إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

    تحت شمس شرم الشـــيخ
    لم يعلن عن إخفاق قمة شرم الشيخ الأخيرة بين الرئيس المصري حسني مبارك ورأس الأفعى الصهيونية اليوم بنيامين نتنياهو، بل تم التأكيد على استمرار المبادرة المصرية التي ترمي إلى فتح الطريق المسدودة أمام مفاوضات عرفات- نتنياهو؛ ومن المفترض أن يُعقد لقاء ثلاثي خلال الأسابيع القادمة يضم الأطراف الثلاثة بغية التوصل إلى استئناف المفاوضات التي توقفت للمرة العاشرة ربما، وذلك بعد قيام حكومة الليكود ببناء مستعمرة في جبل "أبو غنيم " واستمرارها في توسيع المستوطنات القائمة وإقامة مستوطنات جديدة ..‏
    ويبدو أن التكليف الأميركي الذي أخرج بموجبه الملك حسين مفاوضات الخليل من مأزقها أعطى اليوم مؤشراً لمصر لإخراج المسيرة "السلمية" من مأزقها.‏
    ولنا أن نتساءل : هل انسحب دنيس روس مؤقتاً، مخلياً الطريق أمام أسامة الباز عن عجز أم عن خبث؟! كل الدلائل والتصريحات والاستنتاجات تشير إلى أن الدور الأميركي في هذه التسوية دور رئيس، ولم يذكر أحد من المعنيين العرب والإسرائيليين والأوربيين غير ذلك؛ كما أن الأميركيين لم يصرحوا بأنهم بلا جدوى في هذا الوقت أو في أي وقت!؟! إذن لماذا هذه الزحلقة ؟!‏
    لقد أعلن فلسطينيو الحكم الذاتي أن دنيس روس وسيط منحاز وأنه لا يضع الرئيس كلنتون في صورة الوضع تماماً، ولا ينقل مقترحاتهم بأمانة؛ وردَّت الوزيرة أولبريت على ذلك مؤكدة ثقة الولايات المتحدة ورئيسها بدنيس روس، وأن من يرفضه يرفض الرئيس، وبهذا عززت شروطه التي قدمت على شكل مقترحات لسلطة عرفات، وأكدت على ضرورة أن تتم تنازلات لاستئناف المفاوضات وإنجاحها.‏
    والتنازلات هي دائماً- كما عهدنا- تأتي من قبل الفلسطينيين وعلى حسابهم، لأن الإسرائيليين، بعد كل خطوة على طريق الاتفاق أو تنفيذ مرحلة من مراحله، يقفزون قفزة شديدة إلى الأمام في حقول الحق الفلسطيني، ثم تبدأ مساومة مضنية من أجل استئناف السير في طريق التفاوض أو التنفيذ، ويتم ضغط مكشوف أو مستور على الفلسطيني الذي يملك الاستعداد للتنازل فيقدم تنازلاً عن آخر ما وصل إليه الاتفاق، وهكذا تستمر عملية القضم " الإسرائيلي " "المشروع" من حق الفلسطيني التائه؛ وفي هذا الاتجاه تأتي العملية الأخيرة، التي تعني أن شروط نتنياهو- وهي اقتراحات دنيس روس التي قُدِّمت إلى الفلسطينيين - ينبغي أن تُنفَّذ تماماً لكي تُستأنف المفاوضات..‏
    ولكن جبل " أبو غنيم " رُبط تماماً- إعلامياً وسياسياً- بمعنى القدس التي سيجري عليها التفاوض، وأصبح موضوع إقامة المستوطنة الإسرائيلية عليه يعني انتزاع جزء بعد جزء من المدينة قبل حلول موعد التفاوض على ما تبقَّى منها، وهبّ العرب والمسلمون وبلدان العالم لمناصرة القدس، ووصل الأمر إلى الأمم المتحدة بعد الفيتو الأميركي المزدوج في مجلس الأمن؛ وصارت كرامة سلطة الحكم الذاتي ومن وقف معها في الميزان؟ فكيف السبيل إلى إخراج "الزير من البير" مع عدم تعكير الماء ؟!.‏
    هذا الموضوع الذي تقابلت على أرضيته أصابع الاتهام ووضعت فيه جرافة الاستيطان في مقابل وقف "الإرهاب"، لا يمكن أن يحل بالسوط الأميركي اللامع كما لا يمكن أن يحل على حساب " الإسرائيلي " مطلقاً، ولذلك وقع الاختيار على "وسيط" عربي يبادر إلى إخراج "الزير من البير" من دون إخلال بالمواصفات والشروط الإسرائيلية التي صيغت على صورة مقترحات أميركية..‏
    عرفات الذي يدرك جيداً أن حجم الاستيطان في الضفة كلها أضعاف أضعاف ما يجري في جبل " أبو غنيم " علق عودة المفاوضات على وقف البناء في "أبو غنيم"، ونتنياهو الذي أكد مراراً وتكراراً تصميم "إسرائيل" على البناء في "عاصمتها" الأبدية الموحدة ـ القدس " لن يتراجع عن موضوع البناء، فكيف السبيل إلى التوفيق بين "المتفقين"؟! يسوَّى الأمر في إخراج ظاهر بسيط يأخذ المجرى الآتي:‏
    1- يعلن نتنياهو عن بناء بعض المساكن للعرب في الجبل إياه أو في موقع قريب منه، ولكن لن تكون تلك المساكن إلا لمن ترضى عنهم " إسرائيل " من صنائعها، ويستمر في تنمية الاستيطان في المواقع الأخرى.‏
    2- يتغاضى عرفات عن موجة الاستيطان الضخمة المستمرة في الضفة، وعن توسيع المستوطنات ومصادرة الأراضي وهدم البيوت، ويستأنف المفاوضات المرحلية أو النهائية تحت غطاء إعلان "إسرائيلي" مؤقت بتأجيل تنفيذ المرحلة الثانية من بناء المستوطنة الصهيونية في" أبو غنيم" لعدة أشهر تستأنف خلالها المفاوضات، وذلك تحت صيغة إعلامية مدوية ترضي عرفات : "وقف البناء في "أبو غنيم" .‏
    3- يعطى عرفات حق إقامة مطار ومرفأ وطريق يربط غزة بالضفة؛ وهي الأمور المتفق عليها في أوسلو، ولكن تبقى كل تلك المرافق تحت السيطرة الإسرائيلية التامة.‏
    4- يظهر عرفات منتصراً ويحفظ ماء وجهه أمام العالم الذي استنفره، ويقوم بتسويغ هذا الوهم وتصديره للعرب والمسلمين والعالم الذي وقف معه.‏
    5- يستمر نتنياهو في مواقعه، على مبدئيته ومواقفه، ضمن شروطه التي صاغها روس على شكل اقتراحات مرفوضة فلسطينياً، وتمكن أسامة الباز من تقديمها على أنها إنجاز فلسطيني كذلك الإنجاز الذي تم في الخليل.‏
    6- تستأنف " إسرائيل " البناء في " أبو غنيم " بصمت إعلامي، وتستأنف سلطة الحكم الذاتي المفاوضات بضجيج إعلاني.‏
    7- تصل المبادرة المصرية إلى نجاح مؤدية الغرض الأميركي، ويرتاح نافخ الكير العربي من عناء التعب للحظة تحت وهج شمس شرم الشيخ، وربما يستحم على شاطئ البحر الأحمر..‏
    8 - وفي هذه الأوقات لن تُنسى سورية من إشارات وتلميحات بضرورة إيجاد مخرج للمفاوضات المتوقفة، على مسارها، من مأزقها؛ كما أنه لن يتوقف الضغط المستمر عليها من الحلف التركي- " الإسرائيلي " الذي يتمتع بالرعاية الأميركية القصوى..‏
    "ليس بالإمكان أبدع مما كان" هكذا تقدم الذرائعيَّة العربية ما تم التوصل إليه، وهكذا تستمر في نسج شرانقها والتضلُّع من أوهامها، أما على الأرض التي تعسّ في جنباتها النار من الشمال والجنوب والغرب، فإن دبيب الخطر لن يتوقف، ومثل هذه التسويات والمبادرات لن تضع لتقدمه حداً. وما دام كثرة من العرب يقولون:"ليس بيننا وبين " إسرائيل " شيء" و " الفلسطيني قد رضي وارتاح وأراح "، فإن الورم السرطاني سيستمر في النمو، والتراجع العربي المريع سوف يستمر هو الآخر..‏
    لقد اختار عرفات "إسرائيل" اختياراً استراتيجياً نهائياً، ربما تزحلق نحو هذه الهوة في البداية على أرضية استعداداته ورغباته وطموحاته الخاصة، ولكنه الآن فيها يتمتع بنوع من الرضا ويحيك الانتصارات، وسوف يجد أنه حقق نصراً حين يسكت عن إقامة "مستعمرة جبل أبو غنيم" في مقابل السماح له بالتحليق في طائرته من مطار خاص تشرف عليه " إسرائيل " إشرافاً كاملاً، وسوف يجد في تنفيذ ما تم الاتفاق على تنفيذه في اتفاق أوسلو البائس من: مرفأ في غزة، وطريق يربط غزه بالضفة، وإنشاء المطار المشار إليها، سوف يجد في ذلك أكبر الإنجازات في تاريخ السلطة. ولكن ذلك على ضرورته لا يقيم أي قوام لدولة فلسطين التي نتطلع إلى قيامها جميعاً على أسس من المنعة والقوة والكرامة والاستقلال والسيادة التامة.‏
    إن الوعي العربي لحدود المشكلة الآن، أهم من أي فعل يقوم به العرب دون وعي لتلك الحدود؛ وكل تحرك عربي يتم في حدود ضيقة لمحاصرة نار يوقدها العدو في موقع معين ليغطي على جحيم يهيئ له في موقع آخر ويواريه عن الأنظار، هو نوع من الانخراط في برنامج العدو أو السير على الطريق التي يرسمها للوصول بالمنطقة إلى حالة تمكنه من تحقيق أغراضه وتأمين مصالحه ومصالح حلفائه.‏
    العدو الصهيوني يدرك جيداً، بعد أن عرّى منظمة التحرير الفلسطينية من أغطيتها، ودخل في تلافيف بعض الأنظمة والأدمغة العربية، أن الموقع الأهم الذي عليه أن يراقبه ويعمل على تدميره- إن استطاع- هو سورية؛ ومن أجل تهديدها وعزلها ووضع حد لقدرتها على التحرك أقام- بوحي وتدبير ودعم أميركي- تحالفه مع تركيا، وأخذ يمهد لتحالف أوسع يجر إليه بعد الأردن اليونان، عدو الأمس بالنسبة لتركيا.‏
    وفي الوقت الذي يعلن فيه نتنياهو استعداده "للسلام" -على طريقته وبشروطه - يلوِّح بتهديد سورية ما لم تحقق ثلاثاً بالدرجة الأولى وما لا يحصى من المطالب بدرجات أخرى :‏
    أولاً: وقف ما يسميه " دعم الإرهاب "، ولم يعد يقصر ذلك المفهوم على دعم سورية للمقاومة الوطنية المشروعة في جنوب لبنان، تلك التي تقاتل الصهاينة من أجل تحرير الأرض من الاحتلال، بل أخذ يذكر صراحة ما يسمى "بدعم الإرهاب ضد تركيا" وهو يقصد تعزيز الاتهامات التركية لسورية برعاية "عبد الله أوجلان" وجماعته، الأمر الذي نفته سورية مراراً وتكراراً.‏
    ومعنى هذا التطوير للمفهوم، والتوسع في الاتهام: إعداد للعدوان، وتأكيد للاستفزاز، واستمرار في التهديد، ووضع لهذا الأمر في الإطار الذي يرضي الإدارة الأميركية، ويتوافق مع اتهاماتها وتطلعاتها ومخططاتها .‏
    ثانياً: القبول بالعودة إلى المفاوضات الثنائية بالشروط "الإسرائيلية"، والاستعداد لتقديم تنازلات "شجاعة" كتلك التي قدمها الآخرون، تفضي إلى اعتراف بـ " إسرائيل " وسيطرتها على أجزاء من الجولان ومياهه، وهيمنتها غير المنقوصة على القرار السياسي العربي وعلى الوضعين الأمني والاقتصادي في المنطقة؛ أي القبول "باستسلام" ملطف بهيج تفوح منه رائحة عطور الثناء الصهيوني الذي يفد بألسنة غربية وقوام أميركي رشيق.‏
    ثالثاً: الكف عن بذل أي جهد للحصول على سلاح، أو تطوير أي سلاح، ووضع حد لأي تحرك أو اتصال أو فعل من شأنه أن يمتن علاقات مع إيران أو مع أي موقع عربي يمكنها في المستقبل من القيام بدور رئيس في المنطقة، ومن التحرك باتجاه مشروع نهضوي عربي على أرضية قومية تحريرية واعية لأهدافها وأدواتها. فهو يريدها لقمة سائغة بلا أشواك أو منغصات، ودولة بلا رؤية أو طموح أو تطلع أو مشروع قومي أو حس نظيف كريم.‏
    ومن أجل هذا يُحكِمُ- مع حلفائه- الطوق من حول سورية، ويهيئ مع الجنرالات الدونما في تركيا لمناورات بحرية وبرية، ويخلق مناخاً مسموماً بين سورية وجارتها تركيا، ويعمل مع شركائه أولئك، تحت الغطاء الأميركي الشامل، على خلق مناخ يسوده التوتر وانعدام الثقة، وتظلله الأطماع والرؤى الصهيونية- العنصرية السوداء، والجشع الأميركي البغيض؛ لا سيما ما يتجلى من ذلك في: موضوع مياه الفرات- وتوغل القوات التركية مسافة مئتي كيلو متر في شمال العراق، في عمليات عدوانية مسكوت عنها؛ وما يشيع في ذلك الجو من تهديد لسورية وإيران وكل من يحاول أن يرفع صوتاً ضد العصر الأميركي- الصهيوني في عالم بائس تنعق فيه غربان البيت الأبيض.‏
    والسؤال الأساس، في ظل هذا الوضع المحزن، هو: هل نسلم ونستسلم، ونقر بضياعنا إلى الأبد؟! وهل نبقى ندور في فلك ما يرسم لنا من خطط وبرامج؟! وهل يقبل العرب أن تدور الدوائر على كل منهم على انفراد فيمضغون ريقهم ويقولون: ما زال بيننا وبين الخطر مسافة!؟ وهو يتقدم إليهم باستمرار أينما كانوا؟! هل يتحرك العرب على أرضية مغايرة من التفكير والفعل والتعاون بعد كل ما جربوه وما جنوه؟! هل يفعّلون قرارات القمة العربية الأخيرة، وقرارات مؤتمر وزراء خارجية الدول العربية الأخير، ويتخذون من الخطوات ما يكفل الإعلان- مجرد الإعلان- عن أنهم موجودون، وأنهم يعون ما يدور من حولهم وما يدبر لهم؟! أم أنهم سكارى وما هم بسكارى؟!‏
    إن صحوة عربية مما هو واجب الحدوث بسرعة وجدية ومسؤولية، وإلا فإن الظلام والظلم سوف يزدادان كثافة، حتى لو كنا تحت شمس شرم الشيخ المحرقة.‏
    دمشق في 28/5/1997.‏

    الأسبوع الأدبي/ع563//31/آيار/1997.‏

    إذا الشعب يوما أراد الحياة
    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

    تعليق


    • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

      دروس من مأساة حــزيران
      تجتاحنا اليوم مرارة الذكرى الثلاثين لمأساة حزيران وتعتِّق في حلوقنا الغضب والألم وشيئاً نادراً من الإحباط. فعدوان الساعات الست الأولى من صباح الخامس من حزيران، مكَّن العدو الصهيوني الذي شنه على المطارات بدعم شامل من حلفائه الغربيين، مكّنه من استباحة الأجواء العربية ومهد لاحتلاله أرض سيناء والضفة الغربية والجولان وشرقي القدس، ومكَّنه من توجيه ضربة أقسى للهيبة العربية وللحلم والوجدان العربيين. ولا أذكر أن في تاريخ الأمة العربية لحظة ذروة تعانق فيها القهر والتصميم على قهر القهر، كتلك التي وصلت إليها يوم أعلن عبد الناصر مسؤوليته عن الهزيمة وأعلنت الجماهير العربية تمسكها به قائداً ليصنع النصر. لم تكن مصر وحدها هي التي تزحف وتهتف وتبكي، بل كانت قلوب الناس في الوطن العربي كله، تزحف وتهتف وتبكي.‏
      لقد رد الشارع العربي على الإهانة بقرار واضح هو التمسك باختيار التحرير، وإبقاء رموز العمل القومي من أجل الوحدة والتحرير على رأس تلك المسيرة التي أراد العدو الصهيوني وحلفاؤه القضاء عليها.‏
      وحين أعلن موشيه دايان، من موقع صلف وغرور عاشهما الكيان الصهيوني حتى حرب تشرين، حين أعلن في اليوم التالي لحرب حزيران قائلاً: "إنني أنتظر اتصالاً هاتفياً من الملك حسين، لسنا في عجلة من أمرنا، إذا كان العرب يريدون التفاوض فهم يعرفون بأي رقم يتصلون".‏
      ولم يتصل عبد الناصر كما لم يتصل أي مسؤول في سورية، أما الملك حسين فلم يكن بحاجة إلى مثل ذلك التذكير من دايان فهو على اتصال سري رسمي بهم منذ عام 1963. وبدأ الاستعداد للرد على عدوان حزيران بإعداد الذات والقدرات، لا سيما على الجبهتين المصرية والسورية؛ وبدأ بالمقابل تحصين العدو لمواقعه التي احتلها فأشاد خط بارليف على قناة السويس بارتفاع 15 إلى 25 متراً وعرض ألفي متر وتحصينات مذهلة، وجدار ناري يغطي قناة السويس بأمواج من اللهيب النفطي عند الضرورة. ولم تكن تحصيناته على الجبهة التي أقامها في الجولان المحتل بأقل من تلك التي أقامها على قناة السويس. وأكثر ما هيأه العدو كان أسلحة متطورة على رأسها الطائرات وعتاداً حربياً، يتدفق كل ذلك عليه من الغرب الاستعماري، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية، من دون حدود أو قيود.‏
      كان العرب الذين نذروا أنفسهم للتحرير واستعادة الحق والكرامة يعملون في اتجاه، والعرب الذين نذروا أنفسهم لخدمة العدو وإضعاف أمتهم يعملون باتجاه آخر، على أرضية ما خلفته حرب حزيران من مآسي وما تركته من وقائع على الأرض. وفي الوقت الذي أدخل فيه عبد الناصر اثنتي عشرة بطارية صواريخ سام مضادة للطائرات ليردع العربدة "الإسرائيلية" في الأجواء المصرية، ويهيئ عملياً للوضع الذي حقق نجاح العبور في حرب تشرين؛ كان الملك حسين "يسر لرئيس وزراء " إسرائيل " إيغال ألون في لقاء سري تم بينهما على ضفاف البحر الأحمر أنه لا يستطيع القيام بأية مبادرة سلام مع " إسرائيل " قبل أن يضع حداً أولاً للسلطة التي تمارسها المنظمات الفلسطينية على أراضيه وبشكل موازٍ لسلطته".‏
      وكانت معركة الكرامة التي قاتل فيها الجيش الأردني بشرف وشهامة واقتدار ضد العدو الصهيوني الذي أراد أن يفاجئ قوات منظمة التحرير ويبيدها، كانت مدخل " إسرائيل " -بالتواطؤ مع الملك- للتخلص من الوضع الذي خلقته المنظمة في الأردن وهو الذي يمنعه من "القيام بأية مبادرة سلام مع إسرائيل".‏
      إن غياب الضابط الأردني المسؤول عن كتيبة الدبابات المرابطة بالقرب من الكرامة والذي كان قد أمر بترك الرَّتْل " الإسرائيلي " يتقدم، وحلول ضابط أردني آخر محله لسبب طارئ، وهو الأمر الذي لم تعلم به القيادة العليا، هو الذي جعل الجيش الأردني يخوض معركة مشرفة يلقن فيها العدو الصهيوني درساً قاسياً ويرسم على وجوه القيادات الصهيونية الدهشة من مفاجأة تامة. وهو الذي كرس بقاء المنظمة في الأردن لفترة أخرى وأعطاها مداً أدى إلى حوادث أيلول.‏
      وهكذا كان يتم الإعداد والاستعداد لإضعاف الصف العربي والموقف العربي بشكل عام من مواقع يفترض فيها أن تعزز مسيرة الرد على هزيمة حزيران.‏
      فكانت أحداث أيلول 1970 التي فتحت بشفرتين عربيتين موجهتين صهيونياً، وريداً عربياً مازال ينزف حتى اليوم ووضعت عبد الناصر في آخر محنة، على درب الامتحان الصعب، قادته إلى رحلته النهائية وفي قلبه حسرتا الانفصال وحزيران، قبل أن يحقق ما هيأ له من رد على المأساة.‏
      وتابعت سورية مع خليفته /السادات/ مسيرة فرضتها الجماهير العربية في العاشر من حزيران 1967 هي مسيرة الرد على الهزيمة.، وتابع خط عربي آخر مسار التواطؤ على حق الأمة في التحرير والكرامة.‏
      وبينما كانت ساعة الصفر العربية تقترب، والاستعدادات الأخيرة تتخذ للبدء بحرب تشرين/أكتوبر/ التحريرية 1973؛ وكان جهد الشعبين والقيادتين في القطرين العربيين مصر وسورية ينصب على تحقيق أوسع تضامن عربي ممكن وأفضل مناخ سرية لتنفيذ أول مبادرة عربية تنطلق بقرار عربي خالص لشن حرب التحرير، حرب العرب على المحتل ووضع الإهانة الذي وضعتهم فيه مأساة حزيران "التقى الملك حسين في 25 أيلول 1973 غولدا مائير في تل أبيب، وكان ذلك لقاءه السري التاسع حتى ذلك التاريخ، وكان معه زيد الرفاعي رئيس وزرائه" واجتمع معها ثلاث ساعات في اجتماع لم يحضره سوى مردخاي غازيت رئيس الموساد.‏
      وصل ليقرع ناقوس الخطر، ويخبرها باحتمال وقوع نزاع وشيك، "لقد أراد الملك حسين -حسب المصادر الصهيونية-الإسرائيلية- قبيل رأس السنة العبرية أن ينبه السيدة الحديدية إلى أن الرئيس حافظ الأسد وضع كافة قوته في حالة تأهب قصوى، ونقلها إلى الحدود الأردنية والجولان". وعندما سألته: "لكن هل السوريون ينوون إعلان الحرب وحدهم ودون مساعدة المصريين؟! أجاب: "لا أظن أنهم قادرون وحدهم على دخول الحرب ولكنني أؤكد لك أنهم مستعدون للقتال.". *‏
      لم يستطع ذلك وسواه أن يمنع المفاجأة في حرب تشرين، ولم يكن ذلك الفعل أو سواه مما يمكن أن يشل إرادة العرب المصممين على استعادة الأرض والحق؛ وكان وهم العدو وغروره اللذان خلفتهما هزيمة العرب في حزيران، وكذلك استهتاره بالوضع العربي وبالإمكانات العربية، ومعرفته بحالة التمزق والتردي التي يمثلها أمثال من يقدمون له التقارير ويكشفون له ما استتر من حال الأمة العربية، كان كل ذلك مما ساعد مصر وسورية على تحقيق المفاجأة والبدء برد ناجح على مأساة حزيران المرة في تشرين التحرير.‏
      ولو صدقت النيات، وتكاتفت الأيدي العربية، وكان هدف السادات الرئيس التحرير الشامل وليس تحريك القضية للوصول إلى مفاوضات سلمية بدأت في خيمة الكيلو/101/ لكان وضعنا بعد تشرين أفضل بكثير مما كان عليه.‏
      لم يغسل تشرين كل آثار حزيران، ولم يلغ نهائياً رسيس الإحباط في القلوب والعيون، ولكنه رفع الرأس، وأقام القامة، وأعاد الثقة، وخط في سماء العرب قوس أمل بإمكانية تحقيق النصر عندما يحزمون أمرهم، وأزال الكثير من الأساطير وفي مقدمتها: "أسطورة الجيش " الإسرائيلي " الذي لا يقهر.".‏
      فعبور قناة السويس، وتحطيم خط بارليف، ووصول الجنود السوريين إلى مرصد جبل الشيخ وضفاف بحيرة طبريا، وخوضهم بعد ذلك وحدهم حرب استنزاف ضد العدو استمرت أكثر من سبعين يوماً، يضع في تناول كل ذي عقل وإرادة وعزم معطيات وإمكانيات عربية لا يمكن تجاهلها عندما يقرر العرب، كل العرب، خوض معركة التحرير واستعادة الأرض والحق والكرامة.‏
      لقد تهافتنا كثيراً بعد ثقة تشرين، واستعدنا الثقة بأنفسنا بعد هزيمة حزيران؛ ولم تكن المعادلة المقلوبة غير ذات معنى وغير ذات قيمة، وغير ذات مدلول؛ فلنبحث فيما يقيم قوام الروح على مبدأ الحق والخلق القويم والثبات على المبدأ، ولنبحث في زوايا النفوس والبيوت والمؤسسات عن سوس ينخر القوى ويعري السواعد من قدراتها ويطمس الرؤية ويعمي القلوب، ولنبحث في كتاب التطبيع الذي تلا كامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة، عمن وعمّا، يفتت الإرادة، ويعشي الرؤية، ويُذْهب الأمل، ويقتل العزيمة، ويصدّر للأجيال العربية قيماً تزين لها الاستسلام والخضوع لعدو صهيوني عنصري يعمل على مشروع استيطاني استعماري مستمر يرمي إلى تحويل وجودها كله إلى وجود هزيل تابع ذليل، وجود العبيد المتخلفين الذين يخدمون "أسياداً" لم يكن تاريخهم أصلاً إلا تاريخ الذل والبؤس والعري الخالص عن كل قيمة خُلُقية أو إنسانية.‏
      إن حزيران المر يقدم لنا درساً فيه من فصول المأساة ما فيه، ومن فصول التصميم على مجاوزة الهزيمة والمأساة ما فيه.‏
      فلندرس جيداً، ولندرك جيداً، ولنتعلم جيداً، حتى يبقى طريق المستقبل واضحاً أمام أجيالنا، وحتى لا تنهزم فينا الإرادة والأعماق قبل خوض المواجهة الصعبة.‏

      دمشق في 4/6/1997‏

      * ذكر ذلك ديروجي وكارمل في كتابهما : القرن الصهيوني. وذكره بصيغة تكاد تكون حرفية شارل أندرلين Charles Enderlin في كتابه : سلام أم حروب Paix ou guerres صـ 364 من الترجمة العربية التي قام بها صياح الجهيم للكتاب ـ منشورات : دار الفاضل بدمشق / 1998 وقد أضفت توثيق أندرلين بترجمة الجهيم عند إعداد هذا الكتاب للنشر بعد الاطلاع عليه تشرين التاني 1998، وكان النص قد نشر كما هو في أعلاه في 4 / 6 / 1997 بناء على توثيق من كتاب ديروجي وكارمل. وقد جاء النص وفق أندرلين : " في 25 أيلول 1973، تلقت إسرائيل أنباء جديدة عن تحركات للجُند في مصر وسورية. وفي ساعة متأخرة من المساء، هبط حسين ملك الأردن في طائرة مروحية قرب مسعدة.‏
      كان يقود الطائرة بنفسه. وكانت تنتظره فيها مروحية إسرائيلية لتقوده إلى " مدراسة". قاعدة الأجهزة الخاصة في شمال تل أبيب. كانت غولدا هناك، تدخن السيجارة تلو السيجارة، كان هذا اللقاء هاماً بالنسبة إلى الإسرائيليين. كان الملك الأردني في مصر، في الأسبوع الفائت. وكان الأمنُ مضموناً على أيدي رئيسي " الشين بيت" المسؤولين عن تنظيم هذا النوع من الزيارات السرية: بـ (بز يوفين هازاك) و( رافي مالكه). وفي غرفة ملاصقة، كان خبراء الاستخبارات العسكرية يتابعون تسجيل المحادثة، ولاسيما المقدّم (زوسيا كنيزر)، رئيس قسم الأردن. انتفض عندما سمع حسين يتوجّه بالقول إلى غولدا مئير:‏
      " نحن نعلم من مصادر حسنة أن جميع وحدات الجيش السوري مستنفرة، وهي جاهزة للانتقال إلى العمل. استعمل الملك في الإنجليزية عبارة :"jump off position"، ولم تنتشر في جنوب سورية سوى فرقة واحدة للدفاع عن هذه الحدود، في حال حاولت إسرائيل القيم بهجوم مضاد".‏
      ماذا يعني ذلك؟‏
      - لا أدري إن كان ذلك يعني شيئاً أم لا. لدي بعض الشكوك، لكني لستُ متأكداً.‏
      - هل تستطيع سورية أن تشنّ هجوماً دون مصر.‏
      - أعتقد أنها ستتصرف وحدها. أعتقد أن مصر ستنضمّ إلى سورية في حالة الحرب".‏

      الأسبوع الأدبي/ع564//7/حزيران/1997.‏

      إذا الشعب يوما أراد الحياة
      فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
      و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
      و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

