إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

خصا ئص الحروف العربية ومعانيها

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • خصا ئص الحروف العربية ومعانيها

    خصا ئص الحروف العربية ومعانيها

    - حسن عباس - دراسة -

    منشورات اتحاد الكتاب العرب 1998


    المقدمة‏

    -المدخل-‏

    الباب الأول العلاقات الفطرية بين الحروف العربية والحواس والمشاعر الإنسانية.‏

    الفصل الثاني أصوات الحروف العربية وإيحاءاتها الحسية والشعورية‏

    الباب الثاني معاني الحروف العربية على واقع المعاجم اللغوية‏

    الفصل الثاني الحاسة الذوقية وحرفاها‏

    الفصل الثالث الحاسة البصرية وحروفها‏

    الفصل الرابع الحاسة السمعية وحرفاها‏

    الفصل الخامس الحروف الشعورية غير الحلقية ‏‏

    الفصل السادس الحروف الشعورية الحلْقية‏

    في الختام:‏

    الباب الثالث في التطبيق على خصائص الحروف العربية ومعانيها‏

    الفصل الثاني أمثلة تطبيقية‏

    الباب الرابع الشعور، كحاسة سادسة ‏‏

    الخاتمة حول تداخل المراحل اللغوية‏

    من مراجع الدراسة‏
    إذا الشعب يوما أراد الحياة
    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

  • #2
    رد: خصا ئص الحروف العربية ومعانيها

    المقدمة

    هذه الدراسة عن "خصائص الحروف العربية ومعانيها" هي أصل لدراسات ثلاث أخرى متفرعة منها قد تناولت المزيد من مسائل الحرف العربي وقضاياه، بما في ذلك مختلف العلاقات الفطرية المتبادلة بينه وبين الإنسان الذي أبدعه. وهي بحسب تواريخ إنجازها:‏

    الأولى- خصائص الحروف العربية ومعانيها- أنجزتها عام (1982) وهي رهن الدراسة.‏

    الثانية- الحرف العربي والشخصية العربية- أنجزتها عام (1987) ونشرتها عام 1992.‏

    الثالثة- حروف المعاني بين الأصالة والحداثة أنجزتها عام 1991 وهي قيد النشر.‏

    الرابعة- إطلالة على الإعجاز اللغوي في القرآن نشرتها عام 1994.‏

    فماذا عن هذه الدراسات الأربع:‏

    ولنبدأ بالدراسة الرابعة (الإطلالة).‏

    إنها مجرد تطبيق عملي لما تحصّل لي من خصائص الحروف العربية ومعانيها في الدراسات الأخرى على أرقى النصوص اللغوية فصاحة وبلاغة. فقد اختبرت ما تحصل لي من خصائص ومعاني (23) حرفاً من مئات الجداول على واقع استعمالات القرآن الكريم لها في (سوره وآياته ومفرداته وقوافيه- أي فواصله) بدقة وإحكام لا نظير لذلك في أدب أو شعر أو معجم. وقد استوفى كل استعمال منها شروط الإعجاز اللغوي، مما لم ينتبه له أي من مفسري القرآن أو الباحثين عن إعجازه اللغوي، ولا عتب عليهم في ذلك لأن أياً منهم لم يهتد إلى خصائص الحروف العربية ومعانيها.‏

    وحذر الإطالة أكتفي بهذا المقدار الضئيل من التنويه بتداخلها في الدراسات الأخرى، لأنها كما أسلفت مجرد تطبيق عملي لها. وإذن ماذا عن تداخل دراساتي الأخرى؟‏

    لئن كانت هذه الدراسات تتماس مع بعض ما سبقها من الدراسات اللغوية حول خصائص الحروف العربية ومعانيها، فإنها ليست مجرد توسع لها، ولا استطراداً لبحوثها، وإن كانت تعتبر استكمالاً لها، فهي تختلف عنها في منطلقها (الفلسفي) وفي نهجها (العلمي- الرياضي) كما سيأتي في المدخل، مما يحفظ لها استقلالها عن غيرها. وإذن ماذا عن الجديد في كل واحدة منها؟‏

    أولاً- بعض الأضواء على الجديد في دراستي "خصائص الحروف العربية ومعانيها"؟‏

    لقد حدست في أول كتاب لي "هذه أمة العرب في تجاربها" المنشور عام 1958 أن ثمة علاقات فطرية متبادلة بين القيم الجمالية والقيم الإنسانية، أوجزتها في مقولة "لا فن بلا أخلاق ولا أخلاق بلا فن" ولقد تثبت من صحتها في قطاع المشاعر الإنسانية بكتابي الثاني "لا فن بلا أخلاق ولا أخلاق بلا فن" المنشور عام 961. ومن ثم وحسماً لكل جدل حول هذه المقولة، خطر لي أن أتثبت من صحتها في القطاع اللغوي بحثاً عما إذا كان الإنسان العربي قد خصص الكلمات التي في أصوات حروفها (رقة، وأناقة، وجمال، ودماثة، وصقل، وفعالية...) وما إليها مما له صداه المحبب في النفس، لما يناسبها من المعاني الجيدة والعكس بالعكس، وبذلك يتحقق التوافق بين القيم الجمالية والقيم الإنسانية في القطاع اللغوي أيضاً.‏

    ولقد انجزت دراستي "خصائص الحروف العربية ومعانيها" للمرة الأولى عام 978 تحت عنوان "الحروف العربية والحواس الست" باعتبار أن (الشعور) هو الحاسة السادسة، وقد اتبعت في ذلك نهج من قال بفطرية اللغة العربية ممن اجمعوا صراحة أو ضمناً على أن معنى الحرف العربي هو (صدى صوته في الوجدان، أو النفس). وكان ابن جني أبلغ من عبر عن هذه النظرية اللغوية الفطرية بمقولته الشهيرة: (سوقاً للحروف على سمت المعنى المقصود والغرض المراد".‏

    ومن ثم وفي إحدى مراجعاتي لها أفاجأ بأن الإنسان العربي الذي اعتمد الخصائص (الإيحائية) في أصوات بعض الحروف للتعبير عن معانيه، قد اعتمد أيضاً الخصائص (الهيجانية) وكذلك- الخصائص (الإيمائية- التمثيلية) في بعضها الآخر. وكان من طبيعة الأمور أن أعيد دراسة المشروع الأولى: "الحروف العربية والحواس الست" حرفاً حرفاً من (ألفه إلى يائه).‏

    وتستمر الرحلة بي بضعة عشر عاماً أخرى، فكان أعقد ما واجهني في تقصياتي خلالها ثلاث قضايا هي:‏

    أولاً- التحري عن الخصائص (الهيجانية والإيمائية والإيحائية) المتوقعة في كل حرف، وذلك بحسب مواقعه في أوائل جميع المصادر الجذور إطلاقاً وكذلك لتسعة عشر حرفاً تقع في آخرها، ثم لستة أخرى تقع في وسطها. وقد تبين لي أن خصائص كل حرف تتغير من موقع إلى آخر، وذلك تبعاً لطريقة النطق بصوته: مشدداً عليه في مقدمة المصادر، ومرققاً منعماً في آخرها، وبين بين في وسطها. وبذلك يكون للحرف الواحد العديد من المعاني بحسب مواقعه من المصادر الجذور التي يشارك في تراكيبها.‏

    ثانياً- أما أشق ما عانيته في هذه الدراسة فهو الاهتداء إلى المصدر الجذر الألصق بالطبيعة وإلى معناه الألصق بالفطرة.‏

    وذلك لأن الأصل في معنى الكلمة العربية هو ما أخذه العربي مباشرة عن الطبيعة: "سوقاً للحروف على سمت المعنى المقصود والغرض المراد" كما قال ابن جني. فيكون الأصل في معناه تبعاً لذلك هو الحسي ثم جاءت المشتقات بمعانيها الحسية الأخرى، ثم المجردة في مراحل ثقافية متطورة.‏

    فمن (2931) كلمة ومشتقاً تبدأ بحرف (النون) عثرت عليها في المعجم الوسيط، ومن آلاف معانيها الحسية والمجردة، قد وقع اختياري على (368) كلمة اعتبرتها مصادر جذور. وقد اعتمدت لكل واحد منها معنى حسياً واحداً، وربما أضفت إليه معنى مجرداً ثانياً في قليل من الأحيان، وذلك للكشف عن الرابطة الذهنية المميزة بين المعنيين: الحسي والمجرد.‏

    ولا مطعن جدّياً على دراساتي في هذا الاختيار، ما دمت قد التزمت بقاعدة صارمة لم أحد عنها: هي اعتماد الكلمة الألصق بالطبيعة والمعنى الحسي والألصق بالفطرة بما يتوافق مع نشأة اللغة العربية الحسية وسائر اللغات العروبية (السامية).‏

    ودعماً (علمياً- رياضياً) لهذه الدراسة في مواجهة القائلين باصطلاحية معنى الكلمة العربية واعتباطيته فقد استعرضت في هذه الدراسة معاني (9767) مصدراً جذراً لعشرات الوف المعاني، أثبت منها معاني (3523) مصدراً كأمثلة على توافق خصائص الحروف العربية مع معانيها فكانت نسبة التوافق بينهما تراوح بين (50-91) في المئة، ولم تقلّ عن ذلك إلا في الأحرف (الهيجانية) وحرفي (ت-ح) لأسباب خاصة كما سيأتي في متن الدراسة.‏

    هذا وقد خصصت الفصل الأخير من هذه الدراسة للحديث عن المشاعر الإنسانية وفق ما تناولها علم النفس وذلك للبرهان على توافق المبادئ والأسس التي اعتمدتها في هذه الدراسة مع مبادئ علم النفس،سواء بمعرض الكشف عن النهج الذي اتبعه العربي في ابداع كلماته تعبيراً عن معانيه، أم بمعرض النهج الذي اتبعته في استشفاف تلك المعاني.‏

    ثالثاً- أما أغرب ما جاء في هذه الدراسة، فهو تصنيف الحواس الخمس والمشاعر الإنسانية في هرم تبدأ قاعدته بالحاسة اللمسية، أشد الحواس كثافة والصقها بمادة الأشياء، ثم تليها صعوداً على التوالي حواس (الذوق، فالشم، فالبصر، فالسمع، فالمشاعر الإنسانية) ولكل واحدة منها فئة معينة من الحروف.‏

    فكانت معاني المصادر الجذور التي تبدأ أو تنتهي بكل فئة منها تلتزم بطبقتها الحسية، لا تتجاوزها صعوداً إلى الطبقات الأعلى، إلا نادراً وإن كان لها الحق (الشرعي) في الهبوط إلى الأدنى وذلك بحكم ولاية الأعلى مرتبة على الأدنى. وغالباً ما يتم الخروج على هذه القاعدة بشفاعة حرف مشارك ينتمي إلى الطبقة الأعلى، على غرار ما يتم في الأندية العصرية الراقية.‏

    ثانياً- بعض الأضواء على الجديد في دراسة (الحرف العربي، والشخصية العربية):‏

    بعد أن انتهيت من دراستي (خصائص الحروف) ثبت لي على واقع آلاف الأمثلة المضروبة أن العربي قد اعتمد خصائص الحروف ومعانيها في ألفاظه للتعبير عن معانيه، ولقد آخى في ذلك بصورة عامة بين القيم الجمالية والقيم الإنسانية، مما يشير إلى فطرية العربية.‏

    ولكن هذه الفطرية تفترض بداءة الحرف العربي وفجرية الإنسان الذي أبدعه. بمعنى أنهما قد نشآ وترعرعا واستوفيا شروط تكاملهما ونضجهما في بيئة محددة هي حصراً (الجزيرة العربية)، لم تغزهما فيها لغة ما، ولا شعب آخر، والعكس صحيح. وهذا يقتضي أن تكون الجزيرة العربية الأم هي الأسبق حضارياً وثقافياً من سائر المناطق المجاورة.‏

    ولما كان العربي قد اعتمد في آلاف الأمثلة المضروبة الخصائص (الهيجانية والإيمائية والإيحائية) في الحروف العربية للتعبير عن معانيه، فلا بد أن تعود أصولها إلى مراحل حياتية متفاوتة في الرقي، قد أمضاها في جزيرته البكر حصراً.‏

    فالهيجاني أقل تطوراً من الإيمائي، وهذا أقل تطوراً من الإيحائي، وهو أرقى وسائل التواصل اللغوي، مما لم يعد له نظير في أي لغة معاصرة أخرى، وهذا يعني أن الحروف العربية تنتمي بالضرورة إلى مراحل حياتية ثلاث متفاوتة في التطور والرقي.‏

    ولكن ماذا عن طبيعة هذه المراحل؟ ومتى بدأت كل واحدة منها، ومتى انتهت. ثم ما هي الرابطة الفطرية الطبيعية بين كل مرحلة منها وبين خصائص الحروف التي ورثناها عنها؟ وأخيراً، ما هي طبيعة العلاقات الفطرية المتبادلة بين الحرف العربي والإنسان الذي أبدعه؟‏

    لذلك واستكمالاً لدراستي العتيدة (خصائص الحروف)، وحماية لها من نقد الشاكيّن الأبرياء، ومن تحامل المشككين بفطرية العربية وحروفها، كان لا بد لي من الإجابة عن تلك التساؤلات، وغيرها بالعودة إلى المراجع المختصة.‏

    ولكنّ علماء الآثار والتاريخ واللغات ومن إليهم، قد أهملوا الجزيرة العربية، لظاهرة تصحرها في تقصياتهم عن أصول الحضارة البكر، سواء في استئناس النبات والحيوان، أو أصول اللغات والعبادات وما إليها، ما شذَّ عنهم فيما وصل إلى علمي سوى المؤرخ الكبير (شوينغرت) حيث يقول:‏

    "إن الشعير والذرة الرفيعة والقمح وتأنيس الماشية والماعز والضأن وإن ظهرت كلها في مصر وبلاد ما بين النهرين من أقدم العهود المدونة، لم توجد في حالتها الطبيعية في مصر، بل في بلاد آسيا الغربية وبخاصة في بلاد اليمن وبلاد العرب القديمة (أي الجزيرة العربية).. ثم انتشرت منها في صورة مثلث ثقافي إلى ما بين النهرين (سومر وبابل) وإلى مصر". ويعلق (ديورنت) على ذلك في قصة الحضارة ج1 (ص42) بقوله:‏

    "ولكن ما وصل إلى علمنا من تاريخ بلاد العرب القديمة حتى الآن ليبلغ من القلة حدّاً لا نستطيع معه إلا أن نقول: إن هذا مجرد فرض جائز الوقوع".‏

    وللإجابة عن هذه التساؤلات الفائقة الأهمية والإحراج كان لا بد لي من الاستعانة بالمراجع (التاريخية والأثرية والاجتماعية واللغوية وسواها) ولا سيما ما يتعلق منها بأصول الحضارات الإنسانية في المناطق المجاورة للجزيرة العربية (مصر+ بلاد ما بين النهرين+ بلاد الشام أي (سورية+ الأردن ‏+ فلسطين) وقد خلصت منها إلى النتائج التالية:‏

    1-اللغة العربية هي فطرية النشأة (موضوع الفصل الأول)‏

    2-الإنسان العربي والحرف العربي قد تعايشا معاً في الجزيرة العربية خلال ثلاث مراحل حياتية هي: الغابية وقد بدأت مع بداية العصر الجليدي الأخير منذ الألف (100) ق.م واستمرت حتى نهايته في الألف (14-12) ق.م وقد ورثنا عنها يقيناً أصول أحرف (الهمزة -ا-و-ي) ثم تلتها المرحلة الزراعية واستمرت حتى الألف (9) ق.م وقد ورثنا عنها باحتمال شديد أصول أحرف (ف-ل -م- ث-ذ) ثم تلتها المرحلة الرعوية بعد استحكام الجفاف في الجزيرة العربية واستمرت حتى العصور الجاهلية وفجر الإسلام. وقد ورثنا عنها باحتمال شديد بقية الحروف. (موضوع الفصل الثاني).‏

    وإنه لمن غرائب العربية المدهشة، أن يحتفظ العربي بدلالات هذه الفئات الثلاث من الحروف العربية. وقد عرضت أسباب ذلك في خاتمة دراستي (خصائص الحروف..) تحت عنوان "حول تداخل المراحل اللغوية".‏

    3-الجزيرة العربية هي حتماً مهد الإنسان العربي وحضارته (موضوع الفصل الثالث).‏

    4-أما الفصلان الأخيران (الرابع والخامس) فقد خصصتهما للكشف عن عوامل تكوين شخصيتي الإنسان العربي والحرف العربي: (الحيوية والنفسية والاجتماعية) وكذلك عن دور الشعر العربي الأصيل والفروسية في خلق الروابط الفطرية المتبادلة بينهما.‏

    ثالثاً- بعض الأضواء على الجديد في دراستي (حروف المعاني بين الأصالة والحداثة):‏

    لقد انتهيت من دراستي "خصائص الحروف" إلى أن الأحرف الهيجانية الغابية: "الهمزة- ا-و-ي) لا تأثير يذكر لخصائصها في معاني المصادر الجذور على واقع المعاجم اللغوية، وبذلك تكون معدومة المعاني، ولكنني لاحظت كثرة دورانها في حروف المعاني التي يتألف معظمها من حرف واحد أو حرفين، مما يشير إلى أنها أقدم المستحاثات في اللغة العربية: تأسيساً على أن العربية قد بدأت بالمقاطع الأحادية ثم بالثنائية، ثم بالثلاثية فالمزيدات، كما ذكر العلايلي في مقدمته، وهو صحيح.‏

    لذلك توقعت أن تكون هذه الأحرف (الهيجانية) قد ظلت محتفظة بدلالاتها ومعانيها في حروف المعاني لتقارب نشأتيهما في أعماق الزمن: كما (الهمزة) في (آ) لنداء البعيد: إثارة لانتباه السامع بصوتها الانفجاري الهيجاني وهكذا الأمر في أحرف (ا-و-ي).‏

    فرأيت أن أتقصى خصائص هذه الأحرف في القطاع (الصرفي- النحوي) قبل نشر أي دراسة أخرى وذلك للسببين التاليين:‏

    1-لسد هذه الثغرة المعجمية الكبيرة في خصائص الحروف العربية ومعانيها. وذلك حماية لدراساتي من الطعن بفطرية اللغة العربية من هذه الثغرة (الهيجانية).‏

    2-أما الأهم والأخطر، فهو: إثبات أن اللغة العربية تعود نشأتها الأولى إلى المرحلة الغابية. وبذلك تتحصن دراساتي من الطعن بما تحصل لي فيها من المستجدات (التاريخية والاجتماعية والأثرية والنفسية واللغوية..) وما إليها، مما يثبت هذا التواصل (الحضاري- الثقافي) في التراث العربي مرحلة حياة بعد مرحلة، منذ عهد الغاب حتى الإسلام.‏

    فقد استعرضت معاني وأصول استعمالات (117) مفردة من حروف (النداء والعطف والجر والنصب والجزم والمشبهة بالفعل والنفي والترجي والعرض والتحضيض والاستفهام وأسماء الكناية والإشارة والضمائر وذلك بالرجوع إلى خصائص ومعاني حروفها وفقاً لما جاء في (خصائص الحروف العربية ومعانيها).‏

    فكان لكل مفردة من حروف المعاني العديد من المعاني والأقسام والاستعمالات، قد تجاوز بعضها الخمسين كما في (ما-لا) وقد توافقت الغالبية العظمى من معاني هذه المفردات واستعمالاتها مع خصائص الحروف التي شاركت في تراكيبها، سواء أكانت هيجانية أم غير هيجانية.‏

    وعندئذ جرؤت على نشر دراستي (الحرف العربي والشخصية العربية، ثم الإطلالة) بكثير من الثقة بعد أن تم الكشف عن خصائص الحروف العربية ومعانيها جميعاً بلا استثناء، سواء في القطاع المعجمي أم القطاع الصرفي- النحوي.‏

    وهكذا ما أحسبني مدعياً لو قلت: إن هذه الدراسات الثلاث تمهد الطريق للانتقال باللغة العربية من مرحلة (كيف) استعمل العربي مفرداته وقواعد صرفه ونحوه التي دامت ألف عام ونيف إلى مرحلة جديدة، هي: (لماذا) استعملها العربي هكذا؟ فما من واحد من علماء اللغة وفقهاء صرفها ونحوها فيما أعلم، قد تساءل:(لماذا) أبدع العربي كلمة (أنا) ضميراً للمتكلم، و(نحن) لجمعه، و(أنت) للمخاطب، و(هو) للغائب؟ وقد أجبت عن هذه التساؤلات في دراستي "الحرف العربي" . (ص79-82).‏

    ولا (لماذا) جعل (الواو) للعطف بلا ترتيب و(الفاء) للترتيب بلا تراخ، و(ثم) للترتيب والتراخي؟ ولا (لماذا) رفع المرفوعات ونصب المنصوبات وجر المجرورات وجزم المجزومات؟‏

    وهكذا إلى مئات التساؤلات في القطاع الصرفي - النحوي، وقد أجبت عنها في هذه الدراسة. لذلك، ولما كان فقهاء الصرف والنحو قد اعتمدوا النصوص العربية من (نثر وشعر وقرآن) للاهتداء إلى معاني وأصول استعمالات حروف المعاني بلا ضابط من خصائص الحروف العربية ومعانيها، فقد اسندوا إلى معظم حروف المعاني، معاني ليست لها، وحرموا بعضها الآخر من أخص خصائص معانيها واكتفي هنا بمثالين اثنين:‏

    1-لقد اسندوا إلى حرف (الباء) من حروف الجر معنى الإلصاق، بما يتعارض مع خاصية الانفجار في صوته، فكان له في المعجم الوسيط (84) مصدراً تبدأ به لمعاني الحفر والبقر والبيان بما يتوافق مع خصائص صوته، ولا شيء للإلصاق.‏

    2-أما (اللام) من حروف الجر، فإن أياً من الفقهاء لم يسند له معنى الإلصاق بينما كان له في المعجم الوسيط (82) مصدراً جذراً تبدأ به لهذا المعنى. كما أن الإلصاق هو من أهم معانيه الصرفية، كما في (لام الأمر، ولام التملك، وأل التعريف...)‏

    وكما أنه ليس ثمة ما هو أهدى لمعاني المصادر الجذور من خصائص الحروف العربية ومعانيها، كما ثبت ذلك في دراستي (خصائص الحروف..) فإنه ليس ثمة أيضاً ما هو أهدى منها لمعرفة معاني حروف المعاني وأصول استعمالاتها كما ثبت لي في هذه الدراسة (حروف المعاني بين الأصالة والحداثة).‏

    توضيح لا بد منه:‏

    لقد اعتمدت المعجم الوسيط الحديث في تقصياتي عن المصادر الجذور بمعرض البحث عن مدى تأثير معانيها بخصائص حروفها، ولم اعتمد المعاجم المطولة لقدامى اللغويين ومحدثيهم، أمثال (الكشاف للزمخشري، وتاج العروس للزبيدي، والمحيط للفيروز أبادي، ومحيط المحيط لبطرس البستاني ولسان العرب لابن منظور.." وذلك لأن زيادة المفردات فيها عن الوسيط هو في الغالب من غرائب الكلم لغرائب المعاني من مزيدات الرباعي والخماسي، أو من المولد أو المعرب أو المحدث، أو الدخيل أو العامي، مما هو أبعد في الزمن عن النشأة الفطرية للعربية، وعن أصالتها.‏

    وبذلك فإن (الوسيط) يغني عن المطولات بمعرض البحث عن المصادر الجذور الألصق تركيباً بالطبيعة وعن معانيها الألصق فطرة بالمحسوس. وقد عالجت هذه المسألة في دراسة حرف (العين) بمعرض استخراج معاني المصادر التي تبدأ به في كل من المعجم الوسيط ومحيط المحيط، كما سيأتي، مما لا مجال للتفصيل فيه هنا.‏
    إذا الشعب يوما أراد الحياة
    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

    تعليق


    • #3
      رد: خصا ئص الحروف العربية ومعانيها

      المقدمة

      هذه الدراسة عن "خصائص الحروف العربية ومعانيها" هي أصل لدراسات ثلاث أخرى متفرعة منها قد تناولت المزيد من مسائل الحرف العربي وقضاياه، بما في ذلك مختلف العلاقات الفطرية المتبادلة بينه وبين الإنسان الذي أبدعه. وهي بحسب تواريخ إنجازها:‏

      الأولى- خصائص الحروف العربية ومعانيها- أنجزتها عام (1982) وهي رهن الدراسة.‏

      الثانية- الحرف العربي والشخصية العربية- أنجزتها عام (1987) ونشرتها عام 1992.‏

      الثالثة- حروف المعاني بين الأصالة والحداثة أنجزتها عام 1991 وهي قيد النشر.‏

      الرابعة- إطلالة على الإعجاز اللغوي في القرآن نشرتها عام 1994.‏

      فماذا عن هذه الدراسات الأربع:‏

      ولنبدأ بالدراسة الرابعة (الإطلالة).‏

      إنها مجرد تطبيق عملي لما تحصّل لي من خصائص الحروف العربية ومعانيها في الدراسات الأخرى على أرقى النصوص اللغوية فصاحة وبلاغة. فقد اختبرت ما تحصل لي من خصائص ومعاني (23) حرفاً من مئات الجداول على واقع استعمالات القرآن الكريم لها في (سوره وآياته ومفرداته وقوافيه- أي فواصله) بدقة وإحكام لا نظير لذلك في أدب أو شعر أو معجم. وقد استوفى كل استعمال منها شروط الإعجاز اللغوي، مما لم ينتبه له أي من مفسري القرآن أو الباحثين عن إعجازه اللغوي، ولا عتب عليهم في ذلك لأن أياً منهم لم يهتد إلى خصائص الحروف العربية ومعانيها.‏

      وحذر الإطالة أكتفي بهذا المقدار الضئيل من التنويه بتداخلها في الدراسات الأخرى، لأنها كما أسلفت مجرد تطبيق عملي لها. وإذن ماذا عن تداخل دراساتي الأخرى؟‏

      لئن كانت هذه الدراسات تتماس مع بعض ما سبقها من الدراسات اللغوية حول خصائص الحروف العربية ومعانيها، فإنها ليست مجرد توسع لها، ولا استطراداً لبحوثها، وإن كانت تعتبر استكمالاً لها، فهي تختلف عنها في منطلقها (الفلسفي) وفي نهجها (العلمي- الرياضي) كما سيأتي في المدخل، مما يحفظ لها استقلالها عن غيرها. وإذن ماذا عن الجديد في كل واحدة منها؟‏

      أولاً- بعض الأضواء على الجديد في دراستي "خصائص الحروف العربية ومعانيها"؟‏

      لقد حدست في أول كتاب لي "هذه أمة العرب في تجاربها" المنشور عام 1958 أن ثمة علاقات فطرية متبادلة بين القيم الجمالية والقيم الإنسانية، أوجزتها في مقولة "لا فن بلا أخلاق ولا أخلاق بلا فن" ولقد تثبت من صحتها في قطاع المشاعر الإنسانية بكتابي الثاني "لا فن بلا أخلاق ولا أخلاق بلا فن" المنشور عام 961. ومن ثم وحسماً لكل جدل حول هذه المقولة، خطر لي أن أتثبت من صحتها في القطاع اللغوي بحثاً عما إذا كان الإنسان العربي قد خصص الكلمات التي في أصوات حروفها (رقة، وأناقة، وجمال، ودماثة، وصقل، وفعالية...) وما إليها مما له صداه المحبب في النفس، لما يناسبها من المعاني الجيدة والعكس بالعكس، وبذلك يتحقق التوافق بين القيم الجمالية والقيم الإنسانية في القطاع اللغوي أيضاً.‏

      ولقد انجزت دراستي "خصائص الحروف العربية ومعانيها" للمرة الأولى عام 978 تحت عنوان "الحروف العربية والحواس الست" باعتبار أن (الشعور) هو الحاسة السادسة، وقد اتبعت في ذلك نهج من قال بفطرية اللغة العربية ممن اجمعوا صراحة أو ضمناً على أن معنى الحرف العربي هو (صدى صوته في الوجدان، أو النفس). وكان ابن جني أبلغ من عبر عن هذه النظرية اللغوية الفطرية بمقولته الشهيرة: (سوقاً للحروف على سمت المعنى المقصود والغرض المراد".‏

      ومن ثم وفي إحدى مراجعاتي لها أفاجأ بأن الإنسان العربي الذي اعتمد الخصائص (الإيحائية) في أصوات بعض الحروف للتعبير عن معانيه، قد اعتمد أيضاً الخصائص (الهيجانية) وكذلك- الخصائص (الإيمائية- التمثيلية) في بعضها الآخر. وكان من طبيعة الأمور أن أعيد دراسة المشروع الأولى: "الحروف العربية والحواس الست" حرفاً حرفاً من (ألفه إلى يائه).‏

      وتستمر الرحلة بي بضعة عشر عاماً أخرى، فكان أعقد ما واجهني في تقصياتي خلالها ثلاث قضايا هي:‏

      أولاً- التحري عن الخصائص (الهيجانية والإيمائية والإيحائية) المتوقعة في كل حرف، وذلك بحسب مواقعه في أوائل جميع المصادر الجذور إطلاقاً وكذلك لتسعة عشر حرفاً تقع في آخرها، ثم لستة أخرى تقع في وسطها. وقد تبين لي أن خصائص كل حرف تتغير من موقع إلى آخر، وذلك تبعاً لطريقة النطق بصوته: مشدداً عليه في مقدمة المصادر، ومرققاً منعماً في آخرها، وبين بين في وسطها. وبذلك يكون للحرف الواحد العديد من المعاني بحسب مواقعه من المصادر الجذور التي يشارك في تراكيبها.‏

      ثانياً- أما أشق ما عانيته في هذه الدراسة فهو الاهتداء إلى المصدر الجذر الألصق بالطبيعة وإلى معناه الألصق بالفطرة.‏

      وذلك لأن الأصل في معنى الكلمة العربية هو ما أخذه العربي مباشرة عن الطبيعة: "سوقاً للحروف على سمت المعنى المقصود والغرض المراد" كما قال ابن جني. فيكون الأصل في معناه تبعاً لذلك هو الحسي ثم جاءت المشتقات بمعانيها الحسية الأخرى، ثم المجردة في مراحل ثقافية متطورة.‏

      فمن (2931) كلمة ومشتقاً تبدأ بحرف (النون) عثرت عليها في المعجم الوسيط، ومن آلاف معانيها الحسية والمجردة، قد وقع اختياري على (368) كلمة اعتبرتها مصادر جذور. وقد اعتمدت لكل واحد منها معنى حسياً واحداً، وربما أضفت إليه معنى مجرداً ثانياً في قليل من الأحيان، وذلك للكشف عن الرابطة الذهنية المميزة بين المعنيين: الحسي والمجرد.‏

      ولا مطعن جدّياً على دراساتي في هذا الاختيار، ما دمت قد التزمت بقاعدة صارمة لم أحد عنها: هي اعتماد الكلمة الألصق بالطبيعة والمعنى الحسي والألصق بالفطرة بما يتوافق مع نشأة اللغة العربية الحسية وسائر اللغات العروبية (السامية).‏

      ودعماً (علمياً- رياضياً) لهذه الدراسة في مواجهة القائلين باصطلاحية معنى الكلمة العربية واعتباطيته فقد استعرضت في هذه الدراسة معاني (9767) مصدراً جذراً لعشرات الوف المعاني، أثبت منها معاني (3523) مصدراً كأمثلة على توافق خصائص الحروف العربية مع معانيها فكانت نسبة التوافق بينهما تراوح بين (50-91) في المئة، ولم تقلّ عن ذلك إلا في الأحرف (الهيجانية) وحرفي (ت-ح) لأسباب خاصة كما سيأتي في متن الدراسة.‏

      هذا وقد خصصت الفصل الأخير من هذه الدراسة للحديث عن المشاعر الإنسانية وفق ما تناولها علم النفس وذلك للبرهان على توافق المبادئ والأسس التي اعتمدتها في هذه الدراسة مع مبادئ علم النفس،سواء بمعرض الكشف عن النهج الذي اتبعه العربي في ابداع كلماته تعبيراً عن معانيه، أم بمعرض النهج الذي اتبعته في استشفاف تلك المعاني.‏

      ثالثاً- أما أغرب ما جاء في هذه الدراسة، فهو تصنيف الحواس الخمس والمشاعر الإنسانية في هرم تبدأ قاعدته بالحاسة اللمسية، أشد الحواس كثافة والصقها بمادة الأشياء، ثم تليها صعوداً على التوالي حواس (الذوق، فالشم، فالبصر، فالسمع، فالمشاعر الإنسانية) ولكل واحدة منها فئة معينة من الحروف.‏

      فكانت معاني المصادر الجذور التي تبدأ أو تنتهي بكل فئة منها تلتزم بطبقتها الحسية، لا تتجاوزها صعوداً إلى الطبقات الأعلى، إلا نادراً وإن كان لها الحق (الشرعي) في الهبوط إلى الأدنى وذلك بحكم ولاية الأعلى مرتبة على الأدنى. وغالباً ما يتم الخروج على هذه القاعدة بشفاعة حرف مشارك ينتمي إلى الطبقة الأعلى، على غرار ما يتم في الأندية العصرية الراقية.‏

      ثانياً- بعض الأضواء على الجديد في دراسة (الحرف العربي، والشخصية العربية):‏

      بعد أن انتهيت من دراستي (خصائص الحروف) ثبت لي على واقع آلاف الأمثلة المضروبة أن العربي قد اعتمد خصائص الحروف ومعانيها في ألفاظه للتعبير عن معانيه، ولقد آخى في ذلك بصورة عامة بين القيم الجمالية والقيم الإنسانية، مما يشير إلى فطرية العربية.‏

      ولكن هذه الفطرية تفترض بداءة الحرف العربي وفجرية الإنسان الذي أبدعه. بمعنى أنهما قد نشآ وترعرعا واستوفيا شروط تكاملهما ونضجهما في بيئة محددة هي حصراً (الجزيرة العربية)، لم تغزهما فيها لغة ما، ولا شعب آخر، والعكس صحيح. وهذا يقتضي أن تكون الجزيرة العربية الأم هي الأسبق حضارياً وثقافياً من سائر المناطق المجاورة.‏

      ولما كان العربي قد اعتمد في آلاف الأمثلة المضروبة الخصائص (الهيجانية والإيمائية والإيحائية) في الحروف العربية للتعبير عن معانيه، فلا بد أن تعود أصولها إلى مراحل حياتية متفاوتة في الرقي، قد أمضاها في جزيرته البكر حصراً.‏

      فالهيجاني أقل تطوراً من الإيمائي، وهذا أقل تطوراً من الإيحائي، وهو أرقى وسائل التواصل اللغوي، مما لم يعد له نظير في أي لغة معاصرة أخرى، وهذا يعني أن الحروف العربية تنتمي بالضرورة إلى مراحل حياتية ثلاث متفاوتة في التطور والرقي.‏

      ولكن ماذا عن طبيعة هذه المراحل؟ ومتى بدأت كل واحدة منها، ومتى انتهت. ثم ما هي الرابطة الفطرية الطبيعية بين كل مرحلة منها وبين خصائص الحروف التي ورثناها عنها؟ وأخيراً، ما هي طبيعة العلاقات الفطرية المتبادلة بين الحرف العربي والإنسان الذي أبدعه؟‏

      لذلك واستكمالاً لدراستي العتيدة (خصائص الحروف)، وحماية لها من نقد الشاكيّن الأبرياء، ومن تحامل المشككين بفطرية العربية وحروفها، كان لا بد لي من الإجابة عن تلك التساؤلات، وغيرها بالعودة إلى المراجع المختصة.‏

      ولكنّ علماء الآثار والتاريخ واللغات ومن إليهم، قد أهملوا الجزيرة العربية، لظاهرة تصحرها في تقصياتهم عن أصول الحضارة البكر، سواء في استئناس النبات والحيوان، أو أصول اللغات والعبادات وما إليها، ما شذَّ عنهم فيما وصل إلى علمي سوى المؤرخ الكبير (شوينغرت) حيث يقول:‏

      "إن الشعير والذرة الرفيعة والقمح وتأنيس الماشية والماعز والضأن وإن ظهرت كلها في مصر وبلاد ما بين النهرين من أقدم العهود المدونة، لم توجد في حالتها الطبيعية في مصر، بل في بلاد آسيا الغربية وبخاصة في بلاد اليمن وبلاد العرب القديمة (أي الجزيرة العربية).. ثم انتشرت منها في صورة مثلث ثقافي إلى ما بين النهرين (سومر وبابل) وإلى مصر". ويعلق (ديورنت) على ذلك في قصة الحضارة ج1 (ص42) بقوله:‏

      "ولكن ما وصل إلى علمنا من تاريخ بلاد العرب القديمة حتى الآن ليبلغ من القلة حدّاً لا نستطيع معه إلا أن نقول: إن هذا مجرد فرض جائز الوقوع".‏

      وللإجابة عن هذه التساؤلات الفائقة الأهمية والإحراج كان لا بد لي من الاستعانة بالمراجع (التاريخية والأثرية والاجتماعية واللغوية وسواها) ولا سيما ما يتعلق منها بأصول الحضارات الإنسانية في المناطق المجاورة للجزيرة العربية (مصر+ بلاد ما بين النهرين+ بلاد الشام أي (سورية+ الأردن ‏+ فلسطين) وقد خلصت منها إلى النتائج التالية:‏

      1-اللغة العربية هي فطرية النشأة (موضوع الفصل الأول)‏

      2-الإنسان العربي والحرف العربي قد تعايشا معاً في الجزيرة العربية خلال ثلاث مراحل حياتية هي: الغابية وقد بدأت مع بداية العصر الجليدي الأخير منذ الألف (100) ق.م واستمرت حتى نهايته في الألف (14-12) ق.م وقد ورثنا عنها يقيناً أصول أحرف (الهمزة -ا-و-ي) ثم تلتها المرحلة الزراعية واستمرت حتى الألف (9) ق.م وقد ورثنا عنها باحتمال شديد أصول أحرف (ف-ل -م- ث-ذ) ثم تلتها المرحلة الرعوية بعد استحكام الجفاف في الجزيرة العربية واستمرت حتى العصور الجاهلية وفجر الإسلام. وقد ورثنا عنها باحتمال شديد بقية الحروف. (موضوع الفصل الثاني).‏

      وإنه لمن غرائب العربية المدهشة، أن يحتفظ العربي بدلالات هذه الفئات الثلاث من الحروف العربية. وقد عرضت أسباب ذلك في خاتمة دراستي (خصائص الحروف..) تحت عنوان "حول تداخل المراحل اللغوية".‏

      3-الجزيرة العربية هي حتماً مهد الإنسان العربي وحضارته (موضوع الفصل الثالث).‏

      4-أما الفصلان الأخيران (الرابع والخامس) فقد خصصتهما للكشف عن عوامل تكوين شخصيتي الإنسان العربي والحرف العربي: (الحيوية والنفسية والاجتماعية) وكذلك عن دور الشعر العربي الأصيل والفروسية في خلق الروابط الفطرية المتبادلة بينهما.‏

      ثالثاً- بعض الأضواء على الجديد في دراستي (حروف المعاني بين الأصالة والحداثة):‏

      لقد انتهيت من دراستي "خصائص الحروف" إلى أن الأحرف الهيجانية الغابية: "الهمزة- ا-و-ي) لا تأثير يذكر لخصائصها في معاني المصادر الجذور على واقع المعاجم اللغوية، وبذلك تكون معدومة المعاني، ولكنني لاحظت كثرة دورانها في حروف المعاني التي يتألف معظمها من حرف واحد أو حرفين، مما يشير إلى أنها أقدم المستحاثات في اللغة العربية: تأسيساً على أن العربية قد بدأت بالمقاطع الأحادية ثم بالثنائية، ثم بالثلاثية فالمزيدات، كما ذكر العلايلي في مقدمته، وهو صحيح.‏

      لذلك توقعت أن تكون هذه الأحرف (الهيجانية) قد ظلت محتفظة بدلالاتها ومعانيها في حروف المعاني لتقارب نشأتيهما في أعماق الزمن: كما (الهمزة) في (آ) لنداء البعيد: إثارة لانتباه السامع بصوتها الانفجاري الهيجاني وهكذا الأمر في أحرف (ا-و-ي).‏

      فرأيت أن أتقصى خصائص هذه الأحرف في القطاع (الصرفي- النحوي) قبل نشر أي دراسة أخرى وذلك للسببين التاليين:‏

      1-لسد هذه الثغرة المعجمية الكبيرة في خصائص الحروف العربية ومعانيها. وذلك حماية لدراساتي من الطعن بفطرية اللغة العربية من هذه الثغرة (الهيجانية).‏

      2-أما الأهم والأخطر، فهو: إثبات أن اللغة العربية تعود نشأتها الأولى إلى المرحلة الغابية. وبذلك تتحصن دراساتي من الطعن بما تحصل لي فيها من المستجدات (التاريخية والاجتماعية والأثرية والنفسية واللغوية..) وما إليها، مما يثبت هذا التواصل (الحضاري- الثقافي) في التراث العربي مرحلة حياة بعد مرحلة، منذ عهد الغاب حتى الإسلام.‏

      فقد استعرضت معاني وأصول استعمالات (117) مفردة من حروف (النداء والعطف والجر والنصب والجزم والمشبهة بالفعل والنفي والترجي والعرض والتحضيض والاستفهام وأسماء الكناية والإشارة والضمائر وذلك بالرجوع إلى خصائص ومعاني حروفها وفقاً لما جاء في (خصائص الحروف العربية ومعانيها).‏

      فكان لكل مفردة من حروف المعاني العديد من المعاني والأقسام والاستعمالات، قد تجاوز بعضها الخمسين كما في (ما-لا) وقد توافقت الغالبية العظمى من معاني هذه المفردات واستعمالاتها مع خصائص الحروف التي شاركت في تراكيبها، سواء أكانت هيجانية أم غير هيجانية.‏

      وعندئذ جرؤت على نشر دراستي (الحرف العربي والشخصية العربية، ثم الإطلالة) بكثير من الثقة بعد أن تم الكشف عن خصائص الحروف العربية ومعانيها جميعاً بلا استثناء، سواء في القطاع المعجمي أم القطاع الصرفي- النحوي.‏

      وهكذا ما أحسبني مدعياً لو قلت: إن هذه الدراسات الثلاث تمهد الطريق للانتقال باللغة العربية من مرحلة (كيف) استعمل العربي مفرداته وقواعد صرفه ونحوه التي دامت ألف عام ونيف إلى مرحلة جديدة، هي: (لماذا) استعملها العربي هكذا؟ فما من واحد من علماء اللغة وفقهاء صرفها ونحوها فيما أعلم، قد تساءل:(لماذا) أبدع العربي كلمة (أنا) ضميراً للمتكلم، و(نحن) لجمعه، و(أنت) للمخاطب، و(هو) للغائب؟ وقد أجبت عن هذه التساؤلات في دراستي "الحرف العربي" . (ص79-82).‏

      ولا (لماذا) جعل (الواو) للعطف بلا ترتيب و(الفاء) للترتيب بلا تراخ، و(ثم) للترتيب والتراخي؟ ولا (لماذا) رفع المرفوعات ونصب المنصوبات وجر المجرورات وجزم المجزومات؟‏

      وهكذا إلى مئات التساؤلات في القطاع الصرفي - النحوي، وقد أجبت عنها في هذه الدراسة. لذلك، ولما كان فقهاء الصرف والنحو قد اعتمدوا النصوص العربية من (نثر وشعر وقرآن) للاهتداء إلى معاني وأصول استعمالات حروف المعاني بلا ضابط من خصائص الحروف العربية ومعانيها، فقد اسندوا إلى معظم حروف المعاني، معاني ليست لها، وحرموا بعضها الآخر من أخص خصائص معانيها واكتفي هنا بمثالين اثنين:‏

      1-لقد اسندوا إلى حرف (الباء) من حروف الجر معنى الإلصاق، بما يتعارض مع خاصية الانفجار في صوته، فكان له في المعجم الوسيط (84) مصدراً تبدأ به لمعاني الحفر والبقر والبيان بما يتوافق مع خصائص صوته، ولا شيء للإلصاق.‏

      2-أما (اللام) من حروف الجر، فإن أياً من الفقهاء لم يسند له معنى الإلصاق بينما كان له في المعجم الوسيط (82) مصدراً جذراً تبدأ به لهذا المعنى. كما أن الإلصاق هو من أهم معانيه الصرفية، كما في (لام الأمر، ولام التملك، وأل التعريف...)‏

      وكما أنه ليس ثمة ما هو أهدى لمعاني المصادر الجذور من خصائص الحروف العربية ومعانيها، كما ثبت ذلك في دراستي (خصائص الحروف..) فإنه ليس ثمة أيضاً ما هو أهدى منها لمعرفة معاني حروف المعاني وأصول استعمالاتها كما ثبت لي في هذه الدراسة (حروف المعاني بين الأصالة والحداثة).‏

      توضيح لا بد منه:‏

      لقد اعتمدت المعجم الوسيط الحديث في تقصياتي عن المصادر الجذور بمعرض البحث عن مدى تأثير معانيها بخصائص حروفها، ولم اعتمد المعاجم المطولة لقدامى اللغويين ومحدثيهم، أمثال (الكشاف للزمخشري، وتاج العروس للزبيدي، والمحيط للفيروز أبادي، ومحيط المحيط لبطرس البستاني ولسان العرب لابن منظور.." وذلك لأن زيادة المفردات فيها عن الوسيط هو في الغالب من غرائب الكلم لغرائب المعاني من مزيدات الرباعي والخماسي، أو من المولد أو المعرب أو المحدث، أو الدخيل أو العامي، مما هو أبعد في الزمن عن النشأة الفطرية للعربية، وعن أصالتها.‏

      وبذلك فإن (الوسيط) يغني عن المطولات بمعرض البحث عن المصادر الجذور الألصق تركيباً بالطبيعة وعن معانيها الألصق فطرة بالمحسوس. وقد عالجت هذه المسألة في دراسة حرف (العين) بمعرض استخراج معاني المصادر التي تبدأ به في كل من المعجم الوسيط ومحيط المحيط، كما سيأتي، مما لا مجال للتفصيل فيه هنا.‏
      إذا الشعب يوما أراد الحياة
      فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
      و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
      و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

      تعليق


      • #4
        رد: خصا ئص الحروف العربية ومعانيها

        -المدخل-

        تمهيد:‏

        لقد تحدثت في المقدمة بإيجاز شديد عن أهم مضامين دراساتي الثلاث عن الحرف العربي وعن تداخلها مع بعضها بعضاً. ولئن كانت كل واحدة منها قد اعتمدت بخاصة بعض العلوم اللغوية أكثر من غيرها فإن أياً منها لم تخل من التداخل والتماس مع العلوم اللغوية المعتمدة فيها جميعاً. فكفل لها ذلك تماسكها وتكاملها ووحدتها، مما جعل منها مساهمة جديدة في العلوم اللغوية في صور من الإضافات على النظريات اللغوية كما لاحظنا ذلك في المقدمة.‏

        وكل إضافة جديدة في أي قطاع معرفي تقتضي منطلقاً جديداً أي (مبدأ جديداً) في التقصيات، وإلا كانت مجرد توسع أو استطراد.‏

        على أن المنطلق الجديد لا يأتي بإضافات (نتائج) جديدة صحيحة، إلا أن يكون هو وموضع تطبيقه فطريين أصيلين.‏

        فماذا عن منطلقي الجديد وموضع التطبيق عليه؟‏

        لقد عرضت في المقدمة أني انطلقت في دراساتي الثقافية من مقولة فكرية غريبة عن علوم اللغة، هي "التوافق بين القيم الجمالية والقيم الإنسانية" وقد تثبت من صحتها بتطبيقها على المشاعر الإنسانية في دراسة "لا فن بلا أخلاق، ولا أخلاق بلا فن". مما يشير إلى فطرية هذا المنطلق وإلى فطرية موضع التطبيق عليه "المشاعر الإنسانية".‏

        وعندئذ خطر لي أن أطبقه على اللفظة العربية للتثبُّت من صحته أولاً، ثم من فطرية العربية ثانياً. وبما أني قد تثبت من صحتها فعلاً في دراساتي اللغوية الثلاث، كما أسلفت في المقدمة، فهذا يشير إلى فطرتهما وأصالتهما. مما يشكل فيما أرى إضافة جديدة على النظريات اللغوية، فالمنطلق جديد وأصيل، واللغة العربية فطرية النشأة بديئة.‏

        ولكن ماذا عن منطلقات النظريات اللغوية ومواضع التطبيق عليه؟‏

        إن منطلقات نظريات علماء اللغة الغربيين والشرقيين في أي من علوم اللغة (التاريخي، والاجتماعي، والصوتي، والنفسي والوظيفي والبنيوي والوصفي والدلالي...) وما إليهما، هي جميعاً فطرية واصيلة وإن كان كل واحد منها محدوداً غير شامل بدليل تعددها. ولكن أياً من مدارسهم هذه لم تصل إلى نتائج حاسمة، لأن اللغات التي اعتمدوها موضعاً لتطبيق منطلقاتهم لم تكن فطرية كما سيأتي وشيكاً، فاختل بذلك طرفا كل من معادلاتهم.‏

        المنطلقات فطرية أصيلة ولكن مواضع التطبيق عليها غير فطرية ولا أصيلة.‏

        وهذا ما أفسح المجال لإضافاتي الجديدة على نتائج دراساتهم اللغوية، ولكن قبل الحديث عن هذه الإضافة لا بدمن معالجة قضيتين اثنتين هما: موضع تطبيق منطلقاتنا اللغوية ثم موقع دراساتي من النظريات اللغوية ومدارسها.‏

        القضية الأولى: حول موضع تطبيق منطلقاتنا اللغوية:‏

        تسهيلاً للبحث أرى أن أحيل مسألة موضع التطبيق هذه إلى (دلالة) الكلمة في اللغات الأجنبية ثم في اللغة العربية.‏

        فماذا عن دلالة الكلمة في اللغات الأجنبية:‏

        يقول (برغسون): "الكلمة مومياء... جثة فارقتها الحياة.." (في فلسفة اللغة كمال حاج يوسف) ص57.‏

        ولما كانت اللغة الفرنسية هي أكثر اللغات الغربية أناقة في الصياغة ورشاقة في التعبير، وكان (برغسون) الفيلسوف الأديب على رأي نقاده: هو (أعرق كتاب أمته وأكثرهم جلالاً في الإنشاء وأسحرهم بياناً وإيحاء...) فإن هذا الحكم القاسي الذي أصدره على الكلمة الفرنسية ينسحب فيما أرى على الكلمة في اللغات الأجنبية جميعاً.‏

        ولا شك في أن (برغسون) قد حكم بالموت على الكلمة الفرنسية لأنه لم يعثر على أي رابطة فطرية بين معانيها وبين خصائص أحرفها.‏

        ولقد نحا (برغسون) في حكمه هذا على الكلمة منحى (لوك) الذي قال: "الكلمة في اللغات الغربية هي إشارات اصطُلِح عليها. فهي لا تنوب عن الأشياء بصورة مباشرة، بل تنوب عن الأفكار القائمة مقام الأشياء" (محاضرات في علم النفس اللغوي د. حنفي ابن عيسى ص31).‏

        أما الشعراء الرمزيون فهم على النقيض من (برغسون ولوك) إذ يقررون: "الكلمة هي صوت الوجدان لها سحرها ودفؤها وعبقها، جهرها وهمسها، شدتها ولينها، تفخيمها وترقيقها، لها بتولة الفكر وطهارة النفس. إنها مظهر من مظاهر الانفعال النفسي".‏

        وإذن فالكلمة لدى الرمزيين هي حية لا مومياء ولا مصطلح قد حجره الاستعمال، ولا رمز ميت على معنى ليخلصوا من ذلك كله إلى أن اللغة هي غاية وليست مجرد وسيلة للتعبير عن المعاني، "في علم النفس اللغوي ص57".‏

        ولكن ماذا يبقى للشعراء الرمزيين أنفسهم من عبق الكلمة وسحرها وانفعالها ووجدانها وإيحائها إذا هم قرؤوها بنزاهة وحيادية، فلم (يموسقوا) جملها الصوتية: جهراً وهمساً، تفخيماً وترقيقاً، إلى آخر اعزوفتهم على أوتار أصوات أحرفها؟ أفلا تتحول الكلمة الفرنسية وغيرها إلى مومياء، إلى جثة فارقتها الحياة إلى مصطلح، إلى رمز. فتصبح لغاتهم بذلك وسيلة لا غاية، كما قال (برغسون)؟‏

        ثم ماذا عن (دلالة) الكلمة العربية في دراساتي؟‏

        إن كل ما اضفاه الرمزيون على كلماتهم: "حياة، حيوية، أناقة، رشاقة إيحاء وجدان، انفعال..) إنما هو بعض ما علق بالكلمة العربية عفو الفطرة في خصائص أحرفها تعبيراً عن معانيها.‏

        خصائص حسية وشعورية (وجدانية)، قد جاءت الكلمة العربية إرثاً عن مراحل (غابية ثم زراعية ثم رعوية شعرية). فتحول كل حرف من حروفها بفعل تعامله مع الأحاسيس والمشاعر الإنسانية طوال الاف الأعوام، إلى وعاء من الخصائص والمعاني. فما أن يعيها القارئ أو السامع، حتى تتشخص الأحداث والأشياء والحالات في مخيلته أو ذهنه أو وجدانه. وبذلك ينوب الحرف في العربية عن الكلمة وتنوب الكلمة عن الجملة، ولا رمز ولا اصطلاح.‏

        فمما قاله (ابن جني) في هذا الصدد: إن العربي قد أبدع كلماته: "سوقاً للحروف على سمت المعنى المقصود والغرض المراد". بمعنى أنه، "كان يضع الحرف الأول بما يضاهي بداية الحديث والحرف الوسط بما يضاهي وسطه، والأخير بما يضاهي نهايته". فكان العربي بذلك يصور الأحداث والأشياء والحالات بأصوات حروفه (الخصائص ج2-ص162-163).‏

        وهكذا إذا كان الرمزيون قد رفعوا من مقام لغاتهم الأجنبية من وسيلة إلى غاية بموسقة صيغ كلماتها وأصوات حروفها، فإن العربية هي بالضرورة غاية في حد ذاتها بلا موسقة مفتعلة.‏

        ففي الكلمة العربية موسيقى باطنية عفوية بلا تصنع، قوامها التوافق الفطري بين خصائص أحرفها وبين ما تدل عليه من المعاني إيحاءً أو إيماءً. فما أن تنشد الكلمة في الشعر العربي الأصيل أو ترتل في القرآن الكريم، حتى نجد أن خصائص الحروف ومعانيها هي التي تتحكم بموسيقاها طواعية ذوقٍ أدبي رفيع بلا قسر ولا تصنع. (اعجاز القرآن - مصطفى صادق الرافعي ص214-215-218).‏

        ولا غرو، فالشعراء هم الذين (موسقوا) الكلمة العربية طوال المراحل الرعوية بإنشادها في أهازيجهم وقصائدهم، فشحنوا أحرفها بشتى الأحاسبس والانفعالات لتتحول الكلمة العربية بذلك إلى تفعيلة (مموسقة) جاهزة للدخول في شتى الأوزان ومهيأة للتداول في شتى القوافي للتعبير عن شتى المعاني بلا موسقة مصطنعة. (الحرف العربي والشخصية العربية) ص98-100.‏

        ولعل أغرب ما يميز العربية من سواها أنها ظلت على الفصحى بلا عامية حتى الإسلام، وإلى ما بعد أن شاع اختلاط أبنائها بمختلف الشعوب. فلقد أجمع علماء اللغة على استحالة وجود فصحى بلا عامية (في فلسفة اللغة ص223). ظاهرة (لغوية واجتماعية) متميزة في اللسان العربي.‏

        القضية الثانية- حول موقع دراساتي من النظريات اللغوية ومدارسها:‏

        لدراساتي منها موقعان رئيسان اثنان. أولهما يتعلق بأصول اللغة، والثاني بالمدارس اللغوية.‏

        أولاً-حول أصول اللغة ونشأتها:‏

        يمكن إجمال النظريات التي تناولت هذه المسألة في فئات أربع.‏

        1-النظرية التوقيفية: تقول إن أصل اللغة (توقيف) أي وحي إلهي. ومن أبرز القائلين بها:‏

        (هيروقليطس دويلاند) الغربيان و(ابن فارس) العربي.‏

        2-النظرية التوفيقية: تقول بالتوفيق بين التوقيف والاصطلاح بمعنى أن الإله قد أقدر الإنسان على أن يصطلح الكلمات تعبيراً عن معانيه. ومن أصحابها (أبو علي الفارسي) ولكن هاتين النظريتين لم تصمدا أمام نقادهما للجانب الغيبي فيهما.‏

        3-النظرية الاصطلاحية: تقول أن أصل اللغة هو الاصطلاح والتواضع. أي أن الأسماء هي مصطلحات قد تواضع الناس على معانيها. فنظم الحروف كما قال (الجرجاني) هو "تواليها في النطق فقط فليس نظمها لمقتضى من معنى". (دلائل الإعجاز ص32). والكلمة كما قال (سوسور): (ليست إلا إشارة، وأن معناها اعتباطي صرف) (تاريخ علم اللغات ص138) لجورج مونين.‏

        وممن قال بها من العرب: (الغزالي- ابن خلدون- عبد القادر الجرجاني- أبو هلال العسكري) وكذلك معظم دكاترة اللغة المعاصرين ومنهم: د.صبحي الصالح في كتابه (دراسة في فقه اللغة) محمد المبارك في كتابه (فقه اللغة) د.فايز الداية في كتابه (علم الدلالة العربي).. د. حنفي ابن عيسى في كتابه (محاضرات في علم النفس اللغوي..) د.جعفر دك الباب. في كتابه (دلائل الإعجاز)- وغير صحيح ما قالوه بصدد العربية.‏

        وممن قال بها من الغرب: ديموقريطس - هوموجيس. أرسطو- القديس توماس -باكون - روسو - كوندياك- ديكارت- هوبيز- سبينوزا-لوك -ليبنتز- سوسور، وأصحاب الفلسفة المظهرية الحديثة وكذلك المعاصرون من علماء اللغة وفلاسفتها وصحيح ما قالوه بصدد لغاتهم.‏

        4- النظرية الفطرية -تقول: إن أصل اللغة فطري، ومما جاء على ألسنة أصحابها أن اللفظة قد اقتبست من الطبيعة بالمحاكاة، وأن الألفاظ بدأت بتقليد الأصوات في الطبيعة، وأن ثمة علاقة ذاتية بين الفكر والكلمة. وهكذا إلى المزيد من التعاريف التي يمكن ضمها تحت لواء المدرسة الواقعية القائلة "اللغة جزء من الواقع الطبيعي" (المرجع السابق ص15).‏

        فممن قال بها من العرب: ابن جني -الفراهيدي وتلميذه سيبويه- ابن سينا- عبّاد ابن سليمان الضيمري الكرملي. محمد فارس الشدياق في كتابه (سهر الليال في القلب والابدال). العلايلي في كتابه (مقدمة اللغة العربية) الأرسوزي في مؤلفاته جميعاً. عبد الحق فاضل في كتابه مغامرات لغوية. وصحيح ما قالوه.‏

        وممن قال بها من الغرب: أفلاطون. القديس أوغسطنوس- القديس غريغوريوس- ديولاند- همبولدت دونيس سكوت- فيكو وكذلك الشعراء الرمزيون كما أسلفنا وغير صحيح ما قالوه.‏

        ملاحظة: إن جميع الأسماء الواردة آنفاً قد أخذت من المراجع أعلاه.‏

        ولكن ما هو موقع دراساتي من هذه الفئات الأربع:‏

        1-النظرية التوقيفيه: إن اللغة بحكم (كونيتها) المناخية، فإن نشأتها فيما أرى تتماس مع هذه النظرية (الحرف العربي والشخصية العربية ص262).‏

        2-النظرية التوفيقية: هي مزيج من التوقيفي والاصطلاحي. وهي تتماس أيضاً مع محصلة دراساتي كما سيأتي في الفقرة التالية:‏

        3-النظرية الاصطلاحية: إن اللغة العربية بحكم عراقتها التاريخية كان من المحال على أبنائها أن يلتزموا في ابداع جميع مفرداتها وقواعد صرفها ونحوها بالخصائص الفطرية للحروف العربية إذ لم يكن ثمة من رقيب عليهم في ذلك إلا الذوق الفطري السليم الذي كان يتمتع به هزاجها وفصحاؤها وشعراؤها. وكان من المحال أن يبسطوا سلطانهم على كافة الأذهان والأسماع والأذواق المبعثرة في قبائل رعوية مشردة، كان الكثير منها على احتكاك بالشعوب الشقيقة حول أطراف الجزيرة العربية، وذلك على الرغم من تشدد العلماء الذين قاموا بتدوين اللغة العربية منذ منتصف القرن الثاني الهجري، فلم يأخذوا إلا عن القبائل التي قدروا أنها لم تحتك بالشعوب الأخرى، وهي لم تتجاوز السبع من العشرات.‏

        وإذن فإن المعاني (المعجمية) للمفردات التي لا تتوافق مع خصائص ومعاني حروفها هي بالضرورة مصطلحات قد تواضع الناس على معانيها وأصول استعمالاتها، وفيها الدخيل وغير الدخيل على قلتها.‏

        وبذلك تكون دراساتي قد احتوت نظريات الفئات الثلاث:‏

        4-النظرية الفطرية: إن دراساتي اللغوية تنتمي أصلاً إلى هذه النظرية. ولكنها قد تميزت من مدارسها أول ما تميزت بمنطلقها الفلسفي الجديد - "التوافق بين القيم الجمالية والقيم الإنسانية". فقد أخذ بي هذا المنطق قسراً عني، كما عرضت في المقدمة، إلى تقصي خصائص كل حرف عربي في شتى مواقعه بحثاً عن شتى معانيه، وذلك للتثبّت من مدى توافقهما مع مقولتي العتيدة. نهج جديد في التقصي الشامل عن معاني الحروف العربية لم يتبعه أي من أصحاب هذه المدرسة حتى الآن.‏

        وبذلك تكون دراساتي قد تميزت من دراسات أصحاب هذه النظرية: بمنطلقها ونهجها وأسسها، وبشمولية جوانبها (التاريخية، والطبيعية، والاجتماعية، والصوتية، والنفسية) وما إليها.‏

        فكان لا بد أن تأتي بنتائج جديدة، قد ألمحت إلى أهمها في المقدمة، وسيجد القارئ في متن هذه الدراسة المزيد منها في كل حرف.‏

        ثانياً- ماذا عن المدارس اللغوية الأخرى؟ وما هو موقع دراساتي منها:‏

        هل كانت منطلقاتها جميعاً فطرية أصيلة؟ وهل وفق أصحابها في اختيار لغاتهم موضعاً للتطبيق عليها؟ أما من حيث منطلقاتهم (التاريخية أو الاجتماعية أو النفسية أو الصوتية...) وما إليها فهي بحكم طبيعتها أصيلة وفطرية.‏

        وأما موضع تطبيقها، فهو نقطة الضعف الرئيسة فيها جميعاً، على الرغم من المكاسب المعرفية الهامة التي حققتها في شتى القطاعات التي تناولتها من لغوية ونفسية وصوتية واجتماعية وتاريخية وما إليها.‏

        فكل مدرسة لغوية منها كانت تصل بالضرورة في تقصياتها الخاصة إلى إشكالات معينة، قد تعذر على أصحابها تجاوزها أو الإجابة عما أثير حولها من تساؤلات وشكوك.‏

        فهل يعقل مثلاً أن يستطيع أصحاب المدرسة اللغوية (التاريخية) الصعود إلى أصل اللغة الإنسانية أو أن تستطيع المدارس (النفسية أو الصوتية الوظيفية، أو الاجتماعية) أن تصل إلى نتائج حاسمة باعتماد لغات قد تخلت منذ القدم عن أصول نشأتها الفطرية في (الطبيعة والحس والنفس والمجتمع)، وذلك لهجرها الأوطان التي نشأت وترعرعت في ربوعها، فاحتكت في مهجرها بلغات وشعوب أخرى، على مثال ما وقع للغات الهندية الأوروبية والأكادية (البابلية- الأشورية) انظر فقه اللغة. د.علي عبد الواحد وافي ص(25-27) مما أفسح المجال للفكر أن يتحكم اعتباطاً بمعاني كلماتها وقواعد صرفها ونحوها بعيداً عن العوامل الفطرية الأساسية في نشأة اللغة الإنسانية.‏

        وهكذا كان علماء اللغة اللاحقون وفلاسفتها ينتقلون من نظرية إلى أخرى، ومن مدرسة إلى مدرسة، منذ هيروقليطس قبل الفين وخمسمئة عام حتى انتهت هذه السلسلة إلى مدرسة (علم اللغة العام) المعاصرة التي طوت تحت لوائها جميع المنطلقات السابقة. وما أحسب أن صاحبها (سوسور) وتلاميذه سيصلون إلى نتائج حاسمة مادام اختيارهم سيقع على لغات غير فطرية.‏

        أما اللغة العربية فهي بحكم نشأتها الفطرية وأصالة الإنسان الذي أبدعها في بيئة واحدة مستقلة ومنعزلة هي (الجزيرة العربية)، خلال مراحل غابية، ثم زراعية، ثم رعوية شعرية. مما أعطى المجال للنزعة الشعرية (الجمالية- الإنسانية) للاستمرار في تحكمها بمعاني مفرداتها وقواعد صرفها ونحوها. وهكذا قد حافظت العربية حتى الآن على أصالتها وفطرتها بفعل هزاج الجاهلية وشعرائها وفصائحها ورعاية القرآن الكريم لها.‏

        ولذلك، فإن العربية بأصالتها الفطرية هي أصلح موضع لتطبيق جميع النظريات اللغوية للتثبت من صحة منطلقاتها، وللإجابة أيضاً عن جميع التساؤلات والإشكالات التي اعترضتها في اللغات الأجنبية، وظلت حتى الآن بلا إجابات ولا حلول صحيحة.‏

        فدراساتي اللغوية هذه قد تداخلت مع منطلقات المدارس اللغوية جميعاً عفو تقصياتي الخاصة عن الروابط الفطرية بين القيم (الجمالية والإنسانية) في خصائص الحروف العربية ومعانيها.‏

        ومرد هذا التداخل أن الحروف العربية (بخصائصها ومعانيها) مشحونة بشتى الأحاسيس والمشاعر الإنسانية مما جعل الكلمة العربية بهذه الطاقة الذاتية ( تشخص) الأحداث والمسميات والحالات الوجدانية، في مخيلات سامعيها وأذهانهم وفقاً لمقولة ابن جني:‏

        "سوقاً للحروف على سمت المعنى المقصود والغرض المراد".‏

        وهكذا قد تداخلت دراستي أول ما تداخلت من علوم اللغة مع أصول علم (الدلالة) وعلم (الأصوات الوظيفي) وذلك من حيث القدرة الدلالية والتعبيرية للحرف في الكلمة العربية عن (المعنى المقصود والغرض المراد). كما تداخلت مع أصول علم اللغة (التاريخي) بمعرض الكشف عن فطرية اللغة العربية وأصالة الإنسان العربي وريادة الجزيرة العربية في الشؤون الحضارية، كما جاء في الفصل الثالث من دراساتي "الحرف العربي والشخصية العربية". تحت عنوان "الجزيرة العربية مهد الإنسان العربي وحضارته".‏

        وكما تداخلت مع أصول علم اللغة "النفسي" بالكشف عن الخصائص (الهيجانية والإيمائية والإيحائية) في الحروف العربية، وكذلك بالمطابقة بين (شخصيتي) الحرف العربي والإنسان العربي في مكوناتهما- (الحيوية والاجتماعية والثقافية) كما جاء في الفصلين الرابع والخامس من المرجع السابق.‏

        كما تداخلت دراستي (خصائص الحروف...) بخاصة مع علم اللغة (الاجتماعي) بالكشف عن الوظائف الاجتماعية للحروف العربية بمعرض التعبير عن معاني المفردات معجمياً، وعن أصول كثير من قواعد صرف العربية ونحوها، بما يتوافق مع تقاليد المجتمع العربي (الذكورية والأنثوية) ومع عاداته الرعوية، كما جاء في دراسة أحرف (ث-ذ-ش-ل-ف-م) وغيرها.‏

        وما أحسب أن أي مدرسة لغوية أخرى غير ما ذكرت آنفاً أو أي مدرسة جديدة مقبلة إلاّ وستجد لها في دراساتي عن الحرف العربي وخصائصه ما يتداخل أو يتماس مع مبادئها وأصولها. فكل مدرسة لغوية تهدف إلى الكشف عن الخصائص الفطرية (الطبيعية أو الإنسانية) في أي جانب من جوانب اللغة الإنسانية، لا بد أن تجد لمنطلقاتها وأسسها تطبيقات صحيحة على الفصحى العربية التي استوفت شروط فطرتها.‏

        الخاتمة‏

        إن كل ما جاء من المستجدات (التاريخية والطبيعية والاجتماعية والحسية والنفسية والصوتية..) وما إليها مما عرضته في المقدمة يعتبر إضافة جديدة على النظريات اللغوية العربية، وليس توسعاً فيها. وذلك بحكم اعتمادي منطلقاً فكرياً جديداً هو: "التوافق بين القيم الجمالية والإنسانية) وتطبيقه على اللغة العربية الفطرية.‏

        وهكذا فإن هذه المستجدات عن الحرف العربي، فيما أرى، تفتح آفاقاً جديدة أمام النظريات اللغوية العربية والغربية بخاصة، وذلك لحل المشكلات التي واجهتها وظلت بلا حلول، ولكن شريطة اعتماد اللغة العربية حصراً.‏

        فكما أن الآثار التي اكتشفها علماء الغرب في أودية الفرات والنيل وربوع بلاد الشام، قد فتحت آفاقاً معرفية إنسانية جديدة أمام الثقافة الغربية الحديثة، فإن الحرف العربي ذا النشأة الفطرية صالح فيما أرى لأن يفتح مثل تلك الآفاق في قطاع نظرياتهم اللغوية.‏

        ويحزنني أن أقول:‏

        ما أحسب أن خصائص الحروف العربية ومعانيها ستأخذ مختلف أبعادها، ما لم يلتفت إليها علماء اللغة في الغرب والشرق، على غرار ما فعل علماء آثارهم في آثارنا.‏

        ولكن، هل سيسمح لهم بذلك المعنيون بغزونا الثقافي المضاد؟‏
        إذا الشعب يوما أراد الحياة
        فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
        و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
        و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

        تعليق


        • #5
          رد: خصا ئص الحروف العربية ومعانيها

          -المدخل-

          تمهيد:‏

          لقد تحدثت في المقدمة بإيجاز شديد عن أهم مضامين دراساتي الثلاث عن الحرف العربي وعن تداخلها مع بعضها بعضاً. ولئن كانت كل واحدة منها قد اعتمدت بخاصة بعض العلوم اللغوية أكثر من غيرها فإن أياً منها لم تخل من التداخل والتماس مع العلوم اللغوية المعتمدة فيها جميعاً. فكفل لها ذلك تماسكها وتكاملها ووحدتها، مما جعل منها مساهمة جديدة في العلوم اللغوية في صور من الإضافات على النظريات اللغوية كما لاحظنا ذلك في المقدمة.‏

          وكل إضافة جديدة في أي قطاع معرفي تقتضي منطلقاً جديداً أي (مبدأ جديداً) في التقصيات، وإلا كانت مجرد توسع أو استطراد.‏

          على أن المنطلق الجديد لا يأتي بإضافات (نتائج) جديدة صحيحة، إلا أن يكون هو وموضع تطبيقه فطريين أصيلين.‏

          فماذا عن منطلقي الجديد وموضع التطبيق عليه؟‏

          لقد عرضت في المقدمة أني انطلقت في دراساتي الثقافية من مقولة فكرية غريبة عن علوم اللغة، هي "التوافق بين القيم الجمالية والقيم الإنسانية" وقد تثبت من صحتها بتطبيقها على المشاعر الإنسانية في دراسة "لا فن بلا أخلاق، ولا أخلاق بلا فن". مما يشير إلى فطرية هذا المنطلق وإلى فطرية موضع التطبيق عليه "المشاعر الإنسانية".‏

          وعندئذ خطر لي أن أطبقه على اللفظة العربية للتثبُّت من صحته أولاً، ثم من فطرية العربية ثانياً. وبما أني قد تثبت من صحتها فعلاً في دراساتي اللغوية الثلاث، كما أسلفت في المقدمة، فهذا يشير إلى فطرتهما وأصالتهما. مما يشكل فيما أرى إضافة جديدة على النظريات اللغوية، فالمنطلق جديد وأصيل، واللغة العربية فطرية النشأة بديئة.‏

          ولكن ماذا عن منطلقات النظريات اللغوية ومواضع التطبيق عليه؟‏

          إن منطلقات نظريات علماء اللغة الغربيين والشرقيين في أي من علوم اللغة (التاريخي، والاجتماعي، والصوتي، والنفسي والوظيفي والبنيوي والوصفي والدلالي...) وما إليهما، هي جميعاً فطرية واصيلة وإن كان كل واحد منها محدوداً غير شامل بدليل تعددها. ولكن أياً من مدارسهم هذه لم تصل إلى نتائج حاسمة، لأن اللغات التي اعتمدوها موضعاً لتطبيق منطلقاتهم لم تكن فطرية كما سيأتي وشيكاً، فاختل بذلك طرفا كل من معادلاتهم.‏

          المنطلقات فطرية أصيلة ولكن مواضع التطبيق عليها غير فطرية ولا أصيلة.‏

          وهذا ما أفسح المجال لإضافاتي الجديدة على نتائج دراساتهم اللغوية، ولكن قبل الحديث عن هذه الإضافة لا بدمن معالجة قضيتين اثنتين هما: موضع تطبيق منطلقاتنا اللغوية ثم موقع دراساتي من النظريات اللغوية ومدارسها.‏

          القضية الأولى: حول موضع تطبيق منطلقاتنا اللغوية:‏

          تسهيلاً للبحث أرى أن أحيل مسألة موضع التطبيق هذه إلى (دلالة) الكلمة في اللغات الأجنبية ثم في اللغة العربية.‏

          فماذا عن دلالة الكلمة في اللغات الأجنبية:‏

          يقول (برغسون): "الكلمة مومياء... جثة فارقتها الحياة.." (في فلسفة اللغة كمال حاج يوسف) ص57.‏

          ولما كانت اللغة الفرنسية هي أكثر اللغات الغربية أناقة في الصياغة ورشاقة في التعبير، وكان (برغسون) الفيلسوف الأديب على رأي نقاده: هو (أعرق كتاب أمته وأكثرهم جلالاً في الإنشاء وأسحرهم بياناً وإيحاء...) فإن هذا الحكم القاسي الذي أصدره على الكلمة الفرنسية ينسحب فيما أرى على الكلمة في اللغات الأجنبية جميعاً.‏

          ولا شك في أن (برغسون) قد حكم بالموت على الكلمة الفرنسية لأنه لم يعثر على أي رابطة فطرية بين معانيها وبين خصائص أحرفها.‏

          ولقد نحا (برغسون) في حكمه هذا على الكلمة منحى (لوك) الذي قال: "الكلمة في اللغات الغربية هي إشارات اصطُلِح عليها. فهي لا تنوب عن الأشياء بصورة مباشرة، بل تنوب عن الأفكار القائمة مقام الأشياء" (محاضرات في علم النفس اللغوي د. حنفي ابن عيسى ص31).‏

          أما الشعراء الرمزيون فهم على النقيض من (برغسون ولوك) إذ يقررون: "الكلمة هي صوت الوجدان لها سحرها ودفؤها وعبقها، جهرها وهمسها، شدتها ولينها، تفخيمها وترقيقها، لها بتولة الفكر وطهارة النفس. إنها مظهر من مظاهر الانفعال النفسي".‏

          وإذن فالكلمة لدى الرمزيين هي حية لا مومياء ولا مصطلح قد حجره الاستعمال، ولا رمز ميت على معنى ليخلصوا من ذلك كله إلى أن اللغة هي غاية وليست مجرد وسيلة للتعبير عن المعاني، "في علم النفس اللغوي ص57".‏

          ولكن ماذا يبقى للشعراء الرمزيين أنفسهم من عبق الكلمة وسحرها وانفعالها ووجدانها وإيحائها إذا هم قرؤوها بنزاهة وحيادية، فلم (يموسقوا) جملها الصوتية: جهراً وهمساً، تفخيماً وترقيقاً، إلى آخر اعزوفتهم على أوتار أصوات أحرفها؟ أفلا تتحول الكلمة الفرنسية وغيرها إلى مومياء، إلى جثة فارقتها الحياة إلى مصطلح، إلى رمز. فتصبح لغاتهم بذلك وسيلة لا غاية، كما قال (برغسون)؟‏

          ثم ماذا عن (دلالة) الكلمة العربية في دراساتي؟‏

          إن كل ما اضفاه الرمزيون على كلماتهم: "حياة، حيوية، أناقة، رشاقة إيحاء وجدان، انفعال..) إنما هو بعض ما علق بالكلمة العربية عفو الفطرة في خصائص أحرفها تعبيراً عن معانيها.‏

          خصائص حسية وشعورية (وجدانية)، قد جاءت الكلمة العربية إرثاً عن مراحل (غابية ثم زراعية ثم رعوية شعرية). فتحول كل حرف من حروفها بفعل تعامله مع الأحاسيس والمشاعر الإنسانية طوال الاف الأعوام، إلى وعاء من الخصائص والمعاني. فما أن يعيها القارئ أو السامع، حتى تتشخص الأحداث والأشياء والحالات في مخيلته أو ذهنه أو وجدانه. وبذلك ينوب الحرف في العربية عن الكلمة وتنوب الكلمة عن الجملة، ولا رمز ولا اصطلاح.‏

          فمما قاله (ابن جني) في هذا الصدد: إن العربي قد أبدع كلماته: "سوقاً للحروف على سمت المعنى المقصود والغرض المراد". بمعنى أنه، "كان يضع الحرف الأول بما يضاهي بداية الحديث والحرف الوسط بما يضاهي وسطه، والأخير بما يضاهي نهايته". فكان العربي بذلك يصور الأحداث والأشياء والحالات بأصوات حروفه (الخصائص ج2-ص162-163).‏

          وهكذا إذا كان الرمزيون قد رفعوا من مقام لغاتهم الأجنبية من وسيلة إلى غاية بموسقة صيغ كلماتها وأصوات حروفها، فإن العربية هي بالضرورة غاية في حد ذاتها بلا موسقة مفتعلة.‏

          ففي الكلمة العربية موسيقى باطنية عفوية بلا تصنع، قوامها التوافق الفطري بين خصائص أحرفها وبين ما تدل عليه من المعاني إيحاءً أو إيماءً. فما أن تنشد الكلمة في الشعر العربي الأصيل أو ترتل في القرآن الكريم، حتى نجد أن خصائص الحروف ومعانيها هي التي تتحكم بموسيقاها طواعية ذوقٍ أدبي رفيع بلا قسر ولا تصنع. (اعجاز القرآن - مصطفى صادق الرافعي ص214-215-218).‏

          ولا غرو، فالشعراء هم الذين (موسقوا) الكلمة العربية طوال المراحل الرعوية بإنشادها في أهازيجهم وقصائدهم، فشحنوا أحرفها بشتى الأحاسبس والانفعالات لتتحول الكلمة العربية بذلك إلى تفعيلة (مموسقة) جاهزة للدخول في شتى الأوزان ومهيأة للتداول في شتى القوافي للتعبير عن شتى المعاني بلا موسقة مصطنعة. (الحرف العربي والشخصية العربية) ص98-100.‏

          ولعل أغرب ما يميز العربية من سواها أنها ظلت على الفصحى بلا عامية حتى الإسلام، وإلى ما بعد أن شاع اختلاط أبنائها بمختلف الشعوب. فلقد أجمع علماء اللغة على استحالة وجود فصحى بلا عامية (في فلسفة اللغة ص223). ظاهرة (لغوية واجتماعية) متميزة في اللسان العربي.‏

          القضية الثانية- حول موقع دراساتي من النظريات اللغوية ومدارسها:‏

          لدراساتي منها موقعان رئيسان اثنان. أولهما يتعلق بأصول اللغة، والثاني بالمدارس اللغوية.‏

          أولاً-حول أصول اللغة ونشأتها:‏

          يمكن إجمال النظريات التي تناولت هذه المسألة في فئات أربع.‏

          1-النظرية التوقيفية: تقول إن أصل اللغة (توقيف) أي وحي إلهي. ومن أبرز القائلين بها:‏

          (هيروقليطس دويلاند) الغربيان و(ابن فارس) العربي.‏

          2-النظرية التوفيقية: تقول بالتوفيق بين التوقيف والاصطلاح بمعنى أن الإله قد أقدر الإنسان على أن يصطلح الكلمات تعبيراً عن معانيه. ومن أصحابها (أبو علي الفارسي) ولكن هاتين النظريتين لم تصمدا أمام نقادهما للجانب الغيبي فيهما.‏

          3-النظرية الاصطلاحية: تقول أن أصل اللغة هو الاصطلاح والتواضع. أي أن الأسماء هي مصطلحات قد تواضع الناس على معانيها. فنظم الحروف كما قال (الجرجاني) هو "تواليها في النطق فقط فليس نظمها لمقتضى من معنى". (دلائل الإعجاز ص32). والكلمة كما قال (سوسور): (ليست إلا إشارة، وأن معناها اعتباطي صرف) (تاريخ علم اللغات ص138) لجورج مونين.‏

          وممن قال بها من العرب: (الغزالي- ابن خلدون- عبد القادر الجرجاني- أبو هلال العسكري) وكذلك معظم دكاترة اللغة المعاصرين ومنهم: د.صبحي الصالح في كتابه (دراسة في فقه اللغة) محمد المبارك في كتابه (فقه اللغة) د.فايز الداية في كتابه (علم الدلالة العربي).. د. حنفي ابن عيسى في كتابه (محاضرات في علم النفس اللغوي..) د.جعفر دك الباب. في كتابه (دلائل الإعجاز)- وغير صحيح ما قالوه بصدد العربية.‏

          وممن قال بها من الغرب: ديموقريطس - هوموجيس. أرسطو- القديس توماس -باكون - روسو - كوندياك- ديكارت- هوبيز- سبينوزا-لوك -ليبنتز- سوسور، وأصحاب الفلسفة المظهرية الحديثة وكذلك المعاصرون من علماء اللغة وفلاسفتها وصحيح ما قالوه بصدد لغاتهم.‏

          4- النظرية الفطرية -تقول: إن أصل اللغة فطري، ومما جاء على ألسنة أصحابها أن اللفظة قد اقتبست من الطبيعة بالمحاكاة، وأن الألفاظ بدأت بتقليد الأصوات في الطبيعة، وأن ثمة علاقة ذاتية بين الفكر والكلمة. وهكذا إلى المزيد من التعاريف التي يمكن ضمها تحت لواء المدرسة الواقعية القائلة "اللغة جزء من الواقع الطبيعي" (المرجع السابق ص15).‏

          فممن قال بها من العرب: ابن جني -الفراهيدي وتلميذه سيبويه- ابن سينا- عبّاد ابن سليمان الضيمري الكرملي. محمد فارس الشدياق في كتابه (سهر الليال في القلب والابدال). العلايلي في كتابه (مقدمة اللغة العربية) الأرسوزي في مؤلفاته جميعاً. عبد الحق فاضل في كتابه مغامرات لغوية. وصحيح ما قالوه.‏

          وممن قال بها من الغرب: أفلاطون. القديس أوغسطنوس- القديس غريغوريوس- ديولاند- همبولدت دونيس سكوت- فيكو وكذلك الشعراء الرمزيون كما أسلفنا وغير صحيح ما قالوه.‏

          ملاحظة: إن جميع الأسماء الواردة آنفاً قد أخذت من المراجع أعلاه.‏

          ولكن ما هو موقع دراساتي من هذه الفئات الأربع:‏

          1-النظرية التوقيفيه: إن اللغة بحكم (كونيتها) المناخية، فإن نشأتها فيما أرى تتماس مع هذه النظرية (الحرف العربي والشخصية العربية ص262).‏

          2-النظرية التوفيقية: هي مزيج من التوقيفي والاصطلاحي. وهي تتماس أيضاً مع محصلة دراساتي كما سيأتي في الفقرة التالية:‏

          3-النظرية الاصطلاحية: إن اللغة العربية بحكم عراقتها التاريخية كان من المحال على أبنائها أن يلتزموا في ابداع جميع مفرداتها وقواعد صرفها ونحوها بالخصائص الفطرية للحروف العربية إذ لم يكن ثمة من رقيب عليهم في ذلك إلا الذوق الفطري السليم الذي كان يتمتع به هزاجها وفصحاؤها وشعراؤها. وكان من المحال أن يبسطوا سلطانهم على كافة الأذهان والأسماع والأذواق المبعثرة في قبائل رعوية مشردة، كان الكثير منها على احتكاك بالشعوب الشقيقة حول أطراف الجزيرة العربية، وذلك على الرغم من تشدد العلماء الذين قاموا بتدوين اللغة العربية منذ منتصف القرن الثاني الهجري، فلم يأخذوا إلا عن القبائل التي قدروا أنها لم تحتك بالشعوب الأخرى، وهي لم تتجاوز السبع من العشرات.‏

          وإذن فإن المعاني (المعجمية) للمفردات التي لا تتوافق مع خصائص ومعاني حروفها هي بالضرورة مصطلحات قد تواضع الناس على معانيها وأصول استعمالاتها، وفيها الدخيل وغير الدخيل على قلتها.‏

          وبذلك تكون دراساتي قد احتوت نظريات الفئات الثلاث:‏

          4-النظرية الفطرية: إن دراساتي اللغوية تنتمي أصلاً إلى هذه النظرية. ولكنها قد تميزت من مدارسها أول ما تميزت بمنطلقها الفلسفي الجديد - "التوافق بين القيم الجمالية والقيم الإنسانية". فقد أخذ بي هذا المنطق قسراً عني، كما عرضت في المقدمة، إلى تقصي خصائص كل حرف عربي في شتى مواقعه بحثاً عن شتى معانيه، وذلك للتثبّت من مدى توافقهما مع مقولتي العتيدة. نهج جديد في التقصي الشامل عن معاني الحروف العربية لم يتبعه أي من أصحاب هذه المدرسة حتى الآن.‏

          وبذلك تكون دراساتي قد تميزت من دراسات أصحاب هذه النظرية: بمنطلقها ونهجها وأسسها، وبشمولية جوانبها (التاريخية، والطبيعية، والاجتماعية، والصوتية، والنفسية) وما إليها.‏

          فكان لا بد أن تأتي بنتائج جديدة، قد ألمحت إلى أهمها في المقدمة، وسيجد القارئ في متن هذه الدراسة المزيد منها في كل حرف.‏

          ثانياً- ماذا عن المدارس اللغوية الأخرى؟ وما هو موقع دراساتي منها:‏

          هل كانت منطلقاتها جميعاً فطرية أصيلة؟ وهل وفق أصحابها في اختيار لغاتهم موضعاً للتطبيق عليها؟ أما من حيث منطلقاتهم (التاريخية أو الاجتماعية أو النفسية أو الصوتية...) وما إليها فهي بحكم طبيعتها أصيلة وفطرية.‏

          وأما موضع تطبيقها، فهو نقطة الضعف الرئيسة فيها جميعاً، على الرغم من المكاسب المعرفية الهامة التي حققتها في شتى القطاعات التي تناولتها من لغوية ونفسية وصوتية واجتماعية وتاريخية وما إليها.‏

          فكل مدرسة لغوية منها كانت تصل بالضرورة في تقصياتها الخاصة إلى إشكالات معينة، قد تعذر على أصحابها تجاوزها أو الإجابة عما أثير حولها من تساؤلات وشكوك.‏

          فهل يعقل مثلاً أن يستطيع أصحاب المدرسة اللغوية (التاريخية) الصعود إلى أصل اللغة الإنسانية أو أن تستطيع المدارس (النفسية أو الصوتية الوظيفية، أو الاجتماعية) أن تصل إلى نتائج حاسمة باعتماد لغات قد تخلت منذ القدم عن أصول نشأتها الفطرية في (الطبيعة والحس والنفس والمجتمع)، وذلك لهجرها الأوطان التي نشأت وترعرعت في ربوعها، فاحتكت في مهجرها بلغات وشعوب أخرى، على مثال ما وقع للغات الهندية الأوروبية والأكادية (البابلية- الأشورية) انظر فقه اللغة. د.علي عبد الواحد وافي ص(25-27) مما أفسح المجال للفكر أن يتحكم اعتباطاً بمعاني كلماتها وقواعد صرفها ونحوها بعيداً عن العوامل الفطرية الأساسية في نشأة اللغة الإنسانية.‏

          وهكذا كان علماء اللغة اللاحقون وفلاسفتها ينتقلون من نظرية إلى أخرى، ومن مدرسة إلى مدرسة، منذ هيروقليطس قبل الفين وخمسمئة عام حتى انتهت هذه السلسلة إلى مدرسة (علم اللغة العام) المعاصرة التي طوت تحت لوائها جميع المنطلقات السابقة. وما أحسب أن صاحبها (سوسور) وتلاميذه سيصلون إلى نتائج حاسمة مادام اختيارهم سيقع على لغات غير فطرية.‏

          أما اللغة العربية فهي بحكم نشأتها الفطرية وأصالة الإنسان الذي أبدعها في بيئة واحدة مستقلة ومنعزلة هي (الجزيرة العربية)، خلال مراحل غابية، ثم زراعية، ثم رعوية شعرية. مما أعطى المجال للنزعة الشعرية (الجمالية- الإنسانية) للاستمرار في تحكمها بمعاني مفرداتها وقواعد صرفها ونحوها. وهكذا قد حافظت العربية حتى الآن على أصالتها وفطرتها بفعل هزاج الجاهلية وشعرائها وفصائحها ورعاية القرآن الكريم لها.‏

          ولذلك، فإن العربية بأصالتها الفطرية هي أصلح موضع لتطبيق جميع النظريات اللغوية للتثبت من صحة منطلقاتها، وللإجابة أيضاً عن جميع التساؤلات والإشكالات التي اعترضتها في اللغات الأجنبية، وظلت حتى الآن بلا إجابات ولا حلول صحيحة.‏

          فدراساتي اللغوية هذه قد تداخلت مع منطلقات المدارس اللغوية جميعاً عفو تقصياتي الخاصة عن الروابط الفطرية بين القيم (الجمالية والإنسانية) في خصائص الحروف العربية ومعانيها.‏

          ومرد هذا التداخل أن الحروف العربية (بخصائصها ومعانيها) مشحونة بشتى الأحاسيس والمشاعر الإنسانية مما جعل الكلمة العربية بهذه الطاقة الذاتية ( تشخص) الأحداث والمسميات والحالات الوجدانية، في مخيلات سامعيها وأذهانهم وفقاً لمقولة ابن جني:‏

          "سوقاً للحروف على سمت المعنى المقصود والغرض المراد".‏

          وهكذا قد تداخلت دراستي أول ما تداخلت من علوم اللغة مع أصول علم (الدلالة) وعلم (الأصوات الوظيفي) وذلك من حيث القدرة الدلالية والتعبيرية للحرف في الكلمة العربية عن (المعنى المقصود والغرض المراد). كما تداخلت مع أصول علم اللغة (التاريخي) بمعرض الكشف عن فطرية اللغة العربية وأصالة الإنسان العربي وريادة الجزيرة العربية في الشؤون الحضارية، كما جاء في الفصل الثالث من دراساتي "الحرف العربي والشخصية العربية". تحت عنوان "الجزيرة العربية مهد الإنسان العربي وحضارته".‏

          وكما تداخلت مع أصول علم اللغة "النفسي" بالكشف عن الخصائص (الهيجانية والإيمائية والإيحائية) في الحروف العربية، وكذلك بالمطابقة بين (شخصيتي) الحرف العربي والإنسان العربي في مكوناتهما- (الحيوية والاجتماعية والثقافية) كما جاء في الفصلين الرابع والخامس من المرجع السابق.‏

          كما تداخلت دراستي (خصائص الحروف...) بخاصة مع علم اللغة (الاجتماعي) بالكشف عن الوظائف الاجتماعية للحروف العربية بمعرض التعبير عن معاني المفردات معجمياً، وعن أصول كثير من قواعد صرف العربية ونحوها، بما يتوافق مع تقاليد المجتمع العربي (الذكورية والأنثوية) ومع عاداته الرعوية، كما جاء في دراسة أحرف (ث-ذ-ش-ل-ف-م) وغيرها.‏

          وما أحسب أن أي مدرسة لغوية أخرى غير ما ذكرت آنفاً أو أي مدرسة جديدة مقبلة إلاّ وستجد لها في دراساتي عن الحرف العربي وخصائصه ما يتداخل أو يتماس مع مبادئها وأصولها. فكل مدرسة لغوية تهدف إلى الكشف عن الخصائص الفطرية (الطبيعية أو الإنسانية) في أي جانب من جوانب اللغة الإنسانية، لا بد أن تجد لمنطلقاتها وأسسها تطبيقات صحيحة على الفصحى العربية التي استوفت شروط فطرتها.‏

          الخاتمة‏

          إن كل ما جاء من المستجدات (التاريخية والطبيعية والاجتماعية والحسية والنفسية والصوتية..) وما إليها مما عرضته في المقدمة يعتبر إضافة جديدة على النظريات اللغوية العربية، وليس توسعاً فيها. وذلك بحكم اعتمادي منطلقاً فكرياً جديداً هو: "التوافق بين القيم الجمالية والإنسانية) وتطبيقه على اللغة العربية الفطرية.‏

          وهكذا فإن هذه المستجدات عن الحرف العربي، فيما أرى، تفتح آفاقاً جديدة أمام النظريات اللغوية العربية والغربية بخاصة، وذلك لحل المشكلات التي واجهتها وظلت بلا حلول، ولكن شريطة اعتماد اللغة العربية حصراً.‏

          فكما أن الآثار التي اكتشفها علماء الغرب في أودية الفرات والنيل وربوع بلاد الشام، قد فتحت آفاقاً معرفية إنسانية جديدة أمام الثقافة الغربية الحديثة، فإن الحرف العربي ذا النشأة الفطرية صالح فيما أرى لأن يفتح مثل تلك الآفاق في قطاع نظرياتهم اللغوية.‏

          ويحزنني أن أقول:‏

          ما أحسب أن خصائص الحروف العربية ومعانيها ستأخذ مختلف أبعادها، ما لم يلتفت إليها علماء اللغة في الغرب والشرق، على غرار ما فعل علماء آثارهم في آثارنا.‏

          ولكن، هل سيسمح لهم بذلك المعنيون بغزونا الثقافي المضاد؟‏
          إذا الشعب يوما أراد الحياة
          فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
          و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
          و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

          تعليق


          • #6
            رد: خصا ئص الحروف العربية ومعانيها

            الباب الأول العلاقات الفطرية بين الحروف العربية والحواس والمشاعر الإنسانية.

