إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

شعر الانتفاضة في البعدين الفكري والفني

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • شعر الانتفاضة في البعدين الفكري والفني

    شعر الانتفاضة في البعدين الفكري والفني

    - فائز العراقي - دراسة - من منشورات اتحاد الكتّاب العرب 1998


    المقدمة‏

    الفصل الأول نماذج من شعر الانتفاضة: في البعدين الفكري والفني‏

    سعدي يوسف/ العراق:‏

    * عز الدين المناصرة/ فلسطين:‏

    * كاظم السماوّي- العراق:‏

    * ممدوح عدوان/ سورية/:‏

    *محمد خالد رمضان- سورية:‏

    حبيب صادق- لبنان:‏

    * محمود درويش- فلسطين:‏

    *محمود علي السعيد/ فلسطين:‏

    فاضل السلطاني/ العراق‏

    جلال قضيماتي/ سورية:‏

    هاشم شفيق/ العراق:‏

    ميخائيل عيد /سورية/:‏

    عبد الكريم الناعم/ سورية:‏

    أحمد مشوّل/ سورية:‏

    الفصل الثاني ظاهرة الشعراء الشباب/ نماذج مختارة:‏

    استنتاجات عامة‏

    الهوامش‏
    إذا الشعب يوما أراد الحياة
    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

  • #2
    شعر الانتفاضة في البعدين الفكري والفني

    شعر الانتفاضة في البعدين الفكري والفني

    - فائز العراقي - دراسة - من منشورات اتحاد الكتّاب العرب 1998


    المقدمة‏

    الفصل الأول نماذج من شعر الانتفاضة: في البعدين الفكري والفني‏

    سعدي يوسف/ العراق:‏

    * عز الدين المناصرة/ فلسطين:‏

    * كاظم السماوّي- العراق:‏

    * ممدوح عدوان/ سورية/:‏

    *محمد خالد رمضان- سورية:‏

    حبيب صادق- لبنان:‏

    * محمود درويش- فلسطين:‏

    *محمود علي السعيد/ فلسطين:‏

    فاضل السلطاني/ العراق‏

    جلال قضيماتي/ سورية:‏

    هاشم شفيق/ العراق:‏

    ميخائيل عيد /سورية/:‏

    عبد الكريم الناعم/ سورية:‏

    أحمد مشوّل/ سورية:‏

    الفصل الثاني ظاهرة الشعراء الشباب/ نماذج مختارة:‏

    استنتاجات عامة‏

    الهوامش‏
    إذا الشعب يوما أراد الحياة
    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

    تعليق


    • #3
      رد: شعر الانتفاضة في البعدين الفكري والفني

      المقدمة

      يلعب الأدب كأحد أشكال الوعي الاجتماعي المتميزة دوراً هاماً وأساسياً في تعبئة وتحريض وتثوير الشعوب والأمم التي تناضل من أجل انعتاقها، وفي صياغة الوجدان الشعبي العام، وبلورة الوعي الثوري والحضاري لدى الجماهير، هذا بالإضافة إلى وظيفتهِ الجمالية باعتبارهِ قيمة فنية مضافة للحياة تساهم في إعادة صياغتها وإنتاجها جمالياً.‏

      وقد لعب الشعر بوصفه أحد الأجناس الأدبية دوراً كبيراً في تشكيل الهوية الحضارية لأمتنا العربية على مر العصور، القديمة والحديثة، وليس أدل على أهمية الشِعر في تاريخنا العربي من وصف أمتنا بأنها أمة شعر.‏

      والكتاب الذي أضعه بين يدي القارئ الكريم، هو رصد لظاهرة شعرية جديدة أطلقنا عليها اسم: (شعر الانتفاضة) وهي امتداد واستمرار لشعر المقاومة الفلسطيني والعربي.‏

      * الفصل الأول من الكتاب تناولنا فيه بعض النماذج الشعرية العربية التي عبرت عن الانتفاضة الفلسطينية الباسلة التي فجرها أبطال الحجارة في داخل الأرض المحتلة.‏

      وقد تناول هذا النقد النص الشعري في مستوييهِ الفكري والفني.‏

      * أما الفصل الثاني والأخير من الكتاب: "ظاهرة الشعراء الشباب/ نماذج مختارة.". فهو عبارة عن نصوص شعرية لثلاثة من الشعراء الشباب الفلسطينيين.‏

      وقد تم اختيار هذه النماذج باعتبارها من النصوص الشعرية الإبداعية المتميزة التي عبرت عن هذا الحدث البطولي العظيم -الانتفاضة-.‏

      وفي هذا المجال نود أن نؤكد على أن اختيارنا لهذه النماذج جاء بعد قراءة العديد من النصوص الشعرية التي كتبها شعراء شباب عرب -أي التي وقعت بين أيدينا فقط- وليس كل ماكتبه هؤلاء.‏

      وهذا يفتح الباب أمام احتمال وجود نصوص أخرى تضاهي النصوص التي قمنا باختيارها، أو تتجاوزها من الناحية الفنية والإبداعية.‏

      * ثم توصلنا بعد ذلك إلى بعض الاستنتاجات النقدية العامة، والتي لا ندعي أنها كلّية الصحة، أو أنها تحتكر الحقيقة المطلقة، بل هي وجهة نظر نقدية استندت على رؤية معينة، وانطلقت من زاوية تناول محددة.‏

      والقضية برمتها تخضع للاجتهاد، وتعدد الآراء والإضافات المتعددة، بل وحتى للتقاطعات والاختلافات في الرؤية والمنهج وطريقة التناول.‏

      في الختام، آمل أن تكون الجهود التي بذلتها في تأليف هذا الكتاب، قد قدّمت خدمةً للحركة الشعرية العربية الحديثة، وللثقافة العربية عموماً.‏

      فائز العراقي.‏
      إذا الشعب يوما أراد الحياة
      فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
      و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
      و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

      تعليق


      • #4
        رد: شعر الانتفاضة في البعدين الفكري والفني

        المقدمة

        يلعب الأدب كأحد أشكال الوعي الاجتماعي المتميزة دوراً هاماً وأساسياً في تعبئة وتحريض وتثوير الشعوب والأمم التي تناضل من أجل انعتاقها، وفي صياغة الوجدان الشعبي العام، وبلورة الوعي الثوري والحضاري لدى الجماهير، هذا بالإضافة إلى وظيفتهِ الجمالية باعتبارهِ قيمة فنية مضافة للحياة تساهم في إعادة صياغتها وإنتاجها جمالياً.‏

        وقد لعب الشعر بوصفه أحد الأجناس الأدبية دوراً كبيراً في تشكيل الهوية الحضارية لأمتنا العربية على مر العصور، القديمة والحديثة، وليس أدل على أهمية الشِعر في تاريخنا العربي من وصف أمتنا بأنها أمة شعر.‏

        والكتاب الذي أضعه بين يدي القارئ الكريم، هو رصد لظاهرة شعرية جديدة أطلقنا عليها اسم: (شعر الانتفاضة) وهي امتداد واستمرار لشعر المقاومة الفلسطيني والعربي.‏

        * الفصل الأول من الكتاب تناولنا فيه بعض النماذج الشعرية العربية التي عبرت عن الانتفاضة الفلسطينية الباسلة التي فجرها أبطال الحجارة في داخل الأرض المحتلة.‏

        وقد تناول هذا النقد النص الشعري في مستوييهِ الفكري والفني.‏

        * أما الفصل الثاني والأخير من الكتاب: "ظاهرة الشعراء الشباب/ نماذج مختارة.". فهو عبارة عن نصوص شعرية لثلاثة من الشعراء الشباب الفلسطينيين.‏

        وقد تم اختيار هذه النماذج باعتبارها من النصوص الشعرية الإبداعية المتميزة التي عبرت عن هذا الحدث البطولي العظيم -الانتفاضة-.‏

        وفي هذا المجال نود أن نؤكد على أن اختيارنا لهذه النماذج جاء بعد قراءة العديد من النصوص الشعرية التي كتبها شعراء شباب عرب -أي التي وقعت بين أيدينا فقط- وليس كل ماكتبه هؤلاء.‏

        وهذا يفتح الباب أمام احتمال وجود نصوص أخرى تضاهي النصوص التي قمنا باختيارها، أو تتجاوزها من الناحية الفنية والإبداعية.‏

        * ثم توصلنا بعد ذلك إلى بعض الاستنتاجات النقدية العامة، والتي لا ندعي أنها كلّية الصحة، أو أنها تحتكر الحقيقة المطلقة، بل هي وجهة نظر نقدية استندت على رؤية معينة، وانطلقت من زاوية تناول محددة.‏

        والقضية برمتها تخضع للاجتهاد، وتعدد الآراء والإضافات المتعددة، بل وحتى للتقاطعات والاختلافات في الرؤية والمنهج وطريقة التناول.‏

        في الختام، آمل أن تكون الجهود التي بذلتها في تأليف هذا الكتاب، قد قدّمت خدمةً للحركة الشعرية العربية الحديثة، وللثقافة العربية عموماً.‏

        فائز العراقي.‏
        إذا الشعب يوما أراد الحياة
        فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
        و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
        و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

        تعليق


        • #5
          رد: شعر الانتفاضة في البعدين الفكري والفني

          الفصل الأول نماذج من شعر الانتفاضة: في البعدين الفكري والفني

          إذا كان من المبكر الحديث عن تبلور متكامل لظاهرة أدبية حديثة سميناها بـ "أدب الانتفاضة" وذلك ارتباطاً بالانتفاضة الفلسطينية الباسلة التي فجرها أبناء الشعب العربي الفلسطيني داخل الأرض المحتلة في عام 1988، وقد غدا هذا الحدث التاريخي الثوري الهام واحداً من أهم الأحداث في تاريخ نضال أمتنا العربية المعاصر، إذا كان من المبكر الحديث عن ذلك، وخاصة فيما يتعلق ببعض الأجناس الأدبية- كالرواية مثلاً- التي تحتاج إلى فترة زمنية طويلة نسبياً، أو إلى فترة تاريخية كاملة أحياناً لظهورها وولادتها، فإنه ليس من المبكر الحديث عن ظاهرة: "شعر الانتفاضة"، لأن الشعر كجنس ولون أدبي له خصوصيات أخرى تجعله أكثر وأسرع في الاستجابة للحدث -والحديث هنا على وجه العموم، لأن بعض الأعمال الشعرية، كالروايات الشعرية، والقصائد الملحمية ذات الطابع الدرامي، مستثناة من حديثنا، فهي تحتاج أيضاً لكتابتها إلى فسحة زمنية طويلة نسبياً-، من هذا المنطلق يمكن الحديث عن تبلور ظاهرة شعرية جديدة في الشعر العربي الحديث، ألا وهي: "شعر الانتفاضة"، ونعني بها تلك الأعمال التي تم تكريسها لإبراز الانتفاضة الفلسطينية في الأرض المحتلة: واقع الحدث ودلالاته، جذره التاريخي، عوامل التفجير، قواه المحركة، ثم آفاقه الممكنة وتحولاته، وذلك من خلال قدرة الشاعر الرؤيوية لتَشوِّف الآتي وقراءة المستقبل القريب والبعيد.

          وبدهي أننا حينما نتحدث عن هذا الحدث لا نطالب الشاعر بعكس الواقع فقط، أو حتى تغييره، بل إن ذلك يفترض قدرة الشاعر على الكشف والفتح والاستشراف من خلال تمكنه من أدواته الفنية، وامتلاكه لرؤية فلسفية عميقة، وقدرته على كتابة نص شعري إبداعي متميز يحفل بالقيم الجمالية والإبداعية التي هي في النهاية المقياس الأهم لمدى نجاح العمل الفني وسموه.

          وهذا لا ينفي طبعاً دور العامل الفكري والسياسي التحريضي للتعبير عن مثل أحداث تاريخية كالانتفاضة، فكلا العاملين، يترابطان ترابطاً عضوياً جدلياً، ومن محصلة تفاعلهما وتلاحمهما ككلٍ واحد نقطف ثمرة العمل الإبداعي.

          إضافة إلى هذا، فإن هذه الظاهرة الجديدة لا تشكل انقطاعاً عن شعر المقاومة الفلسطيني، بل هي امتداداً له، لكنها تمثل حالة نوعية أخرى لها خصائصها وسماتها الخاصة.

          إن مايثبت ولادة هذه الظاهرة: "شعر الانتفاضة"، هو توفر نتاجات شعرية عربية كثيرة عكست هذا الموضوع وتفاعلت معه، وهذا لا يعني بأننا نمنح جواز مرور لكل هذه النتاجات، وذلك من حيث قيمتها الإبداعية، والفنية والفكرية، وكما يقال فإن -في كل كم نوع- وشعر الانتفاضة لم يخل من هذا "النوع" الشعري المتميز إبداعياً.

          كما أن بعض الشعراء العرب الذين أثبتوا حضورهم الشعري على مدى العقود الأخيرة كانوا قد تفاعلوا مع هذا الحدث، وكتبوا عنه، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر: سعدي يوسف، محمود درويش، مظفر النّواب، نزار قباني، سميح القاسم، عز الدين المناصرة... الخ، علماً أننا لانضع هؤلاء الشعراء في خانة واحدة، فلكل منهم خصوصيته وتميزه، ومكانته الفنية في الشعر العربي الحديث.

          السؤال المطروح هنا: هو إلى أي مدى استطاع هذا الشعر -حتى الآن- الارتقاء إلى مستوى هذا الحدث التاريخي الهام؟‍! وهل المستوى الإبداعي والفني لهذه الأعمال الشعرية استطاع أن يُوازيه في ضخامتهِ وحجمِ تأثيره؟ قبل الإجابة عن هذا السؤال، نحن لا ندعي الإحاطة الشاملة بكل ما كُتب شعرياً عن الانتفاضة، ولكن ماتوفر لنا من نصوص شعرية يمكن أن يُسهم إلى حد معقول في إعطاء إجابة أولية، وسنرجئ الجواب المذكور بعد إبداء الملاحظات النقدية حول بعض النماذج الشعرية، حيث يمكن بعدها الحديث عن استنتاجات نقدية عامة كشفت عنها هذه القصائد.

          * نزار قباني- سورية:



          الشاعر العربي السوري المعروف نزار قبّاني أحد الشعراء الذين كتبوا عن الانتفاضة عدة نصوص شعرية: "دكتوراه شرف في كيمياء الحجر، والغاضبون، وأطفال الحجارة". تتميز هذه القصائد الثلاث عموماً بطابعها التحريضي والتعبوي، وبقدرتها على كشف زيف غالبية الأنظمة العربية التي تاجرت بالقضية والثورة الفلسطينية من أجل ديمومتها واستمرارها، هذه الأنظمة التي اكتفت بالتطبيل والزعيق ورفع الشعارات البراقة، ولكنها مارست عملياً كل مامن شأنِه خنق الانتفاضة ووأدها خوفاً من انتقال جذوتها إلى عروشها المهترئة وحرقها.

          -1-

          في قصيدته العمودية، "الغاضبون" يقول نزار:

          ياتلاميذُ غزة لا تبالوا

          بإذاعاتنا ولا تسمعونا


          اضربوا... اضربوا بكلِ قواكمِ

          واحزموا أمركم ولا تسألونا


          نحنُ أهل الحسابِ والجمعِ والطرحِ

          فخوضوا حروبَكم واتركونا


          إننا الهاربونَ من خدمةِ الجيشِ

          فهاتوا حبالكم واشنقونا(1)



          جرأة في الطرح، ورؤية صحيحة للأحداث، وكشفٌ حقيقي للواقع الذي تمر به أمتنا العربية.

          ولكن هل الارتباط بالواقع، والتعبير عنه، ومحاولة تغييره، يكفي للتدليل على مدى إبداعية النص الشعري والأدبي عموماً؟!

          إن واحدة من أهم وظائف الشعر هي إعادة صياغة الواقع جمالياً، ويتم ذلك بامتلاك الوسائط الفنية التي هي وحدها قادرة على الارتفاع بالنص إلى مصاف السامي والخالد، إلى عالم الابتكار والدهشة.

          من هنا، هل استطاع شاعرنا العربي الكبير نزار قبّاني في قصائده الثلاث المذكورة نقلنا إلى عالم الفن السحري الزاخر بالقيم الجمالية لاسيما وهو الشاعر الذي شكّل في شعرنا العربي علامة بارزة لايمكن إغفالها؟! نقول ذلك بغض النظر عن نقاط الخلاف أو الاتفاق معه سواءً كان ذلك من الناحية السياسية أو الفنية أو مع طريقتهِ الخاصة في التعامل مع الأحداث، المهم أنه صاحب القصيدة "النزارّية" ذات النكهة الخاصة والمتميزة، حيث الغنائية العذبة وسلاسة اللفظ ورشاقتهِ، ووضوح المعاني... الخ.

          من الصعب إصدار حكم قيمة نقدي نهائي على قصائد نزار الجديدة، ونحن نحاول مقاربة النص نقدياً من الناحية الجمالية، بعد أن تحدثنا عن دوره التثويري والتحريضي.

          فقصيدته: "دكتوراه شرف في كيمياء الحجر(2) أدخلت من عنوانها الشعر في عالم الكيمياء، وإن كان ذلك "كيمياء الحجر"، حيث الحجر كأداة ورمز صراعي استخدمتْه الأجيال الفلسطينية الشابة الثائرة ضد عدو غاصب مدجج بآلة الدمار الجهنمية.

          القصيدة عموماً لم تشكل إضافة جديدة لمجمل نتاج نزار الشعري، وقد تراوحت بين الهبوط والعلو "النسبي" من الناحية الفنية.

          لغة الشعر هنا غالباً مكرورة ومُستهلكة، وهي لغة تجاوزتها الحداثة الشعرية العربية في بعض نصوصها:

          "سنبلتين، ثديين، فنجانين"، ويبدو أن شاعرنا نزار لايريد الخروج من جلدهِ الشعري القديم، وفتح آفاق جديدة لقصيدتهِ.

          كما أننا نشعر بأن التزام الشاعر بالقافية -عموماً- قد حدَّ من انطلاقة الشاعر وقيد توهجَه الشعري "نصفين/ يدين/ عينين/ شفتين/"، حتى أننا لانعرف هل استخدام الشاعر لاسم "الاسكندر ذي القرنين" جاء بشكل انسيابي، وضمن السياق الشعري، أم جاء لضرورة القافية؟!

          ونزار في هذه القصيدة شاعر صنعة، أكثر منه شاعر انسياب، ويبدو أن الفكرة تملكتْهُ وأراد التعبير عنها دونما إيلاء اهتمام كبير للجانب الفني في قصيدته، بعبارة أخرى إن الإحالة تتم هنا من الواقع -إلى الفكرة، وليس من الواقع- إلى الصورة، أو من الفكرة- إلى الصورة، فلنقرأ له هذا المقطع:



          " وينهي عصرَ الحشاشين

          ويقفل سوقَ القوادين

          ويقطع أيدي المرتزقين".

          وكذلك قوله: "ويسقط ولدٌ/ في لحظاتٍ/ يولدُ آلافُ الصبيان/".