      تعليق


      • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

        دروس من مأساة حــزيران
        تجتاحنا اليوم مرارة الذكرى الثلاثين لمأساة حزيران وتعتِّق في حلوقنا الغضب والألم وشيئاً نادراً من الإحباط. فعدوان الساعات الست الأولى من صباح الخامس من حزيران، مكَّن العدو الصهيوني الذي شنه على المطارات بدعم شامل من حلفائه الغربيين، مكّنه من استباحة الأجواء العربية ومهد لاحتلاله أرض سيناء والضفة الغربية والجولان وشرقي القدس، ومكَّنه من توجيه ضربة أقسى للهيبة العربية وللحلم والوجدان العربيين. ولا أذكر أن في تاريخ الأمة العربية لحظة ذروة تعانق فيها القهر والتصميم على قهر القهر، كتلك التي وصلت إليها يوم أعلن عبد الناصر مسؤوليته عن الهزيمة وأعلنت الجماهير العربية تمسكها به قائداً ليصنع النصر. لم تكن مصر وحدها هي التي تزحف وتهتف وتبكي، بل كانت قلوب الناس في الوطن العربي كله، تزحف وتهتف وتبكي.‏
        لقد رد الشارع العربي على الإهانة بقرار واضح هو التمسك باختيار التحرير، وإبقاء رموز العمل القومي من أجل الوحدة والتحرير على رأس تلك المسيرة التي أراد العدو الصهيوني وحلفاؤه القضاء عليها.‏
        وحين أعلن موشيه دايان، من موقع صلف وغرور عاشهما الكيان الصهيوني حتى حرب تشرين، حين أعلن في اليوم التالي لحرب حزيران قائلاً: "إنني أنتظر اتصالاً هاتفياً من الملك حسين، لسنا في عجلة من أمرنا، إذا كان العرب يريدون التفاوض فهم يعرفون بأي رقم يتصلون".‏
        ولم يتصل عبد الناصر كما لم يتصل أي مسؤول في سورية، أما الملك حسين فلم يكن بحاجة إلى مثل ذلك التذكير من دايان فهو على اتصال سري رسمي بهم منذ عام 1963. وبدأ الاستعداد للرد على عدوان حزيران بإعداد الذات والقدرات، لا سيما على الجبهتين المصرية والسورية؛ وبدأ بالمقابل تحصين العدو لمواقعه التي احتلها فأشاد خط بارليف على قناة السويس بارتفاع 15 إلى 25 متراً وعرض ألفي متر وتحصينات مذهلة، وجدار ناري يغطي قناة السويس بأمواج من اللهيب النفطي عند الضرورة. ولم تكن تحصيناته على الجبهة التي أقامها في الجولان المحتل بأقل من تلك التي أقامها على قناة السويس. وأكثر ما هيأه العدو كان أسلحة متطورة على رأسها الطائرات وعتاداً حربياً، يتدفق كل ذلك عليه من الغرب الاستعماري، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية، من دون حدود أو قيود.‏
        كان العرب الذين نذروا أنفسهم للتحرير واستعادة الحق والكرامة يعملون في اتجاه، والعرب الذين نذروا أنفسهم لخدمة العدو وإضعاف أمتهم يعملون باتجاه آخر، على أرضية ما خلفته حرب حزيران من مآسي وما تركته من وقائع على الأرض. وفي الوقت الذي أدخل فيه عبد الناصر اثنتي عشرة بطارية صواريخ سام مضادة للطائرات ليردع العربدة "الإسرائيلية" في الأجواء المصرية، ويهيئ عملياً للوضع الذي حقق نجاح العبور في حرب تشرين؛ كان الملك حسين "يسر لرئيس وزراء " إسرائيل " إيغال ألون في لقاء سري تم بينهما على ضفاف البحر الأحمر أنه لا يستطيع القيام بأية مبادرة سلام مع " إسرائيل " قبل أن يضع حداً أولاً للسلطة التي تمارسها المنظمات الفلسطينية على أراضيه وبشكل موازٍ لسلطته".‏
        وكانت معركة الكرامة التي قاتل فيها الجيش الأردني بشرف وشهامة واقتدار ضد العدو الصهيوني الذي أراد أن يفاجئ قوات منظمة التحرير ويبيدها، كانت مدخل " إسرائيل " -بالتواطؤ مع الملك- للتخلص من الوضع الذي خلقته المنظمة في الأردن وهو الذي يمنعه من "القيام بأية مبادرة سلام مع إسرائيل".‏
        إن غياب الضابط الأردني المسؤول عن كتيبة الدبابات المرابطة بالقرب من الكرامة والذي كان قد أمر بترك الرَّتْل " الإسرائيلي " يتقدم، وحلول ضابط أردني آخر محله لسبب طارئ، وهو الأمر الذي لم تعلم به القيادة العليا، هو الذي جعل الجيش الأردني يخوض معركة مشرفة يلقن فيها العدو الصهيوني درساً قاسياً ويرسم على وجوه القيادات الصهيونية الدهشة من مفاجأة تامة. وهو الذي كرس بقاء المنظمة في الأردن لفترة أخرى وأعطاها مداً أدى إلى حوادث أيلول.‏
        وهكذا كان يتم الإعداد والاستعداد لإضعاف الصف العربي والموقف العربي بشكل عام من مواقع يفترض فيها أن تعزز مسيرة الرد على هزيمة حزيران.‏
        فكانت أحداث أيلول 1970 التي فتحت بشفرتين عربيتين موجهتين صهيونياً، وريداً عربياً مازال ينزف حتى اليوم ووضعت عبد الناصر في آخر محنة، على درب الامتحان الصعب، قادته إلى رحلته النهائية وفي قلبه حسرتا الانفصال وحزيران، قبل أن يحقق ما هيأ له من رد على المأساة.‏
        وتابعت سورية مع خليفته /السادات/ مسيرة فرضتها الجماهير العربية في العاشر من حزيران 1967 هي مسيرة الرد على الهزيمة.، وتابع خط عربي آخر مسار التواطؤ على حق الأمة في التحرير والكرامة.‏
        وبينما كانت ساعة الصفر العربية تقترب، والاستعدادات الأخيرة تتخذ للبدء بحرب تشرين/أكتوبر/ التحريرية 1973؛ وكان جهد الشعبين والقيادتين في القطرين العربيين مصر وسورية ينصب على تحقيق أوسع تضامن عربي ممكن وأفضل مناخ سرية لتنفيذ أول مبادرة عربية تنطلق بقرار عربي خالص لشن حرب التحرير، حرب العرب على المحتل ووضع الإهانة الذي وضعتهم فيه مأساة حزيران "التقى الملك حسين في 25 أيلول 1973 غولدا مائير في تل أبيب، وكان ذلك لقاءه السري التاسع حتى ذلك التاريخ، وكان معه زيد الرفاعي رئيس وزرائه" واجتمع معها ثلاث ساعات في اجتماع لم يحضره سوى مردخاي غازيت رئيس الموساد.‏
        وصل ليقرع ناقوس الخطر، ويخبرها باحتمال وقوع نزاع وشيك، "لقد أراد الملك حسين -حسب المصادر الصهيونية-الإسرائيلية- قبيل رأس السنة العبرية أن ينبه السيدة الحديدية إلى أن الرئيس حافظ الأسد وضع كافة قوته في حالة تأهب قصوى، ونقلها إلى الحدود الأردنية والجولان". وعندما سألته: "لكن هل السوريون ينوون إعلان الحرب وحدهم ودون مساعدة المصريين؟! أجاب: "لا أظن أنهم قادرون وحدهم على دخول الحرب ولكنني أؤكد لك أنهم مستعدون للقتال.". *‏
        لم يستطع ذلك وسواه أن يمنع المفاجأة في حرب تشرين، ولم يكن ذلك الفعل أو سواه مما يمكن أن يشل إرادة العرب المصممين على استعادة الأرض والحق؛ وكان وهم العدو وغروره اللذان خلفتهما هزيمة العرب في حزيران، وكذلك استهتاره بالوضع العربي وبالإمكانات العربية، ومعرفته بحالة التمزق والتردي التي يمثلها أمثال من يقدمون له التقارير ويكشفون له ما استتر من حال الأمة العربية، كان كل ذلك مما ساعد مصر وسورية على تحقيق المفاجأة والبدء برد ناجح على مأساة حزيران المرة في تشرين التحرير.‏
        ولو صدقت النيات، وتكاتفت الأيدي العربية، وكان هدف السادات الرئيس التحرير الشامل وليس تحريك القضية للوصول إلى مفاوضات سلمية بدأت في خيمة الكيلو/101/ لكان وضعنا بعد تشرين أفضل بكثير مما كان عليه.‏
        لم يغسل تشرين كل آثار حزيران، ولم يلغ نهائياً رسيس الإحباط في القلوب والعيون، ولكنه رفع الرأس، وأقام القامة، وأعاد الثقة، وخط في سماء العرب قوس أمل بإمكانية تحقيق النصر عندما يحزمون أمرهم، وأزال الكثير من الأساطير وفي مقدمتها: "أسطورة الجيش " الإسرائيلي " الذي لا يقهر.".‏
        فعبور قناة السويس، وتحطيم خط بارليف، ووصول الجنود السوريين إلى مرصد جبل الشيخ وضفاف بحيرة طبريا، وخوضهم بعد ذلك وحدهم حرب استنزاف ضد العدو استمرت أكثر من سبعين يوماً، يضع في تناول كل ذي عقل وإرادة وعزم معطيات وإمكانيات عربية لا يمكن تجاهلها عندما يقرر العرب، كل العرب، خوض معركة التحرير واستعادة الأرض والحق والكرامة.‏
        لقد تهافتنا كثيراً بعد ثقة تشرين، واستعدنا الثقة بأنفسنا بعد هزيمة حزيران؛ ولم تكن المعادلة المقلوبة غير ذات معنى وغير ذات قيمة، وغير ذات مدلول؛ فلنبحث فيما يقيم قوام الروح على مبدأ الحق والخلق القويم والثبات على المبدأ، ولنبحث في زوايا النفوس والبيوت والمؤسسات عن سوس ينخر القوى ويعري السواعد من قدراتها ويطمس الرؤية ويعمي القلوب، ولنبحث في كتاب التطبيع الذي تلا كامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة، عمن وعمّا، يفتت الإرادة، ويعشي الرؤية، ويُذْهب الأمل، ويقتل العزيمة، ويصدّر للأجيال العربية قيماً تزين لها الاستسلام والخضوع لعدو صهيوني عنصري يعمل على مشروع استيطاني استعماري مستمر يرمي إلى تحويل وجودها كله إلى وجود هزيل تابع ذليل، وجود العبيد المتخلفين الذين يخدمون "أسياداً" لم يكن تاريخهم أصلاً إلا تاريخ الذل والبؤس والعري الخالص عن كل قيمة خُلُقية أو إنسانية.‏
        إن حزيران المر يقدم لنا درساً فيه من فصول المأساة ما فيه، ومن فصول التصميم على مجاوزة الهزيمة والمأساة ما فيه.‏
        فلندرس جيداً، ولندرك جيداً، ولنتعلم جيداً، حتى يبقى طريق المستقبل واضحاً أمام أجيالنا، وحتى لا تنهزم فينا الإرادة والأعماق قبل خوض المواجهة الصعبة.‏

        دمشق في 4/6/1997‏

        * ذكر ذلك ديروجي وكارمل في كتابهما : القرن الصهيوني. وذكره بصيغة تكاد تكون حرفية شارل أندرلين Charles Enderlin في كتابه : سلام أم حروب Paix ou guerres صـ 364 من الترجمة العربية التي قام بها صياح الجهيم للكتاب ـ منشورات : دار الفاضل بدمشق / 1998 وقد أضفت توثيق أندرلين بترجمة الجهيم عند إعداد هذا الكتاب للنشر بعد الاطلاع عليه تشرين التاني 1998، وكان النص قد نشر كما هو في أعلاه في 4 / 6 / 1997 بناء على توثيق من كتاب ديروجي وكارمل. وقد جاء النص وفق أندرلين : " في 25 أيلول 1973، تلقت إسرائيل أنباء جديدة عن تحركات للجُند في مصر وسورية. وفي ساعة متأخرة من المساء، هبط حسين ملك الأردن في طائرة مروحية قرب مسعدة.‏
        كان يقود الطائرة بنفسه. وكانت تنتظره فيها مروحية إسرائيلية لتقوده إلى " مدراسة". قاعدة الأجهزة الخاصة في شمال تل أبيب. كانت غولدا هناك، تدخن السيجارة تلو السيجارة، كان هذا اللقاء هاماً بالنسبة إلى الإسرائيليين. كان الملك الأردني في مصر، في الأسبوع الفائت. وكان الأمنُ مضموناً على أيدي رئيسي " الشين بيت" المسؤولين عن تنظيم هذا النوع من الزيارات السرية: بـ (بز يوفين هازاك) و( رافي مالكه). وفي غرفة ملاصقة، كان خبراء الاستخبارات العسكرية يتابعون تسجيل المحادثة، ولاسيما المقدّم (زوسيا كنيزر)، رئيس قسم الأردن. انتفض عندما سمع حسين يتوجّه بالقول إلى غولدا مئير:‏
        " نحن نعلم من مصادر حسنة أن جميع وحدات الجيش السوري مستنفرة، وهي جاهزة للانتقال إلى العمل. استعمل الملك في الإنجليزية عبارة :"jump off position"، ولم تنتشر في جنوب سورية سوى فرقة واحدة للدفاع عن هذه الحدود، في حال حاولت إسرائيل القيم بهجوم مضاد".‏
        ماذا يعني ذلك؟‏
        - لا أدري إن كان ذلك يعني شيئاً أم لا. لدي بعض الشكوك، لكني لستُ متأكداً.‏
        - هل تستطيع سورية أن تشنّ هجوماً دون مصر.‏
        - أعتقد أنها ستتصرف وحدها. أعتقد أن مصر ستنضمّ إلى سورية في حالة الحرب".‏

        الأسبوع الأدبي/ع564//7/حزيران/1997.‏

        إذا الشعب يوما أراد الحياة
        فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
        و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
        و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

        تعليق


        • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

          قراءة .. في(أضواء) حزيران
          بعد قيام دولة الكيان الصهيوني بالقوة والغدر والتواطؤ، على حساب الفلسطينيين، أصبح هدف القيادات الصهيونية والإسرائيلية تحقيق المرحلة الثانية في المشروع الصهيوني-الاستيطاني، وهي الحصول على اعتراف الدول العربية بالوجود الشرعي لإسرائيل، وفرض ذلك الاعتراف أو انتزاعه بكل الأساليب والأشكال الممكنة ومنها قوة القهر؛ مع الاستمرار في تكثيف الاستيطان وتهيئة المناخ الآمن له، وقضم ما يمكن من الأرض العربية.‏
          ولم يكن موضوع امتلاك القوة وتحرير الإرادة الصهيونية في مجال استخدامها غائباً عن ذهن تلك القيادات ولا ثانوياً في خططها، فقد بدأت تؤسس منذ مطلع الخمسينيات لقيام قوة نووية في الأراضي التي احتلتها بشكل مواز لإقامة صناعات حربية متنوعة ومتطورة.‏
          وبمساعدة فرنسا بالدرجة الأولى تمكّن الإسرائيليون من إقامة مفاعل ديمونة النووي " الكاماغ " في صحراء النقب، ذلك الجهد الذي أشرف على تأسيسه وتابعه بعزم وإصرار شمعون بيريس.‏
          وفي 27 أيار 1967، أي قبل حرب حزيران بأيام معدودة "أصبح نظام التسلح النووي ساري المفعول، ولكن الموضوع ظل من المحرمات في إسرائيل، التي لم تكن ترغب في رؤية جيرانها يسلكون الطريق ذاتها سواء أكانوا قريبين منها أم بعيدين عنها" كما يقول ديروجي وكارمل.‏
          وكان الإرهابي أرئيل شارون أكثر المنادين باحتكار " إسرائيل " للسلاح النووي ومنع وصوله إلى أيدي العرب والمسلمين من شمال إفريقيا حتى الباكستان، وتشكل تيَّاراً يعمل في هذا الاتجاه أدى بعد أكثر من عقدين من الزمن إلى ضرب مفاعل تموز النووي في بغداد.‏
          وهذا الهدف الاستراتيجي العام للغرب والصهيونية، هدف منع العرب من امتلاك سلاح نووي، كان يواكبه خط استراتيجي آخر يهدف إلى منع توطّن الصناعات العسكرية في أي بلد عربي من أجل أن تبقى حالة الضعف والاعتماد على الغير مستمرة، ولكي يبقى قرار العرب السياسي والعسكري بيد صانع السلاح ومورّده من جهة ومالك القوة وموجهها من جهة أخرى؛ وهكذا يجد العرب أنفسهم محاصرين بالخوف والقهر والإحباط، يملكون عاطفة جياشة وشعارات فضفاضة ورغبة عارمة في التحرير، ولكنهم يفتقدون الأدوات والأجهزة والقوة المحررة، والرؤية المنقذة، ومقومات القرار العربي المستقل؛ فتبقى " إسرائيل " في حالة نمو وتوسع وهيمنة ويبقون هم في حالة تآكل وتراجع وتهافت، إلى أن يستسلموا للأمر الواقع ويعلنوا الاعتراف بشرعية الاحتلال. وفي ظل هذه الهيمنة والبرمجة المخطط لهما بدقة وعناية كانت تجري محاولات لانتزاع اعتراف بعض الحكام العرب بـ "إسرائيل"، عن طريق الترهيب والترغيب، ويتم الضغط والتحرك لتحقيق ذلك بكل الوسائل الممكنة.‏
          وعندما امتلك عبد الناصر القدرة على تصنيع أنواع بسيطة من الصواريخ -الظافر والناصر- بمساعدة بعض الخبراء الألمان، وتحرك على أساس قومي ليجعل الآخرين يدركون أن العدوان على سورية هو عدوان على مصر؛ وبذلك أعطى للقومية العربية حضوراً فاعلاً وبعداً عملياً يوحيان بإمكانية تحرك عربي على محور قادر على الاستقطاب وقادر على أن يبدأ التحرير؛ عندما حدث ذلك جاء عدوان حزيران بكل ما حمل من تواطؤ ومرارة وخسارة فادحة، مادية ومعنوية: الأرض والبشر والكرامة، ولكن ذلك العدوان لم يحقق انهياراً عربياَ شاملاً واستسلاماً للعدو وطلباً للصلح على أرضية الاعتراف بنتائج العدوان في سيرورته التاريخية، بل على العكس من ذلك جاء رد الجماهير العربية يومي العاشر والحادي عشر من حزيران 1967 على استقالة الرئيس جمال عبد الناصر وإعلانه عن تحمله وحده نتائج ما حدث، جاء ذلك الرد بمثابة استفتاء قومي عام يقول برفض الاستسلام لمنطق الهزيمة ووقائعها، ويؤسس للتمسك بالرموز القومية والخط النضالي، ويؤكد استمرار المعركة مع العدو من أجل التحرير؛ وكانت حرب الاستنزاف على القناة، وكان الإعداد لمعركة قادمة.‏
          وتحت وطأة رد الفعل المتضاد الذي حصل في الوطن العربي وفي الكيان الصهيوني، لم يكن من الممكن أن ينشأ حوار على أرضية الهزيمة والشعور بالإهانة عند العرب، والغطرسة الهائلة لدى اليهود، تلك التي تجلت في قول موشيه دايان بعد انتهاء حرب حزيران:‏
          "إنني أنتظر اتصالاً هاتفياً من الملك حسين، لسنا في عجلة من أمرنا، إذا كان العرب يريدون التفاوض فهم يعرفون بأي رقم يتصلون.".‏
          لم يكن خافياً يومها أن الإسرائيليين على استعداد للتنازل عن الأرض التي احتلوها /سيناء والجولان والضفة الغربية وشرقي القدس/ في مقابل حصولهم على اعتراف عربي بهم وإقرار بشرعية وجودهم دولة في المنطقة، وقد قال بن غوريون صراحة: " إذا كان لي أن أختار فأنا أفضل السلام على الأرض المكتسبة.".‏
          وبدأ التركيز الصهيوني-الغربي- على الأردن لتحقيق خرق عربي وإعلان اعتراف، وبذلت محاولات لعقد لقاء مع ممثلين لمنظمة التحرير، ولكن تطور الأحداث، وسخونة المواجهة على القناة، والمناخ العربي العام، ثم تصاعد فعل المقاومة انطلاقاً من الضفة الشرقية لنهر الأردن، حيث تمركزت قوى الثورة الفلسطينية بفصائلها، كل ذلك جعل الملك حسين: "يُسِر لرئيس وزراء " إسرائيل " إيغال آلون في لقاء سري تم بينهما على ضفاف البحر الأحمر بأنه لا يستطيع القيام بأية مبادرة سلام مع " إسرائيل " قبل أن يضع حداً أولاً للسلطة التي تمارسها المنظمات الفلسطينية على أراضيه وبشكل موازٍ لسلطته.".‏
          وكان الجهد الصهيوني يركز، في موقع آخر، على مقولة الوطن البديل، ويشجع على أن تقوم دولة الفلسطينيين في شرقي الأردن ليتخلص الصهاينة من شبح الفلسطيني الذي يطاردهم، ولينشئ صراع فلسطيني-أردني في اللحمة الاجتماعية يريح " إسرائيل " من تهديد على جبهة طويلة. وقد ابتلع بعض الفلسطينيين هذا الطعم، وعمل الإسرائيليون والغربيون على تغذية نزوع الملك حسين إلى المواجهة، وأثمر ذلك كله: أيلول الأسود وتبعاته وتفاعلاته عربياً، ورحيل منظمة التحرير عن الأردن، ووفاة عبد الناصر، وموجة عارمة من الغضب العربي مشوبة بمرارة الإحباط. ولم تترك الأحداث اللاحقة وبعض الحقائق الراسخة على الأرض، فرصة لذوي الميول والتوجهات الاستسلامية لكي يمارسوا دورهم ويعلنوا عن اعترافهم بالعدو الصهيوني: فالمد القومي لم ينحسر بعد، والرأي العام العربي قوة لا يستهان بتأثيرها، والقوى العربية في المنطقة، لا سيما مصر وسورية والعراق، ويقظة عربية في الخليج، وتأثير حركة التحرر العربية، وتحالفات العرب مع السوفييت، كل ذلك جعل الوقت غير ملائم لتحقيق مثل تلك الاختراقات المؤلمة في الجسد السياسي العربي؛ ولكنه لم يمنع، في الوقت ذاته، من امتداد الجسور وانفتاحها بين " إسرائيل " وبعض من تركز على دورهم في الوطن العربي من رموز وأنظمة.‏
          وبدأت الخشية القائمة على انعدام الثقة أو تخلخلها بين الحكام العرب تزيد من حدة اندفاع المندفعين في تيار الاعتماد على العدو الصهيوني والغرب في حماية أنفسهم وأنظمتهم من أشقائهم العرب. وأسس هذا مع الزمن خلية الفتك السرطانية الأولى في جسد المد القومي والتضامن العربي وإن كانت حتى ذلك الوقت بطيئة التحرك، قليلة التأثير، تعمل بسرية تامة. وعلى هذه الأرضية، أرضية الشك بالأخ، وتثمير العلاقات بالغرب وتأكيد الولاء له، والاعتماد على " إسرائيل " لتأمين الحماية والتدخل المباشر عند الضرورة، وإقامة علاقات سرية معها وتمتين تلك العلاقات على حساب المصلحة العربية العليا، على هذه الأرضية نستطيع أن ندرك بشكل أفضل موقف الملك حسين والمرامي البعيدة لموقفه حين طلب من توماس بيكرنغ سفير الولايات المتحدة في الأردن أن يؤمن له لقاء مع غولدا مائير "وفي 25 أيلول 1973 -أي قبل حرب تشرين أكتوبر بعشرة أيام فقط- التقى غولدا مائير في تل أبيب، وكان ذلك لقاءه السري التاسع حتى ذلك التاريخ مع الإسرائيليين (.....) لقد أراد الملك حسين، قبيل رأس السنة العبرية، أن ينبه السيدة الحديدية -حسب قول المصادر العبرية حرفياً- إلى أن الرئيس حافظ الأسد وضع كافة قوته في حالة تأهب قصوى ونقلها إلى الحدود الأردنية والجولان. (....) وأنه لا يظن أن السوريين قادرون وحدهم على دخول الحرب -أي أن المصريين معهم- ولكنني أؤكد لك أنهم مستعدون للقتال."‏
          فها هو كشف مطلق بحسن النية وفصم العرى العربية من جهة، وفعل يرمي إلى إحباط كل عمل عربي يؤذي " إسرائيل " ويؤثر في نفوذ الغرب في المنطقة ويخلق جبهة عربية أو قوة عربية ذات تأثير واسع على الساحة القومية، تستطيع أن تقف موقفاً محرراً مشرفاً، أو توحي بأهمية ذلك الموقف وبإمكانية اتخاذه.‏
          وكان هذا الفعل وسواه عربون ولاء مكشوف وإعلان استعداد للقيام بخطوات الاعتراف تحت مظلة السلام، وتحقيق أهداف " إسرائيل " بالحصول على اعتراف عربي بها تلك التي لم تتحقق في حرب حزيران بإعلان الاستسلام.‏
          وقعت حرب تشرين، وحقق الجيش المصري العبور الرائع وتحطيم خط بارليف، وحقق الجيش السوري الوصول إلى شاطئ بحيرة طبريا ومرصد جبل الشيخ وخاض حرب استنزاف وحده استمرت أكثر من سبعين يوماً بعد ثغرة الدفرسوار وما نشأ عنها وتلاها من أفعال وتلميحات وأقوال.‏
          كان السادات قد أراد تحريك القضية وسبق له أن أجاب على سؤال لغونار يارينغ في 8 شباط 1971 بقوله: " إنني مستعد للتوقيع على اتفاقية سلام مع " إسرائيل " مقابل إعادة سيناء." ويبدو أن كيسنجر لمَّح بإمكانية ذلك بعد أن تحقق للعرب في حرب تشرين/أكتوبر شيء من رد الاعتبار ومجاوزة المهانة التي خلفتها هزيمة حزيران.‏
          من خيمة الكيلو /101/ بدأ اتجاهان يؤديان في النتيجة إلى السير في طريق كانت " إسرائيل " تريد السير فيها في الأيام الأولى التي تلت حرب حزيران وهي طريق إجبار العرب على الاعتراف بها مقابل إعادة الأرض، التي غدت بعد النتائج النهائية لحرب تشرين/إعادة أرض/ مما احتل في حرب حزيران.‏
          وقد تغير المنطق " الإسرائيلي " وازداد تشدداً استناداً إلى متغيرات في المنطق الأميركي ومنطق بعض العرب، وأحوال عربية ظهرت في حرب تشرين وبعدها.‏
          فقد اقتنع الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية، لا سيما بعد التضامن العربي الذي استمر ستة أشهر فقط بعد حرب تشرين وتجلى خلالها بشكل جزئي، بأنه لا بد من:‏
          1- السيطرة التامة على منابع النفط وضخه وتسعيره وتسويقه. ولذلك بدأ بتشكيل قوة التدخل السريع منذ ذلك الوقت.‏
          2- إلحاق هزيمة نهائية بالقومية العربية التي تخلق روحاً عربياً متماسكاً متحدياً يحرض على التحالف لتحرير فلسطين، بإضعاف الثقة بين العرب وتدمير أشكال تعاونهم.‏
          3- استنزاف المال العربي الذي يدعم المقاتل العربي من جهة، والذي قد يستخدم لإقامة صناعات عسكرية متطورة، أو للحصول على أسلحة غير تقليدية.‏
          4- الإعداد لشغل العرب عن " إسرائيل " وعن قضية التحرير، بحروب عربية-عربية وحروب عربية إسلامية. والوصول إلى حالة من التمزق والشك والإحباط تقود للاستسلام.‏
          5- استثمار الوضع الناشئ في مصر، بعد الفجوة التي حصلت بين السادات والسوفييت، واستثمار استعدادات السادات لفصل مصر عن العرب، وجعلها تصل إلى سلام مع " إسرائيل " على أرضية الشعور بالرضا والكرامة بعد العبور المشرف من جهة، والتكاليف الكبيرة للحرب وما تركه التهديد الذي رافق وصول القوات البرية الإسرائيلية -بمساعدة أميركية مطلقة- إلى بعد مئة كيلو متر عن القاهرة.‏
          وبدأ كيسنجر -السوس الصهيوني الفظيع- بدأ عملية نخر في البنية السياسية العربية من جهة، وإعداد الاستراتيجية الأميركية الجديدة وتنفيذها مع الحلفاء والأعوان والأتباع من جهة أخرى، وهي استراتيجية ترمي إلى جعل الولايات المتحدة تسيطر -مستقبلاً- على منابع النفط سيطرة مباشرة لتضمن مصالحها الحيوية، ولتتحكم بالآخرين، حتى بأوربا الغربية واليابان، فيما يتعلق بأكبر مصدر للطاقة.فجاءت أحداث لبنان /1975/ ومشروع فصله عن عروبته والتشكيك التام بانتمائه للعروبة، والدعوة إلى طرد الفلسطينيين منه وإقامة دولة مسيحية فيه تصبح توأماً للدولة اليهودية، فتسدان معاً ساحل المتوسط عن بلاد الشام -إن أمكن ذلك- وتسمحان بقيام فسيفساء من الكانتونات الطائفية يشكل حزاماً أميناً لإسرائيل، ويقدم سابقة تفتيت للبعد الاجتماعي والتماسك الوطني في كثير من الأقطار العربية.‏
          واستمرت الحرب المجنونة في لبنان، على هذه الأرضية خمس عشرة سنة تحصد الوجدان والتضامن العربيين، وتحصد العلاقات الأخوية العربية، كما تحصد البشر وكان الموساد وراء كثير مما حدث في بداياته، ثم كانت " إسرائيل " بكل جلاء ووقاحة وراء كل ما حدث منذ البداية حتى يوم الناس هذا، فالقصف على لبنان يستمر في الجنوب الذي تحتل " إسرائيل " جزءاً منه وتقيم فيه سلطة عميلة لها هي سلطة أنطوان لحد وريث سعد حداد.‏
          وأتى الاجتياح " الإسرائيلي " للبنان ودخول بيروت عام 1982 وتنصيب بشير الجميل رئيساً ودخول القوى المتعددة الجنسيات إلى لبنان حلقة في المشروع الرهيب الذي صرح كلود آرنو عام 1968 لإسحق رابين بأن الفاتيكان يوافق عليه "وهو إقامة دولة كاثوليكية فوق جزء من الأراضي اللبنانية." /القرن الصهيوني- ديروجي وكارمل ..أتى كل ذلك ليحقق أهدافاً مؤلمة منها:‏
          أ- إقصاء منظمة التحرير عن /أرض فتح/ وعن لبنان، وشل دورها، وجعلها هامشية ما أمكن فغادرت إلى تونس.‏
          ب- امتحان اتفاق كامب ديفيد من قبل "الإسرائيليين" والأميركيين، فبقيت مصر على الحياد في موضوع الاجتياح المر الذي كبد سورية والفلسطينيين واللبنانيين خسائر فادحة.‏
          جـ- إحداث فجوات عميقة، على الصعيدين الشعبي والرسمي بين الدول العربية والجماهير العربية.‏
          د- التأسيس لنزعات طائفية مدمرة للتماسك الوطني في أقطار ومجتمعات عربية.‏
          وعلى جبهة أخرى فتحت نار مدمرة بين العراق وإيران كان الغرب يغذيها ويستنزف مشاعر الناس من خلالها، لقد استمرت ثمان سنوات واستقطبت حولها أموال الخليج والشارعين العربي والإيراني، وفتكت عميقاً جداً ببعض اللحمة العربية-العربية وببعض اللحمة العربية-الإسلامية وهيأت الأجواء لضعف إنهاك شديدين. وقد لعب الطرفان " الإسرائيلي " والأميركي بشكل خاص، -إضافة للغرب وسائر تجار السوق السوداء- دوراً خطيراً في استنزاف الطرفين وتغذية الحرب واستثمار نتائجها.‏
          وما إن وصلت إلى نهايتها المعروفة حتى كان العراق يملك قوة شكلت بنظر " إسرائيل " والغرب خطراً على المنطقة لابد من وضع حد له، وزاد الطين بلة نزوع العراق إلى تصفية أمور معينة بالطرق العسكرية.‏
          وكان اجتياح العراق للكويت الذي تم على أرضية من المتغيرات الدولية بعد أن كان حلف وارسو والاتحاد السوفييتي قد وصلا إلى مرحلة التفكك بعد التآكل؛ وبغياب الاتحاد السوفييتي، ودخول الولايات المتحدة على رأس حلف يقود تحرير الكويت تكرس وضع جديد مزق الشارع العربي إضافة إلى الأنظمة العربية، وأدى، بعد تدمير العراق، وفرض ما تم فرضه عليه، وتلاشي كل قدرة لروسيا الاتحادية على تحقيق التوازن الذي رجح تماماً لصالح الولايات المتحدة الأميركية وحليفها الرئيس في المنطقة: إسرائيل، أدى الوضع إلى سيطرة منطق فرض حل على العرب ينتج عنه اعتراف بـ "إسرائيل"، وما سمي "سلام في المنطقة".‏
          بعد حرب الخليج الثانية وما كرسته من نتائج، وما ساد من وضع عربي ودولي لم يكن أمام العرب الذين يقولون بالتحرير أي حليف أو أية قوة تمكنهم من تحقيق ذلك على الأرض في وضع سياسي وعسكري واقتصادي مختل تماماً وميزان قوى شامل يعمل لمصلحة عدوهم. وعندما دخلوا مدريد، راضين أو مكرهين، دخلوها على أرضية سياسة عربية اختارت التسوية أو الحلول السلمية منذ قمة فاس، ودخلوها على أرضية واقع عربي ودولي يشير إلى النتائج التي يمكن أن يفضي إليها مؤتمر مدريد والمفاوضات الناتجة عنه، ودخلوها جميعاً وقلوبهم شتى؛ وللبعض قنوات اتصال خفية، وأعضاء الوفد المشترك -الأردني، الفلسطيني- على شفا جرف هارٍ لما كان ولما هو خاف في اتصالات كشف عنها لاحقاً. أصبحت " إسرائيل " بقوة الراعي الأميركي المنحاز واللاعب الوحيد في تلك الساحة الذي حيَّد عرباً، واستفرد بعرب، وأغرى عرباً، أصبحت " إسرائيل " قادرة على فرض أوضاع على الأنظمة العربية بعيداً عن سطوة الجامعة العربية- إذا كان قد بقي لها سطوة - وبعيداً عن ضغط الرأي العام العربي الذي تلاشى أو كاد، وبعيداً عن التماسك القومي الذي كرس الجهد الإعلامي والسياسي الغربي-الإسرائيلي لإظهاره على أنه سراب وأن دعوة الوحدة العربية خيال وأن الناس في واد آخر ووراء مصالح ومطامح وأحلام أخرى فرضها ما يسمى "النظام العالمي الجديد" أو يبشر بها ويكثر خلفه المهرولون.‏
          لقد غابت أسلحة العرب الرئيسة كما لم تغب من قبل، وقال الساسة الأميركيون "وداعاً للقومية العربية" وداعاً للأمة العربية. وكان ذلك على أرضية الضعف الواضح والعري البادي والخلافات التي شقت قلب العربي وغيبت وجدانه في دخان النفط المحترق والمأساة المتراكمة الأداء.‏
          وفي هذه الظروف، وبالتوافق معها تماماً كان العدو الصهيوني يعزز قدراته في كل مجال ويبتز تحت اسم السلام وتحت اسم التهديد "بالإبادة" الذي تعرض له من قبل العراق.‏
          وقد حصل على أسلحة متطورة ومساعدات مالية خيالية ومستوطنين من روسيا الاتحادية التي تعاني من ضائقات كثيرة، واستطاع أن يلعب لعبة المنتصر تحت غطاء حليفه الأميركي المنتصر.‏
          وإذا كان واقع الأمر، كما عبر عنه أحد رجال الكونغرس الأميركي، يتجلى في أن الكونغرس الأميركي أرض محتلة من قبل اللوبي الصهيوني، فإنه يصبح أكثر وضوحاً حين ندرك من خلال الوقائع أن مجلس الأمن أرض محتلة من قبل الولايات المتحدة الأميركية. ولنا أن نقرأ في ضوء ذلك تأثير اللوبي الصهيوني والمصلحة "الإسرائيلية" في القرار الأميركي ومن ثم في القرار الدولي وهكذا اختل الميزان العام لمصلحة العدو، وتراكض عرب من العرب على أعتاب العدو الذي أخذ يصطاد منهم من يمكن اصطياده.‏
          وكان حذر الأردن شديداً وحرصه بادياً على ألا يوقع اتفاق صلح قبل الفلسطينيين، وكان بالمقابل سعي عرفات على انتزاع رضا الولايات المتحدة واعتراف " إسرائيل " به شديداً إلى درجة أنه اعتبر اتفاق أوسلو الذي يقدم كل شيء لإسرائيل فتحاً مبيناً، وما إن وقع على الاتفاق المهزلة الذي غذى أطماع " إسرائيل " أكثر فأكثر، حتى وقع الملك حسين اتفاقية وادي عربة.‏
          وهكذا حققت " إسرائيل " أكبر نصر في تاريخها منذ إنشاء الدولة بقوة القهر والغدر والتواطؤ الدولي، وبدأت تحاصر البؤر العربية المقاومة: سورية ولبنان والمقاومة الفلسطينية وبقية الأقطار العربية الرافضة لمسيرة الاستسلام، بدأت تحاصرها مع حليفها الأميركي أو أداتها الأميركية لتفرض عليها سلام الاستسلام.‏
          وإذا كان عدوان حزيران كان يهدف في المحصلة إلى فرض اعتراف بإسرائيل على العرب وردت الجماهير العربية بالرفض في ظل الهزيمة يوم ذاك، فإن حرب الخليج الثانية، التي أتت حلقة في سلسلة تتالت منذ حرب حزيران 1967 أدت إلى أن تحقق " إسرائيل " ما تطلعت إلى تحقيقه في حزيران بعد أن تحققت متغيرات عربية ودولية، وتهافت التضامن العربي، وتكسرت جسور الثقة بين الأنظمة والحكام في الوطن العربي، وظللت القلوب والأرواح غمامات من الإحباط، خالها البعض أنها نهاية للتاريخ، بينما التاريخ لا نهاية لما تسجله في صفحاته أمم تتعلق بالحياة والحق والكرامة. إن ما تبقى من جزر عربية صامدة، وما تبقى من وجدان شعبي عربي رافض للاعتراف بالعدو الصهيوني ولتطبيع العلاقات معه، وما تبقى من وعي معرفي وصلابة روحية وحقائق تاريخية تجسدها شرائح ثقافية عربية؛ كل ذلك يقدم أملاً ويجعل ولادة إرادة ومعرفة ووعي مغاير للسائد هو من الأمور الممكنة، بل الحتمية. لأن حركة الحياة وقانونها المستمر على أرضية التغيير، يرفضان أن يستقر العالم على هذا الوضع إلى الأبد، وأن يبقى العرب في هذا الواقع المر إلى الأبد أيضاً .‏
          من هنا يحق لنا أن نحلم بالتغيير، ونتعلق بالأمل، وندعو إلى عمل مغاير يؤدي إلى واقع مغاير يجعل العربي يتطلع إلى تحرير الأرض كل الأرض واستعادة الحق والكرامة والحرية والموقع الحضاري المشرف بين الأمم.‏
          دمشق 10/6/1997‏
          الأسبوع الأدبي/ع565//14/حزيران/1997‏