            الفصل الأول في تصنيف الحواس.‏

            تمهيد:‏

            لقد سبق أن تحدثت في الدراسة الأولى (الحرف العربي والشخصية العربية) بشيء من التفصيل عن الجذور(الغابية والزراعية والرعوية) في أصوات الحروف العربية وقد اعتمد العربي في تلك المراحل ثلاث طرق متباينة للتعبير عن حاجاته ومعانيه. كل واحدة منها تتوافق في رقيها مع مستويات الإنسان العربي في كل مرحلة منها: تخلفاً لتخلف، وتطوراً لتطور. (وأنصح أن يعود القارئ إلى هذا البحث في الدراسة الأولى ص(131) وما بعدها).‏

            فماذا عن تلك المراحل الثلاث؟.‏

            1-في المرحلة الغابية:‏

            كان أبناء الجزيرة العربية يعتمدون في هذه المرحلة التي امتدت حتى الألف(12) ق.م الأصوات الهيجانية والحركات العفوية للتعبير عن حاجاتهم المحدودة. وهذه الطريقة هي ألصق الطرق ببدائيتهم. قد ورثنا عنها يقينا أحرف (الهمزة والألف والواو والياء).‏

            2-في المرحلة الزراعية:‏

            قد اعتمد أبناء الجزيرة العربية في هذه المرحلة التي امتدت من الألف(12) حتى الألف(9)ق.م كيفية النطق ببعض أصوات الحروف العربية للتعبير (إيماء وتمثيلاً) عن حاجاتهم ومعانيهم. قد ورثنا عنها أحرف (الفاء واللام والميم والثاء والذال) بترجيح شديد.‏

            3-في المرحلة الرعوية:‏

            لقد اعتمد العربي في هذه المرحلة التي امتدت منذ الألف (9)ق.م حتى العصور الجاهلية الأولى صدى أصوات الحروف العربية في النفس للتعبير(إيحاء) عن شتى الحاجات والمعاني. وهذه الطريقة هي أرقى ما وصلت إليه الإنسانية في دنيا التواصل اللغوي، فلم يعد لها مثيل في أي من لغات العالم. قد ورثنا عنها باقي الحروف. ولاعبرة لاحتمال انتماء أصول بعضها إلى الغابية أو الزراعية كما في الحروف (ب-د-ت-ش-خ.......) مادامت لم تستوف خصائصها الإيحائية وشروطها الثقافية إلا في المرحلة الرعوية. ونظراً لأن تراثنا اللغوي قد أُبدِع خلال المرحلة الرعوية على شفق الشعر وفي ضوء الخصائص(الإيحائية)، فقد غابت الخصائص (الإيمائية التمثيلية) للأحرف الزراعية حتى عن القائلين بفطرية اللغة العربية من علمائها. كما غامت عليهم الخصائص (الهيجانية) للحروف(الغابية)، فلم ينتبه إليها إلا قلة قليلة منهم في لمح عابرة، وبقليل من الدقة أغلب الأحيان.‏

            وهذه الطريقة (الإيحائية) لم يتوصل إليها الإنسان العربي في المرحلة الرعوية إلاّ بعد أن بلغ مستوى ذهنياً متميزاً في رقيه الاجتماعي والثقافي ولاسيما الفني، وبعد معاناة طويلة مع أصوات الحروف ومعانيها، وتحت رقابة مقولة (لافن بلاأخلاق، ولا أخلاق بلا فن) دامت آلاف الأعوام(انظر مقدمة الدراسة).‏

            ولذلك فإن استنباط معاني اللفظة العربية من صدى أصوات أحرفها في النفس يتطلب منا نحن بالمقابل مستوى مماثلاً في الرقي ولاسيما في الملكة الفنية (الذوقية)، وطول معاناة مع أصوات الحروف ومعانيها. وقلّما يتوافر ذلك لغير نفرٍ من هواة اللغة العربية ، من مريدين وأساتذة، ممن يتحلون برهافة الأحاسيس، وشفافية المشاعر، على كثير من الصبر الجميل .‏

            فخاصية الشدّة في صوت (الدال) مثلاً، وخاصّية التحرك والترجيع والتكرار في صوت (الراء)، وخاصيّة الانبثاق والنفاذ والصميمية في صوت (النون)، وخاصيّة الاهتزاز والاضطراب والتشويه في صوت (الهاء) ، وخاصية الصلابة والصقّل والصفاء في صوت (الصاد)، وما إلى ذلك من خصائص أصوات الحروف، لا يستطيع القارئ أن يعيها ، ولا أنْ يعيَ العلاقة بينها وبين معاني الألفاظ التي تشارك في تراكيبها، إلاّ بعد تأمل هادئ عميق ومعاناة طويلة.‏

            ولعلّ بعضاً من دكاترة اللغة العربية من خريجي المعاهد الغربية قد استعظموا على الإنسان العربي، الضارب في مجاهل الأرض والتاريخ أن يبلغ ذلك المستوى الثقافي الرفيع في صناعة الأصوات للتعبير عن معانيه بهذه الطريقة الأسطورية ، خلافاً لما هو واقع الحال في اللغات الغربية الراقية وما استقر عليه آراء علمائها.‏

            فلقد أنكر محمد المبارك خريج معهد السربون في باريس على الحرف العربي خصائصه الإيحائية بضعة عشر عاماً أمضاها في تدريس اللغة العربية والتأليف فيها، قبل أن يعترف بذلك صراحة كما جاء في كتابه ( خصائص العربية (ص260-263).‏

            على أن أصحاب المدرسة اللغوية القديمة القائلين بفطرية اللغة العربية، وما يستتبع ذلك من أنّ أصوات الحروف في اللفظة العربية توحي بمعناها، لم يدعموا رأيهم هذا بالبراهين الإحصائية القاطعة على وجود علاقة إيحائية بين أصوات الحروف العربية ومختلف الأحاسيس والمشاعر الإنسانية.‏

            فإذا كانت معاني الألفاظ تتردد بداهة بين ما يدل على ملموسات وذوقيات وشميات وبصريات وسمعيات ومشاعر إنسانية ، فإنه لابد لأصوات الحروف أن توحي إذن بمختلف الأحاسيس الحسية والمشاعر الإنسانية. وإذا لم يكن الأمر كذلك، فإن صوت الحرف في اللفظة العربية يصبح رمزاً على معنى، لتتحوّل اللفظة العربية بذلك إلى مجرد مصطلح على معنى كما يدّعي أصحاب المدرسة اللغوية الاصطلاحية. أما إذا كانت أصوات الحروف العربية صالحة فعلا للإيحاء بمختلف الأحاسيس الحسية (لمس-ذوق- شم- بصريات-سمعيات)، وبمختلف المشاعر الإنسانية، فإن الأصوات نفسها لابد أن تكون صالحة أيضاً للإيحاء بالأحاسيس الحسية والمشاعر الإنسانية. فالحروف العربية قبل أن تنتمي إلى القطاع اللغوي تنتمي أصلاً إلى القطاع الصوتي.‏

            وإذن، لابد أن يكون ثمة نظام فطري معين يحكم العلاقات الكائنة بين الحواس الخمس لمسيّها وذوقيّها وشميها وبصَرَيّها وسمعيّها.‏

            ولقد جهدت طويلا في الكشف عن هذا النظام الذي يعتبر الحجر الأساس في وجهة نظري هذه حول خصائص أصوات الحروف العربية الإيحائية، فخصصت له هذا الفصل.‏

            وكيما يتابع القارئ بشيء من السهولة هذه الدراسة في الأبواب والفصول التالية، لابدّ له أن يستوعب أولا كل ما جاء في هذا الفصل من أسس يزوّد بها ذاكرته ومخيلته لمواجهة ماسيعترضه من مسائل جديدة غير مطروقة.‏

            حول خصائص الحواس:‏

            الحواس الخمس كما هو معروف عنها، إنما هي أجهزة توصيل فيزيائية وكيمائية تنقل إلى المراكز الحسية في الدماغ عبر خلاياها الحسية والعصبية، مختلف الأحاسيس التي تتلقاها من العالم الخارجي، فلكل حادثٍ إحساسٌ معين.‏

            ولكنّ هذه الأحاسيس التي تتلقاها الحواس، هل هي مغلقة على ذاتها ضمن خلاياها ومراكزها الحسية في القشرة الدماغية، فلا تتأثر حاسة من الحواس بأحاسيس حاسةٍ أخرى؟.‏

            أم إنَّ الأمر غير ذلك؟.‏

            إن الحواس الخمس في الحقيقة ليست مجرد أجهزة توصيل سلبية تقتصر وظائفها على تلقي التنبيهات الخارجية فحسب، وإنما هي أجهزة (تحويل) إيجابية أيضاً قد تؤثر الحاسة الواحدة منها وتتأثر بأحاسيس غيرها من الحواس.‏

            بمعنى أن الحاسة (آ) تستطيع أن تنبه حاسة ثانية (ب) فتثير في هذه الحاسة الأخيرة أحاسيسها الخاصة، دون أن تتلقى الحاسة(ب) عن العالم الخارجي أي إحساس آخر.‏

            فلو نظرنا مثلا بالعين (الحاسة أ) إلى ظهر قنفذ، لتملكتنا قشعريرة الإحساس بوخز إبره ولو لم تلمسها أناملنا (الحاسة.ب) وهكذا تستطيع حاسة العين أن تثير في حاسة اللمس مختلف الأحاسيس اللمسية، دون أن تتلقى حاسة اللمس من العالم الخارجي أي منبه محسوس سوى الصور المرئية التي تتلقاها العين (الحاسة آ)‏

            ولكن هذا التداخل في الآحاسيس هل هو عشوائي شخصي المزاج؟.‏

            أم إنه محكوم بنظام فطري خاص.؟.‏

            لقد اهتديت إلى هذا النظام بمعرض البحث عن العلاقات المتبادلة بين الفن والأخلاق في قطاع الحواس الخمس.‏

            وهذا النظام مبنيّ أصلاً على تدرج الحواس في الرقي بحسب تجردها عن المادة، أي تبعا لشفافيتها. فالحاسة الأرقى أي الأكثر شفافية، تستطيع أن تؤثر في الحواس الأدنى الأكثر كثافة والتصاقا بالمادة، فحاسة السمع التي هي في قمة الحواس رقيا وشفافية، تستطيع أن تؤثر فيما دونها من الحواس، بمعنى أن الأصوات يمكنها أن تنبه فينا وتوحي لنا بأحاسيس مختلف الحواس.‏

            وهذا النظام الفطري الذي يضبط العلاقات المتبادلة بين الحواس الخمس من حيث خصائصها المادية والإيحائية يمكن تلخيصه في تصنيفين اثنين:‏

            التصنيف الأول:‏

            الحواس الخمس كأدوات حسية يمكن تصنيفها في هرم حسّيّ سويّ بحسب ماديتها، أي تبعاً لمدى تماس الحاسة مع المنبهات الحسية التي تتعامل معها.‏

            منطقة المشاعر الإنسانية‏

            حاسة السمع حاسة السمع‏

            حاسة البصر حاسة البصر‏

            حاسة الشم حاسة الشم‏

            حاسة الذوق حاسة الذوق‏

            حاسة اللمس حاسة اللمس‏

            الشكل رقم(1)‏

            1-يبدأ هذا الهرم الحسي السوي بحاسة اللمس قاعدة للحواس. فهذه الحاسة هي أشد الحواس مادية وألصقها بالمادة. ذلك لأنَّه لابد لها أنْ تتماس مباشرة مع الأشياء المادية كيما تستطيع أن تكشف عن مختلف خصائصها المادية (حرارة ، برودة، خشونة، نعومة، رطوبة، لزوجة....الخ)‏

            2-ثم تأتي بعدها في الطبقة التالية حاسة الذوق، وهي أقل مادية من حاسة اللمس، فلا تتفاعل إلا مع خصائص الأشياء الذوقية القابلة للانحلال في اللعاب(حلاوة، ملوحة، حموضة، مرارة...الخ).‏

            3-ثم تأتي حاسة الشم أقل مادية من سابقتيها وأكثر تجردا عن المادة، فهي لا تتفاعل إلا مع الجزيئات المنبعثة عن الأشياء (مختلف الروائح).‏

            4-ثم تآتي حاسة النظر، فلا تتفاعل ولا تتعامل إلا مع الصور المعكوسة عن الأشياء المادية. وهكذا تختص هذه الحاسة بإدراك الألوان والسطوح والحجوم والحركات. لتكون حاسة النظر بذلك مكانية صرفة وفي تجرد تام عن المادة.‏

            5-ثم تأتي أخيراً حاسة السمع في ذروة الهرم الحسي، لا تدرك شيئاً عن خصائص الأشياء المادية إلا من خلال الأصوات المنبعثة عنها. والأصوات هي فعاليات صرفة تخرج من عالم المكان لتدخل في عالم الزمان كوحدات صوتية. وهكذا لاتسطيع حاسة السمع أن تدرك المكان إلا من خلال الزمن، لتكون حاسة السمع بذلك زمانية صرفة، وتجرداً تاماً عن المادة والمكان. إنها تجسيد للشفافية، إذا صح التعبير.‏

            لنخلص من هذا التصنيف إلى أن الحواس الخمس موزعة بين المادة (لمس. ذوق. شم) والمكان (نظر)، والزمان (سمع)، في هرم متدرج سوي،قاعدته حاسة اللمس وذروته حاسة السمع. انظر الشكل (1).‏



            التصنيف الثاني:‏

            أما الحواس الخمس، بمعرض الإيحاء بأحاسيسها، أي من حيث تأثير بعضها في بعضها الآخر، فيمكن تصنيفها في هرم حسي منكوس، ذروته في الأسفل، وقاعدته إلى الأعلى. وذلك لتظل الحواس مع هذا الوضع الجديد في الهرم المنكوس على ترتيبها السابق:‏

            منطقة المشاعر الإنسانية‏

            حاسة السمع حاسة السمع‏

            حاسة البصر حاسة البصر‏

            حاسة الشم حاسة الشم‏

            حاسة الذوق حاسة الذوق‏

            حاسة اللمس حاسة اللمس‏

            الشكل رقم (2)‏

            1-فحاسة اللمس تبدأ بالذروة المنكوسة من الهرم، وهي لاتنقل إلينا من خصائص الأشياء إلاّ الأحاسيس اللمسية. فملامس الأشياء لا توحي بطعمها أو رائحتها أو لونها أو صوتها. وهكذا فإن حاسة اللمس مغلقة على ذاتها كما الذروة المنكوسة من الهرم، وكما الغريزة الجنسية: عمى عن أي إحساس آخر أو شعور.‏

            2-ثم تأتي فوقها حاسة الذوق، لكل مذاق إحساس لمسي معين. ففي طعم الحلاوة مثلا، نعومة ودفء، وفي الحموضة صلابة وبرودة، وفي البهارات خشونة وحرارة.....على أن المذاقات لاتتوضح على حقيقتها إذا لم تشترك معها حاسة الشم كما في حالة الزكام، إلاّ أن حاسة الذوق لا تستطيع الإيحاء بأي رائحة أو لون أو صوت.‏

            3-ثم تأتي حاسة الشم. لكل رائحة إيحاء بإحساس لمسي ومذاق . ففي الروائح العطرية مثلا، ملامس بين الحرير والمخمل نعومةً، ومذاقات بين طعم العسل ومنوع الفواكه، وفي الروائح الأخرى ملامس من الجفاف والخشونة والوخز والحرارة والبرودة، ومذاقات من الملوحة والحموضة والمرارة والدسم وما بينها، مما لا يحصى من الملامس والمذاقات. على أن الروائح لا توحي بأي لون أو صوت.‏

            4-ثم تأتي حاسة النظر، فتوحي الألوان والخطوط بمختلف الأحاسيس اللمسية والذوقية والشمية. على أن حاسة النظر إذا كانت لاتنبئنا على واقع التجربة ببعض ملامس الأشياء ومذاقاتها وروائحها إذا لم تدخل في نطاق تجاربنا السابقة عن طريق الذاكرة، فإن الألوان والظلال والأشكال لها في الحقيقة إيحاءات لمسية وذوقية وشمية، وإن لم تتطابق مع واقع هذه الأحاسيس نفسها. فيكفينا من لوحات عباقرة الرسامين أن توحي للعين بمختلف الملامس والمذاقات والروائح، إذا ما تمازجت ألوانها وظلالها وخطوطها على أيديهم، ولا روائح، ولا مذاقات ولا ملامس إلاّ أحاسيسهم يصبونها في لوحات. لتقف ريشة الفنان عند هذا السقف ، فلا تستطيع ألوانه وخطوطه وظلاله أن توحي بالأصوات، مالم تتدخل الذاكرة بصورة غير مباشرة عن طريق التداعي : (صورة عاصفة وضجيجها، جدول ماء وخريره).‏

            5-وأخيراً تأتي حاسة السمع في القاعدة المقلوبة إلى أعلى، ملتقى لجميع الأحاسيس. بعض الأصوات يوحي بأحاسيس لمسية معينة. وبعضها الآخر يوحي بأحاسيس ذوقية أو سمعية أو بصرية، ولكن ما أن تتداخل الأصوات الموسيقية وتتماوج على يد فنان عبقري، حتى تستطيع الأذن المرهفة الحس المدربة، أن تستوحي من الأعزوفة مختلف الأحاسيس والمشاعر الإنسانية التي خطرت في ذهن مبدعها الفنان. ولو لم تكن الأصوات الموسيقية أوعية زمنية معبأة بمختلف الأحاسيس والمشاعر، لكانت شيئاً لا يطاق من آليّ الاهتزازات والانعكاسات، لاحياة فيها ولانماء ولا إحساس انظر الشكل (2).‏

            لنخلص من هذا التصنيف إلى أن الأحاسيس اللمسية كامنة في الحواس جميعا، تشدها إلى الأرض وتربطها بالأحاسيس المادية. كما أن حاسة السمع تستوعب أحاسيس جميع الحواس، كناية عن قدرة الزمان على تجاوز المادة والمكان استيعابا لهما وفيضا عليهما. ومن هنا كان الزمان من حيث وعينا له يتصف بالوحدة والعمق. تكثيفا لمختلف الأحاسيس والانفعالات في وحدات من الأصوات. بينما يتصف المكان بالتشتت والبعد: توزيعا لمختلف الأحاسيس على مختلف الحواس في صور مادية محسوسة.‏

            وهكذا تتداخل الأحاسيس مع المشاعر الإنسانية عن طريق التجربة والمعاناة من خلال معانيهما:‏
            إذا الشعب يوما أراد الحياة
            فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
            و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
            و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

            تعليق


            • #7
              رد: خصا ئص الحروف العربية ومعانيها

              الباب الأول العلاقات الفطرية بين الحروف العربية والحواس والمشاعر الإنسانية.

              الفصل الأول في تصنيف الحواس.‏

              تمهيد:‏

              لقد سبق أن تحدثت في الدراسة الأولى (الحرف العربي والشخصية العربية) بشيء من التفصيل عن الجذور(الغابية والزراعية والرعوية) في أصوات الحروف العربية وقد اعتمد العربي في تلك المراحل ثلاث طرق متباينة للتعبير عن حاجاته ومعانيه. كل واحدة منها تتوافق في رقيها مع مستويات الإنسان العربي في كل مرحلة منها: تخلفاً لتخلف، وتطوراً لتطور. (وأنصح أن يعود القارئ إلى هذا البحث في الدراسة الأولى ص(131) وما بعدها).‏

              فماذا عن تلك المراحل الثلاث؟.‏

              1-في المرحلة الغابية:‏

              كان أبناء الجزيرة العربية يعتمدون في هذه المرحلة التي امتدت حتى الألف(12) ق.م الأصوات الهيجانية والحركات العفوية للتعبير عن حاجاتهم المحدودة. وهذه الطريقة هي ألصق الطرق ببدائيتهم. قد ورثنا عنها يقينا أحرف (الهمزة والألف والواو والياء).‏

              2-في المرحلة الزراعية:‏

              قد اعتمد أبناء الجزيرة العربية في هذه المرحلة التي امتدت من الألف(12) حتى الألف(9)ق.م كيفية النطق ببعض أصوات الحروف العربية للتعبير (إيماء وتمثيلاً) عن حاجاتهم ومعانيهم. قد ورثنا عنها أحرف (الفاء واللام والميم والثاء والذال) بترجيح شديد.‏

              3-في المرحلة الرعوية:‏

              لقد اعتمد العربي في هذه المرحلة التي امتدت منذ الألف (9)ق.م حتى العصور الجاهلية الأولى صدى أصوات الحروف العربية في النفس للتعبير(إيحاء) عن شتى الحاجات والمعاني. وهذه الطريقة هي أرقى ما وصلت إليه الإنسانية في دنيا التواصل اللغوي، فلم يعد لها مثيل في أي من لغات العالم. قد ورثنا عنها باقي الحروف. ولاعبرة لاحتمال انتماء أصول بعضها إلى الغابية أو الزراعية كما في الحروف (ب-د-ت-ش-خ.......) مادامت لم تستوف خصائصها الإيحائية وشروطها الثقافية إلا في المرحلة الرعوية. ونظراً لأن تراثنا اللغوي قد أُبدِع خلال المرحلة الرعوية على شفق الشعر وفي ضوء الخصائص(الإيحائية)، فقد غابت الخصائص (الإيمائية التمثيلية) للأحرف الزراعية حتى عن القائلين بفطرية اللغة العربية من علمائها. كما غامت عليهم الخصائص (الهيجانية) للحروف(الغابية)، فلم ينتبه إليها إلا قلة قليلة منهم في لمح عابرة، وبقليل من الدقة أغلب الأحيان.‏

              وهذه الطريقة (الإيحائية) لم يتوصل إليها الإنسان العربي في المرحلة الرعوية إلاّ بعد أن بلغ مستوى ذهنياً متميزاً في رقيه الاجتماعي والثقافي ولاسيما الفني، وبعد معاناة طويلة مع أصوات الحروف ومعانيها، وتحت رقابة مقولة (لافن بلاأخلاق، ولا أخلاق بلا فن) دامت آلاف الأعوام(انظر مقدمة الدراسة).‏

              ولذلك فإن استنباط معاني اللفظة العربية من صدى أصوات أحرفها في النفس يتطلب منا نحن بالمقابل مستوى مماثلاً في الرقي ولاسيما في الملكة الفنية (الذوقية)، وطول معاناة مع أصوات الحروف ومعانيها. وقلّما يتوافر ذلك لغير نفرٍ من هواة اللغة العربية ، من مريدين وأساتذة، ممن يتحلون برهافة الأحاسيس، وشفافية المشاعر، على كثير من الصبر الجميل .‏

              فخاصية الشدّة في صوت (الدال) مثلاً، وخاصّية التحرك والترجيع والتكرار في صوت (الراء)، وخاصيّة الانبثاق والنفاذ والصميمية في صوت (النون)، وخاصيّة الاهتزاز والاضطراب والتشويه في صوت (الهاء) ، وخاصية الصلابة والصقّل والصفاء في صوت (الصاد)، وما إلى ذلك من خصائص أصوات الحروف، لا يستطيع القارئ أن يعيها ، ولا أنْ يعيَ العلاقة بينها وبين معاني الألفاظ التي تشارك في تراكيبها، إلاّ بعد تأمل هادئ عميق ومعاناة طويلة.‏

              ولعلّ بعضاً من دكاترة اللغة العربية من خريجي المعاهد الغربية قد استعظموا على الإنسان العربي، الضارب في مجاهل الأرض والتاريخ أن يبلغ ذلك المستوى الثقافي الرفيع في صناعة الأصوات للتعبير عن معانيه بهذه الطريقة الأسطورية ، خلافاً لما هو واقع الحال في اللغات الغربية الراقية وما استقر عليه آراء علمائها.‏

              فلقد أنكر محمد المبارك خريج معهد السربون في باريس على الحرف العربي خصائصه الإيحائية بضعة عشر عاماً أمضاها في تدريس اللغة العربية والتأليف فيها، قبل أن يعترف بذلك صراحة كما جاء في كتابه ( خصائص العربية (ص260-263).‏

              على أن أصحاب المدرسة اللغوية القديمة القائلين بفطرية اللغة العربية، وما يستتبع ذلك من أنّ أصوات الحروف في اللفظة العربية توحي بمعناها، لم يدعموا رأيهم هذا بالبراهين الإحصائية القاطعة على وجود علاقة إيحائية بين أصوات الحروف العربية ومختلف الأحاسيس والمشاعر الإنسانية.‏

              فإذا كانت معاني الألفاظ تتردد بداهة بين ما يدل على ملموسات وذوقيات وشميات وبصريات وسمعيات ومشاعر إنسانية ، فإنه لابد لأصوات الحروف أن توحي إذن بمختلف الأحاسيس الحسية والمشاعر الإنسانية. وإذا لم يكن الأمر كذلك، فإن صوت الحرف في اللفظة العربية يصبح رمزاً على معنى، لتتحوّل اللفظة العربية بذلك إلى مجرد مصطلح على معنى كما يدّعي أصحاب المدرسة اللغوية الاصطلاحية. أما إذا كانت أصوات الحروف العربية صالحة فعلا للإيحاء بمختلف الأحاسيس الحسية (لمس-ذوق- شم- بصريات-سمعيات)، وبمختلف المشاعر الإنسانية، فإن الأصوات نفسها لابد أن تكون صالحة أيضاً للإيحاء بالأحاسيس الحسية والمشاعر الإنسانية. فالحروف العربية قبل أن تنتمي إلى القطاع اللغوي تنتمي أصلاً إلى القطاع الصوتي.‏

              وإذن، لابد أن يكون ثمة نظام فطري معين يحكم العلاقات الكائنة بين الحواس الخمس لمسيّها وذوقيّها وشميها وبصَرَيّها وسمعيّها.‏

              ولقد جهدت طويلا في الكشف عن هذا النظام الذي يعتبر الحجر الأساس في وجهة نظري هذه حول خصائص أصوات الحروف العربية الإيحائية، فخصصت له هذا الفصل.‏

              وكيما يتابع القارئ بشيء من السهولة هذه الدراسة في الأبواب والفصول التالية، لابدّ له أن يستوعب أولا كل ما جاء في هذا الفصل من أسس يزوّد بها ذاكرته ومخيلته لمواجهة ماسيعترضه من مسائل جديدة غير مطروقة.‏

              حول خصائص الحواس:‏

              الحواس الخمس كما هو معروف عنها، إنما هي أجهزة توصيل فيزيائية وكيمائية تنقل إلى المراكز الحسية في الدماغ عبر خلاياها الحسية والعصبية، مختلف الأحاسيس التي تتلقاها من العالم الخارجي، فلكل حادثٍ إحساسٌ معين.‏

              ولكنّ هذه الأحاسيس التي تتلقاها الحواس، هل هي مغلقة على ذاتها ضمن خلاياها ومراكزها الحسية في القشرة الدماغية، فلا تتأثر حاسة من الحواس بأحاسيس حاسةٍ أخرى؟.‏

              أم إنَّ الأمر غير ذلك؟.‏

              إن الحواس الخمس في الحقيقة ليست مجرد أجهزة توصيل سلبية تقتصر وظائفها على تلقي التنبيهات الخارجية فحسب، وإنما هي أجهزة (تحويل) إيجابية أيضاً قد تؤثر الحاسة الواحدة منها وتتأثر بأحاسيس غيرها من الحواس.‏

              بمعنى أن الحاسة (آ) تستطيع أن تنبه حاسة ثانية (ب) فتثير في هذه الحاسة الأخيرة أحاسيسها الخاصة، دون أن تتلقى الحاسة(ب) عن العالم الخارجي أي إحساس آخر.‏

              فلو نظرنا مثلا بالعين (الحاسة أ) إلى ظهر قنفذ، لتملكتنا قشعريرة الإحساس بوخز إبره ولو لم تلمسها أناملنا (الحاسة.ب) وهكذا تستطيع حاسة العين أن تثير في حاسة اللمس مختلف الأحاسيس اللمسية، دون أن تتلقى حاسة اللمس من العالم الخارجي أي منبه محسوس سوى الصور المرئية التي تتلقاها العين (الحاسة آ)‏

              ولكن هذا التداخل في الآحاسيس هل هو عشوائي شخصي المزاج؟.‏

              أم إنه محكوم بنظام فطري خاص.؟.‏

              لقد اهتديت إلى هذا النظام بمعرض البحث عن العلاقات المتبادلة بين الفن والأخلاق في قطاع الحواس الخمس.‏

              وهذا النظام مبنيّ أصلاً على تدرج الحواس في الرقي بحسب تجردها عن المادة، أي تبعا لشفافيتها. فالحاسة الأرقى أي الأكثر شفافية، تستطيع أن تؤثر في الحواس الأدنى الأكثر كثافة والتصاقا بالمادة، فحاسة السمع التي هي في قمة الحواس رقيا وشفافية، تستطيع أن تؤثر فيما دونها من الحواس، بمعنى أن الأصوات يمكنها أن تنبه فينا وتوحي لنا بأحاسيس مختلف الحواس.‏

              وهذا النظام الفطري الذي يضبط العلاقات المتبادلة بين الحواس الخمس من حيث خصائصها المادية والإيحائية يمكن تلخيصه في تصنيفين اثنين:‏

              التصنيف الأول:‏

              الحواس الخمس كأدوات حسية يمكن تصنيفها في هرم حسّيّ سويّ بحسب ماديتها، أي تبعاً لمدى تماس الحاسة مع المنبهات الحسية التي تتعامل معها.‏

              منطقة المشاعر الإنسانية‏

              حاسة السمع حاسة السمع‏

              حاسة البصر حاسة البصر‏

              حاسة الشم حاسة الشم‏

              حاسة الذوق حاسة الذوق‏

              حاسة اللمس حاسة اللمس‏

              الشكل رقم(1)‏

              1-يبدأ هذا الهرم الحسي السوي بحاسة اللمس قاعدة للحواس. فهذه الحاسة هي أشد الحواس مادية وألصقها بالمادة. ذلك لأنَّه لابد لها أنْ تتماس مباشرة مع الأشياء المادية كيما تستطيع أن تكشف عن مختلف خصائصها المادية (حرارة ، برودة، خشونة، نعومة، رطوبة، لزوجة....الخ)‏

              2-ثم تأتي بعدها في الطبقة التالية حاسة الذوق، وهي أقل مادية من حاسة اللمس، فلا تتفاعل إلا مع خصائص الأشياء الذوقية القابلة للانحلال في اللعاب(حلاوة، ملوحة، حموضة، مرارة...الخ).‏

              3-ثم تأتي حاسة الشم أقل مادية من سابقتيها وأكثر تجردا عن المادة، فهي لا تتفاعل إلا مع الجزيئات المنبعثة عن الأشياء (مختلف الروائح).‏

              4-ثم تآتي حاسة النظر، فلا تتفاعل ولا تتعامل إلا مع الصور المعكوسة عن الأشياء المادية. وهكذا تختص هذه الحاسة بإدراك الألوان والسطوح والحجوم والحركات. لتكون حاسة النظر بذلك مكانية صرفة وفي تجرد تام عن المادة.‏

              5-ثم تأتي أخيراً حاسة السمع في ذروة الهرم الحسي، لا تدرك شيئاً عن خصائص الأشياء المادية إلا من خلال الأصوات المنبعثة عنها. والأصوات هي فعاليات صرفة تخرج من عالم المكان لتدخل في عالم الزمان كوحدات صوتية. وهكذا لاتسطيع حاسة السمع أن تدرك المكان إلا من خلال الزمن، لتكون حاسة السمع بذلك زمانية صرفة، وتجرداً تاماً عن المادة والمكان. إنها تجسيد للشفافية، إذا صح التعبير.‏

              لنخلص من هذا التصنيف إلى أن الحواس الخمس موزعة بين المادة (لمس. ذوق. شم) والمكان (نظر)، والزمان (سمع)، في هرم متدرج سوي،قاعدته حاسة اللمس وذروته حاسة السمع. انظر الشكل (1).‏



              التصنيف الثاني:‏

              أما الحواس الخمس، بمعرض الإيحاء بأحاسيسها، أي من حيث تأثير بعضها في بعضها الآخر، فيمكن تصنيفها في هرم حسي منكوس، ذروته في الأسفل، وقاعدته إلى الأعلى. وذلك لتظل الحواس مع هذا الوضع الجديد في الهرم المنكوس على ترتيبها السابق:‏

              منطقة المشاعر الإنسانية‏

              حاسة السمع حاسة السمع‏

              حاسة البصر حاسة البصر‏

              حاسة الشم حاسة الشم‏

              حاسة الذوق حاسة الذوق‏

              حاسة اللمس حاسة اللمس‏

              الشكل رقم (2)‏

              1-فحاسة اللمس تبدأ بالذروة المنكوسة من الهرم، وهي لاتنقل إلينا من خصائص الأشياء إلاّ الأحاسيس اللمسية. فملامس الأشياء لا توحي بطعمها أو رائحتها أو لونها أو صوتها. وهكذا فإن حاسة اللمس مغلقة على ذاتها كما الذروة المنكوسة من الهرم، وكما الغريزة الجنسية: عمى عن أي إحساس آخر أو شعور.‏

              2-ثم تأتي فوقها حاسة الذوق، لكل مذاق إحساس لمسي معين. ففي طعم الحلاوة مثلا، نعومة ودفء، وفي الحموضة صلابة وبرودة، وفي البهارات خشونة وحرارة.....على أن المذاقات لاتتوضح على حقيقتها إذا لم تشترك معها حاسة الشم كما في حالة الزكام، إلاّ أن حاسة الذوق لا تستطيع الإيحاء بأي رائحة أو لون أو صوت.‏

              3-ثم تأتي حاسة الشم. لكل رائحة إيحاء بإحساس لمسي ومذاق . ففي الروائح العطرية مثلا، ملامس بين الحرير والمخمل نعومةً، ومذاقات بين طعم العسل ومنوع الفواكه، وفي الروائح الأخرى ملامس من الجفاف والخشونة والوخز والحرارة والبرودة، ومذاقات من الملوحة والحموضة والمرارة والدسم وما بينها، مما لا يحصى من الملامس والمذاقات. على أن الروائح لا توحي بأي لون أو صوت.‏

              4-ثم تأتي حاسة النظر، فتوحي الألوان والخطوط بمختلف الأحاسيس اللمسية والذوقية والشمية. على أن حاسة النظر إذا كانت لاتنبئنا على واقع التجربة ببعض ملامس الأشياء ومذاقاتها وروائحها إذا لم تدخل في نطاق تجاربنا السابقة عن طريق الذاكرة، فإن الألوان والظلال والأشكال لها في الحقيقة إيحاءات لمسية وذوقية وشمية، وإن لم تتطابق مع واقع هذه الأحاسيس نفسها. فيكفينا من لوحات عباقرة الرسامين أن توحي للعين بمختلف الملامس والمذاقات والروائح، إذا ما تمازجت ألوانها وظلالها وخطوطها على أيديهم، ولا روائح، ولا مذاقات ولا ملامس إلاّ أحاسيسهم يصبونها في لوحات. لتقف ريشة الفنان عند هذا السقف ، فلا تستطيع ألوانه وخطوطه وظلاله أن توحي بالأصوات، مالم تتدخل الذاكرة بصورة غير مباشرة عن طريق التداعي : (صورة عاصفة وضجيجها، جدول ماء وخريره).‏

              5-وأخيراً تأتي حاسة السمع في القاعدة المقلوبة إلى أعلى، ملتقى لجميع الأحاسيس. بعض الأصوات يوحي بأحاسيس لمسية معينة. وبعضها الآخر يوحي بأحاسيس ذوقية أو سمعية أو بصرية، ولكن ما أن تتداخل الأصوات الموسيقية وتتماوج على يد فنان عبقري، حتى تستطيع الأذن المرهفة الحس المدربة، أن تستوحي من الأعزوفة مختلف الأحاسيس والمشاعر الإنسانية التي خطرت في ذهن مبدعها الفنان. ولو لم تكن الأصوات الموسيقية أوعية زمنية معبأة بمختلف الأحاسيس والمشاعر، لكانت شيئاً لا يطاق من آليّ الاهتزازات والانعكاسات، لاحياة فيها ولانماء ولا إحساس انظر الشكل (2).‏

              لنخلص من هذا التصنيف إلى أن الأحاسيس اللمسية كامنة في الحواس جميعا، تشدها إلى الأرض وتربطها بالأحاسيس المادية. كما أن حاسة السمع تستوعب أحاسيس جميع الحواس، كناية عن قدرة الزمان على تجاوز المادة والمكان استيعابا لهما وفيضا عليهما. ومن هنا كان الزمان من حيث وعينا له يتصف بالوحدة والعمق. تكثيفا لمختلف الأحاسيس والانفعالات في وحدات من الأصوات. بينما يتصف المكان بالتشتت والبعد: توزيعا لمختلف الأحاسيس على مختلف الحواس في صور مادية محسوسة.‏

              وهكذا تتداخل الأحاسيس مع المشاعر الإنسانية عن طريق التجربة والمعاناة من خلال معانيهما:‏
              إذا الشعب يوما أراد الحياة
              فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
              و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
              و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

              تعليق


              • #8
                رد: خصا ئص الحروف العربية ومعانيها

                الفصل الثاني أصوات الحروف العربية وإيحاءاتها الحسية والشعورية



                بيني وبين علماء اللغة .‏

                على الرغم من أن علماء اللغة الذين قالوا إنَّ لغتنا مأخوذة مباشرة عن الطبيعة، وأصّلوا على ذلك، أنّ معنى اللفظة مستفاض عن صورتها الصوتية، فإن أحدا منهم لم يربط يبن أصوات الحروف وبين الحواس الخمس والمشاعر الإنسانية.‏

                ولئن كان بعضهم قد أسند إلى أصوات الحروف بعض الإيحاءات اللمسية والبصرية والصوتية، فإن أحدا منهم لم يسند إليها أيّ إيحاء بإحساس ذوقي أو شمي.وباستثناء الأرسوزي، فإن أحداً منهم لم يسند إليها أيّ إيحاء بمشاعر إنسانية. وهذا يعني كما سبق وألمحنا إلى ذلك، أن جميع الألفاظ الدالة على أحاسيس ذوقية وشمية ومشاعر إنسانية، إنما هي مصطلحات على معان. الأمر الذي يتناقض صراحة مع ما ذهبوا إليه من أن لغتنا مأخوذة عن الطبيعة ماديها وإنسانيها، وأنّ معاني الألفاظ هي محصلة موحيات أصوات حروفها.‏

                لذلك، وقبل أن أتحدث عن الإيحاءات الحسية والشعورية في أصوات الحروف العربية، أرى من المفيد أن أتحدث أولا عن مسألة الاستيحاء، مادامت هذه المسألة هي مرتكز هذه الدراسة.‏

                1-فما الاستيحاء؟‏

                الاستيحاء هو عملية نفسية من اختصاص المشاعر الإنسانية. وعلى الرغم من أنني عقدت فصلاً خاصاً عن الشعور في هذه الدراسة، فإني أرى من المفيد أن أتطرق منذ الآن بشيء من الإيجاز إلى دور الشعور في عملية استيحاء المعاني والتعبير عنها، ولو ببعض الأمثلة.تمهيد لابد منه لمتابعة الحديث عن إيحاءات أصوات الحروف العربية وخصائصها الحسية والشعورية.‏

                فلو شاهدنا مثلا صديقاً حميماً يصارع منافساً له، وأطلقنا النّفس على سجيتها، إذن لصدرت عنا بصورة عفوية مختلف الحركات والأصوات التي تعبّر عن انفعالاتنا الشعورية عبر مواقف الصديق في مراحل صراعه، وكأنّ الأمر أصبح بيننا نحن وبين ذلك المنافس. هذه العملية الشعورية يسميها علم النفس، التقمص الشعوري، أو المشاركة الوجدانية، حيث يسقط الإنسان فيها مشاعره على الآخرين. ولو أردنا أن نعرّف أجنبياً لانفهم لغته ولا يفهم لغتنا، بشيء معين من الأشياء، لاضطررنا إلى تقمص مادة ذلك الشيء والاتحاد بها، لنستخلص منها خصائصها الذاتية من ملمس، أو مذاق، أو رائحة ، أو شكل، أو صوت، لنعبّر عنها للأجنبي بالحركات والأصوات الملائمة كيلا يخطئ في تشخيص الشيء المراد وتحديده. فهكذا تقمّص العربي الفجر أشياء العالم الخارجي وأحداثه على الطبيعة، ليعرّف أبناء مجتمعه بها بشتى الحركات والأصوات التي تعبّر عن خصائصها الحسية، فلا يخطئون بعد ذلك في معرفة معاني تلك الأصوات والحركات. لتسقط الحركات الجسدية عبر مراحل تطور اللغة ويستعاض عنها بنبرات أصوات الحروف إيحاء، أو بحركات أعضاء جهاز النطق تمثيلاً أثناء التلفظ بتلك الأصوات. لابل إن عملية التقمص الشعوري هذه ، لابد أن يمارسها كل فنان وشاعر وأديب كيما يستوحي من مواضيع تأمله مختلف الأحاسيس والمشاعر الأصيلة التي تتضمنها، ليعبر عنها بصدق، سواء في تماثيل أو لوحات أو قصائد أو ألحان. وهكذا كان العربي بحكم نشأته اللغوية الفطرية هذه ، أبرع شعراء العالم وأدبائه في وصف الطبيعة. فكان لكل من السيف والرمح والناقة والفرس والكلب والذئب والأسد والريح والغيم، وما إلى ذلك من مظاهر الطبيعة، عشرات وربما مئات الأوصاف، قد تحولت لصدق دلالتها عليها إلى أسماء. وهذا مصداق لنظرية العلاّمة (ريبو)، القائلة بأن الصفة هي أول ما ظهر في اللغة الإنسانية، ثم تلتها أسماء المعاني، وأسماء الذوات، ثم ظهرت الأفعال (علم اللغة للدكتور وافي ص113).‏

                وإذن لقد أصبح من الممكن الآن، أن نتصور أن العربي في مراحله اللغوية المبكرة' عندما شاهد جملاً مثلاً، قد أسقط عليه مشاعره (التقمص)، ليعبر عن أحاسيس الضخامة والارتفاع التي تركها في نفسه بالحركة المناسبة من يديه مع صوت معين فيه شيء من الضخامة والفلطحة، فكان له من ذلك صوت الجيم (الشامية لا القاهرية). لتسقط الحركات الجسدية مع تطور اللغة العربية، ويستعاض عنها بأصوات إضافية من الحروف.‏

                وهكذا تقمّص العربي أوضاع الأشخاص والأشياء والحيوانات والأحداث الخارجية ليعبر عما أثارته في نفسه من أحاسيس ومشاعر إنسانية بأصوات الحروف الأبجدية. وهذا ما عناه ابن جني بعبارته الذكية (حذوا لمسموع الأصوات على محسوس الأحداث).‏

                وإذن لقد اعتمد العربي شعوره للاهتداء إلى أصوات حروفه واستخلاص معانيها، استيحاء من العالم الخارجي بروح فنية خالصة، وليس بملكة (عقلية-هندسية).‏

                2-ثم كيف أبدع العربي ألفاظه للتعبير عن معانيه؟.‏

                بعد أن اهتدى العربي إلى أصوات حروفه ومعانيها، بقي على فطرته البدوية يتقمص الأشياء والأحداث لاستشفاف خصائصها الذاتية. وهكذا أخذ ينتقي الحروف التي تتلاءم إيحاءاتها الصوتية مع تلك الخصائص، ولكن وفق ترتيب معين يماثل تراكيب الأشياء، كما في كلمات (باب، بير، طبل) ، أو يماثل حركات الأشياء، كما في (رفرف، زلزل، لحس، بحث)، ليتحول المدرج الصوتي بذلك، من أول الحلق داخلاً حتى أخر الفم في الشفتين خارجاً إلى حلبة رقص. وهكذا يتحول الصوت ذاته إلى راقص ينتقل برشيق (أقدامه) على مخارج الحروف، إلى الأمام أو الوراء، إلى فوق أو تحت، وإلى اليمين أو ذات اليسار، ليصور الصوت بذلك الأشياء والأحداث بحركات إيمائية تمثيلية مسموعة غير منظورة. وهكذا تتحول اللفظة العربية إلى رقصة صوتية بارعة، لا توحي بمعناها الأصيل فحسب، وإنما تجسّده أيضاً، مما لا يقدر على ذلك راقص ولا ممثل أو فنان.‏

                وهذا ما عناه ابن جني عندما أخذ يشرح قاعدته الذهبية: (تصاقب الألفاظ، لتصاقب المعاني).فالعربي بعد أن يختار الحروف التي تتوافق أصواتها مع الحدث الذي يريد التعبير عنه، يقوم بترتيبها في اللفظة على أساس أن يقدم الحرف الذي يضاهي (أي يماثل) أول الحدث، ويضع في وسطها ما يضاهي وسطه، ويؤخر ما يضاهي نهايته. وذلك (سوقا للحروف على سمت المعنى المقصود والغرض المراد).كما عرض ذلك في مثال (بحث) في كتابه (الخصائص ج 2ص 162-163).‏

                كما أعتمد ابن جني هذه القاعدة في تعليل الفرق بين (قدّ) طولاً ، و(قطّ) عرضا بقوله: (ذلك أن الطاء أخصر للصوت وأسرع قطعاً له من الدال. فجعلوا الطاء المناجزة (أي ذات المخرج الصوتي القريب من مخرج القاف)للقطع عرضاً. أما الدال المماطلة (أي ذات المخرج الصوتي البعيد عن مخرج القاف)، فقد جعلوها لما طال من الأثر، وهو قطعه طولا). (المرجع السابق ص158).‏

                3-ولكن كيف نستوحي نحن معاني الحروف من أصواتها؟.‏

                إذا كان العربي الفنان قد لجأ فعلاً إلى تقمص أشياء العالم الخارجي وأحداثه على وجه ما شرحناه للاهتداء إلى أصوات حروفه ومعانيها بوسيط من مشاعره، فإنه لابد لنا نحن أن نهتدي بالمقابل إلى معاني هذه الحروف بالذات فيما لو تأملنا صدى أصواتها في مشاعرنا، ولكن شريطة أن يتمتع ذلك العربي بأصالة فنية إبداعية، وأن نتمتع نحن بأصالة فنية تذوقية موازية. ومعاجم اللغة العربية هي المحكّم في هذه القضية.‏

                وتأمّل صدى أصوات الحروف في المشاعر، إنّما هو عملية استبطان صريحة.‏

                وإذن ما الاستبطان؟.‏

                الاستبطان، كما يقرر علم النفس ، هو انعكاس الشعور على الشعور، إنه إحساس بالإحساس وتأمل باطني لما يجول في الذهن، (مبادئ علم النفس للدكتور يوسف مراد ص14).‏

                وهكذا فالاستبطان هو استخدام الشعور كملكة وعي لادراك هذه الحالات الشعورية والأحاسيس التي تعتمل في نفوسنا.‏

                وإذن ، فإن استيحاء معاني الحروف من أصواتها، إنما يتم عن طريق الاستبطان، وذلك بانعكاس شعورنا على المشاعر والأحاسيس التي تثيرها أصوات الحروف في نفوسنا. وهذا ما عناه الأرسوزي بعبارته: (صدى أصوات الحروف في وجداننا).‏

                فلو تأملنا صدى صوت (الجيم) في نفسنا مثلاً، أي لو استبطناه، لاوحى لنا بالضخامة كإحساس بصري، وبشيء من الطراوة والحرارة كإحساس لمسي. وهذا ينسجم مع مايوحيه منظر الجمل وملمسه، لابل ورائحته الدسمه أيضاً. وهكذا أطلق العربي بالفعل لفظة (الجيم الشامية)، على الجمل الهائج. ولقد بدأت بهذا الحرف أسماء كثير من الحيوانات (الجاموس، الجحش، الجدي، الجرو، الجيأل للضبع، الجؤزر لولد البقرة الوحشية....).‏

                وهناك أصوات حروف أكثر تعقيداً وأصعب استبطاناً من حرف (الجيم) مثل الصاد- الضاد- العين-الغين-الهاء....كما سنرى .‏

                علماء اللغة وخصائص الحروف العربية:‏

                لقد تبين مما تقدم أن استيحاء معاني الحروف العربية بالرجوع إلى خصائص أصواتها عن طريق الاستبطان، فيه الكثير من المشقة والمخاطرة. ولعل هذا السبب هو الذي جعل علماء اللغة يتجنبون هذه العملية الصوتية النفسية كمنهج لهم، وإن كان لامفر لهم من معاناتها، ولو في صور من رهافة السمع والتذوق الأدبي الرفيع.‏

                ولقد نشرت لي مجلة المعرفة السورية في عددها(407) لشهر آب 1997 دراسة مطولة بعنوان ( فطرية العربية على موائد علمائها). عرضت فيها خلاصة ماجاء به خمسة من القائلين بفطريتها وهم :( ابن جني، وأحمد فارس الشدياق، وعبد الحق فاضل، والعلايلي، والارسوزي) .‏

                وقد بينت فيها بعضاً من ايجابيات وسلبيات ما توصلوا إليه حول فطرية العربية وخصائص حروفها.‏

                لذلك وحذر الأطالة اكتفي هنا بالحديث الموجز عن مناهج ثلاثة منهم للكشف عن بعض الثغرات فيها، ممايشير إلى صعوبة التعامل مع خصائص الحروف العربية ومعانيها، ومن ثم لمقارنتها مع نهجي الخاص بهذا الصدد. وهؤلاء الثلاثة هم (ابن جني-عبد الله العلايلي-زكي الارسوزي).‏

                اولاً-حول منهج ابن جني: في كتابه الخصائص.‏

                لقد لجأ ابن جني إلى استخلاص معاني الحروف العربية من معاني الألفاظ، بدلاً من الاتجاه مباشرة إلى تأمل صدى أصواتها منفردة في وجدانه. ولقد استهدى في ذلك تارة بقاعدته الذكية: (لا ينكر تصاقب الألفاظ، لتصاقب المعاني). أي تقارب الأصوات لتقارب المعاني. كما استهدى تارة أخرى بقاعدته الأذكى (سوقاً للحروف على سمت المعنى المقصود والغرض المراد).. ومع ذلك لم ينج مع هاتين القاعدتين المستحدثتين من عمليات الاستبطان من التناقض حيناً بمعرض الكشف عن خصائص الحرف الواحد، ولامن الخطأ حيناً آخر في تعيين خصائص بعض الحروف ومعانيها.‏

                فلقد ضرب ابن جني لتحديد معاني الحروف وخصائصها، الأمثلة التالية:‏

                (القاف) فيه صلابة، وفي (الخاء) رخاوة. هذا صحيح. إلا أنه يعود فيقول:‏

                (الحاء) فيه رقة، وفي (الخاء) غلظة. فقيل للماء القليل نضح بمعنى رشح، ونضخ للماء الغزير، بمعنى اشتد فورانه في ينبوعه. فكيف يجتمع في حرف (الخاء) خاصيتا الرخاوة والغلظة، وهما متناقضتان؟.‏

                كما قال ابن جني أيضاً:‏

                الهمزة في (أزّ) ، أقوى من (الهاء) في (هزّ).‏

                وهنا اكتفى ابن جني بالكشف عن خاصية القوة الانفجارية في صوت (الهمزة)، وعن خاصية الضعف في صوت (الهاء) . وفي الحقيقة، إن صوت الهمزة يوحي بالبروز والنتوء، أكثر مما يوحي بالقوة، كما سوف نرى في دراستها. ولفظة (أزّ) معناها لغة (تحرك واضطرب)، وهما صورتان مرئيتان . والقوة في (أزّ) تعود إلى فعالية )(الزاي) المشددة، ليقتصر دور الهمزة على إظهار فعالية الزاي في صورة مرئية تشاهد بالعين. كما أن لفظة (هزالشي هزا)، بمعنى حركه بشيء من الشدة، مدينة بما في معناها من شدة للزاي المشددة، أما الهاء فهي للاضطرابات. وإذن فالشدة في كلتا اللفظتين تعود أصلا إلى (الزاي) المشددة، بفارق من أن الهمزة للظهور والبروز والهاء للاضطرابات والانفعالات النفسية. على أن شخصية الهاء من حيث تأثيرها في معاني الألفاظ التي تتصدرها، إنما هي على خفوت صوتها، أقوى بكثير من شخصية الهمزة في هذا المضمار، على الرغم من جهارة صوتها وانفجاريته، كما سوف نرى في الحديث عن الهمزة والهاء.‏

                كما إن قيام ابن جني بتحديد معاني الحروف عن طريق المقارنة بين معاني الألفاظ أخذا بقاعدته (تصاقب الألفاظ لتصاقب المعاني)، على وجه ماسبق ذكره، قد أوقعه في أخطاء كثيرة، كما في قوله:‏

                العين في (عسف)، أخت الهمزة في (أسف)، وأضعف منها.‏

                وسنرى أن العين حرف شعوري، والهمزة حرف بصرى، فأين الإخاء بينهما؟.‏

                كما قال: الباء في (علب) أخت الميم في (علم). والدال في (قرد) أخت التاء في (قرت) والزاي في (علز) أخت الصاد في (علص). والسين والحاء في (سحل) أختا الصاد والهاء في (صهل) . الخصائص -الجزء الأول-ص145-160).‏

                كل ذلك بمعنى تقارب معاني الحروف لتقارب مخارجها الصوتية ، وإن تفاوتت في القوة والشدة. وسوف نرى وكأنه لا علاقة ولاقربى معنوية بين هذه الحروف الإخوة أحياناً كثيرة، إلا كتلك التي كانت بين قابيل وهابيل.‏

                ولو أن ابن جني تأمل صدى أصوات الحروف في نفسه لمعرفة خصائصها، لما وقع في هذه الأخطاء لمجرد تلك المصادفات من تقارب المعاني لتقارب الألفاظ في بعض الأحيان.‏

                ثانياً-حول منهج العلايلي في كتابه: تهذيب المقدمة اللغوية‏

                لقد حدد العلايلي معاني حروف الجدول الهجائي(بما تسمح به النصوص) دون أن يعتمد صدى أصواتها في نفسه. ولذلك غابت عن معاني حروف جدوله بصورة عامة خصائص أصواتها الحسية والشعورية كما سنرى. ونحن لانتهم العلايلي بالعجز عن استبطان أصوات الحروف، فلقد قرر مثلاً، أن (اللام) معناه الملاصقة والمساس، وذلك بمعرض تحليله لمعنى لفظة (جبل).(ص47من المقدمة). وهذا صحيح . ولكنه يعود فيقرر في جدول معاني حروفه: (إن اللام يدل على الانطباع بالشيء بعد تكلفة) المقدمة (ص64).‏

                فأين معنى الملاصقة والمساس المستوحى من صوت اللام، من معنى الانطباع بالشيء بعد تكلفة المستخلص مما (سمحت به النصوص)؟.‏

                ولعل العلايلي قد رأى أن اعتماد النصوص المحفوظة في استخراج معاني الحروف هو أقل شططا ومخاطرة وأسلم عاقبة من استخراج معانيها عن طريق صدى أصواتها في النفس. ولكن نهجه هذا هو أقل دقة وأكثر شططا كما سنرى في دراسة الحروف.‏

                ثالثاً-حول منهج الارسوزي:‏

                وهكذا كان الارسوزي هو الوحيد الذي اعتمد قاعدة صدى الاصوات في الوجدان لاستيحاء معاني الحروف. ولكنه وقف جل اهتمامه على استيحاء معاني الالفاظ العربية من صدى جملها الصوتية في نفسه، فلم يولِ الحروف العربية إلا القليل من عنايته منصرفاً إلى المقاطع الثنائية، وذلك على العكس مما فعل العلايلي الذي بدأ بالحروف العربية، ومنها انتقل إلى المقاطع كما مر معنا، ولذلك قد اقتصر الارسوزي على تحديد خصائص أحد عشر حرفاً فقط، وباقتضاب شديد كما سنرى.‏

                حول المنهج الذي ابتعته في استيحاء معاني الحروف العربية:‏

                لقد سبق أن بينت أنّ الحروف العربية كأصوات فطرية مقتبسة من الطبيعة (المادية أو الانسانية)، لابد أن توحي بمختلف الأحاسيس الحسية والمشاعر الإنسانية.‏

                وإذن فإن منهجي يقوم على الاستبطان الشعوري لاستيحاء الخصائص الصوتية لكل حرف. خطوة أولى لابد منها للكشف عن معانيه. وهكذا يتلخص منهجي في مرحلتين اثنتين:‏

                أ-المرحلة الأولى:‏

                أقوم باستيحاء خصائص صوت كل حرف بتأملّ صداه في نفسي بعد تفخيمه، عودة به إلى طريقة النطق بصوته حين أبدعه العربي للتعبير عن معانيه. وذلك بأن أسلط عليه أحاسيس الحواس الخمس- ومختلف المشاعر الإنسانية، فأتحرى مختلف خصائصه الحسية، ثم الشعورية.‏

                فإذا وجدت في صوته ما يوحي بإحساس لمسي، بحثت عن شتى لمسياته، من ليونة أو صلابة أو خشونة أو برودة أو حرارة..كما أنني أتبع هذا النهج بالذات لاستخلاص موحياته الذوقية والشمية والبصرية والسمعية والشعورية .‏

                فإذا اقتصرت إيحاءات صوت حرف ما على اللمسي فقط، صنفته في فئة الحروف اللمسية، وإذا تجاوزت هذه الايحاءات حاسة اللمس فوقفت عند الحدود الذوقية أو الشمية أو البصرية أو السمعية ، صنفته في الطبقة العليا التي تنتهي عندها ايحاءاته صعوداً.‏

                على أنني قد تخطيت هذه القاعدة مع بعض الحروف، فصنفت بعضها في الطبقة الأدنى وصنفت بعضها الآخر في الطبقة الأعلى لأسباب خاصة تتعلق بطبيعة الحرف أو ببعض خصائصه المتميزة، كما سيأتي .‏

                وهكذا توصلت إلى توزيع الحروف العربية بين الحواس الخمس والمشاعر الانسانية، فكان لكل منها حرف أو أكثر عدا حاسة الشم التي لم تختص بحرف معين وإن كان ثمة أكثر من حرف يوحي صوته بأحاسيس شمية.‏

                وإذن، فإن هذا المنهج يتميز عن سواه من المناهج بالكشف عن الرابطة الفطرية بين أصوات الحروف العربية وبين الحواس الخمس والمشاعر الإنسانية.‏

                أما المنهج الموازي الذي اعتمدته أيضاً في استخراج معاني الحروف من طريقة النطق بها إيماء وتمثيلاً، فإني لم اهتد إليه إلا مصادفة بعد إنجاز هذه الدراسة للمرة الأولى. وذلك عندما أخذت في مراجعة معاني المصادر التي تبدأ بحرف (الفاء). فلقد تبين لي أن تلك المعاني تتجافى مع موحيات الضعف والوهن في صوت الفاء، خلافاً لما نهج عليه العربي في تحديد معاني حروفه وفقاً لصدى أصواتها في النفس. فانتبهت إلى ظاهرة التوافق بين معاني المصادر التي تبدأ بالفاء، من شق وفصل وتوسع ، وبين طريقة النطق بهذا الحرف، كما مر معنا في بحث الجذور الزراعية في الحروف العربية(الحرف العربي والشخصية العربية ص131 ومابعدها).وكما سيأتي لاحقاً في دراسة حرف (الفاء).‏

                ب - المرحلة الثانية:‏

                وبعد أن أحدد الخصائص الصوتية والإيمائية التمثيلية لكل حرف على وجه مامر معنا في المرحلة الأولى، أقوم باستخراج المصادر التي تبدأ بكل حرف مع معانيها، أقوياً كان الحرف أم ضعيفاً. أما الحروف التي في أصواتها رقة وشاعرية، فلقد نهجت على استخراج المصادر التي تنتهي بها أيضاً، حيث تكون هنا أوحى بمعانيها، كما عمدت إلى استخراج معاني المصادر التي تنتهي ببعض الحروف القوية وكذلك المصادر التي تتوسطها أحرف (ظ-ص-ض-خ-ح-هـ-ع) ، وذلك للتثبت من مدى قوة شخصياتها.‏

                وبمقارنة معاني المصادر التي تبدأ بحرف ما مع معاني المصادر التي تنتهي به، تبين لي أن تأثير كثير من الحروف في معاني المصادر يختلف بحسب مواقعه منها، وذلك لتغير تمثيلها الإيمائي أو إيحائها الصوتي في الموقعين. مما يقطع بأن العربي لم يعط أصوات حروفه قيماً رمزية محددة، ولا معاني مطلقة أيضاً، وإنما ترك ذلك لإيحاءاتها الصوتية، ولطريقة النطق بها أنى كانت مواقعها من الكلمة. وهذا يتطلب حساسية سمع ورهافة في الشعور، ونباهة وانتباها دائبين.‏

                وهنا لابد لي من وقفة قصيرة لتوضيح نهجي في انتقاء هذه المصادر.‏

                لقد اقتصرت تقصياتي على الأفعال أو الأسماء العربية القحّة، مما ليس مولداً بعد عصر الرواية والتدوين، أو معرّباً عن لفظ اجنبي، أو دخيلاً دون تعريب أو عامياً أو اسماً لحشرة أو نبات ليس وصفا لفعل أو اسم . ولقد اخترت من هذه الأفعال والأسماء، ماقدّرت أنه هو الألصق جذوراً بالأرومة الأم. كما اخترت من مختلف معاني المصدر الذي وقع عليه الخيار المعنى الحسي لقربه من أصالة اللفظة العربية وفطريتها، مبتعداً ما أمكنني عن المعاني المجازية وإن كانت هي الشائعة الاستعمال حالياً. وذلك لأن غالبية أرومات الألفاظ العربية قد أبدعت في عهود سحيقة تعود إلى مرحلة الرعي، اقتباساً من أشياء وأحداث محسوسة، أو انفعالات هيجانية فطرية، كما سبق ولحظنا ذلك في بحث (الجذور الغابية والزراعية والرعوية في أصوات الحروف العربية) المرجع السابق ص125ومابعدها ).‏

                وهذا المنهج في انتقاء المصادر هو المنهج الموضوعي الصحيح، لأنه هو الألصق بواقع نشأة اللغة العربية، فعندما كان العربي يحتاج إلى التعبير عن معان معنوية مجردة في مراحل ثقافية واجتماعية متطورة لاحقة، كان يجد نفسه مضطراً إلى البحث عن اللفظة المناسبة في جذور مابين يديه من المصادر، مما يتوافر فيها رابطة ما بين الوظيفة المحسوسة للفظة وبين الوظيفة الذهنية للمعنى المجرد المراد، كما في لفظة (عقل) البعير (ربطه بالعقال) على الطبيعة، وعقل الأشياء أدركها على حقيقتها (بذهنه).‏

                وهكذا نرى أن الرابطة الذهنية بين المعنيين تتجلى في التماثل بين وظيفة العقال في ربط البعير في موضعه، وبين وظيفة العقل في ربط الأشياء بحقائقها. فالربط إذن هو العامل المشترك بين العقل المجرد والعقال المحسوس، وما أصدقه من حدس فلسفي. وكما في غفر الشيء(ستره) ، وغفر الذنب (محاه) ، واللغة العربية مليئة بهذه الشواهد من الأمثلة. فنادراً جداً مانجد معنى مجرداً ليس مستنبطاً من معنى حسي.‏

                وهذه الطريقة التي اتبعها الإنسان العربي بمعرض التعبير عن معانيه الذهنية، تعود أصلاً إلى استحالة تقمص هذه المعاني لإبداع الصور الصوتية الملائمة لها، على مثال ماكان يفعل بصدد الأشياء والأحداث الخارجية المحسوسة .‏

                وهذه الظاهرة اللغوية الحسية، ليست مقتصرة على العربية فحسب، وإنما هي مشتركة بين مختلف اللغات السامية(فقه اللغة للدكتور وافي ص13-14).‏

                وما كان أشق عملية اختيار المصادر ومعانيها. فمن ألفين وتسعمئةٍ وستين مصدراً ومشتقاً تبدأ بحرف النون عثرت عليها في المعجم الوسيط مثلا، وقع اختياري على ثلاثمئة وثمانية وستين مصدراً فقط (فعلا أو اسما) اعتبرتها مصادر. ومن المعاني العديدة المتداخلة لكل مصدر، اخترت معنى واحداً، وفي قليل من الأحيان معنيين اثنين، كما أشرت إلى ذلك في المقدمة، وكما سيأتي في دراستها.‏

                ثم بعد أن أستخرج المصادر التي تبدأ أو تنتهي بحرف ما على وجه مابينت آنفا، أقوم بتصنيفها في جداول خاصة تجمع بين معانيها رابطة حسية أو معنوية، وذلك للتثبت من أمور ثلاثة:‏

                أ-مامدى تطابق الخصائص الصوتية والإيمائية للحروف مع معاني المصادر المستخرجة؟.‏

                ب-ما نسبة هذا التطابق؟ وذلك لمعرفة مدى قوة شخصية كل حرف.‏

                ج-مامدى التزام الحرف موضوع الدراسة بطبقته الحسية؟. وإذا تجاوزها في بعض المصادر فما الأسباب؟.وهكذا فإن مطابقة الخصائص الصوتية والإيمائية للحروف العربية على معاني جميع المصادر التي تبدأ أو تنتهي بها، إنما هي ميزة موضوعية لمنهجي هذا، لم يجشم أحد من الباحثين نفسه مثل هذا العناء.‏

                وفي الحقيقة، إن استخراج جميع المصادر الجذور التي تبدأ بحرف ما أو تنتهي به، على وجه مابينت آنفا، ومن ثم تصنيفها في جداول تجمع بين معانيها رابطة حسية أو معنوية، إنما هو عمل في غاية الدقة والإجهاد والمخاطرة والمسؤولية، يحتاج إلى فريق متكامل من ذوي الاختصاص.‏

                ماعلة انطباع اللفظة العربية بطابع الحرف القوى الذي تبدأ به، أو بطابع الحرف الرقيق الذي تنتهي به؟:‏

                من البداهة أن يلاحظ العربي ذوالحساسية السمعية فائقة الرهافة في بيئة صحراوية غير ملوثة بالضجيج، أنّ الحرف القوي يأخذ صوته أقصى إيحاءاته في القوة والشدة والفعالية والغلظة، عند مايقع في أول اللفظة. إذ لابد للصوت أن يشد على أي حرف يقع في أولها أكثر مما يشد عليه في وسطها، ليشد عليه أقل مايكون الشد في نهايتها.‏

                وهكذا ، فإن الحروف ذات الأصوات الرقيقة لابد أن تكون أكثر ايحاء بالرقة والأناقة والدماثة وما إليها عندما تقع في نهاية الألفاظ. فأصواتها تكون هنا أكثر خفوتا ورقة منها في أي موقع آخر. ولهذا السبب بالذات، لابد أن يختلف تأثير الحرف الواحد، رقيقاً كان أم قوياً في معاني الألفاظ، بحسب موقعه من اللفظة كما سيأتي .‏

                وإذن فإن الحروف التي تقع في أواسط الألفاظ تكون غالباً أقل تأثيراً في معانيها. وهذا يتفق مع ماذهب إليه العلايلي، من أن الحرف الذي زيد على الثنائي للانتقال إلى الثلاثي هو الوسط في الأعم الأغلب. أما ابن جني فقد رأى أن الحرف الوسط هو الأقوى. وذلك لأن الفعل في رأيه، يتكرر بتكراره(قسّم. علّم. درّس..)(الخصائص ج2 ص155). وفات ابن جني أن القوة تتجلى بطبيعة الفعل الأول نفسه وليس في تكراره. ليبقى رأى العلايلي هو الأقرب إلى الصحة، وإن كان لنا رأى مخالف كماسيأتي .‏

                ولكن هل تكفي هذه الحساسية السمعية لتعليل انطباع (50-92%) من الألفاظ بالخصائص الصوتية لحرف قوى ما تبدأ به ، أو لحرف رقيق آخر تنتهي به؟.‏

                فكيف استطاع العربي أن يبدع هذه السلسلة الطويلة من المصادر التي تنطبع معانيها بطابع الحرف الأول أو الأخير، مع المحافظة على دور بقية الحروف في توضيح هذه المعاني وتلوناتها؟؟.‏

                كيف تسنى للعربي أن يبدع هذه اللغة على هذه الشاكلة منذ آلاف الأعوام؟.‏

                هنا لابد لنا من التسليم برأي علماء اللغة الذين قالوا بأن اللغة العربية بدأت بأصوات الحروف، ثم تدرجت إلى الثنائي فالثلاثي، فكثيرات الحروف.‏

                وإذن أصبح من السهل أن نتصور أن العربي عندما أبدع صوت حرف قوي، للتعبير عن معاني القوة والفعالية والشدة (د.ق.ز...) في دور المقطع البسيط من حرف واحد، قد أضاف إليه حرفاً ثانياً يساعده في تلوين معناه في دور المقطعين من حرفين اثنين. ولما كانت معاني الشدة والفعالية هي المقصودة، فلقد كان من البدهي أن يضع الحرف الجديد في آخر المقطعين. كما أن العربي أبقى حرفه القوى هذا في مقدمة المقاطع عندما انتقل به إلى الثلاثي فالمزيدات.‏

                وهكذا كان نهج العربي مع الحروف الرقيقة، ولكن بالإبقاء عليها في آخر اللفظة كيما تكون هناك أوحى بخصائص الرقة والليونة والأناقة وما إليها. ليضع الحروف الإضافية الجديدة قبلها عبر تطور اللغة العربية من الأحادي إلى الثنائي فالثلاثي فالمزيدات. وعلى الرغم من ذلك فقد شذّ عن هذه القاعدة ألفاظ كثيرة، لم تنطبع معانيها بخصائص الحروف القوية التي تبدأ بها، أو الرقيقة التي تنتهي بها. فلم ذلك؟.‏

                إذا استثنينا الأخطاء في نقل الألفاظ العربية في مرحلة التدوين لتصحيف سمعي، (لاختلاف اللهجات العربية في لفظ بعض الحروف)،أو لتصحيف بصري، (لافتقار كتابة الألفاظ إلى التنقيط)، فإن هذا الشذوذ يرجع في الأعم الأغلب إلى تزاحم الحروف المشاركة في اللفظة على معانيها. فقد يجتمع في اللفظة الواحدة الحرف القوى مع الضعيف، والرقيق مع الخشن، والأنيق مع الفظ الغليظ وما إلى ذلك. ولئن كانت الغلبة في كثير من الأحيان للقوة والغلظة والخشونة، فإنه قد يطغى إشعاع حرف شاعري نبيل أنّى كان موقعه، على موحيات العتامة والفظاظة والفجاجة في بقية الحروف. وشأن هذا الشذوذ في دنيا اللغة، كشأنه في دنيا المجتمع العربي نفسه، آدباء وشعراء ورجالاً مصلحين.‏

                حول تصانيف الحروف العربية وفقا لخصائصها الصوتية:‏

                لقد صنّف علماء اللغة العربية أصوات الحروف في مجموعات كثيرة، تارة بحسب مخارجها وتارة بحسب كيفية النطق بها، وتارة ثالثة بحسب سهولة أو صعوبة النطق بها وما إلى ذلك. على أنني سأكتفي منها جميعا بأربعٍ : هي:‏

                1-الأصوات الصامتة والصائتة:‏

                الأصوات الصامتة هي جميع الحروف الهجائية، باستثناء الصائتة.‏

                والأصوات الصائته هي (الألف، الواو، الياء..). ويقال لها تارة حروف اللين، وتارة أخرى الحروف الهوائية أو الجوفية، وهي حروف غابية النشأة كما أسلفنا‏

                2-أصوات الحروف بحسب مخارجها:‏

                لقد أدرك علماء اللغة العربية، ولاسيّما القدامى منهم، الأهمية العظمى لهذا التصنيف فعقدوا بشأنه البحوث الطويلة لاختلافهم في مخارج بعض الحروف.‏

                وفي الحقيقة إن تحديد المخرج الصوتي لكل حرف بدقة هو وحده الذي يحافظ على أصالة أصوات الحروف العربية، فلا يختلف عما نطقت بها الأجيال العربية الأولى، ليحافظ بذلك كل حرف على صدى صوته البكر في نفس العربي الذي استوحى منه معانيه الأصلية، فيظل هذا الحرف يوحي لنا نحن بذات المعاني، فتحافظ اللغة العربية بذلك على فطرتها. وهكذا فإننا بالمقابل نستطيع اليوم أن نحسم الخلاف الذي وقع بين علماء اللغة حول مخارج أصوات بعض الحروف، لابل وأن نصحح النطق بكل حرف. وذلك بالعودة إلى تأثيره في معاني الألفاظ التي تبدأ أو تنتهي به، كما سوف نرى في أحرف الجيم والهاء والعين. وإذن فإن هذا التصنيف الذي يحافظ على أصالة أصوات الحروف العربية من شأنه أن يحافظ على أصالة اللفظ العربي، وعلى وحدة اللسان العربي، مهما تتعدد أقطاره وتتباعد، ومهما يمتد به الزمن ويتمادى.‏

                ولقد اعتمدت في تصنيف مخارج أصوات الحروف مااتفقت عليه الأكثرية من قدامى اللغويين لقرب عهدهم بالنطق العربي الأصيل، وإن لم يكن هو الأصوب دائماً، كما سنرى ذلك بمعرض المقارنة بين معاني الحروف وخصائص أصواتها.‏

                ولمعرفة مخرج صوت الحرف: يسكّن ويشدّد، فحيث ينقطع الصوت يكون مخرجه. وهذه المخارج هي:‏

                1- الأحرف الحلقية: الهمزة الهاء. العين. الحاء . الغين. الخاء. (إلا أن الدكتور أنيس يعتبر الهمزة مزمارية وليست حلقية، لتشكل صوتها عند فتحة المزمار. كما أن الفراهيدي وابن سينا والعلايلي يقدمون العين على الهاء)‏

                2-الأحرف اللهوية: القاف. الكاف (اللهاة، تقع بين الحلق والفم).‏

                3-الأحرف الشجرية: الجيم . الشين. الياء غير المدّية (بين وسط اللسان وما يقابله من الحنك الأعلى).‏