          لسنا هنا بصدد مناقشة صحة هذه الآراء، وكذلك ضرورة كشف الزيف في واقعنا العربي، نحن في هذا مع الشاعر في منطلقاتهِ الفكرية، ولكن مايضعف فنية القصيدة هنا هو وقوعها في فخ الكلام العادي الذي يخلو من ألق الشعر وومضه، وفي لغة التقرير والخطاب السياسي.

          وأستاذنا نزار يستند في صنعتهِ الشعرية إلى تاريخ شعري قديم يتجاوز الأربعين عاماً، مع طول الدِربة والمران الشعري، ولكن كل هذا لا يكفي إذا لم يتجاوز الشاعر ذاته الفنية، ويحاول ارتياد مساحات فنية إشراقية جديدة باستمرار.

          ومع كل ماتقدم فالقصيدة لا تخلو من توهجات فنية هنا وهناك، من صور شعرية مبتكرة وجميلة تشدنا إلى الخالد في الشعر:

          "تأتي غزّةُ في أمواجِ البحرِ

          تضيء القدسَ كمئذنةٍ بين الشفتين

          يركب فرساً من ياقوتِ الفجرِ".

          وبعض الصور المدهشة الأخرى:"تظهر أرض فوق الغيم/ ويولد وطن في العينين/ وقوله: ينفض عن نعليهِ الرمل/ ويدخلها في مملكة الماء.. وقوله: تطفو عكا فوق الماء/ زجاجة عطر/ وقوله: من هو هذا الولد الطالع مثل الخوخ الأحمر من شجر النسيان....الخ".

          ثمة ملاحظة أخرى تتعلق بالتكرار غير المُستَساغ والذي يدل على عدم استنفار ملكة الخيال وإطلاق طاقاتها الخلاقة، يقول نزار في قصيدته ذاتها: "تظهر أرض فوق الغيم/ ويولد وطنٌ في العينين/، وفي موضع آخر من القصيدة يقول: يدخل وطنٌ للزنزانةِ/ ويولدُ وطن في العينين/.".

          الصورة الأولى جميلة وفيها يناعة الشعر وطراوته وألقه، ولكن ما الذي يدفع الشاعر إلى تكرار الصورة نفسها مرتين: "يولد وطن في العينين"؟!.

          نحن نعزو ذلك إلى الخيال -كما أسلفنا- وللتأكيد على أهمية الخيال ودوره في الشعر باعتباره مصدر وينبوع الصورة الشعرية، نورد هذه الفقرة لكولريدج الذي يعرّف الشاعر بقوله:

          " فهو الذي يطلق روح الإنسان جميعها إلى النشاط الحي، وهو يُشيعُ نغماً وروحاً يمزج ويصهر الملكات إحداها بالأخرى بتلك القوة السحرية التي لا أسميها إلاّ الخيال وحده.

          إن هذه القوة تكشف نفسها في توازن الصفات المتنافرة، وإشاعة الانسجام بينها... حالة عاطفية غير عادية، وتنسيق فائق للعادة"(3).

          ومع كل ذلك فإن ملاحظاتنا النقدية لا تدعي احتكارها للصواب، بل هي وجهة نظر نقدية، ربما تأتي أخرى لتنفيها، خصوصاً ونحن نتناول قصائد أحد أعمدة الشعر العربي الحديث، هذا الشاعر الذي ترك بصمات واضحة على مسيرة الحداثة الشعرية العربية، ولكن صرامة النقد الموضوعي تُوجه غالباً إلى الذين ساهموا في تأسيس الشعرية العربية الحديثة، وامتلكوا خبرة فنية متراكمة على مدى العقود السابقة، لا إلى الشباب الذين مازالوا في بداية الطريق.
          إذا الشعب يوما أراد الحياة
          فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
          و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
          و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

          تعليق


          • #6
            رد: شعر الانتفاضة في البعدين الفكري والفني

            الفصل الأول نماذج من شعر الانتفاضة: في البعدين الفكري والفني

            إذا كان من المبكر الحديث عن تبلور متكامل لظاهرة أدبية حديثة سميناها بـ "أدب الانتفاضة" وذلك ارتباطاً بالانتفاضة الفلسطينية الباسلة التي فجرها أبناء الشعب العربي الفلسطيني داخل الأرض المحتلة في عام 1988، وقد غدا هذا الحدث التاريخي الثوري الهام واحداً من أهم الأحداث في تاريخ نضال أمتنا العربية المعاصر، إذا كان من المبكر الحديث عن ذلك، وخاصة فيما يتعلق ببعض الأجناس الأدبية- كالرواية مثلاً- التي تحتاج إلى فترة زمنية طويلة نسبياً، أو إلى فترة تاريخية كاملة أحياناً لظهورها وولادتها، فإنه ليس من المبكر الحديث عن ظاهرة: "شعر الانتفاضة"، لأن الشعر كجنس ولون أدبي له خصوصيات أخرى تجعله أكثر وأسرع في الاستجابة للحدث -والحديث هنا على وجه العموم، لأن بعض الأعمال الشعرية، كالروايات الشعرية، والقصائد الملحمية ذات الطابع الدرامي، مستثناة من حديثنا، فهي تحتاج أيضاً لكتابتها إلى فسحة زمنية طويلة نسبياً-، من هذا المنطلق يمكن الحديث عن تبلور ظاهرة شعرية جديدة في الشعر العربي الحديث، ألا وهي: "شعر الانتفاضة"، ونعني بها تلك الأعمال التي تم تكريسها لإبراز الانتفاضة الفلسطينية في الأرض المحتلة: واقع الحدث ودلالاته، جذره التاريخي، عوامل التفجير، قواه المحركة، ثم آفاقه الممكنة وتحولاته، وذلك من خلال قدرة الشاعر الرؤيوية لتَشوِّف الآتي وقراءة المستقبل القريب والبعيد.

            وبدهي أننا حينما نتحدث عن هذا الحدث لا نطالب الشاعر بعكس الواقع فقط، أو حتى تغييره، بل إن ذلك يفترض قدرة الشاعر على الكشف والفتح والاستشراف من خلال تمكنه من أدواته الفنية، وامتلاكه لرؤية فلسفية عميقة، وقدرته على كتابة نص شعري إبداعي متميز يحفل بالقيم الجمالية والإبداعية التي هي في النهاية المقياس الأهم لمدى نجاح العمل الفني وسموه.

            وهذا لا ينفي طبعاً دور العامل الفكري والسياسي التحريضي للتعبير عن مثل أحداث تاريخية كالانتفاضة، فكلا العاملين، يترابطان ترابطاً عضوياً جدلياً، ومن محصلة تفاعلهما وتلاحمهما ككلٍ واحد نقطف ثمرة العمل الإبداعي.

            إضافة إلى هذا، فإن هذه الظاهرة الجديدة لا تشكل انقطاعاً عن شعر المقاومة الفلسطيني، بل هي امتداداً له، لكنها تمثل حالة نوعية أخرى لها خصائصها وسماتها الخاصة.

            إن مايثبت ولادة هذه الظاهرة: "شعر الانتفاضة"، هو توفر نتاجات شعرية عربية كثيرة عكست هذا الموضوع وتفاعلت معه، وهذا لا يعني بأننا نمنح جواز مرور لكل هذه النتاجات، وذلك من حيث قيمتها الإبداعية، والفنية والفكرية، وكما يقال فإن -في كل كم نوع- وشعر الانتفاضة لم يخل من هذا "النوع" الشعري المتميز إبداعياً.

            كما أن بعض الشعراء العرب الذين أثبتوا حضورهم الشعري على مدى العقود الأخيرة كانوا قد تفاعلوا مع هذا الحدث، وكتبوا عنه، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر: سعدي يوسف، محمود درويش، مظفر النّواب، نزار قباني، سميح القاسم، عز الدين المناصرة... الخ، علماً أننا لانضع هؤلاء الشعراء في خانة واحدة، فلكل منهم خصوصيته وتميزه، ومكانته الفنية في الشعر العربي الحديث.

            السؤال المطروح هنا: هو إلى أي مدى استطاع هذا الشعر -حتى الآن- الارتقاء إلى مستوى هذا الحدث التاريخي الهام؟‍! وهل المستوى الإبداعي والفني لهذه الأعمال الشعرية استطاع أن يُوازيه في ضخامتهِ وحجمِ تأثيره؟ قبل الإجابة عن هذا السؤال، نحن لا ندعي الإحاطة الشاملة بكل ما كُتب شعرياً عن الانتفاضة، ولكن ماتوفر لنا من نصوص شعرية يمكن أن يُسهم إلى حد معقول في إعطاء إجابة أولية، وسنرجئ الجواب المذكور بعد إبداء الملاحظات النقدية حول بعض النماذج الشعرية، حيث يمكن بعدها الحديث عن استنتاجات نقدية عامة كشفت عنها هذه القصائد.

            * نزار قباني- سورية:



            الشاعر العربي السوري المعروف نزار قبّاني أحد الشعراء الذين كتبوا عن الانتفاضة عدة نصوص شعرية: "دكتوراه شرف في كيمياء الحجر، والغاضبون، وأطفال الحجارة". تتميز هذه القصائد الثلاث عموماً بطابعها التحريضي والتعبوي، وبقدرتها على كشف زيف غالبية الأنظمة العربية التي تاجرت بالقضية والثورة الفلسطينية من أجل ديمومتها واستمرارها، هذه الأنظمة التي اكتفت بالتطبيل والزعيق ورفع الشعارات البراقة، ولكنها مارست عملياً كل مامن شأنِه خنق الانتفاضة ووأدها خوفاً من انتقال جذوتها إلى عروشها المهترئة وحرقها.

            -1-

            في قصيدته العمودية، "الغاضبون" يقول نزار:

            ياتلاميذُ غزة لا تبالوا

            بإذاعاتنا ولا تسمعونا


            اضربوا... اضربوا بكلِ قواكمِ

            واحزموا أمركم ولا تسألونا


            نحنُ أهل الحسابِ والجمعِ والطرحِ

            فخوضوا حروبَكم واتركونا


            إننا الهاربونَ من خدمةِ الجيشِ

            فهاتوا حبالكم واشنقونا(1)



            جرأة في الطرح، ورؤية صحيحة للأحداث، وكشفٌ حقيقي للواقع الذي تمر به أمتنا العربية.

            ولكن هل الارتباط بالواقع، والتعبير عنه، ومحاولة تغييره، يكفي للتدليل على مدى إبداعية النص الشعري والأدبي عموماً؟!

            إن واحدة من أهم وظائف الشعر هي إعادة صياغة الواقع جمالياً، ويتم ذلك بامتلاك الوسائط الفنية التي هي وحدها قادرة على الارتفاع بالنص إلى مصاف السامي والخالد، إلى عالم الابتكار والدهشة.

            من هنا، هل استطاع شاعرنا العربي الكبير نزار قبّاني في قصائده الثلاث المذكورة نقلنا إلى عالم الفن السحري الزاخر بالقيم الجمالية لاسيما وهو الشاعر الذي شكّل في شعرنا العربي علامة بارزة لايمكن إغفالها؟! نقول ذلك بغض النظر عن نقاط الخلاف أو الاتفاق معه سواءً كان ذلك من الناحية السياسية أو الفنية أو مع طريقتهِ الخاصة في التعامل مع الأحداث، المهم أنه صاحب القصيدة "النزارّية" ذات النكهة الخاصة والمتميزة، حيث الغنائية العذبة وسلاسة اللفظ ورشاقتهِ، ووضوح المعاني... الخ.

            من الصعب إصدار حكم قيمة نقدي نهائي على قصائد نزار الجديدة، ونحن نحاول مقاربة النص نقدياً من الناحية الجمالية، بعد أن تحدثنا عن دوره التثويري والتحريضي.

            فقصيدته: "دكتوراه شرف في كيمياء الحجر(2) أدخلت من عنوانها الشعر في عالم الكيمياء، وإن كان ذلك "كيمياء الحجر"، حيث الحجر كأداة ورمز صراعي استخدمتْه الأجيال الفلسطينية الشابة الثائرة ضد عدو غاصب مدجج بآلة الدمار الجهنمية.

            القصيدة عموماً لم تشكل إضافة جديدة لمجمل نتاج نزار الشعري، وقد تراوحت بين الهبوط والعلو "النسبي" من الناحية الفنية.

            لغة الشعر هنا غالباً مكرورة ومُستهلكة، وهي لغة تجاوزتها الحداثة الشعرية العربية في بعض نصوصها:

            "سنبلتين، ثديين، فنجانين"، ويبدو أن شاعرنا نزار لايريد الخروج من جلدهِ الشعري القديم، وفتح آفاق جديدة لقصيدتهِ.

            كما أننا نشعر بأن التزام الشاعر بالقافية -عموماً- قد حدَّ من انطلاقة الشاعر وقيد توهجَه الشعري "نصفين/ يدين/ عينين/ شفتين/"، حتى أننا لانعرف هل استخدام الشاعر لاسم "الاسكندر ذي القرنين" جاء بشكل انسيابي، وضمن السياق الشعري، أم جاء لضرورة القافية؟!

            ونزار في هذه القصيدة شاعر صنعة، أكثر منه شاعر انسياب، ويبدو أن الفكرة تملكتْهُ وأراد التعبير عنها دونما إيلاء اهتمام كبير للجانب الفني في قصيدته، بعبارة أخرى إن الإحالة تتم هنا من الواقع -إلى الفكرة، وليس من الواقع- إلى الصورة، أو من الفكرة- إلى الصورة، فلنقرأ له هذا المقطع:



            " وينهي عصرَ الحشاشين

            ويقفل سوقَ القوادين

            ويقطع أيدي المرتزقين".

            وكذلك قوله: "ويسقط ولدٌ/ في لحظاتٍ/ يولدُ آلافُ الصبيان/".

            لسنا هنا بصدد مناقشة صحة هذه الآراء، وكذلك ضرورة كشف الزيف في واقعنا العربي، نحن في هذا مع الشاعر في منطلقاتهِ الفكرية، ولكن مايضعف فنية القصيدة هنا هو وقوعها في فخ الكلام العادي الذي يخلو من ألق الشعر وومضه، وفي لغة التقرير والخطاب السياسي.

            وأستاذنا نزار يستند في صنعتهِ الشعرية إلى تاريخ شعري قديم يتجاوز الأربعين عاماً، مع طول الدِربة والمران الشعري، ولكن كل هذا لا يكفي إذا لم يتجاوز الشاعر ذاته الفنية، ويحاول ارتياد مساحات فنية إشراقية جديدة باستمرار.

            ومع كل ماتقدم فالقصيدة لا تخلو من توهجات فنية هنا وهناك، من صور شعرية مبتكرة وجميلة تشدنا إلى الخالد في الشعر:

            "تأتي غزّةُ في أمواجِ البحرِ

            تضيء القدسَ كمئذنةٍ بين الشفتين

            يركب فرساً من ياقوتِ الفجرِ".

            وبعض الصور المدهشة الأخرى:"تظهر أرض فوق الغيم/ ويولد وطن في العينين/ وقوله: ينفض عن نعليهِ الرمل/ ويدخلها في مملكة الماء.. وقوله: تطفو عكا فوق الماء/ زجاجة عطر/ وقوله: من هو هذا الولد الطالع مثل الخوخ الأحمر من شجر النسيان....الخ".

            ثمة ملاحظة أخرى تتعلق بالتكرار غير المُستَساغ والذي يدل على عدم استنفار ملكة الخيال وإطلاق طاقاتها الخلاقة، يقول نزار في قصيدته ذاتها: "تظهر أرض فوق الغيم/ ويولد وطنٌ في العينين/، وفي موضع آخر من القصيدة يقول: يدخل وطنٌ للزنزانةِ/ ويولدُ وطن في العينين/.".

            الصورة الأولى جميلة وفيها يناعة الشعر وطراوته وألقه، ولكن ما الذي يدفع الشاعر إلى تكرار الصورة نفسها مرتين: "يولد وطن في العينين"؟!.

            نحن نعزو ذلك إلى الخيال -كما أسلفنا- وللتأكيد على أهمية الخيال ودوره في الشعر باعتباره مصدر وينبوع الصورة الشعرية، نورد هذه الفقرة لكولريدج الذي يعرّف الشاعر بقوله:

            " فهو الذي يطلق روح الإنسان جميعها إلى النشاط الحي، وهو يُشيعُ نغماً وروحاً يمزج ويصهر الملكات إحداها بالأخرى بتلك القوة السحرية التي لا أسميها إلاّ الخيال وحده.

            إن هذه القوة تكشف نفسها في توازن الصفات المتنافرة، وإشاعة الانسجام بينها... حالة عاطفية غير عادية، وتنسيق فائق للعادة"(3).