          إذا الشعب يوما أراد الحياة
          فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
          و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
          و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

          تعليق


          • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

            الدونما والصهيونية وراعي البـقر
            الطورونية العائدة في جلود " الجنرالات الدونما" تقحم الشعب التركي، رغماً عنه، في مسيرة البؤس والعداء والدم، وفي معارك يخوضها ضد أخوته وجيرانه ومواطنيه، ضد ثقافته وعقيدته ومشاعره وانتمائه التاريخي؛ بعد أن أوصله الجنرالات الذين يحولون دون اختياراته الحرة، إلى حالة من التمزق الداخلي أصبح معها مهيئاً لانتفاضة شعبية حقيقية؛ ويريد أولئك الجنرالات التخلص من شبح تلك الانتفاضة التي يستشعرونها ضدهم، والتخلص من الأوضاع الداخلية التي أوصلوا الشعب إليها بولائهم المطلق للغرب والصهيونية، بزجه في حروب وتحديات وتحالفات لا يريدها وليست في مصلحته وتأتي تنفيذاً لمخططات صهيونية غربية ترمي إلى :‏
            - فرض سلام الاستسلام على من تبقى صامداً في الساحة العربية من العرب.‏
            - تجزئة أقطار الوطن العربي، وعلى رأسها العراق، إلى دويلات يسهل فرض الهيمنة عليها وإلحاقها بالحلف الجديد الذي تصوغه " إسرائيل " والولايات المتحدة الأميركية في المنطقة خدمة لأغراضهما، حلف بغداد بلا بغداد، وعلى أنقاض بغداد .‏
            - تهويد القدس كلياً وجعلها عاصمة لدولة الإرهاب والكراهية والعنصرية، دولة الكيان الصهيوني.‏
            فمنذ توقف " المفاوضات الثنائية " بين سورية والكيان الصهيوني في " واي بلانتيشن " نتيجة لموقف سورية الرافض لقبول صيغة استسلامية مذلة مثل صيغتي أوسلو ووادي عربة، والمتشبث بأرضه، كل أرضه، وبعودة الفلسطينيين إلى وطنهم والمحافظة على حقوقهم المشروعة في إقامة دولتهم المستقلة فوق تراب وطنهم المحرر، والمتمسك بحقه في مشروعه القومي النهضوي، الذي يعد المشروع النقيض والمناحر، حتى النصر أو الموت، للمشروع الصهيوني- التوسعي- الاستعماري ـ الاستيطاني : " المشروع الشرق أوسطي" الذي ينسف الهوية العربية - الإسلامية للمنطقة كلها ويلحقها بالغرب المتصهين.‏

            منذ ذلك التاريخ أدخلت المنطقة في صيغ من التحالف المعلن لتثبيت المشروع الشرق أوسطي، وإيجاد قوة تقودها " إسرائيل " وتشرف عليها الولايات المتحدة الأميركية، من شأنها أن تغير الهوية الثقافية والتكوين الاجتماعي و السياسي والعلاقات الاقتصادية في هذه البيئة العربية ـ الإسلامية؛ وتستعمل كل أشكال القوة لإبادة المقاومة الوطنية المشروعة ضد الاحتلال الصهيوني، ومن يدعم هذا التوجه، وللقضاء على تيار المقاومة: الإسلامي _ القومي_ التقدمي، الذي يرفض الخضوع ومشاريع الذل الاستعمارية الصهيونية، ويرفض أن يلقي هويته وسلاحه وكرامته وتاريخه في الوحل، ويلتحق، تابعاً ذليلاً بثقافة الجاز والجينز والهمبرغر، مثله الأعلى راعي البقر ذو الأخلاق النابعة من عالم القرصنة والإرهاب والمكاييل المزدوجة؛ ويصبح مجرد معدة وساعد، توظفهما الاحتكارات ورؤوس الأموال الصهيونية كما تشاء، وتحرمهما من مقومات الوجود الكريم، ومن كل الحقوق والحريات، سوى "حق" الانحدار والانهيار في عالم العري والجنس والمخدرات والاستهلاك والتهافت القيمي والقومي المطلقين.‏
            في أثناء مؤتمر قمة شرم الشيخ / 13 ـ 3 ـ 1995 / الذي انعقد نُصرة " لإسرائيل " بعد عمليات: الخضيرة- بيت ليد- القدس وسواها من العمليات الاستشهادية النوعية التي هزت الكيان الصهيوني وأتباعه من العرب، تم ضم " إسرائيل" إلى قائمة حلف الأطلسي، ومُنحت حق رعاية شعبة خطيرة من ذلك الحلف تقيمها الولايات المتحدة وتدعمها وترعاها، وتم ذلك بفضل النفوذ الصهيوني غير المحدود في دوائر صنع القرار الأميركي .‏
            فقد قيل وبحق : إن الكونغرس الأميركي أرض محتلة من قبل " اللوبي الصهيوني "، ونضيف : إن مجلس الأمن الدولي هو الآخر أرض محتلة من قبل الولايات المتحدة الأميركية. ولذلك لم يصدر فيه قرار واحد، حسب الباب السابع من ميثاق الأمم المتحدة يكون ملزماً لإسرائيل، رغم جرائمها المتعددة واستهتارها المطلق بمؤسسات الأمم المتحدة وقراراتها، وآخرها القرار القاضي بتغريمها مبلغ /1.7000/ مليون وسبعمئة ألف دولار تعويضاً للأمم المتحدة عن تدمير جزء من مقر قواتها في " قانا "، ذلك القرار الذي رمته " إسرائيل " بوجه الأمم كما فعلت بقرارات سابقة .‏
            في مؤتمر قمة شرم الشيخ دعا الرئيس التركي: سليمان ديميريل:" إلى عدم توقيع معاهدة سلام مع سورية إلى أن تتوقف عن دعم الإرهاب"، وهو يقصد ما تدعيه تركيا من قيام سورية بتقديم دعم لحزب العمال الكردستاني، وهو أمر نفته مراراً وتكراراً؛ ودعمها للمقاومة الوطنية اللبنانية والفلسطينية وهو ما تراه سورية واجباً قومياً، وحقاً مشروعاً لمن تُحتل أرضه ويُهَدَّد وجوده .‏
            وكانت تانسو تشلير قد هيأت اتفاقية تحالف تركي_ إسرائيلي برعاية الولايات المتحدة الأميركية، وقِّعت بعد مشاركة ديميريل في قمة شرم الشيخ، التي فتحت آفاق العمل الاستعماري- الصهيوني على صورة أحلاف يدخلها بعض العرب في المنطقة .‏
            والتحالف المشار إليه، الذي جاء في صيغ اتفاقيات، شمل على حد تعبير شفيق بير رئيس الأركان في الجيش التركي " جمع المعلومات الاستخبارية عن إيران وسورية بالوسائل الإلكترونية، كما شمل التعاون تقديم معونة للجيش التركي المرابط على حدود إيران والعراق وسورية، وذلك بالتدريب والمعدات، وينص أيضاً على تشكيل إطار استخباري لتقييم الأوضاع العسكرية والأمنية، والقيام بتدريبات لسلاح البحرية التركي والإسرائيلي ." / عن القدس العربي‏
            8 ـ 4 ـ 1996 / وقال وزير الدفاع التركي: أولتان سنغورلو: " إن اتفاق التعاون هذا يقضي بتدريب طيارين إسرائيليين على استخدام الأجواء والقواعد التركية ".‏
            وفعلاً بدأت الطائرات الإسرائيلية باستخدام الأجواء التركية اعتباراً من 10/ نيسان 1996 وقد أكد ذلك في حينه عمر إقبال الناطق باسم الخارجية التركية إذ قال : " إن الطائرات الإسرائيلية بدأت إجراء تدريبات في الأجواء التركية، وأضاف: إن تركيا أقدمت، بعد عملية السلام في الشرق الأوسط، على تطوير علاقتها بإسرائيل في كثير من المجالات."‏
            وهي علاقة قديمة كما نعلم، لم تبدأ بالاعتراف التركي بإسرائيل الذي تم عام 1948 وإنما بمخطط اليهود الدونما الذين جرعوا السلطان عبد الحميد، بعد أن رفض التنازل عن فلسطين للحركة الصهيونية لقاء تسديد ديون السلطة العثمانية كلها، جرعوه الإهانة والموت، ودفعوا الطورونية إلى حدود الغلو المطلق حتى تفجرت السلطنة وحدودها وقواها وآمالها في آن معاً، وأصبحت تركيا أتاتورك مطية للغرب، ثم مطية اليوم لـ "إسرائيل"، التي قالت، في صحيفة يديعوت آحرونوت، بعد تطبيق "الاتفاق ـ التحالف:‏
            "إنه يمكن اعتبار تحليق الطيران " الإسرائيلي " في الأجواء التركية كرادع أساسي لسورية "، وأكدت إذاعة " إسرائيل " في ذلك الوقت على الآتي:‏
            -استخدام المجال الجوي التركي والقواعد التركية من قبل الطيارين الإسرائيليين.‏
            -إغناء الخبرة ـ خبرتهم ـ بالتضاريس الأرضية.‏
            -التطبيع عربياً وإسلامياً.‏
            واتفاق التدريبات الجوية "الإسرائيلية" مرتبط، كما نقلت وكالات : يونايتد برس- رويتر- اسوشيتد برس؛ في حينه " باتفاق تبلغ قيمته /600/ مليون دولار، تقوم " إسرائيل " بموجبه بتحديث طائرات حربية تركية، إن " إسرائيل " وافقت بموجب اتفاق التعاون الاستراتيجي والتقني الذي تم التوقيع عليه في شباط 1996، على تحديث طائراتها / إف 4 ـ فانتوم / الأمريكية الصنع التي يمتلكها سلاح الجو التركي ". وقال الإسرائيليون بعد ذلك بكل الوقاحة التي يتقنونها : " إن تركيا تقع عملياً في الفناء الخلفي لسورية، لذا فإن الطلعات التدريبية في أجوائها ستكون رادعاً أساسياً مميزاً " / نشرة سانا في 6/4/1996/‏
            ومن شأن الاتفاقية ـ التحالف :‏
            -وضع سورية ولبنان ضمن فكي كَمَّاشَة "إسرائيلية" ـ تركية، والضغط عليها لتقبل بكل ما تمليه " إسرائيل " من شروط، وما تطلبه تركيا من تنازلات وما تريده الولايات المتحدة الأميركية من سياسات وتأمين مصالح، ومنعها من القيام بأي دور ذي بعد عربي مؤثر .‏
            -تهديد سورية، في موضوع المياه، من موقع قوة، وفرض معادلة : إسالة مياه في مجرى نهر الفرات مقابل إعطاء " إسرائيل " منابع بانياس وضفاف بحيرة طبريا من الشمال والشرق، ومواقع حيوية أخرى.‏
            -تهديد إيران ومحاصرتها، وضرب المفاعل النووي الذي تبنيه للأغراض السلمية، عندما يحين وقت ذلك.‏
            -تهديد العراق والعمل على إنجاز تقسيمه أرضاً وشعباً. وهاهي القوات التركية اليوم تعربد في مدى مئتي كيلو متر في عمق شمال العراق، وتقوم بتدريب مكشوف على الوصول إلى كركوك، حيث النفط، وتمهيداً لضم الموصل التي مازالت على قائمة المحافظات التركية بدخل ليرات تركية معدودة.‏
            -توطين 400000 فلسطيني في العراق، وتذويب حضورهم الصارخ، لإتمام تسوية على حساب فلسطين الدولة والشعب والحلم والأمل .‏
            -إعادة تكوين المنطقة العربية حسب المخطط الشرق أوسطي الجديد المرسوم لها، لتكون مجردة من هويتها العربية- ومن كونها نواة صلبة لثقافة عربية إسلامية ذات تأثير مستقبلي : سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، تملك حرية التحرك والقدرة على الاستقطاب، وتشكل بعداً حيوياً في أية مواجهة مستقبلية مع الكيان الصهيوني .‏
            يقول الجنرال التركي المتقاعد شادي ارغوفينيتش بشأن التصور المستقبلي لهذا التحالف:‏
            " المسيرة ستكون طويلة وشاقة، وفي نهاية الأمر سيكون السلام مرتبطاً ربما بتطور هوية شرق أوسطية مقبولة لدى الجميع - وهذه الهوية يجب أن تتطور على أساس معايير وأخلاق مشتركة وحول مصالح أمنية مشتركة، إن إمكانية تطور مثل هذه الهوية سيشغل بال الذين يهتمون بعلم المستقبل فهي حالة جديرة بالاهتمام ولكنها متعبة للفكر ". وعلينا أن ندقق جيداً في كلام الجنرال ارغوفينيتش الذي ينطوي على أشياء كثيرة وكبيرة وخطيرة تمس ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا كله.‏
            إن التحالف الأميركي _الإسرائيلي_ الدونموي أنتقل اليوم إلى مرحلة التنفيذ المعلن لمخططاته وبرامجه وتهديداته، وعلى بوابته الخلفية تقف دول أخرى تشكل أجنحة متممة له منها :‏
            ـ الأردن الذي تدرب بعض طياريه للأسف: في " إسرائيل " بعد معاهدة وادي عربة، ويقول بعض جنرالاته علناً -الجنرال إحسان شردم - بتعاون مطلق معلن مع " إسرائيل " في كل المجالات ". وتجدد " إسرائيل " طيران الأردن باتفاق تظلله الولايات المتحدة الأميركية وترعاه وتدعمه مادياً، و"إسرائيل" ليست بعيدة، بأي حال من الأحوال، عن المناورات التي يقيمها كل من الأردن والولايات المتحدة الأميريكية في الأردن، استكمالاً لمخططات التحالف أو في سياقه.‏
            ـ ومنها ذلك الجهد الذي يبذل مع اليونان وفي قبرص لتكونا حلقة الوصل الذهبية بعد توحيد الأخيرة في إطار التفاهم التركي اليوناني الذي يوضع على نار حامية برعاية أميركية ودفع صهيوني، وهو ما تسعيان إلى إنجازه قبل موعد المناورات البحرية المزمع إقامتها في المتوسط هذا الصيف بين أطراف التحالف الاستعماري الجديد .‏
            إننا أمام مؤامرة مكشوفة، أمام قوة استعمارية استيطانية عنصرية قذرة، تستهدف الأمة العربية والشعب التركي معاً، وتمهد لضرب العروبة بالإسلام، وتوسيع دائرة العداء في المنطقة ليكون على أسس طائفية وقومية من أجل تفتيتها وإضعافها وتدمير مقومات هويتها، لإعادة تكوينها حسب المخطط الصهيوني - الأميركي؛ وفرض استسلام على العرب الرافضين للاستسلام فيها، والقضاء على كل الفرص الممكنة في استعادة التضامن العربي، أو الحلم الوحدوي العربي، لا سيما من خلال منع أي لقاء ممكن بين سورية والعراق، ومنع أي تقارب يشكل محوراً يكسر الحلقة التي تضيق حول عنق سورية والعراق، محور يصل إلى إيران وبعض الدول العربية والإسلامية الأخرى إن أمكن .‏
            إن مخطط التحالف التركي - " الإسرائيلي " - الأميركي - مرافق بحملة استيطان سرطانية في فلسطين، وبتنفيذ مخطط تهويد القدس وجعلها عاصمة موحدة ودائمة لإسرائيل، وهدم المسجد الأقصى المبارك وقبة الصخرة المشرفة، لإقامة الهيكل الثالث مكانهما في ما تسميه الصهيونية / احتفالية الألف الثالثة ببناء مدينة داود / وما بدأت القدس أبداً بداود، ولم تكن يوماً مدينة يهودية خالصة، فمنذ بناها العرب القدماء، وأقام قلعتها الأولى اليبوسيون العرب، وهم وإخوانهم الكنعانيون فيها لم يغادروها يوماً ولم يرخصوها أبداً، وبقيت مسرح نضالهم وحياتهم وحضارتهم وإرث أجيالهم، وستبقى .‏
            وبعد هذا كله .. وسواه مما يمكن أن يقال، فإن الوعي بالعدو الصهيوني وطبيعته ومخططاته، وبالتحالف الاستعماري الجديد وأغراضه، إن ذلك الوعي لا ينقصنا، وإنما تنقصنا الإرادة العربية الشاملة الصادقة بالمواجهة، وينقصنا تحويل الوعي إلى إرادة وعمل، والتخلص من صيغ الإحباط المميت والتواكل القتال والتواكل الممض لننتقل إلى العمل المنقذ والأمل المحيي .‏
            إننا نقول من هنا، بعزم أبناء الشعب الرافض للاعتراف بالعدو الصهيوني وبكل أشكال التطبيع معه، المؤمن بحقه في الحياة وبقدرته على مجاوزة المحن والصعاب، وبإمكانية التغلب على التحالفات المعادية بتحالفات قومية إسلامية - تقدمية واعية، بعيدة عن التعصب والتخلف، تأخذ بالاعتبار أنها جميعاً مستهدفة وأن الوطن والمستقبل كليهما مستهدفان؛ إننا نقول :‏
            - بإدانة التحالف التركي - الصهيوني - الأميركي الاستعماري البغيض،وبتجريم ممارساته، وبضرورة وقف عدوانه على أرض العراق وشعب العراق ووحدة العراق؛ فقد عانى شعب العراق ما فيه الكفاية من الحصار والاضطهاد والعدوان والتهديد، وآن له أن يرتاح وأن يبني ما دُمِّر في بناه الحيوية .‏
            - وبموقف عربي يقوم على تطبيق مقررات قمة القاهرة الأخيرة، والانطلاق منها نحو تطوير موقف عربي موحَّد حيال العدو الصهيوني والاستهانة الأميركية بكل الإرادات العربية، ولوضع حد للتهديد الكبير الذي تتعرض له سورية جراء التحالف الذي يريد خنقها وإجبارها على القبول بما لا تريده ولا ترضاه لنفسها ولأمتها .‏
            - وندين الصمت العربي حيال ذلك الخطر المحدق، والتواطؤ الغربي الغارق في صمت مريب، يغطي على ما يتم تحت مظلة حلف الأطلسي .‏
            ونتوجه بخطابنا للشعب التركي الأخ والجار، ولقياداته المؤمنة بقيمة الأخوة العربية - الإسلامية وبحسن الجوار وبصلات التاريخ، قائلين لأولئك الذين تستهدفنا وإياهم المؤامرة الصهيونية ـ الأميركية، التي يلتحق بها وينفذها جنرالات هم ورثة الدونما القديمة وأدواتها اليوم، من المؤتمرين بأوامر الحركة الصهيونية و " إسرائيل " العنصرية الإرهابية، نقول لهم :‏
            تعالوا لنكون صفاً واحداً ضد الاستعمار بكل أشكاله، ضد القهر والنهب والاستلاب الذي يوجه إلى الشعوب، ضد من يريدون لنا أن نقتتل ليرتاحوا على جثثنا ويحققوا مشاريعهم ومنافعهم على حساب مستقبلنا ومستقبل أبنائنا.‏
            إنكم مستهدفون بهذا المخطط كما نحن مستهدفون به، وهو موجّه ضدَّ استقلالكم وانتمائكم الحق لتاريخكم وعقيدتكم وللشرق الذي تملكون من روحه الكثير ومن عطائه الكثير ومن هويته الكثير .‏
            لن يفيدكم أن تهجروا بيئتكم وعقيدتكم وصلاتكم بإخوانكم التي تحقق منافعكم،انظروا إلى اقتصادكم الذي يقوم على أساس التعاون مع العرب، وإلى حجم التبادل والتعاون فيما بيننا وبينكم، وانظروا لمنافعكم مع الجوار العربي الإسلامي، وفكروا بعد ذلك بما تفعلون .‏
            تعالوا أيها الأخوة إلى كلمة سواء بيننا، تجمعنا على الحق ولا تفرقنا، تعالوا إلى مائدة الحوار لنحل ما بيننا مما هو معلق أو مختلف عليه من قضايا، ولا تجعلوا من لهم مصلحة بالاعتماد على " إسرائيل " والولايات المتحدة الأميركية، ومن أوصلوا تركيا إلى حالة دموية؛ ويريدون الهروب مما هم فيه من مشكلات داخلية إلى حروب وتهديدات لاخوتهم وجيرانهم، لا تجعلوا أولئك يقودونكم إلى معارك لا تحل مشكلاتكم بل تزيدها تعقيداً، ولا تخدم إلا " إسرائيل " والولايات المتحدة الأميركية، رمز الإرهاب وراعيته ورمز الاستغلال المعاصر للشعوب.‏
            - إننا نطالب بانسحاب شامل وفوري للقوات التركية من شمال العراق، وبوضع حد للعدوان الصهيوني والتهديد به وللاجتياح وأثاره .‏
            - وندعو إلى عقد قمة عربية تدرس كل الإمكانات والإجراء الواجب اتخاذها لمواجهة المستجدات الخطيرة، بعد أن وصلت مسيرة السلام إلى طريق مسدودة باعتراف أهلها، ولا سيما أهل اتفاق أوسلو بالذات الذين أصبحوا شرطة العدو على أهلهم؛ ولاتخاذ الإجراءات المناسبة لرفع التهديد عن سورية، فالحلقة تضيق، والتهديد يتصاعد من الشمال إلى الجنوب، والحصار على الأبواب .‏
            - وقف اقتتال الأكراد في شمال العراق، لأن مسيرة الدم هذه ضارة بهم وبالمنطقة، وتلحق بالعراق وشعبه - وهم جزء من شعبه - خسائر فادحة لا يطيق تحملها بعد الذي تحمل .‏
            رفع الحصار عن الشعب العربي في العراق، وعن الشعب العربي في ليبيا؛ وتحمل مسؤوليات قومية تاريخية في هذا المجال .‏
            وقف كل أشكال التطبيع مع العدو الصهيوني، وإلغاء مؤتمر الدوحة الاقتصادي، الذي يأتي حلقة رابعة في سلسلة المشروع الشرق أوسطي المتقدم كالسكين في الزبدة العربية، على الرغم من وقاحة التهديد الأميركي ـ " الإسرائيلي " للمنطقة وللسلام والقدس والكرامة العربية والإسلامية كلها،وهو مؤتمر لا يحقق إلا لإسرائيل والغرب الاستعماري مصالح مؤكدة على حسابنا نحن.‏
            - إقامة الحوار بين القوى القومية والإسلامية والتقدمية، على أرضية الثقة للوصول إلى اتفاق وعمل منقذين؛ لأن هذه القوى مستهدفة جميعاً من عدو مشترك هو الإمبريالية الأميركية والصهيونية والقوى اليهودية ـ الدونموية الخفية .‏
            إن التهديد مستمر، والصمود بوجه التهديد ينبغي أن يستمر .. لن تستسلم قوانا لقوى الشر، ولن تستكين أمتنا لمطالب العدو الصهيوني وحماته وحلفائه وعملائه، بالاستسلام التام، والانسحاب من الحياة، والتخلي عن دورها ومكانتها القوميين والإنسانيين عبر التاريخ.‏
            ومن أجل تحقيق ذلك نحتاج إلى عمل بلا حدود وأمل بلا ضفاف.‏

            دمشق في 14/6/1997‏

            الأسبوع الأدبي/ع566//21/حزيران/1997.‏

            إذا الشعب يوما أراد الحياة
            فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
            و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
            و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