                4-الأحرف الزلقية: اللام. النون المظهرة. الراء (زلق اللسان طرفه).‏

                5-الأحرف النطعية: الطاء . الدال. التاء. (النطع هو سقف غارالحنك الأعلى.).‏

                6-الأحرف الأسلية: الصاد. السين. الزاي(مابين رأس اللسان وصفحتي الثنيتين العُلويتين ).‏

                7-الأحرف اللثوية: الظاء. الذال. الثاء (لخروجها من قرب اللثة).‏

                8-الأحرف الشفوية: الفاء . الباء. الميم. الواو غير المدية.‏

                9-الأحرف الخيشومية: النون الساكنة . النون والميم المشددان.‏

                10-الأحرف الجوفية أو الهوائية: الألف. الواو الساكنة المضموم ماقبلها. الياء الساكنة المكسور ماقبلها (الجوف هو فراغ الحلق والفم).‏

                3- الجهر والهمس:‏

                الحروف المجهورة على مايؤكده الدكتور ابراهيم أنيس نقلا عن علماء الأصوات المحدثين ، هي الحروف التي تتشكل أصواتها في الحنجرة باهتزاز وتريها الصوتيين اهتزازا منتظماً. ولمعرفة ذلك يلفظ الحرف مستقلاً عن غيره. وتوضع الأصبع فوق تفاحة آدم من الحنجرة، فإذا شعرنا باهتزاز الوترين كان الحرف مجهوراً، وإلا كان مهموساً. والأمر نفسه لووضعنا الكف على الجبهة.‏

                وقد حصر الدكتور أنيس والدكتور بشير المجهورة في الحروف التالية:‏

                (ب. ج.د.ذ.ر.ز.ض.ظ.ع.غ.ل.م.ن.).‏

                أما الأصوات المهموسة فهي:‏

                (ت.ث.ح.خ.س.ش.ص.ط.ف.ق. ك.هـ).‏

                4- الشدة والرخاوة وما بينهما:‏

                يقال لصوت حرف ما إنَّه شديد، إذا كان النفّس معه ينحبس عند مخرجه. وذلك بضغط الأعضاء التي تحدثه على بعضها. حتى إذا انفصلت فجأة، حدث الصوت كأنه انفجار، كما في انفراج الشفتين الفجائي في صوت الباء. ويسميها الدكتور بشير الحروف الانفجارية. وهي حسب رأيه:‏

                (أ.ب.ت.د.ط.ك. ق).ويضيف الدكتور أنيس إليها حرف (ج) القاهرية.‏

                والحروف الرخوة هي التي لاينحبس فيها النفّس. وهي مرتبة بحسب درجة رخاوتها: (س.ز.ص.ش.ذ.ث.ظ.ف.هـ. ح. خ) ويسميها الدكتور بشير الحروف الاحتكاكية. كما يضيف إليها حرفي (ع.غ)‏

                وأما الحروف المتوسطة بين الشدة والرخاوة فهي:‏

                (ر. ع. ل. م. ن.). (الأصوات اللغوية ص19-26).‏

                على الرغم من أن إيحاءات أصوات الحروف تتأثر إلى حد ما بشدتها ورخاوتها، أو بجهرها وهمسها، فإن المبادئ النطقية التي اتخذها علماء اللغة والأصوات في تصانيفهم لتقرير ماإذا كان صوت ما شديداً أو رخواً، قد لاتتوافق عمليا مع إيحاءاتها السمعية. فصوت حرف (التاء) مثلاً، وهو من الحروف الانفجارية، هل هو أشد وقعاً على السمع من أحرف الذال أو الظاء أو الزاي، وهي من الحروف الرخوة؟. وأصوات هذه الحروف الثلاثة هل هي أكثر إيحاء بالرخاوة من أصوات حرفي اللام والراء؟.‏

                التصنيف الذي اعتمدته تبعاً لإيحاءات أصوات الحروف الحسية والشعورية وطريقة النطق بها.‏

                هذا التصنيف إنما هو نتيجة حتمية لمقولة (فطرية اللغة العربية) التي خلصت منها سابقاً، إلى أن أصوات الحروف العربية لابد ان توحي بمختلف الأحاسيس الحسية والمشاعر الإنسانية .‏

                وهكذا فإن الرهان على فطرية اللغة العربية ينقلب إلى الرهان على صحة هذا التصنيف الجديد.‏

                ولابد لي هنا من التذكير مرة أخرى بصعوية استخلاص الخصائص الحسية أو الشعورية من أصوات الحروف. لذلك من المستحسن أن يردّد القارئ صوت الحرف موضوع الدراسة بشيء من التفخيم، المرة بعد المرة، وأن يتأمل صداه في نفسه وحبذا لو يسجل ذلك على شريط. ومن المفيد أن أنبه الآن أنه قد يكون لصوت الحرف الواحد ايحاءات حسية وشعورية مختلفة، نظراً لتعقد عملية النطق به واعتماد تشكل صوته على مساحة واسعة وفراغات متعددة في جهاز النطق. إلا أنني قد صنّفت الحروف تبعاً للخصائص الحسية أو الشعورية الغالبة فيها، أو وفقا لطبيعتها الصوتية الخاصة، أو حسب طريقة النطق بها، مشيراً إلى ذلك حينا وساكتا عنه حيناً أخر.‏

                أ-الحروف اللمسية :(ت. ث. ذ. د. ك.م).‏

                ب-الذوقية: (ر.ل)‏

                ج-الشمية:.........‏

                د-البصرية : (الألف المهموزة واللينة، ب.ج. س. ش. ط.ظ. غ.ف. و. ى)‏

                هـ-السمعية: (ز.ق)‏

                و-الشعورية غير الحلقية: (ص. ض. ن)‏

                ز-الشعورية الحلقية : (خ. ح. هـ. ع)‏

                يلاحظ في هذا التصنيف أنّ حاسة الشم لم تختص بأي حرف لتعبربه عن أحاسيسها، إلاّ أن هناك كثيراً من الحروف التي في أصواتها بعض الأحاسيس الشمية كما سيأتي‏

                كما يلاحظ كثرة الحروف البصرية واللمسية والشعورية ، وقلة الحروف السمعية، ليصدق في ذلك قول المثل العامي(الإسكافي حافي، والحائك عريان)‏

                وهذه الظاهرة ترجع في حقيقة الأمر، إلى أن أصوات الحروف قد أبدعها العربي للتعبير عن حاجاته المادية والمعنوية. ولما كانت هذه الحاجات المتصلة بالطبيعة (العالم الخارجي) وبالمشاعر الإنسانية (العالم الداخلي)، هي أوفربما لايقاس، مما يتصل منها بالأصوات، فقد كان من البداهة والعدالة ، أن تأخذ الحواس والمشاعر الإنسانية من أصوات الحروف على مقدار حاجتها.‏

                على أن اقتصار الحروف السمعية على حرفي (الزاي والقاف) في هذا الجدول، لايعني بداهة وقف التعبير عن معاني الأصوات على هذين الحرفين، وإنما يعني فقط أن الإيحاءات الصوتية هي الغالبة على خصائصهما الحسية. فلقد استعان العربي بكثير من أصوات الحروف للتعبير عن الأصوات التي تحاكيها في الطبيعة ولاسيما أحرف (ص.ن.ع.ح.هـ) ولم تصنف سمعية لغلبة الخصائص الحسية أو الشعورية الأخرى على طبيعتها، كما سيأتي.‏
                إذا الشعب يوما أراد الحياة
                فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                تعليق


                • #9
                  رد: خصا ئص الحروف العربية ومعانيها

                  الفصل الثاني أصوات الحروف العربية وإيحاءاتها الحسية والشعورية



                  بيني وبين علماء اللغة .‏

                  على الرغم من أن علماء اللغة الذين قالوا إنَّ لغتنا مأخوذة مباشرة عن الطبيعة، وأصّلوا على ذلك، أنّ معنى اللفظة مستفاض عن صورتها الصوتية، فإن أحدا منهم لم يربط يبن أصوات الحروف وبين الحواس الخمس والمشاعر الإنسانية.‏

                  ولئن كان بعضهم قد أسند إلى أصوات الحروف بعض الإيحاءات اللمسية والبصرية والصوتية، فإن أحدا منهم لم يسند إليها أيّ إيحاء بإحساس ذوقي أو شمي.وباستثناء الأرسوزي، فإن أحداً منهم لم يسند إليها أيّ إيحاء بمشاعر إنسانية. وهذا يعني كما سبق وألمحنا إلى ذلك، أن جميع الألفاظ الدالة على أحاسيس ذوقية وشمية ومشاعر إنسانية، إنما هي مصطلحات على معان. الأمر الذي يتناقض صراحة مع ما ذهبوا إليه من أن لغتنا مأخوذة عن الطبيعة ماديها وإنسانيها، وأنّ معاني الألفاظ هي محصلة موحيات أصوات حروفها.‏

                  لذلك، وقبل أن أتحدث عن الإيحاءات الحسية والشعورية في أصوات الحروف العربية، أرى من المفيد أن أتحدث أولا عن مسألة الاستيحاء، مادامت هذه المسألة هي مرتكز هذه الدراسة.‏

                  1-فما الاستيحاء؟‏

                  الاستيحاء هو عملية نفسية من اختصاص المشاعر الإنسانية. وعلى الرغم من أنني عقدت فصلاً خاصاً عن الشعور في هذه الدراسة، فإني أرى من المفيد أن أتطرق منذ الآن بشيء من الإيجاز إلى دور الشعور في عملية استيحاء المعاني والتعبير عنها، ولو ببعض الأمثلة.تمهيد لابد منه لمتابعة الحديث عن إيحاءات أصوات الحروف العربية وخصائصها الحسية والشعورية.‏

                  فلو شاهدنا مثلا صديقاً حميماً يصارع منافساً له، وأطلقنا النّفس على سجيتها، إذن لصدرت عنا بصورة عفوية مختلف الحركات والأصوات التي تعبّر عن انفعالاتنا الشعورية عبر مواقف الصديق في مراحل صراعه، وكأنّ الأمر أصبح بيننا نحن وبين ذلك المنافس. هذه العملية الشعورية يسميها علم النفس، التقمص الشعوري، أو المشاركة الوجدانية، حيث يسقط الإنسان فيها مشاعره على الآخرين. ولو أردنا أن نعرّف أجنبياً لانفهم لغته ولا يفهم لغتنا، بشيء معين من الأشياء، لاضطررنا إلى تقمص مادة ذلك الشيء والاتحاد بها، لنستخلص منها خصائصها الذاتية من ملمس، أو مذاق، أو رائحة ، أو شكل، أو صوت، لنعبّر عنها للأجنبي بالحركات والأصوات الملائمة كيلا يخطئ في تشخيص الشيء المراد وتحديده. فهكذا تقمّص العربي الفجر أشياء العالم الخارجي وأحداثه على الطبيعة، ليعرّف أبناء مجتمعه بها بشتى الحركات والأصوات التي تعبّر عن خصائصها الحسية، فلا يخطئون بعد ذلك في معرفة معاني تلك الأصوات والحركات. لتسقط الحركات الجسدية عبر مراحل تطور اللغة ويستعاض عنها بنبرات أصوات الحروف إيحاء، أو بحركات أعضاء جهاز النطق تمثيلاً أثناء التلفظ بتلك الأصوات. لابل إن عملية التقمص الشعوري هذه ، لابد أن يمارسها كل فنان وشاعر وأديب كيما يستوحي من مواضيع تأمله مختلف الأحاسيس والمشاعر الأصيلة التي تتضمنها، ليعبر عنها بصدق، سواء في تماثيل أو لوحات أو قصائد أو ألحان. وهكذا كان العربي بحكم نشأته اللغوية الفطرية هذه ، أبرع شعراء العالم وأدبائه في وصف الطبيعة. فكان لكل من السيف والرمح والناقة والفرس والكلب والذئب والأسد والريح والغيم، وما إلى ذلك من مظاهر الطبيعة، عشرات وربما مئات الأوصاف، قد تحولت لصدق دلالتها عليها إلى أسماء. وهذا مصداق لنظرية العلاّمة (ريبو)، القائلة بأن الصفة هي أول ما ظهر في اللغة الإنسانية، ثم تلتها أسماء المعاني، وأسماء الذوات، ثم ظهرت الأفعال (علم اللغة للدكتور وافي ص113).‏

                  وإذن لقد أصبح من الممكن الآن، أن نتصور أن العربي في مراحله اللغوية المبكرة' عندما شاهد جملاً مثلاً، قد أسقط عليه مشاعره (التقمص)، ليعبر عن أحاسيس الضخامة والارتفاع التي تركها في نفسه بالحركة المناسبة من يديه مع صوت معين فيه شيء من الضخامة والفلطحة، فكان له من ذلك صوت الجيم (الشامية لا القاهرية). لتسقط الحركات الجسدية مع تطور اللغة العربية، ويستعاض عنها بأصوات إضافية من الحروف.‏

                  وهكذا تقمّص العربي أوضاع الأشخاص والأشياء والحيوانات والأحداث الخارجية ليعبر عما أثارته في نفسه من أحاسيس ومشاعر إنسانية بأصوات الحروف الأبجدية. وهذا ما عناه ابن جني بعبارته الذكية (حذوا لمسموع الأصوات على محسوس الأحداث).‏

                  وإذن لقد اعتمد العربي شعوره للاهتداء إلى أصوات حروفه واستخلاص معانيها، استيحاء من العالم الخارجي بروح فنية خالصة، وليس بملكة (عقلية-هندسية).‏

                  2-ثم كيف أبدع العربي ألفاظه للتعبير عن معانيه؟.‏

                  بعد أن اهتدى العربي إلى أصوات حروفه ومعانيها، بقي على فطرته البدوية يتقمص الأشياء والأحداث لاستشفاف خصائصها الذاتية. وهكذا أخذ ينتقي الحروف التي تتلاءم إيحاءاتها الصوتية مع تلك الخصائص، ولكن وفق ترتيب معين يماثل تراكيب الأشياء، كما في كلمات (باب، بير، طبل) ، أو يماثل حركات الأشياء، كما في (رفرف، زلزل، لحس، بحث)، ليتحول المدرج الصوتي بذلك، من أول الحلق داخلاً حتى أخر الفم في الشفتين خارجاً إلى حلبة رقص. وهكذا يتحول الصوت ذاته إلى راقص ينتقل برشيق (أقدامه) على مخارج الحروف، إلى الأمام أو الوراء، إلى فوق أو تحت، وإلى اليمين أو ذات اليسار، ليصور الصوت بذلك الأشياء والأحداث بحركات إيمائية تمثيلية مسموعة غير منظورة. وهكذا تتحول اللفظة العربية إلى رقصة صوتية بارعة، لا توحي بمعناها الأصيل فحسب، وإنما تجسّده أيضاً، مما لا يقدر على ذلك راقص ولا ممثل أو فنان.‏

                  وهذا ما عناه ابن جني عندما أخذ يشرح قاعدته الذهبية: (تصاقب الألفاظ، لتصاقب المعاني).فالعربي بعد أن يختار الحروف التي تتوافق أصواتها مع الحدث الذي يريد التعبير عنه، يقوم بترتيبها في اللفظة على أساس أن يقدم الحرف الذي يضاهي (أي يماثل) أول الحدث، ويضع في وسطها ما يضاهي وسطه، ويؤخر ما يضاهي نهايته. وذلك (سوقا للحروف على سمت المعنى المقصود والغرض المراد).كما عرض ذلك في مثال (بحث) في كتابه (الخصائص ج 2ص 162-163).‏

                  كما أعتمد ابن جني هذه القاعدة في تعليل الفرق بين (قدّ) طولاً ، و(قطّ) عرضا بقوله: (ذلك أن الطاء أخصر للصوت وأسرع قطعاً له من الدال. فجعلوا الطاء المناجزة (أي ذات المخرج الصوتي القريب من مخرج القاف)للقطع عرضاً. أما الدال المماطلة (أي ذات المخرج الصوتي البعيد عن مخرج القاف)، فقد جعلوها لما طال من الأثر، وهو قطعه طولا). (المرجع السابق ص158).‏

                  3-ولكن كيف نستوحي نحن معاني الحروف من أصواتها؟.‏

                  إذا كان العربي الفنان قد لجأ فعلاً إلى تقمص أشياء العالم الخارجي وأحداثه على وجه ما شرحناه للاهتداء إلى أصوات حروفه ومعانيها بوسيط من مشاعره، فإنه لابد لنا نحن أن نهتدي بالمقابل إلى معاني هذه الحروف بالذات فيما لو تأملنا صدى أصواتها في مشاعرنا، ولكن شريطة أن يتمتع ذلك العربي بأصالة فنية إبداعية، وأن نتمتع نحن بأصالة فنية تذوقية موازية. ومعاجم اللغة العربية هي المحكّم في هذه القضية.‏

                  وتأمّل صدى أصوات الحروف في المشاعر، إنّما هو عملية استبطان صريحة.‏

                  وإذن ما الاستبطان؟.‏

                  الاستبطان، كما يقرر علم النفس ، هو انعكاس الشعور على الشعور، إنه إحساس بالإحساس وتأمل باطني لما يجول في الذهن، (مبادئ علم النفس للدكتور يوسف مراد ص14).‏

                  وهكذا فالاستبطان هو استخدام الشعور كملكة وعي لادراك هذه الحالات الشعورية والأحاسيس التي تعتمل في نفوسنا.‏

                  وإذن ، فإن استيحاء معاني الحروف من أصواتها، إنما يتم عن طريق الاستبطان، وذلك بانعكاس شعورنا على المشاعر والأحاسيس التي تثيرها أصوات الحروف في نفوسنا. وهذا ما عناه الأرسوزي بعبارته: (صدى أصوات الحروف في وجداننا).‏

                  فلو تأملنا صدى صوت (الجيم) في نفسنا مثلاً، أي لو استبطناه، لاوحى لنا بالضخامة كإحساس بصري، وبشيء من الطراوة والحرارة كإحساس لمسي. وهذا ينسجم مع مايوحيه منظر الجمل وملمسه، لابل ورائحته الدسمه أيضاً. وهكذا أطلق العربي بالفعل لفظة (الجيم الشامية)، على الجمل الهائج. ولقد بدأت بهذا الحرف أسماء كثير من الحيوانات (الجاموس، الجحش، الجدي، الجرو، الجيأل للضبع، الجؤزر لولد البقرة الوحشية....).‏

                  وهناك أصوات حروف أكثر تعقيداً وأصعب استبطاناً من حرف (الجيم) مثل الصاد- الضاد- العين-الغين-الهاء....كما سنرى .‏

                  علماء اللغة وخصائص الحروف العربية:‏

                  لقد تبين مما تقدم أن استيحاء معاني الحروف العربية بالرجوع إلى خصائص أصواتها عن طريق الاستبطان، فيه الكثير من المشقة والمخاطرة. ولعل هذا السبب هو الذي جعل علماء اللغة يتجنبون هذه العملية الصوتية النفسية كمنهج لهم، وإن كان لامفر لهم من معاناتها، ولو في صور من رهافة السمع والتذوق الأدبي الرفيع.‏

                  ولقد نشرت لي مجلة المعرفة السورية في عددها(407) لشهر آب 1997 دراسة مطولة بعنوان ( فطرية العربية على موائد علمائها). عرضت فيها خلاصة ماجاء به خمسة من القائلين بفطريتها وهم :( ابن جني، وأحمد فارس الشدياق، وعبد الحق فاضل، والعلايلي، والارسوزي) .‏

                  وقد بينت فيها بعضاً من ايجابيات وسلبيات ما توصلوا إليه حول فطرية العربية وخصائص حروفها.‏

                  لذلك وحذر الأطالة اكتفي هنا بالحديث الموجز عن مناهج ثلاثة منهم للكشف عن بعض الثغرات فيها، ممايشير إلى صعوبة التعامل مع خصائص الحروف العربية ومعانيها، ومن ثم لمقارنتها مع نهجي الخاص بهذا الصدد. وهؤلاء الثلاثة هم (ابن جني-عبد الله العلايلي-زكي الارسوزي).‏

                  اولاً-حول منهج ابن جني: في كتابه الخصائص.‏

                  لقد لجأ ابن جني إلى استخلاص معاني الحروف العربية من معاني الألفاظ، بدلاً من الاتجاه مباشرة إلى تأمل صدى أصواتها منفردة في وجدانه. ولقد استهدى في ذلك تارة بقاعدته الذكية: (لا ينكر تصاقب الألفاظ، لتصاقب المعاني). أي تقارب الأصوات لتقارب المعاني. كما استهدى تارة أخرى بقاعدته الأذكى (سوقاً للحروف على سمت المعنى المقصود والغرض المراد).. ومع ذلك لم ينج مع هاتين القاعدتين المستحدثتين من عمليات الاستبطان من التناقض حيناً بمعرض الكشف عن خصائص الحرف الواحد، ولامن الخطأ حيناً آخر في تعيين خصائص بعض الحروف ومعانيها.‏

                  فلقد ضرب ابن جني لتحديد معاني الحروف وخصائصها، الأمثلة التالية:‏

                  (القاف) فيه صلابة، وفي (الخاء) رخاوة. هذا صحيح. إلا أنه يعود فيقول:‏

                  (الحاء) فيه رقة، وفي (الخاء) غلظة. فقيل للماء القليل نضح بمعنى رشح، ونضخ للماء الغزير، بمعنى اشتد فورانه في ينبوعه. فكيف يجتمع في حرف (الخاء) خاصيتا الرخاوة والغلظة، وهما متناقضتان؟.‏

                  كما قال ابن جني أيضاً:‏

                  الهمزة في (أزّ) ، أقوى من (الهاء) في (هزّ).‏

                  وهنا اكتفى ابن جني بالكشف عن خاصية القوة الانفجارية في صوت (الهمزة)، وعن خاصية الضعف في صوت (الهاء) . وفي الحقيقة، إن صوت الهمزة يوحي بالبروز والنتوء، أكثر مما يوحي بالقوة، كما سوف نرى في دراستها. ولفظة (أزّ) معناها لغة (تحرك واضطرب)، وهما صورتان مرئيتان . والقوة في (أزّ) تعود إلى فعالية )(الزاي) المشددة، ليقتصر دور الهمزة على إظهار فعالية الزاي في صورة مرئية تشاهد بالعين. كما أن لفظة (هزالشي هزا)، بمعنى حركه بشيء من الشدة، مدينة بما في معناها من شدة للزاي المشددة، أما الهاء فهي للاضطرابات. وإذن فالشدة في كلتا اللفظتين تعود أصلا إلى (الزاي) المشددة، بفارق من أن الهمزة للظهور والبروز والهاء للاضطرابات والانفعالات النفسية. على أن شخصية الهاء من حيث تأثيرها في معاني الألفاظ التي تتصدرها، إنما هي على خفوت صوتها، أقوى بكثير من شخصية الهمزة في هذا المضمار، على الرغم من جهارة صوتها وانفجاريته، كما سوف نرى في الحديث عن الهمزة والهاء.‏

                  كما إن قيام ابن جني بتحديد معاني الحروف عن طريق المقارنة بين معاني الألفاظ أخذا بقاعدته (تصاقب الألفاظ لتصاقب المعاني)، على وجه ماسبق ذكره، قد أوقعه في أخطاء كثيرة، كما في قوله:‏

                  العين في (عسف)، أخت الهمزة في (أسف)، وأضعف منها.‏

                  وسنرى أن العين حرف شعوري، والهمزة حرف بصرى، فأين الإخاء بينهما؟.‏

                  كما قال: الباء في (علب) أخت الميم في (علم). والدال في (قرد) أخت التاء في (قرت) والزاي في (علز) أخت الصاد في (علص). والسين والحاء في (سحل) أختا الصاد والهاء في (صهل) . الخصائص -الجزء الأول-ص145-160).‏

                  كل ذلك بمعنى تقارب معاني الحروف لتقارب مخارجها الصوتية ، وإن تفاوتت في القوة والشدة. وسوف نرى وكأنه لا علاقة ولاقربى معنوية بين هذه الحروف الإخوة أحياناً كثيرة، إلا كتلك التي كانت بين قابيل وهابيل.‏

                  ولو أن ابن جني تأمل صدى أصوات الحروف في نفسه لمعرفة خصائصها، لما وقع في هذه الأخطاء لمجرد تلك المصادفات من تقارب المعاني لتقارب الألفاظ في بعض الأحيان.‏

                  ثانياً-حول منهج العلايلي في كتابه: تهذيب المقدمة اللغوية‏

                  لقد حدد العلايلي معاني حروف الجدول الهجائي(بما تسمح به النصوص) دون أن يعتمد صدى أصواتها في نفسه. ولذلك غابت عن معاني حروف جدوله بصورة عامة خصائص أصواتها الحسية والشعورية كما سنرى. ونحن لانتهم العلايلي بالعجز عن استبطان أصوات الحروف، فلقد قرر مثلاً، أن (اللام) معناه الملاصقة والمساس، وذلك بمعرض تحليله لمعنى لفظة (جبل).(ص47من المقدمة). وهذا صحيح . ولكنه يعود فيقرر في جدول معاني حروفه: (إن اللام يدل على الانطباع بالشيء بعد تكلفة) المقدمة (ص64).‏

                  فأين معنى الملاصقة والمساس المستوحى من صوت اللام، من معنى الانطباع بالشيء بعد تكلفة المستخلص مما (سمحت به النصوص)؟.‏

                  ولعل العلايلي قد رأى أن اعتماد النصوص المحفوظة في استخراج معاني الحروف هو أقل شططا ومخاطرة وأسلم عاقبة من استخراج معانيها عن طريق صدى أصواتها في النفس. ولكن نهجه هذا هو أقل دقة وأكثر شططا كما سنرى في دراسة الحروف.‏

                  ثالثاً-حول منهج الارسوزي:‏

                  وهكذا كان الارسوزي هو الوحيد الذي اعتمد قاعدة صدى الاصوات في الوجدان لاستيحاء معاني الحروف. ولكنه وقف جل اهتمامه على استيحاء معاني الالفاظ العربية من صدى جملها الصوتية في نفسه، فلم يولِ الحروف العربية إلا القليل من عنايته منصرفاً إلى المقاطع الثنائية، وذلك على العكس مما فعل العلايلي الذي بدأ بالحروف العربية، ومنها انتقل إلى المقاطع كما مر معنا، ولذلك قد اقتصر الارسوزي على تحديد خصائص أحد عشر حرفاً فقط، وباقتضاب شديد كما سنرى.‏

                  حول المنهج الذي ابتعته في استيحاء معاني الحروف العربية:‏

                  لقد سبق أن بينت أنّ الحروف العربية كأصوات فطرية مقتبسة من الطبيعة (المادية أو الانسانية)، لابد أن توحي بمختلف الأحاسيس الحسية والمشاعر الإنسانية.‏

                  وإذن فإن منهجي يقوم على الاستبطان الشعوري لاستيحاء الخصائص الصوتية لكل حرف. خطوة أولى لابد منها للكشف عن معانيه. وهكذا يتلخص منهجي في مرحلتين اثنتين:‏

                  أ-المرحلة الأولى:‏

                  أقوم باستيحاء خصائص صوت كل حرف بتأملّ صداه في نفسي بعد تفخيمه، عودة به إلى طريقة النطق بصوته حين أبدعه العربي للتعبير عن معانيه. وذلك بأن أسلط عليه أحاسيس الحواس الخمس- ومختلف المشاعر الإنسانية، فأتحرى مختلف خصائصه الحسية، ثم الشعورية.‏

                  فإذا وجدت في صوته ما يوحي بإحساس لمسي، بحثت عن شتى لمسياته، من ليونة أو صلابة أو خشونة أو برودة أو حرارة..كما أنني أتبع هذا النهج بالذات لاستخلاص موحياته الذوقية والشمية والبصرية والسمعية والشعورية .‏

                  فإذا اقتصرت إيحاءات صوت حرف ما على اللمسي فقط، صنفته في فئة الحروف اللمسية، وإذا تجاوزت هذه الايحاءات حاسة اللمس فوقفت عند الحدود الذوقية أو الشمية أو البصرية أو السمعية ، صنفته في الطبقة العليا التي تنتهي عندها ايحاءاته صعوداً.‏

                  على أنني قد تخطيت هذه القاعدة مع بعض الحروف، فصنفت بعضها في الطبقة الأدنى وصنفت بعضها الآخر في الطبقة الأعلى لأسباب خاصة تتعلق بطبيعة الحرف أو ببعض خصائصه المتميزة، كما سيأتي .‏

                  وهكذا توصلت إلى توزيع الحروف العربية بين الحواس الخمس والمشاعر الانسانية، فكان لكل منها حرف أو أكثر عدا حاسة الشم التي لم تختص بحرف معين وإن كان ثمة أكثر من حرف يوحي صوته بأحاسيس شمية.‏

                  وإذن، فإن هذا المنهج يتميز عن سواه من المناهج بالكشف عن الرابطة الفطرية بين أصوات الحروف العربية وبين الحواس الخمس والمشاعر الإنسانية.‏

                  أما المنهج الموازي الذي اعتمدته أيضاً في استخراج معاني الحروف من طريقة النطق بها إيماء وتمثيلاً، فإني لم اهتد إليه إلا مصادفة بعد إنجاز هذه الدراسة للمرة الأولى. وذلك عندما أخذت في مراجعة معاني المصادر التي تبدأ بحرف (الفاء). فلقد تبين لي أن تلك المعاني تتجافى مع موحيات الضعف والوهن في صوت الفاء، خلافاً لما نهج عليه العربي في تحديد معاني حروفه وفقاً لصدى أصواتها في النفس. فانتبهت إلى ظاهرة التوافق بين معاني المصادر التي تبدأ بالفاء، من شق وفصل وتوسع ، وبين طريقة النطق بهذا الحرف، كما مر معنا في بحث الجذور الزراعية في الحروف العربية(الحرف العربي والشخصية العربية ص131 ومابعدها).وكما سيأتي لاحقاً في دراسة حرف (الفاء).‏

                  ب - المرحلة الثانية:‏

                  وبعد أن أحدد الخصائص الصوتية والإيمائية التمثيلية لكل حرف على وجه مامر معنا في المرحلة الأولى، أقوم باستخراج المصادر التي تبدأ بكل حرف مع معانيها، أقوياً كان الحرف أم ضعيفاً. أما الحروف التي في أصواتها رقة وشاعرية، فلقد نهجت على استخراج المصادر التي تنتهي بها أيضاً، حيث تكون هنا أوحى بمعانيها، كما عمدت إلى استخراج معاني المصادر التي تنتهي ببعض الحروف القوية وكذلك المصادر التي تتوسطها أحرف (ظ-ص-ض-خ-ح-هـ-ع) ، وذلك للتثبت من مدى قوة شخصياتها.‏

                  وبمقارنة معاني المصادر التي تبدأ بحرف ما مع معاني المصادر التي تنتهي به، تبين لي أن تأثير كثير من الحروف في معاني المصادر يختلف بحسب مواقعه منها، وذلك لتغير تمثيلها الإيمائي أو إيحائها الصوتي في الموقعين. مما يقطع بأن العربي لم يعط أصوات حروفه قيماً رمزية محددة، ولا معاني مطلقة أيضاً، وإنما ترك ذلك لإيحاءاتها الصوتية، ولطريقة النطق بها أنى كانت مواقعها من الكلمة. وهذا يتطلب حساسية سمع ورهافة في الشعور، ونباهة وانتباها دائبين.‏

                  وهنا لابد لي من وقفة قصيرة لتوضيح نهجي في انتقاء هذه المصادر.‏

                  لقد اقتصرت تقصياتي على الأفعال أو الأسماء العربية القحّة، مما ليس مولداً بعد عصر الرواية والتدوين، أو معرّباً عن لفظ اجنبي، أو دخيلاً دون تعريب أو عامياً أو اسماً لحشرة أو نبات ليس وصفا لفعل أو اسم . ولقد اخترت من هذه الأفعال والأسماء، ماقدّرت أنه هو الألصق جذوراً بالأرومة الأم. كما اخترت من مختلف معاني المصدر الذي وقع عليه الخيار المعنى الحسي لقربه من أصالة اللفظة العربية وفطريتها، مبتعداً ما أمكنني عن المعاني المجازية وإن كانت هي الشائعة الاستعمال حالياً. وذلك لأن غالبية أرومات الألفاظ العربية قد أبدعت في عهود سحيقة تعود إلى مرحلة الرعي، اقتباساً من أشياء وأحداث محسوسة، أو انفعالات هيجانية فطرية، كما سبق ولحظنا ذلك في بحث (الجذور الغابية والزراعية والرعوية في أصوات الحروف العربية) المرجع السابق ص125ومابعدها ).‏

                  وهذا المنهج في انتقاء المصادر هو المنهج الموضوعي الصحيح، لأنه هو الألصق بواقع نشأة اللغة العربية، فعندما كان العربي يحتاج إلى التعبير عن معان معنوية مجردة في مراحل ثقافية واجتماعية متطورة لاحقة، كان يجد نفسه مضطراً إلى البحث عن اللفظة المناسبة في جذور مابين يديه من المصادر، مما يتوافر فيها رابطة ما بين الوظيفة المحسوسة للفظة وبين الوظيفة الذهنية للمعنى المجرد المراد، كما في لفظة (عقل) البعير (ربطه بالعقال) على الطبيعة، وعقل الأشياء أدركها على حقيقتها (بذهنه).‏

                  وهكذا نرى أن الرابطة الذهنية بين المعنيين تتجلى في التماثل بين وظيفة العقال في ربط البعير في موضعه، وبين وظيفة العقل في ربط الأشياء بحقائقها. فالربط إذن هو العامل المشترك بين العقل المجرد والعقال المحسوس، وما أصدقه من حدس فلسفي. وكما في غفر الشيء(ستره) ، وغفر الذنب (محاه) ، واللغة العربية مليئة بهذه الشواهد من الأمثلة. فنادراً جداً مانجد معنى مجرداً ليس مستنبطاً من معنى حسي.‏

                  وهذه الطريقة التي اتبعها الإنسان العربي بمعرض التعبير عن معانيه الذهنية، تعود أصلاً إلى استحالة تقمص هذه المعاني لإبداع الصور الصوتية الملائمة لها، على مثال ماكان يفعل بصدد الأشياء والأحداث الخارجية المحسوسة .‏

                  وهذه الظاهرة اللغوية الحسية، ليست مقتصرة على العربية فحسب، وإنما هي مشتركة بين مختلف اللغات السامية(فقه اللغة للدكتور وافي ص13-14).‏

                  وما كان أشق عملية اختيار المصادر ومعانيها. فمن ألفين وتسعمئةٍ وستين مصدراً ومشتقاً تبدأ بحرف النون عثرت عليها في المعجم الوسيط مثلا، وقع اختياري على ثلاثمئة وثمانية وستين مصدراً فقط (فعلا أو اسما) اعتبرتها مصادر. ومن المعاني العديدة المتداخلة لكل مصدر، اخترت معنى واحداً، وفي قليل من الأحيان معنيين اثنين، كما أشرت إلى ذلك في المقدمة، وكما سيأتي في دراستها.‏

                  ثم بعد أن أستخرج المصادر التي تبدأ أو تنتهي بحرف ما على وجه مابينت آنفا، أقوم بتصنيفها في جداول خاصة تجمع بين معانيها رابطة حسية أو معنوية، وذلك للتثبت من أمور ثلاثة:‏

                  أ-مامدى تطابق الخصائص الصوتية والإيمائية للحروف مع معاني المصادر المستخرجة؟.‏

                  ب-ما نسبة هذا التطابق؟ وذلك لمعرفة مدى قوة شخصية كل حرف.‏

                  ج-مامدى التزام الحرف موضوع الدراسة بطبقته الحسية؟. وإذا تجاوزها في بعض المصادر فما الأسباب؟.وهكذا فإن مطابقة الخصائص الصوتية والإيمائية للحروف العربية على معاني جميع المصادر التي تبدأ أو تنتهي بها، إنما هي ميزة موضوعية لمنهجي هذا، لم يجشم أحد من الباحثين نفسه مثل هذا العناء.‏

                  وفي الحقيقة، إن استخراج جميع المصادر الجذور التي تبدأ بحرف ما أو تنتهي به، على وجه مابينت آنفا، ومن ثم تصنيفها في جداول تجمع بين معانيها رابطة حسية أو معنوية، إنما هو عمل في غاية الدقة والإجهاد والمخاطرة والمسؤولية، يحتاج إلى فريق متكامل من ذوي الاختصاص.‏

                  ماعلة انطباع اللفظة العربية بطابع الحرف القوى الذي تبدأ به، أو بطابع الحرف الرقيق الذي تنتهي به؟:‏

                  من البداهة أن يلاحظ العربي ذوالحساسية السمعية فائقة الرهافة في بيئة صحراوية غير ملوثة بالضجيج، أنّ الحرف القوي يأخذ صوته أقصى إيحاءاته في القوة والشدة والفعالية والغلظة، عند مايقع في أول اللفظة. إذ لابد للصوت أن يشد على أي حرف يقع في أولها أكثر مما يشد عليه في وسطها، ليشد عليه أقل مايكون الشد في نهايتها.‏

                  وهكذا ، فإن الحروف ذات الأصوات الرقيقة لابد أن تكون أكثر ايحاء بالرقة والأناقة والدماثة وما إليها عندما تقع في نهاية الألفاظ. فأصواتها تكون هنا أكثر خفوتا ورقة منها في أي موقع آخر. ولهذا السبب بالذات، لابد أن يختلف تأثير الحرف الواحد، رقيقاً كان أم قوياً في معاني الألفاظ، بحسب موقعه من اللفظة كما سيأتي .‏

                  وإذن فإن الحروف التي تقع في أواسط الألفاظ تكون غالباً أقل تأثيراً في معانيها. وهذا يتفق مع ماذهب إليه العلايلي، من أن الحرف الذي زيد على الثنائي للانتقال إلى الثلاثي هو الوسط في الأعم الأغلب. أما ابن جني فقد رأى أن الحرف الوسط هو الأقوى. وذلك لأن الفعل في رأيه، يتكرر بتكراره(قسّم. علّم. درّس..)(الخصائص ج2 ص155). وفات ابن جني أن القوة تتجلى بطبيعة الفعل الأول نفسه وليس في تكراره. ليبقى رأى العلايلي هو الأقرب إلى الصحة، وإن كان لنا رأى مخالف كماسيأتي .‏

                  ولكن هل تكفي هذه الحساسية السمعية لتعليل انطباع (50-92%) من الألفاظ بالخصائص الصوتية لحرف قوى ما تبدأ به ، أو لحرف رقيق آخر تنتهي به؟.‏

                  فكيف استطاع العربي أن يبدع هذه السلسلة الطويلة من المصادر التي تنطبع معانيها بطابع الحرف الأول أو الأخير، مع المحافظة على دور بقية الحروف في توضيح هذه المعاني وتلوناتها؟؟.‏

                  كيف تسنى للعربي أن يبدع هذه اللغة على هذه الشاكلة منذ آلاف الأعوام؟.‏

                  هنا لابد لنا من التسليم برأي علماء اللغة الذين قالوا بأن اللغة العربية بدأت بأصوات الحروف، ثم تدرجت إلى الثنائي فالثلاثي، فكثيرات الحروف.‏

                  وإذن أصبح من السهل أن نتصور أن العربي عندما أبدع صوت حرف قوي، للتعبير عن معاني القوة والفعالية والشدة (د.ق.ز...) في دور المقطع البسيط من حرف واحد، قد أضاف إليه حرفاً ثانياً يساعده في تلوين معناه في دور المقطعين من حرفين اثنين. ولما كانت معاني الشدة والفعالية هي المقصودة، فلقد كان من البدهي أن يضع الحرف الجديد في آخر المقطعين. كما أن العربي أبقى حرفه القوى هذا في مقدمة المقاطع عندما انتقل به إلى الثلاثي فالمزيدات.‏

                  وهكذا كان نهج العربي مع الحروف الرقيقة، ولكن بالإبقاء عليها في آخر اللفظة كيما تكون هناك أوحى بخصائص الرقة والليونة والأناقة وما إليها. ليضع الحروف الإضافية الجديدة قبلها عبر تطور اللغة العربية من الأحادي إلى الثنائي فالثلاثي فالمزيدات. وعلى الرغم من ذلك فقد شذّ عن هذه القاعدة ألفاظ كثيرة، لم تنطبع معانيها بخصائص الحروف القوية التي تبدأ بها، أو الرقيقة التي تنتهي بها. فلم ذلك؟.‏

                  إذا استثنينا الأخطاء في نقل الألفاظ العربية في مرحلة التدوين لتصحيف سمعي، (لاختلاف اللهجات العربية في لفظ بعض الحروف)،أو لتصحيف بصري، (لافتقار كتابة الألفاظ إلى التنقيط)، فإن هذا الشذوذ يرجع في الأعم الأغلب إلى تزاحم الحروف المشاركة في اللفظة على معانيها. فقد يجتمع في اللفظة الواحدة الحرف القوى مع الضعيف، والرقيق مع الخشن، والأنيق مع الفظ الغليظ وما إلى ذلك. ولئن كانت الغلبة في كثير من الأحيان للقوة والغلظة والخشونة، فإنه قد يطغى إشعاع حرف شاعري نبيل أنّى كان موقعه، على موحيات العتامة والفظاظة والفجاجة في بقية الحروف. وشأن هذا الشذوذ في دنيا اللغة، كشأنه في دنيا المجتمع العربي نفسه، آدباء وشعراء ورجالاً مصلحين.‏

                  حول تصانيف الحروف العربية وفقا لخصائصها الصوتية:‏

                  لقد صنّف علماء اللغة العربية أصوات الحروف في مجموعات كثيرة، تارة بحسب مخارجها وتارة بحسب كيفية النطق بها، وتارة ثالثة بحسب سهولة أو صعوبة النطق بها وما إلى ذلك. على أنني سأكتفي منها جميعا بأربعٍ : هي:‏

                  1-الأصوات الصامتة والصائتة:‏

                  الأصوات الصامتة هي جميع الحروف الهجائية، باستثناء الصائتة.‏

                  والأصوات الصائته هي (الألف، الواو، الياء..). ويقال لها تارة حروف اللين، وتارة أخرى الحروف الهوائية أو الجوفية، وهي حروف غابية النشأة كما أسلفنا‏

                  2-أصوات الحروف بحسب مخارجها:‏

                  لقد أدرك علماء اللغة العربية، ولاسيّما القدامى منهم، الأهمية العظمى لهذا التصنيف فعقدوا بشأنه البحوث الطويلة لاختلافهم في مخارج بعض الحروف.‏

                  وفي الحقيقة إن تحديد المخرج الصوتي لكل حرف بدقة هو وحده الذي يحافظ على أصالة أصوات الحروف العربية، فلا يختلف عما نطقت بها الأجيال العربية الأولى، ليحافظ بذلك كل حرف على صدى صوته البكر في نفس العربي الذي استوحى منه معانيه الأصلية، فيظل هذا الحرف يوحي لنا نحن بذات المعاني، فتحافظ اللغة العربية بذلك على فطرتها. وهكذا فإننا بالمقابل نستطيع اليوم أن نحسم الخلاف الذي وقع بين علماء اللغة حول مخارج أصوات بعض الحروف، لابل وأن نصحح النطق بكل حرف. وذلك بالعودة إلى تأثيره في معاني الألفاظ التي تبدأ أو تنتهي به، كما سوف نرى في أحرف الجيم والهاء والعين. وإذن فإن هذا التصنيف الذي يحافظ على أصالة أصوات الحروف العربية من شأنه أن يحافظ على أصالة اللفظ العربي، وعلى وحدة اللسان العربي، مهما تتعدد أقطاره وتتباعد، ومهما يمتد به الزمن ويتمادى.‏

                  ولقد اعتمدت في تصنيف مخارج أصوات الحروف مااتفقت عليه الأكثرية من قدامى اللغويين لقرب عهدهم بالنطق العربي الأصيل، وإن لم يكن هو الأصوب دائماً، كما سنرى ذلك بمعرض المقارنة بين معاني الحروف وخصائص أصواتها.‏

                  ولمعرفة مخرج صوت الحرف: يسكّن ويشدّد، فحيث ينقطع الصوت يكون مخرجه. وهذه المخارج هي:‏

                  1- الأحرف الحلقية: الهمزة الهاء. العين. الحاء . الغين. الخاء. (إلا أن الدكتور أنيس يعتبر الهمزة مزمارية وليست حلقية، لتشكل صوتها عند فتحة المزمار. كما أن الفراهيدي وابن سينا والعلايلي يقدمون العين على الهاء)‏

                  2-الأحرف اللهوية: القاف. الكاف (اللهاة، تقع بين الحلق والفم).‏

                  3-الأحرف الشجرية: الجيم . الشين. الياء غير المدّية (بين وسط اللسان وما يقابله من الحنك الأعلى).‏

                  4-الأحرف الزلقية: اللام. النون المظهرة. الراء (زلق اللسان طرفه).‏

                  5-الأحرف النطعية: الطاء . الدال. التاء. (النطع هو سقف غارالحنك الأعلى.).‏

                  6-الأحرف الأسلية: الصاد. السين. الزاي(مابين رأس اللسان وصفحتي الثنيتين العُلويتين ).‏

                  7-الأحرف اللثوية: الظاء. الذال. الثاء (لخروجها من قرب اللثة).‏

                  8-الأحرف الشفوية: الفاء . الباء. الميم. الواو غير المدية.‏

                  9-الأحرف الخيشومية: النون الساكنة . النون والميم المشددان.‏

                  10-الأحرف الجوفية أو الهوائية: الألف. الواو الساكنة المضموم ماقبلها. الياء الساكنة المكسور ماقبلها (الجوف هو فراغ الحلق والفم).‏

                  3- الجهر والهمس:‏

                  الحروف المجهورة على مايؤكده الدكتور ابراهيم أنيس نقلا عن علماء الأصوات المحدثين ، هي الحروف التي تتشكل أصواتها في الحنجرة باهتزاز وتريها الصوتيين اهتزازا منتظماً. ولمعرفة ذلك يلفظ الحرف مستقلاً عن غيره. وتوضع الأصبع فوق تفاحة آدم من الحنجرة، فإذا شعرنا باهتزاز الوترين كان الحرف مجهوراً، وإلا كان مهموساً. والأمر نفسه لووضعنا الكف على الجبهة.‏

                  وقد حصر الدكتور أنيس والدكتور بشير المجهورة في الحروف التالية:‏

                  (ب. ج.د.ذ.ر.ز.ض.ظ.ع.غ.ل.م.ن.).‏

                  أما الأصوات المهموسة فهي:‏

                  (ت.ث.ح.خ.س.ش.ص.ط.ف.ق. ك.هـ).‏

                  4- الشدة والرخاوة وما بينهما:‏

                  يقال لصوت حرف ما إنَّه شديد، إذا كان النفّس معه ينحبس عند مخرجه. وذلك بضغط الأعضاء التي تحدثه على بعضها. حتى إذا انفصلت فجأة، حدث الصوت كأنه انفجار، كما في انفراج الشفتين الفجائي في صوت الباء. ويسميها الدكتور بشير الحروف الانفجارية. وهي حسب رأيه:‏

                  (أ.ب.ت.د.ط.ك. ق).ويضيف الدكتور أنيس إليها حرف (ج) القاهرية.‏

                  والحروف الرخوة هي التي لاينحبس فيها النفّس. وهي مرتبة بحسب درجة رخاوتها: (س.ز.ص.ش.ذ.ث.ظ.ف.هـ. ح. خ) ويسميها الدكتور بشير الحروف الاحتكاكية. كما يضيف إليها حرفي (ع.غ)‏

                  وأما الحروف المتوسطة بين الشدة والرخاوة فهي:‏

                  (ر. ع. ل. م. ن.). (الأصوات اللغوية ص19-26).‏

                  على الرغم من أن إيحاءات أصوات الحروف تتأثر إلى حد ما بشدتها ورخاوتها، أو بجهرها وهمسها، فإن المبادئ النطقية التي اتخذها علماء اللغة والأصوات في تصانيفهم لتقرير ماإذا كان صوت ما شديداً أو رخواً، قد لاتتوافق عمليا مع إيحاءاتها السمعية. فصوت حرف (التاء) مثلاً، وهو من الحروف الانفجارية، هل هو أشد وقعاً على السمع من أحرف الذال أو الظاء أو الزاي، وهي من الحروف الرخوة؟. وأصوات هذه الحروف الثلاثة هل هي أكثر إيحاء بالرخاوة من أصوات حرفي اللام والراء؟.‏

                  التصنيف الذي اعتمدته تبعاً لإيحاءات أصوات الحروف الحسية والشعورية وطريقة النطق بها.‏

                  هذا التصنيف إنما هو نتيجة حتمية لمقولة (فطرية اللغة العربية) التي خلصت منها سابقاً، إلى أن أصوات الحروف العربية لابد ان توحي بمختلف الأحاسيس الحسية والمشاعر الإنسانية .‏

                  وهكذا فإن الرهان على فطرية اللغة العربية ينقلب إلى الرهان على صحة هذا التصنيف الجديد.‏

                  ولابد لي هنا من التذكير مرة أخرى بصعوية استخلاص الخصائص الحسية أو الشعورية من أصوات الحروف. لذلك من المستحسن أن يردّد القارئ صوت الحرف موضوع الدراسة بشيء من التفخيم، المرة بعد المرة، وأن يتأمل صداه في نفسه وحبذا لو يسجل ذلك على شريط. ومن المفيد أن أنبه الآن أنه قد يكون لصوت الحرف الواحد ايحاءات حسية وشعورية مختلفة، نظراً لتعقد عملية النطق به واعتماد تشكل صوته على مساحة واسعة وفراغات متعددة في جهاز النطق. إلا أنني قد صنّفت الحروف تبعاً للخصائص الحسية أو الشعورية الغالبة فيها، أو وفقا لطبيعتها الصوتية الخاصة، أو حسب طريقة النطق بها، مشيراً إلى ذلك حينا وساكتا عنه حيناً أخر.‏

                  أ-الحروف اللمسية :(ت. ث. ذ. د. ك.م).‏

                  ب-الذوقية: (ر.ل)‏

                  ج-الشمية:.........‏

                  د-البصرية : (الألف المهموزة واللينة، ب.ج. س. ش. ط.ظ. غ.ف. و. ى)‏

                  هـ-السمعية: (ز.ق)‏

                  و-الشعورية غير الحلقية: (ص. ض. ن)‏

                  ز-الشعورية الحلقية : (خ. ح. هـ. ع)‏

                  يلاحظ في هذا التصنيف أنّ حاسة الشم لم تختص بأي حرف لتعبربه عن أحاسيسها، إلاّ أن هناك كثيراً من الحروف التي في أصواتها بعض الأحاسيس الشمية كما سيأتي‏

                  كما يلاحظ كثرة الحروف البصرية واللمسية والشعورية ، وقلة الحروف السمعية، ليصدق في ذلك قول المثل العامي(الإسكافي حافي، والحائك عريان)‏

                  وهذه الظاهرة ترجع في حقيقة الأمر، إلى أن أصوات الحروف قد أبدعها العربي للتعبير عن حاجاته المادية والمعنوية. ولما كانت هذه الحاجات المتصلة بالطبيعة (العالم الخارجي) وبالمشاعر الإنسانية (العالم الداخلي)، هي أوفربما لايقاس، مما يتصل منها بالأصوات، فقد كان من البداهة والعدالة ، أن تأخذ الحواس والمشاعر الإنسانية من أصوات الحروف على مقدار حاجتها.‏

                  على أن اقتصار الحروف السمعية على حرفي (الزاي والقاف) في هذا الجدول، لايعني بداهة وقف التعبير عن معاني الأصوات على هذين الحرفين، وإنما يعني فقط أن الإيحاءات الصوتية هي الغالبة على خصائصهما الحسية. فلقد استعان العربي بكثير من أصوات الحروف للتعبير عن الأصوات التي تحاكيها في الطبيعة ولاسيما أحرف (ص.ن.ع.ح.هـ) ولم تصنف سمعية لغلبة الخصائص الحسية أو الشعورية الأخرى على طبيعتها، كما سيأتي.‏
                  إذا الشعب يوما أراد الحياة
                  فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                  و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                  و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                  تعليق


                  • #10
                    رد: خصا ئص الحروف العربية ومعانيها

                    الباب الثاني معاني الحروف العربية على واقع المعاجم اللغوية

                    الفصل الأول الحاسة اللمسية وحروفها‏

                    تضم الحساسية الجلدية أربعة إحساسات رئيسة هي:‏

                    الإحساس بالتماس والضغط ، والإحساس بالألم ، والبرودة، والسخونة.‏

                    ففي كل سنتمتر مربع من بشرة الانسان يوجد أربعة أنواع من النقاط اللمسية. كل نوع يستجيب لواحد من الاحساسات الرئيسة الأربعة . ويستطيع التيار الكهربائي أن يثير في كل نوع من هذه النقاط الإحساس الخاص به.‏

                    فأطراف الأصابع وطرف اللسان، هما أكثر المناطق الجلدية وفرة بالنقاط اللمسية وبانتقال أطراف الأصابع على الأجسام يتحول الاحساس بالتماس إلى إحساس بالخشونة أو الملاسة، أو الدغدغة السطحية.كما يمكن اختبار شكل الشيء ومعرفة زواياه وأضلاعه واتجاهاته بالنسبة لبعضها بعضاً بواسطة حاسة اللمس. وبضغط أطراف الأصابع على الأجسام يحصل الإحساس بالصلابة والليونة والرطوبة والجفاف..‏

                    الحروف اللمسية :‏

                    هي أبسط الحروف العربية وأقلها تعقيداً.وهي :‏

                    التاء-الثاء-الذال-الدال -الكاف-الميم.‏

                    ا-حرف التاء‏

                    مهموس انفجاري شديد. يقول عنه العلايلي: إنه (للاضطراب في الطبيعة الملامس لها بلاشدة). تعريف قاصر. ويقول عنه ابن سينا: (إن صوته يسمع عن قرع الكف بالإصبع قرعاً بقوة)‏

                    وعلى الرغم مما أسند إلى هذا الحرف من الشدة والانفجار وما وصف بالقرع بقوة، فإن صوته المتماسك المرن يوحى بملمس بين الطراوة والليونة، كأنّ الأنامل تجسّ وسادة من قطن. أو كأنّ القدم الحافية تطأ أرضاً من الرمل الجاف . ونظراً للفارق الصوتي بين موحيات (التاء والثاء) قالوا: التراب (للجاف)، والثرى (للتراب) الندي.‏

                    وهكذا صنفت حرف (التاء) في زمرة الحروف اللمسية، لأن صوته يوحي فعلاً بإحساس لمسي مزيج من الطراوة والليونة ، ولأنه لايوحي بأي إحساس آخر أو بأية مشاعر إنسانية . وهذا يتفق مع قول العلايلي من حيث حصر اختصاصه بملامس الطبيعة بلا شدّة.‏

                    فهل يستطيع هذا الحرف التأثير في معاني المصادر التي تبدأ به، بما يوحي من طراوة وليونة وفقاً لخصائصه الصوتية؟. وهل ستلتزم معاني هذه المصادر بطبقته الهرمية اللمسية؟.‏

                    إذن فلنحتكم إلى المعاجم اللغوية.‏

                    ولكن قبل الدخول في دنيا المعاجم اللغوية، لابدلي من ابداء ملاحظتين اثنتين.‏

                    الأولى:‏

                    لما كانت (عين) الفعل الثلاثي تحرك بالفتحة في أغلب الحالات فإنني سأكتفي بتشكيلها في حالتي (الضم والكسر) فقط. ولذلك فإن (عين ) الفعل الثلاثي المسيبّة بلا تشكيل يجب قراءتها (بالفتحة) حرصاً على تطابق معانيه مع الغرض المقصود من وضعه. فثمت أفعال ثلاثية تقبل (عينها) أكثر من حركة واحدة، قد تتغير معانيها بحسب حركة (عينها)، وقد تتعاكس أحياناً، كما في لفَت الشيء (لواه) ولفِت الرجل (حمق). وأصل الشيء (استقصى بحثه حتى عرف أصله)، وأصُل النسب (شرُف)، وأصِل اللحم (فسد).. أما الأفعال والاسماء التي ترد في سياق الشرح فإني لم التزم بتشكيلها، وإن كنت اقوم بذلك أحياناً حرصاً على ضبط النطق بها، وتوضيحاً للمعاني الحقيقية للأمثلة المضروبة.‏

                    الثانية :‏

                    لقد سبق أن عرضت في الحرف العربي والشخصية العربية (ص 129) وما بعدها عن تأثير تحريك عين الفعل الثلاثي في معانيه تحت عنوان (حركات الشكل و(عين ) الفعل الثلاثي ). وقد خلصت إلى النتائج التالية:‏

                    1-الثلاثي المضموم (العين) يدل على الفعالية الذاتية، وهو لازم اطلاقاً (كرُم، أدُب).‏

                    2-الثلاثي المكسور (العين) يدل على (حالة ذاتية). وهو لازم في معظم الأحيان (حزِن سوِد..) وأما عندما يكون متعدياً فإن الحدث يتجه نحو الذات، كما في (لهِم-لقِم-عشِق...)‏

                    3-أما الثلاثي المفتوح (العين) فكثيراً مايكون متعدياً: (ضرَب، سكن..)، ولازما أحياناً: (جنَح).‏

                    فحبذا لويعود القارئ إلى ذلك البحث الموسّع للاطلاع على دقائق هذه الملابسات في تحريك (عين ) الفعل الثلاثي وذلك لمعرفة علاقة هذه الحركات بمعاني أحرف (ا.و.ي) المخففة عنها، وكذلك للتثبت أيضاً من صحتها على واقع المعاجم اللغوية في الفصول القادمة. إنها لفرصة ثمينة كيما يطلع القارئ على مدى مابلغه العربي من فائق الحساسية بمعرض تعامله مع حركات الشكل، وكيما يكتشف أيضاً خطأ المعاجم في تحريك (عين) الفعل الثلاثي المتعدي بالكسرة بلا مبرر.‏

                    وللقارئ أن يعتمد ماسيرد في الأبواب والفصول القادمة حركات الشكل المثبتة سواء في الأمثلة المضروبة أو الشروح، ولكن شريطة أن يأخذ بحسبانه إمكانية تحريك (عين) الفعل الثلاثي بأكثر من حركة شكل وفقاً للمعاني المقصودة.‏

                    1-فماذا عن معاني التاء؟.‏

                    بالرجوع إلى المعجم الوسيط الصادر عن مجمع اللغة العربية في القاهرة، عثرت على مئة مصدر جذر تبدأ بالتاء مما هو غير مولد أو معرب أو دخيل أو محدث أو عامي.... كان منها ثمانية عشر مصدراً تدل معانيها على الرقة والضعف والتفاهة، بما يحاكي الرقة والضعف في صوت التاء. منها:‏

                    تبتب (شاخ). التّبن (القش اليابس). تخّ العجين (لان واسترخى). التراب. ترف النبات (كثر ماؤه ونضر). تره (وقع في الترهات). تفتف (اتسخ بعد نظافة).التّفّ (وسخ الظفر). تِفه (قلّ وخسّ وحقر). تكّ الرجل (حمق). التّلب (الخسار) تلف (هلك). تاع الجمد (ذاب وسال). تام الحب فلانا (استعبده وذهب بعقله).‏

                    وكان منها ستة وعشرون مصدراً تدل معانيها على الشدة والغلظة والقساوة والقوّة بما يتجافى مع موحيات الرقة والضعف في صوت التاء.منها:‏

                    تبّ الشيء (انقطع) . تَبِر(هلك) . تَبرَ الشيء (كسره) تبل فلانا (ثأر منه). تُرِز لحمه (صلُب وغلُظ). تُرِص الشيء (احكِم وضبِط). التّعل (حرارة الحلق الهائجة). تغر (انفجر). تِفئ (احتد وغضب). تفنه (طرده). تلتل (سار شديداً). تازتيزا (غلُظ واشتد).‏

                    وكان منها ثلاثة مصادر للشميات المستكرهة.هي:‏

                    تمِه اللحم (فسد ريحه). تنتلت البيضة (فسدت). تهِم اللبن (تغير وأنتن).‏

                    وكان منها خمسة مصادر للبصريات، مما يدل على الامتلاء والارتفاع. هي:‏

                    تَئِقَ الوعاء (امتلأ) . تَرِعَ الاناء(امتلأ). تلِع الرجل (طال عنقه). تمَك السنّام (طال وارتفع وامتلأ). التيهور (موج البحر المرتفع).‏

                    وكان خمسة للأصوات. هي:‏

                    تأتأ (كرّر التاء إذا تكلم ). تختخ (انبهم كلامه للكنة). تغتغ المتكلم (لم يسمع كلامه لسقوط أسنانه) .تهته (ردّد في كلامه ته ته). تِسْ تِسْ (زجرٌ للتيس).‏

                    وكان منها خمسة مصادر للمشاعر الإنسانية:‏

                    ترِح (حزِن). تلِه(ذهب عقله من هم، أو خوف أو عشق). تاق توقاً(اشتاق إليه، نزع). تاه تيها(تكبر) . تفِئ (احتدّ وغضب).‏

                    لقد اقتصرت نسبة المصادر التي تأثرت معانيها بالخصائص الصوتية لهذا الحرف، من ضعف ورقة وتفاهة على (38%) فقط. كما أن نسبة المصادر التي تجاوزت طبقته اللمسية قد بلغت (12%) مما يقطع بأن حرف التاء ضعيف الشخصية. وهذا ماهيأ الفرص للحروف الأخرى، كيما تتسلط بخصائصها الصوتية على معاني المصادر التي تبدأ به، فبلغت نسبة المصادر التي تدل على الشدة والقوة والقسوة ، بما يتعارض مع خصائصه الصوتية 26%.‏

                    ولكن ماذا عن حرف (التاء) في المصادر التي تنتهي به؟.‏

                    بالرجوع إلى المعجم الوسيط عثرت على سبعة وتسعين مصدراً تنتهي بحرف التاء. كان منها ثلاثة وعشرون مصدراً تدل معانيها على الضعف والرقة والتفاهة. منها:‏

                    بلِت (انقطع عن الكلام حياء). خبت ذكره(خفي). ختّ (خسّ وردؤ) . سكت. الشخت(الضامر خلقة). صمت. قلِت فلان (فسد وقلّ لحمه). قنت (أطاع الله).الفتات (ماتكسّر من الشيء وتناثر). لتّ السويق (بلّه بشيء من الماء). نات (تمايل لضعف أو نعاس). هبَت (لان واسترخى) . الوتاوت (الوساوس).‏

                    مع الإشارة إلى أن معاني هذه المصادر قد تأثرت في الأعم الأغلّب بخصائص أصوات الحروف المشاركة الأخرى، كما سنرى عند دراسة خصائص أصواتها. وأذكر منها على سبيل المثال أحرف (خ.ف.ن.هـ).‏

                    كما كان منها واحد وثلاثون مصدراً تدل معانيها على الشدة والقساوة والغلظة' مما يتجافى مع خصائص صوت (التاء) ويتوافق مع خصائص أصوات الحروف القوية المشاركة، منها:‏

                    بتّ الشيء (قطعه). بغته (فجأه). زمته (خنقه) . سمت الشيء (استأصله) خرت الشيء (شقّه وثقبه) . صلت فلانا بالسيف (ضربه به) . عفته (لواه، كسره من غير تفريق للأجزاء). قرِت الدم (يبس). نحته (قشره). هرت الشيء (شقّه ليوسعه). وحت الشيء (ضغطه، داسه شديداً)‏

                    وكان منها ستة مصادر للأصوات .هي:‏

                    أنت أنيتا(أنّ أنينا). صات (صاح) . نهت االقرد (صاح). كتّت القدر (صوّتت عند الغليان) . هوّت به وهيّت به (صاح به).‏

                    وكان منها أربعة مصادر للمشاعر الإنسانية . هي:‏

                    بهته (أدهشه). مقته(أبغضه). شمت به (فرح بمكروه أصابه) محته (ملأه غضباً).‏

                    وهكذا كان حرف (التاء) في نهاية المصادر من حيث تأثيره في معانيها، أو من حيث التزامه بطبقته الحسية أضعف منه في أول المصادر. مما يقطع بأنه من الحروف الضعيفة الشخصية، إذ اقتصر تأثيره على تلطيف معاني بعض المصادر المطبوعة أصلاً بخصائص أصوات الحروف المشاركة الأخرى ، كما سنرى في دراستها:‏

                    2-الثاء.‏

                    مهموسة رخوة. يقول عنها العلايلي: إنها (للتعلق بالشيء حسياً ومعنوياً) تعريف مبهم.‏

                    ويرى الدكتور أنيس أنه(لافرق بين صوتي (الثاء والذال) ، إلا الهمس بالثاء والجهر بالذال، وذلك لتقاربهما في المخرج بين طرف اللسان واللثة.‏

                    وفي الحقيقة أن هناك تناقضاً كلياً في طبيعة صوتيهما. فالنّفَس مع الثاء الملثوغة، يخرج بشيء من البعثرة، فيسمع له حفيف طري ، بينما يخرج النفَس مع الذال الملثوغة بعد مخرج الثاء مباشرة بذبذبة صوتية عالية. ولذلك كانت ايحاءات صوتيهما في منتهى التناقض.‏

                    فالرقة والليونة والملمس الدافئ الوثير في صوت الثاء.‏

                    والخشونة والحرارة والفعالية في صوت الذال.‏

                    وهكذا فإن تقارب الحروف في مخارجها لايمنحها تقارباً مماثلاً في ايحاءاتها الصوتية ولا في معانيها. فالحرف الشقيق إذا حلّ محل شقيقه في لفظة ما، لاتظل اللفظة على معنى مقارب لمعناها قبل الإبدال، وإنما قد يؤدي ذلك إلى التناقض في معانيهما أحياناُ كثيرة، كما في حرفي الثاء والذال، واحرف الخاء والحاء، والباء والميم، والصاد والسين، كما سوف نرى. فالثاء، إنما هي تأنيق للسين الرقيقة، وتأنيث لتاء التأنيث. وكأني بالعربي لم يبدع صوت هذا الحرف إلا خصيصاً للأنثى، ليميزها بالثاء حتى من النساء أنفسهن، إيفاء لحقها من الرقة والدماثة والإحاطة واللين. فما كل امرأة تتوافر فيها خصائص الأنوثة وإن كانت أنثى. فلفظة الأنثى إنما هي ألصق بالجنس من لفظة المرأة. قد قصّرت أنوثة الأشياء والكائنات الحية عن أنوثة الجنس في حرف الثاء، فأُنّثَتْ بتاء التأنيث. تفيض الثاء عليها من خلف هذا الحجاب الشفاف طيف رقة وعاطفة وأنوثة. لتستقل الثاء وحدها بعرش الأنوثة في لفظة الأنثى، ضمّاً للنون الأنيسة إلى الثاء الأنثوية، لا أمسّ بالنفس حسّاً، ولا أوقع في السمع جرساً.‏

                    لقد سبق أن نوهت في المرجع السابق (131-136)، بأن العربي قد عبرّ عن بعض معانيه بطريقة النطق بأصوات بعض الحروف في المرحلة الزراعية.‏

                    فهل اعتمد العربي (الثاء) كحرف إيمائي ، أم كحرف إيحائي للتعبير عن معانيه؟.‏

                    ورداً على ذلك أبيّن مايلي:‏

                    عندما يبدأ النّفَس بالخروج برخاوة وبطء مع صوت (الثاء) على المدرج الصوتي يقوم طرف اللسان بشق الأسنان الأمامية السفلى عن العليا، ثم يتراجع قليلاً إلى الوراء، وهنا تلاحظ ثلاث ظواهر: اثنتان منها بصريتان (إيمائيتان تمثيليتان)، والثالثة سمعية (إيحائية).‏

                    الظاهرة الأولى: انفراج الأسنان السفلى عن العليا عند خروج صوت (الثاء)، ومن ثم تراجع طرف اللسان إلى الداخل. وهذا يماثل الأحداث الطبيعية التي تتضمن الشق والانفراج.‏

                    الظاهرة الثانية: بعثرة النفَس ببطء أثناء خروجه بين طرف اللسان والأسنان العليا عند حدوث الصوت، مما يماثل الأحداث الطبيعية التي تتضمن البعثرة والتخليط.‏

                    الظاهرة الثالثة: حفيف رقيق يسمع لصوت (الثاء) مع اللثغ، مما يوحي بالرقة والبضاضة والطراوة والدفء ، وهي جميعاً أحاسيس لمسية.‏

                    فهل (الثاء) إذن بصرية أو لمسية؟.‏

                    وبتعبير آخر، هل وظيفة الثاء إيمائية أو إيحائية؟.‏

                    للاجابة عن ذلك ، لابد من الاحتكام إلى المعاجم اللغوية.‏

                    بالرجوع إلى المعجم الوسيط عثرت على أربعة وتسعين مصدراً تبدأ بحرف الثاء. كان منها سبعة عشر مصدراً تدل معانيها على الشق والانفراج والسيلان، مما يماثل عملية شق طرف اللسان الأسنان السفلى عن العليا، مع ظاهرة انفراجهما عند خروج الصوت وهي بذلك إيمائية. منها:‏

                    الثأي (الفتق وأثر الجرح). انثعّ الدم من الأنف (سال). ثعب الدم (فجرّه فسال). ثعرر الأنف (تشقق). ثغب الشاة (ذبحها). الثغر (الفم والفرجة في الجبل). ثلم الجدار (أحدث فيه شقا).‏

                    وكان منها سبعة عشر مصدراً تدل معانيها على البعثرة والتشتت والتخليط، مما يماثل بعثرة النفس بعد خروج صوت الثاء منها:‏

                    الثّدام (المصفاة، لبعثرة ثقوبها). ثرثر في الشيء (أكثر منه في تخليط). ثرد الخبز (فتّه ثم بله بمرق). ثرّ (غزر وكثر). الثرعلة (الريش المتجمع على عنق الديك). الثّريا (نجم تكثر أنجمه مع صغر منظره). ثطّ(خف شعر لحيته). ثعر (كثرت بثوره).الثلج . ثمأ الخبز (فتّه). ثمج الأشياء (خلطها). ثمغ الألوان (خلطها). ثار (هاج وانتشر).‏

                    وكان منها سبعة عشر مصدراً تدل معانيها على الرقة والطراوة والبضاضة ومتعلقات الأنوثة، مما يحاكي الرقة والدماثة في حفيف صوت الثاء الملثوغة. منها:‏

                    الثأدة (المرأة الكثيرة اللحم). الثدي (للمرأة، والضرع لأنثى الحيوان). امرأة ثيّب (غير عذراء). اثباجّ الرجل (صخم واسترخى). الثّرب (لحم رقيق يغطي الكرش والأمعاء). الثّعد (الغصن الطري من البقل). ثجل ثجلا (عظم بطنه واسترخى). الثرى (التراب الندي).‏

                    وهكذا فإن نسبة المصادر التي تدل معانيها على المرئيات المستمدة من طريقة النطق بالثاء إيماء وتمثيلاً قد بلغت (36%)، بينما لم تبلغ نسبة المصادر التي تدل معانيها على مايفيد الطراوة والليونة من اللمسات سوى (18%)، بما مجموعه (54%)‏

                    وعلى الرغم من ذلك فقد صنّفتُ (الثاء) في زمرة الحروف اللمسية، وذلك للأسباب التالية:‏

                    أولاً-لطريقة النطق بهذا الحرف:‏

                    عطفاً على حديثنا عن الجذور الغابية والزراعية في أصوات الحروف العربية في المرجع السابق (ص 125)، قد يتبادر الآن إلى ذهن القارئ أن العربي أبدع حرف (الثاء) في المرحلة الزراعية للتعبير ايماء وتمثيلاً عن معاني الشق والانفراج والبعثرة.‏

                    ولكن العربي قد أبدع حرف (الفاء) في المرحلة الزراعية خصيصاً للتعبير عن هذه المعاني بطريقة النطق به ايماء وتمثيلاً كما سيأتي مفصلاً في دراسة صوته.‏

                    وإذن لابد أن يكون العربي قد أبدع حرف (الثاء) لغرض آخر، فجاءت معاني الشق والانفراج آنفة الذكر عرضاً لا أصلاً.‏

                    فما هو هذا الغرض الأصل. ؟‏

                    لقد لفت انتباهي في بدء دراسة حرفي (الثاء) و (الذال) أن صوت (الثاء) هو أوحى مايكون بالأنوثة، وأن صوت (الذال) هو أوحى مايكون بالذكورة. فعلى الرغم من التناقض الكائن في خصائصهما الصوتية. فإنه لا ألصق منهما ببعضهما بعضا مخرج صوت.‏

                    كما لاحظت أيضاً أن مخرج (الذال) هو أقرب للظهور والبروز بين الأسنان العليا والسفلى، بينما مخرج (الثاء) يتراجع عنه قليلاً إلى داخل الفم قريباً من اللثه بحشمة أكثر. فاكتفيت بادئ الأمر بالكشف عن التماثل الكائن بين طبيعة صوت كل منهما وبين طبيعة الجنس الذي يمثله.‏

                    ولكن بعد دراسة حرف (الفاء) الإيمائي، لفت انتباهي أيضاً طريقة النطق بحرفي (الثاء والذال) من حيث قيام طرف اللسان بشقّ الأسنان السفلى عن العليا قليلاً في حرف (الثاء) وأكثر منه في حرف (الذال).‏

                    ولما كان الانسان العربي قد استخدم طريقة النطق بحرف (الفاء) للتعبير عن أحداث القطع والشق والانفراج إيماء وتمثيلاً، فلا بد أنه قد استخدم طريقة النطق في حرفي (الثاء والذال) في المرحلة الزراعية لأغراض أخرى. فماهي؟.‏

                    قبل أن تهتدي المرأة في تلك المرحلة إلى الأصوات المعبرة عن معانيها، يبدو أنها قد استخدمت طرف اللسان في شق الأسنان السفلى عن العليا قليلاً للتعبير إيماء وتمثيلاً عن جنس الأنوثة.كما أنها استخدمت اللسان بمدّ طرفه خارج الفم أكثر للتعبير عن جنس الذكورة. وكان لابد أن تترافق هاتان الحركتان الإيمائيتان بالإشارات والأصوات المناسبة، جرياً على عادة الانسان البدائي في دنيا التواصل مع أبناء جنسه.‏

                    وفي مرحلة الرعي، قام العربي بتهذيب الأصوات الغابية والزراعية، وعمل على التخلص من الإشارات اليدوية والحركات البدنية فلم يبق منها إلا القدر اللازم لخروج أصوات الحروف الإيمائية.‏

                    وهكذا طور العربي في المرحلة الرعوية حركات اللسان والأسنان المعبرة عن جنس الأنوثة والذكورة، تخفيفاً وتهذيباً، كما طوّر الصوتين المرافقين لهما لثغاً وجرساً بما يتوافق مع خصائص الأنوثة والذكورة، ليس ايماء وتمثيلاً فقط، وإنما ايحاء صوتياً أيضاً. لتتوّزع بذلك خصائصهما وتأثيرهما في معاني الألفاظ بين الإيمائي والإيحائي.‏

                    وهكذا فإن معاني الشق والانفراج في المصادر التي تبدأ بحرف (الثاء) قد جاءت عرضاً لاقصداً. وذلك بدليل أن معانيها تتطوى جميعاً على الرقة واللين مما لايتطلب أي قوة أو جهد، على العكس من معاني الشق والانفراج في المصادر التي تبدأ بحرف (الفاء)، كما في (فأس الخشبة (شقها)، فأى رأسه (فلقه)، فدع الشيء (كسره)، فرى الشيء (شقه)، فشق الشيء (كسره)، فقع الشيء (شقه)الخ....).‏

                    ثانياً- لغلبة معاني الرقة ومتعلقات الأنوثة في المصادر التي تنتهي بالثاء.‏

                    بملاحقة (الثاء) في نهاية المصادر، عثرت على ثلاثة وثمانين مصدراً. كان منها أربعة وأربعون مصدراً للبعثرة والتخليط والجمع العشوائي بشيء من الرقة، بما يحاكي البعثرة في النفَس أثناء خروج صوتها . منها:‏

                    أث الشعر(التفّ).بأثه (بدّده وفرقه). بثّه(فرّقه ونشره). ارتبث القوم(تفرقوا). رمث الشيء (خلطه). الشعث (ماتفرق من الأمور). الحثّ(المدقوق من كل شيء ، حطام التبن). ضغثّ الحشيش (جمعه وخلطه. ومنها أضغاث أحلام) . عبث الشيء بالشيء (خلطه). علث الشيء (جمعه). غبث الشيء (خلطه) غلث الشيء (خلطه). فرِث القوم (تفرقوا). نكث السواك (فرق رأسه ونشره). نبث الأرض (نبش ترابها وحفرها). نجث وبحث (نبشَ). نقث الأرض (أثارها بفأس أو مسحاة). نثّ الوعاء ومث ومثمث (رشح).‏

                    وقد سبق أن أشار (ابن جني ) بصورة عابرة إلى الخاصية الإيمائية لحرف (الثاء) دون أن يقول بها. وذلك في المثال (بحث) الذي ضربه للدلالة على أن العربي قد أبدع كلماته تعبيراً عن معانيه وفقاً لقاعدته الأذكى: (سوقاً للحروف على سمت المعنى المقصود والغرض المراد) قائلاً:‏

                    (( الباء لغلظتها تشبه بصوتها خفقة الكف على الأرض. والحاء لصحلها تشبه مخالب الأسد إذا غارت في الأرض. والثاء للنفث والبث للتراب..)) .الخصائص ح 2 ص (162-165).‏

                    كما عثرت على واحد وعشرين مصدراً تدل معانيها على الرقة واللين ومتعلقات الأنوثة :منها: أنث(لان ) . البهثة (البشر وحسن اللقاء). دغث الصبي أمّه (رضعها). طمثت المرأة (حاضت). الرفث في النساء (الاستمتاع بهن). خرثت المرأة (ضخمت خاصرتاها واسترخى لحمها ). خنِث الرجل (تشبه بالنساء). خِوث الرجل (عظم بطنه واسترخى). الوعثة من النساء (السمينة). دمِث المكان (سهل ولان). ماثت الأرض ميثاً (لانت). داث ديثاً (لان وسهل).‏

                    ولم أعثر على أي مصدر يدل معناه على الشق أو الانفراج والسيلان. وهذا يرجع إلى أن طرف اللسان في نهاية اللفظة يستقر في وضعه الأخير بين الأسنان العليا والسفلى. فلا تنفرجان عن بعضهما بعضاً. وذلك على مثال غياب معاني الشق والانفراج والتباعد في المصادر التي تنتهي بحرف الفاء). كما سيأتي. حساسية (ذوقية-لغوية) لانظير لها في أي لغة أخرى.‏

                    وهكذا بلغت نسبة المصادر التي تدل معانيها على البعثرة والتخليط في الجدول أعلاه (53%) بينما لم تبلغ في المصادر التي تبدأ بالثاء سوى (36%).‏

                    أما الرقة واللين ومتعلقات الأنوثة قد بلغت هنا (25%) في حين لم تبلغ هناك سوى (18%)، وإذا لحظنا أن معظم المعاني الدالة على البعثرة والتخليط في المصادر التي تنتهي بالثاء تنطوي أصلاً على الرقة واللين ، يتبين أن صوت (الثاء) كان أوحى بخصائص الرقة واللين ومتعلقات الأنوثة في آخر الألفاظ منه في أولها، إذ بلغت هنا (78%)، في حين لم تبلغ هناك سوى (36%).لترجح بذلك كفّة الاحاسيس اللمسية على الاحاسيس البصرية في معاني المصادر التي تنتهي بالثاء وكانت شخصيتها في نهاية المصادر أقوى بكثير منها في أولها، كما هو حال الحروف الشاعرية الرقيقة.‏

                    ثالثاً-لأن حرف (الثاء) يمثل جنس الأنوثة كإحساس لمسي:‏

                    فضلاً عن أن (صوت) الثاء، هو أوحى مايكون بخصائص الأنوثة رقة ولطفاً ودفئاً فإن العربي قد استخدم هذا الحرف لإبداع أخصّ المعاني التي تدور حول الجنس مباشرة بلا وسيط من خيال أو تورية أو كناية، مما لم يجاره في هذا الاختصاص أي حرف آخر، وذلك كما في لفظة (الأنثى) كتعبير عن جنس الأنوثة، وكما في لفظة (رفث) كتعبير عن الاستمتاع بالأنثى.‏

                    وهكذا بقيت معاني جميع المصادر التي تبدأ أو تنتهي بحرف (الثاء) موزعة بين اللمسي والبصري لم تتجاوزهما إلا في لفظتي (ثَحْثَحَ، وثغا) للأصوات، ولاشيء للمشاعر الإنسانية. وعلى الرغم من رقة صوت (الثاء) ودماثته، فقد أثرت في معاني المصادر التي تنتهي بها بنسب بلغت (78%) كما حافظت على طبقتها اللمسية البصرية، مما أجاز لي تصنيفها في عداد الحروف القوية الشخصية.‏

                    3- حرف الذال:‏

                    مجهور رخو، معناه لغة (عرف الديك)، يقول عنه العلايلي : إنه (للتفرد). تعريف مبهم. إذا كانت خصائص الأنوثة قد تجمعت كلها في (الثاء)، رقة ودماثة وحشمة، فقد تركزت في (الذال) كل الذكورة، توتر صوت، وخشونة ملمس، وشدة ظهور.‏

                    وهكذا تتجاور الذكورة والأنوثة في اللسان العربي مخرج صوت، ويتماثلان في طريقة النطق بهما على ما في صوتيهما من التناقض في الخصائص، وذلك على مثال مابين الذكورة والأنوثة. رفقة عمر وتناقض خصائص.‏

                    فإذا كانت (الثاء) تدغدغ طرف اللسان بكثير من المرونة والدماثة فتوحي بطعم الدسم والملمس الدافئ الوثير، فإنّ الذال ألذع مذاقاً وأكوى حرارة وأوخذ ملمساً وأشد توتراً، ليشف بذلك صوت كل حرف منهما عن خصائص الجنس الذي يمثله. وهكذا تتراءى مفاهيم الجنس في الذكورة والأنوثة كأحاسيس لمسية خلف أستار شفافة من صوتي هذين الحرفين، ولا أوحى منهما بخصائص الأنوثة والذكورة في لغتنا.‏

                    وبالرجوع إلى المعجم الوسيط عثرت على ثمانية وخمسين مصدراً تبدأ بحرف الذال كان منها أحد عشر مصدراً تدل على الاهتزاز والاضطراب وشدة التحرك، بما يتوافق مع ظاهرة الاهتزاز في صوت الذال الملثوغة.هي:‏

                    ذبّ (لم يستقر في مكان). ذحجته الريح (حركته وجرّته من موضع إلى آخر). ذأل (مشى مسرعاً). ذحذح (تقارب خطوه مع سرعة ). ذعذعه (حركة بشدة). ذف الطائر (أسرع). تذلذل (اضطرب واسترخى). ذمِل البعير (سارسيراً سريعاً ليناً). ذمي المريض (أخده النّزاع فطال احتضاره). ذهب (مرّ ومضى ) . ذاط في مشيه(حرك منكبيه من كثرة اللحم).‏

                    ويمكن إلحاق أربعة مصادر أخرى بهذا الجدول تدل معانيها على حالات نفسية أو ذهنية تتطوى على الاهتزاز والاضطراب.هي:‏

                    ذهِل (تدلّه، وغاب عن رشده). ذئِر (أنف وغضب). ذعره (خوّفه). ذمر(غضب).‏

                    كما يمكن إلحاق لفظتي. الذّنب والذّيل، بهذا الجدول أيضاً، لما يرافق هذا العضو في الحيوان من ظاهرة الذبذبة والحركة المستمرة. لتبلغ نسبة المصادر لهذه المعاني (30%)، مما يدل على أن العربي قد أحسن استخدام ظاهرة الاهتزاز والاضطراب في صوت الذال الملثوغة بحساسية سمعية فائقة الرهافة.‏

                    كما كان منها أحد عشر مصدراً تدل معانيها على البعثرة والانتشار، بما يتوافق مع بعثرة النفَس في صوت الذال الملثوغة إيماء وتمثيلاً.هي:‏

                    ذرأ الأرض (بذرها). ذرّ الشيء ذراً (فرقه وبدّده). ذفر المسك (اشتدت رائحته وانتشر) . ذرا ذرواً (طارفي الهواء وتفرق). ذاع الخبر (انتشر). ذكت النار(اشتد لهيبها واشتعلت). ذرف الدمع . ذرح الشيء في الريح (ذراه). ذاح الشيء ذوحا (فرقه وبدّده). ذاب الشحم (سال عن جمود).‏

