أقدامها فوق السلالم المتآكلة..‏

                        يبدأ يومهما.. الجنيهات القلائل التي تتبقى بعد سداد ايجار الغرفة تتوزع بين سجائره وطعامه وحلوى سوسن.. يئست أمها من تغيير مسلكه، وانهائه عن ذلك.. وبالتكرار استسملت لحنانه المتدفق.. والذي يضفي على الأشياء والمواقف منطقاً غلاباً..‏

                        تشاركهما الطبيعة فرحتهما، تمد الشمس أذرعها لاهية معهما، وتتلكأ السحب المارة فوق السطح لتمسح بأعينها مشهدهما الممتع، ويخيل له أن السطح يرتفع، حتى ينفصل عن العالم الأرضي ويلتحق بمدار كوني آخر بصحبة ملاكه الصغير..‏

                        تمنى أن يقتصر طول اليوم على ساعاته الثماني معها، ويقتص من التوقيت الزمني الساعات التي يقضيها بعيداً عنها، بعد أن تأخذها أمها.. غالبته رغبة قوية في البداية أن يستبدل اسمها باسم "هدى" يحب هذا الأسم ولا يعرف سبباً لذلك.. تمنى أن يطلقه على ابنته إذا تزوج يوماً، وبمرور الأيام، وتكاثر الضربات عليه تراجعت أمنيته إلى مكان قاص في قلبه..‏

                        تتوالى الساعات، وتنكمش ساعاته، ويشعر أن وقع خطوات أمها عند الظهر، وهي عائدة من العمل تعني انقضاء سعادته وتكدر يومه.. ينتظر يوم الجمعة بفارع الصبر، تنشغل الأم في شئون التنظيف والغسيل والطهي وتتركها معه، تمد لهما بساطاً على الأرض فيجلس معها ينعمان بدفء الشمس، وتنعم بحكاياته الخرافية، إلى أن تفرغ الأم من مشاغلها فتجلس معه، تحدثه عن أحوال الحي، وتشكو إليه الغلاء ومتاعب المواصلات، واستغلال صاحب المشغل لهن ومظاهرات الطلاب في الشارع،والبوتيكات الجديدة التي تفتتح في الحي الشعبي..‏

                        ثم في المساء تصحب سوسن لشراء حاجيات الأسبوع وزيارة حماتها..آه.. ما أقسى الأيام..‏

                        وما أسرع دورة الحياة.. وما أضيق ابتسامة الزمن.. ففي صباح يوم صيفي تلقى الخبر الذي نغص عليه حياته..‏

                        - سوف أضع سوسن هذا العام في المدرسة..‏

                        قالتها واستدارت، وغالب دمعة كبيرة انزلقت على شعيرات لحيته البيضاء والتي لم يحلقها منذ يومين..‏

                        يشيخ الزمن، ويهرم الرجل، ويسلب متعته.. ففي العام القادم ستدخل سوسن المدرسة..
                        إذا الشعب يوما أراد الحياة
                        فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                        و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                        و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                        تعليق


                        • #13
                          رد: الربع الخالي

                          أيام الكازوزة...

                          جحافل ننطلق مغيرين على بائعي المثلجات.. ننفذ وصيته أو أمره بكل حماس:‏

                          - اجمعوا كل أغطية الكازوزة التي تجدونها: بيبسي وسينالكو وليمونيتا وسيكو وكوكا كولا واسباتس وستيلا..‏

                          ننقسم فرقاً وفرادى. نتابع حركة الأيادي والأفواه مشدودين، وننقض حينما نلمح غطاء زجاجة الكازوزة مفصولاً عن الزجاجة، نرصد لحظة طيرانه في الهواء وقبل أن يبلغ مستقره على الأرض نكون هناك،لا يخلو الأمر أحياناً من التدافع أوتلقي الضربات المؤلمة من قبل الزبائن أو الباعة أنفسهم.‏

                          نتفنن في البحث عن الأغطية في أماكن غير مألوفة: أوعية القمامة المعلقة في أعمدة الاضاءة.. داخل المطاعم، وأمام أبواب السينما الصيفي في حينا، أودور السينما القريبة من الحي: بارك "وريالتو"والتاج "وهوليود وفيكتوريا". مرة واحدة غلبنا الحماس فجرفنا إلى سينما هونولولو بشارع علي شعراوي البعيد عن حينا..‏

                          عبد الفتاح ومجدي العريف- وحدهما- يسلكان الطريق إلى سينما سهير بشارع الجيش أو سينما مصر بباب الشعرية، يقطعانه في ساعة كاملة في الذهاب والعودة.‏

