جولة/ في قصص البخلاء للجاحظ
منقول
كان البخل ولا زال صفة مذمومة عند العرب الذين عرفوا بالكرم لأن تصرفات البخيل تجعله محط سخرية واستهزاء المحيطين به000كما تصبح شخصية البخيل مجالاً للتندر والفكاهة،أما الاسراف -رغم أنه عادة سيئة - لا
يمكن أن يكون كالبخل لذلك فإن الاعتدال في كل شيء هو الأكثر قبولاً في مجتمعاتنا العربية لأنّه يدل على شخصية متزنه قادرة على وضع الأمور في مواضعها الصحيحة وقد حض الخالق في كتابه العزيز على الاعتدال بقوله تعالى:«ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ،ولا تبسطها كل البسط ،فتقعد ملوماً محسوراً» هذه الآية الكريمة توجه الانسان إلى ضبط تصرفاته أمام المال والانفاق ،بحيث يعيش حالة من التوازن الفعلي 00وهو التوازن المرغوب به 0أما الكرم فهو الحالة الصحية في مجتمعاتنا رغم أنّ كرم بعض الناس قد يصل إلى مرحلة الاسراف لغاية أو لغير غاية 000ويعد حاتم الطائي سيد الكرماء ومآثره معروفة في تاريخنا العربي يقول مخاطباً زوجته ماوية: أماوي! إنّ المال غادٍورائح ويبقى من المال الأحاديث والذكر أماوي!إنّي لا أقول لسائل إذا جاء يوماً حل في مالنا نذر أماوي!ما يغني الثراء عن الفتىإذا حشرجت نفس وضاق بها الصدر وقد ذم العرب البخل في أشعارهم ،وبرعوا في تصوير البخيل إلى حد السخرية يقول ابن الرومي في بخيل يدعى عيسى :يقتر عيسى على نفسهوليس بباق ولا خالد فلو يستطيع لتقتيرهتنفس من منخر واحد وقد استطاع أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ وهو من أئمة الأدب والكلام ،ومن زعماء المعتزلة المتوفى سنة 255 للهجرة أن يؤلف كتاباً سماه «البخلاء» كانت مادته الدسمة مأخوذة من بيئته ومجتمعه،فنقل هذه الصور بشكل محسوس وواقعي ،إذ تمكن من الدخول إلى خفايا نفوس هؤلاء ،ونقل ما يعتمل في سرائرهم من تصرفات مضحكة تصور حرصهم الشديد على المال ،وصرفهم لضيوفهم لئلا يشاركوهم في طعامهم 000وكان في وصفه لشخصياته بارعاً جداً لأنه أضفى على هذا الوصف شيئاً من خفة روحه،وحببّ إلينا بخلاءه ،ولم نحقد على تصرفاتهم 0وهذه النوادر المضحكة التي أثبتها الجاحظ في كتابه صورت بعض الحالات الاجتماعية في عصره ،كما أعطتنا مؤشراً حقيقياً على الواقع الاقتصادي آنذاك ولعل الطرف التي قيلت في أهل خراسان وخاصة أهل مرو تدل دلالة واضحة على تأصل هذه الخاصية في هؤلاء الناس الذين رضعوا البخل مع حليب أمهاتهم ،وتنفسوا هواءه من هواء بلادهم حتى أصبح ملازماً لهم في كل ما يفعلون ،ويتصرفون 0وهنا لا بد أن نورد بعضاً من هذه الصور لنتعرف إلى أسلوب الجاحظ ،وبراعته في الوصف ،ومقدرته على إيصال ما يريد بعد أن يسبر أغوار الشخصية ،ويقرأ ما يدور بداخلها ويحوله إلى حوار جميل ولطيف يقول في كتابه:قال أصحابنا :يقول المروزي للزائر إذا أتاه وللجليس إذا طال جلوسه :تغديت اليوم؟