                    كما كان منها تسعة عشر مصدراً تدل معانيها على الفعالية والشدة والقطع، بما يتوافق مع خصائص القوة والفعالية في صوت الذال. منها: ذأمه(طرده، عابه).الذئب.ذبحه. ذجّ الشيء (دقّه وشقه). ذرب السيف (صار حادا ماضياً). الذراع. سم ذعاف (قاتل). الذكورة (نقيض الأنوثة). ذلَق السِّنان ذلاقة (صار حاداً صلقاً). ذِلق السِّنان واللسان ذلقا (ذرِب). ذيّاه (قطعه). الذّهن (الفهم والعقل والقوة). ذمِه اليوم (اشتد حرّه). ذاده ذوداً (دفعه وطرده).‏

                    وهكذا تبلغ نسبة المصادر التي تتوافق معانيها مع الخصائص الإيمائية والإيحائية لحرف الذال في الجداول الثلاثة (70%). وهي نسبة عالية تؤهّله للانتماء إلى زمرة الحروف القوية الشخصية. على أن (الثاء) في نهاية المصادر كانت أقوى من الذال في أولها.‏

                    وعلى الرغم من أن معاني المصادر التي تبدأ بحرف الذال لم تلتزم بطبقته اللمسية، إذ تجاوزتها إلى جميع الطبقات من ذوقيها حتى شعوريها، فقد صنّفته في عداد الحروف اللمسية باعتباره يمثل جنس الذكورة، على مثال ماصنفت (الثاء) في عداد الحروف اللمسية باعتبارها تمثل جنس الأنوثة، وللقارئ المعترض أن يصنفه في زمرة الحروف البصرية إن شاء.‏

                    4- حرف الدال‏

                    مجهور شديد. يشبه شكله في السريانية صورة الدلو. يقول عنه العلايلي: إنه (للتصلب والتغير المتوزع). التصلب صحيح، أما التغير المتوزع فهو مبهم، ويتعارض مع التصلب.‏

                    ولكن صوت الدال أصمّ أعمى مغلق على نفسه كالهرم ، لايوحي إلا بالأحاسيس اللمسية وبخاصة مايدل على الصلابة والقساوة وكأنه من حجر الصوان. فليس في صوت (الدال) أي إيحاء باحساس ذوقي أو شمي أو بصري أو سمعي أو شعوري، ليكون بذلك أصلح الحروف للتعبير عن معاني الشدة والفعالية الماديتين .‏

                    وبالرجوع إلى المعجم الوسيط عثرت على مئتين وسبعين مصدراً تبدأ بحرف الدال كان منها مئة مصدر تدل معانيها على الشدة والفعالية الماديتين وعلى التحطيم والدعس. منها: دبأ فلانا بالعصى (ضربه بها). دحبه(دفعه). دحجه (عركه). دحس البيت (امتلأ). دحمه (دفعه بشدة). الدّخنس (الشديد الكثير اللحم من الناس والدواب). الدّرق (الصلب من كل شيء). درمك الشيء (دقه وطحنه) . الدّرباس والدّرواس (الأسد). درحه (دفعه). دشّ الحبّ(دقّه). درع الذبيحة (سلخها من عنقها). دعث الأرض (داسها). دعثره (صرعه وأهلكه). دعسه (داسه). دعمه بالرمح (طعنه).دعك الجلد (دلكه ولينّه). الدعامة (عماد البيت الذي يقوم عليه). دكّ البناء (هدمه).دكل الشيء (داسه). دمدم القوم (طحنهم فأهلكهم). دمر الشيء (أباده). دلك الثوب (دعكه بيده ليغسله). دقمه (دفعه مفاجأة ). دهثه (وطئه بشدة). دهدم البناء(هدمه). دهق الشيء (كسره وقطعه). دهف الشيء (أخذه أخذا كثيرا) . دهكه (طحنه وكسره). داسه (وطئه بشدة). داحت الشجرة (عظمت ). دهمق الشيء (كسره).‏

                    كما عثرت على واحد وعشرين مصدراً تدل معانيها على الدحرجة والتحرك السريع منها:‏

                    دأدأ(عدا أشد العدو) . دجّ (دبّ وأسرع). دخدخ (أسرع). دحرجه. دربأه (دحرجه). درقع ودرفل ودلظ (مرّمسرعا). دلق (خرج مسرعاً) دحدره (دحرجه). دهدى الحجر ودهدهه (دحرجه) . دهرج (أسرع في مشيه). دفدف (أسرع). دمشق في الشيء (أسرع. والدماشق، الشديد السرعة). دمك في مشيه (أسرع) تدهكر في مشيه (أسرع). دهمج البعير (قارب الخطو وأسرع). ولئن كانت الحركة تنتمي أصلاً إلى القطاع البصري، فإن ظاهرة الشدّة المادية هي المقصودة ، مما دعاني إلى تصنيف (الدال) في زمرة الحروف اللمسية.‏

                    وخلافاً لكل توقع، قد عثرت على (26) مصدراً تدل معانيها على الظلام وألوان السواد، هي:‏

                    دحدج الليل (أظلم). دجم ودجن (أظلم). الدّجى (سواد الليل). الدّيجور (الظلام). دحمس الليل (أظلم) . دخّ (أسودّ لونه كمداً). الدّخان. ليل داج (مظلم). الديسم (الظلمة والسواد). الأدْغم (الأسود الأنف).دعلج الليل (أظلم). ليل أدعج (شديد السواد). الدغش (الظلمة). دغن الليل (أظلم). أدلج القوم (ساروا في أول الليل). ليل داخ(مظلم). دلِم (اشتد سواده مع ملوسة). أدلمّس الليل (اشتدت ظلمته). أدلهمّ الظلام (اشتد). دمج الليل(أظلم). دمس الظلام (اشتد سواده) . دهِم (اسودّ). دكِن (مال إلى السواد). الدارش (جلد أسود) . الدّخامس(الأسود الضخم).‏

                    كما عثرت على تسعة مصادر تدل معانيها على المشي البطيء للثقل بما يتوافق مع ثقل صوت الدال . هي :‏

                    دأل(مشى مشية المثقل). دلخ (مشى بطيئاً لثقل حمله). دبّ(مشى رويداً) . دأى(مشى كمشية المثقل). دربل (مشى متثاقلاً). درمج في مشيه (دب دبيباً).‏

                    وإذن كيف يستيقيم لي أن أصنف حرف (الدال) في زمرة الحروف اللمسية وقد تجاوز طبقتها إلى البصرية في ستة وعشرين مصدراً تدل معانيها على السواد والظلام. ؟ ليبذّ حرف (الدال) في هذا المضمار حرفَ الغين المختص أصلاً بمعاني الغيبوبة والغؤور والظلام، كما سوف نرى. ذلك أن انغلاق صوت (الدال) على نفسه قد جعله في عزلة عمياء صمّاء عن أي إحساس آخر أو مشاعر إنسانية.‏

                    وهذا الانغلاق جعله أصلح الحروف للتعبير المباشر عن الظلام والسواد. دونما كناية أو تورية.‏

                    فهل لدى القارئ تعليل آخر؟.‏

                    وهكذا فإن المصادر التي التزمت معانيها بالخصائص الحسية لحرف الدال لمسيها وبصريها لم تبلغ سوى (58%)، وهي أقل مما كان متوقعا لهذا الحرف القوى والثقيل.ولاشك في ان ذلك يعود إلى تعاونه مع الحروف العربية كلها، باستثناء حرفي (الضاد والذال)، المحجوبين عنه بحرفي (الظاء والزاي). فكان لابد لحرف (الدال) أن يتفاعل مع أصوات بقية الحروف، مؤثراً فيها حينا، ومتأثراُ بها حيناً آخر. ولذلك كثرت المصادر التي تدل معانيها على الرقة والضعف والوهن لتدخّل الحروف التي في أصواتها رقة وأناقة ولين، كما في حروف (ن. ث. خ. ح. هـ. ش).‏

                    على أن معاني المصادر التي تبدأ بهذا الحرف، باستثناء مادل منها على الظلام والسواد، قد التزمت بطبقته اللمسية، لم تتجاوزها إلا في خمسة للأصوات هي:‏

                    دردر الماء(صوت).دقدق القوم(اجلبوا). دنّ الذباب دنينا (صوت وطنّ). دَ هـْ دّ هـَ (صوت لزجر الابل). دندن . وذلك لتدخل أحرف (ق. ن. هـ) ،كما سنرى. وفي مصدرين للمشاعر الانسانية هما:‏

                    دلِه (ذهب فؤاده عشقاً). دهشه (حيره وأذهب عقله). وذلك لتدخل الهاء الشعورية. وهذا يقطع بأن حرف (الدال) صحيح الانتماء إلى الحاسة اللمسية وإلى زمرة الحروف المتوسطه القوة، ولا أثقل وزنا.‏

                    5-حرف الكاف:‏

                    مهموس شديد، هو عند العلايلي والأرسوزي(للاحتكاك)، وهذا واحد من معانيه. هذا الحرف، إذا لفظ صوته ممطوطاً مخفوتاً به قليلاً ومضغوطاً عليه بعض الشيء، يحاكي صوت احتكاك الخشب بالخشب. ولعل العربي قد اقتبسه عفو الفطرة من هذا الحدث لإشعال النار بهذه الطريقة البدائية. وصوته في هذه الحال يوحي بشيء من الخشونة والحرارة والقوة والفعالية، مما يؤهله للانتماء إلى حاسة اللمس. أما إذا لفظ بصوت عالي النبرة وبشيء من التفخيم والتجويف، فإنه يوحي بالضخامة والامتلاء والتجميع، مما يؤهله للانتماء إلى زمرة الحروف البصرية. وإذن فلنحتكم إلى المعاجم اللغوية في مسألة أنتمائه.‏

                    بالرجوع إلى المعجم الوسيط عثرت على مئة وستة وثمانين مصدراً تبدأ بحرف الكاف. كان منها أربعة مصادر للاحتكاك وواحد للحرارة هي:‏

                    كسحت الريح الأرض (قشرت عنها التراب). كشح العود (قشره). كشطه عنه (ازاله). كفكف دمعه (مسحه مرة بعد مرة).كهر الحر (اشتد).‏

                    وكان منها أربعون مصدراً للشدة والفعالية.منها:‏

                    كبّه على وجهه. كدّه وكرده (طرده). كسر الشيء. كعبره بالسيف(قطعه). الكلاكل (القصير الغليظ الشديد). كمحه ( كبحه). الكنادر من الرجال الغليظ القصير مع الشدة) كنت فلان في خلقه (قوى). كار في مشيه (أسرع)، والراء هنا للحركة كما سيأتي‏

                    وكان منها أربعون مصدراً تدل معانيها على الكثرة والضخامة والتجميع. منها:‏

                    كبُر. الكبْع (حوت عظيم). الكِتلة. الكثير. الكُردوس (كل عظم تام ضخم). كسب الشيء (جمعه). كظب (امتلأ سِمنا). كعر الصبي(امتلأ بطنه وسمن ) كلس الشيء وكلده وكلزه (جمعه).كمل. كنّر فلان (ضخم، وسمج). كاز الشيء (جمعه). تكوكل القوم (تجمعوا) . كوِم الشيء (عظم).‏

                    وكان منها ستة مصادر للأصوات. هي:‏

                    كتّتِ القدر(صوتت عند ابتداء غليانها). كحّ(سعل). كخّ الرجل (غطّ في نومه). كركر (ضحك كالقهقهة). كشّت الأفعى (صوَّت جلدها باحتكاكه ببعضه). كاد الغراب كيداً (صاح بجهد). ويلاحظ أن معظم هذه الأصوات يحاكي أصوات الحروف التي تتألف منها هذه المصادر.‏

                    وكان للمشاعر الانسانية مصدران. هما: كئِب وكرب.‏

                    وهكذا يبدو أن حرف (الكاف) موزع الانتماء بين حاستي اللمس والبصر. فقد بلغت نسبة اللمسيات من احتكاك وحرارة وشدة (26.5%)، وبلغت نسبة البصريات (23.5%). وهذا الفارق الضئيل لايجيز لنا حشر (الكاف) في زمرة الحروف اللمسية.‏

                    وإذن لابد من الرجوع إلى المصادر التي تنتهي بهذا الحرف.‏

                    لقد عثرت على أربعة وثمانين مصدراً تنتهي بالكاف، كان منها خمسة عشر مصدراً تدل معانيها على الاحتكاك، مادّيه ومعنويِّه. هي:‏

                    ألَك الفرس اللجام (علكه ومضغه). حكّ. دعك. دلك. شبك الشيء (تداخل بعضه في بعض). شكّ الشيء (لصق بعضه ببعض). عرك الجلد ومعكه (دلكه). علك. مكّ العظم (مصّ جميع مافيه). محك (لجّ في المنازعة).وكان للحرارة ثلاثة مصادر. هي:‏

                    أكّ اليوم وعكّ(اشتد حره). عتك الحرّ (اشتد).‏

                    أما الشدة فكان لها ثلاثة عشر مصدراً.منها: بتكه (قطعه). بكّ الشيء (هشمه ومزقه). دكّه(دقّه ودفعه). صكّه (دفعه بقوة). الضنك (الشدة). متك الشيء (قطعه).نهكه(جهده وغلبه). دهكه (طحنه).‏

                    وكان للضخامة والتجميع تسعة مصادر. منها:‏

                    أيك الشجر (كثُر والتف) باك البعير (سمِن). تمَك السنام (طال وارتفع وامتلأ). حشك القوم (احتشدوا) . زمكه (ملأه ). ودِك (سمِن).‏

                    وكان للأصوات مصدر واحد هو: ضحك ولاشيء للمشاعر الانسانية.‏

                    وهكذا نرى أن تأثير حرف الكاف في معاني الألفاظ يختلف باختلاف موقعه منها. فهو في أولها موزع الإيحاءات بين اللمسي والبصري بنسب متقاربة كما لحظنا آنفا.أما في آخر المصادر فكان للمسيات منها (37%) بينما اقتصرت البصريات على نسبة (10%).‏

                    كما لوحظ أن حرف الكاف كان أكثر التزاماً بطبقته اللمسية عند مايقع في آخر المصادر، إذ لم يتجاوزها إلى الطبقات الأعلى إلاّ في مصدر واحد هو (ضحك). أما المصادر التي يقع الكاف في أولها، فقد تجاوز ثمانية منها اللمسي والبصري إلى السمعي والشعوري كما مر معنا‏

                    ومنه يتضح أن العربي كان يلفظ حرف (الكاف) في أول المصادر بشيء من الفخامة والشدة وليس كما نلفظه اليوم بشيء من الرقة والرخاوة.فكان صوته بذلك أوحى بالشدة والضخامة.أما في آخر المصادر فكان يلفظه مخفوتاً به بعض الشيء وممطوطاً أيضاً، ليكون صوته بذلك أوحى بالاحتكاك والحرارة.‏

                    وعلى الرغم من أن هذا الحرف يمكن تصنيفه في زمرة الحروف البصرية، فإنني أخترت له زمرة الحروف اللمسية وذلك لظاهرة الاحتكاك اللمسية المتأصلة في طبيعة صوته.‏

                    ولما كان هذا الحرف قد أثّر في معاني المصادر التي وقع في أولها بنسبة (50%)، وفي المصادر التي وقع في آخرها بنسبة 48%)، فهو يتمتع بشخصية متوازنة متوسطة الشدّة. كما أنه يتمتع بشخصية جيدة من حيث التزامة بطبقته اللمسية عندما يقع في نهاية المصادر.‏

                    6- حرف الميم:‏

                    مجهور،متوسط الشدة أو الرخاوة. شكله في السريانية يشبه المطر وهو عند العلايلي (للانجماع)، وهذا واحد من معانيه.‏

                    يحصل صوت هذا الحرف بانطباق الشفتين على بعضهما بعضا في ضمة متأنية وانفتاحهما عند خروج النفس. ولذلك فإن صوته يوحي بذات الاحاسيس اللمسية التي تعانيها الشفتان لدى انطباقهما على بعضهما بعضا، من الليونة والمرونة والتماسك مع شيء من الحرارة.‏

                    وهكذا صنّفت هذا الحرف بادئ الأمر في زمرة الحروف الايحائية. وبمطابقة خصائصه الصوتية على معاني المصادر التي تبدأ أو تنتهي به تبين لي أنه يكاد يكون معدوم الشخصية، فلم أولِهِ كبير عناية أو اهتمام. ولم أنتبه إلى خصائصه الإيمائية إلا بعد أن اكتشفت مصادفة الخصائص الإيمائية في حرف الفاء كما سيأتي في دراسته.‏

                    فانطباق الشفة على الشفة مع حرف الميم يماثل الأحداث الطبيعية التي يتم فيها السدّ والانغلاق. كما أن ضم الشفة على الشفة بشيء من الشدة والتأني قبيل خروج صوت الميم يمثّل بداية الأحداث التي يتم فيه المص بالشفتين والجمع والضم.أما انفراج الشفتين أثناء خروج صوت الميم فهو يمثل الاحداث التي يتم فيها التوسع والامتداد.‏

                    وهكذا فإن خصائص صوت هذا الحرف موزعة بين اللمسي الإيحائي والبصري الإيمائي، مع ملاحظة وجود التناقض بين الانغلاق والانفتاح في خصائصه الإيمائية.‏

                    فماذا عن خصائص هذا الحرف في المعاجم؟.‏

                    بالرجوع إلى المعجم الوسيط عثرت على مئتين وثلاثة وخمسين مصدراً تبدأ بحرف الميم كان منها (45) مصدراً تدل معانيها على المرونة والرقة والتماسك بمايتوافق مع إيحاء صوت الميم .منها.‏

                    المأد (الناعم من كل شيء). المجماج(المسترخي المترهّل). مرت الشيء (ملسه). أمرخ العجين (كثر ماؤه حتى رق) . مرن (لان بعد صلابة). معّ الشحم (ذاب) . ملس الشيء (لان ونعم). مهك الشيء (سحقه وملسه). مَهُوَ السائل(رقّ وكثر ماؤه). ماث الشيء موثا (مرسه حتى تنحل اجزاؤه). مرس التمر في الماء(دلكه في الماء حتى تنحل أجزاؤه). ماثت الارض ميثاً (لانت وسهلت).ماع الجسم( ذاب وسال).‏

                    وكان منها سبعة عشر مصدراً تدل معانيها على الجمع والضم والكسب، بما يتوافق مع واقعة ضم الشفة على الشفة بشيء من الشدة. منها:‏

                    متح الدلو (جذبه). متش الشيء (جمعه). المثانة(كيس في الحوض يتجمع فيه البول). المدينة (المصر الجامع). المرهة (حفيرة يجتمع فيها ماء السماء).مزن القربة (ملأها)، مسك بالشيء. مشع (كسب وجمع) .مع(حرف جر للمصاحبة). ملك الشيء (حازه). امتلأ الشيء (أفعم). المال(كل مايملك الفرد) .‏

                    وكان منها ثلاثة وثلاثون مصدراً تدل معانيها على الرّضاع والحلب والمص واستخراج مافي الأشياء المجوفه، بما يتوافق مع حركة ضمّ الشفة على الشفة بشيء من الشدة والتأنيّ . منها :‏

                    مرث الصبي ثدي أمه (مصَّه). امترى الناقة (حلبها). مرز الصبيّ ثدي أمّه (عصره بأصابعه في رضاعه). مصعت المرأة ولدها (أرضعته قليلاً). مذع الضرع (حلب نصف مافيه). معج الفصيل ضرع أمّه (لهزه وقلّب فاه في نواحيه ليتمكن منه). مغد الفصيل أمّه (رضعها). مقع الفصيل أمّه (رضعها بشدة). امتقّ الفصيل ما في الضرع (شربه كلّه) . مشق مافي ضرع الناقة (حلبه). مصر الناقة (حلبها بأطراف الأصابع). مقمق الحوار خِلْفَ أمه (مصّه مصّا شديداً). مقا الفصيل أمه مقواً (رضعها رضعاً شديداً). ملج الصبي ثدي أمه (رضعها بتناول ثديها بأدنى الفم). ملحت فلانة لفلان (أرضعت له). ملق الصبي أمه (رضعها). مخمخ العظم وتمخّاه (أخرج مخّه). المزرة (المصّه). مزّ الشراب (مصّه). مسط المعي (أخرج مافيه عصراً بأصبعه). مشّ العظم (مصّه بعد مضغه). مصد الشيء (مصّه). مصّ الشراب (شربه شرباً رفيقاً). مصمص فاه(مضمضه). مضّ الشيء (مصّه). مضمض الماء في فمه (أداره فيه). معق الشراب (شربه شرباً شديداً) مكّ العظم ومكمكه (مص جميع مافيه) تمهّق الشراب (شربه ساعة بعد ساعة).‏

                    ويلحق بهذه الفئة من المصادر حرف الجر(من) ،لخاصية الأخذ في وظيفتها التبعيضية.‏

                    وكان منها خمسة مصادر تدل معانيها على الهضم والمضغ، بما يتوافق مع حركة انطباق الشفتين على بعضهما بعضا .هي:‏

                    قطَعَ الشيء (أكله بمقدمة أسنانه). مضغ الشيء (لاكه بأسنانه). تمطّق الطعام (تذوقه). معد لحمه (أخذه بمقدم أسنانه). مغمغ اللحم (لم يحكم مضغه).‏

                    وكان منها أربعة وعشرون مصدراً تدل معانيها على التوسع والامتداد والانفتاح، بما يتوافق مع حركة انفراج الشفتين والفكين عن بعضهما بعضا في أثناء خروج صوت الميم.منها:‏

                    مأس الجرح (اتسع). مأى السقاء(وسّعه).متر الحبل (مدّه). متى الحبل متوا(مدّه). مدّ الشيء (زاد فيه). مزع القطن ( نفشهُ بأصابعه). مطّ الشيءَ (مدّه). مصل الحبل(مدّه). مطمط في كلامه (مده وطوله).معط الشيء (مدّه). تمعّى السقاء (تمدد وتوسع، ومنه، معا السنّوّر ، بمعنى صوّت ، لطول مايمدّ بصوته). مغط الشيء (مدّه ليستطيله). ملد الشيء ملدا (مدّه).‏

                    ولم أعثر إلا على مصدر واحد للحرارة هو: محت اليوم (كان شديد الحرّ).‏

                    ولم أعثر على أي مصدر يدل على السّداد أو الانغلاق .‏

                    وكان منها خمسة مصادر للأصوات هي:‏

                    مأمأت الشاة(واصلت صوتها). معا السنور ومغا مغوا (صاح) .مكا (صفّر).ماء القطّ مواء (صاح).‏

                    ويلاحظ أن هذه الأصوات الخمسة تتوافق مع خصائص الميم الإيحائية (طبيعة صوت).أو مع خصائصه الإيمائية (مدّاً في الأصوات واستعانة بالشّفاه في إحداثها).‏

                    وكان منها ثلاثة للمشاعر الإنسانية .هي:‏

                    المرح (شدة الفرح). معض من الأمر (غضب وتألم). مقته(أبغضه أشد البغض).‏

                    ولقد بلغت نسبة تأثير خصائص حرف الميم الإيحائية والإيمائية في المصادر التي تبدأ به نيفا و(50%). مما يقطع بأن حرف الميم ينتمي إلى طبقتي اللمسي والبصري بجدارة .‏

                    وأنا إذ صنّفته في زمرة الحروف اللمسية، فذلك لطبيعة صوته ولغلبة معاني اللمسيات في المصادر التي تبدأ به من رقة ولين وتماسك ورضاع ومص، على معاني البصريات من جمع وضم وقضم.‏

                    ولكن ماذا عن حرف الميم في آخر المصادر؟.‏

                    بالرجوع إلى المعجم الوسيط عثرت على ثلاثمئة واثنين وثلاثين مصدراً تنتهي بحرف الميم . كان منها ستة مصادر فقط تدل معانيها على الرقة واللين ، بما يتوافق مع موحياته الصوتية:هي:‏

                    الأدمة (باطن الجلد تحت البشرة وفوق اللحم). رخم صوته ( لان وسهل).الشحم. النخامة. نسمت الريح. نعم الشيء (لان ملمسه ونضر).‏

                    كما كان منها تسعة مصادر تدل معانيها على الحرارة توافقاً مع الموحيات الصوتية لحرف الميم.هي:‏

                    جحم النار(أوقدها). جهنّم. حدمه (أحماه بالنار إحماءً شديداً). حمّ الماء (سخن).سمّتِ الريح (أحرقت ) ضرمت النار (اتقدت واشتعلت).غتم الحرّ (اشتد) . غمّ اليوم (اشتد حره حتى كاد يأخذ بالنفس). الأوام (حرارة العطش).‏

                    وكان منها ستة وثلاثون مصدراً تدل معانيها على الجمع والضم والكسب، بما يتوافق مع واقعة ضم الشفة على الشفة.منها:‏

                    بشم من الطعام(أكثر منه حتى أتخم). تمّ (كمل). أتأمت الحامل(ولدت أكثر من واحد في بطن واحد). جعم الرجل (اشتد حرصه وطمعه). جمّ(اجتمع وكثر). حزمه(شده بحزام ) . دكمه (جمع بعضه إلى بعض). رئم الجرح (انضم والتأم). ردم الثوب(ضمّ بعضه إلى بعض). رضم الشيء (ضم بعضه إلى بعض). ركمه (جمعه وألقى بعضه على بعض). رام الجرح ريما ( انضمّ فمه للبرء). ازدحم القوم. ضمّه. زمّ الشيء (شدَّهُ).طمّ (كثر حتى عمّ). عكم المتاع(شده بالعكام ). كثم الشيء (جمعه). كوّم الشيء (جمعه وألقى بعضه على بعض). لحم الشيء (لأمه). لدم الثوب (رقعه وأصلحه). لمّ الشيء (جمعه جمعاً شديداً). وضم القوم (تجمعوا وتقاربوا ).‏

                    وكان منها مصدر واحد فقط لشرب الحليب وليس للرضاع هو : غذم الفصيل ما في ضرع أمه (شربه جميعاً) .‏

                    وكان منها ثمانية عشر مصدراً تدل معانيها على القضم والأكل، بما يتوافق مع حركة انطباق الشفتين على بعضهما بعضا .منها:‏

                    أرم عليه (عضّ). أزم على الشيء (عضه بالفم كلّه عضّاً شديداً). بزمه (عضه بمقدم أسنانه). خضمه(أكله بجميع فمه). زقم الخبز (لقمه وبلعه). ضغمه (عضه شديداً بملء فمه). عجم العود (عضه ليعلم صلابته من رخاوته). قضمه.(قطعه بطرف أسنانه). تكادم الفرسان (عض بعضهم بعضاً). لهِم الشيء (ابتلعه بمرّة ). لقم اللقمة (أخدها بغته ). حلقم الشيء (ابتلعه).‏

                    وكان منها ثلاثة مصادر فقط للتوسع والانفتاح. هي:‏

                    بسم (انفرجت شفتاه عن ثناياه) . أفأم الدلو (وسّعه وزوّد فيه).انفجم الوادي (اتسع).‏

                    وهذه الظاهرة من الانفتاح والتوسع تعود أصلاً إلى تأثير حرفي (الباء والفاء) في مقدمة المصادر، كما سوف نرى، وليس لحرف الميم.‏

                    وكان منها خمسة عشر مصدراً تدل معانيها على السدّاد والانغلاق ، بما يتوافق مع واقعة انطباق الشفة على الشفة عند ما تلفظ الميم في نهاية الكلام.منها:‏

                    أطم الهودج(ستره). بجم (سكت عن عيّ). بكِم (عجز عن الكلام خلقة ) بلم الرجل (سكت). بهم القفل (أغلقه). الدّسام (مايسدّ به رأس القارورة ونحوه). حشم (انقبض واستحيا). سدم الباب وسطمه (ردهّ). صمّ (ذهب سمعه ). كظم السّقاء (ملأه وسدّ فاه . ومنه كظم الغيظ). كتم الشيء (ستره وخفاه). الفدام (مايوضع من فم الدابة سداداً له) . كمّ الدنّ (سدّ فاه). لأم الجرح (سده). لجم الدابة. وجم الرجل وأجم (سكت على غيظ ).‏

                    وشذوذاً عن القاعدة التي اعتمدتها بصدد الحروف الشاعرية الرقيقة، فإن نسبة تأثير خصائص الميم الإيحائية والإيمائية في المصادر التي تنتهي به لم تبلغ سوى نصف ما بلغته في المصادر التي تبدأ به ، إذ هبطت هنا إلى (26%).‏

                    وذلك يرجع إلى أن حرف (الميم)، وإن كان رقيق الصوت، مرنه ولينه، فإنه من الحروف الإيمائية غير الشاعرية. وشأنه في ذلك شأن حرفي اللام والفاء، من حيث الرقة والوظائف الإيمائية، كما سيأتي :‏

                    وبالمقارنة بين معاني المصادر التي تبدأ بالميم والتي تنتهي به نلاحظ المفارقات التالية:‏

                    1-كانت نسبة معاني الرقة واللين في المصادر التي تبدأ بالميم قرابة سبعة أضعاف ما هي عليه في المصادر التي تنتهي به. وذلك يرجع إلى أن تسلط الحروف القوية على الحروف الضعيفة، يكون في أقصى شدته عند ما تقع الضعيفة في نهاية المصادر. فلقد بلغت المصادر التي تنتهي بالميم ، مما يدل على معاني الشدة والغلظة والضخامة والقطع والكسر أربعة وستين في حين لم تبلغ في المصادر التي تبدأ بالميم سوى اثنين وعشرين.‏

                    2-كانت نسبة معاني الضم والجمع والكسب في المصادر التي تنتهي بالميم تقارب ضعفي ماهي عليه في المصادر التي تبدأ به.‏

                    3-كانت معاني القضم في المصادر التي تنتهي بالميم ثلاثة أضعاف ماهي عليه في المصادر التي تبدأ به .‏

                    4-لم أعثر في المصادر التي تبدأ بالميم على أي مصدر يدل على معاني السد والانغلاق، في حين كان ثمة خمسة عشرمصدراً تنتهي بالميم، مما يدل على هذه المعاني .‏

                    5-كان ثمة أربعة وعشرون مصدراً تدل معانيها على التمدد والتوسع والانفتاح مما يبدأ بالميم، في حين لم أعثر إلا على ثلاثة مصادرلهذه المعاني في المصادر التي تنتهي به.‏

                    هذه المفارقات ترجع أصلاً إلى أن كلاً من الشفتين والفكين يستقران في انطباقهما على بعضهما بعضا عندما نلفظ الميم في نهاية الكلمة،ليكونا بذلك أشد تمثيلاً لوقائع الضم والجمع والقضم والسدد والانغلاق، أما عندما نلفظ الميم في أول الكلمة ، فإن الشفتين والفكين لاتلبث أن تنفرج عن بعضها بعضا لتكون بذلك أصلح لتمثيل وقائع التوسع والانفتاح والتمدد.‏

                    أما المفارقة العجيبة في هذه المقارنة، فهي أن ثمة ثلاثة وثلاثين مصدراً تدل معانيها على الرضاع والحلب والمصّ واستخراج الأشياء مما هو مجوف في المصادر التي تبدأ بالميم، بينما لم أعثر إلا على مصدر واحد يدل على معنى الرضاع في المصادر التي تنتهي به، على الرغم من أن الشفتين في الوضع الأخير هما أكثر استقراراً في انطباقهما على بعضهما بعضا كما سبق ولحظت ذلك آنفا.‏

                    ولكن، إذا صح أن الشفتين تكونان أكثر استقراراً في انطباقهما على بعضهما بعضا في اللفظة التي تنتهي بالميم، فإنهما تستقران بصورة مفاجئة، سواء بشدةّ حينا أم دونما شدةّ غالب الأحيان. أما عندما تلفظ الميم في أول الكلمة، فهي تلفظ بضم الشفة على الشفة بشيء من الشدةّ والتأني مما هو أكثر تمثيلاً لوقائع الرضاع والحلب والمصّ. وذلك يرجع إلى أن حرف الميم قد أبدع أصلاً لتمثيل واقعة الرضاع بالذات. فعمل العربي على ابقائه في مقدمة المقاطع الثنائية الحروف والثلاثية لمعاني الرضاع، وجعل الحروف المزيدة في المؤخرة كما سبق وأشرت إلى ذلك.‏

                    وفي الحقيقة، إن هذه المصادر التي تدل معانيها على الرضّاع والمصّ، هي أبلغ في التعبير وأكثر تمثيلاً لهذه الوقائع من أي لفظة عربية أخرى بما في ذلك لفظة الرضاع بالذات، وإن كانت هذه أعذب صيغة وأوقع في النفس جرساً. لخاصيات (الرشاقة) في صوت الراء و(النضارة) في (الضاد)و(النصاعة) في العين، كما سيأتي. مما يرجّح معه أن تكون لفظة (مّا) بتشديد (الميم) ومدّ (الالف)، قد أُبْدِعت في المرحلة الزراعية، بترجيح شديد، وذلك للتعبير بطريقة النطق بالميم المشددة إيماء وتمثيلاً عن واقعة مصّ الطفل ثدي أمهّ ترافقها حركة معينة. ثم سقطت الحركة مع الزمن، وتطور معناها من واقعة الرضاع إلى معنى الأمّ إطلاقاً، مرضعاً كانت أم غير مرضع.‏

                    ومن المرجح أن العربي قد طورّ لفظة (مّا) في المرحلة الرعوية إلى (أم)، بإبدال الألف المهموزة في اللسان العربي، كما ذكر العلايلي. ولفظة (ماما) في اللهجات العامية ماهي في الحقيقة إلا الأرومة التاريخية للفظة (الأم) قد أتتنا من مراحل اللغة العربية البكر. ومما يرجح صحة هذا الرأي أن لفظة (ماما) موجودة في معظم اللغات الغربية، وأنّ الألفاظ التي تدل على معنى (الأم) فيها تبدأ بحرف الميم.‏

                    وهكذا قيل للوالدة (ماما)، وللوالد(بابا). فإذا كان حرف الميم أكثر تمثيلاً لمعاني المص والرضاع والضم والانجماع، وأوحى بمعاني الرقة والإحاطة في الأمومة، فإن صوت الباء الانفجاري، إنما هو أكثر تمثيلاً لمعاني البقر والبعج وأكثر إيحاء بمعاني الشدة والقوة في الرجل الأب.‏

                    ونحن لانكون بعيدين كثيراً عن الحقيقة لو أصلنا على ذلك. وقياساَ على مالحظناه في نشأة حروف (الفاء والثاء والذال).أن نقول إنّ حر ف الميم هو من إبداع المرأة الأم بالذات، وذلك بسائق حاجة الأم المرضع إلى التعبير عن واقعة هي ألصق بطبيعتها من الرجل.‏

                    وهكذا بدأ حرف الميم بانطباق الشفة على الشفة في ضمّة شديدة طويلة متأنية، وذلك تمثيلاً لواقعة الرضاع، فكانت هذه الحركة الإيمائية أسبق في الزمن من صوته.‏
                    إذا الشعب يوما أراد الحياة
                    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                    تعليق


                    • #11
                      رد: خصا ئص الحروف العربية ومعانيها

                      الباب الثاني معاني الحروف العربية على واقع المعاجم اللغوية

                      الفصل الأول الحاسة اللمسية وحروفها‏

                      تضم الحساسية الجلدية أربعة إحساسات رئيسة هي:‏

                      الإحساس بالتماس والضغط ، والإحساس بالألم ، والبرودة، والسخونة.‏

                      ففي كل سنتمتر مربع من بشرة الانسان يوجد أربعة أنواع من النقاط اللمسية. كل نوع يستجيب لواحد من الاحساسات الرئيسة الأربعة . ويستطيع التيار الكهربائي أن يثير في كل نوع من هذه النقاط الإحساس الخاص به.‏

                      فأطراف الأصابع وطرف اللسان، هما أكثر المناطق الجلدية وفرة بالنقاط اللمسية وبانتقال أطراف الأصابع على الأجسام يتحول الاحساس بالتماس إلى إحساس بالخشونة أو الملاسة، أو الدغدغة السطحية.كما يمكن اختبار شكل الشيء ومعرفة زواياه وأضلاعه واتجاهاته بالنسبة لبعضها بعضاً بواسطة حاسة اللمس. وبضغط أطراف الأصابع على الأجسام يحصل الإحساس بالصلابة والليونة والرطوبة والجفاف..‏

                      الحروف اللمسية :‏

                      هي أبسط الحروف العربية وأقلها تعقيداً.وهي :‏

                      التاء-الثاء-الذال-الدال -الكاف-الميم.‏

                      ا-حرف التاء‏

                      مهموس انفجاري شديد. يقول عنه العلايلي: إنه (للاضطراب في الطبيعة الملامس لها بلاشدة). تعريف قاصر. ويقول عنه ابن سينا: (إن صوته يسمع عن قرع الكف بالإصبع قرعاً بقوة)‏

                      وعلى الرغم مما أسند إلى هذا الحرف من الشدة والانفجار وما وصف بالقرع بقوة، فإن صوته المتماسك المرن يوحى بملمس بين الطراوة والليونة، كأنّ الأنامل تجسّ وسادة من قطن. أو كأنّ القدم الحافية تطأ أرضاً من الرمل الجاف . ونظراً للفارق الصوتي بين موحيات (التاء والثاء) قالوا: التراب (للجاف)، والثرى (للتراب) الندي.‏

                      وهكذا صنفت حرف (التاء) في زمرة الحروف اللمسية، لأن صوته يوحي فعلاً بإحساس لمسي مزيج من الطراوة والليونة ، ولأنه لايوحي بأي إحساس آخر أو بأية مشاعر إنسانية . وهذا يتفق مع قول العلايلي من حيث حصر اختصاصه بملامس الطبيعة بلا شدّة.‏

                      فهل يستطيع هذا الحرف التأثير في معاني المصادر التي تبدأ به، بما يوحي من طراوة وليونة وفقاً لخصائصه الصوتية؟. وهل ستلتزم معاني هذه المصادر بطبقته الهرمية اللمسية؟.‏

                      إذن فلنحتكم إلى المعاجم اللغوية.‏

                      ولكن قبل الدخول في دنيا المعاجم اللغوية، لابدلي من ابداء ملاحظتين اثنتين.‏

                      الأولى:‏

                      لما كانت (عين) الفعل الثلاثي تحرك بالفتحة في أغلب الحالات فإنني سأكتفي بتشكيلها في حالتي (الضم والكسر) فقط. ولذلك فإن (عين ) الفعل الثلاثي المسيبّة بلا تشكيل يجب قراءتها (بالفتحة) حرصاً على تطابق معانيه مع الغرض المقصود من وضعه. فثمت أفعال ثلاثية تقبل (عينها) أكثر من حركة واحدة، قد تتغير معانيها بحسب حركة (عينها)، وقد تتعاكس أحياناً، كما في لفَت الشيء (لواه) ولفِت الرجل (حمق). وأصل الشيء (استقصى بحثه حتى عرف أصله)، وأصُل النسب (شرُف)، وأصِل اللحم (فسد).. أما الأفعال والاسماء التي ترد في سياق الشرح فإني لم التزم بتشكيلها، وإن كنت اقوم بذلك أحياناً حرصاً على ضبط النطق بها، وتوضيحاً للمعاني الحقيقية للأمثلة المضروبة.‏

                      الثانية :‏

                      لقد سبق أن عرضت في الحرف العربي والشخصية العربية (ص 129) وما بعدها عن تأثير تحريك عين الفعل الثلاثي في معانيه تحت عنوان (حركات الشكل و(عين ) الفعل الثلاثي ). وقد خلصت إلى النتائج التالية:‏

                      1-الثلاثي المضموم (العين) يدل على الفعالية الذاتية، وهو لازم اطلاقاً (كرُم، أدُب).‏

                      2-الثلاثي المكسور (العين) يدل على (حالة ذاتية). وهو لازم في معظم الأحيان (حزِن سوِد..) وأما عندما يكون متعدياً فإن الحدث يتجه نحو الذات، كما في (لهِم-لقِم-عشِق...)‏

                      3-أما الثلاثي المفتوح (العين) فكثيراً مايكون متعدياً: (ضرَب، سكن..)، ولازما أحياناً: (جنَح).‏

                      فحبذا لويعود القارئ إلى ذلك البحث الموسّع للاطلاع على دقائق هذه الملابسات في تحريك (عين ) الفعل الثلاثي وذلك لمعرفة علاقة هذه الحركات بمعاني أحرف (ا.و.ي) المخففة عنها، وكذلك للتثبت أيضاً من صحتها على واقع المعاجم اللغوية في الفصول القادمة. إنها لفرصة ثمينة كيما يطلع القارئ على مدى مابلغه العربي من فائق الحساسية بمعرض تعامله مع حركات الشكل، وكيما يكتشف أيضاً خطأ المعاجم في تحريك (عين) الفعل الثلاثي المتعدي بالكسرة بلا مبرر.‏

                      وللقارئ أن يعتمد ماسيرد في الأبواب والفصول القادمة حركات الشكل المثبتة سواء في الأمثلة المضروبة أو الشروح، ولكن شريطة أن يأخذ بحسبانه إمكانية تحريك (عين) الفعل الثلاثي بأكثر من حركة شكل وفقاً للمعاني المقصودة.‏

                      1-فماذا عن معاني التاء؟.‏

                      بالرجوع إلى المعجم الوسيط الصادر عن مجمع اللغة العربية في القاهرة، عثرت على مئة مصدر جذر تبدأ بالتاء مما هو غير مولد أو معرب أو دخيل أو محدث أو عامي.... كان منها ثمانية عشر مصدراً تدل معانيها على الرقة والضعف والتفاهة، بما يحاكي الرقة والضعف في صوت التاء. منها:‏

                      تبتب (شاخ). التّبن (القش اليابس). تخّ العجين (لان واسترخى). التراب. ترف النبات (كثر ماؤه ونضر). تره (وقع في الترهات). تفتف (اتسخ بعد نظافة).التّفّ (وسخ الظفر). تِفه (قلّ وخسّ وحقر). تكّ الرجل (حمق). التّلب (الخسار) تلف (هلك). تاع الجمد (ذاب وسال). تام الحب فلانا (استعبده وذهب بعقله).‏

                      وكان منها ستة وعشرون مصدراً تدل معانيها على الشدة والغلظة والقساوة والقوّة بما يتجافى مع موحيات الرقة والضعف في صوت التاء.منها:‏

                      تبّ الشيء (انقطع) . تَبِر(هلك) . تَبرَ الشيء (كسره) تبل فلانا (ثأر منه). تُرِز لحمه (صلُب وغلُظ). تُرِص الشيء (احكِم وضبِط). التّعل (حرارة الحلق الهائجة). تغر (انفجر). تِفئ (احتد وغضب). تفنه (طرده). تلتل (سار شديداً). تازتيزا (غلُظ واشتد).‏

                      وكان منها ثلاثة مصادر للشميات المستكرهة.هي:‏

                      تمِه اللحم (فسد ريحه). تنتلت البيضة (فسدت). تهِم اللبن (تغير وأنتن).‏

                      وكان منها خمسة مصادر للبصريات، مما يدل على الامتلاء والارتفاع. هي:‏

                      تَئِقَ الوعاء (امتلأ) . تَرِعَ الاناء(امتلأ). تلِع الرجل (طال عنقه). تمَك السنّام (طال وارتفع وامتلأ). التيهور (موج البحر المرتفع).‏

                      وكان خمسة للأصوات. هي:‏

                      تأتأ (كرّر التاء إذا تكلم ). تختخ (انبهم كلامه للكنة). تغتغ المتكلم (لم يسمع كلامه لسقوط أسنانه) .تهته (ردّد في كلامه ته ته). تِسْ تِسْ (زجرٌ للتيس).‏

                      وكان منها خمسة مصادر للمشاعر الإنسانية:‏

                      ترِح (حزِن). تلِه(ذهب عقله من هم، أو خوف أو عشق). تاق توقاً(اشتاق إليه، نزع). تاه تيها(تكبر) . تفِئ (احتدّ وغضب).‏

                      لقد اقتصرت نسبة المصادر التي تأثرت معانيها بالخصائص الصوتية لهذا الحرف، من ضعف ورقة وتفاهة على (38%) فقط. كما أن نسبة المصادر التي تجاوزت طبقته اللمسية قد بلغت (12%) مما يقطع بأن حرف التاء ضعيف الشخصية. وهذا ماهيأ الفرص للحروف الأخرى، كيما تتسلط بخصائصها الصوتية على معاني المصادر التي تبدأ به، فبلغت نسبة المصادر التي تدل على الشدة والقوة والقسوة ، بما يتعارض مع خصائصه الصوتية 26%.‏

                      ولكن ماذا عن حرف (التاء) في المصادر التي تنتهي به؟.‏

                      بالرجوع إلى المعجم الوسيط عثرت على سبعة وتسعين مصدراً تنتهي بحرف التاء. كان منها ثلاثة وعشرون مصدراً تدل معانيها على الضعف والرقة والتفاهة. منها:‏

                      بلِت (انقطع عن الكلام حياء). خبت ذكره(خفي). ختّ (خسّ وردؤ) . سكت. الشخت(الضامر خلقة). صمت. قلِت فلان (فسد وقلّ لحمه). قنت (أطاع الله).الفتات (ماتكسّر من الشيء وتناثر). لتّ السويق (بلّه بشيء من الماء). نات (تمايل لضعف أو نعاس). هبَت (لان واسترخى) . الوتاوت (الوساوس).‏

                      مع الإشارة إلى أن معاني هذه المصادر قد تأثرت في الأعم الأغلّب بخصائص أصوات الحروف المشاركة الأخرى، كما سنرى عند دراسة خصائص أصواتها. وأذكر منها على سبيل المثال أحرف (خ.ف.ن.هـ).‏

                      كما كان منها واحد وثلاثون مصدراً تدل معانيها على الشدة والقساوة والغلظة' مما يتجافى مع خصائص صوت (التاء) ويتوافق مع خصائص أصوات الحروف القوية المشاركة، منها:‏

                      بتّ الشيء (قطعه). بغته (فجأه). زمته (خنقه) . سمت الشيء (استأصله) خرت الشيء (شقّه وثقبه) . صلت فلانا بالسيف (ضربه به) . عفته (لواه، كسره من غير تفريق للأجزاء). قرِت الدم (يبس). نحته (قشره). هرت الشيء (شقّه ليوسعه). وحت الشيء (ضغطه، داسه شديداً)‏

                      وكان منها ستة مصادر للأصوات .هي:‏

                      أنت أنيتا(أنّ أنينا). صات (صاح) . نهت االقرد (صاح). كتّت القدر (صوّتت عند الغليان) . هوّت به وهيّت به (صاح به).‏

                      وكان منها أربعة مصادر للمشاعر الإنسانية . هي:‏

                      بهته (أدهشه). مقته(أبغضه). شمت به (فرح بمكروه أصابه) محته (ملأه غضباً).‏

                      وهكذا كان حرف (التاء) في نهاية المصادر من حيث تأثيره في معانيها، أو من حيث التزامه بطبقته الحسية أضعف منه في أول المصادر. مما يقطع بأنه من الحروف الضعيفة الشخصية، إذ اقتصر تأثيره على تلطيف معاني بعض المصادر المطبوعة أصلاً بخصائص أصوات الحروف المشاركة الأخرى ، كما سنرى في دراستها:‏

                      2-الثاء.‏

                      مهموسة رخوة. يقول عنها العلايلي: إنها (للتعلق بالشيء حسياً ومعنوياً) تعريف مبهم.‏

                      ويرى الدكتور أنيس أنه(لافرق بين صوتي (الثاء والذال) ، إلا الهمس بالثاء والجهر بالذال، وذلك لتقاربهما في المخرج بين طرف اللسان واللثة.‏

                      وفي الحقيقة أن هناك تناقضاً كلياً في طبيعة صوتيهما. فالنّفَس مع الثاء الملثوغة، يخرج بشيء من البعثرة، فيسمع له حفيف طري ، بينما يخرج النفَس مع الذال الملثوغة بعد مخرج الثاء مباشرة بذبذبة صوتية عالية. ولذلك كانت ايحاءات صوتيهما في منتهى التناقض.‏

                      فالرقة والليونة والملمس الدافئ الوثير في صوت الثاء.‏

                      والخشونة والحرارة والفعالية في صوت الذال.‏

                      وهكذا فإن تقارب الحروف في مخارجها لايمنحها تقارباً مماثلاً في ايحاءاتها الصوتية ولا في معانيها. فالحرف الشقيق إذا حلّ محل شقيقه في لفظة ما، لاتظل اللفظة على معنى مقارب لمعناها قبل الإبدال، وإنما قد يؤدي ذلك إلى التناقض في معانيهما أحياناُ كثيرة، كما في حرفي الثاء والذال، واحرف الخاء والحاء، والباء والميم، والصاد والسين، كما سوف نرى. فالثاء، إنما هي تأنيق للسين الرقيقة، وتأنيث لتاء التأنيث. وكأني بالعربي لم يبدع صوت هذا الحرف إلا خصيصاً للأنثى، ليميزها بالثاء حتى من النساء أنفسهن، إيفاء لحقها من الرقة والدماثة والإحاطة واللين. فما كل امرأة تتوافر فيها خصائص الأنوثة وإن كانت أنثى. فلفظة الأنثى إنما هي ألصق بالجنس من لفظة المرأة. قد قصّرت أنوثة الأشياء والكائنات الحية عن أنوثة الجنس في حرف الثاء، فأُنّثَتْ بتاء التأنيث. تفيض الثاء عليها من خلف هذا الحجاب الشفاف طيف رقة وعاطفة وأنوثة. لتستقل الثاء وحدها بعرش الأنوثة في لفظة الأنثى، ضمّاً للنون الأنيسة إلى الثاء الأنثوية، لا أمسّ بالنفس حسّاً، ولا أوقع في السمع جرساً.‏

                      لقد سبق أن نوهت في المرجع السابق (131-136)، بأن العربي قد عبرّ عن بعض معانيه بطريقة النطق بأصوات بعض الحروف في المرحلة الزراعية.‏

                      فهل اعتمد العربي (الثاء) كحرف إيمائي ، أم كحرف إيحائي للتعبير عن معانيه؟.‏

                      ورداً على ذلك أبيّن مايلي:‏

                      عندما يبدأ النّفَس بالخروج برخاوة وبطء مع صوت (الثاء) على المدرج الصوتي يقوم طرف اللسان بشق الأسنان الأمامية السفلى عن العليا، ثم يتراجع قليلاً إلى الوراء، وهنا تلاحظ ثلاث ظواهر: اثنتان منها بصريتان (إيمائيتان تمثيليتان)، والثالثة سمعية (إيحائية).‏

                      الظاهرة الأولى: انفراج الأسنان السفلى عن العليا عند خروج صوت (الثاء)، ومن ثم تراجع طرف اللسان إلى الداخل. وهذا يماثل الأحداث الطبيعية التي تتضمن الشق والانفراج.‏

                      الظاهرة الثانية: بعثرة النفَس ببطء أثناء خروجه بين طرف اللسان والأسنان العليا عند حدوث الصوت، مما يماثل الأحداث الطبيعية التي تتضمن البعثرة والتخليط.‏

                      الظاهرة الثالثة: حفيف رقيق يسمع لصوت (الثاء) مع اللثغ، مما يوحي بالرقة والبضاضة والطراوة والدفء ، وهي جميعاً أحاسيس لمسية.‏

                      فهل (الثاء) إذن بصرية أو لمسية؟.‏

                      وبتعبير آخر، هل وظيفة الثاء إيمائية أو إيحائية؟.‏

                      للاجابة عن ذلك ، لابد من الاحتكام إلى المعاجم اللغوية.‏

                      بالرجوع إلى المعجم الوسيط عثرت على أربعة وتسعين مصدراً تبدأ بحرف الثاء. كان منها سبعة عشر مصدراً تدل معانيها على الشق والانفراج والسيلان، مما يماثل عملية شق طرف اللسان الأسنان السفلى عن العليا، مع ظاهرة انفراجهما عند خروج الصوت وهي بذلك إيمائية. منها:‏

                      الثأي (الفتق وأثر الجرح). انثعّ الدم من الأنف (سال). ثعب الدم (فجرّه فسال). ثعرر الأنف (تشقق). ثغب الشاة (ذبحها). الثغر (الفم والفرجة في الجبل). ثلم الجدار (أحدث فيه شقا).‏

                      وكان منها سبعة عشر مصدراً تدل معانيها على البعثرة والتشتت والتخليط، مما يماثل بعثرة النفس بعد خروج صوت الثاء منها:‏

                      الثّدام (المصفاة، لبعثرة ثقوبها). ثرثر في الشيء (أكثر منه في تخليط). ثرد الخبز (فتّه ثم بله بمرق). ثرّ (غزر وكثر). الثرعلة (الريش المتجمع على عنق الديك). الثّريا (نجم تكثر أنجمه مع صغر منظره). ثطّ(خف شعر لحيته). ثعر (كثرت بثوره).الثلج . ثمأ الخبز (فتّه). ثمج الأشياء (خلطها). ثمغ الألوان (خلطها). ثار (هاج وانتشر).‏

                      وكان منها سبعة عشر مصدراً تدل معانيها على الرقة والطراوة والبضاضة ومتعلقات الأنوثة، مما يحاكي الرقة والدماثة في حفيف صوت الثاء الملثوغة. منها:‏

                      الثأدة (المرأة الكثيرة اللحم). الثدي (للمرأة، والضرع لأنثى الحيوان). امرأة ثيّب (غير عذراء). اثباجّ الرجل (صخم واسترخى). الثّرب (لحم رقيق يغطي الكرش والأمعاء). الثّعد (الغصن الطري من البقل). ثجل ثجلا (عظم بطنه واسترخى). الثرى (التراب الندي).‏

                      وهكذا فإن نسبة المصادر التي تدل معانيها على المرئيات المستمدة من طريقة النطق بالثاء إيماء وتمثيلاً قد بلغت (36%)، بينما لم تبلغ نسبة المصادر التي تدل معانيها على مايفيد الطراوة والليونة من اللمسات سوى (18%)، بما مجموعه (54%)‏

                      وعلى الرغم من ذلك فقد صنّفتُ (الثاء) في زمرة الحروف اللمسية، وذلك للأسباب التالية:‏

                      أولاً-لطريقة النطق بهذا الحرف:‏

                      عطفاً على حديثنا عن الجذور الغابية والزراعية في أصوات الحروف العربية في المرجع السابق (ص 125)، قد يتبادر الآن إلى ذهن القارئ أن العربي أبدع حرف (الثاء) في المرحلة الزراعية للتعبير ايماء وتمثيلاً عن معاني الشق والانفراج والبعثرة.‏

                      ولكن العربي قد أبدع حرف (الفاء) في المرحلة الزراعية خصيصاً للتعبير عن هذه المعاني بطريقة النطق به ايماء وتمثيلاً كما سيأتي مفصلاً في دراسة صوته.‏

                      وإذن لابد أن يكون العربي قد أبدع حرف (الثاء) لغرض آخر، فجاءت معاني الشق والانفراج آنفة الذكر عرضاً لا أصلاً.‏

                      فما هو هذا الغرض الأصل. ؟‏

                      لقد لفت انتباهي في بدء دراسة حرفي (الثاء) و (الذال) أن صوت (الثاء) هو أوحى مايكون بالأنوثة، وأن صوت (الذال) هو أوحى مايكون بالذكورة. فعلى الرغم من التناقض الكائن في خصائصهما الصوتية. فإنه لا ألصق منهما ببعضهما بعضا مخرج صوت.‏

                      كما لاحظت أيضاً أن مخرج (الذال) هو أقرب للظهور والبروز بين الأسنان العليا والسفلى، بينما مخرج (الثاء) يتراجع عنه قليلاً إلى داخل الفم قريباً من اللثه بحشمة أكثر. فاكتفيت بادئ الأمر بالكشف عن التماثل الكائن بين طبيعة صوت كل منهما وبين طبيعة الجنس الذي يمثله.‏

                      ولكن بعد دراسة حرف (الفاء) الإيمائي، لفت انتباهي أيضاً طريقة النطق بحرفي (الثاء والذال) من حيث قيام طرف اللسان بشقّ الأسنان السفلى عن العليا قليلاً في حرف (الثاء) وأكثر منه في حرف (الذال).‏

                      ولما كان الانسان العربي قد استخدم طريقة النطق بحرف (الفاء) للتعبير عن أحداث القطع والشق والانفراج إيماء وتمثيلاً، فلا بد أنه قد استخدم طريقة النطق في حرفي (الثاء والذال) في المرحلة الزراعية لأغراض أخرى. فماهي؟.‏

                      قبل أن تهتدي المرأة في تلك المرحلة إلى الأصوات المعبرة عن معانيها، يبدو أنها قد استخدمت طرف اللسان في شق الأسنان السفلى عن العليا قليلاً للتعبير إيماء وتمثيلاً عن جنس الأنوثة.كما أنها استخدمت اللسان بمدّ طرفه خارج الفم أكثر للتعبير عن جنس الذكورة. وكان لابد أن تترافق هاتان الحركتان الإيمائيتان بالإشارات والأصوات المناسبة، جرياً على عادة الانسان البدائي في دنيا التواصل مع أبناء جنسه.‏

                      وفي مرحلة الرعي، قام العربي بتهذيب الأصوات الغابية والزراعية، وعمل على التخلص من الإشارات اليدوية والحركات البدنية فلم يبق منها إلا القدر اللازم لخروج أصوات الحروف الإيمائية.‏

                      وهكذا طور العربي في المرحلة الرعوية حركات اللسان والأسنان المعبرة عن جنس الأنوثة والذكورة، تخفيفاً وتهذيباً، كما طوّر الصوتين المرافقين لهما لثغاً وجرساً بما يتوافق مع خصائص الأنوثة والذكورة، ليس ايماء وتمثيلاً فقط، وإنما ايحاء صوتياً أيضاً. لتتوّزع بذلك خصائصهما وتأثيرهما في معاني الألفاظ بين الإيمائي والإيحائي.‏

                      وهكذا فإن معاني الشق والانفراج في المصادر التي تبدأ بحرف (الثاء) قد جاءت عرضاً لاقصداً. وذلك بدليل أن معانيها تتطوى جميعاً على الرقة واللين مما لايتطلب أي قوة أو جهد، على العكس من معاني الشق والانفراج في المصادر التي تبدأ بحرف (الفاء)، كما في (فأس الخشبة (شقها)، فأى رأسه (فلقه)، فدع الشيء (كسره)، فرى الشيء (شقه)، فشق الشيء (كسره)، فقع الشيء (شقه)الخ....).‏

                      ثانياً- لغلبة معاني الرقة ومتعلقات الأنوثة في المصادر التي تنتهي بالثاء.‏

                      بملاحقة (الثاء) في نهاية المصادر، عثرت على ثلاثة وثمانين مصدراً. كان منها أربعة وأربعون مصدراً للبعثرة والتخليط والجمع العشوائي بشيء من الرقة، بما يحاكي البعثرة في النفَس أثناء خروج صوتها . منها:‏

                      أث الشعر(التفّ).بأثه (بدّده وفرقه). بثّه(فرّقه ونشره). ارتبث القوم(تفرقوا). رمث الشيء (خلطه). الشعث (ماتفرق من الأمور). الحثّ(المدقوق من كل شيء ، حطام التبن). ضغثّ الحشيش (جمعه وخلطه. ومنها أضغاث أحلام) . عبث الشيء بالشيء (خلطه). علث الشيء (جمعه). غبث الشيء (خلطه) غلث الشيء (خلطه). فرِث القوم (تفرقوا). نكث السواك (فرق رأسه ونشره). نبث الأرض (نبش ترابها وحفرها). نجث وبحث (نبشَ). نقث الأرض (أثارها بفأس أو مسحاة). نثّ الوعاء ومث ومثمث (رشح).‏

                      وقد سبق أن أشار (ابن جني ) بصورة عابرة إلى الخاصية الإيمائية لحرف (الثاء) دون أن يقول بها. وذلك في المثال (بحث) الذي ضربه للدلالة على أن العربي قد أبدع كلماته تعبيراً عن معانيه وفقاً لقاعدته الأذكى: (سوقاً للحروف على سمت المعنى المقصود والغرض المراد) قائلاً:‏

                      (( الباء لغلظتها تشبه بصوتها خفقة الكف على الأرض. والحاء لصحلها تشبه مخالب الأسد إذا غارت في الأرض. والثاء للنفث والبث للتراب..)) .الخصائص ح 2 ص (162-165).‏

                      كما عثرت على واحد وعشرين مصدراً تدل معانيها على الرقة واللين ومتعلقات الأنوثة :منها: أنث(لان ) . البهثة (البشر وحسن اللقاء). دغث الصبي أمّه (رضعها). طمثت المرأة (حاضت). الرفث في النساء (الاستمتاع بهن). خرثت المرأة (ضخمت خاصرتاها واسترخى لحمها ). خنِث الرجل (تشبه بالنساء). خِوث الرجل (عظم بطنه واسترخى). الوعثة من النساء (السمينة). دمِث المكان (سهل ولان). ماثت الأرض ميثاً (لانت). داث ديثاً (لان وسهل).‏

                      ولم أعثر على أي مصدر يدل معناه على الشق أو الانفراج والسيلان. وهذا يرجع إلى أن طرف اللسان في نهاية اللفظة يستقر في وضعه الأخير بين الأسنان العليا والسفلى. فلا تنفرجان عن بعضهما بعضاً. وذلك على مثال غياب معاني الشق والانفراج والتباعد في المصادر التي تنتهي بحرف الفاء). كما سيأتي. حساسية (ذوقية-لغوية) لانظير لها في أي لغة أخرى.‏

                      وهكذا بلغت نسبة المصادر التي تدل معانيها على البعثرة والتخليط في الجدول أعلاه (53%) بينما لم تبلغ في المصادر التي تبدأ بالثاء سوى (36%).‏

                      أما الرقة واللين ومتعلقات الأنوثة قد بلغت هنا (25%) في حين لم تبلغ هناك سوى (18%)، وإذا لحظنا أن معظم المعاني الدالة على البعثرة والتخليط في المصادر التي تنتهي بالثاء تنطوي أصلاً على الرقة واللين ، يتبين أن صوت (الثاء) كان أوحى بخصائص الرقة واللين ومتعلقات الأنوثة في آخر الألفاظ منه في أولها، إذ بلغت هنا (78%)، في حين لم تبلغ هناك سوى (36%).لترجح بذلك كفّة الاحاسيس اللمسية على الاحاسيس البصرية في معاني المصادر التي تنتهي بالثاء وكانت شخصيتها في نهاية المصادر أقوى بكثير منها في أولها، كما هو حال الحروف الشاعرية الرقيقة.‏

                      ثالثاً-لأن حرف (الثاء) يمثل جنس الأنوثة كإحساس لمسي:‏

                      فضلاً عن أن (صوت) الثاء، هو أوحى مايكون بخصائص الأنوثة رقة ولطفاً ودفئاً فإن العربي قد استخدم هذا الحرف لإبداع أخصّ المعاني التي تدور حول الجنس مباشرة بلا وسيط من خيال أو تورية أو كناية، مما لم يجاره في هذا الاختصاص أي حرف آخر، وذلك كما في لفظة (الأنثى) كتعبير عن جنس الأنوثة، وكما في لفظة (رفث) كتعبير عن الاستمتاع بالأنثى.‏

                      وهكذا بقيت معاني جميع المصادر التي تبدأ أو تنتهي بحرف (الثاء) موزعة بين اللمسي والبصري لم تتجاوزهما إلا في لفظتي (ثَحْثَحَ، وثغا) للأصوات، ولاشيء للمشاعر الإنسانية. وعلى الرغم من رقة صوت (الثاء) ودماثته، فقد أثرت في معاني المصادر التي تنتهي بها بنسب بلغت (78%) كما حافظت على طبقتها اللمسية البصرية، مما أجاز لي تصنيفها في عداد الحروف القوية الشخصية.‏

                      3- حرف الذال:‏

                      مجهور رخو، معناه لغة (عرف الديك)، يقول عنه العلايلي : إنه (للتفرد). تعريف مبهم. إذا كانت خصائص الأنوثة قد تجمعت كلها في (الثاء)، رقة ودماثة وحشمة، فقد تركزت في (الذال) كل الذكورة، توتر صوت، وخشونة ملمس، وشدة ظهور.‏

                      وهكذا تتجاور الذكورة والأنوثة في اللسان العربي مخرج صوت، ويتماثلان في طريقة النطق بهما على ما في صوتيهما من التناقض في الخصائص، وذلك على مثال مابين الذكورة والأنوثة. رفقة عمر وتناقض خصائص.‏

                      فإذا كانت (الثاء) تدغدغ طرف اللسان بكثير من المرونة والدماثة فتوحي بطعم الدسم والملمس الدافئ الوثير، فإنّ الذال ألذع مذاقاً وأكوى حرارة وأوخذ ملمساً وأشد توتراً، ليشف بذلك صوت كل حرف منهما عن خصائص الجنس الذي يمثله. وهكذا تتراءى مفاهيم الجنس في الذكورة والأنوثة كأحاسيس لمسية خلف أستار شفافة من صوتي هذين الحرفين، ولا أوحى منهما بخصائص الأنوثة والذكورة في لغتنا.‏

                      وبالرجوع إلى المعجم الوسيط عثرت على ثمانية وخمسين مصدراً تبدأ بحرف الذال كان منها أحد عشر مصدراً تدل على الاهتزاز والاضطراب وشدة التحرك، بما يتوافق مع ظاهرة الاهتزاز في صوت الذال الملثوغة.هي:‏

                      ذبّ (لم يستقر في مكان). ذحجته الريح (حركته وجرّته من موضع إلى آخر). ذأل (مشى مسرعاً). ذحذح (تقارب خطوه مع سرعة ). ذعذعه (حركة بشدة). ذف الطائر (أسرع). تذلذل (اضطرب واسترخى). ذمِل البعير (سارسيراً سريعاً ليناً). ذمي المريض (أخده النّزاع فطال احتضاره). ذهب (مرّ ومضى ) . ذاط في مشيه(حرك منكبيه من كثرة اللحم).‏

                      ويمكن إلحاق أربعة مصادر أخرى بهذا الجدول تدل معانيها على حالات نفسية أو ذهنية تتطوى على الاهتزاز والاضطراب.هي:‏

                      ذهِل (تدلّه، وغاب عن رشده). ذئِر (أنف وغضب). ذعره (خوّفه). ذمر(غضب).‏

                      كما يمكن إلحاق لفظتي. الذّنب والذّيل، بهذا الجدول أيضاً، لما يرافق هذا العضو في الحيوان من ظاهرة الذبذبة والحركة المستمرة. لتبلغ نسبة المصادر لهذه المعاني (30%)، مما يدل على أن العربي قد أحسن استخدام ظاهرة الاهتزاز والاضطراب في صوت الذال الملثوغة بحساسية سمعية فائقة الرهافة.‏

                      كما كان منها أحد عشر مصدراً تدل معانيها على البعثرة والانتشار، بما يتوافق مع بعثرة النفَس في صوت الذال الملثوغة إيماء وتمثيلاً.هي:‏

                      ذرأ الأرض (بذرها). ذرّ الشيء ذراً (فرقه وبدّده). ذفر المسك (اشتدت رائحته وانتشر) . ذرا ذرواً (طارفي الهواء وتفرق). ذاع الخبر (انتشر). ذكت النار(اشتد لهيبها واشتعلت). ذرف الدمع . ذرح الشيء في الريح (ذراه). ذاح الشيء ذوحا (فرقه وبدّده). ذاب الشحم (سال عن جمود).‏

                      كما كان منها تسعة عشر مصدراً تدل معانيها على الفعالية والشدة والقطع، بما يتوافق مع خصائص القوة والفعالية في صوت الذال. منها: ذأمه(طرده، عابه).الذئب.ذبحه. ذجّ الشيء (دقّه وشقه). ذرب السيف (صار حادا ماضياً). الذراع. سم ذعاف (قاتل). الذكورة (نقيض الأنوثة). ذلَق السِّنان ذلاقة (صار حاداً صلقاً). ذِلق السِّنان واللسان ذلقا (ذرِب). ذيّاه (قطعه). الذّهن (الفهم والعقل والقوة). ذمِه اليوم (اشتد حرّه). ذاده ذوداً (دفعه وطرده).‏

                      وهكذا تبلغ نسبة المصادر التي تتوافق معانيها مع الخصائص الإيمائية والإيحائية لحرف الذال في الجداول الثلاثة (70%). وهي نسبة عالية تؤهّله للانتماء إلى زمرة الحروف القوية الشخصية. على أن (الثاء) في نهاية المصادر كانت أقوى من الذال في أولها.‏

                      وعلى الرغم من أن معاني المصادر التي تبدأ بحرف الذال لم تلتزم بطبقته اللمسية، إذ تجاوزتها إلى جميع الطبقات من ذوقيها حتى شعوريها، فقد صنّفته في عداد الحروف اللمسية باعتباره يمثل جنس الذكورة، على مثال ماصنفت (الثاء) في عداد الحروف اللمسية باعتبارها تمثل جنس الأنوثة، وللقارئ المعترض أن يصنفه في زمرة الحروف البصرية إن شاء.‏

                      4- حرف الدال‏

                      مجهور شديد. يشبه شكله في السريانية صورة الدلو. يقول عنه العلايلي: إنه (للتصلب والتغير المتوزع). التصلب صحيح، أما التغير المتوزع فهو مبهم، ويتعارض مع التصلب.‏

                      ولكن صوت الدال أصمّ أعمى مغلق على نفسه كالهرم ، لايوحي إلا بالأحاسيس اللمسية وبخاصة مايدل على الصلابة والقساوة وكأنه من حجر الصوان. فليس في صوت (الدال) أي إيحاء باحساس ذوقي أو شمي أو بصري أو سمعي أو شعوري، ليكون بذلك أصلح الحروف للتعبير عن معاني الشدة والفعالية الماديتين .‏

                      وبالرجوع إلى المعجم الوسيط عثرت على مئتين وسبعين مصدراً تبدأ بحرف الدال كان منها مئة مصدر تدل معانيها على الشدة والفعالية الماديتين وعلى التحطيم والدعس. منها: دبأ فلانا بالعصى (ضربه بها). دحبه(دفعه). دحجه (عركه). دحس البيت (امتلأ). دحمه (دفعه بشدة). الدّخنس (الشديد الكثير اللحم من الناس والدواب). الدّرق (الصلب من كل شيء). درمك الشيء (دقه وطحنه) . الدّرباس والدّرواس (الأسد). درحه (دفعه). دشّ الحبّ(دقّه). درع الذبيحة (سلخها من عنقها). دعث الأرض (داسها). دعثره (صرعه وأهلكه). دعسه (داسه). دعمه بالرمح (طعنه).دعك الجلد (دلكه ولينّه). الدعامة (عماد البيت الذي يقوم عليه). دكّ البناء (هدمه).دكل الشيء (داسه). دمدم القوم (طحنهم فأهلكهم). دمر الشيء (أباده). دلك الثوب (دعكه بيده ليغسله). دقمه (دفعه مفاجأة ). دهثه (وطئه بشدة). دهدم البناء(هدمه). دهق الشيء (كسره وقطعه). دهف الشيء (أخذه أخذا كثيرا) . دهكه (طحنه وكسره). داسه (وطئه بشدة). داحت الشجرة (عظمت ). دهمق الشيء (كسره).‏

                      كما عثرت على واحد وعشرين مصدراً تدل معانيها على الدحرجة والتحرك السريع منها:‏

                      دأدأ(عدا أشد العدو) . دجّ (دبّ وأسرع). دخدخ (أسرع). دحرجه. دربأه (دحرجه). درقع ودرفل ودلظ (مرّمسرعا). دلق (خرج مسرعاً) دحدره (دحرجه). دهدى الحجر ودهدهه (دحرجه) . دهرج (أسرع في مشيه). دفدف (أسرع). دمشق في الشيء (أسرع. والدماشق، الشديد السرعة). دمك في مشيه (أسرع) تدهكر في مشيه (أسرع). دهمج البعير (قارب الخطو وأسرع). ولئن كانت الحركة تنتمي أصلاً إلى القطاع البصري، فإن ظاهرة الشدّة المادية هي المقصودة ، مما دعاني إلى تصنيف (الدال) في زمرة الحروف اللمسية.‏

                      وخلافاً لكل توقع، قد عثرت على (26) مصدراً تدل معانيها على الظلام وألوان السواد، هي:‏

                      دحدج الليل (أظلم). دجم ودجن (أظلم). الدّجى (سواد الليل). الدّيجور (الظلام). دحمس الليل (أظلم) . دخّ (أسودّ لونه كمداً). الدّخان. ليل داج (مظلم). الديسم (الظلمة والسواد). الأدْغم (الأسود الأنف).دعلج الليل (أظلم). ليل أدعج (شديد السواد). الدغش (الظلمة). دغن الليل (أظلم). أدلج القوم (ساروا في أول الليل). ليل داخ(مظلم). دلِم (اشتد سواده مع ملوسة). أدلمّس الليل (اشتدت ظلمته). أدلهمّ الظلام (اشتد). دمج الليل(أظلم). دمس الظلام (اشتد سواده) . دهِم (اسودّ). دكِن (مال إلى السواد). الدارش (جلد أسود) . الدّخامس(الأسود الضخم).‏

                      كما عثرت على تسعة مصادر تدل معانيها على المشي البطيء للثقل بما يتوافق مع ثقل صوت الدال . هي :‏

                      دأل(مشى مشية المثقل). دلخ (مشى بطيئاً لثقل حمله). دبّ(مشى رويداً) . دأى(مشى كمشية المثقل). دربل (مشى متثاقلاً). درمج في مشيه (دب دبيباً).‏

                      وإذن كيف يستيقيم لي أن أصنف حرف (الدال) في زمرة الحروف اللمسية وقد تجاوز طبقتها إلى البصرية في ستة وعشرين مصدراً تدل معانيها على السواد والظلام. ؟ ليبذّ حرف (الدال) في هذا المضمار حرفَ الغين المختص أصلاً بمعاني الغيبوبة والغؤور والظلام، كما سوف نرى. ذلك أن انغلاق صوت (الدال) على نفسه قد جعله في عزلة عمياء صمّاء عن أي إحساس آخر أو مشاعر إنسانية.‏

                      وهذا الانغلاق جعله أصلح الحروف للتعبير المباشر عن الظلام والسواد. دونما كناية أو تورية.‏

                      فهل لدى القارئ تعليل آخر؟.‏

                      وهكذا فإن المصادر التي التزمت معانيها بالخصائص الحسية لحرف الدال لمسيها وبصريها لم تبلغ سوى (58%)، وهي أقل مما كان متوقعا لهذا الحرف القوى والثقيل.ولاشك في ان ذلك يعود إلى تعاونه مع الحروف العربية كلها، باستثناء حرفي (الضاد والذال)، المحجوبين عنه بحرفي (الظاء والزاي). فكان لابد لحرف (الدال) أن يتفاعل مع أصوات بقية الحروف، مؤثراً فيها حينا، ومتأثراُ بها حيناً آخر. ولذلك كثرت المصادر التي تدل معانيها على الرقة والضعف والوهن لتدخّل الحروف التي في أصواتها رقة وأناقة ولين، كما في حروف (ن. ث. خ. ح. هـ. ش).‏

                      على أن معاني المصادر التي تبدأ بهذا الحرف، باستثناء مادل منها على الظلام والسواد، قد التزمت بطبقته اللمسية، لم تتجاوزها إلا في خمسة للأصوات هي:‏

                      دردر الماء(صوت).دقدق القوم(اجلبوا). دنّ الذباب دنينا (صوت وطنّ). دَ هـْ دّ هـَ (صوت لزجر الابل). دندن . وذلك لتدخل أحرف (ق. ن. هـ) ،كما سنرى. وفي مصدرين للمشاعر الانسانية هما:‏

                      دلِه (ذهب فؤاده عشقاً). دهشه (حيره وأذهب عقله). وذلك لتدخل الهاء الشعورية. وهذا يقطع بأن حرف (الدال) صحيح الانتماء إلى الحاسة اللمسية وإلى زمرة الحروف المتوسطه القوة، ولا أثقل وزنا.‏

                      5-حرف الكاف:‏

                      مهموس شديد، هو عند العلايلي والأرسوزي(للاحتكاك)، وهذا واحد من معانيه. هذا الحرف، إذا لفظ صوته ممطوطاً مخفوتاً به قليلاً ومضغوطاً عليه بعض الشيء، يحاكي صوت احتكاك الخشب بالخشب. ولعل العربي قد اقتبسه عفو الفطرة من هذا الحدث لإشعال النار بهذه الطريقة البدائية. وصوته في هذه الحال يوحي بشيء من الخشونة والحرارة والقوة والفعالية، مما يؤهله للانتماء إلى حاسة اللمس. أما إذا لفظ بصوت عالي النبرة وبشيء من التفخيم والتجويف، فإنه يوحي بالضخامة والامتلاء والتجميع، مما يؤهله للانتماء إلى زمرة الحروف البصرية. وإذن فلنحتكم إلى المعاجم اللغوية في مسألة أنتمائه.‏

                      بالرجوع إلى المعجم الوسيط عثرت على مئة وستة وثمانين مصدراً تبدأ بحرف الكاف. كان منها أربعة مصادر للاحتكاك وواحد للحرارة هي:‏

                      كسحت الريح الأرض (قشرت عنها التراب). كشح العود (قشره). كشطه عنه (ازاله). كفكف دمعه (مسحه مرة بعد مرة).كهر الحر (اشتد).‏

                      وكان منها أربعون مصدراً للشدة والفعالية.منها:‏

                      كبّه على وجهه. كدّه وكرده (طرده). كسر الشيء. كعبره بالسيف(قطعه). الكلاكل (القصير الغليظ الشديد). كمحه ( كبحه). الكنادر من الرجال الغليظ القصير مع الشدة) كنت فلان في خلقه (قوى). كار في مشيه (أسرع)، والراء هنا للحركة كما سيأتي‏

                      وكان منها أربعون مصدراً تدل معانيها على الكثرة والضخامة والتجميع. منها:‏

                      كبُر. الكبْع (حوت عظيم). الكِتلة. الكثير. الكُردوس (كل عظم تام ضخم). كسب الشيء (جمعه). كظب (امتلأ سِمنا). كعر الصبي(امتلأ بطنه وسمن ) كلس الشيء وكلده وكلزه (جمعه).كمل. كنّر فلان (ضخم، وسمج). كاز الشيء (جمعه). تكوكل القوم (تجمعوا) . كوِم الشيء (عظم).‏

                      وكان منها ستة مصادر للأصوات. هي:‏

                      كتّتِ القدر(صوتت عند ابتداء غليانها). كحّ(سعل). كخّ الرجل (غطّ في نومه). كركر (ضحك كالقهقهة). كشّت الأفعى (صوَّت جلدها باحتكاكه ببعضه). كاد الغراب كيداً (صاح بجهد). ويلاحظ أن معظم هذه الأصوات يحاكي أصوات الحروف التي تتألف منها هذه المصادر.‏

                      وكان للمشاعر الانسانية مصدران. هما: كئِب وكرب.‏

                      وهكذا يبدو أن حرف (الكاف) موزع الانتماء بين حاستي اللمس والبصر. فقد بلغت نسبة اللمسيات من احتكاك وحرارة وشدة (26.5%)، وبلغت نسبة البصريات (23.5%). وهذا الفارق الضئيل لايجيز لنا حشر (الكاف) في زمرة الحروف اللمسية.‏

                      وإذن لابد من الرجوع إلى المصادر التي تنتهي بهذا الحرف.‏

                      لقد عثرت على أربعة وثمانين مصدراً تنتهي بالكاف، كان منها خمسة عشر مصدراً تدل معانيها على الاحتكاك، مادّيه ومعنويِّه. هي:‏

                      ألَك الفرس اللجام (علكه ومضغه). حكّ. دعك. دلك. شبك الشيء (تداخل بعضه في بعض). شكّ الشيء (لصق بعضه ببعض). عرك الجلد ومعكه (دلكه). علك. مكّ العظم (مصّ جميع مافيه). محك (لجّ في المنازعة).وكان للحرارة ثلاثة مصادر. هي:‏

                      أكّ اليوم وعكّ(اشتد حره). عتك الحرّ (اشتد).‏

                      أما الشدة فكان لها ثلاثة عشر مصدراً.منها: بتكه (قطعه). بكّ الشيء (هشمه ومزقه). دكّه(دقّه ودفعه). صكّه (دفعه بقوة). الضنك (الشدة). متك الشيء (قطعه).نهكه(جهده وغلبه). دهكه (طحنه).‏

                      وكان للضخامة والتجميع تسعة مصادر. منها:‏

                      أيك الشجر (كثُر والتف) باك البعير (سمِن). تمَك السنام (طال وارتفع وامتلأ). حشك القوم (احتشدوا) . زمكه (ملأه ). ودِك (سمِن).‏

                      وكان للأصوات مصدر واحد هو: ضحك ولاشيء للمشاعر الانسانية.‏

                      وهكذا نرى أن تأثير حرف الكاف في معاني الألفاظ يختلف باختلاف موقعه منها. فهو في أولها موزع الإيحاءات بين اللمسي والبصري بنسب متقاربة كما لحظنا آنفا.أما في آخر المصادر فكان للمسيات منها (37%) بينما اقتصرت البصريات على نسبة (10%).‏

                      كما لوحظ أن حرف الكاف كان أكثر التزاماً بطبقته اللمسية عند مايقع في آخر المصادر، إذ لم يتجاوزها إلى الطبقات الأعلى إلاّ في مصدر واحد هو (ضحك). أما المصادر التي يقع الكاف في أولها، فقد تجاوز ثمانية منها اللمسي والبصري إلى السمعي والشعوري كما مر معنا‏

                      ومنه يتضح أن العربي كان يلفظ حرف (الكاف) في أول المصادر بشيء من الفخامة والشدة وليس كما نلفظه اليوم بشيء من الرقة والرخاوة.فكان صوته بذلك أوحى بالشدة والضخامة.أما في آخر المصادر فكان يلفظه مخفوتاً به بعض الشيء وممطوطاً أيضاً، ليكون صوته بذلك أوحى بالاحتكاك والحرارة.‏

                      وعلى الرغم من أن هذا الحرف يمكن تصنيفه في زمرة الحروف البصرية، فإنني أخترت له زمرة الحروف اللمسية وذلك لظاهرة الاحتكاك اللمسية المتأصلة في طبيعة صوته.‏

                      ولما كان هذا الحرف قد أثّر في معاني المصادر التي وقع في أولها بنسبة (50%)، وفي المصادر التي وقع في آخرها بنسبة 48%)، فهو يتمتع بشخصية متوازنة متوسطة الشدّة. كما أنه يتمتع بشخصية جيدة من حيث التزامة بطبقته اللمسية عندما يقع في نهاية المصادر.‏

                      6- حرف الميم:‏

                      مجهور،متوسط الشدة أو الرخاوة. شكله في السريانية يشبه المطر وهو عند العلايلي (للانجماع)، وهذا واحد من معانيه.‏

                      يحصل صوت هذا الحرف بانطباق الشفتين على بعضهما بعضا في ضمة متأنية وانفتاحهما عند خروج النفس. ولذلك فإن صوته يوحي بذات الاحاسيس اللمسية التي تعانيها الشفتان لدى انطباقهما على بعضهما بعضا، من الليونة والمرونة والتماسك مع شيء من الحرارة.‏

                      وهكذا صنّفت هذا الحرف بادئ الأمر في زمرة الحروف الايحائية. وبمطابقة خصائصه الصوتية على معاني المصادر التي تبدأ أو تنتهي به تبين لي أنه يكاد يكون معدوم الشخصية، فلم أولِهِ كبير عناية أو اهتمام. ولم أنتبه إلى خصائصه الإيمائية إلا بعد أن اكتشفت مصادفة الخصائص الإيمائية في حرف الفاء كما سيأتي في دراسته.‏

                      فانطباق الشفة على الشفة مع حرف الميم يماثل الأحداث الطبيعية التي يتم فيها السدّ والانغلاق. كما أن ضم الشفة على الشفة بشيء من الشدة والتأني قبيل خروج صوت الميم يمثّل بداية الأحداث التي يتم فيه المص بالشفتين والجمع والضم.أما انفراج الشفتين أثناء خروج صوت الميم فهو يمثل الاحداث التي يتم فيها التوسع والامتداد.‏

                      وهكذا فإن خصائص صوت هذا الحرف موزعة بين اللمسي الإيحائي والبصري الإيمائي، مع ملاحظة وجود التناقض بين الانغلاق والانفتاح في خصائصه الإيمائية.‏