                          هذه الرغبة المجنونة في جمع أغطية الكازوزة يتقاسمها التحدي والفضول من ناحية، والرغبة في كسب وده، وتجنب غضبه.‏

                          يحظى فايز الولد ذو الذراع الملتوية بتقدير خاص، ينتقي أماكن غير مألوفة، ويهبط على صيد وفير لا يخطر على بالنا،أحياناً يقصد بقالة على كيفك حيث يتجمع السكارى في ركن قصي داخل المحل، فينال أغطية غريبة الشكل لزجاجات مستوردة وأقلها صناعة مصرية عادة ما يكون صنف البيرة، وفجأة يختفي عن أنظارنا ويخبرنا بعد عودته بأنه قصد كازينو البستاني بميدان السكاكيني فيعود بحصيلة وفيرة من أغطية الكازوزة تاركاً أيانا نضرب أخماساً وأسداساً.‏

                          كنت الأقل رصيداً، ولم تكن أمامي وسيلة لتصحيح الصورة إلا التضحية بمصروفي اليومي لشراء زجاجة كازوزة أوأكثر والانتفاع بالغطاء..‏

                          تتجمع حصيلة التقصي والسعي والدوران تحت أقدام أخي الأكبر يتولى توجيهنا إلى تنظيمها ورصها وفرزها، يستبعد القديم والممسوح والمعوج، ننال عبارات القدح والتقدير تبعاً لانصبتنا، تنجح الحيلة وافرح بالأغطية التي اشتريت زجاجتها بحر مالي.‏

                          تتحول الأغطية إلى قبة صغيرة، نتولى تعديل حوافها لتشبه فص الليمون الجاف بعد عصره،تتبقى الخطوة التالية الأهم..‏

                          بعد دقائق تكون أنفاسنا منسحبة ونحن نرقب مقدم الترام الأصفر، رصصنا الأغطية مقلوبة حتى لا تنبعج، نخمن خط الترام القادم: سكاكيني- جماميز أو سكاكيني- لاظوغلي. ننقل الأعين بين ميدان السكاكيني وموقف الترام ناحية شارع رمسيس، تتراقص قلوبنا مع صرير العجلات الحديدية للترام الخشبي الأصفر بعرباته الثلاث، يختزل الكون نفسه في حركة الترام بعجلاته الثقيلة وهو يهرس أغطية الكازوزة في صرير مكتوم، نقف معتدلين أو منحنين أو مقرفصين نتابع حركة التسوية والفرد، بعد مرور العربة الأخيرة نتتقافز كالقرود، يحترم كل منا أغطية زملائه، نكون حريصين على ترك فواصل بين كل مجموعة وأخرى من أغطية الكازوزة، تحولت الأغطية الآن إلى دائرة رقيقة مكتملة من الصاج،يحذرنا بعض المارة أحياناً، فربما لا ننتبه ونحن نجمع الأغطية من فوق الشريط الحديدي إلى مقدم عربات الترام من الجهة الأخرى، وربما يبادر أحدنا بنقل الأغطية المفرودة إلى الشريط الموازي كي تسحقها عجلات الترام الثقيلة وتفردها مرة ثانية.‏

                          تنور ينور في رأسي عند حركة الضغط، موسيقىمدهشة لا أستطيع وصفها بدقة، وتتسارع دقات قلبي كأنها تغنى وتشدو.‏

                          يصبح من السهل الآن فصل غشاء الفلين المبطن للغطاء الصاج.‏

                          نعود مهللين مصفرين مصفقين إلى منزلنا، نلقى بأغطيتنا المفرودة تحت أقدام أخي. يوجهنا إلى تصنيفها حسب أنواعها، ونبدأ في ثنيها لتصبح مثل نصف الرغيف البلدي بحيث تتحول إلى نصف دائرة، وتترك بعض الأغطية دوائر كاملة بلا ثني.‏

                          بعد دقائق تحول أصابعنا الماهرة الأغطية إلى مقاعد وموائد ودراجات وأسرة وأرجوحات ومكاتب ودواليب، بعد الانتهاء نتفرغ لصنع عرش السلطان لنقدمه إلى أخي.‏

                          نرص انتاج اليوم في علب الأحذية التي تمتلىء بها شرفة موريس جارنا اليهودي بالطابق الأول الذي هاجر بعد التأميم.. يقفز بعضنا كالقرود ويرمونها إلى الأرض لتتلقفها الأيدي وتنقلها إلى شقتنا، ربما نستعمل علب الدواء الكبيرة التي نحصل عليها من مصنع الأدوية بشارع كنيسة الاتحاد.‏