            ومع كل ذلك فإن ملاحظاتنا النقدية لا تدعي احتكارها للصواب، بل هي وجهة نظر نقدية، ربما تأتي أخرى لتنفيها، خصوصاً ونحن نتناول قصائد أحد أعمدة الشعر العربي الحديث، هذا الشاعر الذي ترك بصمات واضحة على مسيرة الحداثة الشعرية العربية، ولكن صرامة النقد الموضوعي تُوجه غالباً إلى الذين ساهموا في تأسيس الشعرية العربية الحديثة، وامتلكوا خبرة فنية متراكمة على مدى العقود السابقة، لا إلى الشباب الذين مازالوا في بداية الطريق.
            إذا الشعب يوما أراد الحياة
            فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
            و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
            و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

            تعليق


            • #7
              رد: شعر الانتفاضة في البعدين الفكري والفني

              سعدي يوسف/ العراق

              الشاعر العراقي المعروف سعدي يوسف كتب عن أبطال الحجارة قصيدة بعنوان: "إنه يحيى"(4). تميزت هذه القصيدة بشدة تكثيفها، ولغتها الإشراقية الفنية الموحية، بصورها الحسية المبتكرة، وتفاصيلها اليومية الحميمة.‏

              "يحيى" هو رمز المناضل الفلسطيني المقاتل، المناضل- الشهيد، والفتى- الشهيد.‏

              وهو الرمز الحي الذي لم يمت، لقد تحول إلى طاقة ثورية فعالة تعيش في أرواحنا وضمائرنا. وهو موجود في كل مكان:‏

              في البراري، وفي الماء، في رايات الثوار التي تنتشر في الأرض، في الشوارع، وفي كل بيت فلسطيني وعربي.‏

              لنقرأ للشاعر هذا المطلع الدال:‏

              "رايات يحيى، ثوبك المنخوب بالطلقات‏

              يحيى في البراري‏

              في قطرة الماء التي انسكبت على قدمين‏

              وانسربت بأفئدة الصغار‏

              راياتُ يحيى تعبر الأنهارَ والطرقَ التي اكتظت‏

              وتدخل في منازعنا، مضرجةَ السِرار‏

              من بيت إبراهيم‏

              من عبد الرحيم‏

              وماء رام اللّه تأتينا:‏

              أغزةُ هاشمٍ في البرقِ‏

              أم هذي كتائبنا مدججةً تلوح مع الدراري؟!".‏

              في المقطع الثاني يتنامى الفعل الدرامي عبر تأجج الحالة الثورية لدى المناضل - الشهيد يحيى، ابن المخيم الذي يتمازج غضبه مع غضب الأرض و"احتقانها". كلمة "الاحتقان" تدل هنا على تراكم القهر والقمع التاريخي الذي أصاب الشعب الفلسطيني عبر مراحل تاريخية كاملة، إلى أن يجيء "يحيى" ليدحو" الأرض و"يبرؤها" ثم يعدها للصراع والفعل الثوري، يعدها لكي تكون قذيفته المضادة لنار الغزاة وقمعهم.‏

              وترتقي حالة يحيى، ويتحول إلى مصدر لتوالد الثورة وديمومتها "يُنبت الأحجار"، بل هو يجعل من "سواعد" المناضلين "مقاليع" ووسائل كفاحية، ومن أصابعهم دم الثورة وزيتها المستمر.‏

              ما يُدهشنا هنا هو أن الشاعر استعار "النبوة" للمقلاع بدلاً من الحجر، بقوله: "يجعل من سواعدنا مقاليع النبوة"، بدلاً من أن يقول: "يجعل من سواعدنا مقاليع للحجارة". هنا أصبحت "النبوة" رديفاً "للحجر - الثورة" والجملة الشعرية هنا تفسح المجال لإمكانية التأويل، فيمكن القول مثلاً بأن الشاعر استخدم الحجر كرمز كفاحي، واستخدمه أيضاً كرمز "للنبوءة"، إنها نبوءة أبطال الحجارة الذين يكتبون لأنفسهم ولأمتهم عصراً جديداً آخر، وفجراً جديداً يبدد حالة القمع والمعاناة السابقة، ويؤرخ لعصر الحرية- الإنسان: "رايات يحيى، ثوبُكَ المنخوب بالطلقاتِ/ يحيى في المخيم/ يرفع الأرض التي احتقنت/ ويدحوها، ويَبْرُؤُها، ويقذفها بوجه النار/ يحيى ينبت الأحجار/ يجعل من سواعدنا مقاليع النبوّةِ/ من أصابعنا دم الثوار/".‏

              ثم يصف الشاعر "يحيى"، "بالجمرة" التي لا تتوقد وتشتعل إلاّ بجمر الثورة والكفاح: "يالفحَ الفتوةِ/ أيها الجمرُ الذي لا يغتذي إلاّ بهذا الجمر/".‏

              ويختتم قصيدته بحالة رائعة ينصهر فيها الـ "هو- الشهيد" بالـ "نحن- الشهداء"، أو الـ "هو- المناضل" بالـ "نحن- المناضلون"، ثم يضفي الشاعر على حركة يحيى "وتقدمه" الثوري صفة "القدسية". ويؤكد على أنه "الملك" الحقيقي الذي ينبغي أن يقود "بلاد الله" التي تأتي هنا رديفة "لفلسطين"، وتنتهي القصيدة بالفعل "خذنا"، وهي نهاية مفتوحة، إلاّ أن كامل السياق الشعري يقودنا للقول بأن الشاعر يقصد "خذنا للكفاح، خذنا للشهادة".‏

              فلنقرأ له خاتمة القصيدة: "ياولدي/ سلاماً أيها المتقدمُ القدّوس/ ياملكاً يسيرُ مخضب الرايات/ يايحيى/ سلاماً.../ خذ، كما تهوى، الشوارعَ/ خذ بلادَ الله مملكةً/ فلسطيناً/ وخذنا....".‏

              الشاعر سعدي يوسف مولع بذكر الأمكنة والأسماء والتفاصيل العادية أو الأسطورية: "إبراهيم، عبد الرحيم، رام الله، غزة، هاشم......الخ"، إلاّ أن مايميزه من الناحية الفنية هو قدرته على نقل العادي والمألوف إلى مصاف الفني -المدهش، وقد تجسد ذلك بنقل المشهد العادي الذي شكلته هذه الأسماء والأمكنة:‏

              "إبراهيم، عبد الرحيم، رام الله...." إلى الفني المتألق بقوله: "أغزّةُ هاشمٍ في البرق"، إن التصعيد الفني جاء هنا في اندغام غزة وبني هاشم في البرق أي في حالة السطوع الثوري، حالة الإخصاب الذي يشير إليه رمز "البرق" باعتبارهِ بشارة المطر والإخصاب والخير.‏

              وفي جملته الشعرية: "يحيى في البراري/ في قطرة الماءِ التي انسكبت على قدمين/ وانسربت بأفئدة الصغار". تتجسد لنا الطاقة التحولية والحركية في النص. فالطاقة التحولية تتجلى في تحول الرمز المناضل "يحيى" وحلوله في قطرة الماء، الماء رمز الحياة والخصب، ثم في انسرابهِ بأفئدةِ الصغار، يلعب الماء هنا دور الشافي الذي يشفي غليل الأطفال. أما الطاقة الحركية فتتجلى في الفعلين: "انسكب" و"انسرب"، حيث مثلا حالة الانسياب والليونة وأضفيا حالة حركية على كامل المقطع الشعري.‏

              ثم يتألق سعدي فنياً في صورتهِ الشعرية المبُتكرة: "يرفع الأرض التي احتقنت/ ويدحوها/ ويبرؤها، ويقذفها بوجه النار/".‏

              وهي صورة حسية مركبة تتمازج وتتلاقح فيها عدة ظواهر حسية هي: "الأرض المحتقنة" و"يدحوها" و"يبرؤها" و"النار".‏

              يستخدم الشاعر في هذه القصيدة العديد من الأساليب الفنية الشعرية: الوصف: "رايات يحيى، ثوبك المنخوب بالطلقات"، و"المونولوج": "أغزُة هاشم في البرق"، و"النداء": "ياملكاً يسير مخضب الرايات"، و"التصوير الحسي: "يجعل من سواعدنا مقاليع النبوة"، وأخيراً: "التلوين": الذي يتجسد بأبهى تجلياته في قوله: "درعُهُ كوفيّةٌ /رقطاء/ وثبتُه براقٌ أزرقٌ/ وسماؤه صفراءُ....". تتداخل هنا وتتمازج ثلاثة ألوان في مشهد شعري واحد: المرّقط، والأزرق، والأصفر، لتشكل لنا مشهدا حسياً- لونياً- بصرياً رائعاً وكأننا إزاء لوحة تشكيلية تضج بالحياة والإبهار والدهشة.‏
              إذا الشعب يوما أراد الحياة
              فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
              و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
              و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

              تعليق


              • #8
                رد: شعر الانتفاضة في البعدين الفكري والفني

                سعدي يوسف/ العراق

                الشاعر العراقي المعروف سعدي يوسف كتب عن أبطال الحجارة قصيدة بعنوان: "إنه يحيى"(4). تميزت هذه القصيدة بشدة تكثيفها، ولغتها الإشراقية الفنية الموحية، بصورها الحسية المبتكرة، وتفاصيلها اليومية الحميمة.‏

                "يحيى" هو رمز المناضل الفلسطيني المقاتل، المناضل- الشهيد، والفتى- الشهيد.‏

                وهو الرمز الحي الذي لم يمت، لقد تحول إلى طاقة ثورية فعالة تعيش في أرواحنا وضمائرنا. وهو موجود في كل مكان:‏

                في البراري، وفي الماء، في رايات الثوار التي تنتشر في الأرض، في الشوارع، وفي كل بيت فلسطيني وعربي.‏

                لنقرأ للشاعر هذا المطلع الدال:‏

                "رايات يحيى، ثوبك المنخوب بالطلقات‏

                يحيى في البراري‏

                في قطرة الماء التي انسكبت على قدمين‏

                وانسربت بأفئدة الصغار‏

                راياتُ يحيى تعبر الأنهارَ والطرقَ التي اكتظت‏

                وتدخل في منازعنا، مضرجةَ السِرار‏

                من بيت إبراهيم‏

                من عبد الرحيم‏

                وماء رام اللّه تأتينا:‏

                أغزةُ هاشمٍ في البرقِ‏

                أم هذي كتائبنا مدججةً تلوح مع الدراري؟!".‏

                في المقطع الثاني يتنامى الفعل الدرامي عبر تأجج الحالة الثورية لدى المناضل - الشهيد يحيى، ابن المخيم الذي يتمازج غضبه مع غضب الأرض و"احتقانها". كلمة "الاحتقان" تدل هنا على تراكم القهر والقمع التاريخي الذي أصاب الشعب الفلسطيني عبر مراحل تاريخية كاملة، إلى أن يجيء "يحيى" ليدحو" الأرض و"يبرؤها" ثم يعدها للصراع والفعل الثوري، يعدها لكي تكون قذيفته المضادة لنار الغزاة وقمعهم.‏

                وترتقي حالة يحيى، ويتحول إلى مصدر لتوالد الثورة وديمومتها "يُنبت الأحجار"، بل هو يجعل من "سواعد" المناضلين "مقاليع" ووسائل كفاحية، ومن أصابعهم دم الثورة وزيتها المستمر.‏

                ما يُدهشنا هنا هو أن الشاعر استعار "النبوة" للمقلاع بدلاً من الحجر، بقوله: "يجعل من سواعدنا مقاليع النبوة"، بدلاً من أن يقول: "يجعل من سواعدنا مقاليع للحجارة". هنا أصبحت "النبوة" رديفاً "للحجر - الثورة" والجملة الشعرية هنا تفسح المجال لإمكانية التأويل، فيمكن القول مثلاً بأن الشاعر استخدم الحجر كرمز كفاحي، واستخدمه أيضاً كرمز "للنبوءة"، إنها نبوءة أبطال الحجارة الذين يكتبون لأنفسهم ولأمتهم عصراً جديداً آخر، وفجراً جديداً يبدد حالة القمع والمعاناة السابقة، ويؤرخ لعصر الحرية- الإنسان: "رايات يحيى، ثوبُكَ المنخوب بالطلقاتِ/ يحيى في المخيم/ يرفع الأرض التي احتقنت/ ويدحوها، ويَبْرُؤُها، ويقذفها بوجه النار/ يحيى ينبت الأحجار/ يجعل من سواعدنا مقاليع النبوّةِ/ من أصابعنا دم الثوار/".‏

                ثم يصف الشاعر "يحيى"، "بالجمرة" التي لا تتوقد وتشتعل إلاّ بجمر الثورة والكفاح: "يالفحَ الفتوةِ/ أيها الجمرُ الذي لا يغتذي إلاّ بهذا الجمر/".‏

                ويختتم قصيدته بحالة رائعة ينصهر فيها الـ "هو- الشهيد" بالـ "نحن- الشهداء"، أو الـ "هو- المناضل" بالـ "نحن- المناضلون"، ثم يضفي الشاعر على حركة يحيى "وتقدمه" الثوري صفة "القدسية". ويؤكد على أنه "الملك" الحقيقي الذي ينبغي أن يقود "بلاد الله" التي تأتي هنا رديفة "لفلسطين"، وتنتهي القصيدة بالفعل "خذنا"، وهي نهاية مفتوحة، إلاّ أن كامل السياق الشعري يقودنا للقول بأن الشاعر يقصد "خذنا للكفاح، خذنا للشهادة".‏

                فلنقرأ له خاتمة القصيدة: "ياولدي/ سلاماً أيها المتقدمُ القدّوس/ ياملكاً يسيرُ مخضب الرايات/ يايحيى/ سلاماً.../ خذ، كما تهوى، الشوارعَ/ خذ بلادَ الله مملكةً/ فلسطيناً/ وخذنا....".‏

                الشاعر سعدي يوسف مولع بذكر الأمكنة والأسماء والتفاصيل العادية أو الأسطورية: "إبراهيم، عبد الرحيم، رام الله، غزة، هاشم......الخ"، إلاّ أن مايميزه من الناحية الفنية هو قدرته على نقل العادي والمألوف إلى مصاف الفني -المدهش، وقد تجسد ذلك بنقل المشهد العادي الذي شكلته هذه الأسماء والأمكنة:‏

                "إبراهيم، عبد الرحيم، رام الله...." إلى الفني المتألق بقوله: "أغزّةُ هاشمٍ في البرق"، إن التصعيد الفني جاء هنا في اندغام غزة وبني هاشم في البرق أي في حالة السطوع الثوري، حالة الإخصاب الذي يشير إليه رمز "البرق" باعتبارهِ بشارة المطر والإخصاب والخير.‏

                وفي جملته الشعرية: "يحيى في البراري/ في قطرة الماءِ التي انسكبت على قدمين/ وانسربت بأفئدة الصغار". تتجسد لنا الطاقة التحولية والحركية في النص. فالطاقة التحولية تتجلى في تحول الرمز المناضل "يحيى" وحلوله في قطرة الماء، الماء رمز الحياة والخصب، ثم في انسرابهِ بأفئدةِ الصغار، يلعب الماء هنا دور الشافي الذي يشفي غليل الأطفال. أما الطاقة الحركية فتتجلى في الفعلين: "انسكب" و"انسرب"، حيث مثلا حالة الانسياب والليونة وأضفيا حالة حركية على كامل المقطع الشعري.‏

                ثم يتألق سعدي فنياً في صورتهِ الشعرية المبُتكرة: "يرفع الأرض التي احتقنت/ ويدحوها/ ويبرؤها، ويقذفها بوجه النار/".‏

                وهي صورة حسية مركبة تتمازج وتتلاقح فيها عدة ظواهر حسية هي: "الأرض المحتقنة" و"يدحوها" و"يبرؤها" و"النار".‏

                يستخدم الشاعر في هذه القصيدة العديد من الأساليب الفنية الشعرية: الوصف: "رايات يحيى، ثوبك المنخوب بالطلقات"، و"المونولوج": "أغزُة هاشم في البرق"، و"النداء": "ياملكاً يسير مخضب الرايات"، و"التصوير الحسي: "يجعل من سواعدنا مقاليع النبوة"، وأخيراً: "التلوين": الذي يتجسد بأبهى تجلياته في قوله: "درعُهُ كوفيّةٌ /رقطاء/ وثبتُه براقٌ أزرقٌ/ وسماؤه صفراءُ....". تتداخل هنا وتتمازج ثلاثة ألوان في مشهد شعري واحد: المرّقط، والأزرق، والأصفر، لتشكل لنا مشهدا حسياً- لونياً- بصرياً رائعاً وكأننا إزاء لوحة تشكيلية تضج بالحياة والإبهار والدهشة.‏
                إذا الشعب يوما أراد الحياة
                فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                تعليق


                • #9
                  رد: شعر الانتفاضة في البعدين الفكري والفني

                  * عز الدين المناصرة/ فلسطين



                  يمكن اعتبار قصيدة الشاعر العربي الفلسطيني عز الدين المناصرة: "يتوهج كنعان"(5) واحدة من أهم القصائد العربية التي كتبت عن الانتفاضة الفلسطينية، ومن أكثرها تميزاً على الصعيدين الفني والفكري.‏

                  منذ عنوانها تطالعنا هذه القصيدة بتباشير النصر المؤزر مُستندةً إلى الرمز التاريخي الكبير "كنعان". الفلسطينيون من أصل كنعاني وينتمون إلى جدهم الأكبر: "كنعان"، وتشير التنقيبات الأثرية، وكذلك المصادر التاريخية المختلفة بأن الكنعانيين واليبوسيين قد سكنوا فلسطين منذ قرابة "5000" خمسة آلاف عام. واليبوسيون هم قبيلة من الكنعانيين جاؤوا من الجزيرة العربية واستقروا في مدينة "القدس" أرض كنعان في فلسطين، وكذلك في جنوب سورية ولبنان. تتكون بنية القصيدة العامة من ستة مقاطع شعرية. تترابط هذه المقاطع بشكل مدروس بعناية فائقة، وهذا يؤكد بأن شاعرنا المناصرة قد خطط وصمم الهيكلية العامة للقصيدة وقام ببنائها بعين "المهندس" الخبير المتمكن من أدواتِه الفنية والمستند إلى خبرة متراكمة تعود إلى حوالي ثلاثة عقود.‏

                  لم يستند الشاعر إلى عنصر "الصنعة" فقط في عملية البناء الشعري، بل زواجَه مع عنصر "الانسياب" والتدفق الشعوري، ولولا هذا التزاوج المدهش لفقدت القصيدة عفويتها وانسيابيتها وتدفّقها العاطفي. ويمكن القول بأن كلا العنصرين المذكورين:"الانسياب والصنعة"، قد تزاوجا وتلاقحا بشكل فني وكلي، وأنتجا لنا هذه القصيدة الدرامية الطويلة.‏

                  يفتتح الشاعر المقطع الأول من قصيدتهِ بالفعل المضارع "أحاول" وهو أحد لازمتين شعريتين يرتكز عليهما البناء الشعري- كما سنبين لاحقاً-.‏

                  ويمكن أن نطلق على هذه اللازمة "أحاول" وصف: اللازمة- الفتح، أي أن مهمتها كانت فتح الآفاق أمام القصيدة والمساعدة على نمو فعلها الدرامي من الداخل بالتآزر مع عناصر أخرى. والفعل "أحاول" يشير إلى أن حركة القصيدة تبدأ من الزمن الحاضر ثم تنتهي به أيضاً من خلال الفعل المضارع "يتوهج" الذي يربط بين "الآن" و"الآتي"..‏

                  وكما يبدو فإن الشاعر أراد من خلال الفعل "أحاول" الابتعاد عن اليقينيات الجاهزة والمطلقة، فهو يتحدث عن "الممكن" أو "الإمكان" في الفعل الانساني بشقيه: الثوري، والإبداعي. أي الممكن الثوري والممكن الشعري.‏

                  يحاول الشاعر في مطلع قصيدته الإمساك بخاصرة "البحر" الذي رآه وتخيله "قرمزياً" لذا فإن البحر يرمز دلالياً هنا إلى الثورة والخلاص. "رؤيا" الشاعر أرادت ذلك، بالرغم من أنها تؤكد بأن البحر "كذات" هو رمز للحلم والربيع والشفافية. لنقرأ له هذا المطلع البهي، بلغتهِ الفنية المُشرقة، وصورهِ اللّماحة والمبتكرة:‏

                  "أحاولُ أن أمسكَ البحرَ من خصرهِ القرمزّي‏

                  أراهُ كذلك، لكنه يشتهي أن يكونَ ربيعاً لكي يعجب الآخرين.‏

                  بطيءٌ بريدك ياوطني والرسائل لا تصلُ العاشقين.‏

                  وكانت تحومُ النوارسُ، تملؤني غبطةً والنجوم‏

                  مسافرةٌ قرب شمس الأصيلْ.‏

                  أحاولُ يافرساً حجرياً على التلةِ القرمزيةِ كالبحرِ‏

                  مريمُ أفريقيا في الفضاءِ تمد ذراعاً لوهرانَ.‏

                  يختبئون وراءكِ كي لا يروا مريمِ التلحميةِ‏

                  أو مريم الانتفاضة أو مريم المريمية‏

                  مريم أفريقيا لم تطابق بهاء الأصولْ‏

                  وكذلك قيل: انطروا الماء، قيل كذلك ندٌ لروما‏

                  أما زلتِ يامهرةً تركضين، يتابع جريكِ‏

                  هذا المدارْ".‏

                  يحاول الشاعر في المقطع الأول أن يرسم صورة ناطقة للطبيعة، صورة -مُتخيلة. يستدعي بحرارة البحر في فلسطين، يستدعي عكا المحاصرة، والقدس السليبة. المشهد الطبيعي يتكون من العديد من العناصر، وأهمها: البحر "القرمزي"، والنوارس، والأشجار، والتلة "القرمزية أيضاً!!"، والفرس الحجري، والنجوم المسافرة، وشمس الأصيل، والتينة المقدسية، والحمام.‏