                      فماذا عن خصائص هذا الحرف في المعاجم؟.‏

                      بالرجوع إلى المعجم الوسيط عثرت على مئتين وثلاثة وخمسين مصدراً تبدأ بحرف الميم كان منها (45) مصدراً تدل معانيها على المرونة والرقة والتماسك بمايتوافق مع إيحاء صوت الميم .منها.‏

                      المأد (الناعم من كل شيء). المجماج(المسترخي المترهّل). مرت الشيء (ملسه). أمرخ العجين (كثر ماؤه حتى رق) . مرن (لان بعد صلابة). معّ الشحم (ذاب) . ملس الشيء (لان ونعم). مهك الشيء (سحقه وملسه). مَهُوَ السائل(رقّ وكثر ماؤه). ماث الشيء موثا (مرسه حتى تنحل اجزاؤه). مرس التمر في الماء(دلكه في الماء حتى تنحل أجزاؤه). ماثت الارض ميثاً (لانت وسهلت).ماع الجسم( ذاب وسال).‏

                      وكان منها سبعة عشر مصدراً تدل معانيها على الجمع والضم والكسب، بما يتوافق مع واقعة ضم الشفة على الشفة بشيء من الشدة. منها:‏

                      متح الدلو (جذبه). متش الشيء (جمعه). المثانة(كيس في الحوض يتجمع فيه البول). المدينة (المصر الجامع). المرهة (حفيرة يجتمع فيها ماء السماء).مزن القربة (ملأها)، مسك بالشيء. مشع (كسب وجمع) .مع(حرف جر للمصاحبة). ملك الشيء (حازه). امتلأ الشيء (أفعم). المال(كل مايملك الفرد) .‏

                      وكان منها ثلاثة وثلاثون مصدراً تدل معانيها على الرّضاع والحلب والمص واستخراج مافي الأشياء المجوفه، بما يتوافق مع حركة ضمّ الشفة على الشفة بشيء من الشدة والتأنيّ . منها :‏

                      مرث الصبي ثدي أمه (مصَّه). امترى الناقة (حلبها). مرز الصبيّ ثدي أمّه (عصره بأصابعه في رضاعه). مصعت المرأة ولدها (أرضعته قليلاً). مذع الضرع (حلب نصف مافيه). معج الفصيل ضرع أمّه (لهزه وقلّب فاه في نواحيه ليتمكن منه). مغد الفصيل أمّه (رضعها). مقع الفصيل أمّه (رضعها بشدة). امتقّ الفصيل ما في الضرع (شربه كلّه) . مشق مافي ضرع الناقة (حلبه). مصر الناقة (حلبها بأطراف الأصابع). مقمق الحوار خِلْفَ أمه (مصّه مصّا شديداً). مقا الفصيل أمه مقواً (رضعها رضعاً شديداً). ملج الصبي ثدي أمه (رضعها بتناول ثديها بأدنى الفم). ملحت فلانة لفلان (أرضعت له). ملق الصبي أمه (رضعها). مخمخ العظم وتمخّاه (أخرج مخّه). المزرة (المصّه). مزّ الشراب (مصّه). مسط المعي (أخرج مافيه عصراً بأصبعه). مشّ العظم (مصّه بعد مضغه). مصد الشيء (مصّه). مصّ الشراب (شربه شرباً رفيقاً). مصمص فاه(مضمضه). مضّ الشيء (مصّه). مضمض الماء في فمه (أداره فيه). معق الشراب (شربه شرباً شديداً) مكّ العظم ومكمكه (مص جميع مافيه) تمهّق الشراب (شربه ساعة بعد ساعة).‏

                      ويلحق بهذه الفئة من المصادر حرف الجر(من) ،لخاصية الأخذ في وظيفتها التبعيضية.‏

                      وكان منها خمسة مصادر تدل معانيها على الهضم والمضغ، بما يتوافق مع حركة انطباق الشفتين على بعضهما بعضا .هي:‏

                      قطَعَ الشيء (أكله بمقدمة أسنانه). مضغ الشيء (لاكه بأسنانه). تمطّق الطعام (تذوقه). معد لحمه (أخذه بمقدم أسنانه). مغمغ اللحم (لم يحكم مضغه).‏

                      وكان منها أربعة وعشرون مصدراً تدل معانيها على التوسع والامتداد والانفتاح، بما يتوافق مع حركة انفراج الشفتين والفكين عن بعضهما بعضا في أثناء خروج صوت الميم.منها:‏

                      مأس الجرح (اتسع). مأى السقاء(وسّعه).متر الحبل (مدّه). متى الحبل متوا(مدّه). مدّ الشيء (زاد فيه). مزع القطن ( نفشهُ بأصابعه). مطّ الشيءَ (مدّه). مصل الحبل(مدّه). مطمط في كلامه (مده وطوله).معط الشيء (مدّه). تمعّى السقاء (تمدد وتوسع، ومنه، معا السنّوّر ، بمعنى صوّت ، لطول مايمدّ بصوته). مغط الشيء (مدّه ليستطيله). ملد الشيء ملدا (مدّه).‏

                      ولم أعثر إلا على مصدر واحد للحرارة هو: محت اليوم (كان شديد الحرّ).‏

                      ولم أعثر على أي مصدر يدل على السّداد أو الانغلاق .‏

                      وكان منها خمسة مصادر للأصوات هي:‏

                      مأمأت الشاة(واصلت صوتها). معا السنور ومغا مغوا (صاح) .مكا (صفّر).ماء القطّ مواء (صاح).‏

                      ويلاحظ أن هذه الأصوات الخمسة تتوافق مع خصائص الميم الإيحائية (طبيعة صوت).أو مع خصائصه الإيمائية (مدّاً في الأصوات واستعانة بالشّفاه في إحداثها).‏

                      وكان منها ثلاثة للمشاعر الإنسانية .هي:‏

                      المرح (شدة الفرح). معض من الأمر (غضب وتألم). مقته(أبغضه أشد البغض).‏

                      ولقد بلغت نسبة تأثير خصائص حرف الميم الإيحائية والإيمائية في المصادر التي تبدأ به نيفا و(50%). مما يقطع بأن حرف الميم ينتمي إلى طبقتي اللمسي والبصري بجدارة .‏

                      وأنا إذ صنّفته في زمرة الحروف اللمسية، فذلك لطبيعة صوته ولغلبة معاني اللمسيات في المصادر التي تبدأ به من رقة ولين وتماسك ورضاع ومص، على معاني البصريات من جمع وضم وقضم.‏

                      ولكن ماذا عن حرف الميم في آخر المصادر؟.‏

                      بالرجوع إلى المعجم الوسيط عثرت على ثلاثمئة واثنين وثلاثين مصدراً تنتهي بحرف الميم . كان منها ستة مصادر فقط تدل معانيها على الرقة واللين ، بما يتوافق مع موحياته الصوتية:هي:‏

                      الأدمة (باطن الجلد تحت البشرة وفوق اللحم). رخم صوته ( لان وسهل).الشحم. النخامة. نسمت الريح. نعم الشيء (لان ملمسه ونضر).‏

                      كما كان منها تسعة مصادر تدل معانيها على الحرارة توافقاً مع الموحيات الصوتية لحرف الميم.هي:‏

                      جحم النار(أوقدها). جهنّم. حدمه (أحماه بالنار إحماءً شديداً). حمّ الماء (سخن).سمّتِ الريح (أحرقت ) ضرمت النار (اتقدت واشتعلت).غتم الحرّ (اشتد) . غمّ اليوم (اشتد حره حتى كاد يأخذ بالنفس). الأوام (حرارة العطش).‏

                      وكان منها ستة وثلاثون مصدراً تدل معانيها على الجمع والضم والكسب، بما يتوافق مع واقعة ضم الشفة على الشفة.منها:‏

                      بشم من الطعام(أكثر منه حتى أتخم). تمّ (كمل). أتأمت الحامل(ولدت أكثر من واحد في بطن واحد). جعم الرجل (اشتد حرصه وطمعه). جمّ(اجتمع وكثر). حزمه(شده بحزام ) . دكمه (جمع بعضه إلى بعض). رئم الجرح (انضم والتأم). ردم الثوب(ضمّ بعضه إلى بعض). رضم الشيء (ضم بعضه إلى بعض). ركمه (جمعه وألقى بعضه على بعض). رام الجرح ريما ( انضمّ فمه للبرء). ازدحم القوم. ضمّه. زمّ الشيء (شدَّهُ).طمّ (كثر حتى عمّ). عكم المتاع(شده بالعكام ). كثم الشيء (جمعه). كوّم الشيء (جمعه وألقى بعضه على بعض). لحم الشيء (لأمه). لدم الثوب (رقعه وأصلحه). لمّ الشيء (جمعه جمعاً شديداً). وضم القوم (تجمعوا وتقاربوا ).‏

                      وكان منها مصدر واحد فقط لشرب الحليب وليس للرضاع هو : غذم الفصيل ما في ضرع أمه (شربه جميعاً) .‏

                      وكان منها ثمانية عشر مصدراً تدل معانيها على القضم والأكل، بما يتوافق مع حركة انطباق الشفتين على بعضهما بعضا .منها:‏

                      أرم عليه (عضّ). أزم على الشيء (عضه بالفم كلّه عضّاً شديداً). بزمه (عضه بمقدم أسنانه). خضمه(أكله بجميع فمه). زقم الخبز (لقمه وبلعه). ضغمه (عضه شديداً بملء فمه). عجم العود (عضه ليعلم صلابته من رخاوته). قضمه.(قطعه بطرف أسنانه). تكادم الفرسان (عض بعضهم بعضاً). لهِم الشيء (ابتلعه بمرّة ). لقم اللقمة (أخدها بغته ). حلقم الشيء (ابتلعه).‏

                      وكان منها ثلاثة مصادر فقط للتوسع والانفتاح. هي:‏

                      بسم (انفرجت شفتاه عن ثناياه) . أفأم الدلو (وسّعه وزوّد فيه).انفجم الوادي (اتسع).‏

                      وهذه الظاهرة من الانفتاح والتوسع تعود أصلاً إلى تأثير حرفي (الباء والفاء) في مقدمة المصادر، كما سوف نرى، وليس لحرف الميم.‏

                      وكان منها خمسة عشر مصدراً تدل معانيها على السدّاد والانغلاق ، بما يتوافق مع واقعة انطباق الشفة على الشفة عند ما تلفظ الميم في نهاية الكلام.منها:‏

                      أطم الهودج(ستره). بجم (سكت عن عيّ). بكِم (عجز عن الكلام خلقة ) بلم الرجل (سكت). بهم القفل (أغلقه). الدّسام (مايسدّ به رأس القارورة ونحوه). حشم (انقبض واستحيا). سدم الباب وسطمه (ردهّ). صمّ (ذهب سمعه ). كظم السّقاء (ملأه وسدّ فاه . ومنه كظم الغيظ). كتم الشيء (ستره وخفاه). الفدام (مايوضع من فم الدابة سداداً له) . كمّ الدنّ (سدّ فاه). لأم الجرح (سده). لجم الدابة. وجم الرجل وأجم (سكت على غيظ ).‏

                      وشذوذاً عن القاعدة التي اعتمدتها بصدد الحروف الشاعرية الرقيقة، فإن نسبة تأثير خصائص الميم الإيحائية والإيمائية في المصادر التي تنتهي به لم تبلغ سوى نصف ما بلغته في المصادر التي تبدأ به ، إذ هبطت هنا إلى (26%).‏

                      وذلك يرجع إلى أن حرف (الميم)، وإن كان رقيق الصوت، مرنه ولينه، فإنه من الحروف الإيمائية غير الشاعرية. وشأنه في ذلك شأن حرفي اللام والفاء، من حيث الرقة والوظائف الإيمائية، كما سيأتي :‏

                      وبالمقارنة بين معاني المصادر التي تبدأ بالميم والتي تنتهي به نلاحظ المفارقات التالية:‏

                      1-كانت نسبة معاني الرقة واللين في المصادر التي تبدأ بالميم قرابة سبعة أضعاف ما هي عليه في المصادر التي تنتهي به. وذلك يرجع إلى أن تسلط الحروف القوية على الحروف الضعيفة، يكون في أقصى شدته عند ما تقع الضعيفة في نهاية المصادر. فلقد بلغت المصادر التي تنتهي بالميم ، مما يدل على معاني الشدة والغلظة والضخامة والقطع والكسر أربعة وستين في حين لم تبلغ في المصادر التي تبدأ بالميم سوى اثنين وعشرين.‏

                      2-كانت نسبة معاني الضم والجمع والكسب في المصادر التي تنتهي بالميم تقارب ضعفي ماهي عليه في المصادر التي تبدأ به.‏

                      3-كانت معاني القضم في المصادر التي تنتهي بالميم ثلاثة أضعاف ماهي عليه في المصادر التي تبدأ به .‏

                      4-لم أعثر في المصادر التي تبدأ بالميم على أي مصدر يدل على معاني السد والانغلاق، في حين كان ثمة خمسة عشرمصدراً تنتهي بالميم، مما يدل على هذه المعاني .‏

                      5-كان ثمة أربعة وعشرون مصدراً تدل معانيها على التمدد والتوسع والانفتاح مما يبدأ بالميم، في حين لم أعثر إلا على ثلاثة مصادرلهذه المعاني في المصادر التي تنتهي به.‏

                      هذه المفارقات ترجع أصلاً إلى أن كلاً من الشفتين والفكين يستقران في انطباقهما على بعضهما بعضا عندما نلفظ الميم في نهاية الكلمة،ليكونا بذلك أشد تمثيلاً لوقائع الضم والجمع والقضم والسدد والانغلاق، أما عندما نلفظ الميم في أول الكلمة ، فإن الشفتين والفكين لاتلبث أن تنفرج عن بعضها بعضا لتكون بذلك أصلح لتمثيل وقائع التوسع والانفتاح والتمدد.‏

                      أما المفارقة العجيبة في هذه المقارنة، فهي أن ثمة ثلاثة وثلاثين مصدراً تدل معانيها على الرضاع والحلب والمصّ واستخراج الأشياء مما هو مجوف في المصادر التي تبدأ بالميم، بينما لم أعثر إلا على مصدر واحد يدل على معنى الرضاع في المصادر التي تنتهي به، على الرغم من أن الشفتين في الوضع الأخير هما أكثر استقراراً في انطباقهما على بعضهما بعضا كما سبق ولحظت ذلك آنفا.‏

                      ولكن، إذا صح أن الشفتين تكونان أكثر استقراراً في انطباقهما على بعضهما بعضا في اللفظة التي تنتهي بالميم، فإنهما تستقران بصورة مفاجئة، سواء بشدةّ حينا أم دونما شدةّ غالب الأحيان. أما عندما تلفظ الميم في أول الكلمة، فهي تلفظ بضم الشفة على الشفة بشيء من الشدةّ والتأني مما هو أكثر تمثيلاً لوقائع الرضاع والحلب والمصّ. وذلك يرجع إلى أن حرف الميم قد أبدع أصلاً لتمثيل واقعة الرضاع بالذات. فعمل العربي على ابقائه في مقدمة المقاطع الثنائية الحروف والثلاثية لمعاني الرضاع، وجعل الحروف المزيدة في المؤخرة كما سبق وأشرت إلى ذلك.‏

                      وفي الحقيقة، إن هذه المصادر التي تدل معانيها على الرضّاع والمصّ، هي أبلغ في التعبير وأكثر تمثيلاً لهذه الوقائع من أي لفظة عربية أخرى بما في ذلك لفظة الرضاع بالذات، وإن كانت هذه أعذب صيغة وأوقع في النفس جرساً. لخاصيات (الرشاقة) في صوت الراء و(النضارة) في (الضاد)و(النصاعة) في العين، كما سيأتي. مما يرجّح معه أن تكون لفظة (مّا) بتشديد (الميم) ومدّ (الالف)، قد أُبْدِعت في المرحلة الزراعية، بترجيح شديد، وذلك للتعبير بطريقة النطق بالميم المشددة إيماء وتمثيلاً عن واقعة مصّ الطفل ثدي أمهّ ترافقها حركة معينة. ثم سقطت الحركة مع الزمن، وتطور معناها من واقعة الرضاع إلى معنى الأمّ إطلاقاً، مرضعاً كانت أم غير مرضع.‏

                      ومن المرجح أن العربي قد طورّ لفظة (مّا) في المرحلة الرعوية إلى (أم)، بإبدال الألف المهموزة في اللسان العربي، كما ذكر العلايلي. ولفظة (ماما) في اللهجات العامية ماهي في الحقيقة إلا الأرومة التاريخية للفظة (الأم) قد أتتنا من مراحل اللغة العربية البكر. ومما يرجح صحة هذا الرأي أن لفظة (ماما) موجودة في معظم اللغات الغربية، وأنّ الألفاظ التي تدل على معنى (الأم) فيها تبدأ بحرف الميم.‏

                      وهكذا قيل للوالدة (ماما)، وللوالد(بابا). فإذا كان حرف الميم أكثر تمثيلاً لمعاني المص والرضاع والضم والانجماع، وأوحى بمعاني الرقة والإحاطة في الأمومة، فإن صوت الباء الانفجاري، إنما هو أكثر تمثيلاً لمعاني البقر والبعج وأكثر إيحاء بمعاني الشدة والقوة في الرجل الأب.‏

                      ونحن لانكون بعيدين كثيراً عن الحقيقة لو أصلنا على ذلك. وقياساَ على مالحظناه في نشأة حروف (الفاء والثاء والذال).أن نقول إنّ حر ف الميم هو من إبداع المرأة الأم بالذات، وذلك بسائق حاجة الأم المرضع إلى التعبير عن واقعة هي ألصق بطبيعتها من الرجل.‏

                      وهكذا بدأ حرف الميم بانطباق الشفة على الشفة في ضمّة شديدة طويلة متأنية، وذلك تمثيلاً لواقعة الرضاع، فكانت هذه الحركة الإيمائية أسبق في الزمن من صوته.‏
                      إذا الشعب يوما أراد الحياة
                      فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                      و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                      و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                      تعليق


                      • #12
                        رد: خصا ئص الحروف العربية ومعانيها

                        الفصل الثاني الحاسة الذوقية وحرفاها

                        الحاسة الذوقية:‏

                        إذا كان التنبيه اللمسي ميكانيكياً، فالتنبيه الذوقي كيميائي كالتنبيه الشمي. الكيفيات الذوقية الرئيسة أربع هي:‏

                        الحامض والمالح والحلو والمر. ولكل كيفية منها حليمات ذوقية خاصة منتشرة بطريقة منظمة على غشاء اللسان. فطرف اللسان يجيد الإحساس بالحامض، وهو ضعيف الإحساس بالمالح والحلو، ومعدومه بالمر. وجوانب اللسان تجيد الإحساس بالحلو والحامض والمالح. والإحساس بالمر هو أقوى ما يكون في مؤخرة اللسان. أما المنطقة الوسطى من اللسان فالإحساس الذوقي معدوم فيها.‏

                        وغشاء اللسان يحسّ بالتماس والضغط والحرارة والبرودة . وتمتزج هذه الإحساسات بالإحساسات الذوقية فينشأ عنها كيفيات مركبة كالحار والبارد والحريف والحامز والعفص والقابض والمعدني.‏

                        الحرفان الذوقيان هما: اللام والراء.‏

                        1- حرف اللام‏

                        مجهور متوسط الشدة. شكله في السريانية يشبه اللجام. يقول عنه العلايلي: إنه (للانطباع بالشيء بعد تكلفة). تعريف مبهم.‏

                        إن صوت هذا الحرف يوحي بمزيج من الليونة والمرونة والتماسك والالتصاق. وهذه الخصائص الإيحائية لمسية صرفة.‏

                        ولكن يلاحظ أن صوت هذا الحرف يتشكل على مرحلتين اثنتين:‏

                        الأولى: بالتصاق اللسان بأول سقف الحنك قريباً من اللثة العليا حبساً للنفَس‏

                        والثانية: بانفكاك اللسان عن سقف الحنك، وانفلات النفَس خارج الفم‏

                        وهكذا فإن طريقة النطق بصوت (اللام) تماثل الأحداث التي يتم قيها الالتصاق مما يجيز تصنيفها في فئة الحروف الإيمائية التمثيلية، وهي هنا لمسية.‏

                        كما أن طريقة النطق بصوت (اللام) تماثل الأحداث التي تتم فيها الاستعانة باللسان في عمليات اللوك والمضغ واللحس وما إليها، مما جعلها ألصق ما يكون بالذوقيات، فصنفتها حرفاً ذوقياً.‏

                        وإذن أي الخصائص هي الغالبة على معاني المصادر التي تبدأ بها: أللمسي المزيج هنا من الإيمائي والإيحائي؟ أم الذوقي الإيمائي الصرف؟‏

                        1- فماذا عن اللمسي؟‏

                        بالرجوع إلى المعجم الوسيط عثرت على مئتين واثني عشر مصدرا، تبدأ بحرف اللام، كان منها اثنان وثمانون مصدراً تدل معانيها على التماسك والالتصاق، بما يتوافق مع واقعة التصاق اللسان بأول سقف الحنك قريباً من اللثة العليا. منها:‏

                        لبّ بالمكان لبا (أقام فيه) . لبث بالمكان (مكث وأقام) . لبد بالمكان (أقام به ولزق). لثم.لثب بالشيء (لصِق به). لثَّ ولثلث بالمكان (أقام). لجم الثوب (خاطه). لحف. لحقه. لحم.لحك الشيء بالشيء (ألزقه به) . لذب بالمكان (أقام فيه) لذِي بالأمر (لزمه ولم يفارقه) لزَّ. لزب بالشيء (لصق به).لزِج. لزِق. لزِم. لزن القوم (تزاحموا) . لصّت المرأة (التصق فخذاها حتى لا يُرى بينهما فرجة). لصب الجلد بالعظم (لزق به هزالا). لطم الشيء بالشيء (ألصقه به) . لكد عليه الوسخ ولكع (لصق به ولزمه). لاط الشيء لوطاً وليطا (التصق به) لصق. لطا بالأرض (التصق بها). لفق (ضمَّ) . لقح. لَمّ. لمس. لاق الشيء به ليقاً (لصق). (لِكي به لكىً (أولع به ولزمه). التكَّ (تضامَّ وتداخل). لزّه (شدّه والصقه).‏

                        وبسبب من خاصية الالتصاق في حرف اللام، قد استخدمه العربي للنسبة والتملك .( له لي..). كما استخدم مقطع (الـ) التعريف للتعبير عن ارتباط الأسماء التي تدخل عليها بمعرفة سابقة عنها. لتخرج تلك الأسماء بذلك من عالم النكرة إلى عالم المعرفة، وياله من انتباه ذكي لوظائف (اللام) . وكذلك الأمر صراحة مع الأسماء الموصولة (الذي- التي..).‏

                        2- ثم ماذا عن الذوقي:‏

                        لقد كان ثمة ثلاثة وخمسون مصدراً تبدأ باللام تتعلق بعمليات الأكل والتذوق وأنواع الأطعمة وأوصافها موزعة كما يلي:‏

                        1- كان منها اثنا عشر مصدراً تدل معانيها على استخدام اللسان للتذوق واللحس وسواهما . هي: لحس. لسَّ الطعام (لحسه). لطع (لحس) . لعق. لمج الطفل أمه (رضعها) . تلمظَّ الطعام (ذاقه) . لاس الحلاوة (ذاقها) . لبلبت الشاة بولدها (لحسته والطفتة بشفتيها ). لثغ ( تحول لسانه من حرف إلى حرف). لهث الكلب ( أخرج لسانه من حرّ وعطش). لهج الفصيل أمه (تناول ضرعها يمتصه).‏

                        ب- وكان منها عشرون مصدراً تدل معانيها على المضغ وكيفية تناول الأطعمة هي:‏

                        لأف الطعام ( أكله جيداً) . لجلج الشيء في فمه (أداره للمضغ) . لسد العسل ولسبه ولمصه (لعقه) . تلعَّس فلان ( اشتد أكله). لعص (نَهِم في الأكل والشرب) . لبي من الطعام لبيا ( أكثر منه). لغوس ( أسرع في الأكل). تلغف الطعام (تناوله بكفه وازدرده). لقِم الشيء (اكله بسرعة). لقِف الطعام (بلعه). تلَّمق (أكل ما يتعلل به قبل الطعام).لهمس ( أكل ما على المائدة). لهِم الشيء ( ابتلعه) . لاكه. لاز الشيء لوزا ( أكله). لاس اللقمة (مضغها أهون مضغ).‏

                        وكان منها خمسة مصادر تتعلق بوصف الأكول هي:‏

                        اللحُوس (من يتبع الحلاوة ، كالذباب ). اللحْوس (الأكول من الناس). اللعو واللعا (الشره الحريص). اللعمِظ (الشهوان إلى الطعام).‏

                        جـ- وكان منها أحد عشر مصدراً تدلّ معانيها على أنواع الأطعمة وكيفيتها وأوصاف اللقمة. هي: اللبأ (أول اللبن عند الولادة قبل ان يرقَ). اللبن . اللُّقمة. اللُّعاق (بقية اللقمة في الفم). اللُّغفة (اللقمة).اللُّعاع (الجرعة من الشراب). اللماك (مايذاق من الطعام). اللُّهجة واللُّهنة (ما يتعلل به قبل الطعام). لغلغ الطعام (روّاهُ من الأدم). اللوقة (الزُّبدة) . لبَّق الثريد (خلطه ولينه).‏

                        وكان منها ثلاثة مصادر تدل معانيها على مستلزمات عمليات الأكل. هي:‏

                        اللسان. اللعاب. اللطع (الحنك).‏

                        وكان منها خمسة مصادر تدلّ معانيها على المرونة واللين ، بما يتوافق مع إيحاءات صوت اللام . هي:‏

                        لان . لدن. لخِي البطن (استرخى) . لطف . لواه.‏

                        وهكذا تبلغ نسبة المصادر التي تدل معانيها على الالتصاق والتماسك بما يتوافق مع واقعة التصاق اللسان بأول سقف الحنك أثناء خروج صوت اللام 38.5% أما المصادر التي تتوافق معانيها مع تلاعب اللسان في عمليات المضغ والتذوق ومتعلقات الأطعمة ، فقد بلغت (25%)، مما يؤكد صحة انتماء هذا الحرف إلى الحاسة الذوقية.فلم يتجاوز هذه الطبقة إلا في ستة مصادر . واحد للشمية (لخن) بمعنى أنتن ، بتأثير حرف الخاء. وثلاثة للبصرية. لمع النجم (تلألأ) ، بتأثير حرف العين. لألأ النجم ولاه، السراب بمعنى (اضطرب ولمع)، وحدس الاضطراب فيهما أغلب من حدس اللمعان. وواحد للسمعية: لغط القوم (اجلبوا) . وواحد للمشاعر الإنسانية ، لهِف بمعنى (حزن وتحسَّر) ، وذلك بتأثير حرف الهاء ، كما سوف نرى‏

                        وهكذا يصدق تصنيفنا الهرمي المنكوس للحواس الخمس مع حرف اللام. فالعربي لم يجد في صوت اللام (ل. ل. .) مسوغا فنيا لاستخدامه في التعبير عن أحاسيس الحواس الأعلى، لولا تدخل بعض الحروف التي تنتمي أصلاً إلى الطبقات العليا، كما سنرى في دراسة أحرف (خ. ع. هـ). وقد يتساءل القارئ عن السبب في تصنيف حرف اللام ذوقياً ، وليس ثمة أيُّ مصدر يبدأ به مما يدلّ معناه على طعم أو مذاق، من حلاوة أو مرارة أو حموضة أو ملوحة، وما إليها؟‏

                        فما دامت غالبية المصادر التي تبدأ (باللام) قد اقتصرت معانيها على اللمسيات من التصاق وتماسك وليونة ، وعمليات مضغ وبلع وما إليها من متعلقات الأطعمة ، ألم يكن الأجدر بنا أن نصنفه في زمرة الحروف اللمسية ؟.‏

                        وردا على هذا التساؤل أقول:‏

                        لقد بلغت نسبة المعاني الدالة على الالتصاق وعمليات المضغ والتذوق في المصادر التي تبدأ بحرف اللام (5،63%) وهذه الأحداث كما يلاحظ القارئ تتوافق مع واقعة التصاق اللسان بسقف الحنك ومع تلاعبه باللقمة ، تذوقاً ومضغاً وبلعاً.‏

                        وإذن من المرجح أن الإنسان العربي قد بدأ في المرحله الغابية ، أو في المرحلة الزراعية بالتعبير عن هذه الأحداث بالحركات المناسبة من اللسان والأسنان والشفاه والفم وغيرها ، إيماء وتمثيلاً. فكانت هذه الحركات بصورة مبدئية أسبق في الزمن من صوت اللام .‏

                        ولقد عمد العربي في المرحلة الرعوية إلى تهذيب صوته والتخلص من الإشارات والحركات المرافقة له، فلم يبق منها إلا التلاعب باللسان والفم بالقدر الكافي لخروج صوته.‏

                        وإذن لما كانت العلاقة الفطرية بين حرف اللام وبين عمليات التذوق والمضغ والبلع هي علاقة إيمائية صرفة، وكان من المتعذَّر التعبير إيماء وتمثيلاً عن المذاقات، فان صوت اللام المتأتي من تطور تلك الحركات الإيمائية لا يمكن ان يوحي أصلاً بأي مذاق معين من حموضة أو ملوحة أو مرارة وما إليها.‏

                        وهذا يؤكد صحة ما ذهبت إليه في بحث (الجذور الغابية والزراعية والرعوية في أصوات الحروف) من حيث نشأة الحروف الإيمائية (المرجع السابق ص125-145).‏

                        وهكذا ، لما كان حرف اللام لسانيا صرفا، واللسان هو عضو الحاسة الذوقية ، وكانت معاني المصادر التي تبدأ به لم تتجاوز الطبقة الذوقية إلا بنسبة أقل من (3%).فإنه ليس ثمة أي محذور من رفع مرتبة هذا الحرف من الطبقة اللمسية إلى الطبقة الذوقية لتعامله أصلاً مع المطاعم تذوقاً ومضغاً ولوكاً وبلعاً.‏

                        وهكذا فإن هذا الحرف الإيمائي الإيحائي ، موزع الخصائص والمعاني بين اللمسي والذوقي، كما يتمتع بشخصية جيدة ، سواء من حيث التزامه بطبقته الهرمية، أو من حيث نسبة تأثيره في معاني المصادر التي تبدأ به وقد بلغت (65%).‏

                        وبملاحقة اللام في نهاية الألفاظ عثرت على (306) مصادر، لم تتأثر معانيها بخصائص اللام إلا بنسبة (8%). وذلك لأن اللسان لا يتلاعب بحرف اللام في نهاية الألفاظ كما يفعل في بدايتها . فتخلّى هنا عن وظيفته التمثيلية الإيمائية مما أفسح المجال للحروف الأخرى التي شاركت في تراكيب هذه المصادر.‏

                        2- حرف الراء:‏

                        مجهور متوسط الشدة والرخاوة. شكله في السريانية يشبه الرأس . قال عنه العلايلي: إنه (يدل على الملكة وعلى شيوع الوصف). تعريف مبهم.‏

                        لئن كان بعض أصوات الحروف العربية يماثل عظام الإنسان في قساوتها ، وبعضها يماثل عضلاته في قوتها ومرونتها ، وبعضها الآخر يماثل لحمه في ليونته وطراوته ، و غيرها يماثل أعصابه في حساسيتها ورهافتها وما إلى ذلك من وظائف أعضاء البدن وخصائص الحروف ، فإن صوت حرف الراء من أصوات الحروف هو أشبه ما يكون بالمفاصل من الجسد.‏

                        وانطلاقاً من خاصية التمفصل هذه في صوت (الراء) وفي مفاصل الجسد، قد ادخل العربي هذا الحرف في معظم الأعضاء التي تتصل بغيرها بمفاصل غضروفية. منها:‏

                        الرأس . الرقبة . المِرفق . الركبة . الرضفة . الرِّجل. الرسغ. الوِرك. الورّ (الورك) . الفقرة. ويلحق بها الأعضاء التي تتوافق معها في ظاهرة التحرك . هي:‏

                        الخصر (لتأوده وتثنيه) . الرئة (كعضو للتنفس). الصدر (لظاهرة تحركه أثناء الشهيق والزفير، صعوداً وهبوطاً). الشَّعر (لظاهرة نوسانه مع الانسام أو حركة الجسم). البصر والنظر (لتنقلهما المستمر بين المرئيات).‏

                        وفي الحقيقة، إن حاجة اللغة العربية إلى حرف الراء لاتقل عن حاجة الجسد للمفاصل. فلولا صوت الراء لفقدت لغتنا الكثير من مرونتها وحيوتها وقدرتها الحركية ، ولفقدت بالتالي الكثير من رشاقتها، ومن مقومات ذوقها الأدبي الرفيع.‏

                        فكما أن مفاصل الجسد تساعد أعضاءه على التحرك بمرونة في كل الاتجاهات، وعلى تكرار الحركة المرّة بعد المرّة ، فإن حرف الراء بتمفصل صوته (ر. ر. را) ، وبرشاقة طرف اللسان في أدائه، قد قدَّم للعربي الصور الصوتية المماثلة للصور المرئية التي فيها ترجيع وتكرار، وتأرجح ذات اليمين وذات الشمال ، وذلك" حذوا لمسموع الأصوات على محسوس الأحداث"، كما قال ابن جني:‏

                        فليس هناك أيُّ حرف في الدنيا يستطيع صوته أن يؤدي بعض هذه الوظائف، فهو من المقومات الأساسية للغة العربية . لابل ما أحسب أن ثمة لغة يمكن أن تخلو منه.‏

                        ولعل الفرنسيين قد انتبهوا إلى وظيفة حرف الراء في الترجيع والتكرار، فجعلوا مقطع (ر و) - re)، الملحق في أول الأفعال ، للعودة والتكرار. ولكنهم لم يدخلوه في صلب اللفظة الفرنسية للقيام بهذه المهمة ، كما فعل العربي إلا نادراً . ولعّلهم قد انتبهوا إلى هذا النقص الأساسي في لغتهم في مرحلة راقية من مراحل تطورها، فابتدعوا هذا المقطع، وذلك على مثال ما ابتدعوا مقطع ( ان-in) للصميمية والبطون، ليقوم بوظيفة حرف (النون) في اللغة العربية ، كما سيأتي:‏

                        فما رصيد هذه الخصائص في صوت (الراء) على واقع المعاجم اللغوية ؟.‏

                        بالرجوع إلى المعجم الوسيط عثرت على ثلاثمئة وثمانية وعشرين مصدراً تبدأ بحرف الراء.‏

                        كان منها مئة وثمانية وسبعون مصدراً تدل معانيها على التحرك والتكرار والترجيع، بما يتوافق مع الخصائص الحركية في صوت الراء، منها، مع بيان أسباب تصنيف بعضها في هذا الجدول:‏

                        رأرأ الحيوان بذنبه (بصبص). رؤُد الغصن (تمايل يمنة ويسرة). رابل (مشى متمايلا).‏

                        ربك الشيء (خلطه). رتك البعير (ركض بخطى متقاربة). رثى الميت (عدد محاسنه، للتكرار). رجّه (هزّه وحركه بشدة). الأرجوحة. رجرج (تحرك واضطرب). الرَّحى والرحا (أداة الطحن ، للدوران). المِردن (المِغزل، للدوران). ردفه (تبعه ، ركب خلفه). رزف الإنسان ( أسرع من فزع). رضخت التيوس (تناطحت). رضع. أرضك عينيه (أغمضهما وفتحهما). ردهّ (أرجعه). رعج البرق (اضطرب). رعرع الشيء (حرَّكه وزعزعه).رعس (رعش). رغست المرأة (كثر ولدها، للتكرار). رعص(ارتعد تحرك). رعض (انتفض). الرفث. رفّ ورفرف. الرعْون (الكثير الحركة، ومنه الأرعن بمعنى الأهوج). ترافصوا الماء بينهم (تناوبوه، للتكرار). رقص. أرقل (أسرع). ركض. رمع (اضطرب وتحرك). رمل (هرول). رنح(تمايل لسكر). ترهره السراب (تتابع). ارتهش (ارتعش). ترهيأ( تحرك واضطرب). الريح. الروح (مابه حياة النفس ، لقدرتها المطلقة على التحرك). راد (جاء وذهب) . راغ (ذهب يمنة ويسرة لخديعة). راع ريعا (عاد ورجع). راه السراب (اضطرب).‏

                        كما عثرت على اثنين وأربعين مصدراً تدل معانيها على الرقة والنضارة والرخاوة بما يتوافق مع هذه الموحيات في صوت الراء إذا لفظ مخففا بعض الشيء منها:‏

                        رأف به. الرحيق. الرخص. الرحمة. رخُم الصوت (لان وسهل). الرخاوة. رغد العيش. الرفاهية. الرَّقة. رهِل لحمه. راق روقا( صفا ) . راخ ريخا (لان واسترخى). ران عليه النعاس.‏

                        كما عثرت على تسعة مصادر تدل معانيها على أصوات فيها ترجيع وتكرار، بما يتوافق مع هذه الخصائص في صوت الراء هي.‏

                        رجس البعير (هدر شديدا) الرَّز ( صوت الرعد وهدير الجمل). رزف البعير (صوت) الرعد. رعقت الدابة (صوّت بطنها في العدو). رنّم (رجّع صوته). الرغاء (صوت الإبل). الرنين. الرطيط (الجلبة والصياح). مع ملاحظة مشاركة حرفي (ز،ن) للصوت والرنين في أربعة منها.‏

                        وكان منها أربعة مصادر للفزع والخوف في توافق بين مظاهر الاضطراب التي تنتاب من يتعرض لهذه الحالات الشعورية ، وبين ظاهرة الاضطراب والتكرار في صوت الراء هي:‏

                        رجب رجبا ورجوبا (فزع) . رعب. راع روعا (فزع) . رهبه (خافه) . مع ملاحظة مشاركة حرفي (ع. هـ) في ثلاث منها وهكذا إذا لحظنا أن المصادر التي تدل معانيها على أصوات ومشاعر إنسانية قد تأثرت بالخصائص الصوتية لحرف الراء ، فإن نسبة تأثيره في معاني المصادر التي تبدأ به تبلغ (70%).‏

                        ومما يلفت النظر أنني عثرت على تسعة وعشرين مصدراً تدل معانيها على الثبات والاستقرار والربط وضمّ الأشياء إلى بعضها بعضا والإقامة، مما يتناقض مع الخصائص الحركية في صوت الراء.‏

                        فما علة ذلك ؟ لقد لحظت في الجداول السابقة أنَّ العربي قد استخدم خاصيَّة التحرك والترجيع والتكرار في صوت الراء بمعرض التعبير عن معانيه برهافة سمع ونباهة ذهن، يستبعد معهما أن يقع في مثل هذا التناقض . وإذن ما علَّة ذلك؟‏

                        بتأمل معاني هذه المصادر ومشتقاتها يلاحظ أن العربي قد جعل حرف الراء في مقدمة بعضها للكشف عن واقعة التحرك والاضطراب التي يبدأ الحدث بها. وذلك (سوقا للحروف على سمت المعنى المقصود والغرض المراد)). كما قال ابن جني. وهي:‏

                        ربضت الغنم (طوت قوائمها ولصقت بالأرض وأقامت). ربط الشيء (شدّه بالرباط). ربقه (ربطه بالرّباق، وهو ذوعرى لربط الدواب) رزح البعير (ضعُف ولصق بالأرض إعياءً أو هزالاً) . رزى على الأرض (لزم فلم يبرح). رسب (انحطّ وذهب إلى أسفل).‏

                        رسخ (ثبت في موضعه متمكناً ، ومنه رسخ المطر ، غاص نداه في الأرض). رسّ الشيء في الشيء (دخل وثبت). رسا رسوا (ثبت ، وأرسى الوتد في الأرض، ضربه فيها). رقد (نام، ولكن بعد تقلب) . ركد (سكن وهد أ وثبت، ولكن بعد تحرك واضطراب). ركز الشيء (أقرّه وأثبته). ارتكف الثلج (وقع وثبت في الأرض).رمس الميتَ (دفنه وسوّى عليه التراب). رثد المتاع(ضم بعضه إلى بعض متسقاً أو مركوماً).‏

                        رصّه، ورصرصه، ورضنه (ضمَّ بعضه إلى بعض). رصف الحجارة (ضمَّ بعضها إلى بعض).‏

                        أما المصادر الباقية فقد جعل العربي حرف الراء في مقدمتها للكشف عن خاصية التكرار في الحدث المعبر عنه على الوجه التالي:‏

                        ربغ في النعمة (أقام فيها). رتب الشيء (أثبته، ومنه رزق راتب، أي ثابت دائم، للتكرار). رجن بالمكان (أقام، ومنه رجن الحيوان أي ألِف البيوت ، للتكرار). ربد بالمكان وردح به، وركا ركوا ورمأ رموا ورزن به ورمك فيه (أقام) .‏

                        وذلك لأن الإقامة في المكان تتضمن التكرار والاستمرار بداهة ، ولولاه لكان دخول المكان تعريجا أو زيارة أو مرورا عابرا ، وما إلى ذلك من النعوت.‏

                        ولكن ماذا عن المصادر التي تنتهي بحرف الراء؟‏

                        بالرجوع إلى المعجم الوسيط عثرت على ثلاثمئة واثنين وخمسين مصدراً تنتهي بحرف الراء .‏

                        كان منها مئة واثنان وسبعون مصدراً تدل معانيها على التحرك والترجيع والتكرار. منها:‏

                        . أشر الخشبة ووشرها بمعنى (نشرها). أكَرَ (حرث الأرض وزرعها).أفر (نشط ووثب في عدوه). بحر الأرض (شقها) . بذر الحبَّ( ألقاه) في الأرض للزراعة) بَزَرَ الحبّ ألقاه في الأرض للانبات).بصر (نظر). بطره (شقه). بغرت الريح (هاجت فأمطرت). بعثره (فرقه وبدَّده).تار الماء توراً ( جرى). التيار ( شدة جريان الماء)‏

                        ثار ثوَراناً وثورا وثورة (هاج وانتشر). الجذر (لحركة انتشاره في الأرض).‏

                        جرّه. حدر السفينة (دفعها من أعلى إلى أسفل). حطره (صرعه) . حفر . حمر الشيء (قشره). حار حورا (رجع). حار الماء حيرا (اجتمع ودار) . خشر (هرب جُبْناً).خطر (اهتز وتبختر). دبر (ذهب وولى). درّ الحليب (كثر ، جرى وسال). دغر عليه (اقتحم من غير تثبُّت). دعثره(صرعه وهلكه). دمره. دار (طاف حول). . زفر(أخرج نفسه بعد مدِّه إياه). سعر الفرس (عدا شديدا). سار. شتره (قطعه). تشذَّر القوم (تفرقوا واختلفت مذاهبهم).شرّ الماء (خرّ وتساقط قليلاً). صار صيرورة ( تحول من حال إلى حال). ضبر (جمع قوائمه ووثب) ضفر (وثب عدوا). طفر (قفز).عبر. عثر. عصره (استخرج ماءه). عار عيرا وعيرانا (ذهب وجاء مترددا). فأر التراب (حفره). فرّ فرفر.‏

                        فار الماء. قشره. قطر الماء. الكتر (مشية فيها تخلّج كالسكران). كرّ الفارس (عاد مرّة بعد مرّة). كوَّر العمامة (لفها). مخرت السفينة (جرت تشق الماء).مصر الناقة (حلبها). مغر في البلاد (ذهب وأسرع). مار الشيء مورا (تحرك وتدافع).‏

                        نثره (رمى به متفرقاً). . هبر اللحم (قطعه قِطعاً كباراً). هشر الناقة حلب ما في ضرعها). همر الماء (انصبّ) . وثر الشيء (وطِئه). وهر الرملُ (انهار).‏

                        وكان منها اثنان وعشرون مصدراً تدل معانيها على الرقة والنضارة والرخاوة. منها:‏

                        البِشر. الثمر. الخضرة. الزهر. سكر (سكن وفتر). العِطر . الغضارة. القمر.الوبر. طرّ (كان ذا رواء وجمال). النضارة. اليسر.‏

                        وكان منها عشرون مصدراً لأصوات فيها ترجيع وتكرار بما يتوافق مع الخصائص الصوتية لحرف الراء . هي:‏

                        أرّ أريرا (صوَّت). جأر (للبقر). الخرير (للماء). خار الثور. دردر الماء (صوت أثناء تدافعه في بطن الوادي). زحر. طحر.. زمجر (ردد صوته).زمخر الصوت (اشتد). زمر (صوَّت). شخر (تردد صوته في حلقه). الصفير . صار صورا (صوَّت). عرّ الظليم (صاح). قرّ قريرا (صوّت). قرقر الشراب في حلقه (صوّت). نعر (صاح وصوّت). هرّ الكلب (نبح). هزر (ضحك). هدر الجمل (ردّد صوته في حنجرته).‏

                        وكان منها ثلاثة مصادر لمشاعر الغضب من اضطراب وانفعال نفسي وجسدي يحاكي ما في صوت (الراء) من تردد واضطراب . هي:‏

                        ذئِر (أنِف وغضب). ذمر الأسد (غضب). الوحر (الحقد، الغيظ، أشد الغضب). ويلحق بها لفظة (السرور) لمشاعر إنسانية مبهجة لا تخلو من رقة (الراء) ونضارتها وحلاوتها.‏

                        لتبلغ نسبة تأثير الراء في المصادر التي تنتهي بها (62%).‏

                        ولكن لوحظ أن ثمة عشرة مصادر أخرى تدل معانيها على الستر والاختفاء، مما يتناقض أصلاً مع خاصية الظهور والعيانية في التحرك . هي:‏

                        خدره ، وخمره ، وطمره ، وغفره وغمره بمعنى (ستره). كفر الشيء (غطاه).ذخره (خبأه) . طبر (اختبأ واختفى). قبره (دفنه).‏

                        ولئن كان العربي قد جعل حرف الراء في بداية بعض المصادر التي تدل على الثبات والاستقرار وضم الأشياء إلى بعضها، مضاهاة منه لتلك الأحداث التي تبدأ أصلاً بالحركة كما مر معنا آنفا،‏

                        فإن العربي قد جعل الراء بالمقابل في نهاية هذه المصادر لأن أحداثها تنتهي بحركة ما، وذلك (سوقا للحروف على سمت المعنى المقصود والغرض المراد).‏

                        فلفظة خدر الهودج مثلاً (ألقى عليه الستر) ، تدل على حدث يبدأ بالإمساك بنسيج فيه رخاوة (للخاء) ، ولا يخلو من شدة ممسك (للدال)، لينتهي هذا الحدث بحركة إسدال الستر على باب الهودج (للراء).‏

                        ولفظة خمرت المرأة رأسها بالخمار (غطته) ، تدل على حدث مماثل لما قبله في مراحله جميعا. ولكن بفارق أن الخمار هو أرقّ نسيجاً وأشف من ستر الهودج. وذلك لأن الميم في (خمر) أرق وأشف وأكثر إحاطة من الدال في (خدر) كما مر معنا في الحروف اللمسية.‏

                        ولفظة كفر الزارع البذر بالتراب (غطاه)، تدل على حدث يبدأ بحك الأرض بأداة أو باليد (الكاف)، ثم بإحداث حفرة في الأرض (للفاء) ، لينتهي الحدث بحركة تغطية البذر بالتراب (للراء).‏

                        ولفظتنا (طمر وقبر) يتماثل معنياهما من حيث الوقائع والتسلسل الزمني ، ولكن بفارق أن الطمر يكون في رمل أو أرض طرية (للطاء)، وفي حفرة سطحية (للميم). بينما القبر يكون في أرض قاسية شديدة المقاومة (للقاف) ، وفي حفرة عميقة (للباء). والراء. لحركتي تغطية المطمور والمقبور.وهكذا بقية المصادر.‏

                        ولكن ما علاقة حرف الراء بالحاسة الذوقية؟.‏

                        من غرائب حرف الراء، أن العربي قد أدخله في معظم الألفاظ التي تدل معانيها على أهم مصادر الحلاوة التي تذوقها في صحرائه من تمر وعسل، منها:‏

                        الرُّب (عصارة التمر المطبوخ). الرُّضاب (رغوة العسل). الرطب (ثمر النخل إذا نضج قبل أن يصير تمرا). الرمْخ (بسر التمر). البسر (ثمر النخل قبل أن ينضج). التمر.الشَّور (العسل المستخرج من الخلية. الكمر (البسر يرطب بعد سقوطه على الأرض).الضّرَبُ (العسل الأبيض الغليظ). الطَّرم (شهد العسل).‏

                        فما تعليل هذه الظاهرة؟.‏

                        ان اللسان يتلاعب بصوت هذا الحرف على مثال تلاعبه بحبة التمر، أو بشهدة من عسل.ولذلك فمن المرجح أن يكون العربي قد عبّر في المرحلة الزراعية عن طعم العسل بحركة لسانية إيمائية رشيقة ترافقها حركات بدنية أخرى. وبانتقاله إلى المرحلة الرعوية احتفظ بالصوت المناسب لتكرار حركة اللسان بمعرض التعبير عن مذاقات الحلاوة . وأسقط الحركات الجسدية الأخرى. وهكذا كانت حركة تلاعب اللسان بالمطاعم الحلوة المذاق فيما أرى، أسبق في الزمان من صوت (الراء). على مثال ما كان تلاعب اللسان باللقمة مضغا وبلعاً أسبق في الزمن من صوت اللام كما مرّ معنا.‏

                        ومن غرائب هذا الحرف أيضاً أنه يدخل في معظم الألفاظ التي تدل معانيها على منابع الحرارة الأصليّة ، التي كان العربي يتعامل معها في الطبيعة . منها:‏

                        أرّ النار أرّاً، وأرّثها (أوقدها). أسعر النار (أشعلها). السَّقر (حر النار أو الشمس وأذاه). الأوار والحرور( حرر الشمس أو النار). الجمر. الحرّ. الرمضاء (شدة الحرّ).الشرار. صهر (اذاب بالحرارة). أضرم النار. كهر الحر (اشتد ، ومنها لفظة كهرباء المحدثة). النار. الهاجرة (نصف النهار عند اشتداد الحر) . وأر (اشتد حرّه).وغرت الهاجرة (اشتد حرها). الرَّضفة (الحجر المحمى بالنار أو الشمس). نجر اليوم وِرَمِهَ (اشتد حرّه). ذمر النار (أوقدها).‏

                        وهكذا فان الألفاظ التي تدل معانيها على الحرارة مما لا يوجد فيها حرف الراء، معظمها وصف لها، أو من نتائجها . مثال:‏

                        اللهب (ما يرتفع من النار كأنه لسان). . سخن (صار حارا). أجّج النار (ألهبها).أشعل النار (أوقدها وألهبها)...‏

                        أما لفظة الشمس، وان كانت هي المصدر الحراري الرئيس في الطبيعة، فإنَّ حَدْسَ إشعاع نورها وتفشي أشعتها قد غلبا في ذهن العربي على حدس حرارتها. ولعلَّ جذر هذه اللفظة يعود إلى يوم كان الإنسان العربي يمارس العمل الزراعي في أوديته الريَّا قبل أن تتحول ربوعه إلى صحاري، وقبل أن يتحول هو إلى راع يكابد من حرِّ الشمس ما يرهقه.فبدأ بحرف الشين (للتفشي والانتشار) كما سوف نرى في دراسته، وهي في بعض الساميات (شمش).‏

                        وما علة هذه الظاهرة من حيث استعمال (الراء) لمعاني الحرارة؟.‏

                        من المرجح أن العربي قد استخدم لسانه في المرحلة الزراعية للتعبير إيماء وتمثيلاً، عن تأثر لسانه بالأطعمة والأشربة الساخنة بحركة لسانية ترافقها حركات بدنية مغايرة للتي كانت ترافق حركة اللسان بمعرض التعبير عن الحلاوة . فسقطت هذه الحركات المرافقة أيضاً في المرحلة الرعوية وبقي صوت الراء للحلاوة والحرارة:( الحرف العربي والشخصية العربية ص71-76).‏

                        ولكن باعتماد العربي في المرحلة الرعوية صدى الأصوات في النفس للتعبير عن معانيه كما أسلفت في المرجع السابق قد استثمر خاصية التكرار والتمفصل في صوت (الراء) إلى ابعد الحدود، وذلك للتعبير عما يماثله في الطبيعة من صور مرئية تنطوي على التحرك والتكرار والترجيع، مما ينتمي أصلاً إلى حاسة البصر.( المرجع السابق ص 137-142).‏

                        وهنا لابد للقارئ ان يتساءل عن السبب في تصنيف هذا الحرف ذوقياً ، بينما ظاهرة التحرك والترجيع والتكرار (البصرية) هي الغالبة على معاني المصادر التي تبدأ أو تنتهي به.‏

                        لقد تجاوزت هذا المعيار الكمي وصنفته ذوقياً وذلك للاعتبارين التاليين:‏

                        1- لأنه حرف لساني، واللسان هو عضو حاسة الذوق.‏

                        2- لأنه أبدع أصلاً للتعبير إيماء وتمثيلاً عن المطاعم الحلوة المذاق والحارة الملمس على مثال ما أبدع حرف اللام بالطريقة ذاتها للتعبير عن عمليات مضغ الأطعمة وبلعها . فرأيت ان أصنفه حرفاً ذوقياً مع حرف اللام لتخصصه أصلاً بطعم الحلاوة دون سائر الحروف.‏

                        فالفواكه حلوة الطعم التي لاراء في أسمائها ، إما هي مقتبسة من الشعوب الأخرى وإما أن أسماءها مستوحاة من شكلها مثال (تين- عنب- أجاص- خوخ- تفاح- موز- بطيخ). ولا يجرح هذا التصنيف أن يستخدمه العربي في مرحلة رعوية لاحقة للتعبير إيحاء عن التحرك والتأوُّد والتكرار.‏

                        وعلى الرغم من ذلك كله ، إذا لم يقتنع القارئ، بهذين الاعتبارين ، فلا اعتراض لي على نقله إلى زمرة الحروف البصرية لخاصية الحركة والتكرار في صوته، حيث أثَّر في معظم معاني المصادر التي تبدأ أو تنتهي به.‏

                        وهكذا إذا أضيفت المصادر التي تدل معانيها على الستر والخفاء، والحلاوة والحرارة موضوع الفقرات السابقة إلى الجداول أعلاه ، فإن نسبة تأثير حرف (الراء) في المصادر التي تنتهي به ترتفع من (62% إلى5،70%) مما يؤهل هذا الحرف إلى الدخول في زمرة الحروف القوية الشخصية.‏

                        ولئن كان ثمة ثلاثة عشر مصدراً للأصوات والمشاعر الإنسانية في المصادر التي تبدأ بالراء وأربعة وعشرون في المصادر التي تنتهي به، فإن معانيها كما لحظنا سابقاً تتوافق مع خصائصه الصوتية في الحركة والتكرار مما لا يؤثر فى التزامه الطبقي في حالة اعتباره من الحروف البصرية.‏

                        ليصبح حرف الراء بذلك من أقوى الحروف شخصية ، وأشدها التزاماً.‏

                        ومما يلفت الانتباه في حرف الراء وما أكثر ما لفت انتباهي ، ان العربي قد كره ان يجمع بين الراء واللام في مقطع واحد (لر، رل) . وذلك للتنافر الصميمي في خصائصهما : فالراء للتمفصل،- واللام للالتصاق. كما مر معنا.‏

                        كما لم أعثر في المعجم الوسيط على حرف (الراء) في لفظة ثلاثية تبدأ باللام، ولا على اللام في لفظة تنتهي بالراء.‏

                        ولئن كان ثمة كثير من الألفاظ التي تبدأ بحرف الرّاء وتنتهي باللام ، بفاصل من حرف كما في (ربْل، رتل، رطل، رجل، رمل...) فذلك لأنَّ العربي يستسيغ ان يبدأ كلامه بالمتحرك وان ينتهي بالساكن، أما العكس فلا. فالراء بتمفصله وتكراره يمثل الحركة ، واللام بالتصاقه يمثل السكون والاستقرار . ومنه يتضح أن لفظة (بلور) ، من (بلر) ليست عربية ترجيحاً . فالذوق العربي كَرِه على العموم ان يجمع بين الراء واللام في مقطع واحد، لا للتعذر وإنما للاستثقال . وذلك على مثال الحال بين حرفي (الباء والميم)، كما سيأتي.‏

                        استطراد‏

                        لا يبعد ان تكون المرأة بحكم اختصاصها ( المنزلي ) قد اهتدت في المرحلة الزراعية إلى الأصول الحركية لهذا الحرف للتعبير به إيماء وتمثيلاً عن معاني (الحلاوة والحرارة) مترافقة مع الحركات الأخرى المناسبة، مما يفسح المجال للاعتراض على تصنيفة (إيحائياً).‏

                        والرّد على ذلك بأن حرف (الراء) هو بهذا الصدد كبعض الحروف الأخرى التي عبر العربي بها عن معانيه (إيماء وإيحاء) على حد سواء ، مثل أحرف (الباء، والجيم، والشين والطاء) كما سيأتي. ولكنها صُنِّفت جميعاً في زمرة الحروف الإيحائية، لغلبة هذه الخاصية فيها على (الإيمائية)، ولأنها لم تستوف مقومات شخصيتها (الإيحائية) إلاّ في المرحلة الرعوية. وذلك على العكس من أحرف (الفاء واللام والميم والثاء والذال ) التي استوفت مقومات شخصيتها الإيمائية في المرحلة الزراعية ، ثم جاءتها الخصائص الإيحائية لاحقاً. ولا عبرة لكثرة ما أُبدِع من المصادر الجذور التي شاركت الأحرف الإيحائية في تراكيبها، مادامت معاني معظمها قد التزمت بخصائصها الإيمائية.‏

                        تعقيب لابد منه:‏

                        لقد تبين لي في دراستي (إطلالة على الأعجاز اللغوي في القرآن) أن للراء. وظائف أدبية أخرى قد تعشقها الشعراء الأصلاء فأقبلوا عليها واستثمروا الكثير من خصائصها ووظائفها. فكان نصيبها من قوافيهم أكثر من أي حرف آخر.‏

                        أما القرآن الكريم فقد استنفد خصائص (الراء) ووظائفها جميعاً في (قوافي) آياته ومفرداته وسوره )مما لا نظير له في أدب أو شعر . ومما يدهش حقاً ان يستخدم القرآن خصائصها الحركية للقيام- بالغالبية العظمى من المعارك التي خاضها مع الكفار والمشركين في الكثير من آياته وسوره. لتبلغ (الراء) أوج فروسيتها في المعارك السبع التي خاضتها سورة (القمر) بزعامتها كقافية لآياتها جميعاً البالغة (55) . (الإطلالة ص -153-157).‏
                        إذا الشعب يوما أراد الحياة
                        فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                        و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                        و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                        تعليق


                        • #13
                          رد: خصا ئص الحروف العربية ومعانيها

                          الفصل الثاني الحاسة الذوقية وحرفاها

                          الحاسة الذوقية:‏

                          إذا كان التنبيه اللمسي ميكانيكياً، فالتنبيه الذوقي كيميائي كالتنبيه الشمي. الكيفيات الذوقية الرئيسة أربع هي:‏

                          الحامض والمالح والحلو والمر. ولكل كيفية منها حليمات ذوقية خاصة منتشرة بطريقة منظمة على غشاء اللسان. فطرف اللسان يجيد الإحساس بالحامض، وهو ضعيف الإحساس بالمالح والحلو، ومعدومه بالمر. وجوانب اللسان تجيد الإحساس بالحلو والحامض والمالح. والإحساس بالمر هو أقوى ما يكون في مؤخرة اللسان. أما المنطقة الوسطى من اللسان فالإحساس الذوقي معدوم فيها.‏

                          وغشاء اللسان يحسّ بالتماس والضغط والحرارة والبرودة . وتمتزج هذه الإحساسات بالإحساسات الذوقية فينشأ عنها كيفيات مركبة كالحار والبارد والحريف والحامز والعفص والقابض والمعدني.‏

                          الحرفان الذوقيان هما: اللام والراء.‏

                          1- حرف اللام‏

                          مجهور متوسط الشدة. شكله في السريانية يشبه اللجام. يقول عنه العلايلي: إنه (للانطباع بالشيء بعد تكلفة). تعريف مبهم.‏

                          إن صوت هذا الحرف يوحي بمزيج من الليونة والمرونة والتماسك والالتصاق. وهذه الخصائص الإيحائية لمسية صرفة.‏

                          ولكن يلاحظ أن صوت هذا الحرف يتشكل على مرحلتين اثنتين:‏

                          الأولى: بالتصاق اللسان بأول سقف الحنك قريباً من اللثة العليا حبساً للنفَس‏

                          والثانية: بانفكاك اللسان عن سقف الحنك، وانفلات النفَس خارج الفم‏

                          وهكذا فإن طريقة النطق بصوت (اللام) تماثل الأحداث التي يتم قيها الالتصاق مما يجيز تصنيفها في فئة الحروف الإيمائية التمثيلية، وهي هنا لمسية.‏

                          كما أن طريقة النطق بصوت (اللام) تماثل الأحداث التي تتم فيها الاستعانة باللسان في عمليات اللوك والمضغ واللحس وما إليها، مما جعلها ألصق ما يكون بالذوقيات، فصنفتها حرفاً ذوقياً.‏

                          وإذن أي الخصائص هي الغالبة على معاني المصادر التي تبدأ بها: أللمسي المزيج هنا من الإيمائي والإيحائي؟ أم الذوقي الإيمائي الصرف؟‏

                          1- فماذا عن اللمسي؟‏

                          بالرجوع إلى المعجم الوسيط عثرت على مئتين واثني عشر مصدرا، تبدأ بحرف اللام، كان منها اثنان وثمانون مصدراً تدل معانيها على التماسك والالتصاق، بما يتوافق مع واقعة التصاق اللسان بأول سقف الحنك قريباً من اللثة العليا. منها:‏

                          لبّ بالمكان لبا (أقام فيه) . لبث بالمكان (مكث وأقام) . لبد بالمكان (أقام به ولزق). لثم.لثب بالشيء (لصِق به). لثَّ ولثلث بالمكان (أقام). لجم الثوب (خاطه). لحف. لحقه. لحم.لحك الشيء بالشيء (ألزقه به) . لذب بالمكان (أقام فيه) لذِي بالأمر (لزمه ولم يفارقه) لزَّ. لزب بالشيء (لصق به).لزِج. لزِق. لزِم. لزن القوم (تزاحموا) . لصّت المرأة (التصق فخذاها حتى لا يُرى بينهما فرجة). لصب الجلد بالعظم (لزق به هزالا). لطم الشيء بالشيء (ألصقه به) . لكد عليه الوسخ ولكع (لصق به ولزمه). لاط الشيء لوطاً وليطا (التصق به) لصق. لطا بالأرض (التصق بها). لفق (ضمَّ) . لقح. لَمّ. لمس. لاق الشيء به ليقاً (لصق). (لِكي به لكىً (أولع به ولزمه). التكَّ (تضامَّ وتداخل). لزّه (شدّه والصقه).‏

                          وبسبب من خاصية الالتصاق في حرف اللام، قد استخدمه العربي للنسبة والتملك .( له لي..). كما استخدم مقطع (الـ) التعريف للتعبير عن ارتباط الأسماء التي تدخل عليها بمعرفة سابقة عنها. لتخرج تلك الأسماء بذلك من عالم النكرة إلى عالم المعرفة، وياله من انتباه ذكي لوظائف (اللام) . وكذلك الأمر صراحة مع الأسماء الموصولة (الذي- التي..).‏

                          2- ثم ماذا عن الذوقي:‏

                          لقد كان ثمة ثلاثة وخمسون مصدراً تبدأ باللام تتعلق بعمليات الأكل والتذوق وأنواع الأطعمة وأوصافها موزعة كما يلي:‏

                          1- كان منها اثنا عشر مصدراً تدل معانيها على استخدام اللسان للتذوق واللحس وسواهما . هي: لحس. لسَّ الطعام (لحسه). لطع (لحس) . لعق. لمج الطفل أمه (رضعها) . تلمظَّ الطعام (ذاقه) . لاس الحلاوة (ذاقها) . لبلبت الشاة بولدها (لحسته والطفتة بشفتيها ). لثغ ( تحول لسانه من حرف إلى حرف). لهث الكلب ( أخرج لسانه من حرّ وعطش). لهج الفصيل أمه (تناول ضرعها يمتصه).‏

                          ب- وكان منها عشرون مصدراً تدل معانيها على المضغ وكيفية تناول الأطعمة هي:‏

                          لأف الطعام ( أكله جيداً) . لجلج الشيء في فمه (أداره للمضغ) . لسد العسل ولسبه ولمصه (لعقه) . تلعَّس فلان ( اشتد أكله). لعص (نَهِم في الأكل والشرب) . لبي من الطعام لبيا ( أكثر منه). لغوس ( أسرع في الأكل). تلغف الطعام (تناوله بكفه وازدرده). لقِم الشيء (اكله بسرعة). لقِف الطعام (بلعه). تلَّمق (أكل ما يتعلل به قبل الطعام).لهمس ( أكل ما على المائدة). لهِم الشيء ( ابتلعه) . لاكه. لاز الشيء لوزا ( أكله). لاس اللقمة (مضغها أهون مضغ).‏

                          وكان منها خمسة مصادر تتعلق بوصف الأكول هي:‏

                          اللحُوس (من يتبع الحلاوة ، كالذباب ). اللحْوس (الأكول من الناس). اللعو واللعا (الشره الحريص). اللعمِظ (الشهوان إلى الطعام).‏

                          جـ- وكان منها أحد عشر مصدراً تدلّ معانيها على أنواع الأطعمة وكيفيتها وأوصاف اللقمة. هي: اللبأ (أول اللبن عند الولادة قبل ان يرقَ). اللبن . اللُّقمة. اللُّعاق (بقية اللقمة في الفم). اللُّغفة (اللقمة).اللُّعاع (الجرعة من الشراب). اللماك (مايذاق من الطعام). اللُّهجة واللُّهنة (ما يتعلل به قبل الطعام). لغلغ الطعام (روّاهُ من الأدم). اللوقة (الزُّبدة) . لبَّق الثريد (خلطه ولينه).‏

                          وكان منها ثلاثة مصادر تدل معانيها على مستلزمات عمليات الأكل. هي:‏

                          اللسان. اللعاب. اللطع (الحنك).‏

                          وكان منها خمسة مصادر تدلّ معانيها على المرونة واللين ، بما يتوافق مع إيحاءات صوت اللام . هي:‏

                          لان . لدن. لخِي البطن (استرخى) . لطف . لواه.‏

                          وهكذا تبلغ نسبة المصادر التي تدل معانيها على الالتصاق والتماسك بما يتوافق مع واقعة التصاق اللسان بأول سقف الحنك أثناء خروج صوت اللام 38.5% أما المصادر التي تتوافق معانيها مع تلاعب اللسان في عمليات المضغ والتذوق ومتعلقات الأطعمة ، فقد بلغت (25%)، مما يؤكد صحة انتماء هذا الحرف إلى الحاسة الذوقية.فلم يتجاوز هذه الطبقة إلا في ستة مصادر . واحد للشمية (لخن) بمعنى أنتن ، بتأثير حرف الخاء. وثلاثة للبصرية. لمع النجم (تلألأ) ، بتأثير حرف العين. لألأ النجم ولاه، السراب بمعنى (اضطرب ولمع)، وحدس الاضطراب فيهما أغلب من حدس اللمعان. وواحد للسمعية: لغط القوم (اجلبوا) . وواحد للمشاعر الإنسانية ، لهِف بمعنى (حزن وتحسَّر) ، وذلك بتأثير حرف الهاء ، كما سوف نرى‏

                          وهكذا يصدق تصنيفنا الهرمي المنكوس للحواس الخمس مع حرف اللام. فالعربي لم يجد في صوت اللام (ل. ل. .) مسوغا فنيا لاستخدامه في التعبير عن أحاسيس الحواس الأعلى، لولا تدخل بعض الحروف التي تنتمي أصلاً إلى الطبقات العليا، كما سنرى في دراسة أحرف (خ. ع. هـ). وقد يتساءل القارئ عن السبب في تصنيف حرف اللام ذوقياً ، وليس ثمة أيُّ مصدر يبدأ به مما يدلّ معناه على طعم أو مذاق، من حلاوة أو مرارة أو حموضة أو ملوحة، وما إليها؟‏

                          فما دامت غالبية المصادر التي تبدأ (باللام) قد اقتصرت معانيها على اللمسيات من التصاق وتماسك وليونة ، وعمليات مضغ وبلع وما إليها من متعلقات الأطعمة ، ألم يكن الأجدر بنا أن نصنفه في زمرة الحروف اللمسية ؟.‏

                          وردا على هذا التساؤل أقول:‏

                          لقد بلغت نسبة المعاني الدالة على الالتصاق وعمليات المضغ والتذوق في المصادر التي تبدأ بحرف اللام (5،63%) وهذه الأحداث كما يلاحظ القارئ تتوافق مع واقعة التصاق اللسان بسقف الحنك ومع تلاعبه باللقمة ، تذوقاً ومضغاً وبلعاً.‏

                          وإذن من المرجح أن الإنسان العربي قد بدأ في المرحله الغابية ، أو في المرحلة الزراعية بالتعبير عن هذه الأحداث بالحركات المناسبة من اللسان والأسنان والشفاه والفم وغيرها ، إيماء وتمثيلاً. فكانت هذه الحركات بصورة مبدئية أسبق في الزمن من صوت اللام .‏

                          ولقد عمد العربي في المرحلة الرعوية إلى تهذيب صوته والتخلص من الإشارات والحركات المرافقة له، فلم يبق منها إلا التلاعب باللسان والفم بالقدر الكافي لخروج صوته.‏

                          وإذن لما كانت العلاقة الفطرية بين حرف اللام وبين عمليات التذوق والمضغ والبلع هي علاقة إيمائية صرفة، وكان من المتعذَّر التعبير إيماء وتمثيلاً عن المذاقات، فان صوت اللام المتأتي من تطور تلك الحركات الإيمائية لا يمكن ان يوحي أصلاً بأي مذاق معين من حموضة أو ملوحة أو مرارة وما إليها.‏

                          وهذا يؤكد صحة ما ذهبت إليه في بحث (الجذور الغابية والزراعية والرعوية في أصوات الحروف) من حيث نشأة الحروف الإيمائية (المرجع السابق ص125-145).‏

                          وهكذا ، لما كان حرف اللام لسانيا صرفا، واللسان هو عضو الحاسة الذوقية ، وكانت معاني المصادر التي تبدأ به لم تتجاوز الطبقة الذوقية إلا بنسبة أقل من (3%).فإنه ليس ثمة أي محذور من رفع مرتبة هذا الحرف من الطبقة اللمسية إلى الطبقة الذوقية لتعامله أصلاً مع المطاعم تذوقاً ومضغاً ولوكاً وبلعاً.‏

                          وهكذا فإن هذا الحرف الإيمائي الإيحائي ، موزع الخصائص والمعاني بين اللمسي والذوقي، كما يتمتع بشخصية جيدة ، سواء من حيث التزامه بطبقته الهرمية، أو من حيث نسبة تأثيره في معاني المصادر التي تبدأ به وقد بلغت (65%).‏

                          وبملاحقة اللام في نهاية الألفاظ عثرت على (306) مصادر، لم تتأثر معانيها بخصائص اللام إلا بنسبة (8%). وذلك لأن اللسان لا يتلاعب بحرف اللام في نهاية الألفاظ كما يفعل في بدايتها . فتخلّى هنا عن وظيفته التمثيلية الإيمائية مما أفسح المجال للحروف الأخرى التي شاركت في تراكيب هذه المصادر.‏

                          2- حرف الراء:‏

                          مجهور متوسط الشدة والرخاوة. شكله في السريانية يشبه الرأس . قال عنه العلايلي: إنه (يدل على الملكة وعلى شيوع الوصف). تعريف مبهم.‏

                          لئن كان بعض أصوات الحروف العربية يماثل عظام الإنسان في قساوتها ، وبعضها يماثل عضلاته في قوتها ومرونتها ، وبعضها الآخر يماثل لحمه في ليونته وطراوته ، و غيرها يماثل أعصابه في حساسيتها ورهافتها وما إلى ذلك من وظائف أعضاء البدن وخصائص الحروف ، فإن صوت حرف الراء من أصوات الحروف هو أشبه ما يكون بالمفاصل من الجسد.‏

                          وانطلاقاً من خاصية التمفصل هذه في صوت (الراء) وفي مفاصل الجسد، قد ادخل العربي هذا الحرف في معظم الأعضاء التي تتصل بغيرها بمفاصل غضروفية. منها:‏

                          الرأس . الرقبة . المِرفق . الركبة . الرضفة . الرِّجل. الرسغ. الوِرك. الورّ (الورك) . الفقرة. ويلحق بها الأعضاء التي تتوافق معها في ظاهرة التحرك . هي:‏

                          الخصر (لتأوده وتثنيه) . الرئة (كعضو للتنفس). الصدر (لظاهرة تحركه أثناء الشهيق والزفير، صعوداً وهبوطاً). الشَّعر (لظاهرة نوسانه مع الانسام أو حركة الجسم). البصر والنظر (لتنقلهما المستمر بين المرئيات).‏

                          وفي الحقيقة، إن حاجة اللغة العربية إلى حرف الراء لاتقل عن حاجة الجسد للمفاصل. فلولا صوت الراء لفقدت لغتنا الكثير من مرونتها وحيوتها وقدرتها الحركية ، ولفقدت بالتالي الكثير من رشاقتها، ومن مقومات ذوقها الأدبي الرفيع.‏

                          فكما أن مفاصل الجسد تساعد أعضاءه على التحرك بمرونة في كل الاتجاهات، وعلى تكرار الحركة المرّة بعد المرّة ، فإن حرف الراء بتمفصل صوته (ر. ر. را) ، وبرشاقة طرف اللسان في أدائه، قد قدَّم للعربي الصور الصوتية المماثلة للصور المرئية التي فيها ترجيع وتكرار، وتأرجح ذات اليمين وذات الشمال ، وذلك" حذوا لمسموع الأصوات على محسوس الأحداث"، كما قال ابن جني:‏

                          فليس هناك أيُّ حرف في الدنيا يستطيع صوته أن يؤدي بعض هذه الوظائف، فهو من المقومات الأساسية للغة العربية . لابل ما أحسب أن ثمة لغة يمكن أن تخلو منه.‏

                          ولعل الفرنسيين قد انتبهوا إلى وظيفة حرف الراء في الترجيع والتكرار، فجعلوا مقطع (ر و) - re)، الملحق في أول الأفعال ، للعودة والتكرار. ولكنهم لم يدخلوه في صلب اللفظة الفرنسية للقيام بهذه المهمة ، كما فعل العربي إلا نادراً . ولعّلهم قد انتبهوا إلى هذا النقص الأساسي في لغتهم في مرحلة راقية من مراحل تطورها، فابتدعوا هذا المقطع، وذلك على مثال ما ابتدعوا مقطع ( ان-in) للصميمية والبطون، ليقوم بوظيفة حرف (النون) في اللغة العربية ، كما سيأتي:‏

                          فما رصيد هذه الخصائص في صوت (الراء) على واقع المعاجم اللغوية ؟.‏

                          بالرجوع إلى المعجم الوسيط عثرت على ثلاثمئة وثمانية وعشرين مصدراً تبدأ بحرف الراء.‏

                          كان منها مئة وثمانية وسبعون مصدراً تدل معانيها على التحرك والتكرار والترجيع، بما يتوافق مع الخصائص الحركية في صوت الراء، منها، مع بيان أسباب تصنيف بعضها في هذا الجدول:‏

                          رأرأ الحيوان بذنبه (بصبص). رؤُد الغصن (تمايل يمنة ويسرة). رابل (مشى متمايلا).‏

                          ربك الشيء (خلطه). رتك البعير (ركض بخطى متقاربة). رثى الميت (عدد محاسنه، للتكرار). رجّه (هزّه وحركه بشدة). الأرجوحة. رجرج (تحرك واضطرب). الرَّحى والرحا (أداة الطحن ، للدوران). المِردن (المِغزل، للدوران). ردفه (تبعه ، ركب خلفه). رزف الإنسان ( أسرع من فزع). رضخت التيوس (تناطحت). رضع. أرضك عينيه (أغمضهما وفتحهما). ردهّ (أرجعه). رعج البرق (اضطرب). رعرع الشيء (حرَّكه وزعزعه).رعس (رعش). رغست المرأة (كثر ولدها، للتكرار). رعص(ارتعد تحرك). رعض (انتفض). الرفث. رفّ ورفرف. الرعْون (الكثير الحركة، ومنه الأرعن بمعنى الأهوج). ترافصوا الماء بينهم (تناوبوه، للتكرار). رقص. أرقل (أسرع). ركض. رمع (اضطرب وتحرك). رمل (هرول). رنح(تمايل لسكر). ترهره السراب (تتابع). ارتهش (ارتعش). ترهيأ( تحرك واضطرب). الريح. الروح (مابه حياة النفس ، لقدرتها المطلقة على التحرك). راد (جاء وذهب) . راغ (ذهب يمنة ويسرة لخديعة). راع ريعا (عاد ورجع). راه السراب (اضطرب).‏

                          كما عثرت على اثنين وأربعين مصدراً تدل معانيها على الرقة والنضارة والرخاوة بما يتوافق مع هذه الموحيات في صوت الراء إذا لفظ مخففا بعض الشيء منها:‏

                          رأف به. الرحيق. الرخص. الرحمة. رخُم الصوت (لان وسهل). الرخاوة. رغد العيش. الرفاهية. الرَّقة. رهِل لحمه. راق روقا( صفا ) . راخ ريخا (لان واسترخى). ران عليه النعاس.‏

                          كما عثرت على تسعة مصادر تدل معانيها على أصوات فيها ترجيع وتكرار، بما يتوافق مع هذه الخصائص في صوت الراء هي.‏

                          رجس البعير (هدر شديدا) الرَّز ( صوت الرعد وهدير الجمل). رزف البعير (صوت) الرعد. رعقت الدابة (صوّت بطنها في العدو). رنّم (رجّع صوته). الرغاء (صوت الإبل). الرنين. الرطيط (الجلبة والصياح). مع ملاحظة مشاركة حرفي (ز،ن) للصوت والرنين في أربعة منها.‏

                          وكان منها أربعة مصادر للفزع والخوف في توافق بين مظاهر الاضطراب التي تنتاب من يتعرض لهذه الحالات الشعورية ، وبين ظاهرة الاضطراب والتكرار في صوت الراء هي:‏

                          رجب رجبا ورجوبا (فزع) . رعب. راع روعا (فزع) . رهبه (خافه) . مع ملاحظة مشاركة حرفي (ع. هـ) في ثلاث منها وهكذا إذا لحظنا أن المصادر التي تدل معانيها على أصوات ومشاعر إنسانية قد تأثرت بالخصائص الصوتية لحرف الراء ، فإن نسبة تأثيره في معاني المصادر التي تبدأ به تبلغ (70%).‏

                          ومما يلفت النظر أنني عثرت على تسعة وعشرين مصدراً تدل معانيها على الثبات والاستقرار والربط وضمّ الأشياء إلى بعضها بعضا والإقامة، مما يتناقض مع الخصائص الحركية في صوت الراء.‏

                          فما علة ذلك ؟ لقد لحظت في الجداول السابقة أنَّ العربي قد استخدم خاصيَّة التحرك والترجيع والتكرار في صوت الراء بمعرض التعبير عن معانيه برهافة سمع ونباهة ذهن، يستبعد معهما أن يقع في مثل هذا التناقض . وإذن ما علَّة ذلك؟‏

                          بتأمل معاني هذه المصادر ومشتقاتها يلاحظ أن العربي قد جعل حرف الراء في مقدمة بعضها للكشف عن واقعة التحرك والاضطراب التي يبدأ الحدث بها. وذلك (سوقا للحروف على سمت المعنى المقصود والغرض المراد)). كما قال ابن جني. وهي:‏

                          ربضت الغنم (طوت قوائمها ولصقت بالأرض وأقامت). ربط الشيء (شدّه بالرباط). ربقه (ربطه بالرّباق، وهو ذوعرى لربط الدواب) رزح البعير (ضعُف ولصق بالأرض إعياءً أو هزالاً) . رزى على الأرض (لزم فلم يبرح). رسب (انحطّ وذهب إلى أسفل).‏

                          رسخ (ثبت في موضعه متمكناً ، ومنه رسخ المطر ، غاص نداه في الأرض). رسّ الشيء في الشيء (دخل وثبت). رسا رسوا (ثبت ، وأرسى الوتد في الأرض، ضربه فيها). رقد (نام، ولكن بعد تقلب) . ركد (سكن وهد أ وثبت، ولكن بعد تحرك واضطراب). ركز الشيء (أقرّه وأثبته). ارتكف الثلج (وقع وثبت في الأرض).رمس الميتَ (دفنه وسوّى عليه التراب). رثد المتاع(ضم بعضه إلى بعض متسقاً أو مركوماً).‏

                          رصّه، ورصرصه، ورضنه (ضمَّ بعضه إلى بعض). رصف الحجارة (ضمَّ بعضها إلى بعض).‏

                          أما المصادر الباقية فقد جعل العربي حرف الراء في مقدمتها للكشف عن خاصية التكرار في الحدث المعبر عنه على الوجه التالي:‏

                          ربغ في النعمة (أقام فيها). رتب الشيء (أثبته، ومنه رزق راتب، أي ثابت دائم، للتكرار). رجن بالمكان (أقام، ومنه رجن الحيوان أي ألِف البيوت ، للتكرار). ربد بالمكان وردح به، وركا ركوا ورمأ رموا ورزن به ورمك فيه (أقام) .‏

                          وذلك لأن الإقامة في المكان تتضمن التكرار والاستمرار بداهة ، ولولاه لكان دخول المكان تعريجا أو زيارة أو مرورا عابرا ، وما إلى ذلك من النعوت.‏

                          ولكن ماذا عن المصادر التي تنتهي بحرف الراء؟‏

                          بالرجوع إلى المعجم الوسيط عثرت على ثلاثمئة واثنين وخمسين مصدراً تنتهي بحرف الراء .‏

                          كان منها مئة واثنان وسبعون مصدراً تدل معانيها على التحرك والترجيع والتكرار. منها:‏

                          . أشر الخشبة ووشرها بمعنى (نشرها). أكَرَ (حرث الأرض وزرعها).أفر (نشط ووثب في عدوه). بحر الأرض (شقها) . بذر الحبَّ( ألقاه) في الأرض للزراعة) بَزَرَ الحبّ ألقاه في الأرض للانبات).بصر (نظر). بطره (شقه). بغرت الريح (هاجت فأمطرت). بعثره (فرقه وبدَّده).تار الماء توراً ( جرى). التيار ( شدة جريان الماء)‏

                          ثار ثوَراناً وثورا وثورة (هاج وانتشر). الجذر (لحركة انتشاره في الأرض).‏

                          جرّه. حدر السفينة (دفعها من أعلى إلى أسفل). حطره (صرعه) . حفر . حمر الشيء (قشره). حار حورا (رجع). حار الماء حيرا (اجتمع ودار) . خشر (هرب جُبْناً).خطر (اهتز وتبختر). دبر (ذهب وولى). درّ الحليب (كثر ، جرى وسال). دغر عليه (اقتحم من غير تثبُّت). دعثره(صرعه وهلكه). دمره. دار (طاف حول). . زفر(أخرج نفسه بعد مدِّه إياه). سعر الفرس (عدا شديدا). سار. شتره (قطعه). تشذَّر القوم (تفرقوا واختلفت مذاهبهم).شرّ الماء (خرّ وتساقط قليلاً). صار صيرورة ( تحول من حال إلى حال). ضبر (جمع قوائمه ووثب) ضفر (وثب عدوا). طفر (قفز).عبر. عثر. عصره (استخرج ماءه). عار عيرا وعيرانا (ذهب وجاء مترددا). فأر التراب (حفره). فرّ فرفر.‏

                          فار الماء. قشره. قطر الماء. الكتر (مشية فيها تخلّج كالسكران). كرّ الفارس (عاد مرّة بعد مرّة). كوَّر العمامة (لفها). مخرت السفينة (جرت تشق الماء).مصر الناقة (حلبها). مغر في البلاد (ذهب وأسرع). مار الشيء مورا (تحرك وتدافع).‏

                          نثره (رمى به متفرقاً). . هبر اللحم (قطعه قِطعاً كباراً). هشر الناقة حلب ما في ضرعها). همر الماء (انصبّ) . وثر الشيء (وطِئه). وهر الرملُ (انهار).‏