                          في نهاية اليوم يكون أخي الشرير قد استولى على الحصيلة كلها مع وعد مكرر كاذب بتوزيعها علينا في الغد.‏

                          في الغد المزعوم تتكرر المشقة والمعاناة والاستغلال، وتتوالى وعوده الكاذبة وأمانينا الطيبة بالحصول على حقنا المغتصب.‏

                          يخرق بعضنا دائرة الظلم بسرقة بعض العلب من وراء ظهر أخي خلسة، أشاركهم الخديعة في تواطؤ لا ندم عليه.‏

                          يتناقص مخزون العلب، يذهب أخي بها ولا يعود، أراقب مصروفه الذي يزيد يومياً.‏

                          تتردد شائعات بأنه يبيع انتاجنا لحسابه لزملائه بالمدرسة الاعدادية، لا نملك دليلاً دافعاً يحسم الأقاويل، ولا نمتلك شجاعة التساؤل والمواجهة، من يجرؤ على التمرد وكسر دائرة التبعية والنفوذ؟ يمتلك أخي قدرات هائلة وسطوة غير محدودة ولغة معسولة وقبضته لا ترحم، من يمتلك سيف الانصاف وناقوس العدل؟‏

                          بعد هذه السنوات الطوال أسأل نفسي متعجباً من غفلتنا: هل حولناه إلى أسطورة؟‏

                          القاهرة.في 7 يناير 1995..‏
                          إذا الشعب يوما أراد الحياة
                          فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                          و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                          و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                          تعليق


                          • #14
                            رد: الربع الخالي

                            أيام الكازوزة...

                            جحافل ننطلق مغيرين على بائعي المثلجات.. ننفذ وصيته أو أمره بكل حماس:‏

                            - اجمعوا كل أغطية الكازوزة التي تجدونها: بيبسي وسينالكو وليمونيتا وسيكو وكوكا كولا واسباتس وستيلا..‏

                            ننقسم فرقاً وفرادى. نتابع حركة الأيادي والأفواه مشدودين، وننقض حينما نلمح غطاء زجاجة الكازوزة مفصولاً عن الزجاجة، نرصد لحظة طيرانه في الهواء وقبل أن يبلغ مستقره على الأرض نكون هناك،لا يخلو الأمر أحياناً من التدافع أوتلقي الضربات المؤلمة من قبل الزبائن أو الباعة أنفسهم.‏

                            نتفنن في البحث عن الأغطية في أماكن غير مألوفة: أوعية القمامة المعلقة في أعمدة الاضاءة.. داخل المطاعم، وأمام أبواب السينما الصيفي في حينا، أودور السينما القريبة من الحي: بارك "وريالتو"والتاج "وهوليود وفيكتوريا". مرة واحدة غلبنا الحماس فجرفنا إلى سينما هونولولو بشارع علي شعراوي البعيد عن حينا..‏

                            عبد الفتاح ومجدي العريف- وحدهما- يسلكان الطريق إلى سينما سهير بشارع الجيش أو سينما مصر بباب الشعرية، يقطعانه في ساعة كاملة في الذهاب والعودة.‏

                            هذه الرغبة المجنونة في جمع أغطية الكازوزة يتقاسمها التحدي والفضول من ناحية، والرغبة في كسب وده، وتجنب غضبه.‏

                            يحظى فايز الولد ذو الذراع الملتوية بتقدير خاص، ينتقي أماكن غير مألوفة، ويهبط على صيد وفير لا يخطر على بالنا،أحياناً يقصد بقالة على كيفك حيث يتجمع السكارى في ركن قصي داخل المحل، فينال أغطية غريبة الشكل لزجاجات مستوردة وأقلها صناعة مصرية عادة ما يكون صنف البيرة، وفجأة يختفي عن أنظارنا ويخبرنا بعد عودته بأنه قصد كازينو البستاني بميدان السكاكيني فيعود بحصيلة وفيرة من أغطية الكازوزة تاركاً أيانا نضرب أخماساً وأسداساً.‏

                            كنت الأقل رصيداً، ولم تكن أمامي وسيلة لتصحيح الصورة إلا التضحية بمصروفي اليومي لشراء زجاجة كازوزة أوأكثر والانتفاع بالغطاء..‏

                            تتجمع حصيلة التقصي والسعي والدوران تحت أقدام أخي الأكبر يتولى توجيهنا إلى تنظيمها ورصها وفرزها، يستبعد القديم والممسوح والمعوج، ننال عبارات القدح والتقدير تبعاً لانصبتنا، تنجح الحيلة وافرح بالأغطية التي اشتريت زجاجتها بحر مالي.‏