                  يسعى الشاعر من خلال تركيب هذه العناصر إلى بناء طقس شعري، إلى إضفاء روح الشعر على هذه العناصر من خلال تآلفها وتمازجها. بعبارة أخرى يسعى إلى شعرنة الواقع وتفاصيله الحية:"وكانت تحوم النوارسُ، تملؤني غبطة والنجوم/ مسافرةٌ قرب شمس الأصيل".‏

                  وهو يحاول تذكر "الفرس" رمز العنفوان والجموح والثورة، ويسبغ عليها صفة الحجر إشارة إلى الانتفاضة: "يافرساً حجرياً على التلةِ القرمزيةِ كالبحر". ويتخيل "التلة" التي تكون مرتعاً للفرس الجامح. التلة المتخيلة ذات لون قرمزي كالبحر، وهو رمز الثورة أيضاً.‏

                  وترد الانتفاضة مرة ثانية في هذا المقطع، وبشكل مباشر من خلال قوله: "مريم الانتفاضة".‏

                  عملية الاستذكار لم تكن سهلة، والشاعر في عودتِه إلى الذاكرة الأولى يعاني من هروب وفلتان العناصر الطبيعية - وخاصة البحر- بين يديه، ويشبه هروب البحر الفلسطيني كهروب النساء بين يديه، أو مثل هروب حقول القطار.‏

                  يتذكر "صخور البحر الذي يأوي الحمام إليه"، أما أروع تصوير يبلغهُ فهو تذّكُرُهُ "للتينة المقدسية": تشبيه حسي بارع يدل على امتلاك الشاعر لمخيلة خصبة ومُحلقة.‏

                  سيقان التينة ناصعة كالبللور، أما شروشها فتشبه أعصاب جده.‏

                  هكذا يؤكد المناصرة عمق ارتباطهِ، وارتباط شعبه بالأرض من خلال "أعصاب" الجد التي تتغلغل في مسامات التراب، في أعمق أعماق التربة، لتتفتح شروشاً وأغصاناً وثمراً طيباً.‏

                  وتكون الرحلة من "التينة المقدسية" إلى "تينة قلب الشاعر" التي حينما يتذكرها يجفل ويصيبه الذهول و"يهرب منه الكلام"، وثمة تواشج بين التينة المقدسية وتينة القلب، إنه تواشج العام بالخاص، جدل التلاحم بين رمز الكينونة الأول: "الطبيعة الأم" وبين ناتجها وابنها. ومن ثم يوجه الشاعر السلام إلى "التينة المقدسية"، أي السلام من المُكوَّن إلى المُكوِّن.‏

                  لنقرأ له هذا المقطع الشعري الذي يدل على ماذهبنا إليه: " أحاول أن أرسم البحر لكنه كنساء الينابيع يبدو صديقاً ويهرب من بين كفيّ مثل حقول القطار./ وأركضُ: أنظر حجاجاً من الصخر يأوي الحمام إليه من البحر والتينة المقدسية: بلّور سيقانها يصل المتوسط./ أما الشروشُ فأعصاب جدّي ويهربُ مني الكلام إذا ما اصطدمتُ بتينةِ قلبي/ عليها السلام".‏

                  ولأن استعادة البحر- الحقيقة، البحر- الوطن، غير ممكن في اللحظة الراهنة، أي لحظة التفجر الشعري، فإن الشاعر يستنجد بالخيال، وبالذاكرة الأولى لكي يحقق هذه الاستعادة. لذلك وكنوع من التعويض عن فقدان البحر- الوطن، أو نوع من أنواع تحايل الخيال -إذا جاز هذا التعبير- تلجأ مخيلتهُ إلى اختراعِ "البحر". إنه بحر مركب بشكل ذهني تنتجه مخيلة مبدعة تتمتع بقدرة تركيبية وتجريدية عالية. فالشاعر يخترع البحر ثم يشكله كما يريد مُدخِلاً عليه العديد من العناصر.‏

                  البحر الجديد المتخيلَ هو "البحر العربي" المتشكل من القدس والشام وبيروت، لنقرأ هذا المقطع الدال: "سنخترع البحرَ ثم نرشُ عليه البهارَ ونجلب من جبل الشام أقمار غوطتها ومن القدس صخرتها، من ضلوعك بيروت روشتك القرمزية ثم نشوي على الفحم فوق التلال المطلة -قلبك يابحرُ-/، أحجارك المرمرية، ننشرها فوق حبل الغسيل".‏

                  ينتهي المقطع الأول، بحالة وداعية حزينة، حالة المنفيين الذين يغادرون أرض وطنهم، يغادرون مدينة عكا وقلعتها البحرية التي صارت: "مأوى قراصنة البحر" ولم يبقَ فيها "غير السجون"، يؤشر الشاعر بوضوح إلى استعمار الصهاينة وسيطرتهم على مدينة عكا. ثم تكون خاتمة المقطع الأول باللازمة الشعرية الثانية: "بطيءٌ بريدكَ ياوطني والرسائل لا تصل العاشقين". ومن الملاحظ أن هذه اللازمة تكون خاتمة المقاطع الشعرية الخمسة- عدا المقطع السادس-، وهي لازمة ترمز لزمن الانتظار المر، زمن الخيبة الذي عانى منه الشعب الفلسطيني طويلاً. إن عدم تكرار هذه اللازمة في المقطع الأخير من القصيدة "السادس"، له مغزاه الفكري والفني وهذا ما سنُبينه.‏

                  يفتتح الشاعر مقطعه الثاني بكلمة "أحاول".... وهي اللازمة الأولى التي أطلقنا عليها تسمية اللازمة- الفتح. هنا مارست‏



                  هذه اللازمة كسر حالة الانغلاق التي مثّلَتها اللازمة الثانية: "بطيءٌ بريدك ياوطني...الخ". فتكون وظيفة الأولى "الفتح" والثانية "الإغلاق" أو اختتام الكلام.‏

                  يحاول الشاعر العودة إلى الذاكرة الأولى القريبة"، إلى أيام صباه، متذكراً وجه أبيه، وقريته، والتفاصيل اليومية التي كان يعيشها في يفاعتهِ.‏

                  يستند المناصرة في بناء خاتمة هذا المقطع إلى الحكاية الشعبية، والتفصيل اليومي العابق بالطرافة والألفة، وهو يؤكد على إنسيابية الشاعر وتدفقه العاطفي، كما يدل على تشبثه بعالم الطفولة حينما يتذكر تلك "المراهنة" التي تقوم بينه وبين أبناء قريته حول اسم المطرب العراقي الراحل "حضيري بو عزيز"، لنقرأ له هذا المقطع الدال: "أحاولُ: راهنتُ أربعةً: كان وجه أبي في مقالع مرمر قريتنا تعباً حين غنى مواويل ذاك المغني العراقي قيل اسمه "بوعزيز"، وقال لنا أحد الأصدقاء: / إذا لم يكن بادئاً اسمه هكذا رسم الحاء فوق التراب سأجدع أنفي وأرمي به للنوارس، أقسم آخر أن لا وجود لهذا المغني- وحين استشرنا مناديل عرّافة البحر، جادلتُها وربحتُ الرهانَ وحتى أغيظَ الأحبةَ صحتُ بأعلى حنيني - حنانيك ياحجراً في الخليل/".‏

                  ثم ينتقل الشاعر إلى ذكر حجر الخليل الذي "سرق الصهاينة قلبه". إلا أن هذا الحجر لم يذهب هباءً، بل استخدمه أطفال الانتفاضة ضد الغزاة الصهاينة. هنا يستخدم الشاعر الرمز التاريخي "جالوت" إشارة إلى المعركة الحاسمة التي انتصر فيها القائد المسلم الكبير صلاح الدين الأيوبي على الصليبيين في موقعة:"عين جالوت" في فلسطين: "واسألوا عنه أحفاد جالوت يرتفعون به في هواء الشوارع، يسقط طيراً أبابيل فوق رؤوس الجنود".‏

                  ثم يحرض الشاعر المنتفضين على مواصلة/ رشق الصهاينة بالحجارة التي أرعبتهم: "أرشقوهم يخافون هذا صباح الصهيل".‏

                  ويتجدد الرمز التاريخي "كنعان" في هذه القصيدة باعتباره رمزاً لكفاح الشعب الفلسطيني المنتفض وكأنه شبيه "النرجسة التي تنبثق من شقوق الحجر".‏

                  ثم يعود لاستخدام الذاكرة الأولى القريبة: "أحاول: دارٌ وحاكورةٌ"، والذاكرة الأولى البعيدة والموغلة في القِدم: "أحاول أن أتتبع موال أجدادنا الطيبين".‏

                  ثم يتذكر الشاعر أيام فتوته الأولى، ويحدد التاريخ الزمني لبدء صهيل المنافي ومغادرة الوطن: " منذ ثلاثين كان فتىً ويغني على مهل في الشعاب. وعاد إلينا سليلَ الجراحِ، كسيرَ الجناح يغازل ورد الصباح ويغرف من ماء هذي البطاحِ ويغرسُ أشعارهُ في سهولِ براحٍ...... وشربتُ وهيأتُ روحي لهوجِ المنافي/ وعسف الرياح/".‏

                  ثم تلح عليه الدار التي أصبحت حلماً من الأحلام: "منذ ثلاثين عاماً يحاصرني الحلمُ: دار وحاكورة وضجيج".‏

                  ويختتم المقطع باللازمة الثانية: "بطيءٌ بريدك ياوطني والرسائل لا تصل العاشقين".‏

                  في المقطع الثالث يستخدم الشاعر عز الدين المناصرة كلمة: "سلام" ليفتتح بها أفقاً جديداً للقصيدة وبداية لمواصلة نموها وتطورها الدرامي "سلامٌ، سلامٌ، سليمْ/ أرق من الشعراء بدير الأسد/ أرقّ من القمح قبل هبوب رياح السموم/.../ أرقٌ من النسوة الحاملات جرار الغيوم".‏

                  ثم يستطرد ذاكراً الحبيبة والبحر، ويوجه سلامه إلى "الراء" التي كانت رمزاً للمطر، وبعدها تحولت وأصبحت رمزاً للحجر، ينتقل الشاعر هنا من رمز الخصوبة إلى رمز الحجر - الثورة: (سلامٌ إلى الراء كانت مطر/ سلامٌ إلى الراء صارت حجرْ/". ويرد مرّة أخرى ذِكْر الرمز التاريخي "كنعان" مرتبطاً برمز الثورة "الحجر" الذي يبشر الشاعر به: "وكنعانُ في حجر نافرٍ سيطل قريباً/ ويكثر عنه الكلام".‏

                  وعودة أخرى: "للذاكرة الأولى القريبة"، العودة بالزمن إلى ثلاثين سنة للوراء، إلاّ أن الذاكرة سترتبط هذه المرّة بذكريات الحبيبة- الغائبة: (كان ذلك قبل ثلاثين في ليلة البرتقال، تضاهي الفراشات، كانت جدائلها تتشعلق في جذع زعرورةٍ".‏

                  واضح هنا أن الحبيبة تتماهى مع الأرض- الوطن، تندمج بها فيشكلان وحدة كلية لا تنفصم عراها: اندماجِ وترابط الجدائل "رمز الحبيبة" بجذع الزعرورة "رمز الأرض"، ثم ينتقل من الماضي إلى الزمن الحاضر، زمن كتابة القصيدة: "وبعد ثلاثين شفتكِ في التلفزة".‏

                  ويختتم هذا المقطع كالعادة باللازمة الثانية: "بطيء بريدك ياوطني والرسائل لا تصل العاشقين".‏

                  في المقطع الشعري الرابع تنويع آخر، "الحجر" هذه المرّة هي الكلمة - الأداة التي يستند إليها الشاعر في مواصلة عملية الصيرورة الشعرية داخل القصيدة: "حجرٌ من مقالع مرمرنا وعليه القيام". تتطور لغة الشاعر هنا تصبح أكثر صدامية، وهو هنا يشحن قصيدته بطاقة تحريضية عالية تستهدف إيقاظ أبناء الأمة، ويوكل "للحجر" هذه المهمة النبيلة: "الإيقاظ": "سوف يخطب فيكم ويوقظ بعض النيام".‏

                  ويرى الشاعر أن "الحجر" صار وسيلة نضالية حداثية، وأن الرمز التاريخي: "جالوت" هو "مدماك في قلب هذه الحداثة"، ونلمسُ هنا محاولة ذكية من قبل الشاعر لربط التراث النضالي لأمتنا بالفعل النضالي المعاصر:"الحداثة من حجرٍ صار رغم النوى مضرب الأمثلة./ لا تقل- كلما أثخنتْه الجراح انتهى- إن جالوت مدماك هذي الحداثة في السلسلة".‏

                  واضحٌ هنا أن "جالوت" تتحول إلى عنصر في بنية الحداثة الثورية الجديدة، ثم يختتم هذا المقطع أيضاً باللازمة الثانية: "بطيءٌ بريدك ياوطني.. الخ".‏

                  في المقطع الخامس تتشظى الذاكرة الشعرية من خلال الفعل المضارع: "أُعدّدُ" لتعانق عشرات الأسماء والأمكنة والرموز.‏

                  ذاكرة محمومة تعانق جذرها الأول ورمز كينونتها، تعانق الأرض ويجرفها الحنين الصاعق لمعانقة كل تفاصيلها وأسمائها وأمكنتها. وتكون البداية المقدسة: السلام "للقدس" ثم: "الخليل، نابلس، جباليا، جنين، قلقيليا، طول كرم، بيت لحم، بلاطة، الدهيشة، صفد، سلفيت....الخ"، حتى يمكن القول بأن الشاعر لم يترك مدينة معروفة أو مهمة في فلسطين إلا وذكرها في قصيدته هذه، ثم بعد ذلك السلام للشعراء والأدباء: "محمود درويش، سميح القاسم، توفيق زياد، سعدي يوسف، بدر شاكر السيّاب...الخ".‏

                  ومن فلسطين إلى كامل الأرض العربية يجول الشاعر ويوزع سلامه "الفاو والبصرة الصابرة، وناصر القاهرة، ونيل بيرم، وبيروت، والأردن، وكويت اللآلئ والفقراء، ثم إلى سوريا ومدنها المعروفة: الشام، اللاذقية، حلب، حماة، حمص، جبلة، ثم السلام للمخيمات الفلسطينية فيها: "اليرموك والنيرب، وفلسطين...الخ".‏

                  ثم يختتم المقطع الخامس باللازمة الشعرية الثانية: "بطيء بريدك ياوطني والرسائل لا تصل العاشقين"، هذه اللازمة سوف لن تتكرر في المقطع السادس كما أسلفنا لأن زمنها قد انتهى وبدأ عهد جديد.‏

                  يفتتح الشاعر المقطع السادس بجملة: "توهج كنعان بين القرى"، لتكون الفاصلة بين زمنين في القصيدة: "زمن الخيبة والانتظار القديم، وزمن الثورة والانتصار الجديد. فالرمز التاريخي "كنعان" الذي يتوهج في القرى الفلسطينية ليضيء الزمن ويجدد الحياة من خلال انتفاضة أبطال الحجارة، وليبدد زمن الخيبة والألم والانتظار الممل والطويل الذي دلت عليهِ اللازمة الثانية:‏

                  "بطيءٌ بريدك ياوطني والرسائل لا تصل العاشقين"، لذلك فإن "توهج كنعان" جاء نفياً للازمة المتكررة وتبديداً لحالة الخيبة التي أشارت إليها. وهكذا تختفي هذه اللازمة لتحل محلها حالة ثورية مشرقة تتمثل بانتصار الشعب الفلسطيني المكافح من خلال رمزه التاريخي "كنعان" الذي يتجدد في الزمن الحاضر، ويتجسد ويتجلى بشكل جديد من خلال أبطال الحجارة، لنقرأ للشاعر هذه الخاتمة الدالة والمشرقة: "يجيئكِ كنعان ملتحياً بالثلوج، يطير اليمامُ على كتفيه/ على فرسٍ أشهبٍ،/ ليلة الاجتياح وسبحته صدفٌ تلحمي، وجبّتُه من حرير/ يجيئكِ كنعان، كشرتُهُ من زجاجٍ وعيناهُ غاضبتان وسروالهُ عتبٌ وابتسامته من قتام/ يجيئكَ كنعان فابتهجي يابلادَ الندى وقلاع الغمام /عليكِ السلامُ/ عليكِ السلامُ/ عليكِ السلامْ".‏

                  أما على الصعيد الفني فإن قصيدة عز الدين المناصرة: "يتوهج كنعان" هي قصيدة : رؤيوية مركبة متعددة الأصوات، وذات مناخ درامي. يمتزج فيها التفصيلي اليومي بالتاريخي، الواقعي بالحلمي، المجرد بالمحسوس، العاطفي بالفكري، والوعي باللاوعي.‏

                  كما أنها ذات مستويات متعددة لذا يمكن قراءتها على المستوى الفكري والسياسي، والرمزي، والتاريخي، واللغوي، والنفسي، والاجتماعي، والفني الجمالي العام.‏

                  ومن خلال دراستنا لها، رصدنا الأصوات التالية: صوت ضمير المتكلم "أنا"، ومايدل عليه قوله: "أحاولُ". وصوت ضمير الغائب "هو" العائد للشاعر الفتى، ومايدل عليه قوله: "منذًُ ثلاثين كان فتى ويغني على مهلٍ في الشعاب..... ويغرس أشعاره في سهول براحٍ". وصوت الراوي: "وقال لنا أحد الأصدقاء". وصوت الحجر- الانتفاضة: "حجرٌ من مقالع مرمرنا وعليه القيام/ سوف يخطب فيكم ويوقظ بعض النيام".‏

                  وصوت الرمز التاريخي "كنعان": "وكنعان في حجرٍ نافرٍ سيطلُ قريباً/ ويكثر عنه الكلام". وصوت الطبيعة، ومن مفرداتها "النجمة": النجمة الجبلية قالت: أمامكَ نهرٌ وخلفكَ بحر ومجزرة".‏

                  لكل قصيدة قانونية وآلية تنظمُ حركتها الداخلية وصيرورتها ونموها وتطورها الحر والخلاّق، وقصيدة "يتوهج كنعان" للمناصرة تنمو وتتطور من خلال جدلية العلاقة بين عناصرها الداخلية، وبين أصواتها المتعددة التي ذكرناها، كما تتطور من خلال اللازمة الشعرية الثانية: "أحاولُ" إضافة إلى كلمتي "حجر" و"سلام"، ومن خلال اتكائها على الذاكرة الأولى القريبة: "كان وجه أبي في مقالع مرمر قريتنا تعباً"، والذاكرة الأولى البعيدة: "سلاماً لأجداثِ أجدادنا الطاهرة"، وأخيراً تشظي الذاكرة في الزمن الحاضر حيث يقوم الشاعر من خلال ذاكرته بمعانقة التفاصيل الواقعية الراهنة: "أسماء وأمكنة وتواريخ"، وتكون هذه التفاصيل عنصراً هاماً في عملية تطور وتنامي مناخ القصيدة الدرامي.‏