                          وكان منها اثنان وعشرون مصدراً تدل معانيها على الرقة والنضارة والرخاوة. منها:‏

                          البِشر. الثمر. الخضرة. الزهر. سكر (سكن وفتر). العِطر . الغضارة. القمر.الوبر. طرّ (كان ذا رواء وجمال). النضارة. اليسر.‏

                          وكان منها عشرون مصدراً لأصوات فيها ترجيع وتكرار بما يتوافق مع الخصائص الصوتية لحرف الراء . هي:‏

                          أرّ أريرا (صوَّت). جأر (للبقر). الخرير (للماء). خار الثور. دردر الماء (صوت أثناء تدافعه في بطن الوادي). زحر. طحر.. زمجر (ردد صوته).زمخر الصوت (اشتد). زمر (صوَّت). شخر (تردد صوته في حلقه). الصفير . صار صورا (صوَّت). عرّ الظليم (صاح). قرّ قريرا (صوّت). قرقر الشراب في حلقه (صوّت). نعر (صاح وصوّت). هرّ الكلب (نبح). هزر (ضحك). هدر الجمل (ردّد صوته في حنجرته).‏

                          وكان منها ثلاثة مصادر لمشاعر الغضب من اضطراب وانفعال نفسي وجسدي يحاكي ما في صوت (الراء) من تردد واضطراب . هي:‏

                          ذئِر (أنِف وغضب). ذمر الأسد (غضب). الوحر (الحقد، الغيظ، أشد الغضب). ويلحق بها لفظة (السرور) لمشاعر إنسانية مبهجة لا تخلو من رقة (الراء) ونضارتها وحلاوتها.‏

                          لتبلغ نسبة تأثير الراء في المصادر التي تنتهي بها (62%).‏

                          ولكن لوحظ أن ثمة عشرة مصادر أخرى تدل معانيها على الستر والاختفاء، مما يتناقض أصلاً مع خاصية الظهور والعيانية في التحرك . هي:‏

                          خدره ، وخمره ، وطمره ، وغفره وغمره بمعنى (ستره). كفر الشيء (غطاه).ذخره (خبأه) . طبر (اختبأ واختفى). قبره (دفنه).‏

                          ولئن كان العربي قد جعل حرف الراء في بداية بعض المصادر التي تدل على الثبات والاستقرار وضم الأشياء إلى بعضها، مضاهاة منه لتلك الأحداث التي تبدأ أصلاً بالحركة كما مر معنا آنفا،‏

                          فإن العربي قد جعل الراء بالمقابل في نهاية هذه المصادر لأن أحداثها تنتهي بحركة ما، وذلك (سوقا للحروف على سمت المعنى المقصود والغرض المراد).‏

                          فلفظة خدر الهودج مثلاً (ألقى عليه الستر) ، تدل على حدث يبدأ بالإمساك بنسيج فيه رخاوة (للخاء) ، ولا يخلو من شدة ممسك (للدال)، لينتهي هذا الحدث بحركة إسدال الستر على باب الهودج (للراء).‏

                          ولفظة خمرت المرأة رأسها بالخمار (غطته) ، تدل على حدث مماثل لما قبله في مراحله جميعا. ولكن بفارق أن الخمار هو أرقّ نسيجاً وأشف من ستر الهودج. وذلك لأن الميم في (خمر) أرق وأشف وأكثر إحاطة من الدال في (خدر) كما مر معنا في الحروف اللمسية.‏

                          ولفظة كفر الزارع البذر بالتراب (غطاه)، تدل على حدث يبدأ بحك الأرض بأداة أو باليد (الكاف)، ثم بإحداث حفرة في الأرض (للفاء) ، لينتهي الحدث بحركة تغطية البذر بالتراب (للراء).‏

                          ولفظتنا (طمر وقبر) يتماثل معنياهما من حيث الوقائع والتسلسل الزمني ، ولكن بفارق أن الطمر يكون في رمل أو أرض طرية (للطاء)، وفي حفرة سطحية (للميم). بينما القبر يكون في أرض قاسية شديدة المقاومة (للقاف) ، وفي حفرة عميقة (للباء). والراء. لحركتي تغطية المطمور والمقبور.وهكذا بقية المصادر.‏

                          ولكن ما علاقة حرف الراء بالحاسة الذوقية؟.‏

                          من غرائب حرف الراء، أن العربي قد أدخله في معظم الألفاظ التي تدل معانيها على أهم مصادر الحلاوة التي تذوقها في صحرائه من تمر وعسل، منها:‏

                          الرُّب (عصارة التمر المطبوخ). الرُّضاب (رغوة العسل). الرطب (ثمر النخل إذا نضج قبل أن يصير تمرا). الرمْخ (بسر التمر). البسر (ثمر النخل قبل أن ينضج). التمر.الشَّور (العسل المستخرج من الخلية. الكمر (البسر يرطب بعد سقوطه على الأرض).الضّرَبُ (العسل الأبيض الغليظ). الطَّرم (شهد العسل).‏

                          فما تعليل هذه الظاهرة؟.‏

                          ان اللسان يتلاعب بصوت هذا الحرف على مثال تلاعبه بحبة التمر، أو بشهدة من عسل.ولذلك فمن المرجح أن يكون العربي قد عبّر في المرحلة الزراعية عن طعم العسل بحركة لسانية إيمائية رشيقة ترافقها حركات بدنية أخرى. وبانتقاله إلى المرحلة الرعوية احتفظ بالصوت المناسب لتكرار حركة اللسان بمعرض التعبير عن مذاقات الحلاوة . وأسقط الحركات الجسدية الأخرى. وهكذا كانت حركة تلاعب اللسان بالمطاعم الحلوة المذاق فيما أرى، أسبق في الزمان من صوت (الراء). على مثال ما كان تلاعب اللسان باللقمة مضغا وبلعاً أسبق في الزمن من صوت اللام كما مرّ معنا.‏

                          ومن غرائب هذا الحرف أيضاً أنه يدخل في معظم الألفاظ التي تدل معانيها على منابع الحرارة الأصليّة ، التي كان العربي يتعامل معها في الطبيعة . منها:‏

                          أرّ النار أرّاً، وأرّثها (أوقدها). أسعر النار (أشعلها). السَّقر (حر النار أو الشمس وأذاه). الأوار والحرور( حرر الشمس أو النار). الجمر. الحرّ. الرمضاء (شدة الحرّ).الشرار. صهر (اذاب بالحرارة). أضرم النار. كهر الحر (اشتد ، ومنها لفظة كهرباء المحدثة). النار. الهاجرة (نصف النهار عند اشتداد الحر) . وأر (اشتد حرّه).وغرت الهاجرة (اشتد حرها). الرَّضفة (الحجر المحمى بالنار أو الشمس). نجر اليوم وِرَمِهَ (اشتد حرّه). ذمر النار (أوقدها).‏

                          وهكذا فان الألفاظ التي تدل معانيها على الحرارة مما لا يوجد فيها حرف الراء، معظمها وصف لها، أو من نتائجها . مثال:‏

                          اللهب (ما يرتفع من النار كأنه لسان). . سخن (صار حارا). أجّج النار (ألهبها).أشعل النار (أوقدها وألهبها)...‏

                          أما لفظة الشمس، وان كانت هي المصدر الحراري الرئيس في الطبيعة، فإنَّ حَدْسَ إشعاع نورها وتفشي أشعتها قد غلبا في ذهن العربي على حدس حرارتها. ولعلَّ جذر هذه اللفظة يعود إلى يوم كان الإنسان العربي يمارس العمل الزراعي في أوديته الريَّا قبل أن تتحول ربوعه إلى صحاري، وقبل أن يتحول هو إلى راع يكابد من حرِّ الشمس ما يرهقه.فبدأ بحرف الشين (للتفشي والانتشار) كما سوف نرى في دراسته، وهي في بعض الساميات (شمش).‏

                          وما علة هذه الظاهرة من حيث استعمال (الراء) لمعاني الحرارة؟.‏

                          من المرجح أن العربي قد استخدم لسانه في المرحلة الزراعية للتعبير إيماء وتمثيلاً، عن تأثر لسانه بالأطعمة والأشربة الساخنة بحركة لسانية ترافقها حركات بدنية مغايرة للتي كانت ترافق حركة اللسان بمعرض التعبير عن الحلاوة . فسقطت هذه الحركات المرافقة أيضاً في المرحلة الرعوية وبقي صوت الراء للحلاوة والحرارة:( الحرف العربي والشخصية العربية ص71-76).‏

                          ولكن باعتماد العربي في المرحلة الرعوية صدى الأصوات في النفس للتعبير عن معانيه كما أسلفت في المرجع السابق قد استثمر خاصية التكرار والتمفصل في صوت (الراء) إلى ابعد الحدود، وذلك للتعبير عما يماثله في الطبيعة من صور مرئية تنطوي على التحرك والتكرار والترجيع، مما ينتمي أصلاً إلى حاسة البصر.( المرجع السابق ص 137-142).‏

                          وهنا لابد للقارئ ان يتساءل عن السبب في تصنيف هذا الحرف ذوقياً ، بينما ظاهرة التحرك والترجيع والتكرار (البصرية) هي الغالبة على معاني المصادر التي تبدأ أو تنتهي به.‏

                          لقد تجاوزت هذا المعيار الكمي وصنفته ذوقياً وذلك للاعتبارين التاليين:‏

                          1- لأنه حرف لساني، واللسان هو عضو حاسة الذوق.‏

                          2- لأنه أبدع أصلاً للتعبير إيماء وتمثيلاً عن المطاعم الحلوة المذاق والحارة الملمس على مثال ما أبدع حرف اللام بالطريقة ذاتها للتعبير عن عمليات مضغ الأطعمة وبلعها . فرأيت ان أصنفه حرفاً ذوقياً مع حرف اللام لتخصصه أصلاً بطعم الحلاوة دون سائر الحروف.‏

                          فالفواكه حلوة الطعم التي لاراء في أسمائها ، إما هي مقتبسة من الشعوب الأخرى وإما أن أسماءها مستوحاة من شكلها مثال (تين- عنب- أجاص- خوخ- تفاح- موز- بطيخ). ولا يجرح هذا التصنيف أن يستخدمه العربي في مرحلة رعوية لاحقة للتعبير إيحاء عن التحرك والتأوُّد والتكرار.‏

                          وعلى الرغم من ذلك كله ، إذا لم يقتنع القارئ، بهذين الاعتبارين ، فلا اعتراض لي على نقله إلى زمرة الحروف البصرية لخاصية الحركة والتكرار في صوته، حيث أثَّر في معظم معاني المصادر التي تبدأ أو تنتهي به.‏

                          وهكذا إذا أضيفت المصادر التي تدل معانيها على الستر والخفاء، والحلاوة والحرارة موضوع الفقرات السابقة إلى الجداول أعلاه ، فإن نسبة تأثير حرف (الراء) في المصادر التي تنتهي به ترتفع من (62% إلى5،70%) مما يؤهل هذا الحرف إلى الدخول في زمرة الحروف القوية الشخصية.‏

                          ولئن كان ثمة ثلاثة عشر مصدراً للأصوات والمشاعر الإنسانية في المصادر التي تبدأ بالراء وأربعة وعشرون في المصادر التي تنتهي به، فإن معانيها كما لحظنا سابقاً تتوافق مع خصائصه الصوتية في الحركة والتكرار مما لا يؤثر فى التزامه الطبقي في حالة اعتباره من الحروف البصرية.‏

                          ليصبح حرف الراء بذلك من أقوى الحروف شخصية ، وأشدها التزاماً.‏

                          ومما يلفت الانتباه في حرف الراء وما أكثر ما لفت انتباهي ، ان العربي قد كره ان يجمع بين الراء واللام في مقطع واحد (لر، رل) . وذلك للتنافر الصميمي في خصائصهما : فالراء للتمفصل،- واللام للالتصاق. كما مر معنا.‏

                          كما لم أعثر في المعجم الوسيط على حرف (الراء) في لفظة ثلاثية تبدأ باللام، ولا على اللام في لفظة تنتهي بالراء.‏

                          ولئن كان ثمة كثير من الألفاظ التي تبدأ بحرف الرّاء وتنتهي باللام ، بفاصل من حرف كما في (ربْل، رتل، رطل، رجل، رمل...) فذلك لأنَّ العربي يستسيغ ان يبدأ كلامه بالمتحرك وان ينتهي بالساكن، أما العكس فلا. فالراء بتمفصله وتكراره يمثل الحركة ، واللام بالتصاقه يمثل السكون والاستقرار . ومنه يتضح أن لفظة (بلور) ، من (بلر) ليست عربية ترجيحاً . فالذوق العربي كَرِه على العموم ان يجمع بين الراء واللام في مقطع واحد، لا للتعذر وإنما للاستثقال . وذلك على مثال الحال بين حرفي (الباء والميم)، كما سيأتي.‏

                          استطراد‏

                          لا يبعد ان تكون المرأة بحكم اختصاصها ( المنزلي ) قد اهتدت في المرحلة الزراعية إلى الأصول الحركية لهذا الحرف للتعبير به إيماء وتمثيلاً عن معاني (الحلاوة والحرارة) مترافقة مع الحركات الأخرى المناسبة، مما يفسح المجال للاعتراض على تصنيفة (إيحائياً).‏

                          والرّد على ذلك بأن حرف (الراء) هو بهذا الصدد كبعض الحروف الأخرى التي عبر العربي بها عن معانيه (إيماء وإيحاء) على حد سواء ، مثل أحرف (الباء، والجيم، والشين والطاء) كما سيأتي. ولكنها صُنِّفت جميعاً في زمرة الحروف الإيحائية، لغلبة هذه الخاصية فيها على (الإيمائية)، ولأنها لم تستوف مقومات شخصيتها (الإيحائية) إلاّ في المرحلة الرعوية. وذلك على العكس من أحرف (الفاء واللام والميم والثاء والذال ) التي استوفت مقومات شخصيتها الإيمائية في المرحلة الزراعية ، ثم جاءتها الخصائص الإيحائية لاحقاً. ولا عبرة لكثرة ما أُبدِع من المصادر الجذور التي شاركت الأحرف الإيحائية في تراكيبها، مادامت معاني معظمها قد التزمت بخصائصها الإيمائية.‏

                          تعقيب لابد منه:‏

                          لقد تبين لي في دراستي (إطلالة على الأعجاز اللغوي في القرآن) أن للراء. وظائف أدبية أخرى قد تعشقها الشعراء الأصلاء فأقبلوا عليها واستثمروا الكثير من خصائصها ووظائفها. فكان نصيبها من قوافيهم أكثر من أي حرف آخر.‏

                          أما القرآن الكريم فقد استنفد خصائص (الراء) ووظائفها جميعاً في (قوافي) آياته ومفرداته وسوره )مما لا نظير له في أدب أو شعر . ومما يدهش حقاً ان يستخدم القرآن خصائصها الحركية للقيام- بالغالبية العظمى من المعارك التي خاضها مع الكفار والمشركين في الكثير من آياته وسوره. لتبلغ (الراء) أوج فروسيتها في المعارك السبع التي خاضتها سورة (القمر) بزعامتها كقافية لآياتها جميعاً البالغة (55) . (الإطلالة ص -153-157).‏
                          إذا الشعب يوما أراد الحياة
                          فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                          و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                          و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                          تعليق


                          • #14
                            رد: خصا ئص الحروف العربية ومعانيها

                            الفصل الثالث الحاسة البصرية وحروفها

                            الحاسة البصرية:‏

                            آلتها العين. وهي مكونة من عدسة بلورية ونسيج عصبي حساس، هو الشبكة ولئن كانت ظاهرة الإبصار تنطبق عليها قوانين الانعكاس الفيزيائية ، فإنه ثبت مؤخراً أن عملية الإبصار هي عملية كيميائية بحتة تحصل في طبقات العين.‏

                            تدرك العين أشكال الأشياء وخصائصها الهندسية من عمق وبروز وأبعاد . ولا تتأثر العين البشرية إلا بالموجات الضوئية التي يتراوح طولها بين 390-670 ميلليميكرون، وعدد ذبذباتها بين (395و756) تريليون ذبذبة في الثانية.‏

                            الحروف البصرية :‏

                            الألف . الواو. الياء. الباء . الجيم . السين . الشين. الطاء. الظاء. الغين الفاء . وما أكثرها.‏

                            يلاحظ أن حروف اللين الثلاثة (الألف . الواو . الياء) ، هي جميعاً من زمرة الحروف البصرية والعربي لم يعط هذه الحروف الغابية إلا القليل من الأهمية، من حيث عدم عنايته بالتلفظ بها، لتكون بذلك أقلَّ وضوحاً في الجرْس وظهوراً في السمع من أصوات الحروف الساكنة .‏

                            ولقد استتبع ذلك إهمال رسمها في الأشكال القديمة للكتابة العربية ، كشأنها في بقية اللغات السامية (الحرف العربي والشخصية العربية ص48). كما عمل العربي على إماتة هذه الحروف في ألفاظه . وذلك بتحويلها إلى حركات مدّية تارة، وبالاستعاضة عنها بحروف صامتة تارات أخر، ولاسيما بالهمزة والحروف الحلقية، على ما أكده العلايلي في مقدمته.‏

                            1- الألف المهموزة:‏

                            للألف صورتان صوتيتان : الألف المهموزة ، والألف اللينة.‏

                            فالألف إذا وقعت في أول اللفظة كانت مهموزة ، وتسمى الهمزة.‏

                            أ- الهمزة / يقول عنها العلايلي:" إنها للدلالة على الجوفية، وعلى ما هو وعاء للمعنى، وعلى الصفة تصير طبعاً ". تعريف مبهم.‏

                            هي حرف شديد يحصل صوتها بانطباق فتحة المزمار وانفراجه الفجائي قبل ان يصل النفَس إلى الحنجرة. فلذلك لا يهتز معه الوتران الصوتيان، ولا تعتبر بالتالي حرفا مجهوراً ولا مهموساً. والهمزة في رأي الدكتور ابراهيم أنيس في كتابه الأصوات اللغوية، ليست من الأحرف الحلقية خلافاً لما أجمع عليه علماء اللغة العربية. وهو رأي جدير بالاعتبار.‏

                            وصوت الهمزة في أول اللفظة يضاهي نتوءاً في الطبيعة.. وهو يأخذ في هذا الموقع صورة البروز كمن يقف فوق مكان مرتفع ، فيلفت الانتباه كهاء التنبيه. ولكن بفرق انَّ الهاء شعورية والهمزة بصرية . والصورة البصرية تتصف بالحضور والوضوح والعيانية.‏

                            لذلك بدأت الضمائر المنفصلة للمتكلم والمخاطب بالهمزة : (أنا. أنت. أنتم. أنتن..) ولا أشدَّ حضوراً وعيانا . ولتبدأ الضمائر المنفصلة للغائب بالهاء: (:هو. هما. هم) لعدم الحضور.‏

                            كما بدأت الألوان الطبيعية بالهمزة: أبيض. أسود. أحمر. أخضر.... لا أوضح ألوانا ولا أظهر. فلا يقال أسود قليلا، أو أبيض كثيرا لعدم اللزوم، إذ إن الذي يتحمل القلة والكثرة هو اللون ذاته ، فيقال قليل السواد أو البياض وكثيرهما.‏

                            كما جُعلت الهمزة من حروف التعدية ، إذ إنها تمنح الفعل اللازم (القاصر أصلا) مرتقى يسهل معه التعدي على الأسماء. فمن كَرُمَ الرجل أكرمه ، ومن عُلِم وصَلُح أعلمه وأصلحه.‏

                            لابل قد تحيل الهمزة المعنى إلى نقيضه أحياناً ، كما في:‏

                            مرس حبلُ البكرة (خرج عن البكرة) . وأمرس حبل البكرة (أعاده إلى البكرة) وكما في شعب الشيء (تفرق) وأشعب الشيء ( أصلح صدعه) وذلك كثيرٌ في اللغة العربية.‏

                            أما الهمزة في وسط الكلمة أو في آخرها، فلا تأثير لها يذكر في معانيها وإن ظلَّت توحي للسامع بالبروز والنتوء كما في (سأل. جأر. يدأب. يسأم. ذئب. بؤبؤ).‏

                            وبالرجوع إلى المعجم الوسيط عثرت على مئة وثمانية وسبعين مصدراً تبدأ بالألف المهموزة، لم أجد بين معانيها وبين الإيحاءات الصوتية للهمزة رابطة حسية صريحة. فلقد كانت هذه المعاني تتأثر في الغالب بصوت أحد الحرفين الباقيين ولاسيما الأخير منهما . فالفعالية مثلاً في معنى أرّ النار (أوقدها) ، تعود للراء وفي أحّ (سعل وتنحنح) للحاء ، وفي أحن (حقد)) ، للنون والحاء ، وفي أرن (نشط وفرح) للنون والراء. وفي أطم الهودج (ستره) للميم. وفي أَتَم بالمكان وأَتَن به (أقام وثبت) للميم والنون. وفي أبَشَ الشيء جمعه) للشين. والهمزة في هذه المصادر للظهور.‏

                            ولقد توقعت أن تكون معظم الأفعال التي تبدأ بالهمزة متعدية ، بدعوى أن الهمزة تمنح الفاعل مرتقى يسهل معه الاعتداء على غيره على مثال ما لحظنا ذلك في همزة التعدية.‏

                            ولكن الواقع خيَّب توقعاتي . فمن مئة وخمسة وخمسين فعلا، كان منها تسعة وثمانون فعلا لازماً، وستة وستون فعلاً متعدياً فقط. وكان منها أثنا عشر فعلا يقبل اللزوم والتعدية. كما لم تلتزم الهمزة بطبقتها البصرية ، فكان ثمة ستة مصادر للأصوات وعشرون للمشاعر. وسأعود إلى هذه الظاهرة في دراسة الأحرف الشعورية.‏

                            وهذا يدل على أن العربي لم يول إيحاءات الشدة والبروز في صوت الهمزة أي اعتبار بمعرض التأثير في الأفعال، لا من حيث معانيها كما أسلفت ، ولا من حيث اللزوم والتعدية أو من حيث الالتزام بالطبقة الحسية.‏

                            2- الألف اللينة‏

                            لينة جوفية معناها في السامية القديمة (الثور، وشكلها يشبه صورة رأسه. الأصوات اللغوية للدكتور أنيس ص 94). أما رسمها في السريانية فيشبه صورة الإنسان (المجلد الأول للأرسوزي ص 371).‏

                            وقيل في الألف المهموزة إنها الحرف الأول من اسم النبي العربي (إدريس)، قد وضعت في أول كل من جدولي الحروف الهجائية والأبجدية. وذلك تكريماً له، وإشارة إلى أنه هو أول من نقل الحروف العربية من مجرد أصوات إلى حروف مكتوبة . فكان هذا النبي العربي بذلك إذا صحت هذه الرواية، هو المعلم العربي الأول الذي علَّم العرب فن الكتابة. ولكن الأصح فيما أرى ان اسمه مشتق من الدراسة والتدريس، فكان لقباً له قد غلب على اسمه . وهكذا لاشك في أن الكثير من الأنبياء العرب ممن لم تصلنا أسماؤهم قد أسهموا في تهذيب أصوات الحروف العربية ومعانيها على مثال ما فعل النبي إدريس.‏

                            إن الألف اللينة التي تقع في أواسط المصادر أو أواخرها ، يقتصر تأثيرها في معانيها على إضفاء خاصية الامتداد عليها في المكان أو الزمان . كما في (باب- سماء- كافة- إلى - على....).‏

                            على أن للألف اللينة كل الأهمية في معاني حروف المعاني كما سيأتي في الدراسة اللاحقة (حروف المعاني بين الأصالة والحداثة ).‏

                            3- الواو:‏

                            لينة جوفية هي (للفعالية) كما يقول الارسوزي، و (للانفعال المؤثر في الظواهر) كما يقول العلايلي. وهذان التعريفان قريبان من الواقع. إلا أن تعريف الارسوزي هو الأدق.‏

                            كما أن صوت الواو الحاصل من تدافع الهواء في الفم يوحي بالبعد إلى الأمام . وإذن ما رأي المعاجم اللغوية في الخصائص الصوتية المسندة إلى هذا الحرف؟.‏

                            بالرجوع إلى المعجم الوسيط عثرت على ثلاثمئة وخمسة عشر مصدراً تبدأ بالواو، لم أجد بين معانيها وبين الإيحاءات الصوتية للواو رابطة واضحة. ولقد كانت الفعالية في معانيها تعود إلى الحرفين الباقيين، ولاسيما الأخير منهما، كما لُحِظ ذلك في حرف الهمزة.‏

                            فالفعالية في معنى وأمه (وافقه) للميم. وفي وبص البرق (لمع وبرق) للباء والصاد. وفي وتد (ثبت) للدال. وفي الوحل (الطين الرقيق) للحاء واللام. وفي الوخم (تعفن الهواء ) للخاء. وفي ورَع (تحرَّج عن المحارم) للعين. وفي وسل (رغب وتقرب) للام. وفي وسِن " اخذ في النُّعاس" للنون . وفي وشج الشيء(تداخل وتشابك والتف) للشين. وفي وصَّ العمل ( أحكمه) للصاد . وفي وطد (رسا وثبت) للدال. وفي وعك الحرُّ (اشتد) للعين والكاف. وفي وغرت الهاجرة (رمضت واشتد حرها ) للراء. وفي وقح حافر الدابة (صلب) للقاف. وفي وكحه برجله (وطئه بها وطئاً شديداً ) للكاف....‏

                            وبمقارنة الألفاظ التي تبدأ بالهمزة مع الألفاظ التي تبدأ بالواو عُثِر على ثلاثين لفظة شقيقة في حروفها ومعانيها . منها.‏

                            أبش (جمع) وبَّش للحرب (جمع لها) الأتاد (حبل تضبط به رجل البقرة عند الحلب)، الوتد.‏

                            أتم وأتن بالمكان ( أقام به) ، وتم ووتن بالمكان ( أقام به) . أحّد الشيء وحّده . أَحِنَ (حقد) ، وَحِنَ (حقد). أزم على شفتيه (عض شديدا) ، وزم (عضّ خفيفياً). أطم الهودج (ستره). وطم الستر (أرخاه). أفِد (دنا واقترب )، ، وفد (قدِم) ، أصر ، وصر.‏

                            فهذه الحروف الغابية قد اقتصرت وظائف أصواتها على الإيحاء بالاتجاهات الثلاثة ( الألف اللينة إلى الأعلى، والواو إلى الأمام ، والياء إلى الأسفل )، من دون أن توحي بأي إحساس حسي آخر، أو بأية مشاعر إنسانية معينة.‏

                            ونظراً لكثرة استعمال هذه الحروف في تلك المرحلة مترافقة مع مختلف الحركات الجسدية، فقد عمل العربي في المرحلة الرعوية بصورة خاصة على إماتة الكثير منها من ألفاظه المتداولة ، وذلك تخليصاً للسانه من لغوها، فاستعاض عنها بحروف أقل لغوا وأكثر إيحاء بمختلف الأحاسيس الحسية والمشاعر الإنسانية، ولاسيما الهمزة والحروف الحلقية كما ذكر العلايلي ، وكما لوحِظ ذلك آنفاً.‏

                            ولا شك في أنَّ بقاء الألفاظ المماتة والبديلة معاً حتى تدوين اللغة العربية في صدر الإسلام يرجع إلى أن بعض القبائل كان أكثر تطوراً من بعضها الآخر، فأخذ علماء اللغة اللفظين معاً على انهما أصليان. أما الاستعاضة عن (الألف والواو والياء) بالفتحة والضمة والكسرة فلم تكن لإماتتها كما زعم (العلايلي) في مقدمته (ص50) وإنما لتطويرها والخلاص من غوغائيتها كما جاء في الحرف العربي والشخصية العربية (ص128) وما بعدها.‏

                            4- الياء:‏

                            لينة جوفية . يشبه شكلها في السريانية صورة اليد. يقول عنها العلايلي: إنها (للانفعال المؤثر في البواطن). وهو قريب من الواقع ولكنه قاصر.‏

                            صوت هذا الحرف يوحي بصور بصرية تختلف إلى حدٍّ ما بحسب مواقعه من اللفظة:‏

                            أ- في أول الكلمة:‏

                            يبدو صوت الياء هنا كأنه يصعد من حفرة بشيء من المشقة والجهد . لذلك قلّت الأفعال التي تبدأ بهذا الحرف ومعظمها من الأفعال اللازمة. فالأفعال التي تبدأ بالياء يصعب عليها من هذا المكان الصوتي الخفيض أن تعتدي على أحد.‏

                            وبالرجوع إلى المعجم الوسيط لم أعثر إلا على واحد وثلاثين مصدراً تبدأ بالياء. كان منها اثنان وعشرون فعلاً . خمسة منها أفعال متعدية . هي.‏

                            يبّبه (جعله يبابا أي خرابا والتعدية هنا جاءت بتشديد عين الفعل). أيدع الحجّ على نفسه (أوجبه والتعدية هنا بفعل الهمزة في أول الفعل). يداه ( أصاب يده). يفخه (أصاب يافوخه، أي ضربه). ياومه (عامله واستأجره باليوم). وهكذا فإن تعدية هذه الأفعال مصطنعة غير أصلية.‏

                            ب- في وسط الكلمة :‏

                            تختلف إيحاءات صوت الياء في هذا الموقع تبعاً لحركتها وحركة ما قبلها.‏

                            فإذا كانت متحركة بالفتح وما قبلها فتحة أخذ صوت الياء صورة المطبّ الهوائي الصغير يعترض مسار طائرة: طيران . حيدان . غثيان..... أما إذا كانت الياء ساكنة وما قبلها متحرك بالفتح، فان صوتها يأخذ صورة الحفرة أو حفنة اليد.‏

                            وهو يصلح أن يكون مقرا للمعنى، على مثال ما تصلح الحفرة على سطح الأرض أو في باطن اليد أن تكون مقرا ومستقراً للماء أو الأشياء: بَيْت. عَيْب. سَيْل. عَيْن. دَيْن. غَيْظ. لَيْل. فَيْض.‏

                            والأسماء المصغرة لا تخرج ياؤها الساكنة المفتوح ما قبلها عن هذه الإيحاءات.(رجل، رُجيل شاعر، شُويعر نهر، نُهير) . وكأنَّ الاسم مع ياء التصغير هذه قد وقع في حفرة فلم يبدُ منه إلا أقلُّه.‏

                            وإذا تحرك ما قبل الياء الساكنة بالكسر ، فإنها تعطينا صورة الحفرة العميقة والوادي السحيق (كريم ، فهيم . فقيه. نبيء. لئيم)، لتشف الياء في هذه الحالة عما في صميم الإنسان أو الأشياء من الخصائص المتأصلة فيها. فالكريم هو الذي تفجَّرت ينابيع الكرم في صميمه ، ليس كرمه طارئاً ولا مصادفة موقف. وكذلك الأمر مع العليم والتعيس والجميل والقبيح والسعيد والحقير...‏

                            جـ - في آخر الأسماء.‏

                            لا تخرج إيحاءات صوتها هنا عنه في وسط الكلمة: (قويّ. دويّ. شقيّ. أبيّ. تقيّ. سويّ . رضيّ. نقيّ. غبيّ...) . وحرف الجر (في) يوحي بصورة الحفرة أيضاً.‏

                            وهكذا الأمر معها في إضافتها إلى الأسماء في النسبة: (كنيسة ، كنسيّ. علم. علميّ. مدينة / مدنيّ....).‏

                            والياء في مختلف وظائفها الصرفية، سواء بإلحاقها بالمثنىّ أو جمع المذكر السالم في حالتي النصب والجر، لاتخرج في إيحاءاتها عما ذُكر عنها من حيث استكانة هذه الأسماء في حفرها الصوتية لفعل الاعتداء . ولا فرق في ان يقع الفعل مباشرة من فاعل ، أو بصورة غير مباشرة بالإضافة أو بحروف الجر. كما في : (أكل التفاحتين ، كسب ثقة السامعين ، فاز على المتسابقين..).‏

                            والياء ، على الرغم من توافق وظائفها الصرفية آنفة الذكر مع خصائصها الصوتية ، فلم يكن لهذه الخصائص أي تأثير في معاني المصادر التي تبدأ بها. كما أنَّها لم تلتزم بطبقتها البصرية . فكان ثمة مصدران للسمعية . هما:‏

                            يأيأ بالقوم (دعاهم لضيافة أو غيرها). يعرت الشاة (صاحت).‏

                            وكان ثمة مصدران للمشاعر الإنسانية . هما:‏

                            يئس. يرِع (جَبُن).‏

                            ولم أجد للمرئيات سوى مصدر واحد. هو: اليلق (الأبيض من كل شيء).‏

                            في الخلاصة:‏

                            ومما سبق يتضح أن العربي الذي لم يعط حروف اللين إلا القليل من اهتمامه قد استمر على تجاهلها بمعرض التعبير عن أحاسيسه ومشاعره وحاجاته ومعانيه. وذلك لأن أصوات هذه الحروف اللينة ، أو الجوفية ، أو الهوائية، أو الصائتة كما يسمونها ، إنما هي بالفعل أسماء على مسميات..‏

                            ولولا واقعة التمويج في أصواتها لكانت خلُوّاً من أي إحساس على الإطلاق.‏

                            ولعل الشاعر الفرنسي (رامبو)، إحساساً منه بمثل هذا الفراغ الحسي والشعوري في صوت حرف ( أو ) في اللغة الفرنسية ، الذي يقابله حرف (الواو) في اللغة العربية، قال عنه: إنه يوحي باللون الأسود . وذلك لأن صوته في الفرنسية معدوم الإيحاءات الحسية والشعورية.‏

                            5- حرف الباء:‏

                            مجهور شديد. يشبه شكله في السريانية صورة البيت. يقول عنه العلايلي: إنه (لبلوغ المعنى، وللقوام الصلب بالتفعل). ويقول عنه الأرسوزي: إنه (يوحي بالانبثاق والظهور). تعريف الأرسوزي أدق ولكنه قاصر.‏

                            وعلى الرغم من بساطة صوت هذا الحرف، فهو متعدد الوظائف والخصائص الصوتية . بعضها إيمائي تمثيليّ ، وبعضها الآخر إيحائي.‏

                            فإذا لفظ هذا الحرف منفرداً ممدود الصوت (با) كما كان يلفظ في مرحلة أصوات الحروف ، لم نجد ما هو أصلح منه لتمثيل الأشياء والأحداث التي تنطوي معانيها على الاتساع والضخامة والارتفاع ، بما يحاكي واقعه انفتاح الفم على مداه عند خروج صوته من بين الشفتين (باب)، وظيفة تمثيلية.‏

                            وإذا لفظ في مقدمة اللفظة دونما مدّ فبحكم خروج صوته من انفراج الشفتين بعد انطباقهما على بعضها بعضا، هو أصلح ما يكون لتمثيل الأحداث التي تنطوي معانيها على الانبثاق والظهور والسيلان، بما يحاكي واقعة انبثاق صوته من بين الشفتين إيماءً وتمثيلاً، وليس من الصميم كالنون إيحاء.‏

                            ولكن بحكم انفجاره الصوتي بانفراج الشفتين سريعاً بعد ضمَّة شديدة، فهو أوحى ما يكون بمعاني البعج والحفر ، والقطع والشق، والتحطيم والتبديد، والمفاجأة والشِّدة، وذلك (حذواً لمسموع الأصوات على محسوس الأحداث)، وظيفة إيحائية.‏

                            فما نصيب هذه الخصائص الصوتية غابيّها وزارعيّها ورعويّها في معاني المصادر التي تبدأ بحرف الباء؟ . فقد تعود أصول نشأته إلى الغابية أو الزراعية ولكنه لم يستوف مقومات شخصيته إلاّ في المرحلة الرعوية.‏

                            بالرجوع إلى المعجم الوسيط، عثرت على مئتين واثنين وتسعين مصدراً جذراً تبدأ بالباء. كان منها تسعة وثلاثون مصدراً تدل معانيها على الاتساع والامتلاء والعلو ماديّاً ومعنويا، بما يحاكي انفتاح الفم على مداه عند خروج صوت الباء منفردا ممدودا. منها:‏

                            البأج (الغلام السمين). البجباج (السمين الغليظ). الببُّ (الغلام السمين). بجل (ضخم جسمه وعظم). بخدج في مشيه (فرشخ رجليه وباعد بينهما). برطم (انتفخ غيظاً وأدلى شفتيه). بلخ( تكبر وجرؤ على الفجور). بدن (سمن وضخم). بذخ الجبل (علا فبان) برج (ارتفع) . بسط الشيء (نشره). بسق (تم ارتفاعه) بشم من الطعام (أتخم).بضَّ البدن (امتلأ ونضُر). باك البعير (سمن) . تبلخص (غلظ وكثر لحمه).‏

                            وكان منها سبعة وأربعون مصدراً تدل معانيها على الانبثاق والظهور والانفراج، بما يحاكي خروج صوت الباء من بين الشفتين بعد انطباق وانفراج . منها :‏

                            بجس الماء (انفجر). بدا . بدر. بدح بالسر (باح به). برز (ظهر بعد خفاء). برق (بدا) . بسر (أظهر العبوس) بسم انفرجت شفتاه عن ثناياه). بصر. بصق . بصّ (لمع وتلألأ). بصع الماء (رشح) بعّ الماء (صبّه في سعة) بزغ النجم (ظهر)، بزق (بصق) .بزل الناب (طلع). بغشت السماء ( أمطرت). بقل الشيء (ظهر). بلج الصبح (أسفر). بلق الباب (فتحه كلَّه). باح (ظهر).‏

                            وكان منها ثلاثة وخمسون مصدرا تتوزع معانيها بين الحفر والشق والبعج والقطع والشدة، بما يتوافق مع صدى صوته الانفجاري في النفس. منها:‏

                            بأر (حفر حفرة) . بتّ الشيء وبتره، وبتعه، وبتكه، وبتله، وبركعه ، وبرشق اللحم، وبشقه وبضعه، جميعها بمعنى (قطعه). بجّ الشيء وبذحه، وبعج البطن وبقره ، وبحر الأرض، بمعنى (شقّها). بحث الأرض (حفرها وطلب الشيء فيها).بخص عينه (فقأها) . بدهه وبغته (فاجأه) . بذم (قوي ومتُنَ).بأش فلانا (صرعه بغتة) بعط الحيوان (ذبحه). بكّ الشيء (هشمه ومزّقه) . باغ (ثار وهاج) . بهس (جرؤ وشجع).‏

                            وكان منها ستة عشر مصدراً تدل معانيها على البعثرة والتبديد بما يحاكي بعثرة النفَس بعد خروج صوته. هي:‏

                            بثّ الشيء ، وبدّه، وبدّده وبرقطه، وبسّه ، وبلبل المتاع، جميعها بمعنى (فرقّه). بحثر الشيء، وبعثره، وباثه بوثا، وبعزقه، جميعها بمعنى (بدَّده وفرَّقه).ابزعرّ القوم وابزقرُّوا (تفرقوا). . بزر الحب (نثره في الأرض).بكش العقدة (حلّها . بذر الحب (القاه في الأرض للزراعة).‏

                            وهكذا بلغت نسبة المصادر التي تأثرت معانيها بالخصائص التمثيلية لحرف الباء (35%).‏

                            لتبلغ نسبة ما تأثر منها بالخصائص الإيحائية في صوته (18%)، بما مجموعه (53%).‏

                            وهذه النسبة لا تؤهله للانتماء إلى الحروف القوية الشخصية، لولا أن معاني المصادر التي تبدأ به قد بقيت عند حدود الطبقة البصرية لم تتجاوزها إلا في ثلاثة للسمعية. بما يتوافق مع طبيعة صوت الباء والحروف المرافقة له. هي:‏

                            بغمت الظبية (صوّتت). بعبع الماء (صوَّت حين يخرج من الإناء) ، بقبقت القدر (سمع صوت غليانها)، وذلك بشفاعة حرفي (القاف) الصوتية و (العين) الشعورية.‏

                            كما تجاوزها في ثلاثة للمشاعر الانسانية : هي بغضه. بهته (حيّره وأدهشه). بهج (فرح وسُرّ)، وذلك بشفاعة حرفي (الضاد والهاء) الشعوريين.وهذا يقطع بصحة انتماء حرف الباء إلى الطبقة البصرية.‏

                            ولقد لوحظ عدم وجود حرف الباء في أول أي لفظة تبدأ بحرف الميم، على غرار ما سبق وتبين لنا عدم وجود حرف (الراء) في أول أي لفظة تبدأ بحرف (اللام). فحرف (الباء) للانبثاق والانفراج والاتساع والشق، بما يحاكي انفراج الشفتين عند التلفظ به. وحرف الميم للانضمام والانجماع، بما يحاكي انضمام الشفتين وانغلاقهما عند التلفظ به. فيبدو أنَّ العربي لم يجد من الذوق الفني السليم أن يبدأ ألفاظه بالساكن لينتهي بالمتحرك، وان كان استساغ العكس كما لحظنا ذلك في حرفي (اللام والراء)، فكان ثمة ألفاظ كثيرة تبدأ بالباء وتنتهي بالميم بعد فاصل من الحروف كما في (بلم، بشم ، بكم ، بسم، برم ، بصم، بغم...). ، أما العكس فلا.‏

                            6- حرف الجيم:‏

                            مجهور. معناه في اللغة العربية (الجمل الهائج) . يشبه رسمه في السريانية صورة الجمل. قال عنه العلايلي:إنه (للعظم مطلقا) . وهو صحيح ولكنه قاصر ويعتبره الدكتور كمال محمد بشير من الأصوات المركبة انفجاري - احتكاكي).‏

                            وقبل أن نتحدث عن إيحاءاته الحسية ، يجدر بنا أن نقطع أولاً في قضية النطق به، معطشاً على الطريقة الشامية، أو غير معطش على الطريقة القاهرية ، لعلاقة هذه المسألة بإيحاءاته الصوتية ، وبالتالي بشخصيته ومدى تأثيره في معاني الألفاظ التي يشارك.فيها.‏

                            لقد أفرد الدكتور أنيس لهذه المشكلة بحثاً خاصا في كتابه (الأصوات اللغوية ص77- 83).كما أفرد له الدكتور كمال محمد بشير بحثاً خاصا في كتابه (علم اللغة- الأصوات ص160-166).‏

                            وعلى الرغم من أن الدكتور أنيس يرجِّح مسبقا بأن الجيم التي يسمعها من مجيدي القراءة القرآنية ، هي أقرب إلى الجيم الأصلية (ص77)، أي إنها شامية معطشة بصورة ما من صور التعطش. فإنه يعود فيشكك في ذلك، لنقاش كان جرى بينه وبين أستاذ الأصوات في جامعة لندن (البروفيسور فرث) حول هذه المشكلة.‏

                            فلقد أعلمه هذا الأستاذ أن هناك قاعدة صوتية مسلَّماً بها في اللغات الأوروبية تدعى (بقانون الصوت الحنكي)، تقرر : بأن الإنسان يميل بالفطرة عبر تطوره الحضاري إلى تسهيل النطق بالحروف الصعبة. ولذلك فان هذا الأستاذ يستطيع أن يفسر تطور الجيم من عدم التعطيش القاهرية إلى التعطيش الشامية ، أما العكس فلا. بمعنى أن الجيم القاهرية الأعسر نطقاً هي الأصل ، وقد تطورت إلى الجيم الشامية الأسهل نطقاً.‏

                            وبما أن مخرج صوت الجيم القاهرية هو الأبعد عن الشفتين ، فقد حاول الدكتور أنيس إقامة الدليل على أنه زحزح إلى الأمام باتجاه الشفتين فتحول إلى الجيم الشامية المحدثة وقد لاحظ في كتاب (المعجم المفهرس لألفاظ القرآن) أن الجيم قد حرِّكت بالفتحة والكسرة وهما أماميتان (1264) مرة، لتتحرك بالضم وهي خلفية (102) مرة فقط.‏

                            وهكذا فان كثرة تحريك الجيم بحركات أمامية قد جذبت مخرجها من الخلف إلى الأمام، أي من عدم التعطيش إلى التعطيش .‏

                            أما الدكتور (بشير) ، فهو يقرّ مبدئياً بأن الجيم الشامية المعطشة هي الجيم الفصيحة المعاصرة ، إلاَّ أنه يذهب مذهب الدكتور أنيس في اعتبار الجيم القاهرية هي الأصل. ولقد استشهد بما جاء به الدكتور (اتوليتمان) حيث يقول:‏

                            (نعرف أن نطق هذا الحرف الأصلي كان جيما قاهريا، ، وكما كان ويكون في اللغات السامية الباقيه. مثلاً كلمة (جمل) العبرية (gamol). وفي السريانية (gamala) وفي الحبشية (جومال) (gomal) (ص162-163). بدعوى أن هذه اللغات هي أقدم في الزمن من اللغة العربية. وهذا عكس ما تبيّن لي في الحرف العربي ص (52) وما بعدها.‏

                            ثم يقرر الدكتور بشير أن الجيم القاهرية قد تطورت إلى (دج) في نطق قريش. ولكنه يعترف كزميله الدكتور أنيس ، بأن علماء العربية وإن وصفوا الجيم الأصلية بما ينطبق على الجيم القاهرية، فإنهم نسبوها إلى المنطقة التي تخرج منها (الشين والياء) ، وهي (بين وسط اللسان، ووسط الحنك الأعلى). وهذه المنطقة برأيه هي للجيم القرشية (دج)‏

                            ونحن لو رجعنا من عالم التخمين والفرضيات إلى واقع الإيحاءات الصوتية لحرف الجيم بمعرض تأثيره في معاني الألفاظ التي يتصدرها، اذن لعرفنا كيف نطق به مبدعوه الأوائل ، معطشاً شامياً أو غير معطش قاهريا. ولا عبرة بما يلفظ في (الساميات) لأن العربية هي الأصل.‏

                            فإذا وجدناهم قد استخدموه للتعبير عن المعاني التي يوحي بها صوت الجيم معطشاً، فإنهم لاشك قد لفظوه معطشاً طوال مرحلة إبداع تلك الألفاظ ، وإلا فيكونون قد لفظوه قاهريا غير معطش. وذلك:( حذوا لمسموع الأصوات على محسوس الأحداث).‏

                            آ- الجيم المعطشة:‏

                            نظرا لشدة تدافع النفس أثناء خروج الجيم الشامية،. وما يحدثه من ارتجاج في مساحة واسعة من سقف الحنك، كان لابد أن تتنوع إيحاءاته الصوتية.‏

                            فالجيم الشامية المعطشة، توحي بالشدة والقوة والدفء والمتانة كأحاسيس لمسية، وبطعم الدسم ورائحته كأحاسيس ذوقية وشمية. أما إيحاءاتها البصرية فهي تتردد بين الفخامة والعظم والامتلاء. لتقتصر إيحاءاتها السمعية على شيء من الفجاجة ، وهي لا توحي بأية مشاعر إنسانية أصلاً.‏

                            ب- الجيم القاهرية:‏

                            صوتها الانفجاري يوحي بالقساوة والصلابة والحرارة والخشونة كأحاسيس لمسية، وبما يدل على أصوات مزيجة من الحدَّة والانفجار كأحاسيس سمعية، ولا إيحاءات أخرى في صوتها ، حسيةً أو شعوريةً.‏

                            فلو أن العربي قد أبدع الجيم قاهرية غير معطشة كما يقول الدكتوران أنيس وبشير، إذن لكانت ندرت بصورة خاصة المعاني الدالة على العظم والفخامة والضخامة والارتفاع والفجاجة في الألفاظ التي يتصدرها.‏

                            فهل المعاجم إلى جانب الجيم الشامية أو القاهرية؟‏

                            بالرجوع إلى المعجم الوسيط عثرت على مئتين وثلاثة وخمسين مصدرا جذراً تبدأ بحرف الجيم، قد توزعت معانيها وفقا للزمر المبيَّنة في الجداول التالية:‏

                            الزمرة الأولى:‏

                            ثلاثة وثمانون مصدرا تدل معانيها على الشدة والفعالية المادية. منها:‏

                            الجأب (كلُّ كزٍّ غليظ). جأى عليه (عضَّه). جشب (غلُظ واشتد). جمح الفرس (عتا عن أمر صاحبه). جهلت القدر (اشتد غليانها). جذف الطائر (أسرع). جردم فلان (أسرع) . جعط فلانا (دفعه). جَعِمَ الرجل (اشتد حرصه وطمعه). جلز في الأرض (مضى مسرعا). جهض فلاناً (غلبه). جمر الفرس (وثب في القيد). جمز الفرس (سار مسرعا). جاب الطيرُ (انقض مسرعا).‏

                            وكان من هذه الزمرة أربعة عشر مصدرا للقطع والقشر . هي:‏

                            جبَّه (قطعه). جحف الشيء (قشره)، جدعه، وجذّه، وجزمه وجزّه، وجرده، وجلمه جميعها بمعنى (قطعه) جرشه وجلفه بمعنى (قشره). جذر الشيء (استأصله).جلق رأسه (حلقه) . جمش نبات الأرض (حصده). جرف السيل الوادي (أكل من جوانبه).‏

                            وكان منها أيضاً خمسة مصادر بمعنى صرعه هي:‏

                            جأفه (صرعه، والشجرة قلعها من أصلها). جحدره (صرعه ودحرجه). جحفله (صرعه ورماه). حجله وجعبره (صرعه).‏

                            الزمرة الثانية:‏

                            ثلاثة وخمسون مصدراً تدل معانيها على العِظَم والفخامة والضخامة والامتلاء والغلظة، ماديَّاً ومعنوياً . منها:‏

                            الجأر من الرجال (الضخم). جثل النبات (طال وغلظ والتفَّ). الجبأى (المرأة القائمة الثديين). الجبل. الجمل. جبجب (سمن). جحظت عينه . الجحمرش من النساء (الثقيلة السمجة). الجعيس (الغليظ الضخم). جعا الشيء (غلظ). الجمظ (الضخم). الجدار. جمّ (كثر).جوث (عظُم بطنه في أعلاه). الجَفْر ( ما عظم واستكرش من ولد الشاة والمعزى ). الجِفس (الضخم الجافي). جفظه (ملأه). جفخ (فخر وتكبر). جوِق (غلظ عنقه).‏

                            الزمرة الثالثة:‏

                            خمسة عشر مصدرا تدل معانيها على الحيوانات والجسد وما هو من أبعاض الجسد . هي الجيئل (الضبع). الجثة. الجثمان. الجرائض (الأسد). الجعول (ولد النعام) الجفن (غطاء العين). الجلد. الجاموس. الجمل. الجنين. الجيد(العنق).‏

                            الجواد . الجحش (ولد الحمار). الجيم (الجمل الهائج).‏

                            الزمرة الرابعة:‏

                            تسعة مصادر تدل معانيها على أصوات . هي:‏

                            جئ جئ ( دعاء للإبل إلى الماء). جأر (رفع صوته). جرس الطائر (صوّت). جشَّ صوته (اشتد وصار فيه بُحّة). جرجر البعير (ردَّد صوته في حنجرته). جعجع البعير (اشتد هديره). جلجل الرعد (صوت في حركة). جمجم (لم يبين كلامه) . جهجه الأبطال (صاحوا في الحرب).‏

                            الزمرة الخامسة:‏

                            ستة مصادر للانفعالات النفسية . هي:‏

                            جزع (لم يصبر على ما نزل به) جشأت نفسه (ثارت للقيء). جشع (اشتد حرصه). جهث (استخفه الغضب أو الفزع). جهشت نفسه (همت بالبكاء).‏

                            وبتحليل معاني المصادر الواردة في الزمر الخمس لمعرفة مدى تطابقها مع الخصائص الصوتية للجيم المعطشة وغير المعطشة ، نلاحظ مايلي:‏

                            أ- في الزمرة الأولى:‏

                            جميع مصادر هذه الزمرة تتوافق معانيها مع الخصائص الصوتية للجيم الشامية. كما أن بعضها يقبل الجيم القاهرية وان كانت الشامية أكثر تطابقاً مع معانيها . على أن المصادر الدالة على القطع والقشر وان كانت تقبل الجيمين، فإن القاهرية أكثر تطابقاً مع معانيها.‏

                            أما المصادر التي تدل معانيها على التماسك والمقاومة والتدافع والامتلاء والاستمرار من هذه الفئة، فإن معانيها لاتتوافق مع خصائص الجيم القاهرية.فجميع المصادر التي جاءت بمعنى (صرعه، واستأصله)، لا تقبل الجيم القاهرية لما في هذه الأحداث من تماسك ومقاومة، بل لا يوجد أي حرف آخر يسدّ مسدّ الجيم الشامية لاقامة التطابق بين الصور البصرية والصور الصوتية (أي الجمل الصوتية) لواقع الصراع في هذه المصادر (جحدره، جحفله، جعبره، جعفه...).‏

                            وهكذا الأمر مع جاش الماء (تدفق وجرى). فصوت الجيم القاهرية لا يستطيع أن يوحي بتدافع الماء واستمرار جريانه.‏

                            ولفظة جأى عليه (عضَّه)، وان كانت تقبل الجيم القاهرية للتوافق بين قساوة الصوت وقساوة العض فإن الجيم الشامية التي يملأ صوتها الفم هي أوحى بعملية العض التي يشترك فيها الفم والأسنان بمساحة واسعة دون قطع (عضّ على شفته).‏

                            وهكذا الأمر مع حجم النارَ (أوقدها). جرضه (خنقه). جرف السيل الوادي. جهلت القدر (اشتد غليانها). جعم الرجل. جرى ( اندفع في السير).‏

                            ومنه نرى أن الجيم الشامية قد تغلبت بالمفاضلة على الجيم القاهرية في عقر دارها مما يتعلق بالشدة والفعالية الماديتين.‏

                            ب- الزمرة الثانية:‏

                            ان الغالبية العظمى من مصادر هذه الزمرة الدالة على الضخامة والعظم والامتلاء ، لا تتوافق معانيها قطعا مع الإيحاءات الصوتية للجيم القاهرية ، لتتحول معها هذه المصادر إلى مصطلحات ورموز على معان دون إيحاء . وبذلك تتعطل هذه الخاصية الإيحائية في اللغة العربية التي تميزها أصلا من سائر اللغات.‏

                            فأين موحيات صوت الجيم القاهرية مثلا من معاني المصادر التالية:‏

                            جبل، جبجب. جحظت عينه . جشم (سمن). جشن (سمن وغلظ). جضّ (مشى متبخترا). جحدل الوعاء (ملأه)...... الخ.‏

                            جـ- الزمرة الثالثة:‏

                            ان هذه المصادر الدالة على حيوانات وعلى الجسد وأبعاضه . تتنافى معانيها جميعاً مع الخصائص الصوتية للجيم القاهرية. فأين القساوة التي يوحي بها صوتها من منظر وملمس مِمّا جاء في هذه الزمرة؟. مثال (الجؤزر ، الجاموس ، الجنين، الجلد، الجَفن ، الجثمان،....).‏

                            لابل إن صوت الجيم الشامية بايحاءاتها اللمسية والشمية والبصرية ، لهو أصدق إيحاء بمعاني هذه المسميات من صوت أي حرف آخر. وقد أطلق العربي على الجمل الهائج لفظة (الجيم) لهذا السبب بالذات.‏

                            د- الزمرة الرابعة:‏

                            باستقراء مصادر هذه الزمرة الدالة على أصوات يتضح أن صورها الصوتية (أي جملها الصوتية) إذا لفظت بالجيم الشامية تتطابق مع معانيها إلى أبعد الحدود، على العكس مما لو لفظت بالجيم القاهرية.‏

                            فلفظة (جشَّ الصوت) مثلاً بمعنى (اشتد وصار فيه بُحَّة)، تتطابق جملتها الصوتية إذا لفظت بالجيم الشامية مع طبيعة الصوت الإنساني عندما يشتد إلى الحدَِّ الذي تظهر فيه البحَّة.ولو لفظت بالجيم القاهرية لانعدم هذا التطابق بين الجملتين الصوتيتين، وتحولت اللفظة إلى رمز.‏

                            ولفظة (جئ جئ) ، وهي (دعاء للابل إلى الماء) ، قد لفظها العربي ولاشك بالجيم الشامية أي الصعيدية، ليقلد بها الأصوات التي تصدر عن الإبل عند ورود الماء فينبه بهذا الصوت شهية الإبل للماء بطريقة المحاكاة الطبيعية. ولو لفظت بالجيم القاهرية لتعطلت وظيفتها الإيحائية لعدم توافق جملتها الصوتية مع طبيعة صوت الإبل.‏

                            ولفظة (جعجع البعير) اشتد هديره تتطابق جملتها الصوتية مع الجملة الصوتية لهدير البعير فيما لو لفظت بالجيم الشامية ، على العكس مما لو لفظت بالجيم القاهرية.‏

                            وهكذا الأمر مع ألفاظ _جمجم، جأر، جهجه).‏

                            أما لفظة جرس الطائر(صوّت))، فهي الوحيدة التي تقبل الجيم القاهرية.‏

                            هـ- الزمرة الخامسة:‏

                            يلاحظ أن المصادر الواردة في هذه الزمرة تدل جميعا على انفعالات نفسية سلبية، وأن لها انعكاساتها المحسوسة على وجوه الناس وأصواتهم مما يشاهد بالعين أو يسمع بالاذن. ولمّا كانت هذه المصادر من شأن جملها الصوتية أن تنقل لنا أثر تلك الانفعالات على ملامح الوجوه في نبرات أصوات أصحابها ، فإننا نستطيع أن نقرر أنَّ حرف الجيم لم يتجاوز طبقته إلى الشعورية.فلفظة (جهشت نفسه) همَّت بالبكاء ، لابد أن تلفظ بالجيم الشامية. وذلك كيما تتطابق صورتها الصوتية مع انفعالات الحزن المرتسمة على قسمات وجه صاحبها، وكيما تتوافق أيضاً مع البوادر الصوتية الخاصة التي تترافق عادة مع ظاهرة الانتقال من حالة الحزن المكبوت، إلى البكاء الصريح. ولو لفظت بالجيم القاهرية لانعدم التطابق والتوافق بين معناها وبين جملتها الصوتية.‏

                            وهكذا الأمر مع (جشأت نفسه) ثارت للقيء، وجهث) استخفه الغضب أو الفزع .‏

                            أمّا لفظتنا (جبن وجزع) فهما تقبلان الجيمين معا، وذلك لانطواء معنييهما على انقباض نفسي يرافقه انقباض في الملامح ، وان كانت الشامية أوفى للغرض.‏

                            ومما تقدم يتضح أن الجيم الشامية هي الأصل، وأن القاهرية ما هي إلا لهجة بدوية لاحقة، ربما اقتضتها قساوة البداوة وشظف العيش.‏

                            وعلى الرغم من توزع الخصائص الصوتية لحرف الجيم بين مختلف الحواس ، فقد استطاع أن يفرضها على (5،65%) من معاني المصادر التي تبدأ به. وهذه النسبة تؤهله للانتماء إلى الحروف القويّة الشخصية.‏

                            ولئن تجاوزت بعض المصادر طبقته البصرية إلى السمعية والشعورية، فإن معانيها جميعاً تتوافق أصلاً مع الخصائص الصوتية للجيم الشامية كما مر معنا في تحليل المصادر الواردة في الزمرتين (جـ،د) ، مما يؤكد التزامه الشديد بطبقته.‏

                            ومما لاشك فيه أن الإنسان العربي قد استخدم الخصائص الصوتية للجيم الشامية بمعرض التعبير عن حاجاته ومعانيه ، بإحساس فني فائق الرهافة والدقة والذكاء.‏

                            7- حرف السين:‏

                            مهموس رخو، يشبه رسمه في السريانية صورة السن. يقول عنه العلايلي: إنه (للسَّعة) والبسط بلا تخصص). وقال الأرسوزي عنه: إنه للحركة والطلب . والقولان صحيحان ولكنهما قاصران.‏

                            حرف السين هو أحد الحروف الصفيرية ، صوته المتماسك النقي يوحي بإحساس لمسيِّ بين النعومة والملاسة، وبإحساس بصري من الانزلاق والامتداد، وبإحساس سمعي هو أقرب للصفير. وليس في صوته مايوحي بأي إحساس ذوقي أو شمي أو مشاعر إنسانية. فما رصيد هذه الخصائص الصوتية في حرف السين من معاني المصادر التي تبدأ به؟.‏

                            بالرجوع إلى المعجم الوسيط عثرت على مئتين واثنين وخمسين مصدراً جذراً تبدأ بحرف السين، كان منها اثنان وثمانون مصدرا تدل معانيها على التحرك والمسير بما يتوافق مع خاصية الانزلاق في صوته. منها:‏

                            سبق. سجم العطر (سال) . سحبه اسبلت عينه (صبّت دمعها- والسماء أمطرت). سرح السيل (جرى جريا سهلا). سرى الشيء عنه سروا (نزعه وألقاه). سرى سرْياً وسِراية وسُرىً (مضى وذهب). سعر الفرس (عدا شديدا). سفح الدمُ (انصبَّ). سفّ الطائر (مرّ على وجه الأرض طائرا). سفا سفوا (أسرع) . سقط. سكع (مشى متعسفاً) . سهكت الريح (عصفت واشتدت). ساخت قوائمه (غاصت في الأرض). ساج (جاء وذهب).‏

                            سال. ساب سيبا وسيبانا (ذهب حيث شاء). سأى (عدا) . سبسب الرجل (سار سيرا لينا). سبح. سفكه (صبّه). سكب. سلك المكان (دخل ونفذ). سعسم (مشى مشيا رفيقا). سهرج (عدا شديدا من فزع). سار. اسلهبَّ الفرس (مضى في عدوه). تسحسح الماء(سال).. أسحمت السماء (صبَّت ماءها). سحّ الماءُ (سال). سفنت الريح (هبت على وجه الأرض. ومنه، السفنية مهب للرياح في البحر). ساق سوقاً.‏

                            كما عثرت على ستة عشر مصدراً تدل معانيها على الخفاء والاستقرار ، بما يتجافى مع خاصية الانزلاق في صوت السين . منها:‏

                            ستره . سدك بالشيء (لزمه). سدل الثوب (أرخاه). السِّرُّ. سقف البيتَ (غطاه).سكن. السِّجاف (الستر).‏

                            كما عثرت على أحد عشر مصدراً للتعالي بما يتوافق مع خاصية الامتداد إلى أعلى.منها:‏

                            سبغ (تم وطال واتسع). سمد (علا ، رفع رأسه ونصب صدره). سمك سموكا.وسنع سنوعا وسما سموا (ارتفع وعلا). سمق النبات (علا) . سطع سطعا (طال عنقه) . السُّلاجم (الطويل من الرجال).‏

                            كما عثرت على ثمانية عشر مصدرا للرقة واللين والضعف ، بما يتوافق مع خاصية الرقة والسلاسة في صوت السين . منها:‏

                            سبت (استراح ، وسكن). سبخ(سكن وفتر). سرك (ضعف بدنه بعد قوة). سعسع (كبر حتى هرم). سقم (طال مرضه). سكر (فتر وسكن). سلس (صار سهلا). سهل.سمح (سهل ولان). سجا البحر والليل (سكن). سخف الشيء (رقَّ وضعف). السخل (كل شيء لم يتم).‏

                            كما عثرت على ثلاثة عشر مصدرا تدل معانيها على القشر والقطع، بما يتوافق مع خاصية الانزلاق في صوت السين . منها:‏

                            سبّ الدابة (عقرها). سحجه (قشره). سحفه (قشره). سحق الشيء (دقّه).سلخه . سبد شعره (حلقه) . سرّمه (قطَّعه). . سحا الشيء (قشره). سلع الطريق (شقه) . سرد الشيء (ثقبه).‏

                            وكان للأصوات مصدران اثنان. هما: سعل. سهف الدب (صاح) . (لتدخل حرفي . ع. هـ)‏

                            وكان للمشاعر الانسانية ثلاثة مصادر . هي سئِم ، سُرّ، سعِد.‏

                            وهكذا لم يكن لهذا الحرف من صفيريته إلا الاسم . على أنه استطاع أن يفرض خصائصه الصوتية على (56%) من معاني المصادر التي تبدأ به، لتكون شخصيته بذلك معتدلة القوة.‏

                            ولكن ، ماذا عن المصادر التي تنتهي بهذا الحرف؟.‏

                            بالرجوع إلى المعجم الوسيط عثرت على مئة وسبعين مصدرا جذراً ، كان منها ستة وأربعون للشدة والفعالية ماديهما ومعنويهما ، بما يتعارض مع خاصية الرقة والسلاسة في صوت السين منها:‏

                            أبسه (قهره). بهس (جرؤ وشجع). بكس خصمه (قهره) . حَوِس (جرؤ وتشجع).دعسه (داسه دوسا شديدا). دهسه (وطئه وطأ شديدا). شرس (ساء خلقه) وضرسه (عضَّه). عفسه (طرحه على الأرض وضغطه ضغطاً شديداً). قرس البرد (اشتد). كاس فلانا (صرعه وكبّه على وجهه). لدسه ولطسه (ضربه). مقسه (دلكه بشدة). نهسه (عضّه) . هرسه (دقَّه بشيء عريض). وطس الشيء (كسره ودقَّه).‏

                            وكان منها ثلاثون مصدرا للخفاء والاستقرار والظلام . منها:‏

                            ترس (توقى بالترس). جلس. خرس. دبسه (ستره). رمس الميت (دفنه) طمس. عسَّ وعاس (طاف ليلاً) غطس . قمس الشيء ( ألقاه في الماء فغاص). كنس الظبي (دخل مأواه). لَيِسَ فلان ليسا (لزم البيت فلم يبرحه). حبسه.‏

                            وكان منها تسعة وعشرون مصدراً للرقة والرخاوة ، بما يتوافق مع خاصية الرقة والسلاسة في صوت السين. منها:‏

                            أنس به. باس بوساً (قبّل). فطس الرجل، وفقس وقفس (مات). لحس. لمس. مسّ ملس. نعس. هلسه الداء (هزله وضمَّره). وكس الشيء (نقص).‏

                            وكان منها عشرة مصادر للتحرك والمسير هي:‏

                            حلست السماء (أمطرت). عدس في الأرض (بعُد). طسّ في الأرض ( أبعد في السير).مقس في الأرض (ذهب فيها). نبس (تحركت شفتاه بشيء). ناس (تحرك). هجس الأمر في صدره (خطر بباله). ماس (تبختر واختال). حدس في الأرض (ذهب على غير هداية).‏

                            وكان منها مصدر واحد للأصوات . هو: جرس الطائر (صوت).‏

                            وكان منها ثلاثة مصادر للمشاعر الإنسانية. هي:‏

                            تعِس. وَجَس (وقع في نفسه الخوف). فجس (تكبر وافتخر).‏

                            وبمقارنة الجداول السابقة مع بعضها بعضا، وتحليل مصادرها نلاحظ مايلي:‏

                            أ- حرف السين في بداية المصادر:‏

                            هو أوحى ما يكون بالتحرك والمسير إذ بلغت نسبة هذه المعاني وحدها (32%) بينما راوحت نسب بقية المعاني بين (5،4و7%). مما يقطع بخاصية هذا الحرف في التحرك والطلب والبسط، كما أشار إلى ذلك كل من العلايلي والأرسوزي.‏

                            ب- حرف السين في نهاية المصادر:‏

                            هو أوحى ما يكون بمعاني الخفاء والاستقرار، إذ بلغت نسبتها (5،20%) . بينما لم تبلغ هذه النسبة في المصادر التي تبدأ به سوى (3،6%). ثم تليها معاني الرقة والسلاسة والضعف، إذ بلغت نسبها (5،16%). بينما لم تبلغ في المصادر التي تبدأ بالسين سوى (7%) للخفاء.‏

                            ج- ومما يلفت الانتباه أن المصادر المنتهية بالسين التي تدل على الشدة والفعالية مما يتناقض أصلاً مع خصائص الرقة والسلاسة والضعف في صوته، قد بلغت نسبها (5،26%) بينما لم تبلغ هذه النسبة في المصادر التي تبدأ به سوى (5%). فما تعليل ذلك؟‏

                            عندما يقع حرف (السين) في أول اللفظة لابد ان يشدَّ المتكلم على صوته أثناء التلفظ به، فيمنحه ذلك فعالية انزلاقية تحاكي الأحداث الدالة على التحرك والمسير والقشر والسمو، فبلغت نسب هذه المعاني بذلك (38%)، مما حال دون تسلط الحروف القوية على خصائصه الصوتية. ولذلك اقتصرت معاني القوة والشدة والفعالية في هذه المصادر على (5%) منها فقط أما عندما يقع هذا الحرف في آخر اللفظة ، فإن الصوت يخفت به ويسكن مما يحدّ من فعاليته ، ويكون بالتالي أوحى بالخفاء ، والرقة والضعف والاستقرار.‏

                            وهكذا تسنح الفرص للحروف القوية التي تشترك في هذه المصادر للتسلط عليه بخصائصها الصوتية سواء أوقعت في أول المصادر أم في وسطها لتبلغ نسب هذه المعاني (5،26%).‏

                            وهذه الظاهرة اللغوية الصوتية تكشف عما كان العربي يتمتع به من رهافة فائقة في السمع ومن ذوق رفيع في الأدب، قد مكّناه، من أنْ يفرِّق بكثير من الدقة والبراعة بين الإيحاءات الصوتية لحرف السين في أوائل المصادر وبينها في أواخرها بمعرض التعبير عن معانيها، مما لا مثيل له في أية لغة . وهذا يشير إلى مداخلات الشعراء الاصلاء في صناعة اللغة العربية كما أسلفنا في المرجع السابق ص (92) وما بعدها.‏

                            وهكذا نستطيع ان نقرر مع العلايلي والأرسوزي: أن حرف السين يوحي فعلاً بالحركة والطلب والبسط، ولكن عندما يقع في أوائل الألفاظ ، أما عندما يقع في أواخرها فهو هناك أوحى بالخفاء والاستقرار والضعف والرقة وقد فاتتهما هذه المعاني لعدم ملاحقته في نهاية المصادر كما وقع لهما مع الحروف العربية جميعاً.‏

                            وهذا الحرف وان لم يؤثر في معاني المصادر التي تبدأ به إلا بنسبة (56%)، وفي المصادر التي تنتهي به بنسبة (35%)، فإنه قد التزم بطبقته البصرية، فلم يتجاوزها في كلتا الفئتين إلا في ثلاثة للأصوات وستة للمشاعر الإنسانية. وهذا يؤهله للانتماء إلى الحروف القوية الشخصية، على الرغم من رقة صوته.‏

                            8- حرف الشين‏

                            مهموس رخو يشبه رسمه في السريانية صورة الشمس يقول عنه العلايلي:" إنه للتفشي بغير نظام " وهذا صحيح ولكنه قاصر.‏

                            لقد سبق ان ذكرنا أن حرف (الشين) كحرف (الراء) قد تعود أصوله الحركية إلى المرحلة الزراعية.فإذا صح هذا الاحتمال لابد أن تكون المرأة هي التي اعتمدت طريقة النطق به (إيماءً) وتمثيلاً ، عن الأمور التافهة والحاجات المنزلية مما يتعلق بالمرحلة الزراعية ، كما سيأتي في معاني المصادر التي تبدأ أو تنتهي به. ثم تُعتمد (إيحاءاته) الصوتية في مراحل رعوية متطورة لاحقة. فتكتمل بذلك مقومات شخصيته (الإيمائية- الإيحائية)، ويحق له ان يصنّف في زمرة الحروف (الإيحائية) الرعوية الراقية: كما وقع لحرف (الراء)‏

                            وفي الحقيقة، إن بعثرة النفَس أثناء خروج صوت هذا الحرف يماثل الأحداث التي تتم فيها البعثرة والانتشار والتخليط. كما أن طريقة النطق بصوته المبدِّد للنفَس بين شفاه مكشِّرة ، إذا أخذت الكشرة أبعادها ، كانت أصلح ما تكون للتعبير عن توافه الأشياء والأمور.‏

                            أما صوته فهو يوحي بإحساس لمسي بين الجفاف والتقبض.‏

                            فما رصيد هذه الخصائص الإيمائية والإيحائية في المعاجم اللغوية؟.‏

                            بالرجوع إلى المعجم الوسيط عثرت على مئتين وعشرة مصادر تبدأ بالشين، كان منها تسعة وأربعون مصدراً تدل معانيها على البعثرة والانتشار والتشتت والاضطراب بما يحاكي بعثرة النفَس عند خروج صوته، وهي خاصية إيمائية ، منها:‏

                            شأشأ القوم (تفرقوا). التشتت. شرشر الماءُ (تقاطر). شذا المسك شذواً (قويت رائحته وانتشرت). شقأ شعره بالمشط (فرقه). شَظِيَ القوم وتشذّروا (تفرقوا) : تشعب الشيء وتشعَّث (تفرق) الشَّعر للإنسان والحيوان. شعّ الشيء (تفرق وانتشر). شعشع الضوء (انتشر خفيفاً). شعِن شعره (تشعّث وتفرق). شنَّع الخُرقة (شعّثها حتى تنفش). شنَّ السائل (صبّه متفرقاً). شَعَبَ في القوم (هيّج الشر بينهم). شبرقه (قطَّعه ومزقّه ) شرِثت يده (غلظ ظاهرها وتشقّق). شلشل الماء( صبّه متتابعاً). الشمس. الشهرة الإشاعة.‏

                            وكان منها تسعة عشر مصدراً للخلط والتجميع العشوائي، بما يحاكي تدافع النفَس واختلاطه عند خروج صوته. منها : شبث الشيء وبالشيء (تعلق به ولزمه). شحم (سمن وامتلأ) . شحن السفينة وغيرها (حمّلها وملأها). اشترك الأمر (اختلط والتبس). شقر شُقرة (أُشرِبَ بياضه حُمرة). شمج الشيء (خلطه بغيره). شمرج الكلام (خلطه). شمط الشيء (خلطه بغيره).‏

                            شاب (خالط بياض شعره سواد). الشهل (ان يُشرب إنسان العين حمرة). . شاب الشيء بالشيء شوْباً (خلطه به). شوّشه (خلّطه وأساء ترتيبه).‏

                            وكان منها ستة عشر مصدراً لتوافه الأشياء والأمور ، بما يتوافق مع طريقة النطق به والشَّفاه مكشِّرة. منها :‏

                            الشؤم . الشبق (للحيوان ، والغُلمة للإنسان). شَتُمَ شتامة (كان كريه الوجه). الشُحُّ (البخل والحرص). الشعبذة والشعوذة. الشراهة. الشناعة. شاه شوها (قبح). الشيش( تمر لا يعقد نوى، ويصير حشفا إذا جفّ). الشيص (تمر لم ينتج لفساد في تكوينه) شخّ (بال). شحم الطعام (فسد وتغيرت رائحته).‏

                            وكان منها ستة مصادر تدل معانيها على الجفاف والخشونة بما يتوافق مع صدى صوته في النفْس، هي، الشأفة (قرحة تخشن فتستأصل بالكي). شثُنت كفّه (خشُنت وغلُظت). شظُف الشجر (يبس لقلة الري). شمر الشيء(قلصه وضم بعضه إلى بعض). شمز (تقبض وتجمع).شنج (تقبض).‏

                            وكان منها : ثمانية مصادر لأصوات تتوافق جملها الصوتية مع صوت الشين والحروف المرافقة هي:‏

                            شجنت الحمامة (رددت صوتها). شحج البغل (صوَّت). شدا (حدا وتغنَّى). شخر النائم. شخشخ القش (خشخش). شقشق الجمل (هدر). شنشن الثوب الجديد (سُمع له صوت أثناء التحرك). شخب اللبن (خرج من الضرع مسموعاً صوته).‏

                            وكان منها سبعة مصادر لمشاعر إنسانية . هي:‏

                            شجاه الأمر (حزنه). شده فلاناً (أدهشه). أشفق منه (خافه وحَذِرَهُ). شمت به (فرح لمكروه أصابه). شهاه (أحبّه ورغب فيه). شمخر (تكبر). الشوق.‏

                            وهكذا فإن تأثير خصائص الشين الإيمائية في معاني المصادر التي تبدأ به، بما في ذلك ما يدل منها على أصوات قد بلغت (48%) . وهذه النسبة لا تؤهله للانتماء إلى رمزة الحروف القوية‏

                            فماذا عن حرف الشين في نهاية المصادر؟‏

                            بالرجوع إلى المعجم الوسيط عثرت على مئة وعشرين مصدراً جذراً انتهت بالشين. كان منها ثلاثة وأربعون مصدراً تدل معانيها على البعثرة والانتشار والاضطراب مادياً ومعنوياً ، بما يتوافق مع بعثرة النَّفَس عند خروج صوت الشين. منها:‏

                            أَرَشَ بينهم أغرى بعضهم ببعض). بغشت السماء (أرسلت مطرا خفيفاً.) جاش الماء جيشاً (تدفق وجرى). رشّت السماء(أمطرت). رعش (ارتجف). رغش (شغب). ارتهش (ارتعش). الريش للطيور . فرش النبات (انبسط على وجه الأرض). الكناشة (الأصل تتشعب منه الفروع). نشنش الطائر (نتف ريشه وألقاه). نفش (تفرق وانتشر بعد تلبد).هتش الكلبَ( حرّشه وأغراه بالصيد). هاش القوم هوشاً وهيشا (هاجوا واضطربوا).‏

                            على أنه كان من هذه الفئة ايضاً خمسة عشر مصدراً لا تدل معانيها أصلاً على البعثرة والتفشي إلا أن العربي قد جعل الشين في آخر كل منها مضاهاة منه لنهاية الحدث المعني الذي ينتهي بالبعثرة أو التفشي. وذلك (سوقاً للحروف على سمت المعنى المقصود والغرض المراد). كما قال ابن جني . منها:‏

                            جرش رأسه بالمشط (حكّه حتى أثار وسخه). حمش نبات الأرض (حصده). دبشه (قشره). دشّ الحبَّ (دقّه). فتش عن الشيء. (سأل عنه واستقصى). مرش وجهه (خدشه قليلا). ملش الشيء (فتشه بيده كأنه يطلب منه شيئاً). نبش البئر (استخرج ركامها).فتش الشيء (جذبه واستخرجه). نجش الشيء( استثاره واستخرجه). نخش الشيء (قشره). نقش الشيء (بحث عنه واستخرجه). نكشه (اخرج ما فيه). نهش اللحم (تناوله بفمه ليعضه).‏

                            ففي مصدر (جرش) مثلاً، جعل الشين (للبعثرة) في نهايته ، لتضاهي بذلك تناثر الوسخ بعد حك الرأس بالمشط).‏

                            وفي مصدر مرش وجهه (خدشه قليلاً)، جعل الشين في نهايته مضاهاة لظاهرة تفشي الخدوش في الوجه بعد حادثة (المرش)، وهي أقل شدة من حادثة (الخدش). وذلك لأن صوتي) الميم والراء) في مرش، أوحى برقة الملمس ولطافته من صوتي الخاء والدال في (خدش) . وهكذا الأمر مع بقية المصادر.‏

                            وكان منها أربعة وعشرون مصدراً جذراً تدل معانيها على الخلط والتجميع عشوائياً بما يتوافق مع تدافع النفَس عند خروج صوته، منها : أبش الشيء وحكشه ، وعكشه، وعفشه، وهبش المال بمعنى (جمعه) . حبش له (جمع له) . حمش الناس (جمعهم). حاش الدواب (جمعها وساقها).(خبش الشيء وقرشه وقشه، وقمشه بمعنى (جمعه من هنا وهاهنا). خرش لأهله (جمع وكسب).‏

                            كبش الشيء (تناوله بجميع كفه) . وبّش للحرب (جمّع لها من قبائل شتى ، ومنها الأوباش ، بمعنى أرازل الناس). باش الشيء بوشا (خلطه بغيره). غبش الليل (خالط بقية ظلمته بياض الفجر). ماش الشيء بالشيء (خلطه).‏

                            وكان منها ثمانية للجفاف والتقّبض. بما يتوافق مع صدى صوته في النفس هي:‏

                            الأش (الخبز اليابس الهش). حرش الشيءُ حرشا (خشُن). حشّ الشيء (جف ويبس).‏

                            العطش (الحاجة إلى الماء). تكرش وجهه (تقبض جلده)، والكرش للحيوانات المجترة كالمعدة للانسان ، وذلك لظاهرة التقبض في جلدتها). كمشت المرأة (صغر ثديها، والجلد تقبض واجتمع). نشّ (جف وذهب ماؤه). هشّ الخبز (رقّ وجفّ وصار سريع الكسر).‏

                            وكان منها سبعة عشر مصدراً للتوافه والعيوب الجسدية والنفسية، بما يتوافق مع الشين المكشور بها عند النطق بصوتها. هي:‏

                            الخَفَش (ضعف البصر). الدَّوَشُ (ظلمة في البصر، أو حول في العين). الطرش. الطنفش (الضعيف البصر). طنهش العمل (أفسده). الطيش. عمش (ضعف بصره مع سيلان دمع عينه). الغش. الفحش . فشفش (ضعف رأيه). فاش (افتخر وتكبّر ولا شيء عنده).اهترشت الكلاب (تقاتلت). الهمَّرش (العجوز المضطربة الخلُق). همش (اكثر الكلام في غير صواب) .الجحش، الوحش، ورش (أكل شديداً حريصاً).‏

                            مع الإشارة إلى أن ثمة كثيراً من المصادر الواردة في الجداول السابقة تدل على التفاهة أيضاً إضافة إلى معانيها الأصلية . كما في رغش، هتش هاش ، نهش. عكش، عفش، هبش، قرش وبَّش:‏

                            وكان منها مصدران اثنان للأصوات ، بما يتوافق مع صوت الشين . هما:‏

                            جشّ الصوت (اشتد وصار فيه بُحّة). كشّت الحية (صوتت).‏

                            وكان منها أربعة مصادر للمشاعر الإنسانية بما يتوافق إلى حد ما مع خاصية الاضطراب في صوت الشين . هي:‏

                            جأشت نفسه (ارتعشت من حزن أو فزع). جهشت نفسه (تحركت وهمت بالبكاء). حاش حيشاً (فزع) . دهشه (حيره).‏

                            في المقارنة بين المصادر التي تبدأ بحرف الشين والتي تنتهي به:‏

                            يلاحظ ان حرف الشين لهشاشة صوته وضعفه كان أكثر إيحاءً بخصائصه الصوتية عندما يقع في نهاية الألفاظ، إذ بلغت نسبة تأثيره في معانيها (73%). بينما لم تبلغ في المصادر التي تبدأ به سوى (48%).‏

                            كما يلاحظ أن هذا الحرف قد حافظ على طبقته البصرية في المصادر التي تنتهي به فلم يتجاوزها إلآ في مصدرين للأصوات وأربعة للمشاعر الإنسانية بما يتوافق مع خصائصه الصوتية بينما تجاوزها هناك في ثمانية للأصوات وسبعة للمشاعر الإنسانية.‏

                            وهكذا كان هذا الحرف عندما يقع في نهاية المصادر من أشد الحروف قوة شخصية والتزاماً بطبقته الهرمية على الرغم من هشاشة صوته. ولو أضفنا إليها المصادر التي تتوافق نهاية أحداثها مع ظاهرة التفشي في الشين لكانت ارتفعت نسبة تأثيرها في المعاني إلى (86%).‏

                            على أن ما يلفت الانتباه ، هو كثرة المصادر التي تدل على الأمور التافهة والعيوب الجسدية والنفسية ، سواء في المصادر التي تنتهي أو تبدأ به ، ثم كثرة الأشياء والأحداث المتعلقة بالشؤون المنزلية والبيئة الزراعية . وهذا يرجع إلى ما ذهبت إليه، من أن العربي كان أبدعه باحتمال شديد في المرحلة الزراعية لهذه المعاني ، فحافظ له إلى حد بعيد على اختصاصه الإيمائي الفطري هذا في مراحل لغوية لاحقة استوفى خلالها مقوماته الشخصية الإيمائية والإيحائية.‏

                            ولكن يبدو أن العربي عندما أخذ في تهذيب أصوات حروفه وتلطيف النطق بها في مراحل شعرية راقية متأخرة صار يلفظ الشين ، بشيء من الرقة والشفافية دونما كشرة . وهذا ما جعل صوته يوحي بالرقة واللطافة فاستخدمه لهذه الأغراض في بضعة عشر مصدراً . منها:‏

                            البشاشة . العرش . شبَّ . شبّب . شبن. الشادن. الشرف. الشفافية. الشهامة. شنب الثغر (رقت أسنانه وابيضت). . شار الرجل (حسن منظره).‏