فإن قال :نعم قال:لولا أنّك تغديت لغديتك بطعام طيّب ،وإن قال :لا،قال :لو كنت تغدّيت لسقيتك خمسة أقداح ،فلا يصير في يده على الوجهين قليل ولا كثير 0وكنت في منزل ابن أبي كريمة ،وأصله من مرو،فرآني أتوضأ من كوز خزف ،فقال :سبحان الله !تتوضأ بالعذب ،والبئر لك معرضة؟قلت:ليس بعذب ،إنما هو من ماء البئر ، قال :فتفسد علينا كوزنا بالملوحة ،فلم أدر كيف أتخلص منه 0وقال ثمامة وهو أستاذ الجاحظ توفي سنة 213 للهجرة :لم أر الديك في بلدة قط إلا وهو لافظ يأخذ الحبة بمنقاره قُدام الدجاجة ،إلا ديكة مرو ،فإني رأيت ديكة مرو تسلب الدجاج ما في مناقيرها من الحبّ،قال :فعلمت أن بخلهم شيء في طبع البلاد وفي جواهر الماء ،فمن ثمّ عمّ جميع حيوانهم0 وقصة المروزي الذي كان يحج ويتجر ،وينزل على رجل عراقي فيكرمه ،ويكفيه مؤونته ويقول له ليتني أراك في مرو لأكافئك معروفة 000وعندما عرضت لذلك العراقي بعد دهر حاجة في تلك الناحية ذهب إلى صديقه المروزي فتنكر له ،وكلما خلع بعضاً من ثيابه زاد إنكاره له 000وعندما علم المروزي أنه لم يبق شيء يتعلق به المتغافل والمتجاهل قال :لو خرجت من جلدك لم أعرفك0 ومن تلك القصص التي وردت في كتاب البخلاء هذه القصة الطريفة التي تثير الضحك والاستهزاء فعلاً يقول :حدثني المكي قال :كنت يوماً عند العنبري إذ جاءت أمه ،ومعها كوز فارغ ،فقالت :قالت أمك :بلغني أنّ عندك مزملّة (والمزملة آنية تشبه الجرة يبرد بها الماء )ويومنا حار فابعث إليّ بشرية منها في هذا الكوز قال:كذبتِ ،أمي أعقل من أن تبعث بكوز فارغ وترده ملآن 0اذهبي فاملئيه من ماء حبكم (والحب الجرة الكبيرة)وفرغيه في حبنا ثم امتليئه من ماء مزملتنا حتى يكون شيء بشيء000 تصوروا تصرفات هذا البخيل الذي لا يقبل إرسال شربة ماء بارد لأمه إلا بعد أن يأخذ مقابلاً لها من ماء أمه الحار 0وهذه طرفة أخرى من طرف البخلاء أوردها أيضاً الجاحظ في كتابه يقول فيها:كان أبو يعقوب الذقنان يقول:ما فاتني اللحم منذ ملكت المال ،وكان إذا كان يوم الجمعة اشترى لحم بقر بدرهم ،واشترى بصلاً بدانق وباذنجاناً بدانق وقرعة بدانق ،فإذا كان أيام الجزر فجزراً بدانق ،وطبخه كله سكباجاً فأكل وعياله يومئذ خبزهم بشيء من رأس القدر ،وما ينقطع في القدر من البصل والباذنجان والجرز والقرع والشحم واللحم ،فإذا كان يوم السبت ثردوا خبزهم في المرق ، فإذا كان يوم الأحد أكلوا البصل ،فإذا كان يوم الاثنين أكلوا الجزر ،فإذا كان يوم الثلاثاء أكلوا القرع ،فإذا كان يوم الأربعاء أكلوا الباذنجان ،فإذا كان يوم الخميس أكلوا اللحم فلهذا يقول:ما فاتني اللحم منذ ملكت المال0 هذه صور من بعض ما أورده الجاحظ في كتابه البخلاء وكلها تتحدث عن شخصيات بخيلة تحاول بكل الوسائل أن تقتر على نفسها وربما تجد سعادتها في هذا التقتير وإنْ كان صفة مذمومة كل ذلك بأسلوب مشوق،وبراعة في التصوير،ومقدرة على نقل المشهد بشكل محسوس إلى القارىء وكأنه يريد منا أن نعيش معه حركات وسكنات وهواجس شخصياته لنكون أكثر تفاعلاً معها.
تعليق