                  ويمكن القول إن الشاعر عز الدين المناصرة استخدم في بناء قصيدته المركبة ذات المناخ الدرامي غالبية الأساليب الفنية التي عرفتها الحداثة الشعرية العربية، وأهمها: الحوار: "كذلك قيل: انطروا الماء، قيل كذلك، ندٌ لروما"، والاستذكار: "كان المدى شجراً وشجيرات عوسج هذا المدى عِشرق البحر"، والاتكاء على الصورة الفنية: "هَيءْ جوادك للرعي في مرج ذاكرة الغيم حيث يقيمون أندلساً في الكلام"، والمونولوج: "أمازلتِ يامهرةً تركضين، يتابع جريكِ هذا المدار"، والأسلوب الشعبي ذي النكهة المحلية الفلسطينية: "عتابا تعاتبني الدارُ والميجنا سأصيحُ: أيا من جنى ثم جفرا الينابيع والنار ثم ظريف تمرُ بقامتها السرمدية كانسكاب الشعاع على الماء".‏

                  والسرد الحكائي: "قيل اسمهُ "بوعزيز" وقال لنا أحد الأصدقاء: إذا لم يكن بادئاً اسمه هكذا رسم الحاء فوق التراب سأجدع أنفي وأرمي به للنوارس".‏

                  الرمز هو أحد أهم العناصر التي ساهمت في تشكيل البنية الفنية والجمالية العامة لهذه القصيدة، وكما بدا فإن شاعرنا المناصرة مغرم باستخدام الرمز كأداة فنية هامة تساهم في عملية التطور الداخلي للقصيدة.‏

                  تتكون البنية الرمزية في قصيدة :"يتوهج كنعان"، من رموز متنوعة ومتعددة الدلالة، وأهمها: "الرمز التاريخي: "كنعان وجالوت"، والرمز الواقعي: أماكن مثل: الخليل، نابلس، الشام، البصرة، وهران، روما، المغرب العربي، الأردن، النيل.....الخ، وأسماء مثل : جمال عبد الناصر، محمود درويش، سميح القاسم، بدر شاكر السيّاب، سعدي يوسف.‏

                  والرمز الديني: مريم، الخضر. والرموز الطبيعية الواضحة والشفافة: كالبحر، والشجر، والغيم، والنوارس، والنرجس...الخ.‏

                  ومادمنا بصدد الحديث عن الرمز هنا يمكن القول بأن الثغرة الفنية البارزة التي لمسناها في هذه القصيدة هي في كيفية استخدام الشاعر للرمز وتوظيفهِ توظيفاً فنياً وجمالياً وخاصة في المقطع الخامس حين قام الشاعر بعملية تعداد الأسماء والأمكنة: "أعدد أسماءَها ثم أشجارها ثم أحجارها ثم أبدأُ بالقدس مريام".‏

                  لسنا ضد إيراد العشرات والمئات من الأسماء والأمكنة في القصيدة كما فعل الشاعر المناصرة، وكما حدث لذاكرته الشعرية المتشظية، لكن المهم هنا أن إيراد الرمز لا يكون على حساب القيمة الفنية والجمالية في النص، وهو ماحدث غالباً في المقطع الخامس حيث أغرق الشاعر جسد القصيدة بالرموز دون أن يحولها من مصاف العادي والمألوف إلى مصاف الفني والمدهش، ودون أن يمنحها دلالات جديدة قادرة على إضاءة النص داخلياً، ومنحه بعداً فنياً مدهشاً. إن رأينا هذا ينصب على المقطع الشعري الخامس تحديداً، أما في باقي المقاطع الأخرى فإن الشاعر كان ناجحاً ومتألقاً فنياً - في أغلب الأحيان- في عملية توظيفه واستخدامِهِ للرمزِ، كقولهِ في المقطع الثاني: "كنعان يخرج فجراً كنرجسةٍ من شقوق الحجر"، وقوله في المقطع السادس والأخير:‏

                  "يجيئك كنعان ملتحياً بالثلوج، يطير اليمام على كتفيه،..... وسبحتُه صدفٌ تلحمي، وجبتّهُ من حرير. يجيئك كنعان كشرتُه من زجاج وعيناه غاضبتان وسرواله عتبٌ وابتسامتهُ من قتام".‏

                  لذلك فإن الضعف الفني والجمالي في المقطع الخامس سيكون محدود التأثير إذا ما أخذنا الحصيلة الفنية الإجمالية العامة لكافة مقاطع القصيدة ولبنيتها الفنية العامة التي تؤكد على أنها كانت زاخرة بالقيم الفنية الجمالية المدهشة على صعيد الرؤية والرؤيا والتخييل وبناء الصورة واستخدام اللغة.‏

                  وحسناً يفعل شاعرنا المناصرة لو راجعَ بعين موضوعية فاحصة المقطع الخامس، وفي كل الأحوال هذا رأينا وتذوقنا النقدي، ونحن كما أسلفنا لا ندعي الصواب واحتكار الحقيقة، وقد يرى الشاعر والنقاد الآخرون رأياً لا يتفق مع رأينا هذا. وفي كل الأحوال فإن المسألة قابلة للحوار وتعدد وجهات النظر.‏

                  أما لغة الشاعر فهي "عموماً" لغة فنية موحية ومشرقة، تتخللّها العديد من الانزياحات المدهشة كقوله: "صحتُ بأعلى حنيني"، وتدل هذه القصيدة الطويلة على ثراء وتنوع قاموسه الشعري.‏

                  غالبية مفردات هذه القصيدة تمتاز بالوضوح والسلاسة والبساطة، إضافة إلى نكهتها الشعبية الأخّاذة واقترابها من لغة الحياة اليومية: "شِفْتُكِ، انطروا، مزعّتها"، إلاّ أنها في أحيان قليلة تصبح ناتئة ووحشية ونافرة كقوله: "عِشْرق، شعلقيني، تتشعلقُ، ترغلتِ......الخ".‏

                  وتتجلى لنا مهارة الشاعر اللغوية بقدرتهِ على تطويع مفرداتهِ، وبطريقتهِ في الاشتقاق اللغوي، وقدرته على إقامة العلاقات اللغوية المدهشة بين المفردات، ولعل هذه السمة من السمات الفنية الهامة التي تساهم في تشكيل فرادته وخصوصيته الفنية المتميزة.‏

                  ولعل إبداع الشاعر عز الدين المناصرة في هذه القصيدة يتجلى أكثر مايتجلى في كيفية رسم وبناء الصورة الفنية، فهو يتمتع بطاقة تخييلية عالية ومخيلة مبدعة أنتجت لنا العديد من الصور الشعرية المشرقة والموحية واللماحة، ويمكن إيجاز أهم سماتها الفنية: فهي صور مبتكرة تمتاز بجدتها، وبتماسكها الفني، كما أنها "غالباً" صور مركبة تتكون من عدة ظواهر، ويتزاوج فيها المجرد بالمحسوس، والواقعي بالحلمي، والعاطفي بالفكري. إلا أننا نلاحظ غلبة الطابع الحسي عليها. يقول في أحد صوره الرائعة في المقطع الأول مستهدفاً تصوير الطبيعة: "وكانت تحومُ النوارسُ، تملؤني غبطةً والنجوم مسافرةٌ قرب شمس الأصيلْ".‏

                  الصورة تستمد حركيتها وفاعليتها من خلال الفعل "تحوم" ومن خلال كلمة "مسافرة" مما أضفى على المشهد الطبيعي نكهة جمالية خاصة قائمة على الحركة النشيطة التي أضفت الحبور والبهجة على الأشياء، وقد انعكست العلاقة المتفاعلة بين مفردات الطبيعة ذاتها: "النوارس، النجوم، وشمس الأصيل"، بشكل إيجابي على "ذات" الشاعر التي امتلأت بالسعادة و"الغبطة". وهي صورة مركبة من ثلاث ظواهر حسية: "النوارس" و"النجوم" و"شمس الأصيل"، أما "الغبطة" فهي ظاهرة مجردة.‏

                  وفي المقطع الأول أيضاً نقرأ صورة أخرى يغلب عليها الطابع الحسي أيضاً وتمتاز بشفافيتها، وجدتها، وتماسكها الفني، وبطاقتها الإيحائية التي تفسح المجال للتأويل والتعدد الدلالي: وهي: "هِّيءْ جوادكَ للرعي في مرج ذاكرة الغيم". الصورة هنا مركبة أيضاً وتتكون من ثلاث ظواهر حسية: "الجواد" و"المرج" و "الغيم" وظاهرة مجردة واحدة هي "الذاكرة".‏

                  خيال جامح، وصورة تركيبية مدهشة ذات طاقة إيحائية عالية. إنها صورة تتجاوز العادي والمألوف لتحقق انزياحها الدلالي ومن هنا يمكن القول بأنها مبتكرة وجديدة.‏

                  أين يكمن الانزياح الدلالي والخروج على المألوف؟!...‏

                  حينما يستخدم الشاعر ضمير المخاطب:"أنت" بقوله: "هَيءْ جوادك للرعي"، فإن ذهن المتلقي يتجه بشكل طبيعي إلى المعنى والدلالة المألوفة والمتداولة والمتعارف عليها، وهي أن رعي الجواد سيتم في الحقول والمروج، أي على الأرض، أما أن يقودنا خيال الشاعر إلى ماهو غير متوقع، أي الرعي في مرج ذاكرة الغيم فهنا بالضبط يتم الانزياح الدلالي الذي يبعث على الدهشة والغرابة، وهنا يكمن أيضاً سحر الفن وطاقته التخييلية المبدعة والفريدة.‏

                  ومما زاد في تألق هذه الصورة هو أن الشاعر لم يقل بأن رعي الجواد سيتم في مرج الغيم بل في "ذاكرة" الغيم تحديداً، أي أنه شبه الغيم بإنسان له ذاكرة فعالة ونشطة وحذف المشبه به وهو الإنسان؟!‏

                  وهو بذلك أيضاً أضفى نكهة المعنى، وخواص العقل والفكر على مفردات الطبيعة غير العاقلة:" كالغيم" وذلك حينما تخيل بأن للغيم ذاكرة مفكرة، وهي ذاكرة مُخصِبة، وكما أسلفنا فإن هذه الصورة تحتمل التأويل، وتوحي بأفكار عديدة ومتنوعة، فنحن مثلاً يمكن أن نقرأها على النحو التالي: الجواد يرمز للثورة والجموح، والغيم يرمز للخصب والعطاء. إذن الصورة يمكن أن توحي بحالة فكرية قائمة على تزاوج الثورة بالخصب، وبالتالي فإنها انتفاضة وثورة معطاء وتحمل في داخلها عوامل خصوبتها وديمومتها وانتصارها.‏

                  وبوسعنا هنا أن نذكر العديد من الصور الفنية المتألقة التي تدل على مهارة الشاعر الفنية، وقدرته التخييلية العالية كإيراده لهذا التشبيه الحسي الرائع في المقطع الشعري الأول: "النوارسُ تزعق مثل رضيع سيعلن رغبته في حليب الصباح"، وتشبيهه الحسي الرائع أيضاً في المقطع الثاني: "تمر بقامتها السرمدية حيث ضفائرها كانسكاب الشعاع على الماء"، تصوروا هذه الطاقة الحركية المذهلة والمدهشة التي يكشف عنها الفعل: "انسكب" وتصوروا هذه الضفائر وكأنها شلال من الضوء والشعاع ينسكب فوق الماء!!...‏

                  ونقرأ أيضاً هذه الصورة الحسية المركبة والمبتكرة في المقطع الأول: "أحاول أن أرسم البحر لكنه كنساء الينابيع يبدو صديقاً ويهرب من بين كفيَّ مثل حقول القطار".‏

                  كما نقرأ هذه الصورة في المقطع الأول التي تدل على مخيلة، وذهن مرّكبَ قادر على التركيب، والتوليف، والمزج بين عدة عناصر وإشاعة روح الانسجام الشعري فيما بينها: "سنخترّع البحر ثم نرشُ عليه البهارَ ونجلب من جبل الشام أقمار غوطتها، ومن القدس صخرتها، ومن ضلوعك بيروت روشتك القرمزية ثم نشوي على الفحم فوق التلال المطلة -قلبكَ يابحرَ- أحجارك المرمرية، ننشرها فوق حبل الغسيلْ".‏

                  إن هذه القصيدة " يتوهج كنعان" تكشف عن موهبة شعرية خلاقة، وطاقة فنية مبدعة، وتؤكد على أنها من القصائد النادرة فعلاً، التي عبرت عن هذا الحدث الثوري الكبير بشكل فني خلاق.
                  إذا الشعب يوما أراد الحياة
                  فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                  و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                  و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                  تعليق


                  • #10
                    رد: شعر الانتفاضة في البعدين الفكري والفني

                    * عز الدين المناصرة/ فلسطين



                    يمكن اعتبار قصيدة الشاعر العربي الفلسطيني عز الدين المناصرة: "يتوهج كنعان"(5) واحدة من أهم القصائد العربية التي كتبت عن الانتفاضة الفلسطينية، ومن أكثرها تميزاً على الصعيدين الفني والفكري.‏

                    منذ عنوانها تطالعنا هذه القصيدة بتباشير النصر المؤزر مُستندةً إلى الرمز التاريخي الكبير "كنعان". الفلسطينيون من أصل كنعاني وينتمون إلى جدهم الأكبر: "كنعان"، وتشير التنقيبات الأثرية، وكذلك المصادر التاريخية المختلفة بأن الكنعانيين واليبوسيين قد سكنوا فلسطين منذ قرابة "5000" خمسة آلاف عام. واليبوسيون هم قبيلة من الكنعانيين جاؤوا من الجزيرة العربية واستقروا في مدينة "القدس" أرض كنعان في فلسطين، وكذلك في جنوب سورية ولبنان. تتكون بنية القصيدة العامة من ستة مقاطع شعرية. تترابط هذه المقاطع بشكل مدروس بعناية فائقة، وهذا يؤكد بأن شاعرنا المناصرة قد خطط وصمم الهيكلية العامة للقصيدة وقام ببنائها بعين "المهندس" الخبير المتمكن من أدواتِه الفنية والمستند إلى خبرة متراكمة تعود إلى حوالي ثلاثة عقود.‏

                    لم يستند الشاعر إلى عنصر "الصنعة" فقط في عملية البناء الشعري، بل زواجَه مع عنصر "الانسياب" والتدفق الشعوري، ولولا هذا التزاوج المدهش لفقدت القصيدة عفويتها وانسيابيتها وتدفّقها العاطفي. ويمكن القول بأن كلا العنصرين المذكورين:"الانسياب والصنعة"، قد تزاوجا وتلاقحا بشكل فني وكلي، وأنتجا لنا هذه القصيدة الدرامية الطويلة.‏

                    يفتتح الشاعر المقطع الأول من قصيدتهِ بالفعل المضارع "أحاول" وهو أحد لازمتين شعريتين يرتكز عليهما البناء الشعري- كما سنبين لاحقاً-.‏

                    ويمكن أن نطلق على هذه اللازمة "أحاول" وصف: اللازمة- الفتح، أي أن مهمتها كانت فتح الآفاق أمام القصيدة والمساعدة على نمو فعلها الدرامي من الداخل بالتآزر مع عناصر أخرى. والفعل "أحاول" يشير إلى أن حركة القصيدة تبدأ من الزمن الحاضر ثم تنتهي به أيضاً من خلال الفعل المضارع "يتوهج" الذي يربط بين "الآن" و"الآتي"..‏

                    وكما يبدو فإن الشاعر أراد من خلال الفعل "أحاول" الابتعاد عن اليقينيات الجاهزة والمطلقة، فهو يتحدث عن "الممكن" أو "الإمكان" في الفعل الانساني بشقيه: الثوري، والإبداعي. أي الممكن الثوري والممكن الشعري.‏

                    يحاول الشاعر في مطلع قصيدته الإمساك بخاصرة "البحر" الذي رآه وتخيله "قرمزياً" لذا فإن البحر يرمز دلالياً هنا إلى الثورة والخلاص. "رؤيا" الشاعر أرادت ذلك، بالرغم من أنها تؤكد بأن البحر "كذات" هو رمز للحلم والربيع والشفافية. لنقرأ له هذا المطلع البهي، بلغتهِ الفنية المُشرقة، وصورهِ اللّماحة والمبتكرة:‏

                    "أحاولُ أن أمسكَ البحرَ من خصرهِ القرمزّي‏

                    أراهُ كذلك، لكنه يشتهي أن يكونَ ربيعاً لكي يعجب الآخرين.‏

                    بطيءٌ بريدك ياوطني والرسائل لا تصلُ العاشقين.‏

                    وكانت تحومُ النوارسُ، تملؤني غبطةً والنجوم‏

                    مسافرةٌ قرب شمس الأصيلْ.‏

                    أحاولُ يافرساً حجرياً على التلةِ القرمزيةِ كالبحرِ‏

                    مريمُ أفريقيا في الفضاءِ تمد ذراعاً لوهرانَ.‏

                    يختبئون وراءكِ كي لا يروا مريمِ التلحميةِ‏

                    أو مريم الانتفاضة أو مريم المريمية‏

                    مريم أفريقيا لم تطابق بهاء الأصولْ‏

                    وكذلك قيل: انطروا الماء، قيل كذلك ندٌ لروما‏

                    أما زلتِ يامهرةً تركضين، يتابع جريكِ‏

                    هذا المدارْ".‏

                    يحاول الشاعر في المقطع الأول أن يرسم صورة ناطقة للطبيعة، صورة -مُتخيلة. يستدعي بحرارة البحر في فلسطين، يستدعي عكا المحاصرة، والقدس السليبة. المشهد الطبيعي يتكون من العديد من العناصر، وأهمها: البحر "القرمزي"، والنوارس، والأشجار، والتلة "القرمزية أيضاً!!"، والفرس الحجري، والنجوم المسافرة، وشمس الأصيل، والتينة المقدسية، والحمام.‏

                    يسعى الشاعر من خلال تركيب هذه العناصر إلى بناء طقس شعري، إلى إضفاء روح الشعر على هذه العناصر من خلال تآلفها وتمازجها. بعبارة أخرى يسعى إلى شعرنة الواقع وتفاصيله الحية:"وكانت تحوم النوارسُ، تملؤني غبطة والنجوم/ مسافرةٌ قرب شمس الأصيل".‏

                    وهو يحاول تذكر "الفرس" رمز العنفوان والجموح والثورة، ويسبغ عليها صفة الحجر إشارة إلى الانتفاضة: "يافرساً حجرياً على التلةِ القرمزيةِ كالبحر". ويتخيل "التلة" التي تكون مرتعاً للفرس الجامح. التلة المتخيلة ذات لون قرمزي كالبحر، وهو رمز الثورة أيضاً.‏