            تعليق


            • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

              إسرائيل عنصرية مستمرة


              من يقل إن نتنياهو حالة خاصة- شاذة في الكيان الصهيوني، وصل إلى القيادة في ظروف استثنائية عطلت "مسيرة سلام ناجحة" في المنطقة، وأن زواله أو تنحّيه عن الحكم سيعيد الأمور إلى صيغة أفضل؛ يرتكب خطأً فادحاً، ويبرهن على أنه يعيش حالة وهم مستمرة.‏
              فهذا الأنموذج للإرهابي المحتال المجرد من كل قيمة خُلُقية ـ باعتراف ذويه -هو الذي يرتفع في عرف الصيغ اليهودية- التلمودية إلى مرتبة نبي من أنبياء اليهود، لأنه يحقق عداءًً أكثر للأمم، ويبطش بهم أكثر، ويستولي على أرضٍ لمصلحة "إسرائيل" وهذه هي مرتبة يشوع بن نون ومن تلاه من أنبياء الدم والدمار .‏
              ونتنياهو الذي "يخجل منه حتى الموتى" لسوء سلوكه جاء إلى الحكم بأكثرية تجسِّد حالة الشارع في فلسطين المحتلة، فهو إذن تجسيد للمنحى الاستيطاني -الاستعماري- الإرهابي المنتشر في العقل والوجدان لمجتمع قام على الإرهاب والعدوان والاغتصاب .‏
              ولا تشير حالة التنافس القائمة بين العمل والليكود / باراك ونتنياهو/ من جهة، أو بين " أمناء أرض إسرائيل "، عسكريين وغير عسكريين، من أجنحة الليكود والأحزاب الدينية المتطرفة من جهة أخرى؛ لا تشير تلك الحالة إلى بحث جدي عن تغيير جوهري يطول الاستراتيجيا والسياسة العامة في العمق، ويقوم بتحقيقهما طاقم جديد من القادة المؤمنين بحق غيرهم في الوجود الكريم؛ بل يشير كل ذلك إلى صورة من صور التنافس الشرس المستمر على تحقيق أهداف " إسرائيل" العدوانية بأفضل الصيغ وأقل الخسائر.‏
              لقد حقق نتنياهو خلال الأشهر التي انقضت من فترة ولايته الكثير مما يرغب كل صهيوني في تحقيقه، وأعاد تعزيز الصهيونية التي لا تؤمن إلا بالأرض والقتل، وقدم الوجه الحقيقي "لإسرائيل" في المرحلة الحالية، وزحف زحفاً واسعاً على القدس وأرض الضفة وأجساد بعض الحكام العرب؛ ولكنه لم يكن بحال من الأحوال أكثر نجاحاًً من حكام حزب العمل المتأخرين /رابين وبيريس/ في الاستيطان والعدوان والمذابح واستلاب هامات أقطاب أنظمة عربية؛وما تزال قمة شرم الشيخ، التي حضرها ثلاثة عشر حاكماً عربياً تضامناً مع بيريس ضد المقاومة الوطنية الفلسطينية التي سُميت "إرهاباً"، ومذبحة "قانا"، ما تزال من الشواهد الماثلة في الذاكرة والوجدان العربيين على ذلك.‏
              والمجتمع العنصري في الكيان الاستعماري-الصهيوني يحبذ لو أن لنتنياهو قفازاً حريرياً يغطي مخالبه الدامية القذرة، ويحبذ أيضاً لو يغير الرجل من أسلوبه المكشوف في الكذب والاحتيال والسلوك الفج في التعبير عن الأهداف الثابتة "لإسرائيل"، ولكنه لو خير بين رجل أكثر رصانة ودهاء واحتراماً لا يمضي إلى تلك الأهداف بكل عزم وقوة، وبين نتنياهو المحتال، الذي يمضي إليها عبر الدماء والدموع لاختار نتنياهو مرة أخرى؛ فذلك المجتمع الذي قام على العدوان وعلى تحقيق أهداف لا تتحقق إلا بالإرهاب والاغتصاب والاستعمار، ليس على استعداد لتغيير أهدافه مراعاة لمشاعر من يريدون أن تعصب عيون الضحية قبل الذبح، أو يغلَّف الخنجر المسموم بقراب ممرَّد .‏
              في المناخ الذي خلقته سياسة نتنياهو أو أنعشته، ظهر لأبناء الأمة العربية الوجه القبيح لبعض الحكام العرب الذين كانوا يتجملون بأقنعة مصطفاة، وتحققت صحوة من سكرة للبعض الآخر، أما الذين كانوا على اقتناع تام من أن " إسرائيل" بألوانها كيان عدواني ومشروع مناحر للمشروع العربي فقد تأكد اقتناعهم وازداد إيمانهم بضرورة إعداد الذات لأنواع من المواجهات على أرضية أن الصراع مع الصهيونية صراع وجود .‏
              وهذا بعض ما أكدته تلك السياسة وأظهره ذلك المناخ بشكل جلي؛ بعد أن كان موجوداً مستوراً، أو شبه مستور:‏
              1- القدس ينبغي أن تظل "عاصمة أبدية موحدة" لـ "إسرائيل"، يشملها الاستيطان السرطاني المكثف ويرحَّل عنها الفلسطينيون الساكنون فيها بأسلوب "قانوني-مدني ملائم".‏
              وفي احتفال "إسرائيل " بالعام الثلاثين لضم القدس الشرقية بعد احتلالها عام 1967، يقوم الكونغرس الأميركي، أو الكنيست الأميركي، لا فرق، بتوكيد الإعلان عن أنها "عاصمة أبدية موحدة لإسرائيل" وبنقل سفارة الولايات المتحدة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، ورصد الأموال اللازمة لذلك /100 مئة مليون من الدولارات الأميركية /.وهذا القرار هو تأكيد لقرار سابق حدد عام 1999 حداً أقصى يقوم خلاله الرئيس الأميركي أو الإدارة الأميركية كلها، بنقل السفارة حتماًً إلى القدس تنفيذاً لقرار لم يعترض عليه الرئيس الأميركي في حينه، وأصبح قراراً ملزماً له في نهاية المطاف، بعد استعمال حقه في فترة تأجيل لا تتعدى العام 1999م.‏
              ولم يكن كل ما تم في عهد نتنياهو بشأن القدس من:‏
              - فتح للنفق الذي يمر تحت باحة المسجد الأقصى، والاستمرار في حفر أنفاق أخرى، ليأتي وقت تدمير المسجد الأقصى في توقيت ملائم.‏
              - وبناء لمستوطنة "إسرائيلية" جديدة في جبل أبو غنيم.‏
              - والشروع في تهجير فلسطينيي القدس بكل الأساليب الممكنة، ومنها الضرائب الباهظة، وشراء الأراضي بالاحتيال، وهدم البيوت، والمصادرات، واستخدام سحب الهوية الشخصية.. إلخ .‏
              - إعطاء الضوء الأخضر للمنظمة الصهيونية "تطهير القدس من الدنس" باستئناف العمل الخفي لتحقيق أهدافها. وهي منظمة يعمل فيها صهاينة متطرفون على هدم المقدسات الإسلامية في القدس، وهو ما يسمونه "الدنس" أي وجود المسجد الأقصى وقبة الصخرة وغيرهما من المقدسات الإسلامية في القدس.‏
              لم يكن ذلك كله سوى التمهيد الأولي الملائم لاتخاذ قرارات نهائية معلنة مكشوفة، يخضع لها المعنيون من الحكام العرب باتفاقيات الإذعان /كامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة/ بعد أن وافق أولئك سراً أو ضمنياً على تلك القرارات وتشرّبها سلوكهم السياسي من كؤوس أميركية- صهيونية.‏
              2- شريط حدود السيادة الصهيونية على أرض فلسطين الذي يصل المستوطنات بطرق تربط بينها، وأخرى تربطها بالداخل والساحل، ليشمل الشريط خط الحدود بين فلسطين وكل من مصر والأردن وسورية ولبنان، أي أن ذلك الشريط يعلن أن فلسطين كلها تحت السيادة "الإسرائيلية" التامة، السيادة على الأرض، بينما تمنح المدن والقرى والجزر المتبقية للفلسطينيين حكماً ذاتياً في نطاق سيطرة الدولة أي: "إسرائيل" على البلاد، ويقوم ذلك الحكم بالخدمات وبحراسة الصهاينة من غضبة الشعب الفلسطيني وحلمه باستعادة أرضه.‏
              والإعلان عن أن نهر الأردن هو الحدود من الشرق وأن نسبة 40% فقط من أرض الضفة الغربية هي حدود أحلام رئيس مخفر الحكم الذاتي، أما الباقي فهو القسم المطلوب لضمان الأبعاد الحيوية للتوسع الاستيطاني الإسرائيلي في المرحلة الحالية من المشروع الصهيوني.‏
              إطلاق يد المستعمرين الصهاينة في كل مكان من فلسطين المحتلة، ولاسيما القدس والخليل، ليتخذوا الخطوات والإجراءات التي تمكنهم من السيطرة على الأرض والناس، بالوسائل المختلفة، ولإشاعة حالة من الذعر والإحباط معاً في صفوف الفلسطينيين ومن ثمة الانطلاق نحو مهاجمة معاقلهم الروحية على الخصوص، وإيمانهم ومعتقدهم وما يقدسون.‏
              وقد شهدنا خلال الأيام القليلة الماضية في الخليل أقصى ما وصل إليه التجرؤ اليهودي-الصهيوني على الإسلام انطلاقاً من أولئك الذين يمثلون بعمق وصدق حقيقة نتنياهو والسياسة الإسرائيلية والتيارات المتصهينة في الولايات المتحدة الأميركية، ولاسيما في الكونغرس حامي إسرائيل وسياسة نتنياهو.‏
              فالملصقات التي وزعت في المدينة وألصقت على حوانيتها كانت التعبير الحقيقي عن التكوين العقائدي والخلقي لليهودي- التلمودي- الصهيوني، الذي يجسده تماماً خط مستمر من يوشع بن نون حتى نتنياهو، وهو خط الأصولية- الإرهابية الدموية التي تَمْتَح تعاليمها من يهوة رب الجنود الذي لا يستطيب إلا الولوغ في الدم البشري، والذي ينتشي في تاريخ اليهود، خزراً وغير خزر، بالمذابح والدمار، ونراه مرفوع الراية في الكيان الصهيوني عندما تتم المذابح ضد العرب والمسلمين؛ ورأينا راياته جيداً في دير ياسين وكفر قاسم وقبية ونحالين وبحر البقر وفي حريق المسجد الأقصى ومذبحة باروخ غولدشتاين في الحرم الإبراهيمي، وفي صبرا وشاتيلا وقرى الجنوب اللبناني منذ عام 1948 وفي قانا آخر الشهادات على أخلاق الصهيوني وقيمه وتلموديته ونازيته .‏
              لقد عبر خط القادة الصهاينة من هرتزل حتى نتنياهو عن حقيقة ما يعتمل في وجدانهم خير تعبير من خلال منشور الخليل الذي أرادوا به النيل من النبي محمد "صلى الله عليه وسلم" ومن القرآن الكريم، ومن المسلمين والفلسطينيين؛ وتضمن ذلك الملصق المصوّر حقداً معتقاً، وعبر عن تربية مستمرة، وعن نظرة عداء شاملة للمسلمين ومعتقدهم، من خلال أصولية-يهودية لم تعرف في تاريخها سوى العنصرية البغيضة والكره الأسود للأمم والتآمر على المقدسات والقيم والحقوق والأجيال.‏
              ونحن نعرف جيداً أن محمد بن عبد الله والقرآن والإسلام والعرب،‏
              مسلمين ومسيحيين، لن يتأثروا مطلقاً من حيث المبدأ والجوهر، بهذيان معتوهين وسيل أحقادهم، ولكن ينبغي أن نعرف جيداً البعد الحقيقي للتكوين اليهودي- الصهيوني الذي تجلى في تربية جيل اليوم، الذي أنتجه الاستعمار الصهيوني لفلسطين العربية، فالفتاة " تتيانا سوسنك " / 25 سنة، قادمة من روسيا، ومقيمة في القدس / التي شاركت في توزيع الملصق في الخليل هي جزء من شريحة عامة من الشباب الذين تخرجهم المستعمرات الصهيونية في فلسطين وتربيهم وتغرس في نفوسهم الكذب والحقد، هي جزء من تربية /البناي بريت/ وهاشومير هاتصعير، والمدارس الدينية التلمودية، هي جزء من تكوين نتنياهو وسائر أفراد السلالة الخزريَّة المدمنة على الحقد العنصري ضد الأمم.‏
              ولم يكن، ولن يكون في يوم من الأيام، حقدهم على محمد أقل من حقدهم على عيسى، ولا حقدهم على الإسلام أقل من حقدهم على المسيحية، فهم أعداء الأمم وأبناء الأفاعي، ومن حوّلوا بيوت الله إلى أماكن لعبث اللصوص.‏
              لقد ادعى نتنياهو في حديث لفضائية M.B.C مساء يوم الاثنين 30/6/1997 أنه يأسف لما تم في الخليل، وأنه يحترم الأديان كلها، وأنه لا يعادي الإسلام.(1) ولن يكون نتنياهو إلا ذلك المحتال الكذاب الذي قال عنه باراك وبيريس ورامون وسواهم من زملائه في السلك الإرهابي الصهيوني ذلك، فهو أنموذج إسرائيل الحالي المعادي "للغوييم" وهو نبيُّها الذي يجسد العنصرية والنازية والعدوان، وهو الذي يجسد شغفها التام ببناء الهيكل الثالث على أنقاض الأقصى وقبة الصخرة في القدس، وبالاستيلاء على الخليل، وبهدم كل أثر لعيسى المسيح الذي لقي من اليهود صنوف العذاب.‏
              ونتنياهو الذي غذى هذا الحقد العنصري، وأعلن حربه على الإسلام من خلال ما سماه الأصولية الإسلامية، والقومية، والإرهاب، هو العنصر الذي يجسد تماماً الروح السائد في الشارع "الإسرائيلي" وهو الروح الحقيقي للمشروع الصهيوني الذي يستهدف المنطقة العربية، ويستهدف سورية ولبنان تحديداً بالدرجة الأولى ً، كما يستهدف العروبة والإسلام.‏
              ومن المؤسف أن يطل علينا نتنياهو /ممثل الكيان الصهيوني اليوم/ من شاشة عربية نحترمها هي الـ M.B .C. بعد ما جرى من جرح لمشاعر المسلمين في الخليل، وبعد سلسلة الانتهاكات والعدوان والممارسات العنصرية ضد أهلنا في فلسطين المحتلة؛ من المؤسف أن يطل علينا من هذه الشاشة ومن شاشات عربية ليوشح أسماعنا بكذبه وأساليبه البالغة السوء في الاحتيال. نعتب على إعلامنا العربي كله الذي عمق جرح مشاعرنا بتقديم هذا الوجه القبيح لنا، لأننا نعرف جيداً من هو، وعمّ يعبر، ونعرف أنه لم يقل صدقاً أبداًً؛ وقد أعلن عن ذلك بعض الرؤساء العرب الذين لا يرغبون أصلاً في التعبير عن استيائهم منه بعد محادثاتهم معه، وكان على رأس المستائين منه والمتهمين له بالكذب الملك حسين قبل أن يذهب معتذراً عن انتقام "الدقامسة" لشرفه ومشاعره الدينية ممن سخرن منه ومن صلاته في الباقورة، أرضه المستعادة، عقر داره الذي ينبغي أن يصان من الأقدام السوداء !؟!.‏
              نأسف، ولكن ذلك حدث، ونأسف لأن ذلك سيحدث تحت ذرائع مختلفة، ولكن مشاعرنا ستبقى تصرخ بالأذى ممن لا يحترمها، لا سيما من ذويها.‏


              وظلم ذوي القربى أشد مضاضة‏

              على المرء من وقع الحسام المهند‏


              4- النقطة الرابعة التي أحب أن أشير إليها في مجال ما حققه مناخ نتنياهو هي: استنفار الصهيونية العالمية، لا سيما في الولايات المتحدة الأمريكية، لتكون مع سياسته وممارساته وقراراته؛ وكذلك استنفار وسائل الإعلام الموالية لها لتغطي ذلك ولتحقق أهداف ذلك المناخ.‏
              ونحن نتابع، سياسياً وإعلامياًً، كيفية تفاعل هذه الجهات مع تلك السياسة وتغطيتها لكل ما تريد وتحقيقها لكل الأهداف المنشودة من وراء ذلك .‏
              فاللوبي الصهيوني لم يعد شريحة مؤثرة في الكونغرس الأمريكي، إنما أصبح الكونغرس الأميركي كله هو اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة الأميركية والعالم، وصارت قراراته وقرارات الإدارة الأميركية هي المعبّر عن "إسرائيل" وتطلع المستعمرين الذين يكوِّنون كيانها؛ ويتم ذلك أحياناً بغمْغَة دبلوماسية غير مفهومة ولكنها تمضي إلى تأكيد السياسية الإسرائيلية وتنفيذ المخططات الصهيونية بجلاء .‏
              نتنياهو إذن ليس فرداً، وليس حالة خاصة شاذة في الكيان الصهيوني، بل هو تعبير فج عن مكنونات ذلك الكيان وأهدافه واستراتيجيته، وهو وضوح صاعق للقيم والتربية العنصريتين، وهو أنموذج يُقتدى به لشباب يتربون على تلك القيم ويحملونها ويعملون على تحقيقها.‏
              وعلينا أن نختار، في ظل هذا المناخ السائد والمستمر والمدعم بكل الوسائل والإمكانات من الغرب الاستعماري، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية، علينا أن نختار بين مواجهة وصمود طويلي النفس وبين استسلام لا يبقي لنا شيئاً مما نحن عليه من حق وقيم واعتقاد. ولكل اختيار تبعات وتكاليف، ولكن اختيار الخضوع للعدو والاستسلام لسياسته ومشروعه الاستعماري وأهدافه القريبة والبعيدة لن يوفر لنا شيئاً ولن يوفر منا شيئاً، وسيلقينا على مفارق التاريخ أعجاز نخل منقعر؛ والمواجهة في الحالين أجدى من الموت ذلاً، والأشجار تموت دوماً واقفة.‏
              دمشق في 1/7/1997‏

              الأسبوع الأدبي/ع568//5/تموز/1997‏
              (1) قال نتنياهو : إن هذا يخالف أصول الدين والإيمان لدى اليهود ويخالف تقديرنا للدين الإسلامي والديانات الأخرى. وقال أيضاً : " إن شخصاً ما أصدر هذه القصاصة البغيضة التي شوهت صورة مؤسس الإسلام، ووجدت من الضروري أن أهاتف رئيس بلدية الخليل / مصطفى النتشة / لأعبر له ليس عن اشمئزازي الشخصي فقط بل عن اشمئزاز الشعب الإسرائيلي بأسره. إن مواطني إسرائيل والشعب اليهودي ضد هذا التهجم المباشر الموجه ضد إحدى الديانات العظمى في العالم. إذا كان علينا أن نحرك عملية السلام إلى الأمام فعلينا أن نتأكد من أن التسامح الديني هو العنصر الجوهري وهو الأساس وحجر الزاوية لهذه المصالحة. " / التلفزيون الإسرائيلي ـ القناة الأولى ./ عن نشرة وكالة سانا للأنباء رقم 667 تاريخ 30 / 6 / 1997صـ 7، 8 / وقال في الـ M. .B .C. " إن هذا العمل لم يقم به مستوطن بل فتاة من مدينة القدس وهي رهن الاعتقال. إننا كلنا اخوة فنحن أبناء إبراهيم، ولإسلام هو إحدى الديانات العظمى وقد تم إنشاؤه من قبل رجل عظيم وهو الرسول محمد، فهذا العمل يشكل لي إهانة كيهودي وكإنسان يؤمن بعظمة الديانات الثلاث، وشعب إسرائيل لا يستطيع القبول بذلك فقد عانينا من الاستفزازات ومن اللاسامية ولن نقبل بأي أعمال استفزازية ضد الإسلام ." / عن نشرة وكالة سانا للأنباء رقم 678 تاريخ 1 / 7 / 1997 صـ 6‏

              إذا الشعب يوما أراد الحياة
              فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
              و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
              و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

              تعليق


              • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                في الوطن أمل وشجــــن
                الوطن العربي ما يكفي لإثارة الشجن، وفي الوطن العربي ما يكفي لتضخم كتلة الإحباط التي تَكْرُج في حلوقنا ودروبنا وتزداد ضخامة كلما تحركت؛ وفي الوطن العربي أيضاً ما يبعث على التمسك بالأمل والتفاؤل باستعادة بعض وجوه التضامن والمبادرات الإيجابية.‏
                في الوطن العربي دعوة لعقد المؤتمر الاقتصادي الرابع في الدوحة على الرغم من قرار مؤتمر وزراء الخارجية العرب الأخير بوقف التطبيع مع العدو على أرضية الممارسات العنصرية المستمرة، وتزايد مظاهر التهويد والاسيتطان، والاستهانة بكل ما وقعت عليه "إسرائيل" مع عرب تراكضوا إلى أبوابها وأعتابها منفردين.‏
                ولكن في الوطن العربي مقاومة لهذه القمة، ودعوة لإلغائها أو مقاطعتها إذا ما دعيت إليها "إسرائيل" لأن تلك القيمة تأتي في إطار المفاوضات المتعددة الأطراف التي هي خط مواز ومكمل للمفاوضات الثنائية، وبما أن المفاوضات الأساس توقفت فإن من الطبيعي أن تتوقف المفاوضات المتعددة المكملة لها؛ ولكن عرباً من العرب لا يرون هذا الرأي وينفخون في البوق الإسرائيلي-الأميركي جهد المستطاع.‏
                السعودية التي دعت إلى مقاطعة القمة الاقتصادية المشار إليها لم تستطع أن تردع قطر عن الاستمرار فيها، وهما في مجلس التعاون الخليجي الذي من المفترض أن تحكمه قواعد عمل وعلاقات تواصل وتضامن أشد من تلك التي تربط بلدانه بالأقطار العربية الأخرى.‏
                فهل يتم ذلك على أرضية اتفاق لتوسيع دائرة المناورة عربياً ودولياً؟! وهل يتم ذلك بتأثير "الأميركي" الذي يحكم ما يريد أن يحكم هناك، ويشكم من يريد أن يشكم هناك أيضاً؟! أم تراها المصلحة النابعة من قصر نظر قومي عام تجعل من الخروج على إجماع الأمة ظاهرة متفشية في هذا الزمن؟!‏

                الأردن العزيز يؤكد على أنه سيحضر القمة وعلى أنه يدعم عقدها، ويذهب إلى حدود المحاجّة دفاعاً عن تصرف سبق وأن قام بمثله؛ وهو لا يكتفي بذلك ولا يتوقف عنده، بل يمضي إلى ما هو أبعد، على الرغم مما جرى في الخليل من أحداث وإساءات للمسلمين وللإسلام ولأبناء الأمة العربية، وعلى الرغم أيضاً مما يتم من ممارسات صهيونية لا حدود لعنصريتها وعدوانيتها واستهتارها بكل الحقوق والمقدسات العربية-الإسلامية.‏
                الأردن يقول، على لسان أحد كبار مسؤوليه، إنه مستثنى من وقف التطبيع مع العدو لأنه مرتبط بمعاهدة مع ذلك "الصديق الذي له" العدو الذي لأخوته؟!؟ ويشير إلى أن مقررات المؤتمر الأخير لوزراء خارجية الدول العربية بهذا الشأن لا يلزمه بشيء، فقد استثناه هو ومصر بسبب اتفاقيتي كامب ديفيد ووادي عربة الموقعتين مع إسرائيل.‏
                ولا يرى المسؤول الأردني أن قضية الاتهام بالهرولة إلى أعتاب العدو الصهيوني تشمله فهي -من وجهة نظره- تنال المطبعين من الخليجيين، وحجته في ذلك أنه قد وقع اتفاقية للتطبيع مع "إسرائيل" وانتهى أمره في ذلك الشأن، ولا يجوز اتهامه مطلقاً بالهرولة(!؟!) فهو قد هرول ووصل وقبّل "كعبته" وطاف حولها ثم انعطف من هناك ليمارس ولهاً صوفياً في ما يراه البعض معابد السلام المقدسة التي تقوم الصهيونية بأمور السَّدَانَة فيها.‏
                والأردن العزيز، يعزز علاقاته يومياً بالكيان الصهيوني على أرضية اتفاق "وادي عربة" غير آبه بما جرى ويجري مع أخيه الذي وقع اتفاق "أوسلو"، فكيف يراد منه أن يهتم بالمحتل من الأرض التي لا تعنيه، أو بالشعب المشرد من أرض فلسطين قبل توقيعه لاتفاق "السلام"؟!‏
                بالأمس القريب استضاف "الكعابنة" أمنون شاحاك رئيس أركان جيش العدوان الصهيوني، استضافه في عمان ليشهد الأخير مناورة عسكرية أردنية جرت في قاعدة الأزرق قرب عمّان؛ وقبل شهر تقريباً كانت الأميرة عائشة بنت الحسين المسؤولة عن النساء العسكريات في الجيش الأردني في ضيافة المسؤولين عن المجندات الإسرائيليات واتبعت دورة قصيرة هناك، كما أعلن عن ذلك والدها في زيارة سابقة لـ "إسرائيل" .‏
                ويتم كل هذا ويستمر، ويتصاعد التنسيق العسكري والتعاون والتبادل الاقتصاديين على الرغم من توزيع ملصق في الخليل يسيء للرسول "ص" والقرآن الكريم، ويجرح مشاعر المسلمين كافة. كما يجري هذا في الوقت الذي وجه فيه صهاينة آخرون إساءة للعذراء مريم بتركيب صورة لها تظهرها برأس بقرة وجسد العذراء مريم.‏
                ويتم هذا في ظل "لاءات" نتنياهو، وفي ظل حملة التهويد الشاملة للقدس، والتوسع في الاستيطان، والاستمرار في قصف جنوب لبنان، والتهديد العلني الموجه من قبل قيادات عسكرية وسياسية "إسرائيلية" لسورية يمحوها من الوجود بأسلحة غير عادية تملكها "إسرائيل" ولا تكشف عن قدراتها أبداً(؟!؟!)‏
                النظام الأردني، في الأردن العربي العزيز، يقوم بتنسيق عسكري وأمني، في إطار انضمامه سرياً على ما يبدو، إلى التحالف التركي-الإسرائيلي برعاية أميركية، ويسير في هذا الاتجاه، ويتزود بالسلاح، وهو مطمئن بوحي اطمئنان المشرفين على تسليحه بأن هذا السلاح لن يوجه "لصديق معاهد" وإنما لشقيق من أهل دار الإسلام، والبيت العربي، ولكنه -أي ذلك الشقيق- لم يهرول بما فيه الكفاية ليصل "قبل أو مع" العدّاء الأردني الذي قصد قدس الأقداس وليس من الأهمية بمكان تحديد هذا الشقيق الآن، ولكن المؤشرات تحدد أنه في الجوار، والجوار: سورية التي ترفض الانصياع للمشروع الصهيوني، أو العراق الذي عانى وما يزال يعاني من الحصار، وطلب وما يزال مطلوباً تمزيق وحدته أرضاً وشعباً، ليصبح -إن أمكن- ثلاث دول تنشأ على أساس طائفي، أو للفلسطيني فيما إذا فكر خلف للمندوب السامي في غزة أن يخرجوا على الطاعة الإسرائيلية، أو يعبثوا بالورقة الشعبية الفلسطينية في الأردن.‏
                توظيف مدروس منحوس لقوة كنا نرجوها سنداً فصرنا نخشاها رَمَداً في البصر والبصيرة.‏
                في الوطن العربي ما يعشي الرؤية، وفي الوطن العربي أيضاً ما يشجع على السير قدماً في طريق الصمود والتشبث بالمبادئ والحقوق الثابتة ونظافة الأهداف ونقاء السرائر: وفي الوطن العربي تنتشر حالة من يقظة تدفع باتجاهها أسئلة تلقى على النفس، سواء في إطار الأفراد أو التجمعات البشرية، أو الأنظمة والأقطار؛ أسئلة تتصل بالمستقبل انطلاقاً من الحاضر، وأسئلة تستقرئ التاريخ القريب في ضوء النتائج والممارسات التي أسفرت عنها المفاوضات والمعاهدات مع العدو الصهيوني، والانصياع الشامل للإرادة الأميركية-الصهيونية.‏
                ولكن دوامة الأسئلة التي قد تخلق وعياً بالذات والمعطيات ومقومات المواجهة وما يتوافر منها على أرض الواقع، ودوامة الأسئلة التي تسفر عن جلاء التحديات وتحديدها واكتشاف العجز الراهن في مواجهتها وعدم القدرة على التخطي، في حال استمرار الوضع الحاضر على ما هو عليه؛ دوامة الأسئلة تدفع باتجاه حركة بحث من منافذ وعن إشراقة نور تتدفق من نوافذ في الروح وفي الأطر المادية للحياة في آنٍ معاً.‏
                والرهان يجري على المستقبل، والمستقبل جذره الأجداد وساقه نحن وفروعه وأغصانه الشباب وتألقه الواعد براعم في طور التفتح وأجنة في الأرحام، ونطف في الأصلاب. والمستقبل اختيار واع لأهدافه ووسائله وأدواته على أساس من وضوح الهوية والشخصية، وفهم لمن نحن، وماذا نريد، وكيف نحقق ما نريد؟!‏
                إن أخطر حلقة في الرهان هي تلك التي تربط بين: أنا وحفيدي، هي اختيارات الشباب واهتماماتهم ومسؤولياتهم وتطلعاتهم وما يفكرون به ويعملون عليه.‏
                ويبدو لي أن أشكال الغزو والتخريب والنخر المستمر لمقومات التكوين وقيمه بالنسبة لأجيالنا، قد فعل في شرائح من تلك الأجيال فعلاً مدمراً، ولكنه على التحقيق لم يأت على كل شيء، ولم يجتث الأصلاب القوية والجذور التي يمكن أن تدفع فروعاً إلى الحياة إذا ما شمل النخر الساق كلها وانهارت نهائياً.‏
                وعلينا أن نكون حاضرين بوضوح ووعي وإقناع في ساحة يطرح فيها الشباب أسئلتهم وتتجاذبهم فيها مغريات وأفكار، وتعصف بهم حالة كئيبة يقدمها الماضي القريب والحاضر الضبابي؛ علينا أن نكون حاضرين في هذه الساحة لنقدم أجوبة، ونجدد ذاكرة، ونمسح الغبار عن وقائع وحقائق، وندفع بالحسنى باتجاه اختيارات سليمة تبقي الشخصية والانتماء والهوية والحقوق في أعلى مراتب الاهتمام والتطلع بالنسبة للأجيال العربية الصاعدة.‏
                إن مما يؤسف له تماماً أن تقوم معسكرات سنوية لشباب "عرب وإسرائيليين" يختارون بعناية فائقة، ويتابعون من قبل جهات ومؤسسات معنية تحت اسم "بذور السلام" وسواها من المؤسسات التي تعمل على تكوين قيادات المستقبل في المنطقة؛ في حين ننادي بالأمة العربية، والقومية العربية والوحدة العربية، ولم نفلح في إقامة لقاءات دورية بين شباب عرب على شكل ثنائي دائم ومستمر بين وافدين من قطرين أو وافدين من أقطار عربية يختارون ويتابعون وتتمّ مساعدتهم ليمسكوا بزمام الأمور مستقبلاً بوعي شامل لانتمائهم والتزاماتهم والتحديات المطروحة عليهم. في الوطن العربي طاقة هائلة لشباب يفتك بجزء منها نظام التعليم ونوع التربية ويفتك بجزء آخر الفراغ أو الحاجة القتالة، ويمتص يومياً من وقتها إعلام لا يقدم إليها ما يبنيها ويخرج بها إلى دائرة الفعل القومي المنقذ، على أرضية العلم والإيمان.‏
                في الوطن العربي طاقات شبابية هائلة تنصرف عن القراءة وعن الكتاب بشكل ملحوظ، وتنصرف إلى اهتمامات تؤدي إلى التفسخ والاغتراب والاكتئاب والضياع، أو إلى حالة من الثورة الهدامة القائمة على الجهل من جهة وعدم الرضا المشروع من جهة أخرى.‏
                وفي الوطن العربي طاقات شابة هائلة تغلق أمامها أبواب الأمل: بعمل وأمان وتكوين خلية اجتماعية سليمة على أرضية من توافر الإمكانات الضرورية والظروف الموضوعية للتعبير عن الذات وتحصيل الاحتياجات والتعلق بالأهداف المنشودة التي يوصل إلى الاقتناع بها حوار يقوم على المنطق في جو من الحرية والاحترام والمسؤولية.‏
                في الوطن العربي سحق مدروس للزمن الذي يمكن أن نحوله إلى إنتاج لا حدود لضفافه، وللأمل الذي يحول الطاقة البشرية إلى طاقة إبداعية في مناخ واعد بكل ما هو خلاق ومنقذ وكريم وأصيل. وعلينا، في ظل الأوضاع والتحديات والمعطيات الراهنة، أن نواجه أسئلة الحاضر والمستقبل، أسئلة الأجداد والأحفاد، أسئلة الجذور والبراعم. إن حالة الشجن التي يضعنا فيها الوضع العربي الراهن، لا سيما في مجالات التضامن والتعاون الاقتصادي والأداء النوعي في مجالات العلم والتَّقَانَة، وفي المجالات الاجتماعية والثقافية؛ لا تلبث أن تنقلب إلى كابوس ثم إلى إحباط ثم إلى يأس إذا لم نبادر إلى معالجة ما يمكن معالجته من شؤونها وتفاصيلها، غاياتها ووسائلها، أدواتها وممارساتها.‏
                إن المخارج ممكنة، وهي موجودة على شكل مشاريع أدى إليها الاجتهاد، وعلى هيئة أفكار ورؤى وأمانٍ وتطلعات، ولكن ينقصها أن نحول النظري منها إلى أعمال مبرمجة، وأن ننفذ ما تم الاتفاق، أو ما يتم الاتفاق، على أن فيه المصلحة والخروج من المأزق والسير في طريق الخلاص على هدي واطمئنان وثقة.‏
                والمدخل إلى ذلك مواجهة شجاعة لأسئلة ووقائع واختيارات، وإقبال مسؤول على فعل مدروس، يبرمج وينفذ بمشاركة الجهات المعنية على قاعدة شعبية واسعة تماماً ومراقبة -من حيث الأداء والالتزام- بشكل دقيق بهدف الترشيد لا التقييد، وبهدف الدفع نحو الأمام وليس تكثيف الحواجز والقيود والسدود، وبهدف تألق القدرة الإبداعية وليس بهدف ردم الركام فوق طاقة خلاقة تتفتح، ومسؤولية تشق طريقها إلى التجسد في فعل منقذ يساعد على استعادة الحق والأرض والمكانة، وإقامة بعض محطات على طريق مشروع حضاري ننشده ونعمل على أن يكون لنا ولسوانا، على أرضية قيم العروبة والإسلام، قيم الحق والخير والعدل والحرية والمساواة.‏
                إن في الوطن العربي لشجناً كبيراً وإن في نفوس أبنائه لطاقة هائلة، وفي منارات مشرقة في أرجائه فيض الأمل. فهل نحسن العمل والاختيار قبل فوات الأوان؟!‏
                إنه سؤال يؤسس لألف سؤال وسؤال، ولكنه يدفع باتجاه تلمس ألف جواب وجواب مضيء في الوقت ذاته، ونحن على مفارق الزمن نغص بالشجن ونشرق بفيض الأمل، ففي الوطن العربي الكبير شجن وأمل كبيران، فمن تراه ينتصر في نهاية الصراع؟!‏

                دمشق في 9/7/1997‏

                الأسبوع الأدبي/ع569//12/تموز/1997‏

                إذا الشعب يوما أراد الحياة
                فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                تعليق


                • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                  نحو قمة عربية مسؤولــة
                  منذ مؤتمر القمة العربية الأخير في القاهرة والدلائل تشير إلى تخلّق مناخ عربي جديد تبلوره وتدفع باتجاهه معطيات تتفاعل وحوادث تتراكم ومشاعر عربية تتصاعد واقتناعات تتشكل على أرض الواقع .‏
                  وقد تجلّت معالم ذلك في مقررات مؤتمر وزراء الخارجية العرب الأخير، وفي مقررات وزراء خارجية إعلان دمشق الذي انعقد في اللاذقية، وفي تصريحات ولي العهد السعودي غير المسبوقة في وضوحها ودقتها وصراحة الموقف القومي الذي تنم عنه، وكذلك في دعوة الدول العربية إلى دورة استثنائية للأمم المتحدة لاتخاذ إجراءات ضد الكيان الصهيوني، على أرضية استمرار الاستيطان وتهويد القدس، مع إعلان الكونغرس الأميركي أنها "عاصمة أبدية موحدة" لإسرائيل، واستخدام الفيتو الأميركي ضد قرار يقضي بوقف بناء مستعمرة في جبل أبو غنيم- في القدس.‏
                  وقد دفع باتجاه نمو هذا المناخ وظهوره حوادث شكلّت علامات شديدة الدلالة على الطريق نذكر منها:‏
                  1- وصول المبادرة المصرية الرامية إلى استئناف المفاوضات بين حكومة الليكود وسلطة عرفات إلى طريق مسدودة.‏
                  2- دعوة الدول العربية إلى دورة اجتماعات طارئة للأمم المتحدة لاتخاذ قرار يفرض حصاراً جزئياً على إسرائيل بسبب عدم انصياعها لقرار هيئة الأمم السابق بشأن الاستيطان في جبل أبو غنيم.‏
                  3- ملصق الخليل الذي يسيء إلى الإسلام، واستنساخ صور تسيء إلى العذراء مريم.‏
                  4- إعلان أكثر من زعيم عربي عن الإحباط الذي أصيب به بعد تعامله مع حكومة نتنياهو واصطدامه بحقيقة نكث الوعود والمواثيق وخرق الاتفاقيات وإتباع نهج التدليس والكذب من قبل هذه الحكومة .‏
                  5- تصاعد الدعوات الأميركية، لا سيما في أوساط الكونغرس وأوساط اللوبي الصهيوني لدعم الموقف الإسرائيلي المتشدد، وتقديم كل عون مادي ومعنوي ممكن لهذه "الدولة" على أرضية عقائدية لتتمكن من السيطرة الشاملة على المنطقة، وفرض نفوذ أعم يمهد لعودة "المسيا = المسيح المنتظر " حسب اعتقاد المسيحية- اليهودية السائد في أوساط غربية.‏
                  6- التحريض المستمر لرسم صورة مشوهة للإسلام تمكِّن من حشد الرأي العام الغربي والعالمي ضده؛ صورة تتسم بالرجعية والظلامية والإرهاب والعدوان.‏
                  ويغذي هذا التيار إعلام صهيوني- غربي عالي القدرة في مجالات الأداء والانتشار، وأفعال غير مسؤولة لفئة قليلة تزعم أنها تعمل وفق الإسلام.‏
                  7- استمرار القصف على جنوب لبنان دون مراعاة لأي ظرف إنساني، أو اتفاق دولي .‏
                  8- ممارسة أشكال من التطبيع الرسمي والثقافي مع العدو على الرغم من توصيات مؤتمر وزراء الخارجية العرب؛ وذروة ذلك الدعوة إلى عقد القمة الاقتصادية الرابعة في قطر، التي يأتي انعقادها على أرضية ما وصل إليه الفعل العنصري الصهيوني في فلسطين المحتلة وفي الولايات المتحدة الأميركية من استهتار بالأمة العربية ومقدساتها؛ والدعوة إلى إلغاء عقد هذه القمة من قبل بعض الدول العربية، وإصرار قطر ومن خلفها الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل على عقدها، على الرغم مما يحيط بانعقادها من ظروف دقيقة.‏
                  هذا المناخ الجديد بمعطياته وما يضعنا فيه من تفاعلات، وبما يقود إليه من مواقف وما يتشكل في ظله من اقتناعات؛ لا سيما في ظل تنامي التحالف التركي- الإسرائيلي- الأميركي الجديد، وتهديداته واتساعه المحتمل ليشمل دولاً عربية ودولاً أخرى في المنطقة؛ يدفع باتجاه مرحلة جديدة من العمل العربي نتطلع إليها، وتتكاثر الدعوات إلى ضرورة حدوثها.‏
                  وقد طفا على سطح هذا المناخ الجديد دعوة لعمل عربي مشترك في المجال الاقتصادي:‏
                  السوق العربية المشتركة، وهي قديم العرب وجديدهم في آن، الذي لم يتحقق منه شيء حتى الآن.‏
                  وهذا يدفعنا إلى إلقاء السؤال:‏
                  هل انعقاد قمة عربية جديدة، تأخذ ما تم منذ قمة القاهرة حتى اليوم بالاعتبار، وتضيف إليه التحديات المطروحة في سلاسل تصاعدها، وما يفرضه اقتراب موعد تنفيذ اتفاقية التجارة العالمية، أو اقتراب تضييق تلك الاتفاقية الخناق على من يواجهها أو يتصدى لها أو يخرج عليها؛ هل ذلك الانعقاد ممكن وضروري ومما يدفع باتجاه بلورة رؤية قومية أفضل، لا سيما ونحن على أبواب استحقاقات جديدة إسلامياً ـ مؤتمر اللقمة الإسلامية في طهران ـ ودولياً؟!‏
                  إن قمة عربية تعقد في ظل هذا المناخ ومعطياته والمستجدات التي يزخر بها، وتقوم على أسس:‏
                  1- الالتزام المطلق بالقرارات التي تتخذ بالأكثرية، وليس بالإجماع، وتنفيذها باحترام تام، وبما يؤدي إلى وضع المصلحة العربية العليا فوق المصلحة القطرية الضيقة، ووضع الثوابت الاستراتيجية فوق الاعتبارات والتحركات المرحلية "التكتيكية".‏
                  2- المصارحة العربية الشاملة، وتنقية الأجواء العربية- العربية، والانطلاق من ذلك نحو عمل عربي مشترك، ملزِم في أهدافه ووسائله وتفاصيله، في ثوابته ومرحلياته، للجميع من دون استثناء، مهما كانت الارتباطات والاتفاقيات والمعاهدات التي تربطهم أو تربط بعضهم مع الآخرين من غير العرب. والسير في تحرك قومي هادف يجعل الالتزام القومي فوق أي التزام دولي.‏
                  3- إعادة اللحمة لوحدة الصف والموقف العربيين، ولا سيما من الصراع العربي الصهيوني والتحالفات التي تستهدف المنطقة، والتحديات التي تطرحها اتفاقية التجارة العالمية، ومساعي العَوْلَمَة، وشروط صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، والقرارات التي تحاصر أقطاراً عربية بغير وجه حق، وعلى رأسها الحصار المفروض على الشعبين العربيين في العراق وليبيا، والحصار المفروض على السودان، وأشكال الحصار والتضييق الذي يمارس على سورية.‏
                  وفي قمة من هذا النوع: تناقش بحرية وجرأة وصراحة ومسؤولية قومية ورؤية مستقبلية شاملة:‏
                  - العمل العربي المشترك في ضوء المعطيات الجديدة.‏
                  - الدعوة إلى المؤتمر الاقتصادي الرابع الذي تدعو إليه قطر في ضوء موقف ناضج من المفاوضات الثنائية والمتعددة مع العدو الصهيوني، وما ترتب على ذلك وما يمكن أن يسفر عنه الاستمرار في هذا الاتجاه من نتائج على الشعب الفلسطيني وقضيته، وعلى الأمة العربية ومستقبلها، وعلى الأقطار التي تواجه ضغطاً وتحديات وتهديداً صهيونياً مدعوماً أميركياً، بمسحها من على وجه الأرض.‏
                  - تأسيس السوق العربية المشتركة على أسس موضوعية قابلة للتنفيذ، انطلاقاً من التزام قومي بعيد النظر يأخذ بالاعتبار كسب الأمة لوجودها وكرامتها وتحرير إرادتها وقرارها، قبل أن يأخذ كسب قطر على حساب قطر وخسارة قطر في سبيل أمة وكرامة.‏
                  - تجديد ميثاق الجامعة العربية، والعمل انطلاقاً من ذلك لتصبح الجامعة المجدَّدَة قادرة على القيام بمبادرات واتخاذ قرارات من شأنها إلزام الجزء بقرار الكل، وحماية الجزء بقوة الكل، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من قضايا مصيرية، وإطفاء ما يجب إطفاؤه من نيران تشتعل في البيت العربي، وإخماد بؤر توتر تهدد العلاقات العربية- العربية، وعلاقات بعض الدول العربية بالجوار الإسلامي وغير الإسلامي.‏
                  إن قمة عربية غير مجاملة لأحد، وغير هيَّابة لكلمة الحق والموقف الحق، هي ضرورة قومية في هذه الظروف؛ على أن تضع المصلحة العربية العليا، والالتزام القومي، والمشروع النهضوي المستقبلي العربي فوق كل الاعتبارات والاتفاقيات والالتزامات والمعاهدات. فلا يكون لمن هرول إلى أعتاب العدو الصهيوني ووقَّع اتفاقية إذعان معه ميزة وحماية تمكنانه من التنصل من الالتزام العربي بعدم ممارسة التطبيع وعدم تطبيق المقاطعة العربية بحجة أنه وقع وانتهى، أي هرول وانتهى؛ فهذا شأن ينبغي أن يحمِّله مسؤولية أكبر لا أن يعفيه من الالتزام بقرار الأمة لمصلحة التزامه بقرار هو في مصلحة عدو الأمة بالدرجة الأولى؛ وينطبق هذا أولاً على كامب ديفيد وعلى وادي عربة وعلى أوسلو وعلى كل من التزم التزاماً جزئياً أو شاملاً مع العدو. فإما أن يكون للأمة موقف قومي وأخلاقي ومبدئي ملزم لصغارها وكبارها، حكَّامها وأقطارها، أحزابها وتتظيماتها ومؤسساتها القومية والرسمية، أو لا يكون لها مثل ذلك الموقف؛ وفي عدم قيامه نوع من الانتحار واقتراب من شفا الاندثار.‏

                  وعندما تقوم مثل تلك السلطة القومية- الخُلُقية المنبثقة من إرادة واعية والمستندة إلى أنظمة وتشريعات وقوانين وقرارات لا تنخرها الاستثناءات والاعتبارات القائمة على المراعاة والمُداجاة والمجاملات والارتباطات، ولا تكون خاضعة لضغط وتبعيَّات من مراكز قوى ومؤثرات خارجية، عندما تقوم مثل تلك السلطة فإنها تستطيع أن تغير تغييراً حقيقياً في الوضع العربي المتردي، وتستطيع أن تضع العمل العربي المشترك على طريق الأداء الصحيح والمفيد.‏
                  فهل ذلك ممكن الآن، وما الذي يعيقه، ومن الذي ليس له في تحققه مصلحة ؟!‏
                  إن لقاء قمة عربية ممكن، وينبغي أن تُذلل كل الصعوبات وتُزال كل العقبات التي تحول دون إمكانية تحققه، وهو لقاء ممكن الآن، وضروري الآن ومفيد ولكن لنجاحه شروطاً، وعلينا ألا ننتظر حتى تتوافر تلك الشروط، بل علينا أن نعمل لتتحقق تلك الشروط الصحية التي يأتي في مقدمتها سعي حثيث مخلص وبنّاء لإزالة الخلافات بين الأقطار ووضع حد للقطيعة المدمرة بين من تأكلهم تلك القطيعة، وتأكل بأكلها لهم جزءاً لا يستهان به من طاقة الأمة وقدراتها.‏
                  أمَّا الذين لا يكون أي لقاء عربي، وأي تعاون عربي، مفيداً لهم، بل مؤذياً لمصالحهم، فهم معروفون لأمتنا جيداً؛ إنهم: الصهاينة- والغرب الاستعماري- ومن ارتبط وجوده وبقاؤه ومصالحة ببقاء الصهيونية والاحتكارات الغربية في وطننا وهيمنة القوى الاستعمارية على مقدرات هذا الوطن وقراراته المصيرية.‏
                  وهؤلاء سيقاومون أيَّ لقاء عربي، وكلَّ صِيَغ الوفاق والعمل العربي المشترك، لأن في ذلك تأثيراًً سلبياًً على مصالحهم ونفوذهم وخدمة لمصالح أبناء الأمة وتحررها.‏
                  هكذا كان الأمر سابقاً، وهكذا سيبقى، وعلينا أن ندرك جيداً أن تحرير الإرادة، وتحرير القرار، وتحصيل المنفعة، كلُّ ذلك لا يتم إلا بجرأة ووعي وتضامن وتكامل وعمل مسؤول يبني غير آبه بالثمن الذي يدفعه في سبيل بناء يكون للأجيال والمستقبل حصناً منيعاً وسياجاً للوطن ولكل ما يشكِّله الوطن.‏
                  إن القادم من مشكلات، والمتفاقم من أزمات، وما يحمله موج العصر من تحديات لهذه الأمة في أقطارها المجزأة أو في وحدتها أو اتحادها المنتظرين لهو مما تصعب مواجهته كلما تأخر العمل العربي المنقذ مهما كانت خطوات بدئه صغيرة وقصيرة .‏
                  فالتكتلات الكبيرة تقرع علينا الأبواب، والمستوى المعيشي المتدني، والضائقات الاقتصادية، والتضخم، والزيادة السكانية المطَّرِدة، والبطالة المتفاقمة، ومشكلة المياه، وأنواع الأمن المطلوب عربياً والمفقود عربياً أيضاً : الغذائي والعسكري والصناعي والثقافي.. وأمن الأمن ذاته... كل ذلك يزحف ويكبر في أثناء زحفه، وليس لأية سلطة نجاة من مواجهته، بل النجاة تكون في الاستعداد لتلك المواجهة بحلول معرفية واقتصادية وإنسانية وعملية على أسس علمية، وتلك لن يحققها إلا شرط التكامل القومي والعمل العربي المشترك المنفتح على المحيط الأقرب بوعي، والمتعامل مع التكتّلات العالمية بحذر وقدرة على الصمود.‏
                  وأن نواجه الحقائق اليوم خير لنا من أن تنثر أدمغتنا وأجسادنا الأوهام غداً وتدمرنا تدميراً.‏
                  إن العدو يستمر في تصعيد عدوانيته، وفي تطوير مشروعه المناقض كلياً والمناحر كلياً لمشروعنا، وهو في ظل "السّلْم" أو في ظل الحرب، أو في ظل اللاسلم واللاحرب، سوف يتشبث بمشروعه ويعمل على تحقيقه وعلى امتلاك القوة اللازمة لذلك.‏
                  ولن يتوقف حتى في "ظل سلام استسلام" عن تطوير قدراته القتالية وفرض الهيمنة علينا، واستخدام أسلحة منها التفريق والتمزيق لكل قدراتنا وتفتيتها، خوفاً من نهوض تلك القدرات واستعادتها لمكانة عربية، فحقٍ، فأرضٍ، فسيادةٍ، فحضورٍ حضاري شامل.‏
                  وإذا كان ذلك مفروضاً علينا، شئنا أم أبينا، فما هو سبيلنا للتعامل معه سوى المواجهة؟!‏
                  وهل تكون المواجهة دون استعداد وامتلاك قوة وقدرات من كلِّ نوع، على أرضية العلم والإيمان والثقة بالنفس وبالمستقبل؟! وهل يتم ذلك خارج نطاق الأمة ككل والتفكير باستنهاض قدراتها واستخدام طاقاتها جميعاً ؟!‏
                  وهل من سبيل إلى القيام بذلك غير قرارات مسؤولة من جهات وأنظمة وشخصيات واعية لدورها التاريخي ومسؤولياتها القومية والحضارية؟!في تقديري أن ذلك لا يمكن أن يكون إلا من خلال الأمة ككل على الرغم مما هي فيه مما لا يسر ولا يريح .‏
                  تتراءى لك الأمة أحياناً كتلة واحدة من المشاعر والتطلعات في لحظات من الوقت، وفي متجددات من المشكلات والنكبات والحوادث؛ ولا تلبث تلك اللحظات أن تتلاشى بما حملت من رؤى لتعيدك إلى رمضاء تشوي منك الفؤاد وتحيلك أمثولة للعباد في توقّعك وتهلُّعك واندحار أحلامك ومناك. في العد ملايين تربو على المئتين وأربعين، وفي الإمكانيات المنظورة طاقة العالم الواعدة ومخزونه من الطاقة ورصيد لا يحصى من القدرة على الإنتاج بأنواعه؛ وعند الفرز والحك والاختبار والنقد: أفراد هنا واستعدادات هناك، وغيوم صيف تعبر القارة ولا يهطِلها برق ورعد حقيقيان؛ أتراها خلَّبية أحلامنا وتطلعاتنا وقوانا؟!‏
                  سؤال يفري المهجة ويثير الوجع ولكنه يعصف بالعقل بحثاً عن عطاء موضوعي يقيم لنا قواماً حقيقياً بين الأمم.‏
                  وهمٌ أنتم وما فكرتم به وما دعوتم إليه وما سعيتم من أجله؛ هكذا يقول لنا فريق من المفكرين المنظرين والسياسيين والمتحزبين الأكثر تجرؤاً على ركوب موجات التنظيمات، وهمٌ كل ما دعوتم إليه، ورأس حربة الوهم قوميتكم العربية ودعاواكم الوحدوية، وهمٌ حصد قواكم وأغرق سواكم في الإحباط !! فهل تراهم على حق ونحن على باطل؟! وهل لدعاواهم مرتسمات في أرض الواقع لا نراها نحن، وهل ما يقولون أقرب إلى الحقيقة منه إلى ما نقول إننا نملكه من حقيقة؟!؟ تلك أسئلة مُرَّة لا بد من أن تجلو أجوبتها الحوادث والمحنُ والامتحانات .‏
                  إننا نقول بإمكانات الأمة العربية وبقدرتها على مجاوزة ما هي فيه من محن وحالات تهافت وتفكك وانحدار، ونقول بأن استقراء التاريخ يعطينا دفعاً إلى الأمام، واستلهام الماضي يفتح طريقاً واسعة أمام الأحلام الكبار، التي تشكِّل منارات مشروعنا ومعالم تطلّعنا المشروع؛ والنظر في مقومات قوتنا: مادياً ومعنوياً، بشراً وطاقة وإمكانات على العطاء والأداء النوعي، يقدِّم أرضية إيجابية تجعلنا نقتنع بإمكانية الانطلاق من واقعية تفاؤلية تهزم الإحباطَ واليأسَ والواقعيةَ الانهزامية التي يقول بها غربان هذه الأمة وأصوات أعدائها المدوية في فضاء أسماعنا.‏
                  إن التبصر في المقاومة النوعية، و في إمكانيات الصمود التي تنطلق منها أقطارٌ وجماعاتٌ مؤمنة بحق الأمة وبكرامتها وبقدرتها على تحقيق تغيير في مصلحة أبنائها وخدمة مستقبلنا، كلُّ ذلك يجعلنا ننظر إلى قدرة الأمة، التي نتوهَّم في لحظات الضعف أنها أقرب إلى غيوم صيف، على أنها قدرة حقيقية؛ وإلى نزوعها نحو تضامنها وعملها القومي وخطها القومي على أنه الأساس الأصلب والجوهر الأثبت، وأن ما يقول به المبلِسون يبقى صدى صوت الأعداء وما يتطلعون إليه، ويخططون له، ويعملون على تنفيذه بين ظهرانينا، وبأيدينا أحياناً.‏
                  إن الأمل القومي والعمل القومي لهما من الركائز والمقومات والإمكانيات ما يجعلنا نتشبث بمواقعنا ومواقفنا ونندفع وراء أحلامنا وتطلعاتنا، ونثق بمستقبلنا.. مستقبل الأمة، ولكن ذلك يملي، علينا عبر استقراء لدروس التاريخ القريب والبعيد، أن نغيِّر في خطابنا، وأسلوب عملنا، وفي طرق تعاملنا مع الحوادث والوقائع، وأن نعمل من دون كلل من أجل غد عربي أفضل.‏

                  دمشق في 15/7/1997‏
                  الأسبوع الأدبي/ع570//19/تموز/1997‏

                  إذا الشعب يوما أراد الحياة
                  فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                  و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                  و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                  تعليق


                  • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                    المقاومة ومعسكر يهوذا
                    روحا شهيدين تعانقا في فضاء القدس المحتلة، متخلّصين من قيود الجسد وربقة الذل في آنٍ معاً، يعلنان باسم المقاومة الإسلامية في فلسطين /الجهاد الإسلامي وحماس/ أو باسم سواها من فصائل المقاومة؛ رداً على من أساؤوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وللإسلام، ومن يستمرون في تهويد القدس وبناء المستعمرات فيها، ويقومون بالقتل والقمع والاضطهاد متعاونين مع عرفات وزمرته التي مثَّلت رأس حربة صهيونية في صدر المقاومة الإسلامية تلك التي تقوم بنضال مشروع ضد العدو الصهيوني المحتل.‏
                    روحا شهيدين أوقعا في صفوف العدو ثلاث عشرة إصابة قاتلة ومئة وسبعين جريحاً يوم الأربعاء الثلاثين من تموز 1997، في "محنييه يهوذا" أي معسكر يهوذا، وتلك إشارة لها مغزاها في هذه الظروف، وأقل ما تحمل من دلالات أن المقاومة مستمرة، والعمليات الاستشهادية مستمرة، وأن أبناء العقيدة يفدونها بالمهج، وأبناء القضية الفلسطينية يمهرون أرضهم وحقهم بالدم، ويتصدون للاستسلام الرخيص ويتمسكون بثوابتهم المبدئية وحقوقهم التاريخية.‏
                    ومن الطبيعي أن يشجب كلنتون ويدين ويأمر، وأن يشير إلى من يرتبطون به وبإدارته فيتراكضون لإبداء الأسى والأسف وإعلان الإدانة واتخاذ التدابير الكفيلة بحماية أمن "إسرائيل "؛ فكلنتون حامي الإرهاب الصهيوني ومموله لا تهزه دماء العرب ومعاناتهم وإنما تهزه دماء الصهاينة ومعاناتهم، ولذا فصوته يعلو وقبضته تشتد ورجاله في المنطقة يتحركون وأجهزته تُستنفر عندما يصيب اليهود أذى، فما يهمه هو أمن "إسرائيل" وليس حياة العرب .‏
                    وعلى هذا فلم نفاجأ باستنفار الملك حسين وشجبه، ولا بإدانة السلطة الفلسطينية "للحادث" واستنفار شرطتها وقيامها باعتقال الكثير من نشطاء حماس والجهاد الإسلامي في الساعات الأولى التي أعقبت عملية القدس، كما لم نفاجأ بغير ذلك من إدانات وتحركات .‏
                    ومن المسلَّم به أن تقوم إسرائيل بإجراءات مشددة على رأسها فرض الحصار على الضفة والقطاع، وتوجيه عناصرها لاعتقال المطلوبين داخل مناطق الحكم الذاتي، وملاحقة غازي الجبالي رئيس شرطة عرفات الذي لم يستطع القضاء بعد على البنية التحتية للمقاومة الإسلامية في فلسطين المحتلة - المطلب الرئيسي لإسرائيل والهدف الأول لاتفاق أوسلو - من المسلم به أن تقوم بذلك، فهذا هو الفعل الذي تقوم به كلما سنحت فرصة أو وجدت ذريعة .‏
                    ولكن الأسئلة التي تلي كل هذه المسلمات التي يسهل التعرف عليها وتوقُّع إجراءات قاسية على أسسها، هي الآتية :‏
                    هل بقي لأهل استسلام أوسلو ووادي عربة ما يقولونه في مسيرة يسمونها: سلاماً؟! أم أنهم نفضوا أيديهم منها بعد فيض المستعمرات التي شملت الضفة الغربية، وقطاع غزة، واستشرت في القدس: جبل أبو غنيم- باب العمود- وطوق المستعمرات الذي يخنق المدينة المقدسة !؟‏
                    وإذا كانوا في دواخلهم يعلمون ويوقنون أنهم فقدوا كل شيء هام، حتى من أوسلو التي لم تبق أصلاً على شيء هام، فهل يجعلهم ذلك قادرين على مواجهة ذواتهم بالحقائق، ومراجعة هذه المسيرة البائسة ؟!‏
                    لا أظن أن هذا ممكن الحدوث، لأن ما انطوى على الخبث لا ينتج إلا خبثاً، فقد دخل أولئك النفر من الناس في صحراء موكب زينوه لأنفسهم وللآخرين، دخلوه على أرضية الطمع الشخصي، والزهو الخبيث، والتفريط السافر بالحق، تحت ذرائع شتى؛ ثم غرقوا في الذي كسبوه من فاسد المال والسيرة والمواقف، الأمر الذي زادهم بؤساً وفساداً ويأساً وتوغلاً في مسيرة خائبة؛ فانساقوا وراء المكابرة والمقايضة والاستكبار، وسلكوا طريقاً فيها حماية لذواتهم ومكاسبهم و"مناصبهم" على حساب الشعب الفلسطيني وقضيته ومعاناته ومصالحه، واحتموا بالعدو الذي غدوا أنيابه وأظافره.‏
                    وهل بقي للعرب خيارات تذكر بعد إعلانات نتنياهو ومن يمثّل، واليسار الإسرائيلي بفصائله، والكونغرس الأميركي كله، وإدارة كلنتون المتصهينة برموزها اليهودية - ساندي برغر - مادلين أولبرايت - وليم كوهين - مارتن انديك - دنيس روس - أهارون ميللر، بعد إعلان تلك المواقع كلها: "أن القدس عاصمة أبدية موحدة "لإسرائيل"، وأن للفلسطينيين في أحسن الأحوال والظروف حكماً ذاتياً يشمل السكان ولا يشمل الأرض، ولا يشكل سيادة من أي نوع، ويتاح لإسرائيل حسب أحكامه دخول أي مكان منه في أي وقت للأغراض الأمنية أو بذريعتها؟!‏
                    وهل يتفاءل المتفائلون من العرب، الذين يقومون بدور الوسيط أو الذين ينتظرون نجاح الوساطة، بالتوصل إلى "سلام" من أي نوع مع "إسرائيل" في ظل القصف المستمر لجنوب لبنان، ولجوء الكنيست الصهيونية إلى سَنّ قوانين تثبّت فيها ضم الجولان السوري المحتل والإيعاز إلى فرع الكنيست في واشنطن بإغلاق مكتب منظمة التحرير ووقف المساعدات الأميركية للفلسطينيين؟! وهل يجدون أية فرصة لبدائل ملائمة ولمسوّغات مشجعة لتعايش مع الاحتلال في ظل تصعيد التوتر وتنامي الأحلاف المعادية للأمة العربية وهويتها وأحلامها ومصالحها وتطلعاتها المشروعة؟! وهل يمكن تصور نجاح أي نوع من المفاوضات وأي نوع من الاتفاقيات في ظل اختلال موازين القوى بشكل فاضح لمصلحة العدو وحلفائه وأعوانه وعملائه في المنطقة ؟!‏
                    إن هذه الأسئلة وسواها، مما أصبح معاداً مكروراً ومملاً لكثرة ما طُرح، تلقي بظلالها على المقاومة الوطنية في الساحتين: الفلسطينية واللبنانية، تلك التي تختار اختياراً مغايراً للاختيار الرسمي المثقل بألوان من المشكلات والتوازنات والاعتبارات، وبأشكال أخرى من الإحباط والبؤس.‏
                    والمقاومة التي يصفها عربٌ بالإرهاب تمشياً مع ما يقوله العدو الصهيوني عنها، وتقاومها سلطٌ عربية متّفقة مع العدو على ضرورة تدميرها، تقف اليوم هي ومن يدعم صمودها ويشيد بدورها ويؤكد مشروعية أدائها، تقف على مفترق صعب :‏
                    - فإما متابعة المسير في طريق تدفع ثمن السير فيه غالياً جداً، وقد يحرك الشارع العربي فيحرك الأنظمة ضده .‏
                    - وإمَّا أن تكتفي بالإعلان عن نفسها وموقفها من آن لآخر، وتركّز على مطالبها المتعلقة برموزها وما يستهدفها وما ترمي إليه على المدى البعيد .‏
                    وفي كلا الموقفين تحتاج إلى من يُمدّها بالتشجيع والتأييد، إذ لا يجوز أن تغيب أو أن تغيَّب، فهي العلامة المضيئة في وطن تنطفئ أضواء المقاومة والمنارات في معظم أقطاره، وهي الموقف الذي يرفع رأس الأمة على الرغم من إدانة من يدينون وشجب من يشجبون.‏
                    وتأييد المقاومة، سواء أكان مادياً أم معنوياً، من الأمور المحظورة في ظل سيطرة السيد الأميركي والعدو الصهيوني؛ ويلقى هذا الحظر استجابة أو قبولاً في ظل الاتهام الذي يشيع بأن ما يجري هو "إرهاب" وعنف موجه ضد "أبرياء". وتشكل الآلة الإعلامية المعادية، والأنظمة الموالية للعدو الصهيوني، وتلك المرتبطة بالقرار الأميركي، تشكل أداة ضغط ونوعاً من سياج حصار على المقاومة، بدلاً من أن تكون قاعدة دعم لها؛ فكيف السبيل إلى استنبات المقاومة في محيطها، وبقائها حية مزدهرة محمية في بيئتها ومقبولة ومدعومة من تلك البيئة ؟!‏
                    إن ذلك يستدعي أولاً، وقبل كل شيء، إظهار مشروعية فعل المقاومة، وعدالته، وحقَّانيته؛ وأن ذلك الفعل الذي ألجئت إليه في ظل استمرار الاحتلال وتفاقم الاستيطان وتصاعد حملات القمع والتصفية والاضطهاد للإنسان على أرضه، هو فعل إنساني مشروع .‏
                    وهذا يعتمد على تقديم أمرين في تساوق تام :‏
                    1- المبرر الخلقي والقانوني لفعل المقاومة، لا سيما هذه المقاومة الموجهة ضد الاحتلال الصهيوني-العنصري، والآن، في الظروف التي أوجدتها اتفاقيات أوسلو ووادي عربة؛ وما أشيع من "سلام" في المنطقة، أخذه العالم بعين الاعتبار، وباركه أو أيَّد حصوله من يقدَّمون على أنهم أصحاب التمثيل الشرعي النهائي للشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية!؟!.‏
                    2- المسوِّغ الذي يجعل هذه المقاومة تمارس عملها وتحدد أهدافها في أوساط مجتمع الاحتلال: عسكرياً كان أم مدنياً.‏
                    أمَّا الأمر الأول: أي المبرر الخلقي والقانوني: فهو مشروع مُقَرّ حسب الأعراف والمواثيق الدولية، ولكن ما أسبغ على الموضوع من هالة "سلام الاستسلام" الذي جرّته اتفاقيات الإذعان، ومشاركة أهل سلطة الحكم الذاتي في إدانة فعل المقاومة، والتواطؤ الدولي على طمس هذا الحق بحجة إنجاز عملية السلام؛ كل ذلك يعطي لمنطق العدو "قبولاً"، ويضفي على منطق المقاومة "ضعفاً" بنظر الذين لا يعرفون بواطن الأمور، والذين تجرفهم سيول الإعلام المعاصر والدعاوة الصهيونية .‏
                    أمَّا الأمر الثاني: أي المسوِّغ الذي يجعل المقاومة تمارس عملها في أوساط مجتمع الاحتلال. وهو الأمر الأهم من حيث ضرورة تركيز جهد إعلامي وثقافي وسياسي وحتى دبلوماسي عليه -إن أمكن- هو أن المجتمع "الإسرائيلي" مجتمع عسكري بصيغ "مدنية"، وكل شخص فيه يدرك تماماً أنه محتل لأرض الغير بالقوة، وأنه باق فيها بالقوة أيضاً في إطار مشروع استيطاني توسعي، وأنه يمارس عدواناً مستمراً على الشعب الفلسطيني، ويقوم بتصفية هذا الشعب مادياً أو معنوياً، حسب برنامج بطيء مدروس يُفضي في النهاية إلى الاستيلاء على فلسطين كاملة والهيمنة على أرض عربية وإرادة عربية .‏
                    إن هذه الحالة من الوعي بالمشروع الصهيوني عبر مرحليّاته، حالة يدركها كل يهودي يأتي إلى فلسطين؛ إنه يدرك أنه المستعمِر، وأنه يأتي على حساب آخر يقتله أو يستعمره، وهو يتدرب على كل فنون القتال، ويخوض الحرب بأشكال مختلفة. فمن هذه الناحية لا يوجد مواطن غفل بريء ممن يحتلون فلسطين، ولا يوجد محايد بينهم، وإنما الكل يعمل ضمن رؤى لتحقيق المشروع الصهيوني-الاستيطاني.‏
                    والعملية الأخيرة التي تمت في القدس تمت في حي "محنييه يهوذا" أي في معسكر يهوذا، وهذه التسمية لا تخلو من دلالة.‏
                    وانطلاقاً من هذا فإن على الفلسطيني الذي يقاوم الاحتلال أن يواجه المحتلين جميعاً، وكل يهودي في فلسطين هو محتل قادم إليها من أرض أخرى على أرضية مشروع عدواني استعماري، وبنزوع عنصري واضح فأين البراءة والأبرياء بين أولئك يا ترى؟! .‏
                    إن المقاومة مطالبة بالاستمرار، أداء لواجبها وحفاظاً على أهداف الشهداء الذين قضوا على طريق أهداف الحرية والتحرير، وأبناء الأمة العربية الذين يؤمنون بحق المقاومة في العمل، وبضرورة التحرير، مطالبون بممارسة دور يدعم المقاومة، انطلاقاً من هذه الأسس، في المجالات جميعاً .‏
                    إن ترك المقاومة وحدها لا يليق بشعب يتمسك بحق وأرض وتاريخ، وبعقيدة تدعو إلى الكرامة والعدل والحرية، وإن مقاومة لا تستند في أدائها وبرامجها إلى الشعب، ولا تستمد قوتها من وجدانه تبقى مهددة ومرتبكة.‏
                    فليكن لمقاومتنا عمق الشعب واستمرار هذا العمق وتوسيعه حتى النصر، وليكن لها كل مبررات الفعل الخلقي والقانوني والإنساني الذي تقوم به دفاعاً عن النفس والوطن والحق، وصولاً لأهدافها، مهما ارتفع الثمن وامتدت الطريق.‏
                    والله من وراء القصد .‏
                    دمشق في 31/7/1997‏