                            9- حرف الطاء‏

                            مهموس شديد يشبه شكله في السريانية صورة الطير . ويقول عنه العلايلي: إنه (للملكة في الصفة والالتواء والانكسار). تعريف مبهم.‏

                            صوت هذا الحرف ، إنما هو تفخيم للتاء الرقيقة. وعندما ينفخ في الرقيق ويضخم ، لابد ان نحصل منه على ما هو مجوَّف كالطبل. وهكذا كان صوته أشبه ما يكون بضجّة الطبل. له إيحاء لمسي بين المرونة والطراوة، وله من المذاقات طعم الدسم، ومن الشمِّيات رائحة العطور، وله إيحاء بصري من الضخامة بين التكوّر والفلطحة.‏

                            قد استمد هذا الحرف إيحاءاته الذوقية من تماسِّ اللسان المباشر بكامل مساحته العليا مع سقف الحنك عند التلفظ به، على مثال ما يضغط اللسان على مضغة من اللحم الطري النضيج.‏

                            كما استمد إيحاءاته الشمية من تجاوب صدى صوته مع التجويف الأنفي (الخيشوم).إذ لابد ان يؤثر صدى اهتزازته الطرية اللينة مباشرة في خلايا حاسة الشم عند النطق به يدغدغها بنعومة ورقة كما تدغدغها موجات من نسيمات رائحة ذكية. وبذلك تتنبّه الأعصاب في الخلايا الشمية آلياً لا كيماوياً، فتوحي بإحساس شمي خاص (نظرية حديثة في حاسة الشم) . وذلك على العكس من صوت (الخاء) الرخو المخنخن الذي يوحي بالروائح الكريهة كما سيأتي.‏

                            ويكفي ان نتلفظ بكلمات تدل معانيها على مذاقات وشميات بعضها يتخلله حرف الطاء ، وبعضها الآخر خال منه، لنرى مدى استجابة حاستي الذوق والشم لكل من الصورتين الصوتيتين.‏

                            فعندما يقال لنا في الساحل السوري (بطِّيخ) وهو البطيخ الأصفر، يتبادر إلى الذهن مباشرة دونما أية عملية تذكُّر ، شكله المكور، فلونه الأصفر، فطعمه الحلو، ورائحته العطرة. بمعنى أنه ينبه فينا هذه الأحاسيس. بينما لو قيل لنا برتقاله، فإن شكلها المكور ولونها الوردي هما أول ما يخطران بالتتابع على الذهن، وقد يقف بعضنا عند هذا الحد فلا يتجاوزه إلى طعمها ورائحتها إلا إذا وجد فسحة من الوقت فيستعيدهما على مهل عن طريق الذاكرة.‏

                            وقد يعترض بعضهم على هذا الترتيب في تنبيه الحواس بمجرد ذكر هذه الأسماء. ولكن مما لاشك فيه أنّ عبارة (طبخنا لك طعاماً) هي أكثر إثارة للشهية من عبارة (هيأنا لك زاداً) وعبارة (رائحة عطرة)، هي أرضى لحاسة الشم من عبارة (رائحة ذكية).‏

                            وعبارة (طعام طيب)، أرضى لحاسة الذوق من عبارة (أكل سائغ). فألفاظ (طبخنا وطعام، وطيب، وعطر)، تشغل اللسان كله. وتتجاوب أصداء أصواتها في تجويف الأنف فتثير حاستي الذوق والشم أكثر مما تفعل ألفاظ (هيأنا، زاد، ذكي، سائغ) التي تشغل الذهن أكثر مما تشغله الألفاظ السابقة.‏

                            ويلاحظ أن أهم مصادر الروائح الذكية في حياة البدوي يوجد في ألفاظها حرف الطاء منها، (الطِّيب، العطر، الخمط، وهو الريح الطيب) . وذلك على مثال وجود حرف الراء في أهم مصادر الحلاوة والحرارة في حياة البدوي كما سبق ولحظنا ذلك في حرف (الراء)، ليكون حرف (الطاء) بذلك أكثر الحروف إيحاء بالأحاسيس الشمية الطيبة الرائحة.‏

                            وبالرجوع إلى المعجم الوسيط عثرت على مئة وثمانية مصادر تبدأ بحرف الطاء . كان منها تسعة وثلاثون مصدراً تدل معانيها على الضخامة والعلو والاتساع دونما شدة أو قساوة، بما يتوافق مع إيحاءات الضخامة والفلطحة في صوت الطاء ، منها:الطبل، الطّخّاء (السحاب المرتفع). طغى (جاوز الحد المعقول). طفح الإناء.‏

                            طفر (قَفَزَ من فوقه). طفّ (ارتفع). طلع (ظهر من علو). طمح (ارتفع). طمّ (كثر حتى عظم). طما (ارتفع) . طنشر (ثقل جسمه من اكل الدسم ). طنِخ (اشتد سمنة) . المطهَّم (السمين الفاحش السمن). الطّود( الجبل) . طال. الطوق (كل ما أحاط بشيء خلقة أو صنعة).‏

                            وكان منها تسعة عشر مصدراً تدل معانيها على الطراوة والمرونة والمطاوعة والرقة ، بما يتوافق مع موحيات صوته من الطراوة والمطاوعة. منها:‏

                            طرب (خف واهتز من فرح). طرّ (كان ذا رواء) . طري. الطفل (المولود مادام ناعما رخصا). الطلالة (الحسن والبهجة). طاس (صار كالقمر في حسنه). المطاوعة. الطفطفة (الناعم من لحم البطن).‏

                            وكان منها ستة مصادر تدل معانيها على الطعام ومتعلقاته والروائح الطيبة. هي:‏

                            الطبيخ . طجن الشيء (قلاه وأنضجه). . الطرَّم (شهد العسل). الطعام . الطهي.الطِّيب.‏

                            وكان منها سبعة وعشرون مصدرا تدل معانيها على الضعف والتفاهات والعيوب البدنية والنفسية، بما يتوافق مع جوفية صوت الطاء. منها:‏

                            طأطأ برأسه (خفضها). طخَّ (شرس وساء خلقه). طنفس (ساء خلقه بعد حسن).الطَّنفش (الضعيف البصر) . طني (مرض) . طهش العمل (أفسده). طاش (اضطراب وانحرف).‏

                            طفس (قذر واتسخ). الطليس (الأعمى). طنأ (فجر وزنى). الطِّنجير (الجبان اللئيم).طنز به (سخِر منه). الطَّنبل (البليد الأحمق). الطَّغام (أرازل الناس). الطميس (الأعمى لا يبين حرف جفنه). طمل بكذا (تلطخ). الطَّهمل (الجسم القبييح الخلقة) طاح عقله (اضطرب). طاخ (تلطخ بالقبيح أو بالباطل).‏

                            وكان منها ستة مصادر تدل على أصوات ، بما يتوافق مع جوفية صوته . هي:‏

                            طبطب الماء (صوّت في تلاطمه). طحر (زحر وعلا نَفَسُه للضيق). طنَّ . طنطن . طقَّ طحطح (ضحك) . مع ملاحظة مشاركة (النون والقاف) في ثلاثة منها.‏

                            ولم أعثر على أية لفظة تدل على مشاعر إنسانية ، فليس في صوته الأجوف ما يثير فعلا أية مشاعر إنسانية.‏

                            وباستعراض معاني المصادر الواردة في الجداول الأربعة السابقة ، نجد أن العربي قد التزم بالخصائص الصوتية لهذا الحرف بنسبة عالية بلغت (90%)، لم يحظ بمثلها إلا قلة من الحروف القوية، على الرغم من طراوة صوته ومطاوعته.‏

                            ومما يلفت الانتباه، أننا لم نعثر على أي مصدر يدل على الشدة المادية سوى ثلاثة مصادر. هي:‏

                            طحّه (دلكه بعقبه). طحنه (صيره دقيقا)- طرده.على أن مصدري (طحَّ ، وطحن)، وان كان معنياهما ينطويان على شيء من الشدة، فإن عمليتي الطحِّ والطحن تتفقان مع الخصائص الصوتية لحرفي الطاء والحاء من حيث المطاوعة والنعومة.‏

                            ولا أكتم القارئ أن هذا الحرف قد خيب جميع توقعاتي بصدد تأثيره في معاني الألفاظ التي تبدأ به. فلقد كنت أحسب أن صوته بحكم طراوته وفلطحته أنما هو أضعف من أن يفرض شخصيته الجوفاء على الحروف الأخرى. وان الحروف القوية بالتالي سوف تسوقه قسرا عنه إلى أغراضها ومعانيها ، لتذوب بذلك شخصيته الإمّعية، فلا يبقى له منها إلا طابع الجوفية، هذا إذا واتته ظروف من أوزان وحروف.‏

                            ولكن بدراسة الخصائص الصوتية لهذا الحرف على واقع المعاجم ، تبين أن العربي قد استخدمه بكثير من الدقة والحساسية السمعية، قلّ نظيرهما في بقية الحروف.‏

                            وهكذا احتفظ العربي لهذا الحرف الأجوف بكامل حقوقه الشخصية، عدلا وحقا.‏

                            10 - حرف الظاء:‏

                            مجهور رخو، يعرِّفه الدكتور بشير بأنه (من الأصوات الاحتكاكية، مجهور، مفخم مطبق).‏

                            ويقول عنه العلايلي: إنه (للتمكن). تعريف مبهم‏

                            صوت هذا الحرف إنما هو تفخيم لحرف الذال ، يلفظ ملثوغاً مثله، فخفّ بذلك توتره الصوتي وقلَّت غلظته. وهو يوحي بالفخامة والنضارة والأناقة والظهور، وبشيء من الشدة والقساوة.فما حصيلة هذه الخصائص الصوتية من معاني المصادر التي تبدأ به؟.‏

                            بالرجوع إلى المعجم الوسيط عثرت على ثمانية عشر مصدراً تبدأ بالظاء ، وما أقلَّها . كان منها ستة مصادر تدل معانيها على الرقة والأناقة والنضارة بما يتوافق مع ظاهرة اللثغ في صوت هذا الحرف. هي:‏

                            ظأرت المرأة على ولدها (عطفت عليه). الظبي . الظريف. الظعينة (الهودج أو الزوجة).الظل الظليل. ظميت شفتها (كان فيها سمرة وذبول).‏

                            وكان منها سبعة مصادر تدل معانيها على القساوة بشيء من الخشونة بما يتوافق مع صدى صوته المفخم. هي الظُّبة (حدُّ السيف). الظَّرُّ (الحجر الصوان له حد). الظَّرِب (ما نتأ من الحجارة وحدِّد طرفه ). الظِّفر للإنسان، والجوارح والكواسر). الظِّلف (الظفر المشقوق للماشية).الظنب ( أصل الشجرة). الظُّنبوب (حرف ساق القدم).‏

                            أما المصادر الخمسة الباقية ، فكان بين معانيها رابطة من الشدة والظهور ، بما يتوافق مع الخصائص الصوتية لهذا الحرف. هي:‏

                            الظُّلم (وضع الشيء في غير موضعه). ظهر ، ومن مشتقاتها (الظُّهر والظهيرة). الظَّلع (العرج). الظمأ (شدة العطش). الظنّ (الشك بما يقارب اليقين).‏

                            ولكن ماذا عن هذا الحرف في آخر المصادر؟.‏

                            بالرجوع إلى المعجم الوسيط عثرت على ثلاثة وعشرين مصدراً جذراً، وما أقلَّها أيضاً . كان منها ستة عشر مصدرا تدل معانيها على الشدة والامتلاء والظهور ، بما يتوافق مع ظاهرة التوتر والفخامة في صوت الظاء . هي:‏

                            بهظه (شق عليه). دأظ (امتلأ ، سمن). دلظ في سيره (مرَّ مسرعا ). عظّ (اشتد).عكظ عليه الأمر (تعسر وتمنع). غلُظ. غاظه (أغضبه). وكظ (واظب على). جحظت عينه.قاظ اليوم (اشتد حرُّه). فظّ . كنظه الأمر (جهده ، وشق عليه). كظّ السيل بالماء (ضاق من كثرته). كظكظ السِّقاء (تمدد وانتفخ كلما صبَّ فيه الماء). لظّ به (لزِمه ولم يفارقه ). لظلظت الحية برأسها (حركته من شدة غيظها).‏

                            وكان منها ستة مصادر تدل معانيها على الرقة والأناقة، بما يتوافق مع ظاهرة اللثغ في صوت الظاء . هي:‏

                            حظَّ . حفظ. قرَّظَ فلانا (مدحه). لحظ. لفظ. وعظ.‏

                            وكان منها مصدر واحد لعيب في البدن . هو:‏

                            أخظّ الرجل (استرخى بدنه واندال). وذلك لأن الخاء مختصة بالعيوب الجسدية والنفسية والقذارة كما سوف نرى.‏

                            لتبلغ نسبة تأثير خصائص هذا الحرف في معاني المصادر التي تنتهي به، أكثر من (95%).‏

                            ثم ماذا عن المصادر التي يتوسطها هذا الحرف؟.‏

                            بالرجوع إلى المعجم الوسيط عثرت على سبعة وعشرين مصدراً. كان منها ستة تدل معانيها على الامتلاء. بما يتوافق مع ظاهرة التفخيم في صوته. هي:‏

                            بظا لحمه (اكتنز وتراكب. خظا لحمه (اكتنز). كظب (امتلأ سِمنا). كظا لحمه (كثر واكتنز). عظر السقاء (ملأه). كظم السقاء (ملأه وسدَّ فاه)، ومنه كظم غيظه.‏

                            وكان منها عشرة مصادر تدل معانيها على الشدة والقسوة. هي:‏

                            حظر عليه (حجره ومنعه). حظل عليه (ضيَّق وقتَّر). شظف (يبس لقلة الرى). عظّه بالأرض (ألزقه بها). تعظلم الليل (اشتد سواده). عظل بالكلام (عقّده وصعّبه). عظاه (اغتاله، سقاه ما يقتله). فظع بالأمر (استعظمه وهاله). كظر القوس (حزّ طرفيها). لظيت النار (تلهبت).‏

                            وكان منها خمسة مصادر تدل معانيها على الرقة والأناقة ، ماديها ومعنويها. هي:‏

                            الحُظوة. نظر إلى الشيء (أبصره وتأمله بعينه). نظم الأشياء (ألَّفها وضمَّ بعضها إلى بعض). النظافة مظع الوتر (ملَّسه ويبّسه).‏

                            ويلحق بهذه الفئة مصدر واحد هو. وظف القوم (تبعهم).‏

                            وكان منها مصدران للعيوب الجسدية والنفسية . هما:‏

                            بظِرت شفته العليا (نتأ وسطها مع استطالة). بظرم (حمق) . وذلك لتنافر أصوات الحروف فيهما.‏

                            لتبلغ نسبة المعاني التي تأثرت بصوت هذا الحرف هنا (90%).‏

                            وباستقراء معاني المصادر التي يشارك فيها هذا الحرف في الجداول السابقة نلاحظ ان حرف الظاء قد تفرَّد عن سائر الحروف العربية بالميزات التالية:‏

                            1- ندرة الألفاظ الدالة على عيوب جسدية أو نفسية ، إذ اقتصرت على أربعة فقط. ولكن دونما أي قذارة أو فجور في معانيها. هي : (ظلع. أخظَّ. بظر. بظرم).‏

                            وذلك يرجع إلى ما في صوت الظاء الملثوغة من موحيات الفخامة والعذوبة والنضارة والأناقة ،بما يتناقض أصلاً مع معاني الخسَّة والقذارة والتشوهات الجسدية والنفسية والفحش.‏

                            2- التزام معاني جميع هذه المصادر بالطبقة البصرية لهذا الحرف، لم تتجاوزها إلا في مصدر واحد للمشاعر الإنسانية، هو (غاظ) ولا شيء للأصوات. مما يدل على تمتع هذا الحرف بشخصية فذَّة. مع الإشارة إلى أن الغيبوبة النفسية في الغيظ ترجع للغين كما سيأتي.‏

                            3- لم أعثر في المعجم الوسيط على أية لفظة دخيلة أو معربة أو مولدة أو محدثة في مشتقات جميع المصادر التي شارك في تركيبها هذا الحرف سوى لفظة (وظيفة) بمعنى المنصب والخدمة المعينة. وذلك لعدم وجود حرف الظاء في لغات الشعوب المجاورة من غير الساميين.‏

                            ولكن ما علة اقتصاد العربي في استخدام صوت هذا الحرف في مختلف مواقعه من الألفاظ ، بمعرض التعبير عن أحاسيسه ومعانيه ، إلى هذا الحد من القلة (68) مصدرا في المعجم الوسيط؟. فكاد العربي بذلك أن يحرم لغته من مصدر صوتي فريد في عذوبته وترفه وأرستقراطيته مما حدا ببعض القبائل العربية أن تلفظ كل ضاد ظاء، تعشقاً لسماع هذا الصوت المفخم الأنيق: (اللهجة العراقية ، واللهجة الديرية في سورية).‏

                            لعل هذا يرجع إلى استحالة اجتماع صوته مع أصوات بعض الحروف في لفظة واحدة، وإلي تعذّر تلاؤم صوته مع مجموعات كثيرة من الحروف لتأليف ألفاظ تحافظ معانيها على موحيات الفخامة والأناقة والنضارة في صوته.‏

                            وقد يرجع ذلك أيضاً إلى استعاضة العربي عن هذا الحرف بالذال الملثوغة.‏

                            على أن أشد منافسي هذا الحرف على معاني الفخامة والأناقة والنضارة، كان حرف الضاد مخرج صوت وخصائص ، كما سوف نرى.‏

                            وقد يرجع ذلك أيضاً ثالثا إلى أن العربي لم يبدع صوت هذا الحرف إلا في مرحلة لغوية مترفة راقية من مراحل الحياة الرعوية الشعرية المتأخرة، فكان صوته بذلك أقلَّ حروف الدنيا استعمالا على الإطلاق.‏

                            11- حرف الغين:‏

                            مجهور ، رخو. قد اتفق العلايلي والأرسوزي على أنه (لغؤور المعنى والغموض والخفاء). وهذا هو أقلُّ من واقعه الصوتي.‏

                            فظاهرة الغؤور والغموض في حرف الغين، انما هي مستمدّة من طبيعة صوته. فهو لا يوحي بالغموض فحسب، وانما بالامِّحاء والعدم أيضاً.‏

                            إن صورته الصوتية وهو يدغدغ سقف الحلق عند خروجه، لهي أشبه ما تكون بدغدغة محسَّة من حديد تزيل غباراً عالقاً بجلد بعير. وإذا خُفف صوته قليلا، كان أشبه بحفيف ممحاة من نسيج خشن تحكُّ خطوطا طباشيرية مرسومة على لوح أسود، ويتطاير الغبار.‏

                            فهذه هي حكاية حرف الغين: صورة صوتية يقابلها في الطبيعة صورة تمثيلية: اهتزاز واضطراب وبعثرة نفَس في صوت الغين ، ودغدغة محسّةٍ أو ممحاة ، أو راحة كفِّ خشنة، وغبارٌ يتناثر في الهواء . هذه هي الخصائص الإيمائية في صوت الغين، فماذا عن خصائصه الإيحائية؟.‏

                            ماذا يوحي لنا صوت (غ-غ-غ..)؟.‏

                            لا شيء قطعاً إلاَّ غرغرة الموت والامِّحاء. فصوته عندما يخرج من فوَّهة الحلق، إنما يخرج مخربّا ممحوّ الألوان مجلببا بالسواد. وهكذا نسمع صوت هذا الحرف مثلما نرى الليل المظلم البهيم.‏

                            فما رصيد الخصائص الإيمائية والإيحائية في صوت الغين من الحقيقية على واقع المعاجم اللغوية؟.‏

                            بالرجوع إلى المعجم الوسيط عثرت على مئة وخمسين مصدراً تبدأ بحرف الغين. كان منها اثنان وعشرون مصدرا تدل معانيها على الاضطراب والبعثرة والتخليط، بما يماثل الاهتزاز في صوت الغين، وبعثرة النفَس عند خروجه. منها:‏

                            الغُبار (لبعثرته). الغثَر (ما يعلو الثوب كالوبر). غثم الشيء وغثمره (خلطّه).‏

                            الغُثاء (رغوة القدر). أغدق المطر( كثر قطره). غدرم الكلام (اختلط ). غربل الحَبَّ (نقَّاه بالغربال من الشوائب، لظاهرة الاهتزاز في هذا الحدث). غرغر الرجلُ (ردَّد الماء في حلقه). تغسّر الأمر (اختلط والتبس). الغصن (ما تشعَّب من ساق الشجرة ، دقيقه وغليظه). غلت الشيءَ (خلطه). غليان القدر. غيد (تمايل وتثنَّى في لين ونعومة).‏

                            وكان منها ثلاثة مصادر لمشاعر الغضب، في تماثل بين ظاهرة الانفعال النفسيِّ في حالاته وبين ظاهرة الاضطراب في صوت الغين، على شيء من الغيبوبة في الوعي هي: غضب. غاظ. غذفر.‏

                            وكان منها سبعة مصادر لأصوات تحاكي ما في صوت الغين من غرغرة وغمغمة هي:‏

                            غرِد الطائر (رفع صوته بالغناء وطرَّب فيه). غطفت القدر وغقّت (صوَّتت في غليانها). غقفق الصقر (رقَّق صوته). غمغم (صوّت من فزع). الغوغاء (الصوت والجلبة). الغُنَّة (صوت يخرج من الخيشوم).‏

                            وهكذا بلغت نسبة تأثر معاني المصادر التي تبدأ بالغين بخصائصه التمثيلية(21%). كما كان منها خمسة عشر مصدرا تدل معانيها على الظلام والسواد بما يتوافق مع موحيات صوت الغين. هي:‏

                            غبس الليل (أظلم). غبش الليل (خالط بقية ظلمته بياض الفجر). أغدق الليل (أرخى سدوله). الغِربيب (الشديد السواد، أسود غِربيب). غسق الليل وغسا وغشي، وغسم وغطش ( أظلم). غضف الليل (أظلم واسودَّ). غضا الليل (عمّ ظلامه كلَّ شيء). غطا الليل ( أظلم وسترت ظلمتُه كلَّ شيء). الغلَس (ظُلمة آخر الليل إذا اختلط بضوء الصباح). الغيهب (الظُّلمة). تغيَّق بصره (غشيته ظُلمة فأظلم).‏

                            وكان منها تسعة وثلاثون مصدرا تدل معانيها على الخفاء والستر والغياب. منها:‏

                            غبَّت الحمىّ فلانا (أخذته يوماً وتركته آخر). غتَّه في الماء وغطّه وغطّسه (غمسه فيه).‏

                            غربت الشمس (اختفت في مغربها). غرا السِّمن قلبه غَروا (لصق به وغطاه). غثر الشيء (ستره). تغلغل في الشيء (دخل فيه). الغِلاف. الغمد. أغلق الباب. غَلَم الإنسانَ (غطّاه ليعرق). غمت الشيء وغمّه (غطاه). غمره (علاه وستره). اغمض عينيه . غاص. غاط في الشيء غوطا وغيطا (دخل فيه وغاب). غمى البيت غموا وغميا (سقفه). غار الماء. غاب. الغيم. غانت السماء (غامت).‏

                            وكان منها اثنان وعشرون مصدراً تدل معانيها على غيبوبة وجدانية أو نفسية أو عقلية . منها:‏

                            غبغب (خان في بيعه وشرائه). غبنه في البيع (غلبه ونقصه). غبيَ الشيء عنه (خفي عليه فلم يعرفه). غدر فلاناً وبه (نقض عهده وترك الوفاء به) . غرّ الرجل (جهِل الأمور وغفِل عنها). الغرام (التعلق بالشيء تعلقاً لا يستطيع التخلص منه). غشم فلانا (ظلمه أشد الظلم). غشمر فلان (ركب رأسه في الحق والباطل لايبالي ما صنع). غطرس ( أعجِب بنفسه). المغفَّل (من لا فطنة له). غفا غفوا (نام قليلا). غفي غفا (نِعس). غلط (اخطأ وجه الصواب). غنجت المرأة (تدللت على زوجها بملاحة كأنها تخالف وليس بها خلاف). الغَوْل (ما ينشأ عن الخمر من صُداع وسُكر). غوى ( أمعن في الضلال). غطرف (عبث واختال وتكبر)‏

                            وهكذا بلغت نسبة المصادر التي تأثرت معانيها بخصائص الغين الايحائية (51%). لترتفع هذه النسسبة مع خصائصه الايمائية إلى (72%)، مما يؤهله للانتماء إلى زمرة الحروف القوية الشخصية، ما دامت المصادر التي تدل على أصوات ومشاعر الغضب، قد تأثرت بالخصائص الإيمائية والإيحائية لحرف الغين ، كما مرَّ معنا.‏

                            ولكن ماذا عن هذا الحرف في نهاية المصادر؟‏

                            بالرجوع إلى المعجم الوسيط عثرت على أربعة وستين مصدراً جذراً تنتهي بالغين. كان منها خمسة عشر مصدراً تدل معانيها على الاهتزاز والبعثرة والتخليط ، بما يتوافق مع خصائص الغين الإيمائية في الاهتزاز والبعثرة. منها، مع بيان الرابطة بين معاني بعضها وبين خصائص الغين الإيمائية.‏

                            بثغ الجسد (ظهر فيه لون الدم، للبعثرة). بزغت الشمس (بدا طلوعها، لبعثرة اشعتها). بغبغ الكلام (خلّط). بغَّ الدم، وتبوغ ، وباغ بيغا ( هاج وثار، للاضطراب). ثمغ الألوان (خلطها). ريّغ الطعام (دسّمه ، لظاهرة تخليط الطعام بالدسم). دغدغ الصبيَّ (حكّه في موضع حساس يحدث انفعالا ، لظاهرة الذبذبة في الحكِّ والارتعاش في موضع الحدث). نشغ الشيء (انتشر). نضِّغ الشيء (لوّنه بسواد وحمرة وبياض مخلوطة غير متبينة ). الوزغ ( الارتعاش والرعدة).‏

                            وكان منها مصدران اثنان للخفاء . هما:‏

                            دمغ فلانا (غلبه وعلاه، والحقُّ الباطلَ ، محاه)، زغزغ الشيء (خبّأه وأخفاه).‏

                            وكان منها عشرة مصادر لغيبوبة نفسية أو وجدانية أو عقلية . هي:‏

                            راغ (ذهب يمنة ويسرة في سرعة وخديعة). زاغ زوغاً وزيغا (مال عن القصد أو الحق) تليَّغ (تحمَّق). مذغ (كذب وادَّعى). ملغ في كلامه (تحمَّق). نزغ فلانا (طعنه برمح، أو اغتابه وذكره بالقبيح). الهِبيَّغ (المرأة الحمقاء والفاجرة لا تردُّ يد لامس).‏

                            ولا شيءَ للظلام ولا للأصوات والمشاعر الإنسانية.‏

                            لتبلغ نسبة تأثر معاني هذه المصادر بخصائص الغين الإيمائية والإيحائية (42%) . فقط. ومما يلفت الانتباه ، في المصادر التي تنتهي بالغين عدم وجود أيٍّ منها يدل معناه على ظلام الليل والسواد ، واقتصار معاني الخفاء المادي على مصدرين اثنين فقط. بينما كان في المصادر التي تبدأ بالغين خمسة وخمسون لمعاني الظلام والسواد والخفاء المادي.‏

                            فما تعليل هذه الظاهرة؟.‏

                            إذا كان العربي يشدُّ بصوته أصلاً على أصوات الحروف التي تقع في مقدمة الألفاظ، ويخفت بها في نهايتها ، كما مرَّ معنا، فانه لابد أن يكون ثمَّة رابطة أصيلة بين الظلام والسواد، وبين الشدِّ على صوت الغين.‏

                            وهذه الرابطة ، ما أحسبها تخرج عن واقعة التماثل بين ظاهرة التخريب في صوت الغين، وبين واقعة حك الخطوط والألوان بشدَّة من على الجدران أو الصخور أو الألواح، أووجه الأرض وما إليها. حتى إذا خُفِت بصوت الغين قليلا في نهاية اللفظة، كان أكثر تمثيلاً لوقائع الاضطراب والبعثرة المارة الذكر، من واقعة حك الخطوط والألوان.‏

                            فهل للقارئ تعليل آخر؟.‏

                            وقبل أن أنتهي من حديثي عن حرف الغين ، أرى من المفيد أن أقوم بتحليل معاني بعض المصادر التي تبدأ بالغين أو تنتهي به، للكشف عن العلاقة الفطرية بين معانيها وبين الخصائص الصوتية لهذا الحرف.‏

                            وإنَّها لفرصة طيبة مع حرف الغين لفهم طبيعة الذهن العربي بمعرض انتقاله من المعاني الحسية إلى المعاني المجردة، للكشف عن المضامين الاجتماعية والفنية والفلسفية في اللفظة العربية بالرجوع إلى خصائص حروفها، ولتصحيح شروح معانيها في المعاجم اللغوية عند الاقتضاء.‏

                            في الأمثلة:‏

                            1- غشم فلانا: (ظلمه أشد الظلم).‏

                            جاءءت من غشم الحاطب (احتطب ليلا فقطع كلما يقدر عليه بلا نظر ولا فكر).‏

                            واذن فالغشم (بفتح الغين وتسكين الشين)، ليسس مجرد اعتداء على حقٍّ معين من الحقوق، وانما هو اعتداء على ما يقدر الغاشم عليه من حقوق مادية ومعنوية لغيبوبة في الوجدان.ويقال حرب غشوم وحاكم غشوم. ولقد جعل العربي الغين (للظلام والسواد والخفاء) في مقدمة غشم مضاهاة لبداية حدث الاحتطاب (ليلا). ثم أتبعه بالشين (للتفشي والانتشار)، مضاهاة لواقعة الاحتطاب وعشوائياً من هنا وهاهنا. ثم جعل الميم (للانجماع والانضمام) في نهاية اللفظة، مضاهاة لنهاية الحدث بجمع الأحطاب ووضعها في حزم. وذلك (سوقا) للحروف على سمت المعنى المراد والغرض المقصود)، كما قال ابن جني.‏

                            2- غبنه في البيع.‏

                            جاءت من الغبن (بفتح الغين والباء) ، ومعناه ( الموضع الذي يُخفى فيه الشيء). وإذن فالغبن (بفتح الغين وتسكين الباء). في البيع والشراء ، لايحصل أصلا إلا لِخفاء أمر يتعلق بالمبيع ، إما لجهل في سعره أو في أوصافه. والغَبْن قانونا، لايكون موجبا للابطال أو التعويض إلا إذا تجاوز خمس قيمة المبيع مع فاقد الأهلية ، لعلة الجهل (المادة 393 من القانون المدني السوري )، أو للغلط (المادة 121) أو للغش والتدليس.وهذه الأسباب الثلاثة تبدأ بحرف الغين، لعلة الجهل والخفاء، قد جعلت الغين في المقدمة مضاهاة لجهل الشاري ابتداء ثم تلتها الباء (للحفر) مضاهاة لموضع الخفاء في المبيع. ثم جعلت النون في نهاية اللفظة (للاستكانة، كما سوف نرى) مضاهاة لواقعة القبول بالصفقة الخاسرة.‏

                            3- في لفظة الغرام.‏

                            جعل الغين في المقدمة ، مضاهاة لبداية هذه الحالة من غيبوبة نفسية. فكانت الغين للتعبير عن وجهة نظر العربي في إدانة هذه الحالة وصاحبها. ثم أتبعها بالراء (للتحرك والاضطراب) . مضاهاة لاضطراب المشاعر. ثم جعل الميم في نهايتها (للانجماع والانضمام) مضاهاة لنهاية هذه الحالة من تعلق / شامل مكتوم لاخلاص للنفس منه.‏

                            4- في لفظة غطرس.‏

                            جاءت الغين في المقدمة للغيبوبة النفسية التي تعتري المعجب بنفسه.وادانة لصاحب هذه الحالة.‏

                            5- وفي لفظة غنِجت المرأة.‏

                            لبيان أن المرأة تخفي في تدللها على زوجها أمرا غير الذي أظهرته .‏

                            6- ومما يلفت الانتباه أن لفظة (الدماغ)، بمعنى (حشو الرأس من أعصاب ونحوها) ، قد جاءت من مصدر (دمغ)، بمعنى الغلبة والمحو، مما لا رابطة حسية أو معنوية تجمع بين المعنيين. وأرى ان العربي قد عمد إلى تصوير الدماغ بأصوات الحروف. فالدال (للقساوة) ، تضاهي قساوة عظم الجمجمة، والميم تضاهي انجماع الأعصاب في غلافه داخلها، والغين تضاهي واقعة خفاء هذه المجموعة العصبية عن النظر داخل الجمجمة‏

                            7- وفي لفظة راغ، الراء (للتحرك والتكرار) تضاهي ما في هذا الحدث من ذهاب يمنة ويسرة بسرعة ، والغين تضاهي مافي هذا التحرك من خدعة خفية.‏

                            استطراد لابد منه،‏

                            ونظراً لكثرة المصادر التي يشارك حرف (الغين) في تركيبها مما يدل على الغيبوبة (الوجدانية والنفسية والعقلية) فقد صنفته في (الاطلالة ص73) في زمرة الأحرف (اللاشعورية) مع حرفي (الخاء والهاء) للمعاني الرديئة.‏

                            12- حرف الفاء‏

                            صوت هذا الحرف مهموس رخو. يقول العلايلي عنه: إنه، (يدل على لازم المعنى، أو المعنى الكنائي). تعريف مبهم. ويقول عنه ابن جني، إنه : لرقة صوته، كثيراً ما يضفي معنى الضعف والوهن على الالفاظ التي يدخل في تراكيبها ، ولاسيما المؤلفة من حروف : (د. ت. ط. ر. ل. ن).‏

                            ولكن هذا الحرف بحفيف صوته الرقيق وبعثرة النفَس لدى خروجه من بين الأسنان العليا وطرف الشفة السفلى، يوحي بملمس مخملي دافئ ، كما يوحي بالبعثرة والتشتت. لتكون الخصائص الصوتية لهذا الحرف موزعة بين اللمسي والبصري.‏

                            ولقد كنت أتوقع فعلاً أن يضفي صوت هذا الحرف معاني الضعف والوهن والتشتت على الألفاظ التي يدخل في تراكيبها ، أخذا بالقاعدة الصوتية التي اعتمدتها في هذه الدراسة (حذوا لمسموع الأصوات على محسوس الأحداث ). كما قال ابن جني.‏

                            ولكن باستقراء معاني المصادر التي تبدأ بهذا الحرف في المعجم الوسيط لفت انتباهي أن قرابة ثلاثين في المئة منها تدل معانيها على الشق والقطع والشدخ. أحداث يتطلب تنفيذها شيئاً من القوة والشدة والفعالية ، مما يتناقض أصلا مع موحيات الرقة والوهن والضعف في صوت حرف الفاء.‏

                            فلم ذلك؟.‏

                            بتمحيص معاني هذه المصادر المذكورة آنفا وجدت أن ثمة رابطة أخرى تجمع بينها غير رابطة القوة والشدة. فهذه الأحداث ، وإن كان تحقيقها يتطلب في الغالب بعض القوة والشدَّة، فإن ظاهرة (الانفراج) تؤلف بينها جميعا.‏

                            فما هو سرُّ تفشي هذه الظاهرة في معاني معظم المصادر التي تبدأ بحرف الفاء، سواء مادَلَّ منها على الشدة أم الضعف؟.‏

                            لئن كان من نهج العربي بمعرض التعبير عن معانيه أن يطابق بين الصورة البصرية (المرئية) للحدث أو الشيء ، وبين الصورة الصوتية المعبرة عنه إيحاء، وذلك (حذوا لمسموع الأصوات على محسوس الأحداث) فإنه قد كان لهذه القاعدة شذوذ خاص مع حرف الفاء. فالمطابقة مع هذا الحرف قد تمت هنا بين الصورة البصرية للحدث في (الشق والفصل والقطع) ، وبين الصورة البصرية لكيفية خروج صوت الفاء من بين الأسنان العليا والشفة السفلى، أي وفقا لطريقة النطق به، إيماء وتمثيلاً.‏

                            وتوضيحاً لذلك أبين مايلي:‏

                            عندما يخرج النفَس مع صوت الفاء على المدرج الصوتي يبدو لنا وكأن الأسنان الأمامية العليا هي التي تقوم بالضرب خفيفا على طرف الشفة السفلى، حبْساً للنفَس ، ثم يتمُّ الانفراج بينهما بشيء من التأنّي، فيخرج الصوت مع النفس المبعثر أثناء الانفراج ضعيفاً واهياً.‏

                            وهكذا فالصوررة البصرية لعملية خروج صوت الفاء تمثل ضربة الفأس (الأسنان العليا) ، على الأرض، (الشفة السفلى). كما أن بعثرة النفَس ، تمثل بعثرة التراب المحفور.‏

                            وفي الحقيقة إن انفراج الأسنان العليا عن الشفة السفلى (كصورة بصرية مرئية) يمثَّل الأحداث الطبيعية التي يتم فيها الشقُّ والفصل والتفريق والتبعيد والتوسُّع.....‏

                            كما أن بعثرة النفَس عند خروج صوت الفاء يحاكي الأحداث التي تنطوي على البعثرة والتشتت دونما عنف أو شدَّة.وبالرجوع إلى المعجم الوسيط عثرت على مئتين وواحد وعشرين مصدرا تبدأ بحرف الفاء . كان منها ثمانية وخمسون مصدراً تدل معانيها على الشق والفصل والحفر بما يحاكي ضرب الأسنان العليا بشيء من الشدة على الشفة السفلى قبل خروج صوت الفاء . منها:‏

                            فأس الخشبة (شقها). فأى رأسه (فلقه). فتق الشيء . (شقّه). فثغ رأسه (شدخه).فدغ الشيء (كسره). أفرخت البيضة( انفلقت عن الفرخ). فرص الثوب (شقه طولا). فرى الشيء (شقه). فزر الثوب (شقه) . فسأ الثوب (مدّه حتى تفزر). فسق كل ذي قشر (خرج عن قشره). فشّ القربة (اخرج مافيها من ماء أو هواء). فحث في الأرض (بحث).فشق الشيء . (كسره) . فرّقَ . فصد العِرق (شقه ) فصم الشيء (شقه). فصل بين الشيئين (فرّقَ) . فضحه (كشف معايبه). فضّ اللؤلؤة (خرقها). فطم العود (قطعه). فقأ العين (شقَّها.) فقس الطائر بيضَه (كسرها ليخرج الفرخ). فقش البيضة (فضخها). فقع الشيء (شقه). فقص (فقس). فكَّ الشيء (فصل اجزاءه). فلز الشيء وفلعه (شقه) فَلَعَ رأسه (شدخه). فلقت النخلة (تشقق طلعها) . افتلم أنفه (جدعه).‏

                            وكان منها ثمانية وأربعون مصدراً تدل معانيها على الانفراج والتباعد والاتساع، بما يحاكي انفراج الفم عند خروج صوت الفاء. منها:‏

                            أفأم الدلو (وسّعه وزاد فيه). الفتخة (حلقة من ذهب أو فضة). فجّ (باعد بين رجليه).الافجل (المتباعد بين الساقين). الفجوة (المتسع بين شقين). فحج (تدانت صدور قدميه وتباعدت عقباه). الفدفد (الأرض الواسعة لاشيء فيها). الفردسة (السَّعة). الفاختة (ضرب من الحمام يوسع في مشيه ويباعد بين جناحيه وابطيه). الفرسخ (الفرجة). فرشخ (باعد بين رجليه). فرض الشيء فروضاً (اتسع). فرطع الشيء وفلطحه (بسطه ووسَّعه ). الفراغ . الفُسحة. الفرطاس (العريض). تفضَّج الشيء (توسَّع). .فضفض الشيء (اتّسع). فغر فمه (فتحه). فغم النّوْر (تفتح). فغا الشجر (تفتح نوره). فقح النبات (تفتح وازدهر). فقّ الشيءُ (انفرج). فلج الرجل (تباعد بين ساقيه أو يديه أو اسنانه خلقة). فلك ثدي الفتاة (استدار) . فنجل (مشى متباعداً ما بين ساقيه). الفائجة (متسع بين مرتفعين). الفوه ، الفم ، الفَيف (الصحراء الواسعة).‏

                            وكان منها أربعة عشر مصدراً تدل معانيها على التّشتت والبعثرة والانتشار برقَّة ولطافة ، بما يحاكي بعثرة النفّس لحظة خروج صوت الفاء ضعيفاً واهياً منها:‏

                            فرش النباتُ (انبسط ). فشغ الشيءُ (انتشر). فشل لحيته (نفشها). فاح فوحا وفيحا (انتشرت رائحته) . فاحت ريح المسك (انتشرت حتى تأخذ بالنفس). فاع الطيب (انتشرت رائحته) . فاج فيجا (انتشر) . تفصفصوا عنه (تفرقوا). فث وعاء التمر (نثر تمره)، لتدخل (الثاء) ايضاً.‏

                            وكان منها خمسة مصادر تدل معانيهاا على أصوات تترافق أصلاً مع ظاهرتي الانفلاق والانفراج هي.‏

                            فقفق الماء (صوَّت). فحّت الأفعى وفخَّت (صوتت). فحفح ( أخذته بُحَّة في صوته). فرقع (سُمع له دوي).‏

                            وكان منها مصدران اثنان للمشاعر الانسانية . هما : (فرح ، فزع). لتدخُّل حرفي الحاء والعين الشعوريين. أما ما يدل على الضعف والرقة والوهن بما يحاكي صدى صوت الفاء في النفس ، فكان لها واحد وعشرون مصدراً ، منها:‏

                            الفُتات ( ما تكسَّر من الشيء وتساقط). فتر (لان بعد شدَّة). فدر (فتر). فره (حسن وجمل). فشفش (ضعف رأيه). فِكه (كان طيِّب النفْس مزَّاحا). فلِس منه (خلا منه وتجرد). فنش في الأمر (استرخى فيه). فنِد (ضعف رأيه من الهرم). فهفه الرجل (عيَّ وكلَّ لسانُه). فني الشيء (باد) . فهَّ (زلّ من عِيّ أو غيره). فثئ الرجل (انكسر غضبه).‏

                            وهكذا فإن هذا الحرف على ضعف صوته ، قد طبع بخصائصه الإيمائية قرابة (60%) من المصادر التي تبدأ به. ليقتصر على طبع (10%) فقط بموحياته الصوتية من الضعف والرقة والوهن (حذوا لمسموع الأصوات على محسوس الأحداث)، بما مجموعه (70%).‏

                            فما السر في تفوق الخصائص الايمائية في صوت هذا الحرف على خصائصه الإيحائية؟.‏

                            لقد سبق أن عرضت في الدراسة الثانية (ص 131) أنَّ حرف الفاء كان أحد الحروف التي أبدعتها المرأة في المرحلة الزراعية. فالمرأة في تلك المرحلة كسيدة للأسرة والمجتمع بحكم استقرارها في بيئة محدودة (كوخ. حظيرة. حقل. حديقة ..) ، كانت أقلَّ حاجة من الرجل في مرحلتي الغاب والرعي إلى ابتكار الأصوات للتعبير عن حاجاتها المستجدة. فلقد كان من الأسهل عليها والأوضح والأدقَّ أيضاً، أن تستخدم إشارات اليدين وقَسَمات الوجه وحركات الفم واللسان، للتعبير إيماء بالتمثيل والمحاكاة عن حاجاتها ومعانيها، سواء أترافقت تلك الإشارات والحركات بأصوات معينة أم كانت خرساء صامتة بلا أصوات.‏

                            وبذلك يكون من المرجَّح أن المرأة هي التي اهتدت إلى صوت (الفاء) بمعرض استخدامها حركة الفم بضرب الأسنان العليا على الشفة السفلى للتعبير عن حادثة الحفر في الأرض كأهمِّ عمل في حياتها الزراعية. فكانت حركة الفم بذلك أسبق في الزمن من صوت حرف (الفاء) . لتسقط الإشارات المرافقة له مع تطور اللغة في المرحلة الرعوية اللاحقة ، فلم يبق منها إلاَّ حركة ضرب الأسنان العليا على الشفة السفلى بالقدر اللازم لخروج صوت (الفاء) ضعيفاً واهياً ، وكأنه لا علاقة بينه وبين ضربة الفأس القوية على أرض طرية. وذلك على مثال ما اهتدت المرأة بالذات إلى كل من حروف (اللام والثاء والذال) بمعرض استخدامها طرف اللسان للتعبير عن عمليات المضغ (باللام)، وعن جنسي الأنوثة والذكورة (بالثاء والذال) قبل أن تهتدي إلى أصواتها كما مر معنا.‏

                            فالمرأة بحكم أمومتها الفطرية التي استتبعت أصالتها الحضارية ، كانت على مر الزمن هي الأرهف حسا ومشاعر ، والأولع بفنون الرقص والتمثيل والغزل، والأبرع في دنيا الصناعات اليدوية والمنزلية ومبتكراتها، مما يؤهلها أكثر من الرجل لإبداع الحركات والإشارات الإيمائية في المرحلة الزراعية بمعرض التعبير عن حاجاتها ، فتحول بعضها إلى أصوات حروف. ليتفنّن الرجل الراعي بعدها في استخدام هذه المادة الخام من الحروف بذات المنحى من المعاني بصورة عامة. لا يؤثر في صحة هذا الرأي أن تشذ عن ذلك معاني بعض الألفاظ التي تبدأ بهذه الحروف مما أبدعه الرجل في المرحلة الرعوية : حذوا لمسموع الأصوات على محسوس الأحداث ، وليس ايماء وتمثيلاً.‏

                            ولو عاد القارئ إلى معاني الألفاظ التي تبدأ أو تنتهي بأي حرف من الحروف ، لوجد فيها من الأدلة المحسوسة ما يكشف عن المرحلة التي أبدع فيها العربيُّ صوته الفجر، وإن أجرى عليه بعض التعديل في المراحل الحياتية اللاحقة.‏

                            ولكن ما مدى تأثير الخصائص الإيمائية لحرف الفاء في معاني المصادر التي تنتهي به؟.‏

                            بالرجوع إلى المعجم الوسيط عثرت على مئتين وأربعين مصدرا تنتهي بحرف الفاء . كان منها واحد وعشرون مصدرا تدل معانيها على الرقة والضعف والوهن، بما يتوافق مع موحياته الصوتية في الضعف والوهن. منها:‏

                            ألِفه (أنس به). خفّ الشيء.رخُفَ العجين (استرخى من كثرة مائه).. رهُف (رقّ ولطُف). سخُف الشيء (رقّ وضعُف). شفَّ الثوب. ضعُف. عجُف (هزِل). غطف العيش (اتسع ولان). لطُف. هِيف الغلامِ (دقَّ خَصره وضمُر بطنه). وجَفَ القلب(اضطرب وخفق). وطِف (كثر شعر حاجبيه وأهدابه مع استرخاء وطول). وغف بصره (ضعف).‏

                            وكان منها ثمانية وعشرون مصدراً تدل معانيها على القطع والحفر والفصل والقلع والخرق بما يحاكي طريقة النطق به. على أن معظم هذه المصادر يشارك فيها حرف أو أكثر من الحروف القوية مما يصح إسناد الحدث إليها أيضاً. منها:‏

                            جعفه (قلعه). خزف الثوب (خرقه وشقه). دفّ الشيء (نسفه واستأصله). شدفه (قطعه). غرف الشيء (قطعه). قدف الماء (غرفه). كاف الشيء كيفا (قطعه). نسف الشيء (اقتلعه من أصله). نقف الفرخ البيضة (ثقبها ليخرج منها). جرف السيل الوادي (أكل من جوانبه).‏

                            وكان منها مصدران للتوسع بما يحاكي انفراج الفم بعد التلفظ بحرف الفاء . وهما:‏

                            الجوف . الكهف.‏

                            وهكذا فإن نسبة المصادر التي تأثرت معانيها بمختلف الخصائص الايحائية والايمائية لحرف الفاء قد هبطت هنا إلى (21%) ، بينما كانت في المصادر التي تبدأ به (70%) . وذلك يعود للاسباب التالية:‏

                            أ- عندما يقع حرف الفاء في نهاية الكلمة يلفظ ساكنا بصورة عامة. فتستقر الأسنان العليا على الشفة السفلى وتغيب مع هذا الاستقرار صور الحفر والقطع والتوسع من طريقة النطق به.‏

                            ب- وعلى فرض تحريك الفاء قليلا فإن الذهن يكون أكثر انتباهاً إلى الخصائص الإيمائية والإيحائية للحروف التي تقع في المقدمة.‏

                            جـ_ بوقوع حرف الفاء في آخر اللفظة يصبح صوته في أوهى حالاته ضعفاً وخفوتا، مما يسهل معه على الحروف القوية أن تطغى بخصائصها على خصائص (الفاء). فلقد كان ثمة اثنان وأربعون مصدراً تنتهي بحرف الفاء تدل معانيها على الشدة والغلظة والفعالية والقوة، مما يتنافى مع خصائص الضعف والوهن في صوتها، وذلك بفعل الحروف القوية المشاركة ، وقد وضعت تحتها خطاً. منها:‏

                            جأفه (صرعه). جذف به (رمى). ذف الطائر (أـسرع). زرف في مشيه (أسرع ووثب). عسف فلانا (أخذه بالعنف). قذف الحجر. قصف الرعد.‏

                            لتبلغ نسبة المصادر التي تتجافى معانيها مع خصائص صوت الفاء في الضعف والوهن (17%).‏

                            وعلى الرغم من إيمائية هذا الحرف فقد التزم بطبقته الهرمية كحرف بصرى عندما يقع في بداية المصادر، فلم يتجاوزها إلا في خمسة للأصوات واثنين للمشاعر الإنسانية. مما يقطع بأن هذا الحرف ينتمي فعلا إلى الطبقة البصرية من الهرم الحسي، كما يتمتع بشخصية قوية نسبياً‏
                            إذا الشعب يوما أراد الحياة
                            فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                            و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                            و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                            تعليق


                            • #15
                              رد: خصا ئص الحروف العربية ومعانيها

                              الفصل الثالث الحاسة البصرية وحروفها

                              الحاسة البصرية:‏

                              آلتها العين. وهي مكونة من عدسة بلورية ونسيج عصبي حساس، هو الشبكة ولئن كانت ظاهرة الإبصار تنطبق عليها قوانين الانعكاس الفيزيائية ، فإنه ثبت مؤخراً أن عملية الإبصار هي عملية كيميائية بحتة تحصل في طبقات العين.‏

                              تدرك العين أشكال الأشياء وخصائصها الهندسية من عمق وبروز وأبعاد . ولا تتأثر العين البشرية إلا بالموجات الضوئية التي يتراوح طولها بين 390-670 ميلليميكرون، وعدد ذبذباتها بين (395و756) تريليون ذبذبة في الثانية.‏

                              الحروف البصرية :‏

                              الألف . الواو. الياء. الباء . الجيم . السين . الشين. الطاء. الظاء. الغين الفاء . وما أكثرها.‏

                              يلاحظ أن حروف اللين الثلاثة (الألف . الواو . الياء) ، هي جميعاً من زمرة الحروف البصرية والعربي لم يعط هذه الحروف الغابية إلا القليل من الأهمية، من حيث عدم عنايته بالتلفظ بها، لتكون بذلك أقلَّ وضوحاً في الجرْس وظهوراً في السمع من أصوات الحروف الساكنة .‏

                              ولقد استتبع ذلك إهمال رسمها في الأشكال القديمة للكتابة العربية ، كشأنها في بقية اللغات السامية (الحرف العربي والشخصية العربية ص48). كما عمل العربي على إماتة هذه الحروف في ألفاظه . وذلك بتحويلها إلى حركات مدّية تارة، وبالاستعاضة عنها بحروف صامتة تارات أخر، ولاسيما بالهمزة والحروف الحلقية، على ما أكده العلايلي في مقدمته.‏

                              1- الألف المهموزة:‏

                              للألف صورتان صوتيتان : الألف المهموزة ، والألف اللينة.‏

                              فالألف إذا وقعت في أول اللفظة كانت مهموزة ، وتسمى الهمزة.‏

                              أ- الهمزة / يقول عنها العلايلي:" إنها للدلالة على الجوفية، وعلى ما هو وعاء للمعنى، وعلى الصفة تصير طبعاً ". تعريف مبهم.‏

                              هي حرف شديد يحصل صوتها بانطباق فتحة المزمار وانفراجه الفجائي قبل ان يصل النفَس إلى الحنجرة. فلذلك لا يهتز معه الوتران الصوتيان، ولا تعتبر بالتالي حرفا مجهوراً ولا مهموساً. والهمزة في رأي الدكتور ابراهيم أنيس في كتابه الأصوات اللغوية، ليست من الأحرف الحلقية خلافاً لما أجمع عليه علماء اللغة العربية. وهو رأي جدير بالاعتبار.‏

                              وصوت الهمزة في أول اللفظة يضاهي نتوءاً في الطبيعة.. وهو يأخذ في هذا الموقع صورة البروز كمن يقف فوق مكان مرتفع ، فيلفت الانتباه كهاء التنبيه. ولكن بفرق انَّ الهاء شعورية والهمزة بصرية . والصورة البصرية تتصف بالحضور والوضوح والعيانية.‏

                              لذلك بدأت الضمائر المنفصلة للمتكلم والمخاطب بالهمزة : (أنا. أنت. أنتم. أنتن..) ولا أشدَّ حضوراً وعيانا . ولتبدأ الضمائر المنفصلة للغائب بالهاء: (:هو. هما. هم) لعدم الحضور.‏

                              كما بدأت الألوان الطبيعية بالهمزة: أبيض. أسود. أحمر. أخضر.... لا أوضح ألوانا ولا أظهر. فلا يقال أسود قليلا، أو أبيض كثيرا لعدم اللزوم، إذ إن الذي يتحمل القلة والكثرة هو اللون ذاته ، فيقال قليل السواد أو البياض وكثيرهما.‏

                              كما جُعلت الهمزة من حروف التعدية ، إذ إنها تمنح الفعل اللازم (القاصر أصلا) مرتقى يسهل معه التعدي على الأسماء. فمن كَرُمَ الرجل أكرمه ، ومن عُلِم وصَلُح أعلمه وأصلحه.‏

                              لابل قد تحيل الهمزة المعنى إلى نقيضه أحياناً ، كما في:‏

                              مرس حبلُ البكرة (خرج عن البكرة) . وأمرس حبل البكرة (أعاده إلى البكرة) وكما في شعب الشيء (تفرق) وأشعب الشيء ( أصلح صدعه) وذلك كثيرٌ في اللغة العربية.‏

                              أما الهمزة في وسط الكلمة أو في آخرها، فلا تأثير لها يذكر في معانيها وإن ظلَّت توحي للسامع بالبروز والنتوء كما في (سأل. جأر. يدأب. يسأم. ذئب. بؤبؤ).‏

                              وبالرجوع إلى المعجم الوسيط عثرت على مئة وثمانية وسبعين مصدراً تبدأ بالألف المهموزة، لم أجد بين معانيها وبين الإيحاءات الصوتية للهمزة رابطة حسية صريحة. فلقد كانت هذه المعاني تتأثر في الغالب بصوت أحد الحرفين الباقيين ولاسيما الأخير منهما . فالفعالية مثلاً في معنى أرّ النار (أوقدها) ، تعود للراء وفي أحّ (سعل وتنحنح) للحاء ، وفي أحن (حقد)) ، للنون والحاء ، وفي أرن (نشط وفرح) للنون والراء. وفي أطم الهودج (ستره) للميم. وفي أَتَم بالمكان وأَتَن به (أقام وثبت) للميم والنون. وفي أبَشَ الشيء جمعه) للشين. والهمزة في هذه المصادر للظهور.‏

                              ولقد توقعت أن تكون معظم الأفعال التي تبدأ بالهمزة متعدية ، بدعوى أن الهمزة تمنح الفاعل مرتقى يسهل معه الاعتداء على غيره على مثال ما لحظنا ذلك في همزة التعدية.‏

                              ولكن الواقع خيَّب توقعاتي . فمن مئة وخمسة وخمسين فعلا، كان منها تسعة وثمانون فعلا لازماً، وستة وستون فعلاً متعدياً فقط. وكان منها أثنا عشر فعلا يقبل اللزوم والتعدية. كما لم تلتزم الهمزة بطبقتها البصرية ، فكان ثمة ستة مصادر للأصوات وعشرون للمشاعر. وسأعود إلى هذه الظاهرة في دراسة الأحرف الشعورية.‏

                              وهذا يدل على أن العربي لم يول إيحاءات الشدة والبروز في صوت الهمزة أي اعتبار بمعرض التأثير في الأفعال، لا من حيث معانيها كما أسلفت ، ولا من حيث اللزوم والتعدية أو من حيث الالتزام بالطبقة الحسية.‏

                              2- الألف اللينة‏

                              لينة جوفية معناها في السامية القديمة (الثور، وشكلها يشبه صورة رأسه. الأصوات اللغوية للدكتور أنيس ص 94). أما رسمها في السريانية فيشبه صورة الإنسان (المجلد الأول للأرسوزي ص 371).‏

                              وقيل في الألف المهموزة إنها الحرف الأول من اسم النبي العربي (إدريس)، قد وضعت في أول كل من جدولي الحروف الهجائية والأبجدية. وذلك تكريماً له، وإشارة إلى أنه هو أول من نقل الحروف العربية من مجرد أصوات إلى حروف مكتوبة . فكان هذا النبي العربي بذلك إذا صحت هذه الرواية، هو المعلم العربي الأول الذي علَّم العرب فن الكتابة. ولكن الأصح فيما أرى ان اسمه مشتق من الدراسة والتدريس، فكان لقباً له قد غلب على اسمه . وهكذا لاشك في أن الكثير من الأنبياء العرب ممن لم تصلنا أسماؤهم قد أسهموا في تهذيب أصوات الحروف العربية ومعانيها على مثال ما فعل النبي إدريس.‏

                              إن الألف اللينة التي تقع في أواسط المصادر أو أواخرها ، يقتصر تأثيرها في معانيها على إضفاء خاصية الامتداد عليها في المكان أو الزمان . كما في (باب- سماء- كافة- إلى - على....).‏

                              على أن للألف اللينة كل الأهمية في معاني حروف المعاني كما سيأتي في الدراسة اللاحقة (حروف المعاني بين الأصالة والحداثة ).‏

                              3- الواو:‏

                              لينة جوفية هي (للفعالية) كما يقول الارسوزي، و (للانفعال المؤثر في الظواهر) كما يقول العلايلي. وهذان التعريفان قريبان من الواقع. إلا أن تعريف الارسوزي هو الأدق.‏

                              كما أن صوت الواو الحاصل من تدافع الهواء في الفم يوحي بالبعد إلى الأمام . وإذن ما رأي المعاجم اللغوية في الخصائص الصوتية المسندة إلى هذا الحرف؟.‏

                              بالرجوع إلى المعجم الوسيط عثرت على ثلاثمئة وخمسة عشر مصدراً تبدأ بالواو، لم أجد بين معانيها وبين الإيحاءات الصوتية للواو رابطة واضحة. ولقد كانت الفعالية في معانيها تعود إلى الحرفين الباقيين، ولاسيما الأخير منهما، كما لُحِظ ذلك في حرف الهمزة.‏

                              فالفعالية في معنى وأمه (وافقه) للميم. وفي وبص البرق (لمع وبرق) للباء والصاد. وفي وتد (ثبت) للدال. وفي الوحل (الطين الرقيق) للحاء واللام. وفي الوخم (تعفن الهواء ) للخاء. وفي ورَع (تحرَّج عن المحارم) للعين. وفي وسل (رغب وتقرب) للام. وفي وسِن " اخذ في النُّعاس" للنون . وفي وشج الشيء(تداخل وتشابك والتف) للشين. وفي وصَّ العمل ( أحكمه) للصاد . وفي وطد (رسا وثبت) للدال. وفي وعك الحرُّ (اشتد) للعين والكاف. وفي وغرت الهاجرة (رمضت واشتد حرها ) للراء. وفي وقح حافر الدابة (صلب) للقاف. وفي وكحه برجله (وطئه بها وطئاً شديداً ) للكاف....‏

                              وبمقارنة الألفاظ التي تبدأ بالهمزة مع الألفاظ التي تبدأ بالواو عُثِر على ثلاثين لفظة شقيقة في حروفها ومعانيها . منها.‏

                              أبش (جمع) وبَّش للحرب (جمع لها) الأتاد (حبل تضبط به رجل البقرة عند الحلب)، الوتد.‏

                              أتم وأتن بالمكان ( أقام به) ، وتم ووتن بالمكان ( أقام به) . أحّد الشيء وحّده . أَحِنَ (حقد) ، وَحِنَ (حقد). أزم على شفتيه (عض شديدا) ، وزم (عضّ خفيفياً). أطم الهودج (ستره). وطم الستر (أرخاه). أفِد (دنا واقترب )، ، وفد (قدِم) ، أصر ، وصر.‏

                              فهذه الحروف الغابية قد اقتصرت وظائف أصواتها على الإيحاء بالاتجاهات الثلاثة ( الألف اللينة إلى الأعلى، والواو إلى الأمام ، والياء إلى الأسفل )، من دون أن توحي بأي إحساس حسي آخر، أو بأية مشاعر إنسانية معينة.‏

                              ونظراً لكثرة استعمال هذه الحروف في تلك المرحلة مترافقة مع مختلف الحركات الجسدية، فقد عمل العربي في المرحلة الرعوية بصورة خاصة على إماتة الكثير منها من ألفاظه المتداولة ، وذلك تخليصاً للسانه من لغوها، فاستعاض عنها بحروف أقل لغوا وأكثر إيحاء بمختلف الأحاسيس الحسية والمشاعر الإنسانية، ولاسيما الهمزة والحروف الحلقية كما ذكر العلايلي ، وكما لوحِظ ذلك آنفاً.‏

                              ولا شك في أنَّ بقاء الألفاظ المماتة والبديلة معاً حتى تدوين اللغة العربية في صدر الإسلام يرجع إلى أن بعض القبائل كان أكثر تطوراً من بعضها الآخر، فأخذ علماء اللغة اللفظين معاً على انهما أصليان. أما الاستعاضة عن (الألف والواو والياء) بالفتحة والضمة والكسرة فلم تكن لإماتتها كما زعم (العلايلي) في مقدمته (ص50) وإنما لتطويرها والخلاص من غوغائيتها كما جاء في الحرف العربي والشخصية العربية (ص128) وما بعدها.‏

                              4- الياء:‏

                              لينة جوفية . يشبه شكلها في السريانية صورة اليد. يقول عنها العلايلي: إنها (للانفعال المؤثر في البواطن). وهو قريب من الواقع ولكنه قاصر.‏

                              صوت هذا الحرف يوحي بصور بصرية تختلف إلى حدٍّ ما بحسب مواقعه من اللفظة:‏

                              أ- في أول الكلمة:‏

                              يبدو صوت الياء هنا كأنه يصعد من حفرة بشيء من المشقة والجهد . لذلك قلّت الأفعال التي تبدأ بهذا الحرف ومعظمها من الأفعال اللازمة. فالأفعال التي تبدأ بالياء يصعب عليها من هذا المكان الصوتي الخفيض أن تعتدي على أحد.‏

                              وبالرجوع إلى المعجم الوسيط لم أعثر إلا على واحد وثلاثين مصدراً تبدأ بالياء. كان منها اثنان وعشرون فعلاً . خمسة منها أفعال متعدية . هي.‏

                              يبّبه (جعله يبابا أي خرابا والتعدية هنا جاءت بتشديد عين الفعل). أيدع الحجّ على نفسه (أوجبه والتعدية هنا بفعل الهمزة في أول الفعل). يداه ( أصاب يده). يفخه (أصاب يافوخه، أي ضربه). ياومه (عامله واستأجره باليوم). وهكذا فإن تعدية هذه الأفعال مصطنعة غير أصلية.‏

                              ب- في وسط الكلمة :‏

                              تختلف إيحاءات صوت الياء في هذا الموقع تبعاً لحركتها وحركة ما قبلها.‏

                              فإذا كانت متحركة بالفتح وما قبلها فتحة أخذ صوت الياء صورة المطبّ الهوائي الصغير يعترض مسار طائرة: طيران . حيدان . غثيان..... أما إذا كانت الياء ساكنة وما قبلها متحرك بالفتح، فان صوتها يأخذ صورة الحفرة أو حفنة اليد.‏

                              وهو يصلح أن يكون مقرا للمعنى، على مثال ما تصلح الحفرة على سطح الأرض أو في باطن اليد أن تكون مقرا ومستقراً للماء أو الأشياء: بَيْت. عَيْب. سَيْل. عَيْن. دَيْن. غَيْظ. لَيْل. فَيْض.‏

                              والأسماء المصغرة لا تخرج ياؤها الساكنة المفتوح ما قبلها عن هذه الإيحاءات.(رجل، رُجيل شاعر، شُويعر نهر، نُهير) . وكأنَّ الاسم مع ياء التصغير هذه قد وقع في حفرة فلم يبدُ منه إلا أقلُّه.‏

                              وإذا تحرك ما قبل الياء الساكنة بالكسر ، فإنها تعطينا صورة الحفرة العميقة والوادي السحيق (كريم ، فهيم . فقيه. نبيء. لئيم)، لتشف الياء في هذه الحالة عما في صميم الإنسان أو الأشياء من الخصائص المتأصلة فيها. فالكريم هو الذي تفجَّرت ينابيع الكرم في صميمه ، ليس كرمه طارئاً ولا مصادفة موقف. وكذلك الأمر مع العليم والتعيس والجميل والقبيح والسعيد والحقير...‏

                              جـ - في آخر الأسماء.‏

                              لا تخرج إيحاءات صوتها هنا عنه في وسط الكلمة: (قويّ. دويّ. شقيّ. أبيّ. تقيّ. سويّ . رضيّ. نقيّ. غبيّ...) . وحرف الجر (في) يوحي بصورة الحفرة أيضاً.‏

                              وهكذا الأمر معها في إضافتها إلى الأسماء في النسبة: (كنيسة ، كنسيّ. علم. علميّ. مدينة / مدنيّ....).‏

                              والياء في مختلف وظائفها الصرفية، سواء بإلحاقها بالمثنىّ أو جمع المذكر السالم في حالتي النصب والجر، لاتخرج في إيحاءاتها عما ذُكر عنها من حيث استكانة هذه الأسماء في حفرها الصوتية لفعل الاعتداء . ولا فرق في ان يقع الفعل مباشرة من فاعل ، أو بصورة غير مباشرة بالإضافة أو بحروف الجر. كما في : (أكل التفاحتين ، كسب ثقة السامعين ، فاز على المتسابقين..).‏

                              والياء ، على الرغم من توافق وظائفها الصرفية آنفة الذكر مع خصائصها الصوتية ، فلم يكن لهذه الخصائص أي تأثير في معاني المصادر التي تبدأ بها. كما أنَّها لم تلتزم بطبقتها البصرية . فكان ثمة مصدران للسمعية . هما:‏

                              يأيأ بالقوم (دعاهم لضيافة أو غيرها). يعرت الشاة (صاحت).‏

                              وكان ثمة مصدران للمشاعر الإنسانية . هما:‏

                              يئس. يرِع (جَبُن).‏

                              ولم أجد للمرئيات سوى مصدر واحد. هو: اليلق (الأبيض من كل شيء).‏

                              في الخلاصة:‏

                              ومما سبق يتضح أن العربي الذي لم يعط حروف اللين إلا القليل من اهتمامه قد استمر على تجاهلها بمعرض التعبير عن أحاسيسه ومشاعره وحاجاته ومعانيه. وذلك لأن أصوات هذه الحروف اللينة ، أو الجوفية ، أو الهوائية، أو الصائتة كما يسمونها ، إنما هي بالفعل أسماء على مسميات..‏

                              ولولا واقعة التمويج في أصواتها لكانت خلُوّاً من أي إحساس على الإطلاق.‏

                              ولعل الشاعر الفرنسي (رامبو)، إحساساً منه بمثل هذا الفراغ الحسي والشعوري في صوت حرف ( أو ) في اللغة الفرنسية ، الذي يقابله حرف (الواو) في اللغة العربية، قال عنه: إنه يوحي باللون الأسود . وذلك لأن صوته في الفرنسية معدوم الإيحاءات الحسية والشعورية.‏

                              5- حرف الباء:‏

                              مجهور شديد. يشبه شكله في السريانية صورة البيت. يقول عنه العلايلي: إنه (لبلوغ المعنى، وللقوام الصلب بالتفعل). ويقول عنه الأرسوزي: إنه (يوحي بالانبثاق والظهور). تعريف الأرسوزي أدق ولكنه قاصر.‏

                              وعلى الرغم من بساطة صوت هذا الحرف، فهو متعدد الوظائف والخصائص الصوتية . بعضها إيمائي تمثيليّ ، وبعضها الآخر إيحائي.‏

                              فإذا لفظ هذا الحرف منفرداً ممدود الصوت (با) كما كان يلفظ في مرحلة أصوات الحروف ، لم نجد ما هو أصلح منه لتمثيل الأشياء والأحداث التي تنطوي معانيها على الاتساع والضخامة والارتفاع ، بما يحاكي واقعه انفتاح الفم على مداه عند خروج صوته من بين الشفتين (باب)، وظيفة تمثيلية.‏

                              وإذا لفظ في مقدمة اللفظة دونما مدّ فبحكم خروج صوته من انفراج الشفتين بعد انطباقهما على بعضها بعضا، هو أصلح ما يكون لتمثيل الأحداث التي تنطوي معانيها على الانبثاق والظهور والسيلان، بما يحاكي واقعة انبثاق صوته من بين الشفتين إيماءً وتمثيلاً، وليس من الصميم كالنون إيحاء.‏

                              ولكن بحكم انفجاره الصوتي بانفراج الشفتين سريعاً بعد ضمَّة شديدة، فهو أوحى ما يكون بمعاني البعج والحفر ، والقطع والشق، والتحطيم والتبديد، والمفاجأة والشِّدة، وذلك (حذواً لمسموع الأصوات على محسوس الأحداث)، وظيفة إيحائية.‏

                              فما نصيب هذه الخصائص الصوتية غابيّها وزارعيّها ورعويّها في معاني المصادر التي تبدأ بحرف الباء؟ . فقد تعود أصول نشأته إلى الغابية أو الزراعية ولكنه لم يستوف مقومات شخصيته إلاّ في المرحلة الرعوية.‏

                              بالرجوع إلى المعجم الوسيط، عثرت على مئتين واثنين وتسعين مصدراً جذراً تبدأ بالباء. كان منها تسعة وثلاثون مصدراً تدل معانيها على الاتساع والامتلاء والعلو ماديّاً ومعنويا، بما يحاكي انفتاح الفم على مداه عند خروج صوت الباء منفردا ممدودا. منها:‏

                              البأج (الغلام السمين). البجباج (السمين الغليظ). الببُّ (الغلام السمين). بجل (ضخم جسمه وعظم). بخدج في مشيه (فرشخ رجليه وباعد بينهما). برطم (انتفخ غيظاً وأدلى شفتيه). بلخ( تكبر وجرؤ على الفجور). بدن (سمن وضخم). بذخ الجبل (علا فبان) برج (ارتفع) . بسط الشيء (نشره). بسق (تم ارتفاعه) بشم من الطعام (أتخم).بضَّ البدن (امتلأ ونضُر). باك البعير (سمن) . تبلخص (غلظ وكثر لحمه).‏

                              وكان منها سبعة وأربعون مصدراً تدل معانيها على الانبثاق والظهور والانفراج، بما يحاكي خروج صوت الباء من بين الشفتين بعد انطباق وانفراج . منها :‏

                              بجس الماء (انفجر). بدا . بدر. بدح بالسر (باح به). برز (ظهر بعد خفاء). برق (بدا) . بسر (أظهر العبوس) بسم انفرجت شفتاه عن ثناياه). بصر. بصق . بصّ (لمع وتلألأ). بصع الماء (رشح) بعّ الماء (صبّه في سعة) بزغ النجم (ظهر)، بزق (بصق) .بزل الناب (طلع). بغشت السماء ( أمطرت). بقل الشيء (ظهر). بلج الصبح (أسفر). بلق الباب (فتحه كلَّه). باح (ظهر).‏

                              وكان منها ثلاثة وخمسون مصدرا تتوزع معانيها بين الحفر والشق والبعج والقطع والشدة، بما يتوافق مع صدى صوته الانفجاري في النفس. منها:‏

                              بأر (حفر حفرة) . بتّ الشيء وبتره، وبتعه، وبتكه، وبتله، وبركعه ، وبرشق اللحم، وبشقه وبضعه، جميعها بمعنى (قطعه). بجّ الشيء وبذحه، وبعج البطن وبقره ، وبحر الأرض، بمعنى (شقّها). بحث الأرض (حفرها وطلب الشيء فيها).بخص عينه (فقأها) . بدهه وبغته (فاجأه) . بذم (قوي ومتُنَ).بأش فلانا (صرعه بغتة) بعط الحيوان (ذبحه). بكّ الشيء (هشمه ومزّقه) . باغ (ثار وهاج) . بهس (جرؤ وشجع).‏

                              وكان منها ستة عشر مصدراً تدل معانيها على البعثرة والتبديد بما يحاكي بعثرة النفَس بعد خروج صوته. هي:‏

                              بثّ الشيء ، وبدّه، وبدّده وبرقطه، وبسّه ، وبلبل المتاع، جميعها بمعنى (فرقّه). بحثر الشيء، وبعثره، وباثه بوثا، وبعزقه، جميعها بمعنى (بدَّده وفرَّقه).ابزعرّ القوم وابزقرُّوا (تفرقوا). . بزر الحب (نثره في الأرض).بكش العقدة (حلّها . بذر الحب (القاه في الأرض للزراعة).‏

                              وهكذا بلغت نسبة المصادر التي تأثرت معانيها بالخصائص التمثيلية لحرف الباء (35%).‏

                              لتبلغ نسبة ما تأثر منها بالخصائص الإيحائية في صوته (18%)، بما مجموعه (53%).‏

                              وهذه النسبة لا تؤهله للانتماء إلى الحروف القوية الشخصية، لولا أن معاني المصادر التي تبدأ به قد بقيت عند حدود الطبقة البصرية لم تتجاوزها إلا في ثلاثة للسمعية. بما يتوافق مع طبيعة صوت الباء والحروف المرافقة له. هي:‏

                              بغمت الظبية (صوّتت). بعبع الماء (صوَّت حين يخرج من الإناء) ، بقبقت القدر (سمع صوت غليانها)، وذلك بشفاعة حرفي (القاف) الصوتية و (العين) الشعورية.‏

                              كما تجاوزها في ثلاثة للمشاعر الانسانية : هي بغضه. بهته (حيّره وأدهشه). بهج (فرح وسُرّ)، وذلك بشفاعة حرفي (الضاد والهاء) الشعوريين.وهذا يقطع بصحة انتماء حرف الباء إلى الطبقة البصرية.‏

                              ولقد لوحظ عدم وجود حرف الباء في أول أي لفظة تبدأ بحرف الميم، على غرار ما سبق وتبين لنا عدم وجود حرف (الراء) في أول أي لفظة تبدأ بحرف (اللام). فحرف (الباء) للانبثاق والانفراج والاتساع والشق، بما يحاكي انفراج الشفتين عند التلفظ به. وحرف الميم للانضمام والانجماع، بما يحاكي انضمام الشفتين وانغلاقهما عند التلفظ به. فيبدو أنَّ العربي لم يجد من الذوق الفني السليم أن يبدأ ألفاظه بالساكن لينتهي بالمتحرك، وان كان استساغ العكس كما لحظنا ذلك في حرفي (اللام والراء)، فكان ثمة ألفاظ كثيرة تبدأ بالباء وتنتهي بالميم بعد فاصل من الحروف كما في (بلم، بشم ، بكم ، بسم، برم ، بصم، بغم...). ، أما العكس فلا.‏

                              6- حرف الجيم:‏

                              مجهور. معناه في اللغة العربية (الجمل الهائج) . يشبه رسمه في السريانية صورة الجمل. قال عنه العلايلي:إنه (للعظم مطلقا) . وهو صحيح ولكنه قاصر ويعتبره الدكتور كمال محمد بشير من الأصوات المركبة انفجاري - احتكاكي).‏

                              وقبل أن نتحدث عن إيحاءاته الحسية ، يجدر بنا أن نقطع أولاً في قضية النطق به، معطشاً على الطريقة الشامية، أو غير معطش على الطريقة القاهرية ، لعلاقة هذه المسألة بإيحاءاته الصوتية ، وبالتالي بشخصيته ومدى تأثيره في معاني الألفاظ التي يشارك.فيها.‏

                              لقد أفرد الدكتور أنيس لهذه المشكلة بحثاً خاصا في كتابه (الأصوات اللغوية ص77- 83).كما أفرد له الدكتور كمال محمد بشير بحثاً خاصا في كتابه (علم اللغة- الأصوات ص160-166).‏

                              وعلى الرغم من أن الدكتور أنيس يرجِّح مسبقا بأن الجيم التي يسمعها من مجيدي القراءة القرآنية ، هي أقرب إلى الجيم الأصلية (ص77)، أي إنها شامية معطشة بصورة ما من صور التعطش. فإنه يعود فيشكك في ذلك، لنقاش كان جرى بينه وبين أستاذ الأصوات في جامعة لندن (البروفيسور فرث) حول هذه المشكلة.‏

                              فلقد أعلمه هذا الأستاذ أن هناك قاعدة صوتية مسلَّماً بها في اللغات الأوروبية تدعى (بقانون الصوت الحنكي)، تقرر : بأن الإنسان يميل بالفطرة عبر تطوره الحضاري إلى تسهيل النطق بالحروف الصعبة. ولذلك فان هذا الأستاذ يستطيع أن يفسر تطور الجيم من عدم التعطيش القاهرية إلى التعطيش الشامية ، أما العكس فلا. بمعنى أن الجيم القاهرية الأعسر نطقاً هي الأصل ، وقد تطورت إلى الجيم الشامية الأسهل نطقاً.‏

                              وبما أن مخرج صوت الجيم القاهرية هو الأبعد عن الشفتين ، فقد حاول الدكتور أنيس إقامة الدليل على أنه زحزح إلى الأمام باتجاه الشفتين فتحول إلى الجيم الشامية المحدثة وقد لاحظ في كتاب (المعجم المفهرس لألفاظ القرآن) أن الجيم قد حرِّكت بالفتحة والكسرة وهما أماميتان (1264) مرة، لتتحرك بالضم وهي خلفية (102) مرة فقط.‏

                              وهكذا فان كثرة تحريك الجيم بحركات أمامية قد جذبت مخرجها من الخلف إلى الأمام، أي من عدم التعطيش إلى التعطيش .‏

                              أما الدكتور (بشير) ، فهو يقرّ مبدئياً بأن الجيم الشامية المعطشة هي الجيم الفصيحة المعاصرة ، إلاَّ أنه يذهب مذهب الدكتور أنيس في اعتبار الجيم القاهرية هي الأصل. ولقد استشهد بما جاء به الدكتور (اتوليتمان) حيث يقول:‏

                              (نعرف أن نطق هذا الحرف الأصلي كان جيما قاهريا، ، وكما كان ويكون في اللغات السامية الباقيه. مثلاً كلمة (جمل) العبرية (gamol). وفي السريانية (gamala) وفي الحبشية (جومال) (gomal) (ص162-163). بدعوى أن هذه اللغات هي أقدم في الزمن من اللغة العربية. وهذا عكس ما تبيّن لي في الحرف العربي ص (52) وما بعدها.‏

                              ثم يقرر الدكتور بشير أن الجيم القاهرية قد تطورت إلى (دج) في نطق قريش. ولكنه يعترف كزميله الدكتور أنيس ، بأن علماء العربية وإن وصفوا الجيم الأصلية بما ينطبق على الجيم القاهرية، فإنهم نسبوها إلى المنطقة التي تخرج منها (الشين والياء) ، وهي (بين وسط اللسان، ووسط الحنك الأعلى). وهذه المنطقة برأيه هي للجيم القرشية (دج)‏

                              ونحن لو رجعنا من عالم التخمين والفرضيات إلى واقع الإيحاءات الصوتية لحرف الجيم بمعرض تأثيره في معاني الألفاظ التي يتصدرها، اذن لعرفنا كيف نطق به مبدعوه الأوائل ، معطشاً شامياً أو غير معطش قاهريا. ولا عبرة بما يلفظ في (الساميات) لأن العربية هي الأصل.‏

                              فإذا وجدناهم قد استخدموه للتعبير عن المعاني التي يوحي بها صوت الجيم معطشاً، فإنهم لاشك قد لفظوه معطشاً طوال مرحلة إبداع تلك الألفاظ ، وإلا فيكونون قد لفظوه قاهريا غير معطش. وذلك:( حذوا لمسموع الأصوات على محسوس الأحداث).‏

                              آ- الجيم المعطشة:‏

                              نظرا لشدة تدافع النفس أثناء خروج الجيم الشامية،. وما يحدثه من ارتجاج في مساحة واسعة من سقف الحنك، كان لابد أن تتنوع إيحاءاته الصوتية.‏

                              فالجيم الشامية المعطشة، توحي بالشدة والقوة والدفء والمتانة كأحاسيس لمسية، وبطعم الدسم ورائحته كأحاسيس ذوقية وشمية. أما إيحاءاتها البصرية فهي تتردد بين الفخامة والعظم والامتلاء. لتقتصر إيحاءاتها السمعية على شيء من الفجاجة ، وهي لا توحي بأية مشاعر إنسانية أصلاً.‏

                              ب- الجيم القاهرية:‏

                              صوتها الانفجاري يوحي بالقساوة والصلابة والحرارة والخشونة كأحاسيس لمسية، وبما يدل على أصوات مزيجة من الحدَّة والانفجار كأحاسيس سمعية، ولا إيحاءات أخرى في صوتها ، حسيةً أو شعوريةً.‏

                              فلو أن العربي قد أبدع الجيم قاهرية غير معطشة كما يقول الدكتوران أنيس وبشير، إذن لكانت ندرت بصورة خاصة المعاني الدالة على العظم والفخامة والضخامة والارتفاع والفجاجة في الألفاظ التي يتصدرها.‏

                              فهل المعاجم إلى جانب الجيم الشامية أو القاهرية؟‏

                              بالرجوع إلى المعجم الوسيط عثرت على مئتين وثلاثة وخمسين مصدرا جذراً تبدأ بحرف الجيم، قد توزعت معانيها وفقا للزمر المبيَّنة في الجداول التالية:‏

                              الزمرة الأولى:‏

                              ثلاثة وثمانون مصدرا تدل معانيها على الشدة والفعالية المادية. منها:‏

                              الجأب (كلُّ كزٍّ غليظ). جأى عليه (عضَّه). جشب (غلُظ واشتد). جمح الفرس (عتا عن أمر صاحبه). جهلت القدر (اشتد غليانها). جذف الطائر (أسرع). جردم فلان (أسرع) . جعط فلانا (دفعه). جَعِمَ الرجل (اشتد حرصه وطمعه). جلز في الأرض (مضى مسرعا). جهض فلاناً (غلبه). جمر الفرس (وثب في القيد). جمز الفرس (سار مسرعا). جاب الطيرُ (انقض مسرعا).‏

                              وكان من هذه الزمرة أربعة عشر مصدرا للقطع والقشر . هي:‏

                              جبَّه (قطعه). جحف الشيء (قشره)، جدعه، وجذّه، وجزمه وجزّه، وجرده، وجلمه جميعها بمعنى (قطعه) جرشه وجلفه بمعنى (قشره). جذر الشيء (استأصله).جلق رأسه (حلقه) . جمش نبات الأرض (حصده). جرف السيل الوادي (أكل من جوانبه).‏

                              وكان منها أيضاً خمسة مصادر بمعنى صرعه هي:‏

                              جأفه (صرعه، والشجرة قلعها من أصلها). جحدره (صرعه ودحرجه). جحفله (صرعه ورماه). حجله وجعبره (صرعه).‏

                              الزمرة الثانية:‏

                              ثلاثة وخمسون مصدراً تدل معانيها على العِظَم والفخامة والضخامة والامتلاء والغلظة، ماديَّاً ومعنوياً . منها:‏

                              الجأر من الرجال (الضخم). جثل النبات (طال وغلظ والتفَّ). الجبأى (المرأة القائمة الثديين). الجبل. الجمل. جبجب (سمن). جحظت عينه . الجحمرش من النساء (الثقيلة السمجة). الجعيس (الغليظ الضخم). جعا الشيء (غلظ). الجمظ (الضخم). الجدار. جمّ (كثر).جوث (عظُم بطنه في أعلاه). الجَفْر ( ما عظم واستكرش من ولد الشاة والمعزى ). الجِفس (الضخم الجافي). جفظه (ملأه). جفخ (فخر وتكبر). جوِق (غلظ عنقه).‏