                    وترد الانتفاضة مرة ثانية في هذا المقطع، وبشكل مباشر من خلال قوله: "مريم الانتفاضة".‏

                    عملية الاستذكار لم تكن سهلة، والشاعر في عودتِه إلى الذاكرة الأولى يعاني من هروب وفلتان العناصر الطبيعية - وخاصة البحر- بين يديه، ويشبه هروب البحر الفلسطيني كهروب النساء بين يديه، أو مثل هروب حقول القطار.‏

                    يتذكر "صخور البحر الذي يأوي الحمام إليه"، أما أروع تصوير يبلغهُ فهو تذّكُرُهُ "للتينة المقدسية": تشبيه حسي بارع يدل على امتلاك الشاعر لمخيلة خصبة ومُحلقة.‏

                    سيقان التينة ناصعة كالبللور، أما شروشها فتشبه أعصاب جده.‏

                    هكذا يؤكد المناصرة عمق ارتباطهِ، وارتباط شعبه بالأرض من خلال "أعصاب" الجد التي تتغلغل في مسامات التراب، في أعمق أعماق التربة، لتتفتح شروشاً وأغصاناً وثمراً طيباً.‏

                    وتكون الرحلة من "التينة المقدسية" إلى "تينة قلب الشاعر" التي حينما يتذكرها يجفل ويصيبه الذهول و"يهرب منه الكلام"، وثمة تواشج بين التينة المقدسية وتينة القلب، إنه تواشج العام بالخاص، جدل التلاحم بين رمز الكينونة الأول: "الطبيعة الأم" وبين ناتجها وابنها. ومن ثم يوجه الشاعر السلام إلى "التينة المقدسية"، أي السلام من المُكوَّن إلى المُكوِّن.‏

                    لنقرأ له هذا المقطع الشعري الذي يدل على ماذهبنا إليه: " أحاول أن أرسم البحر لكنه كنساء الينابيع يبدو صديقاً ويهرب من بين كفيّ مثل حقول القطار./ وأركضُ: أنظر حجاجاً من الصخر يأوي الحمام إليه من البحر والتينة المقدسية: بلّور سيقانها يصل المتوسط./ أما الشروشُ فأعصاب جدّي ويهربُ مني الكلام إذا ما اصطدمتُ بتينةِ قلبي/ عليها السلام".‏

                    ولأن استعادة البحر- الحقيقة، البحر- الوطن، غير ممكن في اللحظة الراهنة، أي لحظة التفجر الشعري، فإن الشاعر يستنجد بالخيال، وبالذاكرة الأولى لكي يحقق هذه الاستعادة. لذلك وكنوع من التعويض عن فقدان البحر- الوطن، أو نوع من أنواع تحايل الخيال -إذا جاز هذا التعبير- تلجأ مخيلتهُ إلى اختراعِ "البحر". إنه بحر مركب بشكل ذهني تنتجه مخيلة مبدعة تتمتع بقدرة تركيبية وتجريدية عالية. فالشاعر يخترع البحر ثم يشكله كما يريد مُدخِلاً عليه العديد من العناصر.‏

                    البحر الجديد المتخيلَ هو "البحر العربي" المتشكل من القدس والشام وبيروت، لنقرأ هذا المقطع الدال: "سنخترع البحرَ ثم نرشُ عليه البهارَ ونجلب من جبل الشام أقمار غوطتها ومن القدس صخرتها، من ضلوعك بيروت روشتك القرمزية ثم نشوي على الفحم فوق التلال المطلة -قلبك يابحرُ-/، أحجارك المرمرية، ننشرها فوق حبل الغسيل".‏

                    ينتهي المقطع الأول، بحالة وداعية حزينة، حالة المنفيين الذين يغادرون أرض وطنهم، يغادرون مدينة عكا وقلعتها البحرية التي صارت: "مأوى قراصنة البحر" ولم يبقَ فيها "غير السجون"، يؤشر الشاعر بوضوح إلى استعمار الصهاينة وسيطرتهم على مدينة عكا. ثم تكون خاتمة المقطع الأول باللازمة الشعرية الثانية: "بطيءٌ بريدكَ ياوطني والرسائل لا تصل العاشقين". ومن الملاحظ أن هذه اللازمة تكون خاتمة المقاطع الشعرية الخمسة- عدا المقطع السادس-، وهي لازمة ترمز لزمن الانتظار المر، زمن الخيبة الذي عانى منه الشعب الفلسطيني طويلاً. إن عدم تكرار هذه اللازمة في المقطع الأخير من القصيدة "السادس"، له مغزاه الفكري والفني وهذا ما سنُبينه.‏

                    يفتتح الشاعر مقطعه الثاني بكلمة "أحاول".... وهي اللازمة الأولى التي أطلقنا عليها تسمية اللازمة- الفتح. هنا مارست‏



                    هذه اللازمة كسر حالة الانغلاق التي مثّلَتها اللازمة الثانية: "بطيءٌ بريدك ياوطني...الخ". فتكون وظيفة الأولى "الفتح" والثانية "الإغلاق" أو اختتام الكلام.‏

                    يحاول الشاعر العودة إلى الذاكرة الأولى القريبة"، إلى أيام صباه، متذكراً وجه أبيه، وقريته، والتفاصيل اليومية التي كان يعيشها في يفاعتهِ.‏

                    يستند المناصرة في بناء خاتمة هذا المقطع إلى الحكاية الشعبية، والتفصيل اليومي العابق بالطرافة والألفة، وهو يؤكد على إنسيابية الشاعر وتدفقه العاطفي، كما يدل على تشبثه بعالم الطفولة حينما يتذكر تلك "المراهنة" التي تقوم بينه وبين أبناء قريته حول اسم المطرب العراقي الراحل "حضيري بو عزيز"، لنقرأ له هذا المقطع الدال: "أحاولُ: راهنتُ أربعةً: كان وجه أبي في مقالع مرمر قريتنا تعباً حين غنى مواويل ذاك المغني العراقي قيل اسمه "بوعزيز"، وقال لنا أحد الأصدقاء: / إذا لم يكن بادئاً اسمه هكذا رسم الحاء فوق التراب سأجدع أنفي وأرمي به للنوارس، أقسم آخر أن لا وجود لهذا المغني- وحين استشرنا مناديل عرّافة البحر، جادلتُها وربحتُ الرهانَ وحتى أغيظَ الأحبةَ صحتُ بأعلى حنيني - حنانيك ياحجراً في الخليل/".‏

                    ثم ينتقل الشاعر إلى ذكر حجر الخليل الذي "سرق الصهاينة قلبه". إلا أن هذا الحجر لم يذهب هباءً، بل استخدمه أطفال الانتفاضة ضد الغزاة الصهاينة. هنا يستخدم الشاعر الرمز التاريخي "جالوت" إشارة إلى المعركة الحاسمة التي انتصر فيها القائد المسلم الكبير صلاح الدين الأيوبي على الصليبيين في موقعة:"عين جالوت" في فلسطين: "واسألوا عنه أحفاد جالوت يرتفعون به في هواء الشوارع، يسقط طيراً أبابيل فوق رؤوس الجنود".‏

                    ثم يحرض الشاعر المنتفضين على مواصلة/ رشق الصهاينة بالحجارة التي أرعبتهم: "أرشقوهم يخافون هذا صباح الصهيل".‏

                    ويتجدد الرمز التاريخي "كنعان" في هذه القصيدة باعتباره رمزاً لكفاح الشعب الفلسطيني المنتفض وكأنه شبيه "النرجسة التي تنبثق من شقوق الحجر".‏

                    ثم يعود لاستخدام الذاكرة الأولى القريبة: "أحاول: دارٌ وحاكورةٌ"، والذاكرة الأولى البعيدة والموغلة في القِدم: "أحاول أن أتتبع موال أجدادنا الطيبين".‏

                    ثم يتذكر الشاعر أيام فتوته الأولى، ويحدد التاريخ الزمني لبدء صهيل المنافي ومغادرة الوطن: " منذ ثلاثين كان فتىً ويغني على مهل في الشعاب. وعاد إلينا سليلَ الجراحِ، كسيرَ الجناح يغازل ورد الصباح ويغرف من ماء هذي البطاحِ ويغرسُ أشعارهُ في سهولِ براحٍ...... وشربتُ وهيأتُ روحي لهوجِ المنافي/ وعسف الرياح/".‏

                    ثم تلح عليه الدار التي أصبحت حلماً من الأحلام: "منذ ثلاثين عاماً يحاصرني الحلمُ: دار وحاكورة وضجيج".‏

                    ويختتم المقطع باللازمة الثانية: "بطيءٌ بريدك ياوطني والرسائل لا تصل العاشقين".‏

                    في المقطع الثالث يستخدم الشاعر عز الدين المناصرة كلمة: "سلام" ليفتتح بها أفقاً جديداً للقصيدة وبداية لمواصلة نموها وتطورها الدرامي "سلامٌ، سلامٌ، سليمْ/ أرق من الشعراء بدير الأسد/ أرقّ من القمح قبل هبوب رياح السموم/.../ أرقٌ من النسوة الحاملات جرار الغيوم".‏

                    ثم يستطرد ذاكراً الحبيبة والبحر، ويوجه سلامه إلى "الراء" التي كانت رمزاً للمطر، وبعدها تحولت وأصبحت رمزاً للحجر، ينتقل الشاعر هنا من رمز الخصوبة إلى رمز الحجر - الثورة: (سلامٌ إلى الراء كانت مطر/ سلامٌ إلى الراء صارت حجرْ/". ويرد مرّة أخرى ذِكْر الرمز التاريخي "كنعان" مرتبطاً برمز الثورة "الحجر" الذي يبشر الشاعر به: "وكنعانُ في حجر نافرٍ سيطل قريباً/ ويكثر عنه الكلام".‏

                    وعودة أخرى: "للذاكرة الأولى القريبة"، العودة بالزمن إلى ثلاثين سنة للوراء، إلاّ أن الذاكرة سترتبط هذه المرّة بذكريات الحبيبة- الغائبة: (كان ذلك قبل ثلاثين في ليلة البرتقال، تضاهي الفراشات، كانت جدائلها تتشعلق في جذع زعرورةٍ".‏

                    واضح هنا أن الحبيبة تتماهى مع الأرض- الوطن، تندمج بها فيشكلان وحدة كلية لا تنفصم عراها: اندماجِ وترابط الجدائل "رمز الحبيبة" بجذع الزعرورة "رمز الأرض"، ثم ينتقل من الماضي إلى الزمن الحاضر، زمن كتابة القصيدة: "وبعد ثلاثين شفتكِ في التلفزة".‏

                    ويختتم هذا المقطع كالعادة باللازمة الثانية: "بطيء بريدك ياوطني والرسائل لا تصل العاشقين".‏

                    في المقطع الشعري الرابع تنويع آخر، "الحجر" هذه المرّة هي الكلمة - الأداة التي يستند إليها الشاعر في مواصلة عملية الصيرورة الشعرية داخل القصيدة: "حجرٌ من مقالع مرمرنا وعليه القيام". تتطور لغة الشاعر هنا تصبح أكثر صدامية، وهو هنا يشحن قصيدته بطاقة تحريضية عالية تستهدف إيقاظ أبناء الأمة، ويوكل "للحجر" هذه المهمة النبيلة: "الإيقاظ": "سوف يخطب فيكم ويوقظ بعض النيام".‏

                    ويرى الشاعر أن "الحجر" صار وسيلة نضالية حداثية، وأن الرمز التاريخي: "جالوت" هو "مدماك في قلب هذه الحداثة"، ونلمسُ هنا محاولة ذكية من قبل الشاعر لربط التراث النضالي لأمتنا بالفعل النضالي المعاصر:"الحداثة من حجرٍ صار رغم النوى مضرب الأمثلة./ لا تقل- كلما أثخنتْه الجراح انتهى- إن جالوت مدماك هذي الحداثة في السلسلة".‏

                    واضحٌ هنا أن "جالوت" تتحول إلى عنصر في بنية الحداثة الثورية الجديدة، ثم يختتم هذا المقطع أيضاً باللازمة الثانية: "بطيءٌ بريدك ياوطني.. الخ".‏

                    في المقطع الخامس تتشظى الذاكرة الشعرية من خلال الفعل المضارع: "أُعدّدُ" لتعانق عشرات الأسماء والأمكنة والرموز.‏

                    ذاكرة محمومة تعانق جذرها الأول ورمز كينونتها، تعانق الأرض ويجرفها الحنين الصاعق لمعانقة كل تفاصيلها وأسمائها وأمكنتها. وتكون البداية المقدسة: السلام "للقدس" ثم: "الخليل، نابلس، جباليا، جنين، قلقيليا، طول كرم، بيت لحم، بلاطة، الدهيشة، صفد، سلفيت....الخ"، حتى يمكن القول بأن الشاعر لم يترك مدينة معروفة أو مهمة في فلسطين إلا وذكرها في قصيدته هذه، ثم بعد ذلك السلام للشعراء والأدباء: "محمود درويش، سميح القاسم، توفيق زياد، سعدي يوسف، بدر شاكر السيّاب...الخ".‏

                    ومن فلسطين إلى كامل الأرض العربية يجول الشاعر ويوزع سلامه "الفاو والبصرة الصابرة، وناصر القاهرة، ونيل بيرم، وبيروت، والأردن، وكويت اللآلئ والفقراء، ثم إلى سوريا ومدنها المعروفة: الشام، اللاذقية، حلب، حماة، حمص، جبلة، ثم السلام للمخيمات الفلسطينية فيها: "اليرموك والنيرب، وفلسطين...الخ".‏

                    ثم يختتم المقطع الخامس باللازمة الشعرية الثانية: "بطيء بريدك ياوطني والرسائل لا تصل العاشقين"، هذه اللازمة سوف لن تتكرر في المقطع السادس كما أسلفنا لأن زمنها قد انتهى وبدأ عهد جديد.‏

                    يفتتح الشاعر المقطع السادس بجملة: "توهج كنعان بين القرى"، لتكون الفاصلة بين زمنين في القصيدة: "زمن الخيبة والانتظار القديم، وزمن الثورة والانتصار الجديد. فالرمز التاريخي "كنعان" الذي يتوهج في القرى الفلسطينية ليضيء الزمن ويجدد الحياة من خلال انتفاضة أبطال الحجارة، وليبدد زمن الخيبة والألم والانتظار الممل والطويل الذي دلت عليهِ اللازمة الثانية:‏

                    "بطيءٌ بريدك ياوطني والرسائل لا تصل العاشقين"، لذلك فإن "توهج كنعان" جاء نفياً للازمة المتكررة وتبديداً لحالة الخيبة التي أشارت إليها. وهكذا تختفي هذه اللازمة لتحل محلها حالة ثورية مشرقة تتمثل بانتصار الشعب الفلسطيني المكافح من خلال رمزه التاريخي "كنعان" الذي يتجدد في الزمن الحاضر، ويتجسد ويتجلى بشكل جديد من خلال أبطال الحجارة، لنقرأ للشاعر هذه الخاتمة الدالة والمشرقة: "يجيئكِ كنعان ملتحياً بالثلوج، يطير اليمامُ على كتفيه/ على فرسٍ أشهبٍ،/ ليلة الاجتياح وسبحته صدفٌ تلحمي، وجبّتُه من حرير/ يجيئكِ كنعان، كشرتُهُ من زجاجٍ وعيناهُ غاضبتان وسروالهُ عتبٌ وابتسامته من قتام/ يجيئكَ كنعان فابتهجي يابلادَ الندى وقلاع الغمام /عليكِ السلامُ/ عليكِ السلامُ/ عليكِ السلامْ".‏

                    أما على الصعيد الفني فإن قصيدة عز الدين المناصرة: "يتوهج كنعان" هي قصيدة : رؤيوية مركبة متعددة الأصوات، وذات مناخ درامي. يمتزج فيها التفصيلي اليومي بالتاريخي، الواقعي بالحلمي، المجرد بالمحسوس، العاطفي بالفكري، والوعي باللاوعي.‏

                    كما أنها ذات مستويات متعددة لذا يمكن قراءتها على المستوى الفكري والسياسي، والرمزي، والتاريخي، واللغوي، والنفسي، والاجتماعي، والفني الجمالي العام.‏

                    ومن خلال دراستنا لها، رصدنا الأصوات التالية: صوت ضمير المتكلم "أنا"، ومايدل عليه قوله: "أحاولُ". وصوت ضمير الغائب "هو" العائد للشاعر الفتى، ومايدل عليه قوله: "منذًُ ثلاثين كان فتى ويغني على مهلٍ في الشعاب..... ويغرس أشعاره في سهول براحٍ". وصوت الراوي: "وقال لنا أحد الأصدقاء". وصوت الحجر- الانتفاضة: "حجرٌ من مقالع مرمرنا وعليه القيام/ سوف يخطب فيكم ويوقظ بعض النيام".‏

                    وصوت الرمز التاريخي "كنعان": "وكنعان في حجرٍ نافرٍ سيطلُ قريباً/ ويكثر عنه الكلام". وصوت الطبيعة، ومن مفرداتها "النجمة": النجمة الجبلية قالت: أمامكَ نهرٌ وخلفكَ بحر ومجزرة".‏

                    لكل قصيدة قانونية وآلية تنظمُ حركتها الداخلية وصيرورتها ونموها وتطورها الحر والخلاّق، وقصيدة "يتوهج كنعان" للمناصرة تنمو وتتطور من خلال جدلية العلاقة بين عناصرها الداخلية، وبين أصواتها المتعددة التي ذكرناها، كما تتطور من خلال اللازمة الشعرية الثانية: "أحاولُ" إضافة إلى كلمتي "حجر" و"سلام"، ومن خلال اتكائها على الذاكرة الأولى القريبة: "كان وجه أبي في مقالع مرمر قريتنا تعباً"، والذاكرة الأولى البعيدة: "سلاماً لأجداثِ أجدادنا الطاهرة"، وأخيراً تشظي الذاكرة في الزمن الحاضر حيث يقوم الشاعر من خلال ذاكرته بمعانقة التفاصيل الواقعية الراهنة: "أسماء وأمكنة وتواريخ"، وتكون هذه التفاصيل عنصراً هاماً في عملية تطور وتنامي مناخ القصيدة الدرامي.‏

                    ويمكن القول إن الشاعر عز الدين المناصرة استخدم في بناء قصيدته المركبة ذات المناخ الدرامي غالبية الأساليب الفنية التي عرفتها الحداثة الشعرية العربية، وأهمها: الحوار: "كذلك قيل: انطروا الماء، قيل كذلك، ندٌ لروما"، والاستذكار: "كان المدى شجراً وشجيرات عوسج هذا المدى عِشرق البحر"، والاتكاء على الصورة الفنية: "هَيءْ جوادك للرعي في مرج ذاكرة الغيم حيث يقيمون أندلساً في الكلام"، والمونولوج: "أمازلتِ يامهرةً تركضين، يتابع جريكِ هذا المدار"، والأسلوب الشعبي ذي النكهة المحلية الفلسطينية: "عتابا تعاتبني الدارُ والميجنا سأصيحُ: أيا من جنى ثم جفرا الينابيع والنار ثم ظريف تمرُ بقامتها السرمدية كانسكاب الشعاع على الماء".‏