                    الأسبوع الأدبي/ع573//16/آب/1997‏

                    إذا الشعب يوما أراد الحياة
                    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                    تعليق


                    • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                      القدس ومؤتمر الدفاع عنها
                      القدس: " تنزيه الله "، والبيت المطهر، ومطهر من الذنوب، وبَرَكة، هكذا نجد معانيها في لسان العرب، وهي في لغتهم الأقدم مدينة السلام " أورسالم " أو " أورشليم " حسب تسمية العرب الكنعانيين الذين اختطوها وأشادوها عام 3200 ق.م، وهي يبوس التي أقام فيها اليبوسيون العرب، وهم بطن من بطون العرب الكنعانيين، حصنهم المعروف بصهيون/ أي الأرض المرتفعة حسب اللغة الكنعانية/ في مطلع الألف الثالثة قبل الميلاد وسكنوها وانتسبوا إليها ونسبوها إليهم، ولم يُغلبوا عليها ولم يخرجوا منها حتى يوم غزاها داود وأقام في "حصن اليبوسيين" صهيون، ملكاً دام مع ملك ابنه سليمان سبعين سنة ونيِّفاً في تلك القلعة التي سميت "مدينة داود" وما زال يتحدث عنها اليهود جاعلين لها في التاريخ تاريخاً، في حين لم تدم مدينتها ـ مملكتها ـ سوى ما يقرب من سبعين سنة.‏
                      لقد بقي العرب في القدس، كما بقوا في فلسطين، وعاشت في المدينة المقدسة التي حملت شفة كنعان على مر التاريخ قبائل عربية منها: "لخم وجذام وعاملة وكندة وقيس وكنانة، وكذلك بطون من قضاعة والقَيْن وبنو كلب وجرم وبنو عذرة... إلخ.".‏
                      وهي مهد دعوة المسيح وطريق آلامه وموضع صليبه، الذي أثقل كاهله فيها فوق ثقله حقدُ "أولاد الأفاعي" قتلة الأنبياء، مزوّرو العقائد والوقائع والتاريخ الذين ما زالت تفيض عنصريتهم الحاقدة كرهاً للأمم وحقداً عليها بأشكال مختلفة، منذ خرجوا على شريعة موسى وحرَّفوها في التيه وبعده إلى يوم الناس هذا. وهي إيلياء كما سماها الرومان، ثم القدس التي تعززت مكانتها العربية والإسلامية بالإسراء والمعراج من جهة، وباستعادة الفتح العربي ـ الإسلامي لها من جهة أخرى، حين تلاقى فيها عرب ما قبل الفتح مع عرب الفتح، وحافظت عليها "العهدة العمَرية" نظيفة من العنصريين تنفيذاً لرغبة المسيحيين التي أبداها بلسانهم البطريارك "صفرونيوس" بطريارك القدس، الذي طلب من عمر بن الخطاب رضي الله عنه ألا " يسكن بإيلياء معهم أحدٌ من اليهود "، جرياً على ما كان عليه الأمر منذ حرّمها الرومان على اليهود، في عهد طيطس بعد أن أجلاهم عنها نبوخذ نصر البابلي، وأعادهم إليها قورش الفارسي بعد مصاهرته لليهود وزواجه من استير ؛ ولم يدخلوها من بعد إلا بفضل تسامح صلاح الدين الأيوبي الذي استعادها من الصليبيين.‏
                      والقدس اليوم، بعد أن غلب عليها الصهاينة نتيجة تواطؤ استعماري غربي مقيت، وضعف وتمزق عربيين لا مثيل لهما، القدس اليوم يُفرض عليها واقع القوة المتغطرسة الذي يراد له أن يخلق حقاً لليهود فيها وأن يلغي تاريخاً وحضارة وحقاً خالداً للعرب: مسلمين ومسيحيين في كل صرح وآبدة حضارية وحجر ودرب وذرة تراب، ليس فيها فقط وإنما في كل مكان من الأماكن المقدسة في فلسطين من الخليل إلى بيت لحم والناصرة ونابلس وطبريا، أي في فلسطين كلها .‏
                      وعلينا اليوم، بعد أن تحوَّل وعد بلفور إلى دولة يهودية صهيونية- عنصرية تحتل القدس، وتعمل على تهويدها بالكامل وطرد سكانها العرب: مسيحيين ومسلمين منها، وتهديد أماكن العبادة فيها /كنيسة القيامة- قبة الصخرة المشرفة- المسجد الأقصى - والمسجد العمري/ بالتدمير والإبادة وصولاً إلى إقامة الهيكل في مكان مقدسات إسلامية، علينا أن نسأل أنفسنا: إلى متى يستمر تنفيذ هذه السياسة العدوانية- العنصرية الثابتة التي يجري تشجيعُها وتمويلها وتغطيتها ودعمها من قبل الغرب الاستعماري وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية، التي يتخذ مجلسا الكونغرس فيها قرارات تتعلق بمستقبل القدس، هي أكثر تهوراً وإثارة للمشاعر مما تتخذه الكنيست "الإسرائيلية" في بعض الأحيان، وأن دل ذلك على شيء فإنما يدل ذلك على مدى العداء المستحكم في العقلية الأميركية المتصهينة لكل ما هو عربي، ولكل من المسيحية المشرقية والإسلام، بما لهما من مكانة روحية وحضور تاريخي في المدينة المقدسة وفي فلسطين ؛ وسواء أتم ذلك على أرضية الجهل بالحقائق والوقائع أو على أرضية التجاهل والاستهانة والاستخدام المطلق لغطرسة القوة ضد قوة الحق، فإنه يؤدي إلى ضياع الحق والمقدسات ويستوجب عملاً شافياً ومواجهة مجدية يضعان حداً للاستهانة والمهانة والمعاناة في تلك البقاع المقدسة !؟!.‏
                      إن القدس هي تاريخها ومكانتها التاريخية والروحية، وأوابدها ومعابدها ومقدساتها ومعاني ارتباط الوجدان الشعبي لملايين الناس بها، ولكنها أيضاً بالنسبة لنا بعدها الفلسطيني المتعلق بالسيادة، ورمزها القومي بالتاريخ ومكانة الأمة ووحدة موقفها، وهي أهلها الذين يلخصون ذلك ويجسدونه ويعطونه أبعاداً في الماضي والحاضر والمستقبل ؛ إنهم المسيحيون والمسلمون الذين يتعرضون للاضطهاد والقمع والطرد والاقتلاع وأنواع التضييق والإذلال، ويطبق عليهم برنامج إبادة بطيئة بالمعنيين: المادي والروحي ليتم تهويد المدينة المقدسة بالكامل وإزالة الإنسان قبل البنيان من أرجائها، وصولاً إلى تزييف هويتها العربية ومكانتها الروحية، ومنزلتها في الثقافة القومية والإنسانية. فقد هُجِّر خلال السنوات الأخيرة فقط أكثر من ( 4000) عائلة فلسطينية كانت تسكن القدس، وتم ذلك بطرق تعسفية عنصرية مختلفة سُنَّت لها القوانين الصهيونية من أجل إكسابها الشرعية والمصداقية.‏
                      والصهاينة اليوم يستهترون بكل حقوق الملكية التاريخية للعرب في القدس، كل القدس، ويتصرفون تصرف المالك فيها عملاً بمبدأ: "الحيازة هي سند التمليك"، متبعين سياسة فرض الأمر الواقع بقوة القهر، زاعمين أن القدس هي " عاصمتهم الأبدية الموحدة "، وهم يعنون ما يقولون، ويعملون على تثبيت هذا الذي يقولونه ويعنونه على الأرض من خلال الاستملاك وإقامة عشرات المستعمرات على شكل أطواق استراتيجية حول القدس لعزلها عن فلسطين وعن التواصل مع أهلها الأصليين ؛ وآخر ما ينفذ من تلك المستعمرات مستعمرة جبل أبو غنيم، ومستعمرة باب العمود ؛بالإضافة إلى العديد من المستعمرات التي أقرها حزب العمل ويتابع تنفيذ ما ينبغي تنفيذه منها الليكود ومن يتولى السلطة في المستقبل، على مبدأ اقتسام المهام وتوزيع الأدوار واستمرار تنفيذ المخطط .‏
                      ولا بد لنا من مواجهة سياسة التهديد والاقتلاع والتهويد وفرض الأمر الواقع الذي يتم بقسوة وفظاعة تشملان الحجر والبشر دون تمييز، وأن نواجه ذلك على أرضية المعطيات والحقائق والوقائع الآتية :‏
                      1- إن وجود " إسرائيل" في المنطقة العربية يتنافى مع كل صيغة من صيغ السلام أصلاً لأنه وجود قام بقوة الإرهاب والقهر ويستمر بتلك الوسائل، وهذا بحد ذاته مناف لأبسط مبادئ العدل الذي يؤسس للسلام الحقيقي.‏
                      2- وهي ـ بافتراض إمكان قيام سلام بوجودها ـ لا تريد السلام، ولا يلائمها السلام، ولا تعمل له ولا يهمها أن يكون عادلاً وشاملاً ودائماً؛ لأن مصلحتها ومشروعها يستمران وينموان على أرضية الحرب والتهديد الدائم بها، وأوضح أدلتنا على ذلك :‏
                      * سياسة التهويد التي تتبعها في القدس وسواها، تلك الهادفة إلى تهجير الـ مئة والخمسين ألفاً من العرب الفلسطينيين الذين يسكنون القدس الشرقية، وإسكان أكثر من مليون يهودي فيها .‏
                      * عدم الالتزام بما توقعه من اتفاقيات، حتى اتفاقيات الإذعان التي فرضتها بالتعاون مع حلفائها وشركائها، على الرغم من أنها اتفاقيات لا تخدم سوى مصالحها بالدرجة الأولى .‏
                      * ورفضها استئناف المفاوضات مع سورية من النقطة التي توقفت عندها، تلك المفاوضات التي بدأت في " واي بلانتيشن " .‏
                      * لجوؤها إلى تعزيز قدراتها القتالية، وترسانتها النووية، وعقيدتها العدوانية.‏
                      * إقامتها أحلافاً في المنطقة هدفها فرض هيمنة شاملة عليها مستقبلاً في كل المجالات، مثل تحالفها مع تركيا، الذي يهدد دولاً عربية وإسلامية منها سورية ولبنان والعراق وإيران، ويتم برعاية ودعم أميركيين ويخفي انضمام دول عربية إليه مثل الأردن الذي يدخله من باب المناورات المشتركة مع الأميركيين، تلك المناورات التي يحضرها " إسرائيليون " ويشاركون فيها سراً، وقد حضر مؤخراً عدد من قادة جيش العدو مناورات عسكرية جوية في قاعد عسكرية أردنية. والأردن يتطلع إلى تحقيق أهداف وأطماع إقليمية في المنطقة منها السيطرة على العراق "بعد تقسيمه" ؛ وقد ظهرت إشارات عديدة على هذه الطريق كان آخرها تلك التي صرَّح بها " إيهود باراك " رئيس حزب العمل الذي قال: " إنه سيتدخل بقوة لدى الولايات المتحدة الأميركية لإقامة نظام حليف في العراق، والأفضل أن يكون هذا بزعامة كونفدرالية أو فيدرالية للملك حسين "، وما إشارات الفيدرالية تلك سوى تلميحات تطمينيَّة مؤقتة للتعمية على الهدف الرئيس ؛ إذ لا يمكن أن تقوم بين صدام حسين والملك حسين فيدرالية ملكية يقودها الحسين فذلك ضرب من الهذيان، وما الهدف من ترويج مثل هذا القول إلا ذر الرماد في العيون !؟!.‏
                      * تهديد " إسرائيل " المستمر لسورية واستفزازها لها انطلاقاً من لبنان ومن محاولات تهويد الجولان بعد ضمة، وإقامة سد في أراض سورية محتلة قرب الحمَّة السورية، والتلويح باستخدام السلاح النووي ضدها.‏
                      * عدوانها الدائم على لبنان، وتدمير البنية التحتية لمنشآته الاقتصادية ومؤسسات الخدمة المدنية فيه، وجعل سكان الجنوب والبقاع وبعلبك خاصة في حالة من الخوف وفقدان الاستقرار، وتكريسها المستمر للاحتلال، وتعزيزها للنزوع العنصري الصهيوني الاستيطاني سواء أكان ذلك في القدس أو في الجولان أو في جنوب لبنان أو في معاملة العرب، كل العرب، الواقعين تحت الاحتلال، أو الذين يطولهم الأذى الصهيوني بأي شكل من الأشكال .‏
                      * مطالبتها المستمرة بأن يقوم عرفات بتصفية البنية التحتية ـ البشرية وغير البشرية ـ لحماس والجهاد الإسلامي، وهو المدخل الذي تركز عليه لتصفية الشعب الفلسطيني بأيدي أبنائه ؛ وإصرارها على تشويه صورة المقاومة المشروعة للاحتلال بوصفها إياها بالإرهاب، ومحاولة سحب تلك الصفة على الإسلام ذاته ؛ وتسخير عناصر صهيونية للقيام بحملات تشويه وإساءة للنبي محمد " ص " وللمقدسات الإسلامية والمسيحية.‏
                      كل هذه العوامل والممارسات والتوجهات، إضافة إلى التاريخ العدواني العنصري ـ النازي الأسود للصهيونية و" إسرائيل "، مما يجعل من المستحيل قيام توجُّه حقيقي نحو السلام فيها ومعها ؛ فضلاً عن حقيقة أن السلام العادل والدائم في هذه المنطقة لا يمكن أن يقوم ويستتب مع بقاء سيادة صهيونية في فلسطين وعليها، على حساب وجود الفلسطينيين وسيادتهم، فتلك قضية حق تاريخي ومبدأ خلقي وإنساني وحقوقي وقومي لا يمكن التهاون بها أو مجاوزتها أو التغاضي عنها .‏
                      2- إن الولايات المتحدة الأميركية ليست مؤهلة، بسبب انحيازها المطلق لـ "إسرائيل" ودعمها الدائم لممارساتها العدوانية وسيطرة الرموز الصهيونية على سياستها في المنطقة، ليست مؤهلة لأن تقوم بدور الوسيط النزيه والراعي العادل لمفاوضات تفضي إلى السلام، وهي تضع نفسها طرفاً ظاهر الانحياز، يعطل قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، التي تحاول أن تضع حداً لممارسات إسرائيل العدوانية في القدس والخليل على مقدسات العرب: مسيحيين ومسلمين؛ ولا يهم الولايات المتحدة الأميركية سوى أمن " إسرائيل " فقط، وهي تمارس ضغطاً وترسل مبعوثين لتضع سلطة الحكم الذاتي على الطريق التي رسمتها اتفاقيات أوسلو، تلك التي حددت الدور العرفاتي برئاسة مخفر أمني متقدم في خدمة الأمن " الإسرائيلي ".‏
                      3- إن اتفاقيات الإذعان، ومظاهر التطبيع بكل أشكاله، والهرولة السياسية والاقتصادية والثقافية على أعتاب الكيان الصهيوني، كل ذلك أوصل إسرائيل إلى استهتار تام بالأمة العربية ومقدساتها وحقوقها وقيمها ومقومات القوة فيها، وبقراراتها وتحركاتها ؛ وحوّل بعض العرب إلى وسطاء لمصلحتها، وكأن القضايا التي تنتهكها " إسرائيل " وتستهين بها: مثل القدس وقضايا الشعب الحياتية اليومية والمصيرية، والمقدسات، وممارسات الاحتلال وهمجيته، وتهويد القدس ؛ كأن كل ذلك لا يهم أولئك " العرب " وكأن القدس وما تمثله وما تعنيه تاريخياً وروحياً، ليست من صلب معتقدهم الديني وانتمائهم القومي ومقومات هويتهم وثقافتهم!؟!.‏
                      4- إن الولايات المتحدة الأميركية، التي تضع الغرب في ركابها أو تمنعه من ممارسة دور لا يخدم مصالحها ولا يصب في تيار دورها في المنطقة وفي قضية القدس بالذات ؛ تضع ثقلها المباشر، من خلال مجلسي الكونغرس على الخصوص، وراء موضوع تهويد القدس وجعلها " عاصمة أبدية موحدة لإسرائيل "، وتقديم الدعم المالي والتغطية السياسية والدبلوماسية والإعلامية لهذا التهويد الشامل، وتبادر إلى اتخاذ قرارات سياسية بشأن جعلها "عاصمة أبدية موحدة" لإسرائيل، ونقل السفارة الأميركية إليها، وتستخدم حق النقض " الفيتو " استخداماً تعسفياً في مجلس الأمن لمنع أية إدانة " لإسرائيل " أو أي إيقاف لعملية تهويد القدس وبناء المستعمرات فيها لتجعلها خالصة لليهود من الناحية السكانية.‏
                      إننا مع أي عمل عربي وإسلامي، رسمي وشعبي، ينقذ القدس وينصر أهلها ويثبتهم فيها ويحمي مقدساتها وحقوق شعبنا وأمتنا فيها ؛ وقد كان المؤتمر الشعبي العربي للدفاع عن القدس، الذي عقد في عمَّان / 20 ـ 21 ـ 1997/ مبادرة طيبة وهامة على هذه الطريق، لا سيما في هذه الظروف بالذات، وإن مجرد انعقاده بمشاركة ثرية ومتنوعة من قبل فعاليات سياسية وثقافية من: أحزاب ومنظمات شعبية ونقابات مهنية وشخصيات لها مكانة وحضور في ساحة الفكر والنضال والعمل السياسي والاجتماعي، مثلت ساحات عربية وإسلامية ؛ إن مجرد ذلك الانعقاد يشكل خطوة إيجابية يحسن بنا أن ننميها وندعمها ونقف معها.‏
                      وقد صدر عن ذلك المؤتمر الذي عقد تحت شعار :‏
                      ( القدس لنا .. 6000 سنة )‏
                      ـ ميثاق الدفاع عن القدس. *‏
                      ـ استراتيجية المواجهة الشعبية للغزو الصهيوني للقدس وفلسطين والأراضي العربية.‏
                      ـ بيان ختامي ومقررات وتوصيات.‏
                      وقد عرض الميثاق للتوقيع المباشر عليه، التزاماً بما ورد فيه، وسيكون بمتناول كل من يرغب في الإطلاع عليه والالتزام به ؛ ليس في الوطن العربي فقط وإنما في كل البلدان وباللغات الحية، حيث يوجد عرب ومسلمون ومهتمون بقضية القدس وفلسطين.‏
                      ومما تجدر الإشارة إليه، في هذا المجال حقيقة، أننا في الوطن العربي نحتاج إلى الأفعال أكثر مما نحتاج إلى الأقوال، وينقصنا أن نعمل حسب برنامج علمي ـ عملي بالتزام وثقة واقتدار، وبروح التضحية والجماعة والمسؤولية. وها هي فرصة سانحة تتعلق بقضية من أكثر قضايا الأمة أهمية وقداسة ومصيرية: إنها قضية القدس وفلسطين، التي تُطرح على أرضية مبدئية ثابتة تؤكد حقيقة مستقاة من الواقع والمعاناة بمرارتهما، حقيقة تقول: إن صراعنا مع العدو الصهيوني هو صراع وجود وليس نزاعاً على حدود، وأننا ما لم نأخذ هذه الحقيقة الجوهرية بالاعتبار ونبني انطلاقاً منها وتأسيساً عليها استراتيجية العمل في المستقبل، فإننا سنبقى نهباً للتناقض والضياع والضلال، وسنعيش تيهاً بعد تيه وهزيمة بعد هزيمة. وأنه ما لم تنطلق الأمة في توجهها واختياراتها وأساليب عملها وأدواتها من ثوابت مبنية على حقائق التاريخ والجغرافية، وحقائق الواقع باستشراف تفاؤلي واستقراء منطقي للمستقبل، يعطيان لامتلاك القوة على أرضية العلم والإيمان والعمل بهما، المكان الأول من الاهتمام والتخطيط والتنفيذ، فإنه لن تقوم لنا قائمة يُعتدُّ بها بين الأمم والشعوب ؛ ولن نتمكن من أن نبني أسساً متينة على أرضية ثابتة من الحق والعدل واختيار الشعب والأصالة والحرية، وصولاً إلى ما يبني الوجود الحي والكرامة والحضارة.‏
                      ونقترح في هذا المجال :‏
                      1 ـ أن يتم توقيع كثيف، يشير إلى تبن شامل لميثاق الدفاع عن القدس، وأن نرفع درجة الاهتمام به والعمل من أجله ؛ حسب الاستراتيجية الموضوعة وبإضافة اجتهادات عليها تصب في مجرى الميثاق وتنفيذه.‏
                      2- تقديم كل أنواع الدعم الممكن للقدس وأوابدها، ولسكان القدس في جميع مجالات الحياة والعمل والصمود والمواجهة الإيجابية، ليتمكنوا من الدفاع عن أنفسهم وعن انتمائهم لأمتهم، وليدافعوا عن المدينة وما تمثله من هوية وانتماء وقدسية.‏
                      3- دعوة وزراء الخارجية العرب إلى مطالبة مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة والمنظمات العالمية والإقليمية والعربية: منظمات للتربية والثقافة والعلوم، واليونيسكو والأسيسكو والألكسو بتأكيد قراراتها ومواقفها المتعلقة بالقدس، لا سيما قرارات مجلس الأمن الدولي :‏
                      185/ لعام 1984، 114/ لعام 1949‏
                      251/ لعام 1968، 252/ لعام 1968‏
                      271/ لعام 1969، 298/ لعام 1971‏
                      وسائر قرارات المنظمات الدولية المعنية المتعلقة بالقدس وهويتها الثقافية وانتمائها العربي وسيادة أهلها عليها، ولا سيما تلك التي أكدت على بطلان ضم القدس واعتبار كل ما ترتب على ذلك لاغياً وباطلاً وكأنه لم يكن.‏
                      4- دعوة مؤتمر قمة العالم الإسلامي الذي سيعقد في طهران هذا العام / 1997 / إلى التركيز على مخاطر موضوع التغيير السكاني والعمراني والمستعمرات الصهيونية في القدس، والتهديد الذي يطال الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية بالتدمير والتشويه، ولا سيما الأنفاق وإقامة الكُنُس اليهودية فيها ـ مثلما تم في النفق الذي يمر تحت ساحة المسجد الأقصى ـ والحفريات الأخرى قرب حائط البراق وغيره من الأماكن .‏
                      5- دعوة الدول العربية، من خلال جامعة الدول العربية ومؤسسة مؤتمر القمة العربية، إلى إيقاف كل شكل من أشكال تطبيع العلاقات مع العدو الصهيوني، والتركيز على تثبيت المقاطعة العربية وتفعيلها، والقيام بالردود العربية الممكنة في كل المجالات على مخططات العدو الصهيوني وممارساته في القدس وفلسطين وبقية الأراضي المحتلة، تلك التي تنصب على السكان والهوية والأوابد والصروح الحضارية .‏
                      6- توجيه نداء للمنظمات الدولية والمؤسسات العالمية ذات العلاقة بالموضوع يركز على موضوع القدس والأخطار التي تتعرض لها، والاستراتيجية الصهيونية العدوانية المتخذة بشأنها، وتحريك لجنة القدس المشكلة في إطار عربي ـ إسلامي لتقوم بخطوات عملية في هذا المجال .‏
                      7- العمل على إصدار موسوعة عربية- إسلامية مركَّزة وشاملة حول القدس، تأخذ بالاعتبار حقائق الوجود العربي التاريخي والهوية العربية- الإسلامية للقدس منذ أسسها العرب الكنعانيون، ولا تبدأ تاريخ العرب والمسلمين فيها منذ الفتح الإسلامي للمدينة فقط.‏
                      8- توجيه وسائل الإعلام العربية والصديقة للتركيز على موضوع القدس وما فيه من وقائع وحقائق، وما تقوم به " إسرائيل " فيها من أعمال تهدد المدينة والسلام في المنطقة معاً .‏
                      إننا نؤكد قدرة أمتنا العربية: على الصمود والمواجهة، ونؤكد مسؤولية العدو الصهيوني وحماته وحلفائه عن خلق بؤر التوتر في المنطقة وتعطيل مسيرة السلام ونقض حتى الاتفاقيات والعهود والمواثيق المجحفة بحق الأمة العربية .‏
                      ونقول بضرورة التضامن العربي، والعمل العربي النوعي على أرضية العلم وامتلاك القوة لتغيير ميزان القوى المختل لمصلحة العدو؛ والتالي تغيير الواقع العربي الراهن الذي لا يرضي عدواً ولا صديقاً.‏
                      ونقول بأن الأوضاع العربية الراهنة التي ينتج عنها هذا الضعف والتآكل في الإرادة والمبادرات والقدرات ليست قدراً ولا يمكن أن تستمر إلى الأبد، وكذلك فإن اختلال الأوضاع الدولية التي يحكمها الآن قطب وحيد الطرف يعمل لمصلحة "إسرائيل" هو الولايات المتحدة الأميركية ليس قدراً هو الآخر ولن يستمر إلى الأبد .‏
                      إن الحياة حركة؛ والحركة ينبغي أن تقترن بالتفاؤل بالنسبة إلينا في وضعنا العربي والإسلامي على أرضية المعطيات والإمكانيات واستقراء التاريخ البعيد والقريب وتاريخ نضال الشعوب والأمم، وقد آن الأوان لنلتفت التفاتة جدية إلى علاقاتنا العربية الإسلامية بشيء من الجدية والمنهجية العلمية والعملية على الصُّعد والمستويات جميعاً ؛ فنحن مستهدفون بأشكال مختلفة، وضعف كل منا يزيد الآخر ضعفاً والعدو قوة .‏
                      إننا نفرق تفريقاً جوهرياً دقيقاً بين الصمود والانهزام، بين السلام والاستسلام، وكذلك بين المقاومة الوطنية المشروعة ضد الاحتلال الصهيوني في كل الأرض العربية المحتلة وبين الإرهاب الذي لا نؤيده ولا نقره ونقول إننا ضحاياه وضحايا من يمارسه ببشاعة يومياً وهو " إسرائيل "، ومن يرعاه قولاً وعملاً وهو الولايات المتحدة الأميركية.‏
                      إننا مع المقاومة الوطنية المشروعة للاحتلال، ومع حقنا في ممارستها دفاعاً عن النفس والأرض والحق ؛ ولن يجعلنا التهديد والاستفزاز نتنازل عن حقوقنا في فلسطين والقدس، ولا في الجولان وجنوب لبنان، ولا عن البعد القومي للقضية الفلسطينية بكل ما يعنيه ذلك تاريخياً وعملياً، ولا عن قضية القدس مفتاح هذه القضية بشكل عام، ولا عن وجدنا النوعي على أرضنا ودورنا التاريخي في الحضارة الإنسانية .‏

                      دمشق في 25 / 8 / 1997‏

                      الأسبوع الأدبي/ع575//30/آب/1997.‏

                      إذا الشعب يوما أراد الحياة
                      فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                      و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                      و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                      تعليق