                            تتحول الأغطية إلى قبة صغيرة، نتولى تعديل حوافها لتشبه فص الليمون الجاف بعد عصره،تتبقى الخطوة التالية الأهم..‏

                            بعد دقائق تكون أنفاسنا منسحبة ونحن نرقب مقدم الترام الأصفر، رصصنا الأغطية مقلوبة حتى لا تنبعج، نخمن خط الترام القادم: سكاكيني- جماميز أو سكاكيني- لاظوغلي. ننقل الأعين بين ميدان السكاكيني وموقف الترام ناحية شارع رمسيس، تتراقص قلوبنا مع صرير العجلات الحديدية للترام الخشبي الأصفر بعرباته الثلاث، يختزل الكون نفسه في حركة الترام بعجلاته الثقيلة وهو يهرس أغطية الكازوزة في صرير مكتوم، نقف معتدلين أو منحنين أو مقرفصين نتابع حركة التسوية والفرد، بعد مرور العربة الأخيرة نتتقافز كالقرود، يحترم كل منا أغطية زملائه، نكون حريصين على ترك فواصل بين كل مجموعة وأخرى من أغطية الكازوزة، تحولت الأغطية الآن إلى دائرة رقيقة مكتملة من الصاج،يحذرنا بعض المارة أحياناً، فربما لا ننتبه ونحن نجمع الأغطية من فوق الشريط الحديدي إلى مقدم عربات الترام من الجهة الأخرى، وربما يبادر أحدنا بنقل الأغطية المفرودة إلى الشريط الموازي كي تسحقها عجلات الترام الثقيلة وتفردها مرة ثانية.‏

                            تنور ينور في رأسي عند حركة الضغط، موسيقىمدهشة لا أستطيع وصفها بدقة، وتتسارع دقات قلبي كأنها تغنى وتشدو.‏

                            يصبح من السهل الآن فصل غشاء الفلين المبطن للغطاء الصاج.‏

                            نعود مهللين مصفرين مصفقين إلى منزلنا، نلقى بأغطيتنا المفرودة تحت أقدام أخي. يوجهنا إلى تصنيفها حسب أنواعها، ونبدأ في ثنيها لتصبح مثل نصف الرغيف البلدي بحيث تتحول إلى نصف دائرة، وتترك بعض الأغطية دوائر كاملة بلا ثني.‏

                            بعد دقائق تحول أصابعنا الماهرة الأغطية إلى مقاعد وموائد ودراجات وأسرة وأرجوحات ومكاتب ودواليب، بعد الانتهاء نتفرغ لصنع عرش السلطان لنقدمه إلى أخي.‏

                            نرص انتاج اليوم في علب الأحذية التي تمتلىء بها شرفة موريس جارنا اليهودي بالطابق الأول الذي هاجر بعد التأميم.. يقفز بعضنا كالقرود ويرمونها إلى الأرض لتتلقفها الأيدي وتنقلها إلى شقتنا، ربما نستعمل علب الدواء الكبيرة التي نحصل عليها من مصنع الأدوية بشارع كنيسة الاتحاد.‏

                            في نهاية اليوم يكون أخي الشرير قد استولى على الحصيلة كلها مع وعد مكرر كاذب بتوزيعها علينا في الغد.‏

                            في الغد المزعوم تتكرر المشقة والمعاناة والاستغلال، وتتوالى وعوده الكاذبة وأمانينا الطيبة بالحصول على حقنا المغتصب.‏

                            يخرق بعضنا دائرة الظلم بسرقة بعض العلب من وراء ظهر أخي خلسة، أشاركهم الخديعة في تواطؤ لا ندم عليه.‏

                            يتناقص مخزون العلب، يذهب أخي بها ولا يعود، أراقب مصروفه الذي يزيد يومياً.‏

                            تتردد شائعات بأنه يبيع انتاجنا لحسابه لزملائه بالمدرسة الاعدادية، لا نملك دليلاً دافعاً يحسم الأقاويل، ولا نمتلك شجاعة التساؤل والمواجهة، من يجرؤ على التمرد وكسر دائرة التبعية والنفوذ؟ يمتلك أخي قدرات هائلة وسطوة غير محدودة ولغة معسولة وقبضته لا ترحم، من يمتلك سيف الانصاف وناقوس العدل؟‏

                            بعد هذه السنوات الطوال أسأل نفسي متعجباً من غفلتنا: هل حولناه إلى أسطورة؟‏

                            القاهرة.في 7 يناير 1995..‏
                            إذا الشعب يوما أراد الحياة
                            فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                            و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                            و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                            تعليق

                            يعمل...
                            X