                    والسرد الحكائي: "قيل اسمهُ "بوعزيز" وقال لنا أحد الأصدقاء: إذا لم يكن بادئاً اسمه هكذا رسم الحاء فوق التراب سأجدع أنفي وأرمي به للنوارس".‏

                    الرمز هو أحد أهم العناصر التي ساهمت في تشكيل البنية الفنية والجمالية العامة لهذه القصيدة، وكما بدا فإن شاعرنا المناصرة مغرم باستخدام الرمز كأداة فنية هامة تساهم في عملية التطور الداخلي للقصيدة.‏

                    تتكون البنية الرمزية في قصيدة :"يتوهج كنعان"، من رموز متنوعة ومتعددة الدلالة، وأهمها: "الرمز التاريخي: "كنعان وجالوت"، والرمز الواقعي: أماكن مثل: الخليل، نابلس، الشام، البصرة، وهران، روما، المغرب العربي، الأردن، النيل.....الخ، وأسماء مثل : جمال عبد الناصر، محمود درويش، سميح القاسم، بدر شاكر السيّاب، سعدي يوسف.‏

                    والرمز الديني: مريم، الخضر. والرموز الطبيعية الواضحة والشفافة: كالبحر، والشجر، والغيم، والنوارس، والنرجس...الخ.‏

                    ومادمنا بصدد الحديث عن الرمز هنا يمكن القول بأن الثغرة الفنية البارزة التي لمسناها في هذه القصيدة هي في كيفية استخدام الشاعر للرمز وتوظيفهِ توظيفاً فنياً وجمالياً وخاصة في المقطع الخامس حين قام الشاعر بعملية تعداد الأسماء والأمكنة: "أعدد أسماءَها ثم أشجارها ثم أحجارها ثم أبدأُ بالقدس مريام".‏

                    لسنا ضد إيراد العشرات والمئات من الأسماء والأمكنة في القصيدة كما فعل الشاعر المناصرة، وكما حدث لذاكرته الشعرية المتشظية، لكن المهم هنا أن إيراد الرمز لا يكون على حساب القيمة الفنية والجمالية في النص، وهو ماحدث غالباً في المقطع الخامس حيث أغرق الشاعر جسد القصيدة بالرموز دون أن يحولها من مصاف العادي والمألوف إلى مصاف الفني والمدهش، ودون أن يمنحها دلالات جديدة قادرة على إضاءة النص داخلياً، ومنحه بعداً فنياً مدهشاً. إن رأينا هذا ينصب على المقطع الشعري الخامس تحديداً، أما في باقي المقاطع الأخرى فإن الشاعر كان ناجحاً ومتألقاً فنياً - في أغلب الأحيان- في عملية توظيفه واستخدامِهِ للرمزِ، كقولهِ في المقطع الثاني: "كنعان يخرج فجراً كنرجسةٍ من شقوق الحجر"، وقوله في المقطع السادس والأخير:‏

                    "يجيئك كنعان ملتحياً بالثلوج، يطير اليمام على كتفيه،..... وسبحتُه صدفٌ تلحمي، وجبتّهُ من حرير. يجيئك كنعان كشرتُه من زجاج وعيناه غاضبتان وسرواله عتبٌ وابتسامتهُ من قتام".‏

                    لذلك فإن الضعف الفني والجمالي في المقطع الخامس سيكون محدود التأثير إذا ما أخذنا الحصيلة الفنية الإجمالية العامة لكافة مقاطع القصيدة ولبنيتها الفنية العامة التي تؤكد على أنها كانت زاخرة بالقيم الفنية الجمالية المدهشة على صعيد الرؤية والرؤيا والتخييل وبناء الصورة واستخدام اللغة.‏

                    وحسناً يفعل شاعرنا المناصرة لو راجعَ بعين موضوعية فاحصة المقطع الخامس، وفي كل الأحوال هذا رأينا وتذوقنا النقدي، ونحن كما أسلفنا لا ندعي الصواب واحتكار الحقيقة، وقد يرى الشاعر والنقاد الآخرون رأياً لا يتفق مع رأينا هذا. وفي كل الأحوال فإن المسألة قابلة للحوار وتعدد وجهات النظر.‏

                    أما لغة الشاعر فهي "عموماً" لغة فنية موحية ومشرقة، تتخللّها العديد من الانزياحات المدهشة كقوله: "صحتُ بأعلى حنيني"، وتدل هذه القصيدة الطويلة على ثراء وتنوع قاموسه الشعري.‏

                    غالبية مفردات هذه القصيدة تمتاز بالوضوح والسلاسة والبساطة، إضافة إلى نكهتها الشعبية الأخّاذة واقترابها من لغة الحياة اليومية: "شِفْتُكِ، انطروا، مزعّتها"، إلاّ أنها في أحيان قليلة تصبح ناتئة ووحشية ونافرة كقوله: "عِشْرق، شعلقيني، تتشعلقُ، ترغلتِ......الخ".‏

                    وتتجلى لنا مهارة الشاعر اللغوية بقدرتهِ على تطويع مفرداتهِ، وبطريقتهِ في الاشتقاق اللغوي، وقدرته على إقامة العلاقات اللغوية المدهشة بين المفردات، ولعل هذه السمة من السمات الفنية الهامة التي تساهم في تشكيل فرادته وخصوصيته الفنية المتميزة.‏

                    ولعل إبداع الشاعر عز الدين المناصرة في هذه القصيدة يتجلى أكثر مايتجلى في كيفية رسم وبناء الصورة الفنية، فهو يتمتع بطاقة تخييلية عالية ومخيلة مبدعة أنتجت لنا العديد من الصور الشعرية المشرقة والموحية واللماحة، ويمكن إيجاز أهم سماتها الفنية: فهي صور مبتكرة تمتاز بجدتها، وبتماسكها الفني، كما أنها "غالباً" صور مركبة تتكون من عدة ظواهر، ويتزاوج فيها المجرد بالمحسوس، والواقعي بالحلمي، والعاطفي بالفكري. إلا أننا نلاحظ غلبة الطابع الحسي عليها. يقول في أحد صوره الرائعة في المقطع الأول مستهدفاً تصوير الطبيعة: "وكانت تحومُ النوارسُ، تملؤني غبطةً والنجوم مسافرةٌ قرب شمس الأصيلْ".‏

                    الصورة تستمد حركيتها وفاعليتها من خلال الفعل "تحوم" ومن خلال كلمة "مسافرة" مما أضفى على المشهد الطبيعي نكهة جمالية خاصة قائمة على الحركة النشيطة التي أضفت الحبور والبهجة على الأشياء، وقد انعكست العلاقة المتفاعلة بين مفردات الطبيعة ذاتها: "النوارس، النجوم، وشمس الأصيل"، بشكل إيجابي على "ذات" الشاعر التي امتلأت بالسعادة و"الغبطة". وهي صورة مركبة من ثلاث ظواهر حسية: "النوارس" و"النجوم" و"شمس الأصيل"، أما "الغبطة" فهي ظاهرة مجردة.‏

                    وفي المقطع الأول أيضاً نقرأ صورة أخرى يغلب عليها الطابع الحسي أيضاً وتمتاز بشفافيتها، وجدتها، وتماسكها الفني، وبطاقتها الإيحائية التي تفسح المجال للتأويل والتعدد الدلالي: وهي: "هِّيءْ جوادكَ للرعي في مرج ذاكرة الغيم". الصورة هنا مركبة أيضاً وتتكون من ثلاث ظواهر حسية: "الجواد" و"المرج" و "الغيم" وظاهرة مجردة واحدة هي "الذاكرة".‏

                    خيال جامح، وصورة تركيبية مدهشة ذات طاقة إيحائية عالية. إنها صورة تتجاوز العادي والمألوف لتحقق انزياحها الدلالي ومن هنا يمكن القول بأنها مبتكرة وجديدة.‏

                    أين يكمن الانزياح الدلالي والخروج على المألوف؟!...‏

                    حينما يستخدم الشاعر ضمير المخاطب:"أنت" بقوله: "هَيءْ جوادك للرعي"، فإن ذهن المتلقي يتجه بشكل طبيعي إلى المعنى والدلالة المألوفة والمتداولة والمتعارف عليها، وهي أن رعي الجواد سيتم في الحقول والمروج، أي على الأرض، أما أن يقودنا خيال الشاعر إلى ماهو غير متوقع، أي الرعي في مرج ذاكرة الغيم فهنا بالضبط يتم الانزياح الدلالي الذي يبعث على الدهشة والغرابة، وهنا يكمن أيضاً سحر الفن وطاقته التخييلية المبدعة والفريدة.‏

                    ومما زاد في تألق هذه الصورة هو أن الشاعر لم يقل بأن رعي الجواد سيتم في مرج الغيم بل في "ذاكرة" الغيم تحديداً، أي أنه شبه الغيم بإنسان له ذاكرة فعالة ونشطة وحذف المشبه به وهو الإنسان؟!‏

                    وهو بذلك أيضاً أضفى نكهة المعنى، وخواص العقل والفكر على مفردات الطبيعة غير العاقلة:" كالغيم" وذلك حينما تخيل بأن للغيم ذاكرة مفكرة، وهي ذاكرة مُخصِبة، وكما أسلفنا فإن هذه الصورة تحتمل التأويل، وتوحي بأفكار عديدة ومتنوعة، فنحن مثلاً يمكن أن نقرأها على النحو التالي: الجواد يرمز للثورة والجموح، والغيم يرمز للخصب والعطاء. إذن الصورة يمكن أن توحي بحالة فكرية قائمة على تزاوج الثورة بالخصب، وبالتالي فإنها انتفاضة وثورة معطاء وتحمل في داخلها عوامل خصوبتها وديمومتها وانتصارها.‏

                    وبوسعنا هنا أن نذكر العديد من الصور الفنية المتألقة التي تدل على مهارة الشاعر الفنية، وقدرته التخييلية العالية كإيراده لهذا التشبيه الحسي الرائع في المقطع الشعري الأول: "النوارسُ تزعق مثل رضيع سيعلن رغبته في حليب الصباح"، وتشبيهه الحسي الرائع أيضاً في المقطع الثاني: "تمر بقامتها السرمدية حيث ضفائرها كانسكاب الشعاع على الماء"، تصوروا هذه الطاقة الحركية المذهلة والمدهشة التي يكشف عنها الفعل: "انسكب" وتصوروا هذه الضفائر وكأنها شلال من الضوء والشعاع ينسكب فوق الماء!!...‏

                    ونقرأ أيضاً هذه الصورة الحسية المركبة والمبتكرة في المقطع الأول: "أحاول أن أرسم البحر لكنه كنساء الينابيع يبدو صديقاً ويهرب من بين كفيَّ مثل حقول القطار".‏

                    كما نقرأ هذه الصورة في المقطع الأول التي تدل على مخيلة، وذهن مرّكبَ قادر على التركيب، والتوليف، والمزج بين عدة عناصر وإشاعة روح الانسجام الشعري فيما بينها: "سنخترّع البحر ثم نرشُ عليه البهارَ ونجلب من جبل الشام أقمار غوطتها، ومن القدس صخرتها، ومن ضلوعك بيروت روشتك القرمزية ثم نشوي على الفحم فوق التلال المطلة -قلبكَ يابحرَ- أحجارك المرمرية، ننشرها فوق حبل الغسيلْ".‏

                    إن هذه القصيدة " يتوهج كنعان" تكشف عن موهبة شعرية خلاقة، وطاقة فنية مبدعة، وتؤكد على أنها من القصائد النادرة فعلاً، التي عبرت عن هذا الحدث الثوري الكبير بشكل فني خلاق.
                    إذا الشعب يوما أراد الحياة
                    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                    تعليق


                    • #11
                      رد: شعر الانتفاضة في البعدين الفكري والفني

                      * كاظم السماوّي- العراق

                      الشاعر العراقي كاظم السماوّي هو أحد الشعراء العرب الذين تفاعلوا مع هذا الحدث التاريخي الهام وكتبوا عنه.‏

                      وشاعرنا السماوي من الشعراء العراقيين المعروفين، وله خبرة متراكمة في كتابة الشعر تمتد إلى أكثر من ثلاثين عاماً، بين أيدينا نص شعري بعنوان: (حجر... حجر)(6). كتبه الشاعر في 15/1/1988 عن الانتفاضة.‏

                      تتميز هذه القصيدة بكون بعض مقاطعها وجملها الشعرية تتضمن شحنات تحريضية وتوعوية قادرة على صدم المتلقي وتوجيه وعيه صوب مكامن الخلل في واقعنا العربي، حيث لا نعاني فقط من شراسة العدو الصهيوني والإمبريالي، بل من خيانة بعض العرب، أنظمة وأحزاباً وأفراداً، حتى ليمكن القول إن الخطر الثاني هو أشد تأثيراً وإيلاماً، لاسيما وأن الكثير من هؤلاء يزايدون برفع الشعارات الوطنية والقومية ويتسترون بها، وهم من ذلك براء، شاعرنا السماوي يحرض الجمهور على توجيه الفعل الثوري ضد هؤلاء، وضد العدو الصهيوني بآن واحد:‏

                      " حجرٌ لهم‏

                      حجرٌ لنا‏

                      حجرٌ يشجُ رؤوسهَم.‏

                      حجرٌ يشجُ رؤوسَنا‏

                      أحرى بنا أن ترجمونا‏

                      تدفنوا تحت الحجارةِ عارَنا".‏

                      والشاعر يفتح نار غضبه باتجاه كافة أشكال الخيانة، الظاهرة والمستترة، وكافة أشكال الاستغلال والاستبداد، داعياً إلى تحطيمها بروح انفعالية غاضبة، وبعاطفة ثورية متأججة: "حجرٌ لمن ألقى السلاح ومن غدر/ ولمن تعرى وائتزر/ ولمن تبدّى واستترْ/ ولمن تعفن واتجر/ حجر لعصرٍ من حجر/ حجرٌ لمن لَصَ الدماءَ وما اعتصر/..... حجر لأحكام وحكام حجر/ حجر لمؤتمر.... وما ائتمروا حجر.... حجر "لأنظمة الحجر"/ حجر "لجامعة الحجر" /ذممٌ حجر/ شرفٌ حجر/".‏

                      وبالرغم من الروح الثورية التي تتخلل أغلب مقاطع هذه القصيدة، إلاّ أن الشاعر تسوقه عواطفه وانفعالاته إلى إصدار أحكام إطلاقية نشم من خلالها رائحة العدمية "أحياناً": "حجرٌ لأحزاب حجر/.... فكر حجر/".‏

                      ولو قال الشاعر هنا: حجر لأحزاب من حجر، بدلاً من قوله: حجر لأحزابٍ حجر، لاستقام الكلام وأدى وظيفته الفكرية.‏

                      الملاحظة الهامة التي يمكن أن تؤخذ على هذه القصيدة من الناحية الفنية، هي كثرة استخدام الشاعر لمفردة "الحجر" فيها -حيث استخدمها أكثر من ثمانين مرّة- حتى أننا لو أحصينا عدد كلمات هذه القصيدة لوجدنا أن مفردة "الحجر" تكاد تساوي نصف عدد هذه الكلمات!! ونحن لا نخطئ هنا إذا أطلقنا على هذه القصيدة اسم: "القصيدة الحجرية".‏

                      بدهي نحن لا نعترض على استخدام وتكرار هذه الكلمة - الرمز حيث تحولت هذه الأداة الصراعية إلى رمز أسطوري للكفاح الذي يخوضه الشعب الفلسطيني المناضل ضد أعدائه المغتصبين الصهاينة، ولكن تكرار هذه الكلمة ينبغي أن يأتي ضمن السياق الشعري بشكل طبيعي وانسيابي، لا بشكل متكلف ومثقل لجسد القصيدة كما جاء في قصيدة السماوي، كما أن هذا التكرار يُفضل أن يأتي - عموماً- ضمن استخدامات شعرية متنوعة تعطي نكهة فنية متميزة للجمل الشعرية بما تستطيع توليده من صور شعرية مبتكرة تعطي لهذه المفردة "الحجر" مسوغاً فنياً لاستخدامها وتكرارها، حيث كل استخدام لها ينقلنا إلى معنى مبتكر وصورة شعرية ذات قيمة جمالية أخاذّة. إلاّ أن ماجرى هو عكس ماذهبنا إليه تماماً، فتكرار كلمة "الحجر" جاء مُمِلاً وثقيلاً، ولم يستطع الشاعر التنويع عليها وإكسابها دلالات فنية ومعنوية متميزة.‏

                      تُرى ماذا يعني تكرار الشاعر لها هنا؟!: "حجرٌ على حجرِ.... حجرْ"، هل ثمة معنى مبتكر، صورة شعرية جميلة؟! اللّهم! إلاّ إذا جاء ورودها هنا من باب "اللازمة الشعرية"، وهي على كل حال لازمة ضعيفة من الناحية الفنية والفكرية معاً.‏

                      وكما يبدو لي، فإن شاعرنا كاظم السّماوي الذي سبق له وأن أتحفنا ببعض الأعمال الفنية الشعرية الجيدة، كان متعجلاً كثيراً في كتابتهِ لهذه القصيدة، وأن الحدث لم يكن ناضجاً في فرن روحهِ الشاعرة لذا جاءت ولادة القصيدة ولادة قيصرية، وجاء الوليد "القصيدة" مصاباً بعاهات عديدة أضخمها طُراً هذه العاهة:"الحجرية" التي التهمت جسد القصيدة بيباسها ونتوءاتها الحادة.‏

                      إن كل ذلك يدعونا للتحفظ على هذه الأعمال الضعيفة فنياً، مؤكدين على أن الانحياز للثورة والانتفاضة الفلسطينية الباسلة لا يعني إضعاف الروح الفني، وإفساد الذائقة الفنية، وعدم الاكتراث بالقيمة الجمالية في النص الشعري وذلك بحجة التمسك بالموقف الثوري، وعن طريق الزعيق والصراخ المتهافت فنياً، إن أعظم خدمة نقدمها للثورة هي أن نكتب أعمالاً فنية زاخرة بقيم جمالية وفكرية تكون بموازاة الحدث الثوري وترتقي إلى مصافه، وتكون بمثابة المعادل الموضوعي الفني له، وكما يقول الروائي الكولومبي الشهير ماركيز: "واجب الكاتب الجيد أن يكتب جيداً، ذلك هو التزامه".‏
                      إذا الشعب يوما أراد الحياة
                      فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                      و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                      و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                      تعليق


                      • #12
                        رد: شعر الانتفاضة في البعدين الفكري والفني

                        * كاظم السماوّي- العراق

                        الشاعر العراقي كاظم السماوّي هو أحد الشعراء العرب الذين تفاعلوا مع هذا الحدث التاريخي الهام وكتبوا عنه.‏

                        وشاعرنا السماوي من الشعراء العراقيين المعروفين، وله خبرة متراكمة في كتابة الشعر تمتد إلى أكثر من ثلاثين عاماً، بين أيدينا نص شعري بعنوان: (حجر... حجر)(6). كتبه الشاعر في 15/1/1988 عن الانتفاضة.‏