                              الزمرة الثالثة:‏

                              خمسة عشر مصدرا تدل معانيها على الحيوانات والجسد وما هو من أبعاض الجسد . هي الجيئل (الضبع). الجثة. الجثمان. الجرائض (الأسد). الجعول (ولد النعام) الجفن (غطاء العين). الجلد. الجاموس. الجمل. الجنين. الجيد(العنق).‏

                              الجواد . الجحش (ولد الحمار). الجيم (الجمل الهائج).‏

                              الزمرة الرابعة:‏

                              تسعة مصادر تدل معانيها على أصوات . هي:‏

                              جئ جئ ( دعاء للإبل إلى الماء). جأر (رفع صوته). جرس الطائر (صوّت). جشَّ صوته (اشتد وصار فيه بُحّة). جرجر البعير (ردَّد صوته في حنجرته). جعجع البعير (اشتد هديره). جلجل الرعد (صوت في حركة). جمجم (لم يبين كلامه) . جهجه الأبطال (صاحوا في الحرب).‏

                              الزمرة الخامسة:‏

                              ستة مصادر للانفعالات النفسية . هي:‏

                              جزع (لم يصبر على ما نزل به) جشأت نفسه (ثارت للقيء). جشع (اشتد حرصه). جهث (استخفه الغضب أو الفزع). جهشت نفسه (همت بالبكاء).‏

                              وبتحليل معاني المصادر الواردة في الزمر الخمس لمعرفة مدى تطابقها مع الخصائص الصوتية للجيم المعطشة وغير المعطشة ، نلاحظ مايلي:‏

                              أ- في الزمرة الأولى:‏

                              جميع مصادر هذه الزمرة تتوافق معانيها مع الخصائص الصوتية للجيم الشامية. كما أن بعضها يقبل الجيم القاهرية وان كانت الشامية أكثر تطابقاً مع معانيها . على أن المصادر الدالة على القطع والقشر وان كانت تقبل الجيمين، فإن القاهرية أكثر تطابقاً مع معانيها.‏

                              أما المصادر التي تدل معانيها على التماسك والمقاومة والتدافع والامتلاء والاستمرار من هذه الفئة، فإن معانيها لاتتوافق مع خصائص الجيم القاهرية.فجميع المصادر التي جاءت بمعنى (صرعه، واستأصله)، لا تقبل الجيم القاهرية لما في هذه الأحداث من تماسك ومقاومة، بل لا يوجد أي حرف آخر يسدّ مسدّ الجيم الشامية لاقامة التطابق بين الصور البصرية والصور الصوتية (أي الجمل الصوتية) لواقع الصراع في هذه المصادر (جحدره، جحفله، جعبره، جعفه...).‏

                              وهكذا الأمر مع جاش الماء (تدفق وجرى). فصوت الجيم القاهرية لا يستطيع أن يوحي بتدافع الماء واستمرار جريانه.‏

                              ولفظة جأى عليه (عضَّه)، وان كانت تقبل الجيم القاهرية للتوافق بين قساوة الصوت وقساوة العض فإن الجيم الشامية التي يملأ صوتها الفم هي أوحى بعملية العض التي يشترك فيها الفم والأسنان بمساحة واسعة دون قطع (عضّ على شفته).‏

                              وهكذا الأمر مع حجم النارَ (أوقدها). جرضه (خنقه). جرف السيل الوادي. جهلت القدر (اشتد غليانها). جعم الرجل. جرى ( اندفع في السير).‏

                              ومنه نرى أن الجيم الشامية قد تغلبت بالمفاضلة على الجيم القاهرية في عقر دارها مما يتعلق بالشدة والفعالية الماديتين.‏

                              ب- الزمرة الثانية:‏

                              ان الغالبية العظمى من مصادر هذه الزمرة الدالة على الضخامة والعظم والامتلاء ، لا تتوافق معانيها قطعا مع الإيحاءات الصوتية للجيم القاهرية ، لتتحول معها هذه المصادر إلى مصطلحات ورموز على معان دون إيحاء . وبذلك تتعطل هذه الخاصية الإيحائية في اللغة العربية التي تميزها أصلا من سائر اللغات.‏

                              فأين موحيات صوت الجيم القاهرية مثلا من معاني المصادر التالية:‏

                              جبل، جبجب. جحظت عينه . جشم (سمن). جشن (سمن وغلظ). جضّ (مشى متبخترا). جحدل الوعاء (ملأه)...... الخ.‏

                              جـ- الزمرة الثالثة:‏

                              ان هذه المصادر الدالة على حيوانات وعلى الجسد وأبعاضه . تتنافى معانيها جميعاً مع الخصائص الصوتية للجيم القاهرية. فأين القساوة التي يوحي بها صوتها من منظر وملمس مِمّا جاء في هذه الزمرة؟. مثال (الجؤزر ، الجاموس ، الجنين، الجلد، الجَفن ، الجثمان،....).‏

                              لابل إن صوت الجيم الشامية بايحاءاتها اللمسية والشمية والبصرية ، لهو أصدق إيحاء بمعاني هذه المسميات من صوت أي حرف آخر. وقد أطلق العربي على الجمل الهائج لفظة (الجيم) لهذا السبب بالذات.‏

                              د- الزمرة الرابعة:‏

                              باستقراء مصادر هذه الزمرة الدالة على أصوات يتضح أن صورها الصوتية (أي جملها الصوتية) إذا لفظت بالجيم الشامية تتطابق مع معانيها إلى أبعد الحدود، على العكس مما لو لفظت بالجيم القاهرية.‏

                              فلفظة (جشَّ الصوت) مثلاً بمعنى (اشتد وصار فيه بُحَّة)، تتطابق جملتها الصوتية إذا لفظت بالجيم الشامية مع طبيعة الصوت الإنساني عندما يشتد إلى الحدَِّ الذي تظهر فيه البحَّة.ولو لفظت بالجيم القاهرية لانعدم هذا التطابق بين الجملتين الصوتيتين، وتحولت اللفظة إلى رمز.‏

                              ولفظة (جئ جئ) ، وهي (دعاء للابل إلى الماء) ، قد لفظها العربي ولاشك بالجيم الشامية أي الصعيدية، ليقلد بها الأصوات التي تصدر عن الإبل عند ورود الماء فينبه بهذا الصوت شهية الإبل للماء بطريقة المحاكاة الطبيعية. ولو لفظت بالجيم القاهرية لتعطلت وظيفتها الإيحائية لعدم توافق جملتها الصوتية مع طبيعة صوت الإبل.‏

                              ولفظة (جعجع البعير) اشتد هديره تتطابق جملتها الصوتية مع الجملة الصوتية لهدير البعير فيما لو لفظت بالجيم الشامية ، على العكس مما لو لفظت بالجيم القاهرية.‏

                              وهكذا الأمر مع ألفاظ _جمجم، جأر، جهجه).‏

                              أما لفظة جرس الطائر(صوّت))، فهي الوحيدة التي تقبل الجيم القاهرية.‏

                              هـ- الزمرة الخامسة:‏

                              يلاحظ أن المصادر الواردة في هذه الزمرة تدل جميعا على انفعالات نفسية سلبية، وأن لها انعكاساتها المحسوسة على وجوه الناس وأصواتهم مما يشاهد بالعين أو يسمع بالاذن. ولمّا كانت هذه المصادر من شأن جملها الصوتية أن تنقل لنا أثر تلك الانفعالات على ملامح الوجوه في نبرات أصوات أصحابها ، فإننا نستطيع أن نقرر أنَّ حرف الجيم لم يتجاوز طبقته إلى الشعورية.فلفظة (جهشت نفسه) همَّت بالبكاء ، لابد أن تلفظ بالجيم الشامية. وذلك كيما تتطابق صورتها الصوتية مع انفعالات الحزن المرتسمة على قسمات وجه صاحبها، وكيما تتوافق أيضاً مع البوادر الصوتية الخاصة التي تترافق عادة مع ظاهرة الانتقال من حالة الحزن المكبوت، إلى البكاء الصريح. ولو لفظت بالجيم القاهرية لانعدم التطابق والتوافق بين معناها وبين جملتها الصوتية.‏

                              وهكذا الأمر مع (جشأت نفسه) ثارت للقيء، وجهث) استخفه الغضب أو الفزع .‏

                              أمّا لفظتنا (جبن وجزع) فهما تقبلان الجيمين معا، وذلك لانطواء معنييهما على انقباض نفسي يرافقه انقباض في الملامح ، وان كانت الشامية أوفى للغرض.‏

                              ومما تقدم يتضح أن الجيم الشامية هي الأصل، وأن القاهرية ما هي إلا لهجة بدوية لاحقة، ربما اقتضتها قساوة البداوة وشظف العيش.‏

                              وعلى الرغم من توزع الخصائص الصوتية لحرف الجيم بين مختلف الحواس ، فقد استطاع أن يفرضها على (5،65%) من معاني المصادر التي تبدأ به. وهذه النسبة تؤهله للانتماء إلى الحروف القويّة الشخصية.‏

                              ولئن تجاوزت بعض المصادر طبقته البصرية إلى السمعية والشعورية، فإن معانيها جميعاً تتوافق أصلاً مع الخصائص الصوتية للجيم الشامية كما مر معنا في تحليل المصادر الواردة في الزمرتين (جـ،د) ، مما يؤكد التزامه الشديد بطبقته.‏

                              ومما لاشك فيه أن الإنسان العربي قد استخدم الخصائص الصوتية للجيم الشامية بمعرض التعبير عن حاجاته ومعانيه ، بإحساس فني فائق الرهافة والدقة والذكاء.‏

                              7- حرف السين:‏

                              مهموس رخو، يشبه رسمه في السريانية صورة السن. يقول عنه العلايلي: إنه (للسَّعة) والبسط بلا تخصص). وقال الأرسوزي عنه: إنه للحركة والطلب . والقولان صحيحان ولكنهما قاصران.‏

                              حرف السين هو أحد الحروف الصفيرية ، صوته المتماسك النقي يوحي بإحساس لمسيِّ بين النعومة والملاسة، وبإحساس بصري من الانزلاق والامتداد، وبإحساس سمعي هو أقرب للصفير. وليس في صوته مايوحي بأي إحساس ذوقي أو شمي أو مشاعر إنسانية. فما رصيد هذه الخصائص الصوتية في حرف السين من معاني المصادر التي تبدأ به؟.‏

                              بالرجوع إلى المعجم الوسيط عثرت على مئتين واثنين وخمسين مصدراً جذراً تبدأ بحرف السين، كان منها اثنان وثمانون مصدرا تدل معانيها على التحرك والمسير بما يتوافق مع خاصية الانزلاق في صوته. منها:‏

                              سبق. سجم العطر (سال) . سحبه اسبلت عينه (صبّت دمعها- والسماء أمطرت). سرح السيل (جرى جريا سهلا). سرى الشيء عنه سروا (نزعه وألقاه). سرى سرْياً وسِراية وسُرىً (مضى وذهب). سعر الفرس (عدا شديدا). سفح الدمُ (انصبَّ). سفّ الطائر (مرّ على وجه الأرض طائرا). سفا سفوا (أسرع) . سقط. سكع (مشى متعسفاً) . سهكت الريح (عصفت واشتدت). ساخت قوائمه (غاصت في الأرض). ساج (جاء وذهب).‏

                              سال. ساب سيبا وسيبانا (ذهب حيث شاء). سأى (عدا) . سبسب الرجل (سار سيرا لينا). سبح. سفكه (صبّه). سكب. سلك المكان (دخل ونفذ). سعسم (مشى مشيا رفيقا). سهرج (عدا شديدا من فزع). سار. اسلهبَّ الفرس (مضى في عدوه). تسحسح الماء(سال).. أسحمت السماء (صبَّت ماءها). سحّ الماءُ (سال). سفنت الريح (هبت على وجه الأرض. ومنه، السفنية مهب للرياح في البحر). ساق سوقاً.‏

                              كما عثرت على ستة عشر مصدراً تدل معانيها على الخفاء والاستقرار ، بما يتجافى مع خاصية الانزلاق في صوت السين . منها:‏

                              ستره . سدك بالشيء (لزمه). سدل الثوب (أرخاه). السِّرُّ. سقف البيتَ (غطاه).سكن. السِّجاف (الستر).‏

                              كما عثرت على أحد عشر مصدراً للتعالي بما يتوافق مع خاصية الامتداد إلى أعلى.منها:‏

                              سبغ (تم وطال واتسع). سمد (علا ، رفع رأسه ونصب صدره). سمك سموكا.وسنع سنوعا وسما سموا (ارتفع وعلا). سمق النبات (علا) . سطع سطعا (طال عنقه) . السُّلاجم (الطويل من الرجال).‏

                              كما عثرت على ثمانية عشر مصدرا للرقة واللين والضعف ، بما يتوافق مع خاصية الرقة والسلاسة في صوت السين . منها:‏

                              سبت (استراح ، وسكن). سبخ(سكن وفتر). سرك (ضعف بدنه بعد قوة). سعسع (كبر حتى هرم). سقم (طال مرضه). سكر (فتر وسكن). سلس (صار سهلا). سهل.سمح (سهل ولان). سجا البحر والليل (سكن). سخف الشيء (رقَّ وضعف). السخل (كل شيء لم يتم).‏

                              كما عثرت على ثلاثة عشر مصدرا تدل معانيها على القشر والقطع، بما يتوافق مع خاصية الانزلاق في صوت السين . منها:‏

                              سبّ الدابة (عقرها). سحجه (قشره). سحفه (قشره). سحق الشيء (دقّه).سلخه . سبد شعره (حلقه) . سرّمه (قطَّعه). . سحا الشيء (قشره). سلع الطريق (شقه) . سرد الشيء (ثقبه).‏

                              وكان للأصوات مصدران اثنان. هما: سعل. سهف الدب (صاح) . (لتدخل حرفي . ع. هـ)‏

                              وكان للمشاعر الانسانية ثلاثة مصادر . هي سئِم ، سُرّ، سعِد.‏

                              وهكذا لم يكن لهذا الحرف من صفيريته إلا الاسم . على أنه استطاع أن يفرض خصائصه الصوتية على (56%) من معاني المصادر التي تبدأ به، لتكون شخصيته بذلك معتدلة القوة.‏

                              ولكن ، ماذا عن المصادر التي تنتهي بهذا الحرف؟.‏

                              بالرجوع إلى المعجم الوسيط عثرت على مئة وسبعين مصدرا جذراً ، كان منها ستة وأربعون للشدة والفعالية ماديهما ومعنويهما ، بما يتعارض مع خاصية الرقة والسلاسة في صوت السين منها:‏

                              أبسه (قهره). بهس (جرؤ وشجع). بكس خصمه (قهره) . حَوِس (جرؤ وتشجع).دعسه (داسه دوسا شديدا). دهسه (وطئه وطأ شديدا). شرس (ساء خلقه) وضرسه (عضَّه). عفسه (طرحه على الأرض وضغطه ضغطاً شديداً). قرس البرد (اشتد). كاس فلانا (صرعه وكبّه على وجهه). لدسه ولطسه (ضربه). مقسه (دلكه بشدة). نهسه (عضّه) . هرسه (دقَّه بشيء عريض). وطس الشيء (كسره ودقَّه).‏

                              وكان منها ثلاثون مصدرا للخفاء والاستقرار والظلام . منها:‏

                              ترس (توقى بالترس). جلس. خرس. دبسه (ستره). رمس الميت (دفنه) طمس. عسَّ وعاس (طاف ليلاً) غطس . قمس الشيء ( ألقاه في الماء فغاص). كنس الظبي (دخل مأواه). لَيِسَ فلان ليسا (لزم البيت فلم يبرحه). حبسه.‏

                              وكان منها تسعة وعشرون مصدراً للرقة والرخاوة ، بما يتوافق مع خاصية الرقة والسلاسة في صوت السين. منها:‏

                              أنس به. باس بوساً (قبّل). فطس الرجل، وفقس وقفس (مات). لحس. لمس. مسّ ملس. نعس. هلسه الداء (هزله وضمَّره). وكس الشيء (نقص).‏

                              وكان منها عشرة مصادر للتحرك والمسير هي:‏

                              حلست السماء (أمطرت). عدس في الأرض (بعُد). طسّ في الأرض ( أبعد في السير).مقس في الأرض (ذهب فيها). نبس (تحركت شفتاه بشيء). ناس (تحرك). هجس الأمر في صدره (خطر بباله). ماس (تبختر واختال). حدس في الأرض (ذهب على غير هداية).‏

                              وكان منها مصدر واحد للأصوات . هو: جرس الطائر (صوت).‏

                              وكان منها ثلاثة مصادر للمشاعر الإنسانية. هي:‏

                              تعِس. وَجَس (وقع في نفسه الخوف). فجس (تكبر وافتخر).‏

                              وبمقارنة الجداول السابقة مع بعضها بعضا، وتحليل مصادرها نلاحظ مايلي:‏

                              أ- حرف السين في بداية المصادر:‏

                              هو أوحى ما يكون بالتحرك والمسير إذ بلغت نسبة هذه المعاني وحدها (32%) بينما راوحت نسب بقية المعاني بين (5،4و7%). مما يقطع بخاصية هذا الحرف في التحرك والطلب والبسط، كما أشار إلى ذلك كل من العلايلي والأرسوزي.‏

                              ب- حرف السين في نهاية المصادر:‏

                              هو أوحى ما يكون بمعاني الخفاء والاستقرار، إذ بلغت نسبتها (5،20%) . بينما لم تبلغ هذه النسبة في المصادر التي تبدأ به سوى (3،6%). ثم تليها معاني الرقة والسلاسة والضعف، إذ بلغت نسبها (5،16%). بينما لم تبلغ في المصادر التي تبدأ بالسين سوى (7%) للخفاء.‏

                              ج- ومما يلفت الانتباه أن المصادر المنتهية بالسين التي تدل على الشدة والفعالية مما يتناقض أصلاً مع خصائص الرقة والسلاسة والضعف في صوته، قد بلغت نسبها (5،26%) بينما لم تبلغ هذه النسبة في المصادر التي تبدأ به سوى (5%). فما تعليل ذلك؟‏

                              عندما يقع حرف (السين) في أول اللفظة لابد ان يشدَّ المتكلم على صوته أثناء التلفظ به، فيمنحه ذلك فعالية انزلاقية تحاكي الأحداث الدالة على التحرك والمسير والقشر والسمو، فبلغت نسب هذه المعاني بذلك (38%)، مما حال دون تسلط الحروف القوية على خصائصه الصوتية. ولذلك اقتصرت معاني القوة والشدة والفعالية في هذه المصادر على (5%) منها فقط أما عندما يقع هذا الحرف في آخر اللفظة ، فإن الصوت يخفت به ويسكن مما يحدّ من فعاليته ، ويكون بالتالي أوحى بالخفاء ، والرقة والضعف والاستقرار.‏

                              وهكذا تسنح الفرص للحروف القوية التي تشترك في هذه المصادر للتسلط عليه بخصائصها الصوتية سواء أوقعت في أول المصادر أم في وسطها لتبلغ نسب هذه المعاني (5،26%).‏

                              وهذه الظاهرة اللغوية الصوتية تكشف عما كان العربي يتمتع به من رهافة فائقة في السمع ومن ذوق رفيع في الأدب، قد مكّناه، من أنْ يفرِّق بكثير من الدقة والبراعة بين الإيحاءات الصوتية لحرف السين في أوائل المصادر وبينها في أواخرها بمعرض التعبير عن معانيها، مما لا مثيل له في أية لغة . وهذا يشير إلى مداخلات الشعراء الاصلاء في صناعة اللغة العربية كما أسلفنا في المرجع السابق ص (92) وما بعدها.‏

                              وهكذا نستطيع ان نقرر مع العلايلي والأرسوزي: أن حرف السين يوحي فعلاً بالحركة والطلب والبسط، ولكن عندما يقع في أوائل الألفاظ ، أما عندما يقع في أواخرها فهو هناك أوحى بالخفاء والاستقرار والضعف والرقة وقد فاتتهما هذه المعاني لعدم ملاحقته في نهاية المصادر كما وقع لهما مع الحروف العربية جميعاً.‏

                              وهذا الحرف وان لم يؤثر في معاني المصادر التي تبدأ به إلا بنسبة (56%)، وفي المصادر التي تنتهي به بنسبة (35%)، فإنه قد التزم بطبقته البصرية، فلم يتجاوزها في كلتا الفئتين إلا في ثلاثة للأصوات وستة للمشاعر الإنسانية. وهذا يؤهله للانتماء إلى الحروف القوية الشخصية، على الرغم من رقة صوته.‏

                              8- حرف الشين‏

                              مهموس رخو يشبه رسمه في السريانية صورة الشمس يقول عنه العلايلي:" إنه للتفشي بغير نظام " وهذا صحيح ولكنه قاصر.‏

                              لقد سبق ان ذكرنا أن حرف (الشين) كحرف (الراء) قد تعود أصوله الحركية إلى المرحلة الزراعية.فإذا صح هذا الاحتمال لابد أن تكون المرأة هي التي اعتمدت طريقة النطق به (إيماءً) وتمثيلاً ، عن الأمور التافهة والحاجات المنزلية مما يتعلق بالمرحلة الزراعية ، كما سيأتي في معاني المصادر التي تبدأ أو تنتهي به. ثم تُعتمد (إيحاءاته) الصوتية في مراحل رعوية متطورة لاحقة. فتكتمل بذلك مقومات شخصيته (الإيمائية- الإيحائية)، ويحق له ان يصنّف في زمرة الحروف (الإيحائية) الرعوية الراقية: كما وقع لحرف (الراء)‏

                              وفي الحقيقة، إن بعثرة النفَس أثناء خروج صوت هذا الحرف يماثل الأحداث التي تتم فيها البعثرة والانتشار والتخليط. كما أن طريقة النطق بصوته المبدِّد للنفَس بين شفاه مكشِّرة ، إذا أخذت الكشرة أبعادها ، كانت أصلح ما تكون للتعبير عن توافه الأشياء والأمور.‏

                              أما صوته فهو يوحي بإحساس لمسي بين الجفاف والتقبض.‏

                              فما رصيد هذه الخصائص الإيمائية والإيحائية في المعاجم اللغوية؟.‏

                              بالرجوع إلى المعجم الوسيط عثرت على مئتين وعشرة مصادر تبدأ بالشين، كان منها تسعة وأربعون مصدراً تدل معانيها على البعثرة والانتشار والتشتت والاضطراب بما يحاكي بعثرة النفَس عند خروج صوته، وهي خاصية إيمائية ، منها:‏

                              شأشأ القوم (تفرقوا). التشتت. شرشر الماءُ (تقاطر). شذا المسك شذواً (قويت رائحته وانتشرت). شقأ شعره بالمشط (فرقه). شَظِيَ القوم وتشذّروا (تفرقوا) : تشعب الشيء وتشعَّث (تفرق) الشَّعر للإنسان والحيوان. شعّ الشيء (تفرق وانتشر). شعشع الضوء (انتشر خفيفاً). شعِن شعره (تشعّث وتفرق). شنَّع الخُرقة (شعّثها حتى تنفش). شنَّ السائل (صبّه متفرقاً). شَعَبَ في القوم (هيّج الشر بينهم). شبرقه (قطَّعه ومزقّه ) شرِثت يده (غلظ ظاهرها وتشقّق). شلشل الماء( صبّه متتابعاً). الشمس. الشهرة الإشاعة.‏

                              وكان منها تسعة عشر مصدراً للخلط والتجميع العشوائي، بما يحاكي تدافع النفَس واختلاطه عند خروج صوته. منها : شبث الشيء وبالشيء (تعلق به ولزمه). شحم (سمن وامتلأ) . شحن السفينة وغيرها (حمّلها وملأها). اشترك الأمر (اختلط والتبس). شقر شُقرة (أُشرِبَ بياضه حُمرة). شمج الشيء (خلطه بغيره). شمرج الكلام (خلطه). شمط الشيء (خلطه بغيره).‏

                              شاب (خالط بياض شعره سواد). الشهل (ان يُشرب إنسان العين حمرة). . شاب الشيء بالشيء شوْباً (خلطه به). شوّشه (خلّطه وأساء ترتيبه).‏

                              وكان منها ستة عشر مصدراً لتوافه الأشياء والأمور ، بما يتوافق مع طريقة النطق به والشَّفاه مكشِّرة. منها :‏

                              الشؤم . الشبق (للحيوان ، والغُلمة للإنسان). شَتُمَ شتامة (كان كريه الوجه). الشُحُّ (البخل والحرص). الشعبذة والشعوذة. الشراهة. الشناعة. شاه شوها (قبح). الشيش( تمر لا يعقد نوى، ويصير حشفا إذا جفّ). الشيص (تمر لم ينتج لفساد في تكوينه) شخّ (بال). شحم الطعام (فسد وتغيرت رائحته).‏

                              وكان منها ستة مصادر تدل معانيها على الجفاف والخشونة بما يتوافق مع صدى صوته في النفْس، هي، الشأفة (قرحة تخشن فتستأصل بالكي). شثُنت كفّه (خشُنت وغلُظت). شظُف الشجر (يبس لقلة الري). شمر الشيء(قلصه وضم بعضه إلى بعض). شمز (تقبض وتجمع).شنج (تقبض).‏

                              وكان منها : ثمانية مصادر لأصوات تتوافق جملها الصوتية مع صوت الشين والحروف المرافقة هي:‏

                              شجنت الحمامة (رددت صوتها). شحج البغل (صوَّت). شدا (حدا وتغنَّى). شخر النائم. شخشخ القش (خشخش). شقشق الجمل (هدر). شنشن الثوب الجديد (سُمع له صوت أثناء التحرك). شخب اللبن (خرج من الضرع مسموعاً صوته).‏

                              وكان منها سبعة مصادر لمشاعر إنسانية . هي:‏

                              شجاه الأمر (حزنه). شده فلاناً (أدهشه). أشفق منه (خافه وحَذِرَهُ). شمت به (فرح لمكروه أصابه). شهاه (أحبّه ورغب فيه). شمخر (تكبر). الشوق.‏

                              وهكذا فإن تأثير خصائص الشين الإيمائية في معاني المصادر التي تبدأ به، بما في ذلك ما يدل منها على أصوات قد بلغت (48%) . وهذه النسبة لا تؤهله للانتماء إلى رمزة الحروف القوية‏

                              فماذا عن حرف الشين في نهاية المصادر؟‏

                              بالرجوع إلى المعجم الوسيط عثرت على مئة وعشرين مصدراً جذراً انتهت بالشين. كان منها ثلاثة وأربعون مصدراً تدل معانيها على البعثرة والانتشار والاضطراب مادياً ومعنوياً ، بما يتوافق مع بعثرة النَّفَس عند خروج صوت الشين. منها:‏

                              أَرَشَ بينهم أغرى بعضهم ببعض). بغشت السماء (أرسلت مطرا خفيفاً.) جاش الماء جيشاً (تدفق وجرى). رشّت السماء(أمطرت). رعش (ارتجف). رغش (شغب). ارتهش (ارتعش). الريش للطيور . فرش النبات (انبسط على وجه الأرض). الكناشة (الأصل تتشعب منه الفروع). نشنش الطائر (نتف ريشه وألقاه). نفش (تفرق وانتشر بعد تلبد).هتش الكلبَ( حرّشه وأغراه بالصيد). هاش القوم هوشاً وهيشا (هاجوا واضطربوا).‏

                              على أنه كان من هذه الفئة ايضاً خمسة عشر مصدراً لا تدل معانيها أصلاً على البعثرة والتفشي إلا أن العربي قد جعل الشين في آخر كل منها مضاهاة منه لنهاية الحدث المعني الذي ينتهي بالبعثرة أو التفشي. وذلك (سوقاً للحروف على سمت المعنى المقصود والغرض المراد). كما قال ابن جني . منها:‏

                              جرش رأسه بالمشط (حكّه حتى أثار وسخه). حمش نبات الأرض (حصده). دبشه (قشره). دشّ الحبَّ (دقّه). فتش عن الشيء. (سأل عنه واستقصى). مرش وجهه (خدشه قليلا). ملش الشيء (فتشه بيده كأنه يطلب منه شيئاً). نبش البئر (استخرج ركامها).فتش الشيء (جذبه واستخرجه). نجش الشيء( استثاره واستخرجه). نخش الشيء (قشره). نقش الشيء (بحث عنه واستخرجه). نكشه (اخرج ما فيه). نهش اللحم (تناوله بفمه ليعضه).‏

                              ففي مصدر (جرش) مثلاً، جعل الشين (للبعثرة) في نهايته ، لتضاهي بذلك تناثر الوسخ بعد حك الرأس بالمشط).‏

                              وفي مصدر مرش وجهه (خدشه قليلاً)، جعل الشين في نهايته مضاهاة لظاهرة تفشي الخدوش في الوجه بعد حادثة (المرش)، وهي أقل شدة من حادثة (الخدش). وذلك لأن صوتي) الميم والراء) في مرش، أوحى برقة الملمس ولطافته من صوتي الخاء والدال في (خدش) . وهكذا الأمر مع بقية المصادر.‏

                              وكان منها أربعة وعشرون مصدراً جذراً تدل معانيها على الخلط والتجميع عشوائياً بما يتوافق مع تدافع النفَس عند خروج صوته، منها : أبش الشيء وحكشه ، وعكشه، وعفشه، وهبش المال بمعنى (جمعه) . حبش له (جمع له) . حمش الناس (جمعهم). حاش الدواب (جمعها وساقها).(خبش الشيء وقرشه وقشه، وقمشه بمعنى (جمعه من هنا وهاهنا). خرش لأهله (جمع وكسب).‏

                              كبش الشيء (تناوله بجميع كفه) . وبّش للحرب (جمّع لها من قبائل شتى ، ومنها الأوباش ، بمعنى أرازل الناس). باش الشيء بوشا (خلطه بغيره). غبش الليل (خالط بقية ظلمته بياض الفجر). ماش الشيء بالشيء (خلطه).‏

                              وكان منها ثمانية للجفاف والتقّبض. بما يتوافق مع صدى صوته في النفس هي:‏

                              الأش (الخبز اليابس الهش). حرش الشيءُ حرشا (خشُن). حشّ الشيء (جف ويبس).‏

                              العطش (الحاجة إلى الماء). تكرش وجهه (تقبض جلده)، والكرش للحيوانات المجترة كالمعدة للانسان ، وذلك لظاهرة التقبض في جلدتها). كمشت المرأة (صغر ثديها، والجلد تقبض واجتمع). نشّ (جف وذهب ماؤه). هشّ الخبز (رقّ وجفّ وصار سريع الكسر).‏

                              وكان منها سبعة عشر مصدراً للتوافه والعيوب الجسدية والنفسية، بما يتوافق مع الشين المكشور بها عند النطق بصوتها. هي:‏

                              الخَفَش (ضعف البصر). الدَّوَشُ (ظلمة في البصر، أو حول في العين). الطرش. الطنفش (الضعيف البصر). طنهش العمل (أفسده). الطيش. عمش (ضعف بصره مع سيلان دمع عينه). الغش. الفحش . فشفش (ضعف رأيه). فاش (افتخر وتكبّر ولا شيء عنده).اهترشت الكلاب (تقاتلت). الهمَّرش (العجوز المضطربة الخلُق). همش (اكثر الكلام في غير صواب) .الجحش، الوحش، ورش (أكل شديداً حريصاً).‏

                              مع الإشارة إلى أن ثمة كثيراً من المصادر الواردة في الجداول السابقة تدل على التفاهة أيضاً إضافة إلى معانيها الأصلية . كما في رغش، هتش هاش ، نهش. عكش، عفش، هبش، قرش وبَّش:‏

                              وكان منها مصدران اثنان للأصوات ، بما يتوافق مع صوت الشين . هما:‏

                              جشّ الصوت (اشتد وصار فيه بُحّة). كشّت الحية (صوتت).‏

                              وكان منها أربعة مصادر للمشاعر الإنسانية بما يتوافق إلى حد ما مع خاصية الاضطراب في صوت الشين . هي:‏

                              جأشت نفسه (ارتعشت من حزن أو فزع). جهشت نفسه (تحركت وهمت بالبكاء). حاش حيشاً (فزع) . دهشه (حيره).‏

                              في المقارنة بين المصادر التي تبدأ بحرف الشين والتي تنتهي به:‏

                              يلاحظ ان حرف الشين لهشاشة صوته وضعفه كان أكثر إيحاءً بخصائصه الصوتية عندما يقع في نهاية الألفاظ، إذ بلغت نسبة تأثيره في معانيها (73%). بينما لم تبلغ في المصادر التي تبدأ به سوى (48%).‏

                              كما يلاحظ أن هذا الحرف قد حافظ على طبقته البصرية في المصادر التي تنتهي به فلم يتجاوزها إلآ في مصدرين للأصوات وأربعة للمشاعر الإنسانية بما يتوافق مع خصائصه الصوتية بينما تجاوزها هناك في ثمانية للأصوات وسبعة للمشاعر الإنسانية.‏

                              وهكذا كان هذا الحرف عندما يقع في نهاية المصادر من أشد الحروف قوة شخصية والتزاماً بطبقته الهرمية على الرغم من هشاشة صوته. ولو أضفنا إليها المصادر التي تتوافق نهاية أحداثها مع ظاهرة التفشي في الشين لكانت ارتفعت نسبة تأثيرها في المعاني إلى (86%).‏

                              على أن ما يلفت الانتباه ، هو كثرة المصادر التي تدل على الأمور التافهة والعيوب الجسدية والنفسية ، سواء في المصادر التي تنتهي أو تبدأ به ، ثم كثرة الأشياء والأحداث المتعلقة بالشؤون المنزلية والبيئة الزراعية . وهذا يرجع إلى ما ذهبت إليه، من أن العربي كان أبدعه باحتمال شديد في المرحلة الزراعية لهذه المعاني ، فحافظ له إلى حد بعيد على اختصاصه الإيمائي الفطري هذا في مراحل لغوية لاحقة استوفى خلالها مقوماته الشخصية الإيمائية والإيحائية.‏

                              ولكن يبدو أن العربي عندما أخذ في تهذيب أصوات حروفه وتلطيف النطق بها في مراحل شعرية راقية متأخرة صار يلفظ الشين ، بشيء من الرقة والشفافية دونما كشرة . وهذا ما جعل صوته يوحي بالرقة واللطافة فاستخدمه لهذه الأغراض في بضعة عشر مصدراً . منها:‏

                              البشاشة . العرش . شبَّ . شبّب . شبن. الشادن. الشرف. الشفافية. الشهامة. شنب الثغر (رقت أسنانه وابيضت). . شار الرجل (حسن منظره).‏



                              9- حرف الطاء‏

                              مهموس شديد يشبه شكله في السريانية صورة الطير . ويقول عنه العلايلي: إنه (للملكة في الصفة والالتواء والانكسار). تعريف مبهم.‏

                              صوت هذا الحرف ، إنما هو تفخيم للتاء الرقيقة. وعندما ينفخ في الرقيق ويضخم ، لابد ان نحصل منه على ما هو مجوَّف كالطبل. وهكذا كان صوته أشبه ما يكون بضجّة الطبل. له إيحاء لمسي بين المرونة والطراوة، وله من المذاقات طعم الدسم، ومن الشمِّيات رائحة العطور، وله إيحاء بصري من الضخامة بين التكوّر والفلطحة.‏

                              قد استمد هذا الحرف إيحاءاته الذوقية من تماسِّ اللسان المباشر بكامل مساحته العليا مع سقف الحنك عند التلفظ به، على مثال ما يضغط اللسان على مضغة من اللحم الطري النضيج.‏

                              كما استمد إيحاءاته الشمية من تجاوب صدى صوته مع التجويف الأنفي (الخيشوم).إذ لابد ان يؤثر صدى اهتزازته الطرية اللينة مباشرة في خلايا حاسة الشم عند النطق به يدغدغها بنعومة ورقة كما تدغدغها موجات من نسيمات رائحة ذكية. وبذلك تتنبّه الأعصاب في الخلايا الشمية آلياً لا كيماوياً، فتوحي بإحساس شمي خاص (نظرية حديثة في حاسة الشم) . وذلك على العكس من صوت (الخاء) الرخو المخنخن الذي يوحي بالروائح الكريهة كما سيأتي.‏

                              ويكفي ان نتلفظ بكلمات تدل معانيها على مذاقات وشميات بعضها يتخلله حرف الطاء ، وبعضها الآخر خال منه، لنرى مدى استجابة حاستي الذوق والشم لكل من الصورتين الصوتيتين.‏

                              فعندما يقال لنا في الساحل السوري (بطِّيخ) وهو البطيخ الأصفر، يتبادر إلى الذهن مباشرة دونما أية عملية تذكُّر ، شكله المكور، فلونه الأصفر، فطعمه الحلو، ورائحته العطرة. بمعنى أنه ينبه فينا هذه الأحاسيس. بينما لو قيل لنا برتقاله، فإن شكلها المكور ولونها الوردي هما أول ما يخطران بالتتابع على الذهن، وقد يقف بعضنا عند هذا الحد فلا يتجاوزه إلى طعمها ورائحتها إلا إذا وجد فسحة من الوقت فيستعيدهما على مهل عن طريق الذاكرة.‏

                              وقد يعترض بعضهم على هذا الترتيب في تنبيه الحواس بمجرد ذكر هذه الأسماء. ولكن مما لاشك فيه أنّ عبارة (طبخنا لك طعاماً) هي أكثر إثارة للشهية من عبارة (هيأنا لك زاداً) وعبارة (رائحة عطرة)، هي أرضى لحاسة الشم من عبارة (رائحة ذكية).‏

                              وعبارة (طعام طيب)، أرضى لحاسة الذوق من عبارة (أكل سائغ). فألفاظ (طبخنا وطعام، وطيب، وعطر)، تشغل اللسان كله. وتتجاوب أصداء أصواتها في تجويف الأنف فتثير حاستي الذوق والشم أكثر مما تفعل ألفاظ (هيأنا، زاد، ذكي، سائغ) التي تشغل الذهن أكثر مما تشغله الألفاظ السابقة.‏

                              ويلاحظ أن أهم مصادر الروائح الذكية في حياة البدوي يوجد في ألفاظها حرف الطاء منها، (الطِّيب، العطر، الخمط، وهو الريح الطيب) . وذلك على مثال وجود حرف الراء في أهم مصادر الحلاوة والحرارة في حياة البدوي كما سبق ولحظنا ذلك في حرف (الراء)، ليكون حرف (الطاء) بذلك أكثر الحروف إيحاء بالأحاسيس الشمية الطيبة الرائحة.‏

                              وبالرجوع إلى المعجم الوسيط عثرت على مئة وثمانية مصادر تبدأ بحرف الطاء . كان منها تسعة وثلاثون مصدراً تدل معانيها على الضخامة والعلو والاتساع دونما شدة أو قساوة، بما يتوافق مع إيحاءات الضخامة والفلطحة في صوت الطاء ، منها:الطبل، الطّخّاء (السحاب المرتفع). طغى (جاوز الحد المعقول). طفح الإناء.‏

                              طفر (قَفَزَ من فوقه). طفّ (ارتفع). طلع (ظهر من علو). طمح (ارتفع). طمّ (كثر حتى عظم). طما (ارتفع) . طنشر (ثقل جسمه من اكل الدسم ). طنِخ (اشتد سمنة) . المطهَّم (السمين الفاحش السمن). الطّود( الجبل) . طال. الطوق (كل ما أحاط بشيء خلقة أو صنعة).‏

                              وكان منها تسعة عشر مصدراً تدل معانيها على الطراوة والمرونة والمطاوعة والرقة ، بما يتوافق مع موحيات صوته من الطراوة والمطاوعة. منها:‏

                              طرب (خف واهتز من فرح). طرّ (كان ذا رواء) . طري. الطفل (المولود مادام ناعما رخصا). الطلالة (الحسن والبهجة). طاس (صار كالقمر في حسنه). المطاوعة. الطفطفة (الناعم من لحم البطن).‏

                              وكان منها ستة مصادر تدل معانيها على الطعام ومتعلقاته والروائح الطيبة. هي:‏

                              الطبيخ . طجن الشيء (قلاه وأنضجه). . الطرَّم (شهد العسل). الطعام . الطهي.الطِّيب.‏

                              وكان منها سبعة وعشرون مصدرا تدل معانيها على الضعف والتفاهات والعيوب البدنية والنفسية، بما يتوافق مع جوفية صوت الطاء. منها:‏

                              طأطأ برأسه (خفضها). طخَّ (شرس وساء خلقه). طنفس (ساء خلقه بعد حسن).الطَّنفش (الضعيف البصر) . طني (مرض) . طهش العمل (أفسده). طاش (اضطراب وانحرف).‏

                              طفس (قذر واتسخ). الطليس (الأعمى). طنأ (فجر وزنى). الطِّنجير (الجبان اللئيم).طنز به (سخِر منه). الطَّنبل (البليد الأحمق). الطَّغام (أرازل الناس). الطميس (الأعمى لا يبين حرف جفنه). طمل بكذا (تلطخ). الطَّهمل (الجسم القبييح الخلقة) طاح عقله (اضطرب). طاخ (تلطخ بالقبيح أو بالباطل).‏

                              وكان منها ستة مصادر تدل على أصوات ، بما يتوافق مع جوفية صوته . هي:‏

                              طبطب الماء (صوّت في تلاطمه). طحر (زحر وعلا نَفَسُه للضيق). طنَّ . طنطن . طقَّ طحطح (ضحك) . مع ملاحظة مشاركة (النون والقاف) في ثلاثة منها.‏

                              ولم أعثر على أية لفظة تدل على مشاعر إنسانية ، فليس في صوته الأجوف ما يثير فعلا أية مشاعر إنسانية.‏

                              وباستعراض معاني المصادر الواردة في الجداول الأربعة السابقة ، نجد أن العربي قد التزم بالخصائص الصوتية لهذا الحرف بنسبة عالية بلغت (90%)، لم يحظ بمثلها إلا قلة من الحروف القوية، على الرغم من طراوة صوته ومطاوعته.‏

                              ومما يلفت الانتباه، أننا لم نعثر على أي مصدر يدل على الشدة المادية سوى ثلاثة مصادر. هي:‏

                              طحّه (دلكه بعقبه). طحنه (صيره دقيقا)- طرده.على أن مصدري (طحَّ ، وطحن)، وان كان معنياهما ينطويان على شيء من الشدة، فإن عمليتي الطحِّ والطحن تتفقان مع الخصائص الصوتية لحرفي الطاء والحاء من حيث المطاوعة والنعومة.‏

                              ولا أكتم القارئ أن هذا الحرف قد خيب جميع توقعاتي بصدد تأثيره في معاني الألفاظ التي تبدأ به. فلقد كنت أحسب أن صوته بحكم طراوته وفلطحته أنما هو أضعف من أن يفرض شخصيته الجوفاء على الحروف الأخرى. وان الحروف القوية بالتالي سوف تسوقه قسرا عنه إلى أغراضها ومعانيها ، لتذوب بذلك شخصيته الإمّعية، فلا يبقى له منها إلا طابع الجوفية، هذا إذا واتته ظروف من أوزان وحروف.‏

                              ولكن بدراسة الخصائص الصوتية لهذا الحرف على واقع المعاجم ، تبين أن العربي قد استخدمه بكثير من الدقة والحساسية السمعية، قلّ نظيرهما في بقية الحروف.‏

                              وهكذا احتفظ العربي لهذا الحرف الأجوف بكامل حقوقه الشخصية، عدلا وحقا.‏

                              10 - حرف الظاء:‏

                              مجهور رخو، يعرِّفه الدكتور بشير بأنه (من الأصوات الاحتكاكية، مجهور، مفخم مطبق).‏

                              ويقول عنه العلايلي: إنه (للتمكن). تعريف مبهم‏

                              صوت هذا الحرف إنما هو تفخيم لحرف الذال ، يلفظ ملثوغاً مثله، فخفّ بذلك توتره الصوتي وقلَّت غلظته. وهو يوحي بالفخامة والنضارة والأناقة والظهور، وبشيء من الشدة والقساوة.فما حصيلة هذه الخصائص الصوتية من معاني المصادر التي تبدأ به؟.‏

                              بالرجوع إلى المعجم الوسيط عثرت على ثمانية عشر مصدراً تبدأ بالظاء ، وما أقلَّها . كان منها ستة مصادر تدل معانيها على الرقة والأناقة والنضارة بما يتوافق مع ظاهرة اللثغ في صوت هذا الحرف. هي:‏

                              ظأرت المرأة على ولدها (عطفت عليه). الظبي . الظريف. الظعينة (الهودج أو الزوجة).الظل الظليل. ظميت شفتها (كان فيها سمرة وذبول).‏

                              وكان منها سبعة مصادر تدل معانيها على القساوة بشيء من الخشونة بما يتوافق مع صدى صوته المفخم. هي الظُّبة (حدُّ السيف). الظَّرُّ (الحجر الصوان له حد). الظَّرِب (ما نتأ من الحجارة وحدِّد طرفه ). الظِّفر للإنسان، والجوارح والكواسر). الظِّلف (الظفر المشقوق للماشية).الظنب ( أصل الشجرة). الظُّنبوب (حرف ساق القدم).‏

                              أما المصادر الخمسة الباقية ، فكان بين معانيها رابطة من الشدة والظهور ، بما يتوافق مع الخصائص الصوتية لهذا الحرف. هي:‏

                              الظُّلم (وضع الشيء في غير موضعه). ظهر ، ومن مشتقاتها (الظُّهر والظهيرة). الظَّلع (العرج). الظمأ (شدة العطش). الظنّ (الشك بما يقارب اليقين).‏

                              ولكن ماذا عن هذا الحرف في آخر المصادر؟.‏

                              بالرجوع إلى المعجم الوسيط عثرت على ثلاثة وعشرين مصدراً جذراً، وما أقلَّها أيضاً . كان منها ستة عشر مصدرا تدل معانيها على الشدة والامتلاء والظهور ، بما يتوافق مع ظاهرة التوتر والفخامة في صوت الظاء . هي:‏

                              بهظه (شق عليه). دأظ (امتلأ ، سمن). دلظ في سيره (مرَّ مسرعا ). عظّ (اشتد).عكظ عليه الأمر (تعسر وتمنع). غلُظ. غاظه (أغضبه). وكظ (واظب على). جحظت عينه.قاظ اليوم (اشتد حرُّه). فظّ . كنظه الأمر (جهده ، وشق عليه). كظّ السيل بالماء (ضاق من كثرته). كظكظ السِّقاء (تمدد وانتفخ كلما صبَّ فيه الماء). لظّ به (لزِمه ولم يفارقه ). لظلظت الحية برأسها (حركته من شدة غيظها).‏

                              وكان منها ستة مصادر تدل معانيها على الرقة والأناقة، بما يتوافق مع ظاهرة اللثغ في صوت الظاء . هي:‏

                              حظَّ . حفظ. قرَّظَ فلانا (مدحه). لحظ. لفظ. وعظ.‏

                              وكان منها مصدر واحد لعيب في البدن . هو:‏

                              أخظّ الرجل (استرخى بدنه واندال). وذلك لأن الخاء مختصة بالعيوب الجسدية والنفسية والقذارة كما سوف نرى.‏

                              لتبلغ نسبة تأثير خصائص هذا الحرف في معاني المصادر التي تنتهي به، أكثر من (95%).‏

                              ثم ماذا عن المصادر التي يتوسطها هذا الحرف؟.‏

                              بالرجوع إلى المعجم الوسيط عثرت على سبعة وعشرين مصدراً. كان منها ستة تدل معانيها على الامتلاء. بما يتوافق مع ظاهرة التفخيم في صوته. هي:‏

                              بظا لحمه (اكتنز وتراكب. خظا لحمه (اكتنز). كظب (امتلأ سِمنا). كظا لحمه (كثر واكتنز). عظر السقاء (ملأه). كظم السقاء (ملأه وسدَّ فاه)، ومنه كظم غيظه.‏

                              وكان منها عشرة مصادر تدل معانيها على الشدة والقسوة. هي:‏

                              حظر عليه (حجره ومنعه). حظل عليه (ضيَّق وقتَّر). شظف (يبس لقلة الرى). عظّه بالأرض (ألزقه بها). تعظلم الليل (اشتد سواده). عظل بالكلام (عقّده وصعّبه). عظاه (اغتاله، سقاه ما يقتله). فظع بالأمر (استعظمه وهاله). كظر القوس (حزّ طرفيها). لظيت النار (تلهبت).‏

                              وكان منها خمسة مصادر تدل معانيها على الرقة والأناقة ، ماديها ومعنويها. هي:‏

                              الحُظوة. نظر إلى الشيء (أبصره وتأمله بعينه). نظم الأشياء (ألَّفها وضمَّ بعضها إلى بعض). النظافة مظع الوتر (ملَّسه ويبّسه).‏

                              ويلحق بهذه الفئة مصدر واحد هو. وظف القوم (تبعهم).‏

                              وكان منها مصدران للعيوب الجسدية والنفسية . هما:‏

                              بظِرت شفته العليا (نتأ وسطها مع استطالة). بظرم (حمق) . وذلك لتنافر أصوات الحروف فيهما.‏

                              لتبلغ نسبة المعاني التي تأثرت بصوت هذا الحرف هنا (90%).‏

                              وباستقراء معاني المصادر التي يشارك فيها هذا الحرف في الجداول السابقة نلاحظ ان حرف الظاء قد تفرَّد عن سائر الحروف العربية بالميزات التالية:‏

                              1- ندرة الألفاظ الدالة على عيوب جسدية أو نفسية ، إذ اقتصرت على أربعة فقط. ولكن دونما أي قذارة أو فجور في معانيها. هي : (ظلع. أخظَّ. بظر. بظرم).‏

                              وذلك يرجع إلى ما في صوت الظاء الملثوغة من موحيات الفخامة والعذوبة والنضارة والأناقة ،بما يتناقض أصلاً مع معاني الخسَّة والقذارة والتشوهات الجسدية والنفسية والفحش.‏

                              2- التزام معاني جميع هذه المصادر بالطبقة البصرية لهذا الحرف، لم تتجاوزها إلا في مصدر واحد للمشاعر الإنسانية، هو (غاظ) ولا شيء للأصوات. مما يدل على تمتع هذا الحرف بشخصية فذَّة. مع الإشارة إلى أن الغيبوبة النفسية في الغيظ ترجع للغين كما سيأتي.‏

                              3- لم أعثر في المعجم الوسيط على أية لفظة دخيلة أو معربة أو مولدة أو محدثة في مشتقات جميع المصادر التي شارك في تركيبها هذا الحرف سوى لفظة (وظيفة) بمعنى المنصب والخدمة المعينة. وذلك لعدم وجود حرف الظاء في لغات الشعوب المجاورة من غير الساميين.‏

                              ولكن ما علة اقتصاد العربي في استخدام صوت هذا الحرف في مختلف مواقعه من الألفاظ ، بمعرض التعبير عن أحاسيسه ومعانيه ، إلى هذا الحد من القلة (68) مصدرا في المعجم الوسيط؟. فكاد العربي بذلك أن يحرم لغته من مصدر صوتي فريد في عذوبته وترفه وأرستقراطيته مما حدا ببعض القبائل العربية أن تلفظ كل ضاد ظاء، تعشقاً لسماع هذا الصوت المفخم الأنيق: (اللهجة العراقية ، واللهجة الديرية في سورية).‏

                              لعل هذا يرجع إلى استحالة اجتماع صوته مع أصوات بعض الحروف في لفظة واحدة، وإلي تعذّر تلاؤم صوته مع مجموعات كثيرة من الحروف لتأليف ألفاظ تحافظ معانيها على موحيات الفخامة والأناقة والنضارة في صوته.‏

                              وقد يرجع ذلك أيضاً إلى استعاضة العربي عن هذا الحرف بالذال الملثوغة.‏

                              على أن أشد منافسي هذا الحرف على معاني الفخامة والأناقة والنضارة، كان حرف الضاد مخرج صوت وخصائص ، كما سوف نرى.‏

                              وقد يرجع ذلك أيضاً ثالثا إلى أن العربي لم يبدع صوت هذا الحرف إلا في مرحلة لغوية مترفة راقية من مراحل الحياة الرعوية الشعرية المتأخرة، فكان صوته بذلك أقلَّ حروف الدنيا استعمالا على الإطلاق.‏

                              11- حرف الغين:‏

                              مجهور ، رخو. قد اتفق العلايلي والأرسوزي على أنه (لغؤور المعنى والغموض والخفاء). وهذا هو أقلُّ من واقعه الصوتي.‏

                              فظاهرة الغؤور والغموض في حرف الغين، انما هي مستمدّة من طبيعة صوته. فهو لا يوحي بالغموض فحسب، وانما بالامِّحاء والعدم أيضاً.‏

                              إن صورته الصوتية وهو يدغدغ سقف الحلق عند خروجه، لهي أشبه ما تكون بدغدغة محسَّة من حديد تزيل غباراً عالقاً بجلد بعير. وإذا خُفف صوته قليلا، كان أشبه بحفيف ممحاة من نسيج خشن تحكُّ خطوطا طباشيرية مرسومة على لوح أسود، ويتطاير الغبار.‏

                              فهذه هي حكاية حرف الغين: صورة صوتية يقابلها في الطبيعة صورة تمثيلية: اهتزاز واضطراب وبعثرة نفَس في صوت الغين ، ودغدغة محسّةٍ أو ممحاة ، أو راحة كفِّ خشنة، وغبارٌ يتناثر في الهواء . هذه هي الخصائص الإيمائية في صوت الغين، فماذا عن خصائصه الإيحائية؟.‏

                              ماذا يوحي لنا صوت (غ-غ-غ..)؟.‏

                              لا شيء قطعاً إلاَّ غرغرة الموت والامِّحاء. فصوته عندما يخرج من فوَّهة الحلق، إنما يخرج مخربّا ممحوّ الألوان مجلببا بالسواد. وهكذا نسمع صوت هذا الحرف مثلما نرى الليل المظلم البهيم.‏

                              فما رصيد الخصائص الإيمائية والإيحائية في صوت الغين من الحقيقية على واقع المعاجم اللغوية؟.‏

                              بالرجوع إلى المعجم الوسيط عثرت على مئة وخمسين مصدراً تبدأ بحرف الغين. كان منها اثنان وعشرون مصدرا تدل معانيها على الاضطراب والبعثرة والتخليط، بما يماثل الاهتزاز في صوت الغين، وبعثرة النفَس عند خروجه. منها:‏

                              الغُبار (لبعثرته). الغثَر (ما يعلو الثوب كالوبر). غثم الشيء وغثمره (خلطّه).‏

                              الغُثاء (رغوة القدر). أغدق المطر( كثر قطره). غدرم الكلام (اختلط ). غربل الحَبَّ (نقَّاه بالغربال من الشوائب، لظاهرة الاهتزاز في هذا الحدث). غرغر الرجلُ (ردَّد الماء في حلقه). تغسّر الأمر (اختلط والتبس). الغصن (ما تشعَّب من ساق الشجرة ، دقيقه وغليظه). غلت الشيءَ (خلطه). غليان القدر. غيد (تمايل وتثنَّى في لين ونعومة).‏

                              وكان منها ثلاثة مصادر لمشاعر الغضب، في تماثل بين ظاهرة الانفعال النفسيِّ في حالاته وبين ظاهرة الاضطراب في صوت الغين، على شيء من الغيبوبة في الوعي هي: غضب. غاظ. غذفر.‏

                              وكان منها سبعة مصادر لأصوات تحاكي ما في صوت الغين من غرغرة وغمغمة هي:‏

                              غرِد الطائر (رفع صوته بالغناء وطرَّب فيه). غطفت القدر وغقّت (صوَّتت في غليانها). غقفق الصقر (رقَّق صوته). غمغم (صوّت من فزع). الغوغاء (الصوت والجلبة). الغُنَّة (صوت يخرج من الخيشوم).‏

                              وهكذا بلغت نسبة تأثر معاني المصادر التي تبدأ بالغين بخصائصه التمثيلية(21%). كما كان منها خمسة عشر مصدرا تدل معانيها على الظلام والسواد بما يتوافق مع موحيات صوت الغين. هي:‏

                              غبس الليل (أظلم). غبش الليل (خالط بقية ظلمته بياض الفجر). أغدق الليل (أرخى سدوله). الغِربيب (الشديد السواد، أسود غِربيب). غسق الليل وغسا وغشي، وغسم وغطش ( أظلم). غضف الليل (أظلم واسودَّ). غضا الليل (عمّ ظلامه كلَّ شيء). غطا الليل ( أظلم وسترت ظلمتُه كلَّ شيء). الغلَس (ظُلمة آخر الليل إذا اختلط بضوء الصباح). الغيهب (الظُّلمة). تغيَّق بصره (غشيته ظُلمة فأظلم).‏

                              وكان منها تسعة وثلاثون مصدرا تدل معانيها على الخفاء والستر والغياب. منها:‏

                              غبَّت الحمىّ فلانا (أخذته يوماً وتركته آخر). غتَّه في الماء وغطّه وغطّسه (غمسه فيه).‏

                              غربت الشمس (اختفت في مغربها). غرا السِّمن قلبه غَروا (لصق به وغطاه). غثر الشيء (ستره). تغلغل في الشيء (دخل فيه). الغِلاف. الغمد. أغلق الباب. غَلَم الإنسانَ (غطّاه ليعرق). غمت الشيء وغمّه (غطاه). غمره (علاه وستره). اغمض عينيه . غاص. غاط في الشيء غوطا وغيطا (دخل فيه وغاب). غمى البيت غموا وغميا (سقفه). غار الماء. غاب. الغيم. غانت السماء (غامت).‏

                              وكان منها اثنان وعشرون مصدراً تدل معانيها على غيبوبة وجدانية أو نفسية أو عقلية . منها:‏

                              غبغب (خان في بيعه وشرائه). غبنه في البيع (غلبه ونقصه). غبيَ الشيء عنه (خفي عليه فلم يعرفه). غدر فلاناً وبه (نقض عهده وترك الوفاء به) . غرّ الرجل (جهِل الأمور وغفِل عنها). الغرام (التعلق بالشيء تعلقاً لا يستطيع التخلص منه). غشم فلانا (ظلمه أشد الظلم). غشمر فلان (ركب رأسه في الحق والباطل لايبالي ما صنع). غطرس ( أعجِب بنفسه). المغفَّل (من لا فطنة له). غفا غفوا (نام قليلا). غفي غفا (نِعس). غلط (اخطأ وجه الصواب). غنجت المرأة (تدللت على زوجها بملاحة كأنها تخالف وليس بها خلاف). الغَوْل (ما ينشأ عن الخمر من صُداع وسُكر). غوى ( أمعن في الضلال). غطرف (عبث واختال وتكبر)‏

                              وهكذا بلغت نسبة المصادر التي تأثرت معانيها بخصائص الغين الايحائية (51%). لترتفع هذه النسسبة مع خصائصه الايمائية إلى (72%)، مما يؤهله للانتماء إلى زمرة الحروف القوية الشخصية، ما دامت المصادر التي تدل على أصوات ومشاعر الغضب، قد تأثرت بالخصائص الإيمائية والإيحائية لحرف الغين ، كما مرَّ معنا.‏

                              ولكن ماذا عن هذا الحرف في نهاية المصادر؟‏

                              بالرجوع إلى المعجم الوسيط عثرت على أربعة وستين مصدراً جذراً تنتهي بالغين. كان منها خمسة عشر مصدراً تدل معانيها على الاهتزاز والبعثرة والتخليط ، بما يتوافق مع خصائص الغين الإيمائية في الاهتزاز والبعثرة. منها، مع بيان الرابطة بين معاني بعضها وبين خصائص الغين الإيمائية.‏

                              بثغ الجسد (ظهر فيه لون الدم، للبعثرة). بزغت الشمس (بدا طلوعها، لبعثرة اشعتها). بغبغ الكلام (خلّط). بغَّ الدم، وتبوغ ، وباغ بيغا ( هاج وثار، للاضطراب). ثمغ الألوان (خلطها). ريّغ الطعام (دسّمه ، لظاهرة تخليط الطعام بالدسم). دغدغ الصبيَّ (حكّه في موضع حساس يحدث انفعالا ، لظاهرة الذبذبة في الحكِّ والارتعاش في موضع الحدث). نشغ الشيء (انتشر). نضِّغ الشيء (لوّنه بسواد وحمرة وبياض مخلوطة غير متبينة ). الوزغ ( الارتعاش والرعدة).‏

                              وكان منها مصدران اثنان للخفاء . هما:‏

                              دمغ فلانا (غلبه وعلاه، والحقُّ الباطلَ ، محاه)، زغزغ الشيء (خبّأه وأخفاه).‏

                              وكان منها عشرة مصادر لغيبوبة نفسية أو وجدانية أو عقلية . هي:‏

                              راغ (ذهب يمنة ويسرة في سرعة وخديعة). زاغ زوغاً وزيغا (مال عن القصد أو الحق) تليَّغ (تحمَّق). مذغ (كذب وادَّعى). ملغ في كلامه (تحمَّق). نزغ فلانا (طعنه برمح، أو اغتابه وذكره بالقبيح). الهِبيَّغ (المرأة الحمقاء والفاجرة لا تردُّ يد لامس).‏

                              ولا شيءَ للظلام ولا للأصوات والمشاعر الإنسانية.‏

                              لتبلغ نسبة تأثر معاني هذه المصادر بخصائص الغين الإيمائية والإيحائية (42%) . فقط. ومما يلفت الانتباه ، في المصادر التي تنتهي بالغين عدم وجود أيٍّ منها يدل معناه على ظلام الليل والسواد ، واقتصار معاني الخفاء المادي على مصدرين اثنين فقط. بينما كان في المصادر التي تبدأ بالغين خمسة وخمسون لمعاني الظلام والسواد والخفاء المادي.‏

                              فما تعليل هذه الظاهرة؟.‏

                              إذا كان العربي يشدُّ بصوته أصلاً على أصوات الحروف التي تقع في مقدمة الألفاظ، ويخفت بها في نهايتها ، كما مرَّ معنا، فانه لابد أن يكون ثمَّة رابطة أصيلة بين الظلام والسواد، وبين الشدِّ على صوت الغين.‏

                              وهذه الرابطة ، ما أحسبها تخرج عن واقعة التماثل بين ظاهرة التخريب في صوت الغين، وبين واقعة حك الخطوط والألوان بشدَّة من على الجدران أو الصخور أو الألواح، أووجه الأرض وما إليها. حتى إذا خُفِت بصوت الغين قليلا في نهاية اللفظة، كان أكثر تمثيلاً لوقائع الاضطراب والبعثرة المارة الذكر، من واقعة حك الخطوط والألوان.‏

                              فهل للقارئ تعليل آخر؟.‏

                              وقبل أن أنتهي من حديثي عن حرف الغين ، أرى من المفيد أن أقوم بتحليل معاني بعض المصادر التي تبدأ بالغين أو تنتهي به، للكشف عن العلاقة الفطرية بين معانيها وبين الخصائص الصوتية لهذا الحرف.‏

                              وإنَّها لفرصة طيبة مع حرف الغين لفهم طبيعة الذهن العربي بمعرض انتقاله من المعاني الحسية إلى المعاني المجردة، للكشف عن المضامين الاجتماعية والفنية والفلسفية في اللفظة العربية بالرجوع إلى خصائص حروفها، ولتصحيح شروح معانيها في المعاجم اللغوية عند الاقتضاء.‏

                              في الأمثلة:‏

                              1- غشم فلانا: (ظلمه أشد الظلم).‏

                              جاءءت من غشم الحاطب (احتطب ليلا فقطع كلما يقدر عليه بلا نظر ولا فكر).‏

                              واذن فالغشم (بفتح الغين وتسكين الشين)، ليسس مجرد اعتداء على حقٍّ معين من الحقوق، وانما هو اعتداء على ما يقدر الغاشم عليه من حقوق مادية ومعنوية لغيبوبة في الوجدان.ويقال حرب غشوم وحاكم غشوم. ولقد جعل العربي الغين (للظلام والسواد والخفاء) في مقدمة غشم مضاهاة لبداية حدث الاحتطاب (ليلا). ثم أتبعه بالشين (للتفشي والانتشار)، مضاهاة لواقعة الاحتطاب وعشوائياً من هنا وهاهنا. ثم جعل الميم (للانجماع والانضمام) في نهاية اللفظة، مضاهاة لنهاية الحدث بجمع الأحطاب ووضعها في حزم. وذلك (سوقا) للحروف على سمت المعنى المراد والغرض المقصود)، كما قال ابن جني.‏

                              2- غبنه في البيع.‏

                              جاءت من الغبن (بفتح الغين والباء) ، ومعناه ( الموضع الذي يُخفى فيه الشيء). وإذن فالغبن (بفتح الغين وتسكين الباء). في البيع والشراء ، لايحصل أصلا إلا لِخفاء أمر يتعلق بالمبيع ، إما لجهل في سعره أو في أوصافه. والغَبْن قانونا، لايكون موجبا للابطال أو التعويض إلا إذا تجاوز خمس قيمة المبيع مع فاقد الأهلية ، لعلة الجهل (المادة 393 من القانون المدني السوري )، أو للغلط (المادة 121) أو للغش والتدليس.وهذه الأسباب الثلاثة تبدأ بحرف الغين، لعلة الجهل والخفاء، قد جعلت الغين في المقدمة مضاهاة لجهل الشاري ابتداء ثم تلتها الباء (للحفر) مضاهاة لموضع الخفاء في المبيع. ثم جعلت النون في نهاية اللفظة (للاستكانة، كما سوف نرى) مضاهاة لواقعة القبول بالصفقة الخاسرة.‏

                              3- في لفظة الغرام.‏

                              جعل الغين في المقدمة ، مضاهاة لبداية هذه الحالة من غيبوبة نفسية. فكانت الغين للتعبير عن وجهة نظر العربي في إدانة هذه الحالة وصاحبها. ثم أتبعها بالراء (للتحرك والاضطراب) . مضاهاة لاضطراب المشاعر. ثم جعل الميم في نهايتها (للانجماع والانضمام) مضاهاة لنهاية هذه الحالة من تعلق / شامل مكتوم لاخلاص للنفس منه.‏

                              4- في لفظة غطرس.‏

                              جاءت الغين في المقدمة للغيبوبة النفسية التي تعتري المعجب بنفسه.وادانة لصاحب هذه الحالة.‏

                              5- وفي لفظة غنِجت المرأة.‏

                              لبيان أن المرأة تخفي في تدللها على زوجها أمرا غير الذي أظهرته .‏

                              6- ومما يلفت الانتباه أن لفظة (الدماغ)، بمعنى (حشو الرأس من أعصاب ونحوها) ، قد جاءت من مصدر (دمغ)، بمعنى الغلبة والمحو، مما لا رابطة حسية أو معنوية تجمع بين المعنيين. وأرى ان العربي قد عمد إلى تصوير الدماغ بأصوات الحروف. فالدال (للقساوة) ، تضاهي قساوة عظم الجمجمة، والميم تضاهي انجماع الأعصاب في غلافه داخلها، والغين تضاهي واقعة خفاء هذه المجموعة العصبية عن النظر داخل الجمجمة‏

                              7- وفي لفظة راغ، الراء (للتحرك والتكرار) تضاهي ما في هذا الحدث من ذهاب يمنة ويسرة بسرعة ، والغين تضاهي مافي هذا التحرك من خدعة خفية.‏

                              استطراد لابد منه،‏

                              ونظراً لكثرة المصادر التي يشارك حرف (الغين) في تركيبها مما يدل على الغيبوبة (الوجدانية والنفسية والعقلية) فقد صنفته في (الاطلالة ص73) في زمرة الأحرف (اللاشعورية) مع حرفي (الخاء والهاء) للمعاني الرديئة.‏

                              12- حرف الفاء‏

                              صوت هذا الحرف مهموس رخو. يقول العلايلي عنه: إنه، (يدل على لازم المعنى، أو المعنى الكنائي). تعريف مبهم. ويقول عنه ابن جني، إنه : لرقة صوته، كثيراً ما يضفي معنى الضعف والوهن على الالفاظ التي يدخل في تراكيبها ، ولاسيما المؤلفة من حروف : (د. ت. ط. ر. ل. ن).‏

                              ولكن هذا الحرف بحفيف صوته الرقيق وبعثرة النفَس لدى خروجه من بين الأسنان العليا وطرف الشفة السفلى، يوحي بملمس مخملي دافئ ، كما يوحي بالبعثرة والتشتت. لتكون الخصائص الصوتية لهذا الحرف موزعة بين اللمسي والبصري.‏

                              ولقد كنت أتوقع فعلاً أن يضفي صوت هذا الحرف معاني الضعف والوهن والتشتت على الألفاظ التي يدخل في تراكيبها ، أخذا بالقاعدة الصوتية التي اعتمدتها في هذه الدراسة (حذوا لمسموع الأصوات على محسوس الأحداث ). كما قال ابن جني.‏

                              ولكن باستقراء معاني المصادر التي تبدأ بهذا الحرف في المعجم الوسيط لفت انتباهي أن قرابة ثلاثين في المئة منها تدل معانيها على الشق والقطع والشدخ. أحداث يتطلب تنفيذها شيئاً من القوة والشدة والفعالية ، مما يتناقض أصلا مع موحيات الرقة والوهن والضعف في صوت حرف الفاء.‏

                              فلم ذلك؟.‏

                              بتمحيص معاني هذه المصادر المذكورة آنفا وجدت أن ثمة رابطة أخرى تجمع بينها غير رابطة القوة والشدة. فهذه الأحداث ، وإن كان تحقيقها يتطلب في الغالب بعض القوة والشدَّة، فإن ظاهرة (الانفراج) تؤلف بينها جميعا.‏

                              فما هو سرُّ تفشي هذه الظاهرة في معاني معظم المصادر التي تبدأ بحرف الفاء، سواء مادَلَّ منها على الشدة أم الضعف؟.‏

                              لئن كان من نهج العربي بمعرض التعبير عن معانيه أن يطابق بين الصورة البصرية (المرئية) للحدث أو الشيء ، وبين الصورة الصوتية المعبرة عنه إيحاء، وذلك (حذوا لمسموع الأصوات على محسوس الأحداث) فإنه قد كان لهذه القاعدة شذوذ خاص مع حرف الفاء. فالمطابقة مع هذا الحرف قد تمت هنا بين الصورة البصرية للحدث في (الشق والفصل والقطع) ، وبين الصورة البصرية لكيفية خروج صوت الفاء من بين الأسنان العليا والشفة السفلى، أي وفقا لطريقة النطق به، إيماء وتمثيلاً.‏

                              وتوضيحاً لذلك أبين مايلي:‏

                              عندما يخرج النفَس مع صوت الفاء على المدرج الصوتي يبدو لنا وكأن الأسنان الأمامية العليا هي التي تقوم بالضرب خفيفا على طرف الشفة السفلى، حبْساً للنفَس ، ثم يتمُّ الانفراج بينهما بشيء من التأنّي، فيخرج الصوت مع النفس المبعثر أثناء الانفراج ضعيفاً واهياً.‏

                              وهكذا فالصوررة البصرية لعملية خروج صوت الفاء تمثل ضربة الفأس (الأسنان العليا) ، على الأرض، (الشفة السفلى). كما أن بعثرة النفَس ، تمثل بعثرة التراب المحفور.‏

                              وفي الحقيقة إن انفراج الأسنان العليا عن الشفة السفلى (كصورة بصرية مرئية) يمثَّل الأحداث الطبيعية التي يتم فيها الشقُّ والفصل والتفريق والتبعيد والتوسُّع.....‏

                              كما أن بعثرة النفَس عند خروج صوت الفاء يحاكي الأحداث التي تنطوي على البعثرة والتشتت دونما عنف أو شدَّة.وبالرجوع إلى المعجم الوسيط عثرت على مئتين وواحد وعشرين مصدرا تبدأ بحرف الفاء . كان منها ثمانية وخمسون مصدراً تدل معانيها على الشق والفصل والحفر بما يحاكي ضرب الأسنان العليا بشيء من الشدة على الشفة السفلى قبل خروج صوت الفاء . منها:‏

                              فأس الخشبة (شقها). فأى رأسه (فلقه). فتق الشيء . (شقّه). فثغ رأسه (شدخه).فدغ الشيء (كسره). أفرخت البيضة( انفلقت عن الفرخ). فرص الثوب (شقه طولا). فرى الشيء (شقه). فزر الثوب (شقه) . فسأ الثوب (مدّه حتى تفزر). فسق كل ذي قشر (خرج عن قشره). فشّ القربة (اخرج مافيها من ماء أو هواء). فحث في الأرض (بحث).فشق الشيء . (كسره) . فرّقَ . فصد العِرق (شقه ) فصم الشيء (شقه). فصل بين الشيئين (فرّقَ) . فضحه (كشف معايبه). فضّ اللؤلؤة (خرقها). فطم العود (قطعه). فقأ العين (شقَّها.) فقس الطائر بيضَه (كسرها ليخرج الفرخ). فقش البيضة (فضخها). فقع الشيء (شقه). فقص (فقس). فكَّ الشيء (فصل اجزاءه). فلز الشيء وفلعه (شقه) فَلَعَ رأسه (شدخه). فلقت النخلة (تشقق طلعها) . افتلم أنفه (جدعه).‏

                              وكان منها ثمانية وأربعون مصدراً تدل معانيها على الانفراج والتباعد والاتساع، بما يحاكي انفراج الفم عند خروج صوت الفاء. منها:‏

                              أفأم الدلو (وسّعه وزاد فيه). الفتخة (حلقة من ذهب أو فضة). فجّ (باعد بين رجليه).الافجل (المتباعد بين الساقين). الفجوة (المتسع بين شقين). فحج (تدانت صدور قدميه وتباعدت عقباه). الفدفد (الأرض الواسعة لاشيء فيها). الفردسة (السَّعة). الفاختة (ضرب من الحمام يوسع في مشيه ويباعد بين جناحيه وابطيه). الفرسخ (الفرجة). فرشخ (باعد بين رجليه). فرض الشيء فروضاً (اتسع). فرطع الشيء وفلطحه (بسطه ووسَّعه ). الفراغ . الفُسحة. الفرطاس (العريض). تفضَّج الشيء (توسَّع). .فضفض الشيء (اتّسع). فغر فمه (فتحه). فغم النّوْر (تفتح). فغا الشجر (تفتح نوره). فقح النبات (تفتح وازدهر). فقّ الشيءُ (انفرج). فلج الرجل (تباعد بين ساقيه أو يديه أو اسنانه خلقة). فلك ثدي الفتاة (استدار) . فنجل (مشى متباعداً ما بين ساقيه). الفائجة (متسع بين مرتفعين). الفوه ، الفم ، الفَيف (الصحراء الواسعة).‏

                              وكان منها أربعة عشر مصدراً تدل معانيها على التّشتت والبعثرة والانتشار برقَّة ولطافة ، بما يحاكي بعثرة النفّس لحظة خروج صوت الفاء ضعيفاً واهياً منها:‏

                              فرش النباتُ (انبسط ). فشغ الشيءُ (انتشر). فشل لحيته (نفشها). فاح فوحا وفيحا (انتشرت رائحته) . فاحت ريح المسك (انتشرت حتى تأخذ بالنفس). فاع الطيب (انتشرت رائحته) . فاج فيجا (انتشر) . تفصفصوا عنه (تفرقوا). فث وعاء التمر (نثر تمره)، لتدخل (الثاء) ايضاً.‏

                              وكان منها خمسة مصادر تدل معانيهاا على أصوات تترافق أصلاً مع ظاهرتي الانفلاق والانفراج هي.‏

                              فقفق الماء (صوَّت). فحّت الأفعى وفخَّت (صوتت). فحفح ( أخذته بُحَّة في صوته). فرقع (سُمع له دوي).‏

                              وكان منها مصدران اثنان للمشاعر الانسانية . هما : (فرح ، فزع). لتدخُّل حرفي الحاء والعين الشعوريين. أما ما يدل على الضعف والرقة والوهن بما يحاكي صدى صوت الفاء في النفس ، فكان لها واحد وعشرون مصدراً ، منها:‏

                              الفُتات ( ما تكسَّر من الشيء وتساقط). فتر (لان بعد شدَّة). فدر (فتر). فره (حسن وجمل). فشفش (ضعف رأيه). فِكه (كان طيِّب النفْس مزَّاحا). فلِس منه (خلا منه وتجرد). فنش في الأمر (استرخى فيه). فنِد (ضعف رأيه من الهرم). فهفه الرجل (عيَّ وكلَّ لسانُه). فني الشيء (باد) . فهَّ (زلّ من عِيّ أو غيره). فثئ الرجل (انكسر غضبه).‏

                              وهكذا فإن هذا الحرف على ضعف صوته ، قد طبع بخصائصه الإيمائية قرابة (60%) من المصادر التي تبدأ به. ليقتصر على طبع (10%) فقط بموحياته الصوتية من الضعف والرقة والوهن (حذوا لمسموع الأصوات على محسوس الأحداث)، بما مجموعه (70%).‏

                              فما السر في تفوق الخصائص الايمائية في صوت هذا الحرف على خصائصه الإيحائية؟.‏

                              لقد سبق أن عرضت في الدراسة الثانية (ص 131) أنَّ حرف الفاء كان أحد الحروف التي أبدعتها المرأة في المرحلة الزراعية. فالمرأة في تلك المرحلة كسيدة للأسرة والمجتمع بحكم استقرارها في بيئة محدودة (كوخ. حظيرة. حقل. حديقة ..) ، كانت أقلَّ حاجة من الرجل في مرحلتي الغاب والرعي إلى ابتكار الأصوات للتعبير عن حاجاتها المستجدة. فلقد كان من الأسهل عليها والأوضح والأدقَّ أيضاً، أن تستخدم إشارات اليدين وقَسَمات الوجه وحركات الفم واللسان، للتعبير إيماء بالتمثيل والمحاكاة عن حاجاتها ومعانيها، سواء أترافقت تلك الإشارات والحركات بأصوات معينة أم كانت خرساء صامتة بلا أصوات.‏

                              وبذلك يكون من المرجَّح أن المرأة هي التي اهتدت إلى صوت (الفاء) بمعرض استخدامها حركة الفم بضرب الأسنان العليا على الشفة السفلى للتعبير عن حادثة الحفر في الأرض كأهمِّ عمل في حياتها الزراعية. فكانت حركة الفم بذلك أسبق في الزمن من صوت حرف (الفاء) . لتسقط الإشارات المرافقة له مع تطور اللغة في المرحلة الرعوية اللاحقة ، فلم يبق منها إلاَّ حركة ضرب الأسنان العليا على الشفة السفلى بالقدر اللازم لخروج صوت (الفاء) ضعيفاً واهياً ، وكأنه لا علاقة بينه وبين ضربة الفأس القوية على أرض طرية. وذلك على مثال ما اهتدت المرأة بالذات إلى كل من حروف (اللام والثاء والذال) بمعرض استخدامها طرف اللسان للتعبير عن عمليات المضغ (باللام)، وعن جنسي الأنوثة والذكورة (بالثاء والذال) قبل أن تهتدي إلى أصواتها كما مر معنا.‏

                              فالمرأة بحكم أمومتها الفطرية التي استتبعت أصالتها الحضارية ، كانت على مر الزمن هي الأرهف حسا ومشاعر ، والأولع بفنون الرقص والتمثيل والغزل، والأبرع في دنيا الصناعات اليدوية والمنزلية ومبتكراتها، مما يؤهلها أكثر من الرجل لإبداع الحركات والإشارات الإيمائية في المرحلة الزراعية بمعرض التعبير عن حاجاتها ، فتحول بعضها إلى أصوات حروف. ليتفنّن الرجل الراعي بعدها في استخدام هذه المادة الخام من الحروف بذات المنحى من المعاني بصورة عامة. لا يؤثر في صحة هذا الرأي أن تشذ عن ذلك معاني بعض الألفاظ التي تبدأ بهذه الحروف مما أبدعه الرجل في المرحلة الرعوية : حذوا لمسموع الأصوات على محسوس الأحداث ، وليس ايماء وتمثيلاً.‏

                              ولو عاد القارئ إلى معاني الألفاظ التي تبدأ أو تنتهي بأي حرف من الحروف ، لوجد فيها من الأدلة المحسوسة ما يكشف عن المرحلة التي أبدع فيها العربيُّ صوته الفجر، وإن أجرى عليه بعض التعديل في المراحل الحياتية اللاحقة.‏

                              ولكن ما مدى تأثير الخصائص الإيمائية لحرف الفاء في معاني المصادر التي تنتهي به؟.‏

                              بالرجوع إلى المعجم الوسيط عثرت على مئتين وأربعين مصدرا تنتهي بحرف الفاء . كان منها واحد وعشرون مصدرا تدل معانيها على الرقة والضعف والوهن، بما يتوافق مع موحياته الصوتية في الضعف والوهن. منها:‏

                              ألِفه (أنس به). خفّ الشيء.رخُفَ العجين (استرخى من كثرة مائه).. رهُف (رقّ ولطُف). سخُف الشيء (رقّ وضعُف). شفَّ الثوب. ضعُف. عجُف (هزِل). غطف العيش (اتسع ولان). لطُف. هِيف الغلامِ (دقَّ خَصره وضمُر بطنه). وجَفَ القلب(اضطرب وخفق). وطِف (كثر شعر حاجبيه وأهدابه مع استرخاء وطول). وغف بصره (ضعف).‏

                              وكان منها ثمانية وعشرون مصدراً تدل معانيها على القطع والحفر والفصل والقلع والخرق بما يحاكي طريقة النطق به. على أن معظم هذه المصادر يشارك فيها حرف أو أكثر من الحروف القوية مما يصح إسناد الحدث إليها أيضاً. منها:‏

                              جعفه (قلعه). خزف الثوب (خرقه وشقه). دفّ الشيء (نسفه واستأصله). شدفه (قطعه). غرف الشيء (قطعه). قدف الماء (غرفه). كاف الشيء كيفا (قطعه). نسف الشيء (اقتلعه من أصله). نقف الفرخ البيضة (ثقبها ليخرج منها). جرف السيل الوادي (أكل من جوانبه).‏

                              وكان منها مصدران للتوسع بما يحاكي انفراج الفم بعد التلفظ بحرف الفاء . وهما:‏

                              الجوف . الكهف.‏

                              وهكذا فإن نسبة المصادر التي تأثرت معانيها بمختلف الخصائص الايحائية والايمائية لحرف الفاء قد هبطت هنا إلى (21%) ، بينما كانت في المصادر التي تبدأ به (70%) . وذلك يعود للاسباب التالية:‏

                              أ- عندما يقع حرف الفاء في نهاية الكلمة يلفظ ساكنا بصورة عامة. فتستقر الأسنان العليا على الشفة السفلى وتغيب مع هذا الاستقرار صور الحفر والقطع والتوسع من طريقة النطق به.‏

                              ب- وعلى فرض تحريك الفاء قليلا فإن الذهن يكون أكثر انتباهاً إلى الخصائص الإيمائية والإيحائية للحروف التي تقع في المقدمة.‏

                              جـ_ بوقوع حرف الفاء في آخر اللفظة يصبح صوته في أوهى حالاته ضعفاً وخفوتا، مما يسهل معه على الحروف القوية أن تطغى بخصائصها على خصائص (الفاء). فلقد كان ثمة اثنان وأربعون مصدراً تنتهي بحرف الفاء تدل معانيها على الشدة والغلظة والفعالية والقوة، مما يتنافى مع خصائص الضعف والوهن في صوتها، وذلك بفعل الحروف القوية المشاركة ، وقد وضعت تحتها خطاً. منها:‏

                              جأفه (صرعه). جذف به (رمى). ذف الطائر (أـسرع). زرف في مشيه (أسرع ووثب). عسف فلانا (أخذه بالعنف). قذف الحجر. قصف الرعد.‏

                              لتبلغ نسبة المصادر التي تتجافى معانيها مع خصائص صوت الفاء في الضعف والوهن (17%).‏

                              وعلى الرغم من إيمائية هذا الحرف فقد التزم بطبقته الهرمية كحرف بصرى عندما يقع في بداية المصادر، فلم يتجاوزها إلا في خمسة للأصوات واثنين للمشاعر الإنسانية. مما يقطع بأن هذا الحرف ينتمي فعلا إلى الطبقة البصرية من الهرم الحسي، كما يتمتع بشخصية قوية نسبياً‏
                              إذا الشعب يوما أراد الحياة
                              فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                              و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                              و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                              تعليق

                              يعمل...
                              X