                      • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                        سحر أولبرايت
                        لولا موت الأميرة ديانا أميرة ويلز في باريس ذاك الموت المفجع هذا الأسبوع لاستمرت مادلين أولبرايت في اختطاف الأضواء والأخبار على مدى الأيام القليلة الماضية والقادمة، تلك التي تسبق وتواكب وتعقب رحلتها المنتظرة إلى منطقتنا في التاسع من هذا الشهر، ولكن موت الأميرة انتزع الواجهة لفترة وبقيت أولبرايت في خلفية المشهد بإيحاءات حضورها.‏
                        وتبدو لي وزيرة خارجية الولايات المتحدة الأميركية كإحدى ساحرات ماكبث وهي تدور حول القِدْرِ الموضوع على النار تلقي الحطب والبخور وتقرأ "تعزيماتها" وتنثر شعرها من حول القناع الذي يغطي وجهها لأمر في نفس يعقوب، بينما تفيض أعماقها بالحقد والشر على العرب "الإرهابيين" وهي تنفث سحرها وسمومها في عُقَدِ الخيوط التي تحوكها مع شركائها في المنطقة، للمنطقة.‏
                        ما يهم اليهودية- الصهيونية أولبرايت هو مصلحة "إسرائيل" وأمنها ونجاح خططها لقضم ما تبقى للعرب من حق وأرض وإرادة، وما أجبرها على المجيء إلى المنطقة، بعد غطرسة وتعال وإهمال مقصود مقرون بالازدراء وبضغط شديد على كل من لا يخضع لمشيئة "نتنياهو" فيها، هو العملية المزدوجة في معسكر يهوذا بالقدس /30 تموز 1997/ وما أنتجته من قلق وذعر؛ وقد تحركت الوزيرة بعد أن دفعت اليهودي- الصهيوني دنيس روس إلى المنطقة لإعادة التنسيق الأمني، والتنسيق الأمني فقط، بين سلطة عرفات وسلطة الاحتلال برعاية الـ c.i.a ومشاركتها المباشرة، ليؤدي ذلك إلى تدمير شامل للبنية التحتية للمقاومة الوطنية الفلسطينية /حماس والجهاد الإسلامي/ أحد أهم الأهداف والشروط لاتفاق أوسلو.‏
                        وإذا كانت الإدارة الأميركية قد أدركت للمرة المئة ربما، أهمية المسار السوري في المفاوضات وأهمية سورية ودورها في المنطقة /سلماً وحرباً/ ووضعت ذلك على رأس اهتمامات الوزيرة -الساحرة - بالمعنى الشيطاني للكلمة - في الجولة الحالية، فلأن المؤسسة الصهيونية بكل أذرعها قد أحسنت القراءة لما يجري من مقاومة في داخل فلسطين المحتلة وفي جنوب لبنان، وتملَّت في معاني التحركات والمتغيرات السياسية البطيئة نسبياً التي تجري في المنطقة من طهران إلى لبنان، واقتنعت بأن الدور السوري لا يمكن محاصرته و تهميشه أو تغييبه، وأنه دور رئيس في المنطقة يصعب مجاوزته وتفتيت نواته الصلبة؛ وقد قرأت تلك المؤسسة الأحداث والوقائع قراءة متأنية فرأت ذلك بجلاء.‏
                        فهل يكون لهذه الجولة تأثير إيجابي يؤدي إلى تغيير يشمل استئناف المفاوضات السورية- الإسرائيلية -التي لا تعني لي شيئاً ذا أهمية- استئنافها على أرضية الاقتناع بضرورة أن يتم ذلك باحترام لمرجعية مدريد ولما تم التوصل إليه في "واي بلانتيشن" أم أنها تأتي: للسبر والاستطلاع وكسب الوقت وإحداث مزيد من الانشقاق والتمزق في الصف العربي، ولدعم مؤتمر الدوحة الاقتصادي -أي مؤتمر "إسرائيل" الشرق أوسطي- وتعزيزاً لتعاون سلطة عرفات مع سلطة نتنياهو ضد المقاومة الفلسطينية؟!‏
                        إن مقاربتي لأجوبة على هذه الأسئلة، أو مقاربة الأسئلة ذاتها تنطلق أولاً من المسلمات الآتية:‏
                        1- أن الولايات المتحدة الأميركية دولة معادية لآمال العرب وحقوقهم ومصالحهم، بكل المقاييس.‏
                        2- أن الذين يتولون ملف القضية الفلسطينية، أو ملف الشرق الأوسط كما يسمونه في الغرب، في الإدارة الأميركية، هم جميعاً من اليهود الصهاينة أو من المتصهينين الأشد تعصباً لإسرائيل ومشاريعها التوسعية من بعض اليهود؛ ولذلك فإنه لا توجد وساطة أميركية نزيهة أو غير نزيهة، ولا توجد رعاية لمفاوضات، وإنما يوجد تواطؤ مشترك غربي - صهيوني، وتوجد أقنعة يضعها الصهاينة على الوجوه لتبدو غير "إسرائيلية".‏
                        3- أن الإدارات الأميركية المتعاقبة تحرص على مصالحها في المنطقة، ولا ترى أن موقفها المنحاز كلياً ونهائياً إلى "إسرائيل" يؤثر سلبياً في تلك المصالح لدى معظم الدول العربية، بعد أن أمنت على ذلك إما بالاحتلال المباشر أو بفرض الوصاية الشاملة، أو بربط مصير الحاكم وبقائه بالظل الأميركي المديد على أرض وطنه؛ ولذلك فهي تستمر في هذا الاتجاه دون ما قلق يذكر.‏
                        4- أن التحالف الذي تقيمه الإدارة الأميركية في المنطقة وترعاه وتضفي ظل "إسرائيل" عليه، وتزيد من تشعباته، وتنوعه باستمرار، مازال هو الأقوى، وأنها قادرة على الاستمرار في فرض أنواع من الحصار والتهديد لإبقاء الخصوم المحتملين في القبضة، وإبقاء الخارجين على الإرادة الأميركية داخل الطوق، وفي نطاق الاحتواء، أو داخل هوامش الأمان.‏
                        5- أن الإدارة الأميركية لا تخشى -حتى الآن- تغييراً اجتماعياً وسياسياً جذرياً يهدد مصالحها ومصالح حلفائها في المنطقة، إن على الصعيد العربي -العربي أو على الصعيد العربي- الإسلامي؛ ولذا فهي تمضي قدماً من دون أن تلغي الحذر، ودون أن يشكل ذلك الحذر قوة مؤثرة تجبرها على إعادة النظر بسياستها في المنطقة.‏
                        وعلى ذلك فإن زيارة أولبرايت للمنطقة لن تخرج "الزير من البير"، ولن تعزز ثقة مفقودة بين بعض العرب والكيان الصهيوني المحتل، ولن تؤسس لانطلاقة سياسية جديدة ونظيفة وسليمة للمفاوضات ومسارات " السلام "، تنبثق من منظور مغاير لما درجت عليه الإدارات الأميركية السابقة، ولما توصلت إليه حكومات الكيان الصهيوني المتعاقبة من سياسات واستنتاجات.‏
                        - قد يتم الإعلان عن وقف البناء في مستعمرة جبل "أبو غنيم" في القدس لتغطية التعاون بين سلطة عرفات وسلطة نتنياهو ولتعزيز ذلك التعاون، واستئناف المفاوضات في إطار أوسلو؛ ولكن ذلك لا يعني على الإطلاق وقفاً لبناء المستعمرة ذاتها ولا تقييداً من أي نوع لحركة الاستيطان في فلسطين عامة والقدس خاصة.فقد انتهت أعمال المرحلة الأولى التأسيسية في المستعمرة المشار إليها، ويحتاج الانتقال إلى المرحلة الثانية من المشروع إلى زمن، و"إسرائيل" تستثمر هذا الزمن استثماراً سياسياً لكسب الوقت من جهة وتوظيفه لتدمير البنية الشعبية الفلسطينية من جهة أخرى.‏
                        أما القول بوقف بناء المستعمرات فهو إن تم التقيد به ظاهرياً فإنما يتم لصالح توسيع المستعمرات القائمة على أساس احتياجات السكان الطبيعية والأمنية، في ظل "التزايد" السكاني المبرر بنظر "المجتمع الدولي".‏
                        - قد تتحرك المفاوضات الثنائية بين سورية والكيان الصهيوني، ليس من النقطة التي توقفت عندها في "واي بلانتيشن" بالضبط، وليس بالتغاضي التام عما حصل في تلك المفاوضات في " واي.." أيام رابين؛ ولكن ذلك لا يعني على الإطلاق إمكانية التوصل إلى اتفاق بين سورية والكيان الصهيوني.‏
                        - لأن ذلك العدو يؤسس يومياً لتهويد الجولان وتهويد القدس، وسورية معنية بالجولان وبالقدس.‏
                        - ولأنه يقيم سداً في الأراضي المحتلة من الجولان بالتعاون مع الأردن، سد العدسية؛ وسورية معنية بكل أراضيها وبأمنها المائي وبالأردن العربي خارج وادي عربة.‏
                        - ولأنه يحشد قواته ويهدد بتوجيه ضربة "ماحقة" لسورية، ويقول أحياناً بأنه "سيمسحها من الوجود"، وهذا التهديد الذي يعني استخدام الأسلحة ذات القوة التدميرية الشاملة والتهديد باستخدام النووي منها، لا يجعل سورية تطمئن إلى مستقبل ما في ظل بقاء الاحتلال وتصاعد تسلحه وتحالفه المعادي واستفزازه وأطماعه واستمرار مشروعه العدواني .‏
                        - ولأن احتلال جنوب لبنان لم ينته هو الآخر، وتدخل "إسرائيل" في لبنان، من خلال العملاء والموالين لها بالصهينة والأساطير والأحلام المريضة، لم ينته؛ وسورية لا يمكن أن تتخلى عن لبنان، و"إسرائيل" التي تشعر بمأزقها الحرج في الجنوب تريد من سورية أن تدفع ثمناً لخروج الاحتلال من الجنوب.‏
                        لهذه الاعتبارات والمعطيات القريبة، ولمعطيات "إسرائيلية- أميركية" - عربية، وإسلامية بعيدة وقريبة، أقول بأنه لا يمكن أن يكون سلام في هذه المنطقة مع وجود الاحتلال وسيادة له في أرض فلسطين، وأن الولايات المتحدة الأميركية لا يمكن أن تقبل لـ"إسرائيل" دوراً أقل مما ترشحها له في المنطقة والوطن العربي كله، والعرب من ذوي النظرة التي تذهب أبعد من الآني والراهن، وأبعد من "أرنبة الأنف"، وممن يتمسكون بالحق والمبدأ والكرامة لا يمكنهم أن يقبلوا أي نوع من التنازل عن الوجود والحق، ولا تهديداً مستمراً بأشكال مختلفة، ظاهرة وباطنة، يأتي من "إسرائيل" أو بسببها.‏
                        ولذلك كله فإن سحر الساحرة أولبرايت سوف ينحصر في إلقاء مزيد من الحطب والزيت على النار في زحمة تصاعد دخان البخور وأصوات "التعزيمات" الشريرة، ولن تجلب إلا مزيداً من النكسات والنكبات على المدى البعيد؛ لأنها، عبر تاريخها الطويل مع القضية الفلسطينية في مجلس الأمن، كانت الأكثر عداء وصلفاً وغروراً، والأكثر استخداماً لحق النقض "الفيتو" خدمة "لإسرائيل" ونيلاً من العرب.‏
                        إن الوطن العربي سوف يستقبل أولبرايت، وسوف يرحب بها بعض العرب ترحيباً حاراً، ويبتسم لها بعضهم بحذر، ولكن الجميع سوف يستقبلونها:‏


                        ومن نكد الدنيا على الحرِّ أن يرى‏

                        عدواً له ما من صداقته بد‏


                        إن المنحى الذي تأخذه السياسة، فن الممكن، في كل ظرف وآن، ينبغي ألا يحجب عن أعيننا ما ينبغي أن تأخذه الثقافة والمبدئية الاستراتيجية للأمة ممثلة بمفكريها ومثقفيها ومربيها وشرائحها الاجتماعية وقواها الحية، تلك التي تؤسس لقوة تدعم الحق وتحمي الوجود، وترى بتفاؤل واقعي ينبع من طاقات الأمة وقدراتها واستقراء تاريخها الطويل، وتعمل لامتلاك قوة محررة على أرضية العلم والإيمان والعمل بهما، وتذهب إلى المدى الأرحب والهدف الأصوب والوسيلة الأنجع في الدفاع عن القيم والمقومات والحقوق وأسباب الوجود والتقدم، وتعلي كلمة الحق بالقوة العادلة، ولا تجعل العدل رهينة بيد الإرهاب والقوة الغاشمة وسطوة الطامعين الحاقدين أعداء القيم والأمم والحقوق.‏
                        فهذا هو الذي يرد سحر الساحر، وشر الشرير، بل يرد السحر على الساحر، ويضع للحقد والطمع والعنصرية الصهيونية وللإرهاب الأميركي- الصهيوني، الذي يتذرع بردع "الإرهاب" مشوهاً صور المقاومة والحق والدفاع عن النفس كلها، حداً، وهو الذي يفرض احتراماً ومنطقاً وعدلاً في حياة لا يستساغ فيها شيء ولا يسوّغ فيها فعل إلا على أرضية الحرية والكرامة والعدل وقوة الحق والمنطق.‏
                        فهل نفتك بالسحر أم يفتك بنا السحر؟! إنه رهان المستقبل، ولا أشك في أننا سوف نفوز وننتصر.‏

                        الأسبوع الأدبي/ع576//6/9/1997‏

                        إذا الشعب يوما أراد الحياة
                        فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                        و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                        و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                        تعليق


                        • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                          تحية للمقاومة
                          التعاون والتنسيق الرائعان اللذان حققتهما قوى المقاومة الوطنية اللبنانية /حزب الله وحركة أمل/ مع الجيش اللبناني، أو تحققت لهم جميعاً، في معركة "الأنصارية" جنوب صيدا؛ أسفرا عن نصر للبنان والجنوب الأبي، وعن كارثة لحقت بقوات العدو الانتحارية من البحرية، التي كُلِّفت بتلك العملية العدوانية بعد ساعات من العملية الناجحة التي تمت في شارع "بن يهوذا" في القدس المحتلة، لترد بذلك شيئاً من الروح والثقة للشارع اليهودي الذي أصيب بالذعر ومازال، ولحق به المزيد من الذل وسيستمر ذلك إن شاء الله حتى يتحقق التحرير الشامل.‏
                          وتعيد تلك العملية الصهيونية الفاجرة، ضد الجنوب وقيادات المقاومة الوطنية فيه، تعيد إلى الأذهان عملية صهيونية أشد فجوراً وأكثر إخفاقاً وأعظم كارثية، هي تلك التي توجهت لتنفيذها في الجنوب قوات الاحتلال في مروحيتين اصطدمتا، ونفق جراء اصطدامهما أكثر من سبعين من العنصريين المعتدين، وهم في طريقهم لمهاجمة المصلين واختطاف قيادات من حزب الله في ليلة القدر من رمضان الماضي؛ وهي عملية خُطط لها أيضاً لترد بعض الثقة والروح للشارع اليهودي بعد إخفاقات وعمليات استشهادية إسلامية ناجحة في الأرض المحتلة.‏
                          وقد تعالت الأصوات في الكيان الصهيوني بضرورة الإسراع في الانسحاب من لبنان بعد كل من الكارثتين، ولكنها اليوم أشد وأوضح وأوسع انتشاراً، وتذهب إلى مدى المطالبة بتنفيذ ذلك دون انتظار لاتفاق.‏
                          وإذا كان لنا أن نستخلص من ذلك شيئاً نستفيد منه وننميه في صراعنا المستمر مع العدو، فإن ما نستخلصه يمكن أن يكون في منحيين يتكاملان:‏
                          المنحى الأول يذهب باتجاه العدو المحتل وتتركز استخلاصات ذاك المنحى في الآتي:‏
                          1- إن الاستمرار في استخدام القوة على أرضية الغطرسة وبأسلوب الغدر والاغتيال والعدوان المدبر سوف يستمر ضد العرب في الأراضي المحتلة، وضد المقاومة والأقطار التي ترفض الاستسلام للعدو. وهذا النهج الثابت النابع من الطبيعة العنصرية للصهيونية والمرتبط بها والمعبر عنها، هو الذي مكّنها من احتلال أرضنا والاستيطان فيها، والانطلاق منها لممارسة المزيد من العدوان ضدنا.‏
                          وقد استقر في ذهن اليهودي ومن يحميه ويشاركه عدوانه ومشروعه من الغربيين أن العرب يُضربون فيسكتون، ويضربون فيخضعون، ويضربون فيتنازلون ويزدادون تذللاً وخضوعاً واستسلاماً؛ وأنه لابد من استمرار وضعهم في هذا المناخ وإلا فإن كل تغيير فيه يجعلهم أكثر خطراً وأشد تصميماً على الرفض.‏
                          وقد دأب الكيان الصهيوني على ممارسة الإرهاب بأبشع صوره، والقيام بالعدوان تلو العدوان، والإمعان في الغطرسة والصلف وفرض الشروط على الآخرين، منذ بدأ مخططه في فلسطين إلى يوم الناس هذا.وما لم تكسر تلك القوقعة التي ينمو عدوانه ضمن مناخها وشروطها فإنه سيزداد عدواناً وصلفاً.‏
                          2- إن الشارع اليهودي: من فلسطين المحتلة إلى بروكلين في النيويورك يدرك جيداً أن أي هبوط في الروح المعنوية للصهيوني المحتل يؤدي إلى انهيار سريع في تلك الروح، وإلى موجة من الهجرة المضادة خارج فلسطين وإلى إحجام لدى من يرغّبون في المجيء إلى فلسطين للاستيطان تحت ظلال من الأمن وثمار الأراضي الصهيونية التي تنسج الأحلام وتُنسج في ظلالها الأحلامُ.‏
                          وفي محاولة مستمرة ومدروسة بعناية، على أسس من العلم والخبرة، يجري ترتيب الرد على أية عملية أو القيام بالعدوان، أو التخطيط لعملية لافتة للنظر مثيرة للخيال صانعة للوهم، من أجل المحافظة على المناخ النفسي لليهودي في تصاعد إيجابي: عدواني أو تفاؤلي.‏
                          والمتتبع لكثير من العمليات والممارسات والهجمات والحروب الصهيونية يجد أنها ترتبط بهذا المناخ أو تدفع باتجاه المحافظة على تصاعده، لأن في استمرار ارتفاع هذه الوتيرة استمرار لنمو المشروع الصهيوني بكل أبعاده، ولاسيما على الصعيد البشري استيطاناً وتمويلاً للاستيطان دافعاً باتجاه تحقيق الأسطورة باسم تحقيق: المعجزة.‏
                          3- إن "أسطورة الجيش الذي لا يقهر"، و"ذراع إسرائيل الطويلة"، أصابهما شيء من الهشاشة والصدأ، ولم يحالف التوفيق أولئك الساسة الذين يحاولون ترميم الأيقونة، وإعادة البريق والتقديس لها.‏
                          فمنذ حرب تشرين/ أكتوبر وأسطورة الجيش الذي لا يقهر تتهاوى شيئاً فشيئاً، على الرغم من ازدياد القدرات العسكرية وأنواع التسلّح ومخزون الأسلحة، وأنواع التحالفات. لقد صنع الصهيوني صورته "اللامعة" في حرب حزيران وعمليات مثل: "عنتيبي- مفاعل تموز- اجتياح لبنان وحصار بيروت- عملية تونس.. إلخ" وفي إحداث اختراقات سياسية وأمنية واكبها جميعاً تغطيات إعلامية نوعية في الغرب.‏
                          ولكن هذه الصورة أخذت بالتآكل شيئاً فشيئاً، فعبور الجيش المصري للقناة، ووصول الجيش السوري إلى طبريا واحتلاله مرصد جبل الشيخ في حرب تشرين، والخسائر التي مني بها جيش الاحتلال في لبنان وجعلته ينسحب حاملاً عار صبرا وشاتيلا وأشلاء بشير الجميل وحلم دولته واتفاقه البائس اتفاق /17/ أيار معه، ثم ارتداد العمليات العدوانية البشعة، التي قام بها، ارتدادها عليه سلبياً من عملية "سلامة الجليل" إلى "عناقيد الغضب" التي لطخته بدماء أبرياء "قانا" كل ذلك جعل الصورة تهتز وتتآكل لا سيما تحت ضربات المقاومة الوطنية: حماس والجهاد الإسلامي وحزب الله، التي تلت الانتفاضة المباركة وواكبتها.‏
                          إن تهرّؤ ذلك النسيج الصهيوني، وتهشم تلك الأسطورة، وخبوّ ذيَّاك البريق الذي لجيش الاحتلال والعدوان الهمجي؛ أخذ يؤثر تأثيراً سلبياً في المشروع والأحلام والتطلعات، ويريد غلاة الصهاينة أن يعززوا الحلم الصهيوني بتعزيز الحركة عن طريق استمرار الممارسة العنصرية والعدوان واستمرار تصاعد الأسطورة والذراع القوية.‏
                          ولكن لجم ذلك بقوة مضادة تحققها المقاومة، من جهة وبصمود في وجه المشروع والضغط والاستفزاز ورفض الاستسلام والانهزام تحققه سورية من جهة أخرى، أدى إلى مراوحة في المكان ثم تراجع ملحوظ؛ وهو ما نريده نحن وما لا يطيقونه هم؛ وعلينا أن ننمي ذلك الوضع وأن نستثمره، وأن نضاعف من قوى المقاومة والصمود لدينا، فهزيمة "إسرائيل" التامة هي هزيمة نهائية أما نحن فإننا نقوم من رمادنا ونتجدد بعد الانهزام إذ نحن في أرضنا مهودنا وقبورنا، فيها نموت وفيها نحيا، وعليها نبقى، أما هم وأمثالهم من الغزاة فعابرون لا جذر ولا أرض ولا تجدد لهم.‏
                          4- إن الأجيال الجديدة من الشباب اليهودي في فلسطين المحتلة، وتلك المستوردة إلى فلسطين حديثاً لها -فيما يبدو- حسابات وتطلعات وإمكانات تختلف نسبياً عن أجيال سابقة من الغزاة، وعلينا أن ندرك ذلك ونحسن التعامل معه، لا سيما في ظل تنازع القوى والتوجهات، وبروز التناقضات في ذلك المجتمع الهجين على أرضية التمييز "البَيْني".‏
                          أما المنحى الثاني فيذهب باتجاهنا نحن: باتجاه المقاومة والصامدين بوجه العدو والرافضين للاستسلام، والرافضين الاعتراف بحق تاريخي لليهود في فلسطين وبسيادة صهيونية عليها، والقائلين بانعدام إمكانيات التعايش والتطبيع مع الاحتلال وقوى الإرهاب والقهر والعنصرية، والنازية الجديدة؛ وأتوقف عند بعض الاستخلاصات في هذا المنحى مركزاً إياها بالآتي:‏
                          1- إن المقاومة المشروعة ضد العدو المحتل أثبتت حضورها وجدواها، وهي منذ سنوات تشكل الرد الموجع والمجدي على سياساته واتفاقياته وممارساته وعدوانه.‏
                          - فصمود الجيش العربي السوري في لبنان في أثناء الاجتياح الصهيوني له وبعد ذلك الاجتياح، وكذلك العمليات النوعية للمقاومة الوطنية اللبنانية في لبنان عامة والجنوب منه خاصة كل ذلك جعل القوات المتعددة الجنسيات، التي جاءت لتحمي ثمار اجتياح جيش العدو الصهيوني للبنان، واتفاق الجميّل-بيغن، جعلها تخرج من لبنان تجر أذيال الخيبة وتتراجع شيئاً فشيئاً عن مشروع إقامة دويلات طائفية حول "إسرائيل" وتفتيت دول المنطقة. كما أدت تلك المقاومة المدعمة بالوجود والصمود السوريين في لبنان إلى انسحاب العدو من لبنان.‏
                          - والانتفاضة الفلسطينية المباركة، بالحجر والعصا والسكين والخنجر والزجاجة الحارقة حولت جيش الاحتلال إلى شرطة، وعرّت الكيان الصهيوني بهمجيته ووحشيته ونازيته أمام العالم؛ وأوصلت الصوت الفلسطيني إلى الرأي العام كما لم يصل من قبل.‏
                          - والمقاومة الوطنية الفلسطينية/ المقاومة الاستشهادية النوعية للجهاد الإسلامي وحماس، حققت نقلة نوعية في المواجهة، وغيرت معادلة الخسارة البشرية بين القوى العربية المقاومة والقوى الصهيونية من أحد عشر شهيداً من العرب في مقابل قتيل صهيوني ونسب أعلى من ذلك بين الجرحى إلى شهيد بقتيل، ثم شهيد بعدد من القتلى والجرحى. وهزت الشارع اليهودي في فلسطين المحتلة أسماء من أمثال يحيى عياش وفتحي الشقاقي وعمليات مثل عملية بيت ليد وتل أبيب وعمليات القدس.‏
                          - وجاءت المقاومة النوعية والعمليات الاستشهادية لحزب الله في جنوب لبنان لتفرض حضوراً نداً للعدو، ولتحمي المواطن في الجنوب من العربدة اليومية للقوات الصهيونية في القرى والبيوت والشوارع والمزارع، ولتعيد الثقة والناس معاً إلى مواقعهم وقراهم ومدنهم، ولتعلن أنها قادرة على الرد وعلى فرض احترام حق المدنيين وأمنهم.‏
                          وأدى ذلك إلى تفاهم نيسان الذي أقر حق المقاومة في القيام بعمليات ضد قوات الاحتلال، وهو أمر لم يكن يقره: الغرب والولايات المتحدة الأميركية و"إسرائيل" وبعض العرب/ من التابعين أو الموقعين على اتفاقيات الإذعان الصهيو- أميركية. لأنهم كانوا يقولون: إن كل ذلك إرهاب مدان؛ ولكن تفاهم نيسان فرق بين الإرهاب والمقاومة الوطنية المشروعة ضد الاحتلال، فأقر حق حزب الله بالمقاومة، وشكل لجنة للنظر فيما يطال المدنيين من عدوان.‏
                          وهذه نقلة جديرة بأن نقف عندها، وفيها انتصار لحق شرعي دعت سورية إلى عقد مؤتمر دولي من أجل النظر في صيانته واحترامه، وهو حق مقاومة الاحتلال والتفريق بين ذلك الحق وممارسة الإرهاب.‏
                          إن هذا الذي أشرت إليه يركز على أرض الواقع حقيقة أن استخدام القوة بإيمان ومسؤولية وتصميم ووعي يثلم القوة المتغطرسة ويقيم للحق والعدل قواماً.‏
                          2- إن تعزيز مواقع المقاومين والصامدين ومناصرتهم ضد قوى ثبت للمرة المئة بعد الألف عدوانها وغطرستها وتشويهها للحقائق ونازيتها البشعة وتحالفها ضد الحق والعدل والبشر الذين يحملونهما أو يدافعون عنهما، هو واجب قومي وإنساني وحقاني.‏
                          وكما يحرص العدو على تعزيز الروح القتالية للمعتدين من أبنائه وتعزيز ثقتهم بأنفسهم وهم يمارسون الباطل، فإن الواجب يقتضي منا أن نعزز الروح المعنوية والقتالية وروح الصمود والتضحية لدى المقاومة الوطنية في فلسطين وجنوب لبنان، وأن نعزز سياسات الصمود والصامدين على المبدأ والثوابت والحقوق. وإذا لم نفعل ذلك بجدية واقتناع وجدارة فإننا نتحول إلى عبء على المقاومة وقوة إحباط لها ولعناصرها، وعامل دعم للعدو من حيث لا ندري ولا نريد. إن دخولنا في أناشيد بعض الأنظمة التي تخلط بين العنف من أجل الوصول إلى السلطة والعنف المضاد من أجل المحافظة على السلطة على أنه "إرهاب إسلامي" كما تقول الصهيونية والولايات المتحدة الأميركية والإعلام الغربي عن المقاومة المشروعة ضد الاحتلال الصهيوني على أنه "إرهاب إسلامي"، إن ذلك الدخول مدمر وغير مسؤول ولا يدل على وعي، ويميع المواقف ويؤذي المقاتلين والشهداء والقضية.‏
                          إننا نرفض الإرهاب: نعم، وندينه بكل صوره وأشكاله: نعم، ولا نسوغ بأي شكل من الأشكال ما يجري في الجزائر، وندعو إلى التدقيق والتمحيص في شخصية مرتكبي المذابح ضد المدنيين لأنها لا تدخل في أي باب ديني أو خلقي أو إنساني، ونشكك بهوية الفاعلين والمنسوب إليهم الفعل والصمت المريب على ذلك ومحاولات التغاضي عنه أو التمادي في ردود الأفعال على أرضيته. ولكن ما يجري ضد العدو الصهيوني المحتل لفلسطين وجنوب لبنان والجولان من مقاومة ليس إرهاباً ولا يمكن أن يكون إرهاباً؛ وهو إن مس "مدنيين" في القدس أو في سواها من الأماكن المحتلة فإنما يمس عملياً وفعلياً محتلين يعون جيداً أين هم، ومن هم، وماذا يفعلون حيث هم؛ ويمس عسكريين تحت الخدمة أو عسكريين تحت الاحتياط، فالمجتمع الصهيوني كله ثكنة عسكرية، وكل يهودي يأتي إلى فلسطين والأرض العربية المحتلة يأتي حاملاً مشروعه العدواني وعنصريته وسلاحه، ويعي أنه يقتل العربي ويسرق أرضه وداره، أو يطرده من أرضه وداره؛ وأنه إن لم يفعل ذلك فلا مستقبل له في هذه الأرض التي ليست له، ولا أمن ولا استقرار ولا توسع.‏
                          فعلى حساب من، ولمصلحة من، تكون النتيجة في هذه المواجهة؟! وكيف نسمي الأشخاص والأفعال والمواجهات والممارسات في ظل الشرائع والقوانين والتشريعات والأعراف؟!‏
                          إننا -فيما أقدر- مدعوون إلى مناصرة المقاومة في جنوب لبنان وفلسطين والجولان، ومدعوون إلى استلهام بطولات مقاتليها، وتخليد شهدائها، وتعزيز مواقفها ومواقعها، فهي رأس حربة الحق الذي ننادي به، وحق بلا حربة قول بلا معنى، وتهويم في فضاءات تبعدنا عن الأرض وعن الحق معاً.‏
                          - إن المقاومة النوعية، والصمود في المواقع على الأرض، وفي المواقف وعلى المبادئ /سياسياً وثقافياً/ يشكل في النهاية جبهة متكاملة الأداء، وأي ضعف أو ثغرة في موقع من مواقعه يؤدي إلى ضعف آخر وثغرة أخرى.‏
                          ولذلك فإن من يقاوم الاعتراف بالعدو وتطبيع العلاقات معه ولا يناصر المقاومة الوطنية ومواقف الصمود بوجه سلام الاستسلام، يقع في الهوة السحيقة بين الشعار الذي يرفعه والممارسة التي يمارسها، ولا يكتسب مصداقية من أي نوع، وهو أقرب إلى خيار آخر وموقف آخر عليه أن يراجع نفسه بشجاعة ليملكه ويعلنه ويدافع عنه، أما البقاء في حالة "الفُرْجَة" فهو بقاء في حالة انعدام الوزن، وانتظار محكوم عليه خلقياً وليس محكوماً له بأي حال من الأحوال.‏
                          إن المقاومين يدفعون أرواحهم ودماءهم ومستقبل أبنائهم من أجل قضية عادلة تهمنا جميعاً ونقول بها جميعاً، فكيف يموتون ولا نتحرك، ويصرخون ولا نستجيب، وينتصرون فنضع على وجوهنا قناع السرور خوفاً من أن يُقْبَض علينا متلبسين بالفرح؛ أو يقول عنا من يدين فعلهم ويصنّفه إرهاباً -من عرب وغير عرب- إننا ناصرنا الإرهاب، وشوهدنا نبتسم أو نفرح يوم انتصر؟!؟‏
                          3- إن دروس المقاومة ودروس الأمة منذ تشرين حتى اليوم تشير جميعاً إلى أن العدو والولايات المتحدة التي تحميه يتوقفون للتفكير والمراجعة عندما نكون أقوياء وعندما نهدد مصالحهم، وعندما نتمكن من الرد الناجح على العدوان والاستهانة. وهذا يدعونا إلى المزيد من التقدم في هذا الاتجاه، وإلى أن نتقدم بتعاون وتنسيق، إلى حيث المصير المشترك والهدف المشترك.‏
                          ومن دون الأخذ بمبدأ امتلاك القوة على أرضية العلم والإيمان معاً، واستخدامها بتصميم للدفاع عن النفس والأرض والحق والشخصية الحضارية للأمة، لا يمكن أن نحقق وجوداً أو احتراماً أو تمايزاً أو نوعاً من الأمن والعيش الكريم والحرية والتقدّم؛ وهاهي النتائج ودروس التاريخ واستخلاصات الحوادث والوقائع والواقع أمامنا، فلنحسن القراءة والتفسير والفهم والاختيار.‏
                          4- إن المحافظة على المناخ الإيجابي، روحياً ومادياً ونفسياً، لمقاتلنا، ورجل المقاومة من أبنائنا، والمنزرع في بيته وأرضه من أهلنا، والثابت على المبدأ والحق من مثقفينا وسياسيينا، والصامد من عسكريينا في مواقع القتال وجبهات المواجهة في ظروف صعبة وتحت ضغط أعباء اجتماعية صعبة أيضاً، هو من أهم ما ينبغي أن نحرص عليه ونحققه ونحافظ على بقائه. ولتحقيق ذلك سبل مادية ومعنوية، علينا أن نسلكها بمسؤولية وشجاعة.‏
                          وعلينا أن لا نغفل الرد على العدو في كل مجال للمحافظة على ذلك المناخ وإيجابياته "فالعين بالعين والسن بالسن" مما يندب المرء إليه دينياً ومكانياً وإنسانياً، "ومن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم".‏
                          فهل نكون مع أنفسنا ومقاومتنا وعقيدتنا وقضيتنا أفضل مما نحن عليه من حال في هذه الظروف والأحوال؟!‏
                          وهل تكون ثقافتنا، ويكون أدبنا أكثر إيجابية في التعامل مع هذا العطاء المتميز على طريق الحق والأمة: عطاء التضحية والبطولة والشهادة النوعية؟! سؤال يدوّم في فضاء معركة "الأنصارية" كما يدوّم في فضاء كل المعارك التي خاضتها المقاومة وخاضتها الجيوش العربية دفاعاً صادقاً عن الوطن والقضية.‏
                          وسؤال يدوّم، بما يحمل من إنسانية وجراح لحس العدل ومقام الحرية، في فضاء كل موقع جرت فيه مذبحة بشعة ضد العرب قام بها الصهاينة في فلسطين ولبنان وسورية والأردن ومصر وتونس... إلخ..‏
                          سؤال لا يكف عن التردد وتكرار الصدى:‏
                          من نحن وكيف نقاوم؟! من نحن وكيف نكون؟! من نحن وكيف نقول ونبني لنستعيد حقاً وحضوراً محترماً بين الأمم؟! و.. يا.. سامعين الصوت.. قولوا معي إن شئتم: تحية من القلب للمقاومة الوطنية في فلسطين المحتلة وجنوب لبنان والجولان: لمن نفذوا عمليتي القدس ولمن خاضوا معركة الأنصارية.‏
                          تحية للمقاومة وتعساً للإرهابيين الصهاينة ولمن يرعى الإرهاب الصهيوني لا سيما الولايات المتحدة الأميركية الراعي الأكبر للإرهاب .‏
                          تحية للمقاومة الوطنية ضد الاحتلال الصهيوني فمهما كان موقف "أولبرايت" وأميركا "أولبرايت" ويهود "أولبرايت"، وأياً كان ما يمكن أن تتوصل إليه أولبرايت سلباً أو إيجاباً، فمع بقاء الاحتلال تبقى المقاومة.‏
                          والمجد للشهداء.‏
                          الأسبوع الأدبي/ع577//13/9/1997‏

                          إذا الشعب يوما أراد الحياة
                          فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                          و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                          و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                          تعليق