                        تتميز هذه القصيدة بكون بعض مقاطعها وجملها الشعرية تتضمن شحنات تحريضية وتوعوية قادرة على صدم المتلقي وتوجيه وعيه صوب مكامن الخلل في واقعنا العربي، حيث لا نعاني فقط من شراسة العدو الصهيوني والإمبريالي، بل من خيانة بعض العرب، أنظمة وأحزاباً وأفراداً، حتى ليمكن القول إن الخطر الثاني هو أشد تأثيراً وإيلاماً، لاسيما وأن الكثير من هؤلاء يزايدون برفع الشعارات الوطنية والقومية ويتسترون بها، وهم من ذلك براء، شاعرنا السماوي يحرض الجمهور على توجيه الفعل الثوري ضد هؤلاء، وضد العدو الصهيوني بآن واحد:‏

                        " حجرٌ لهم‏

                        حجرٌ لنا‏

                        حجرٌ يشجُ رؤوسهَم.‏

                        حجرٌ يشجُ رؤوسَنا‏

                        أحرى بنا أن ترجمونا‏

                        تدفنوا تحت الحجارةِ عارَنا".‏

                        والشاعر يفتح نار غضبه باتجاه كافة أشكال الخيانة، الظاهرة والمستترة، وكافة أشكال الاستغلال والاستبداد، داعياً إلى تحطيمها بروح انفعالية غاضبة، وبعاطفة ثورية متأججة: "حجرٌ لمن ألقى السلاح ومن غدر/ ولمن تعرى وائتزر/ ولمن تبدّى واستترْ/ ولمن تعفن واتجر/ حجر لعصرٍ من حجر/ حجرٌ لمن لَصَ الدماءَ وما اعتصر/..... حجر لأحكام وحكام حجر/ حجر لمؤتمر.... وما ائتمروا حجر.... حجر "لأنظمة الحجر"/ حجر "لجامعة الحجر" /ذممٌ حجر/ شرفٌ حجر/".‏

                        وبالرغم من الروح الثورية التي تتخلل أغلب مقاطع هذه القصيدة، إلاّ أن الشاعر تسوقه عواطفه وانفعالاته إلى إصدار أحكام إطلاقية نشم من خلالها رائحة العدمية "أحياناً": "حجرٌ لأحزاب حجر/.... فكر حجر/".‏

                        ولو قال الشاعر هنا: حجر لأحزاب من حجر، بدلاً من قوله: حجر لأحزابٍ حجر، لاستقام الكلام وأدى وظيفته الفكرية.‏

                        الملاحظة الهامة التي يمكن أن تؤخذ على هذه القصيدة من الناحية الفنية، هي كثرة استخدام الشاعر لمفردة "الحجر" فيها -حيث استخدمها أكثر من ثمانين مرّة- حتى أننا لو أحصينا عدد كلمات هذه القصيدة لوجدنا أن مفردة "الحجر" تكاد تساوي نصف عدد هذه الكلمات!! ونحن لا نخطئ هنا إذا أطلقنا على هذه القصيدة اسم: "القصيدة الحجرية".‏

                        بدهي نحن لا نعترض على استخدام وتكرار هذه الكلمة - الرمز حيث تحولت هذه الأداة الصراعية إلى رمز أسطوري للكفاح الذي يخوضه الشعب الفلسطيني المناضل ضد أعدائه المغتصبين الصهاينة، ولكن تكرار هذه الكلمة ينبغي أن يأتي ضمن السياق الشعري بشكل طبيعي وانسيابي، لا بشكل متكلف ومثقل لجسد القصيدة كما جاء في قصيدة السماوي، كما أن هذا التكرار يُفضل أن يأتي - عموماً- ضمن استخدامات شعرية متنوعة تعطي نكهة فنية متميزة للجمل الشعرية بما تستطيع توليده من صور شعرية مبتكرة تعطي لهذه المفردة "الحجر" مسوغاً فنياً لاستخدامها وتكرارها، حيث كل استخدام لها ينقلنا إلى معنى مبتكر وصورة شعرية ذات قيمة جمالية أخاذّة. إلاّ أن ماجرى هو عكس ماذهبنا إليه تماماً، فتكرار كلمة "الحجر" جاء مُمِلاً وثقيلاً، ولم يستطع الشاعر التنويع عليها وإكسابها دلالات فنية ومعنوية متميزة.‏

                        تُرى ماذا يعني تكرار الشاعر لها هنا؟!: "حجرٌ على حجرِ.... حجرْ"، هل ثمة معنى مبتكر، صورة شعرية جميلة؟! اللّهم! إلاّ إذا جاء ورودها هنا من باب "اللازمة الشعرية"، وهي على كل حال لازمة ضعيفة من الناحية الفنية والفكرية معاً.‏

                        وكما يبدو لي، فإن شاعرنا كاظم السّماوي الذي سبق له وأن أتحفنا ببعض الأعمال الفنية الشعرية الجيدة، كان متعجلاً كثيراً في كتابتهِ لهذه القصيدة، وأن الحدث لم يكن ناضجاً في فرن روحهِ الشاعرة لذا جاءت ولادة القصيدة ولادة قيصرية، وجاء الوليد "القصيدة" مصاباً بعاهات عديدة أضخمها طُراً هذه العاهة:"الحجرية" التي التهمت جسد القصيدة بيباسها ونتوءاتها الحادة.‏

                        إن كل ذلك يدعونا للتحفظ على هذه الأعمال الضعيفة فنياً، مؤكدين على أن الانحياز للثورة والانتفاضة الفلسطينية الباسلة لا يعني إضعاف الروح الفني، وإفساد الذائقة الفنية، وعدم الاكتراث بالقيمة الجمالية في النص الشعري وذلك بحجة التمسك بالموقف الثوري، وعن طريق الزعيق والصراخ المتهافت فنياً، إن أعظم خدمة نقدمها للثورة هي أن نكتب أعمالاً فنية زاخرة بقيم جمالية وفكرية تكون بموازاة الحدث الثوري وترتقي إلى مصافه، وتكون بمثابة المعادل الموضوعي الفني له، وكما يقول الروائي الكولومبي الشهير ماركيز: "واجب الكاتب الجيد أن يكتب جيداً، ذلك هو التزامه".‏
                        إذا الشعب يوما أراد الحياة
                        فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                        و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                        و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                        تعليق


                        • #13
                          رد: شعر الانتفاضة في البعدين الفكري والفني

                          * ممدوح عدوان/ سورية/

                          وكما وقع الشاعر كاظم السماوّي في المطب "الحجري" فإن الشاعر ممدوح عدوان وقع في المطب ذاته، فحفلت قصيدته المعنونة "الحجر"(7) بهذهِ المفردة، إلاّ أن استخدامه لها كان بكثافة أقل، وبمهارة فنية أعلى "نسبياً" من محاولة السماوي، حيث تخللت قصيدة ممدوح عدوان العديد من الومضات الشعرية المتألقة، والصور الشعرية الأخّاذة، والمعاني العميقة المبتكرة: "حجر الفلاسفة الذي/ سيحول العتم المرسب في مفاصلنا / إلى ضوء".‏

                          لاحظوا كلمة "المرسب" كم شحنت القصيدة أو هذه الجملة الشعرية بطاقة إيحائية، وبمعنى مبتكر عميق الغور في دلالاته واستهدافاتهِ، فحالة العتمة لدينا ليست حالة مؤقتة وعابرة، بل مستديمة ومكينة، إنها جزء من بنية الذات العربية، والروح العربية، والواقع العربي الراهن.‏

                          - وحينما نتحدث عن "العتمة" أو التخلف الذي أصاب الذات العربية فنحن نقصد عصور الانحطاط وكذلك واقعنا المعاصر، بعد أن كانت أمتنا مصدر إشعاع أثر على الحضارة البشرية برمتها-.‏

                          هنا- مثلاً تتحقق المعادلة الشعرية الصعبة: العمق في الرؤية والتفكير، مع الأصالة والابتكار والإدهاش في الفن من خلال رسم وتشكيل الصورة الشعرية المتألقة، هذا بالإضافة إلى صور جميلة أخرى كقوله:‏

                          "يُرمي حجرٌ‏

                          وتجيئه الطلقاتُ تنبحُ‏

                          يستحيلُ إلى قمرٍ‏

                          ويعود مُنهمراً بأحجارٍ‏

                          تعلم رميها من هجمة الطير الأبابيلِ‏

                          التي من صوتها ترهبْ"‏

                          التركيز في الكثافة الشعرية الإيحائية جاءت في هذه الجملة الشعرية بالذات "وتجيئه الطلقات تنبحُ" حيث أعطى الشاعر فعل النباح للطلقة، والذي أسبغ على الطلقة وهي "جماد صفة من صفات الكائن الحي "الحيوان" هنا تتجلى أيضاً القدرة التحويلية في الشعر من خلال تشبيهات صورية مبتكرة والربط بين المجرد والمحسوس، كما حاول الشاعر في هذا المقطع بالذات استخدام وتوظيف الرمز التاريخي القديم الذي ورد في القرآن الكريم "طير أبابيل": "تعلم رميها من هجمة الطير الأبابيل"، وقد أكسب هذا الاستخدام الواقع معاني ودلالات جديدة تخدم عصرنا الراهن وتطوراته الثورية.‏

                          ومن الصور الجميلة والمبتكرة أيضاً:‏

                          "مطرٌ تيبس في شتاءٍ قاحلٍ‏

                          للغيم جلد صار ينغرُ كالإبر‏

                          ورق تحجر في الشجر‏

                          والريحُ تخجل حيث تأتي دونما مطر".‏

                          وبالرغم من هذه التألقات الفنية المتناثرة هنا وهناك في جسد القصيدة وبنائها، إلا أنها عموماً تراوحت بين الهبوط والعلو "النسبي" ولم تأخذ منحىً فنياً تطورياً متصاعداً، ولم تكن كل أجزائها بمستوى واحد، أو بمعنى أدق بمستوى متقارب من الناحية الفنية، فسقطت "أحياناً" في الشعار والتقريرية والمباشرة: " إن القلوب تجف رحمتها.. وتصبح من حجر/ لم يبق شيءٌ للخسارةِ... كن حجر/ لم يبق وجه لم يمرغ... كن حجر...".‏

                          كما أن اللجوء إلى التفسير والتعليل والشرح قد أضعف انسيابية القصيدة وأدى إلى أن يخبو بريقها ووهجها الفني، بالرغم من الجمال الفني في الجمل الشعرية السابقة: "حجر وينكسر الزجاج عن الدفيئات/ التي حضنت بيوضاً/ كي تفقس في هزائمنا/ ولاة نيئين/". وقوله: "ولد يشرشُ في الزواريب العتيقةِ/ كي يلقح بالعناد".‏

                          أنظروا كم ترتاح النفس وتسعد وتدهش لهذه الصور "ينكسر الزجاج عن الدفيئات.../ ولاةً نيئين"، وبشكل يدعو أكثر للغبطة قوله: "ولدٌ يشرشُ في الزواريب العتيقة"، لكن مجيء "كي" مرتين:"كي تفقس في هزائمنا، وكي يلقح بالعناد"، أضعف الطاقة الإيحائية في الشعر وذلك باللجوء إلى التفسير والتعليل والشرح، وكما يبدو لي، فإن الشاعرممدوح عدوان حينما يترك نفسه على سجيتها وانسيابيتها الشعرية فإنه يبدع ويتألق ولكنه مجرد أن يغمس ريشته بمحبرة الصنعة والتكلف يقع في فخاخ المباشرة والتقريرية حيث يصبح الشعر محاولة فكرية مقحمة من الخارج على الداخل، أي على نبض القصيدة الداخلي، وسياقها الشعري المنساب، المتطور، والمتنامي داخلياً.‏

                          القصيدة ككائن حي لها قانونية داخلية، ولها آلية تحكم تطورها، وتُحكم الترابط العضوي بين أجزائها، وهي تنمو من داخلها، وأية محاولة قسرية من الخارج عليها ستكون منبوذة، ولا تنسجم مع روحها الداخلي في تناسقه وتناميه وتطوره.‏

                          وقصيدة ممدوح عدوان تتميز من الناحية الفكرية "عموماً" كسابقاتها من قصائد الشعراء العرب الآخرين بطابعها وجوِّها التحريضي والتعبوي الداعي إلى تنظيف جسد هذه الأمة من الأوحال والقذارات العالقة به، ويلتحم في هذه القصيدة البعد الطبقي بالبعد الوطني:‏

                          هذا خسيسٌ كان يسرق قوتنا...... فاضرب حجر‏

                          هذا عدو قادم...... فاضرب حجر‏

                          هذا عدو حاكم ...... فاضرب حجر‏

                          لم يبق عندك من سلاحٍ نافعٍ: فاحمل حجر‏

                          لم يبقَ صمتٌ ساترٌ...... فاضرب حجر‏

                          إلاّ أن القصيدة وقعت في إشكال "فكري" ينبغي التوقف عنده قليلاً، والذي تجسد بقول الشاعر:"هذا زمان من حجر/ إن شئت أن تحيا عزيزاً/ كن حجر".‏

                          هنا جاء التركيز على الأداة "الحجر" وليس على الإنسان الذي يخلق أو يحمل الأداة، ويسخرها لأهدافه ومصالحه، أغلب الظن أن الشاعر ممدوح وقد ساقته انفعالاته الثورية التي نحترمها ونقف معها لم يفطن لهذا الانفلات الزائد في المشاعر، ولم يستطع أن يكبحه أو يوجههُ بالمعنى الأدق.‏
                          إذا الشعب يوما أراد الحياة
                          فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                          و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                          و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                          تعليق


                          • #14
                            رد: شعر الانتفاضة في البعدين الفكري والفني

                            *محمد خالد رمضان- سورية

                            الشاعر السوري محمد خالد رمضان من الشعراء الذين تأثروا بهذا الحدث التاريخي الكبير، وكتبوا عنه.‏

                            والأستاذ رمضان هو قاص وكاتب تراثي بالإضافة إلى كونهِ شاعراً. منذ بداية قصيدته: "زمن من دماء" يحاول الشاعر رمضان أن ينأى بلغتهِ الشعرية عن التقريرية والمباشرة، مُستنداً على الرمز الشفاف الواضح والبسيط:‏

                            "زمانٌ يفتحُ للبحرِ أبوابَه‏

                            لنابلس بوح الأصابع‏

                            والأغنيات".‏

                            فينجح في مسعاه هذا إلى حد ما، أو على وجه الدقة إلى الحد الذي يقيه -عموماً- من الوقوع في بعض "المطبات الفنية" التي وقع فيها العديد من الشعراء العرب، إلاّ أننا نجد بعض الاعتلالات في القصيدة، كطغيان الرابطة المنطقية في بعض جملها الشعرية: "عميق، عميق نداء التراب/ ويمتد عصف الأيادي"، فعصف الأيادي جاء نتيجة منطقية لنداء التراب العميق، هذا بالإضافة إلى أننا نشعر بطغيان الخارج على الداخل هنا، أي أن القصيدة لا تنمو مِن الداخل نمواً طبيعياً مما يخلخل بنيتها ويجعلها كتلاً متباعدة غير متناسقة وغير مترابطة الأجزاء، كما أن تقيد الشاعر بالقافية في أكثر من موضع في القصيدة حَدَّ من مخيلتهِ وبالتالي حال ذلك دون توهجها الفني: "فاسمع رقص الشجر/ وتقفز غزة في المد تعلو/ وتعلو تعالي المطر".‏

                            وبعيداً عن الصراخ، ولغة الخطاب السياسي، تجيء قصيدة محمد خالد رمضان مسربلةً بأجواء التفاؤل الثوري، ومؤكدةً على حتمية اندحار الظلام:‏

                            "تفتح رؤىً في لهيب الشوارعِ‏

                            حرفاً يجن وينقف لمحاً يفارع‏

                            وقع باسم اللهيب‏

                            وباسم السهام وباسم اليمام‏

                            على القلب والصدرِ والذاكرةِ‏

                            وفي عمق مرآةِ نبعٍ يغني‏

                            وفي الباصرة‏

                            فترنو البلاد سؤالاً‏

                            يذيب الظلام".‏

                            والشاعر يدعو ويحرض على العمل من أجل إنضاج بدر الثورة، وذلك من خلال استخدامه لرمز شفاف وبسيط هو رمز الأم: "ورش الوليد ورش الفطيم/ ورش الصبي البذار على/ وجه أمي فياوجه أمي البدار".‏
                            إذا الشعب يوما أراد الحياة
                            فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                            و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                            و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                            تعليق


                            • #15
                              رد: شعر الانتفاضة في البعدين الفكري والفني

                              حبيب صادق- لبنان



                              الأستاذ حبيب صادق من القطر اللبناني الشقيق، كتب عن الانتفاضة "قصيدة" أو بمعنى أدق محاولة شعرية أطلق عليها اسم "آية الحجر"(8).‏

                              وفيما يتعلق بالناحية المضمونية والفكرية ليس لدينا أدنى شك بنبل مشاعر الكاتب وثورية أفكاره التي طرحها في محاولته الشعرية المذكورة، إلا أننا حينما نتناول هذه المحاولة -أو المقالة- من الناحية الفنية لا يمكن أن نقول عنها سوى أنها مثال صارخ لمدى التهافت والضعف الفني لأدعياء الشعر الذين حاولوا التعكز على الموضوع "الانتفاضة" من أجل تمرير كتاباتهم الهابطة فنياً، متوهمين أنهم بذلك يمنحون لمحاولاتهم قيمة إبداعية ما، ومتناسين بأنه من دون امتلاك الموهبة الحقيقية، أو امتلاك الأداة الفنية، لا يمكن لنا أن ننتج نصاً شعرياً يتوفر فيه عنصر الخلق والإبداع الذي هو جوهر العمل الفني.‏

                              فنقرأ للأستاذ حبيب صادق: قوله:‏

                              وفي غبار الرحيلِ قرأتُ مالم يقلْه صاحبي‏

                              قرأتُ:‏

                              "الآن، الآن، لا قبل ولابعد،‏

                              فمن آمن بالفعل المبدع‏

                              فليرمِ الزمن العاقر بحجر‏

                              ولينتصب في مهب السواعدِ والينابيع"‏

                              وقوله: "في البدء كان الحجر/ قال صاحبي/ وقبل أن يمضي بعيداً / انحنى انحناءة السيد المطاع/ واحتضن بأهداب العين/ حجراً من نبات أرضهِ الغضوب/ ثم راح مُصعداً باتجاه الصواب، والفعل المبدع، راح مُصعداً باتجاه فلسطين".‏

                              أُركز هنا على: "راح مصعداً باتجاه الصواب، والفعل المبدع"، أما كان الأجدر بالأستاذ حبيب صادق أن يكتب مشاعره الطيبة هذه على هيئة مقالة سياسية: "وكفى الله المؤمنين شر القتال"‍‍!!، وبذلك سيكون قد خدم أفكاره وتعاطفه مع فلسطين، وحافظ على الذائقة الشعرية لدى القراء في الوقت ذاته.‏
                              إذا الشعب يوما أراد الحياة
                              فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                              و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                              و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                              تعليق

                              يعمل...
                              X