                          • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                            جولة السيدة (إرهاب)
                            انتهت يوم الإثنين 15/ أيلول 1997 جولة السيدة "إرهاب" أو مادلين أولبرايت وزيرة خارجية الولايات المتحدة الأميركية إلى ستة من أقطارنا العربية، أحدها تحت الاحتلال الصهيوني-الأميركي، لا فرق أيضاً. وراوح تقويم تلك الجولة بين "الإخفاق" والاستكشاف الناجح، وإيصال رسالة أميركية لقادة المنطقة، ونجاح لا تلبث أن تظهر نتائجه النسبية لاحقاً؛ والاختلاف في التقويم ناتج عن اختلاف المواقع والمعلومات والتطلعات والأحلام والتحليلات لأصحاب الآراء والأحكام والاستنتاج.‏
                            أما السيدة "إرهاب" -وأرجو أن تعذروني فقد تماها اسمها وهذه المقولة في ذهني لكثرة ما رددت تلك الكلمة في لقاءاتها- فقد اكتفت بالاستطلاع الواقعي والطلوع الواقعي على الناس مع نفي قدرتها على ممارسة: السحر.(؟!) وقد لاحظت واقعيتها ذات الأنياب والأظفار، وعلمت أنها واقعية تلجأ إلى العض في الوقت الملائم، وهو ما عبرت عنه هي في حديثها إلى الجنود الأميركيين الموجودين في الصحراء السعودية.‏
                            وقد انصبت تلك الواقعية على أمور جوهرية هي الهدف الرئيس من هذه الجولة:‏
                            1- تدمير الشعب الفلسطيني وليس مقاومته فقط، وذلك بجعله يذبح بعضه بعضاً بنسبة 100% وعلى مدى أربع وعشرين ساعة في اليوم وثلاثمئة وخمسة وستين يوماً في السنة. وتحويل عرفات إلى "سلوقي" حبل عنقه بيد نتنياهو، يطلقه متى أراد ويشبحه متى أراد، ويتحكم بلقمته ليوجه خطاه.‏
                            وقد حددت أولبرايت الهدف الأول للجولة بالتركيز على وضع حد "للإرهاب" وحددت الأسلوب: بالقضاء على البنية التحتية للمقاومة الفلسطينية -والعربية عموماً- بوصفها "إرهاباً" موجهاً ضد "السلام" الذي تحرص الولايات المتحدة على استتبابه في المنطقة حفاظاً على "مصالحها" الحيوية فيها.‏
                            كما أكدت مفهومها للبنية التحتية وما تطلب القيام به ضدها، حيث قالت:‏
                            "ولا أعتقد أن من الصعب تعريف ماهية البنية التحتية للمنظمات الإرهابية. إنها أساساً البنية التي تخطط وتنفذ وتعمل من أجل تقويض عملية السلام، إنها التي تعمل بكل الطرق لعرقلة عمل الذين يحاولون إيجاد جو جديد."(1)‏
                            والمستهدف علناً هي قوى الشعب الفلسطيني خاصة والعربي عامة التي تعمل على التحرير وتمارس المقاومة وترفض سلام الاستسلام واتفاقية أوسلو ووادي عربة، وعلى رأس تلك القوى: حماس والجهاد الإسلامي وحزب الله؛ وما يطلب من عرفات القيام به يطلب من سواه المساعدة على تحقيقه بالوسائل المتاحة جميعاً، ومنها دعوة وزراء دول مجلس التعاون الخليجي لمنع تحويل أية تبرعات أو مساعدات يجمعها مواطنون عرب يؤيدون المقاومة أو يتعاطفون مع آلامها وتضحياتها. وقد أكدت أولبرايت بالوسائل الممكنة وبالأساليب كلها عزم الإدارة الأميركية على وضع ثقلها كله وراء هذا الموضوع، وأنذرت بأنه لن تتم خطوة نحو "السلام" ما لم يقضَ أولاً على ما تسميه "الإرهاب".‏
                            الرسالة واضحة تماماً: اذبحوا بعضكم بعضاً ثم تعالوا إلينا أشلاء!!! وعندها لن يبقى منا ما يمكننا من المطالبة بشيء، وتسوى القضية فعلاً بالهزيمة المنكرة التي نلحقها بأنفسنا.‏
                            2- وفي مسار مواز تماماً لهذا المطلب أكدت أولبرايت أو جاءت لتؤكد مساراً قديماً جديداً متجدداً، تراه يتلازم مع المسار السابق، وهو وقوف الولايات المتحدة المطلق، وانحيازها التام، للكيان الصهيوني في كل الظروف والأوقات لا سيما في هذا المجال.‏
                            ولم يخل التعبير عن هذا المسار من موقف شخصي للسيدة "إرهاب"، لا يعبر عن التعاطف مع "إسرائيل" وتأييدها والانحياز لها فحسب، بل يعبر بحماسة وعمق وحرارة عن الانتماء إليها وحمل مشروعها.‏
                            ويغوص في الوهم، أو يريد أن يدفعنا إلى الغوص فيه كل من يحاول إظهار شيء من الحياد أو التوازن في موقف أولبرايت في هذا الشأن؛ أو من يتراءى له أنها وزير خارجية دولة ترعى "المفاوضات" بنزاهة ويمكن أن تنظر نظرة موضوعية، أو تقف على الحياد. إنها دولة شريك كامل للمحتل، وحليف دائم له، وحام مطلق لممارساته كلها، فكيف تملك موضوعية أو حياداً أو تعبر عنهما.‏
                            فلندقق في هذا المقتطف من كلام أولبرايت المتوهج، الذي قالته يوم 11/أيلول 1997 لطلبة كلية الفنون والعلوم بالقدس المحتلة:‏
                            "أذكر كيف انتابني شعور بأن شيئاً عظيماً حقاً قد حدث، في اليوم الذي سبق بلوغي سن الحادية عشرة عندما ولدت دولة إسرائيل الحديثة.‏
                            هذا المعلم البارز في التاريخ، تلك الولادة المعجزة، كانت نتاج التزاوج بين التضحية الأليمة والعقيدة الصلبة.‏
                            ومنذ ذلك الربيع قبل نحو خمسين عاماً، أصبح الحلم المحفِّز على قيام دولة " إسرائيل " المستقلة، المزدهرة الآمنة، يتحرك بثبات نحو الواقع ومن بقاع العالم المختلفة جاء الأشخاص الموهوبون وذوو الشخصيات المميزة للمساهمة بطاقاتهم في اقتصادكم، وللمساهمة بمعرفتهم في ثقافتكم، وببسالتهم من أجل الدفاع عنكم.‏
                            ومن الصحراء، أخرجت الأسر الإسرائيلية بلداً من المزارع المنتجة والعمال المهرة وأعمالاً حرة نشطة. (....) إن إسرائيل لا تزال شريك أميركا الاستراتيجي، ولا يزال التزام أميركا بأمن إسرائيل بصلابة الصخر، وسيبقى كذلك. وإذا كان هناك أدنى شك، دعوني أبدده الآن: ستقف أميركا وإسرائيل جنباً إلى جنب، وكتفاً إلى كتف، اليوم، وفي العام القادم، وخلال القرن القادم، وطالما أشرقت الشمس"(2).‏
                            فهل هذا كلام شخص محايد، أو يمثل راعياً محايداً، أم هو كلام منتم شديد الحماسة لمشروع يراه يتفتح ويريد له أن يستمر ويكتمل، بمعاني الاستمرار والاكتمال كلها، وهو المشروع الصهيوني- العنصري- الاستيطاني- التوسعي- التلمودي؟!‏
                            لقد قالت أولبرايت في أثناء زيارتها لمتحف "يادفاشيم" في القدس المحتلة في اليوم ذاته وبعد أن ذرفت الدموع "يجب أن نتذكر أن لا دم أرخص من دمنا(3)" وهي تعني دم اليهود -وهي من رؤوس حرابهم العنصرية - الذي قيل إنه استرخص في أيام النازية .. التي هم اليوم ورثتها بجدارة وامتياز؛ ولم يسجل التاريخ أن العرب هم الذين "استرخصوا دم اليهود" -هذا بحسب الأسطورة المضخمة عن ذلك، وحسب قولهم هم- وإنما هتلر هو الذي فعل ذلك؛ فلماذا يسترخص الصهاينة والمتصهينون الغربيون دم العرب؟! ولماذا ينسون معاناتهم إذا كانوا صادقين ويفرضون معاناة وحشية على أهلنا في فلسطين والجولان وجنوب لبنان؟!‏
                            ألا يستدعي هذا منا، أن نقول لأنفسنا عنّا في صراعنا مع هذا العدو النازي "يجب أن نتذكر أن لا دم أرخص من دمنا" أيضاً!؟!‏
                            3- الهدف الثالث من جولة أولبرايت هو حث مصر ودول مجلس التعاون على حضور مؤتمر الدوحة، وتخويفهم من إيران، تنفيذاً لما يتفق عليه التحالف الدنس بين "إسرائيل- والولايات المتحدة الأميركية- وتركيا- والملك حسين" ضد سورية والمقاومة اللبنانية والفلسطينية وإمكانية دعم إيران لهم في الصراع العربي-الصهيوني الذي بقيت سورية ومن يؤيدها ومن تؤيدهم في ساحته الساخنة- الصامدة وقد نجحت أولبرايت في تأكيد مشاركة مصر بصرف النظر عن مستوى المشاركة الذي سوف يعزز فيما إذا حصل تقدم في مسار المفاوضات أما دول مجلس التعاون، وعلى رأسها السعودية -باستثناء قطر- فقد ربطت مشاركتها بحدوث تقدم في مسارات التفاوض.‏
                            وأظن أن تحسناً شكلياً سيطرأ على المسارات وسينعقد مؤتمر الدوحة لأن فيه خدمة للولايات المتحدة- إسرائيل، وما يخدم مصالحهما يخدمه العرب، بإخراج ملائم للأمور.‏
                            4- أما الهدف الرابع في الجولة فهو استطلاع في الفضاء السوري- اللبناني، وتعرف وزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية على الرجل الهادئ الصامد في دمشق، الذي يحرك خيوطاً فاعلة وأوراقاً هامة من دون ضجيج: الرئيس حافظ الأسد.‏
                            وأولبرايت أو السيدة "إرهاب" التي كانت ممثل الإدارة الأميركية في الأمم المتحدة، ومجلس الأمن، أسمعتنا صوتها في أكثر من مناسبة متهمة سورية بالإرهاب ثم برعاية الإرهاب، وبتحريك الإرهاب مع إيران في جنوب لبنان؛ وأولبرايت وطاقمها بمن فيه من جديد وقديم يحاولون ترجيح كفة تخمين على تخمين: هل يريد الرجل "سلاما ً" حقاً، أم أنه يناور بالسلام؟! وهي المقولات الصهيونية المختلف عليها في "إسرائيل"؟!.‏
                            أولبرايت تريد أن تعزز موقفها المسبق من سورية بمعرفة مباشرة لتحارب أكثر ولتخدم أهداف الصهيونية بشكل أفضل؛ وأولبرايت تعرف أن هذه القلعة العربية الصامدة في سورية هي القلعة الأخيرة، وإذا أمكن نقض بعض معمارها أمكن هدمها، أو اعتلاء أسوارها لإعلان الحصار والانتصار؛ ولكن هل ذلك ممكن؟! وكيف؟! هل يمكن انتزاع اعتراف "بإسرائيل" من سورية يساوي كل الاعترافات العربية السابقة وينهي الصراع، ويؤسس للمرحلة القادمة من المشروع الصهيوني المشروع الذي يشعل شمعة الأمل المتقدة في قلب الصهيونية أولبرايت؟! القدوم إلى دمشق.. قدوم إلى الهدف الأهم المرجأ- المقدم على نحو ملتبس إذا ما قرأنا القناع، والواضح من دون أدنى لبس إذا سقط القناع وقرأنا الوجه.‏
                            سورية أكدت ثوابتها، والسيدة "إرهاب" أضمرت استنتاجاتها، ولكن الاستعداد الدائم لاستئناف مفاوضات السلام من النقطة التي توقفت عندها في "واي بلانتيشن" والعودة الأميركية إلى مرجعية مدريد ومبدأ "الأرض مقابل السلام"، بعد تناوم أميركي خبيث يهدف إلى إنجاح مقولة نتنياهو "الأمن مقابل السلام، أو السلام مقابل السلام " سوف يدفعان -في تقديري- باتجاه عودة المفاوضات حسب صيغة توفيقية بين نقطة " واي ..." أخذ ما تم فيها بعين الاعتبار، أو تذكُّر ذلك في أثناء المفاوضات المنتظرة.".‏
                            لقد انتهت جولة السيدة "أولبرايت- الإرهاب" واجتمع قادة عرب وتواصلوا، وسوف يجتمع وزراء الخارجية العرب في العشرين من الشهر الحالي، وسينشط الجانب الأوربي في الاتصالات والتحرك استكمالاً للمسار الأميركي، مع بعض الهوامش، وهو مسار مواز متربص ممسوك أميركياً، ويتمتع بهامش مناورة بهدف التحريك والدفع إلى الأمام.‏
                            فما الذي يمكن أن تسفر عنه تلك الجولة "الواقعية" من فعل على الأرض؟!‏
                            - سوف تلتقي لجنة عرفات مع لجنة نتنياهو في واشنطن وسيعلن عن تقدم.‏
                            - ويعمد نتنياهو إلى إخراج الأسرتين الليكوديتين اللتين دفعهما للاستيطان في حي باب العمود بالقدس ليوهم أنه قام بفعل "جبار" لمنع الاستيطان ولوضع حد له امتحاناً منه لعرفات المدعوّ للبطش بالمقاومة الفلسطينية.‏
                            ويحول -وقد حول فعلاً- جزءاً من استحقاقات سلطة الحكم الذاتي المالي التي بحوزة "إسرائيل" من الضرائب التي تجبى من الفلسطينيين.‏
                            - وسيتم لقاء بين مفاوضين سوريين و"إسرائيليين" في واشنطن لجس النبض، تمهيداً لاستئناف المفاوضات وسيضخم الإعلام الصهيوني- الأميركي هذه الإنجازات فيعلن العرب -إلا من رحم ربك منهم- عن اقتحام مؤتمر الدوحة: وتنتصر قطر على العرب "الغجر" الذين لم "يفهموا جيداً" معنى أن تريد: "أميركا- إسرائيل"، لا فرق، وبين أن يريدوا هم!؟!‏
                            وسندخل في دوامة استنزاف وقت وجهد ومال، وندمر الزمن الذي يستغله الصهيوني والأميركي لبناء قوة تدميريَّة قوية، وإقامة أحلاف، ونخر بُنى اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية، عربية؛ ونلهو ونحن نباد، أو تباد قوى المقاومة والصمود منا، وتتضاءل الآمال بتآكل الأفعال.‏
                            ويبقى أن نؤكد ما ندعو إليه ونأمل أن تعمل انطلاقاً من عِبَرِه، وهو:‏
                            - أن المشروع الصهيوني-الاستيطاني مستمر ويزداد شراسة وصلابة.‏
                            - أن الولايات المتحدة دولة معادية لآمالنا وتطلعاتنا ومصالحنا، ولا ترى فينا سوى أعداء لها ولشريكها - حليفها في احتلال أرضنا واستنزاف ثرواتنا، وتأخير صحوتنا وتعويق كل قدراتنا على الوجود والبناء والتقدم.‏
                            - أن بعث الحياة في المشروع القومي: تضامناً أو اتحاداً أو وحدة أو عملاً عربياً مشتركاً من أهم المداخل إلى التغيير؛ في إطار مراجعة علمية شجاعة وجذرية للتجارب المجهضة والصيغ الموضوعة المجرّبة والمحتملة التجريب، في هذا المجال، لنشمخ بالعروبة والإسلام معاً، في سيرة جسد وروح وتكاملهما الخلاق.‏
                            - أن استمرار المقاومة ودعمها، وامتلاك العلم والإيمان، والعمل انطلاقاً منهما لامتلاك التَّقَانَة والتصنيع الشامل والقوة المنقذة -المحررة- الحامية لوجودنا ومصالحنا؛ هو ما ينبغي أن يقدم على كل ما سواه.‏
                            وهذا لا يعني المطالبة بسياسة جامدة، وشعارات تنفخ أوداجنا وتملأ فضاء أقطارنا، وعدم التحرك في مرحليات "تكتيك" مدروسة، بل يعني التمسك بالثوابت والمبادئ ورؤية المنقذات من الأعمال والأمور والتوجهات، في عالم لا يحترم إلا الأقوياء... الأقوياء في كل شيء.‏
                            وفي كل مجال.‏
                            وإننا مدعوون للتأمل فيما تنطوي عليه جولة السيدة "إرهاب" من إرهاب.‏
                            دمشق في 16/9/1997‏
                            الأسبوع الأدبي/ع578//20/9/1997.‏

                            (1) - نشرة السفارة الأميركية بدمشق رقم 5537 تاريخ 23/9/1997 ص12.‏
                            (2) المصدر السابق ص3.‏
                            (3) المصدر السابق ص 16.‏

                            إذا الشعب يوما أراد الحياة
                            فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                            و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                            و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                            تعليق


                            • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                              إطلالة عربية بعد مؤتمر وزراء الخارجية
                              لم يتخذ مؤتمر وزراء الخارجية العرب الذي انعقد مؤخراً في القاهرة /20-22/9/1997/ قراراً نهائياً بشأن المشاركة أو عدم المشاركة في مؤتمر الدوحة الاقتصادي، وترك ذلك الأمر مفتوحاً في اتجاهين:‏
                              - التقدم الذي قد يطرأ على مسار المفاوضات الثنائية مع العدو الصهيوني، لا سيما في المسارين: الفلسطيني والسوري.‏
                              - ما يقرره كل قطر عربي في ضوء مصالحه وتوجهاته واختياره، بوصف المشاركة قراراً يتصل بالسيادة؛ أي سيادة الدولة القطرية.‏
                              وكاد المؤتمر يقول: إن الأمر مبكر على اتخاذ قرار- حتى لو استطعنا اتخاذه- لأن نتائج جولة الوزيرة أولبرايت في المنطقة لم تظهر بعد، ولأن اللقاءات المقررة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وتلك المحتملة بين "الإسرائيليين" والسوريين لم تعقد بعد؛ وعليه فإن معطيات كثيرة وهامة سوف تأتي من واشنطن، وسيكون لها تأثير حاسم في اتخاذ القرار: العام والخاص، سلباً وإيجاباً، وعلى الصعيدين: القطري والقومي، في هذا المجال.‏
                              أما الكلمة الأوضح دلالة والأكثر دقة في التعبير عن الوضع العربي المتعلق بالمؤتمر فقد جاءت على لسان أحد المسؤولين القطريين بعد انتهاء أعمال المؤتمر إذ قال ما معناه: "إن موضوع انعقاد مؤتمر الدوحة الاقتصادي والمشاركة فيه يتقرر في واشنطن" وهو لا يقصد إطلاقاً تعلق التقدم في الانعقاد والمشاركة بالتقدم في المفاوضات الثنائية بين العرب والصهاينة وإنما يقصد أن واشنطن مصدر هذا القرار دولياً وعربياً.‏
                              ولا نستطيع أن ننكر ما لواشنطن من تأثير في القرار العربي العام من خلال بعض الأقطار العربية، كما لا ننكر ما لها من تأثير في القرار القطري "السيادي" بالنسبة لبعض الأقطار العربية؛ ونحن نعلم جيداً أن الوضع السائد عربياً قبل جولة السيدة أولبرايت كان يتجه نحو مقاطعة مؤتمر الدوحة، وقد خرجت تصريحات مصرية وسعودية على الخصوص مؤيدة للموقف السوري في هذا المجال؛ ولكن زيارة أولبرايت جعلت تلك المواقف تترجح بين النقض والتثبيت، إلى أن انعقد مؤتمر الوزراء وسمعنا الوزير عمر موسى يقول: سيترك أمر المشاركة في مؤتمر الدوحة الاقتصادي لقرار كل دولة عربية.‏
                              ليس غريباً ألا يتفق وزراء الخارجية العرب على أمر بهذه الحساسية والخطورة، فقد اختلفوا سابقاً على أمور وقضايا أشد حساسية وخطورة من مؤتمر الدوحة، فقد اختلفوا حول النظرة إلى الصراع العربي الصهيوني وطبيعته، وحول حرب الخليج الثانية والأولى، وحول المقاطعة العربية قبل التطبيع وفي إطاره... وحول... وحول... إلى درجة أننا نكاد نتساءل متى اتفقوا، بل متى تحول اتفاقهم إلى فعل ناجز على أرض الواقع؟! فقد كانت هناك "حاضنة" للخلاف أو لإجهاض الاتفاق، وسواء كانت "ماما واشنطن" اليوم أم "ماما موسكو" أمس إحدى الحواضن فإن ذلك لا يغير من النتائج شيئاً!؟‏
                              مؤتمر الدوحة الاقتصادي مصلحة أميركية، والمصلحة الأميركية مصلحة صهيونية- إسرائيلية، وما هو مصلحة أميركية - "إسرائيلية" هو شيء " مقدّس" عند أصحاب تلك المصلحة، ومن ثم عند بعض العرب، ولا يلبث أن يصبح عربياً على نحو ما بطغيان السلب أو الإيجاب؛ ومن الطبيعي أن ينساب وحي القداسة السياسية وتأثيرها من مصادر القرار التي تحكم قرار بعض العرب أو توجهه.‏
                              مؤتمر الدوحة الاقتصادي هو المؤتمر الرابع في سلسلة مؤتمرات اقتصادية بدأت في الدار البيضاء ثم القاهرة ثم عمان، وعقدت برعاية واشنطن وتأثيرها، وجاءت على هامش المفاوضات المتعددة الأطراف التي انبثقت عن مؤتمر مدريد وفي إطار تعزيزها، وكانت كلها في خدمة "إسرائيل" إذ سارعت خطوات التطبيع الاقتصادي بينها وبين أقطار عربية، وفتحت باباً للشراكة والاستثمار، ودفعت باتجاه إضعاف تأثير "الدولة القطرية" عربياً على رأس المال الخاص والعام في حمى الخصخصة المستشرية، وأطلقت عنان نوع من التجار والتجارة/ وطنهم ووطنها/ القرش وليس الشعب والأرض والثقافة والعقيدة، يقومون بالاستثمار حيثما توفر ربح وتوفرت "حماية وتوفر استقرار، أو وعد بحماية واستقرار؛ ولا يأبهون لوطن يسرق ودم يراق وعرض يهتك ومقدسات تستباح وأرض تنهب، فالربح ربهم الأعلى، ومقدسهم مفترَش الدولار والدينار والشيكل، لا فرق ما دامت سوق تحويل العملات مفتوحة.‏
                              لقد انعقد كل من المؤتمرات الثلاث في ظروف عربية صعبة، وفي ظل أزمات في المفاوضات، وذرا متصاعدة من الصراع بين المقاومة والعدو الصهيوني، وكانت تقدم الأعذار والمسوغات وتلتمس التماساً وتعبأ بها الشوارع والأدمغة والساحات، وينعقد المؤتمر ويخدم "إسرائيل" وينال بعض العرب بعض الفتات؛ وسوف ينعقد المؤتمر الرابع - مؤتمر الدوحة- وتلتمس له المسوغات وتحشى بها الأدمغة والساحات والشوارع؛ ولم لا فهل الدوحة أقل أهمية عند واشنطن وتل أبيب من عمّان؟! لا.. وحق النفط والغاز وما بينهما من ألغاز، فكما تعاقدت "إسرائيل" مع قطر على شرائهما تشتري في الأردن ما طاب لها من أرض وتقيم ما شاءت من صناعات وسدود على الماء المقدس؛ وكما تأخذ من مصر، منذ كامب ديفيد، /80%/ من حاجتها من النفط تأخذ من المغرب تسهيلات سياسية وما خفي كان أعظم، ولم لا يتواصل عرب من العرب مع هذا النوع من العطاء السياسي- الاقتصادي، أليست المصلحة فوق الانتماء، والتجارة فوق رابطة الدم، ويد الولايات المتحدة اليوم هي العليا؟! وما الذي يردعهم أو يصدهم عن القيام بذلك.. أهو القوة: "وإسرائيل" تملك منها ما يفوق كل ما يملك العرب، وتتهدد بقوتها النووية سورية وتتوعدها بالمحو من الوجود((؟!؟)) كما تحتل بقوتها الأرض وتهود القدس وتعمل على هدم الأقصى وتمارس العدوان، وتهدم البيوت وتريد أن تجتث بنى المقاومة التي تسميها هي وأولبرايت والمتضامنون معها من العرب: إرهاباً.‏
                              إن مؤتمر الدوحة مرشح للانعقاد بضغط أو إغراء أو إرهاب أميركي- صهيوني، لا فرق؛ ومجرد انعقاده انتصار لسياسة التطبيع ولنهج "إسرائيل" التوسعي العنصري؛ وحينما يربط أمر انعقاده "بالكرامة" الوطنية، كما يفعل التحريض الإسرائيلي- الأميركي الآن مع قطر، فإن أهل قطر "سيدافعون عن كرامتهم الوطنية" ضد أمتهم العربية، ويعقدون المؤتمر مضحين بالغالي والرخيص في سبيل النصر المؤزر، ومن أجل الانضمام لطريق المنتصرين الكبار، وانعقاد مؤتمر الدوحة سوف يذري بكل ما قاله العرب، منذ قمة القاهرة الأخيرة إلى مؤتمر وزراء الخارجية من كلام حول وقف التطبيع وتطبيق المقاطعة والوقوف تضامنياً ضد سياسة حكومة نتنياهو، وسوف يعيد التضامن العربي الذي انتعش قليلاً في قمة القاهرة وبعدها إلى حالة من الانتكاس لا نعرف متى نخرج منها. ذلك أن هذا المؤتمر يأتي دعماً لإسرائيل في إحدى ذرا تعصبها وتطرفها وممارساتها الوحشية ضد المقدسات، وتهديدها للحق العربي، ولجوئها إلى تحالفات خطرة من شأنها أن تضع المنطقة على حافة انفجار جديد.‏
                              ولم تقتصر مآثر الجولة الأولبرايتية على هذا التأثير في مؤتمر وزراء الخارجية العرب بشأن مؤتمر الدوحة الاقتصادي، وإنما مهدت لخطوة ثانية أراها خطرة بما يلفت النظر ويشدّ الاهتمام، وهي نظرة العرب، ومصر من دون العرب، إلى التحالف التركي- الإسرائيلي- الأميركي، والمناورات التي يجريها الساحل السوري؛ فقد ألمحت مصر بعد زيارة سليمان ديمريل لها أنها لا تعطي أهمية لهذه المناورات ولا ترى خطورتها كما أنها لا تجد في "التعاون" أو الاتفاق- وليس التحالف- التركي الإسرائيلي خطراً، وأنها على استعداد للوساطة في هذا الشأن بين تركيا- وسورية!؟!؟) .‏
                              ليس غريباً منطق الوساطة، بل هو يكاد يكون أقل غرابة من الوساطة الفعلية التي تمت بين عرفات ونتنياهو وأسفرت عن الإخفاق بسبب نتنياهو طبعاً؛ الغريب أن يتم التغاضي عن تصاعد التحالف التركي- الإسرائيلي الموجه ضد سورية بالدرجة الأولى، وأن لا يرى من ذلك التحالف سوى المناورات بينما حقائق الأمور تشير إلى تنسيق وتعاون تحالفيين وصلا إلى وضع الأسلحة النووية الإسرائيلية تحت قيادة طوارئ مشتركة مع تركيا، بعد أن تجاوزا موضوع تطوير الأسلحة وإنشاء القواعد العسكرية- للطيران- والتدريب المشترك جوياً وبحرياً، والتعاون أو قل التكامل الأمني، ووضع الخطط لضرب سورية وإيران، والعراق إن اقتضى الأمر.‏
                              في مؤتمر وزراء الخارجية العرب الأخير برزت مؤشرات سيكون لها مدلول مستقبلي في اتجاهين:‏
                              - مدى التعاون العربي- العربي، أو قل التضامن على أرضية من الجدية والثقة والمسؤولية.‏
                              - مدى التأثير الأميركي- الصهيوني في القرار العربي / العام والخاص / القطري والقومي.‏
                              وإذا كانت اللمعة الإيجابية التي أعلن عنها، وهي ما يتعلق يلفت الانتباه الدولي- في ظل دورة الأمم المتحدة- إلى أن العرب يمكن أن يخرقوا الحصار المفروض منذ سنوات على الجماهيرية بالسماح لرحلات تقل العقيد القذافي أو الرسميين الليبيين أو الحجاج أو المتصلة بحالات إنسانية خاصة باجتياز الحدود العربية؛ فإنها أقرب إلى الصرخة الإعلامية في مؤتمر حاشد لإسماع الصوت ولفت النظر بهدف جعل الآخرين يهتمون جدياً بموضوع الحصار؛ وهو أمر طيب بحد ذاته، ولكن أن يصل الأمر بالأقطار العربية إلى تنفيذ ذلك الإعلان، لا سيما بعد الغضب الأميركي- البريطاني، فهو أمر مشكوك فيه تماماً؛ ومبرر الشك ينبع من استقراء تجارب وقرارات عربية سابقة ابتلعتها الأقطار أو الجامعة عندما اصطدمت بعدم الرضا الأميركي فكيف وهي تصطدم بالغضب؟!.‏
                              من المؤسف أن نقول ذلك، ومما يدعو لأسف أعمق وأشد، أننا نقول ذلك استناداً إلى رصيد الخبرة والتجربة في مواقف عربية كثيرة ليس آخرها موضوع التوقيع على اتفاقية الأسلحة النووية، والمطالبة بأن توقع "إسرائيل" التي لم توقع ولن توقع.‏
                              ونحن نقول ذلك والألم يعتصر قلوبنا، إذ إننا نتطلع منذ زمن طويل إلى وقفة عربية واحدة جادة تضع للاستهانة بنا وبمواقفنا وتصريحاتنا حداً، وتجعل الآخرين يحسبون حساباً لنا؛ ولكن ذلك لا يتم رغم طول الانتظار ووجود المسوغات كلها لحدوثه، إننا غيوم الصيف وزمجرات الأسود في الأقفاص، وما نرغب فيه انطلاقة ما يغسل فيها المطر نفوساً أوْحَلَت وقلوباً صدئ فيها الدم وأرواحاً تخفق في فضاء يضيق ويضيق ويضيق.‏
                              إن خرق الحصار الظالم المفروض على الشعبين العربيين في العراق وليبيا من الأمور المطلوبة، وهو حصار ذو جدار عربية سميك، ويمكن نقب هذا الجدار العربي على الأقل في وقت تصرخ فيه جامعة العرب بأنه أصبح لا يطاق، وأنه ينطوي على ظلم ونتائج وخيمة تصيب الشعب والأطفال والأجنة في الأرحام، فهل يسكت العرب على هذا وهم يشعرون أن مستقبل الشعب في بعض أقطارهم يعاقب؟!.‏
                              إنه سؤال الحق والعدل مثلما هو سؤال القومية والانتماء، وسؤال الإنسانية وقيمها مثلما هو سؤال العقيدة الإسلامية وما توجبه على أبنائها والمؤمنين بواجباتها.‏
                              لقد انفض مؤتمر وزراء خارجية الدول العربية، وسيذهب أكثرهم إلى مقر الأمم المتحدة، وسيلتقي بعضهم بأولبرايت، وسيعودون للانعقاد في فترة لاحقة، قد تسبق مؤتمر الدوحة الاقتصادي؛ ولكن هل سيكون هناك قرار عربي ملزم مرعي التقيد باحترام والتزام تأمين، في أية دورة من دورات اجتماع الوزراء؟!.‏
                              وهل تكون هناك قدرة عربية على فرض قرارات قومية تعلي المصلحة العربية العليا على مصلحة الأقطار، أم أن التفلَّت القطري سيبقى قائماً، وتشكل القطرية بذلك صيغة اعتراضية على القومية، وقوة معطلة للعمل العربي المشترك، والموقف العربي الواحد؟!.‏
                              وهل يكون هناك إيمان عربي بأن الخلاص يكون قومياً، أو لا يكون؛ فلا يوجد خلاص قطري من أي نوع، فأقطارنا عاجزة عن الحضور المتكامل في ظل التكتلات الكبرى وزحف العولمة، وأقطارنا عاجزة عن أن تحل مشكلاتها بمفردها، وأنها لا تستطيع أن تكون إلا تابعة ومنهوبة ومستلبة إذا بقيت تنظر من ثقب الباب ولا ترى الفضاء الذي يحيط بكل ما أقامته من عمران وجدران. العمل العربي المشترك، والتضامن العربي، بل الاتحاد والوحدة، لم يعد كل ذلك مطلباً للقوميين أو الوحدويين بوصفهم أشخاصاً تشدهم العواطف والحماسة ويتوقون إلى تفصيل الدولة القومية وإلباس ثوبها للآخرين؛ إن ذلك كله غدا أحد الشروط الرئيسة للإنقاذ أو للاستنقاذ العربيين، وأحد المقومات الأساس لوجود قادر على التواصل والتفاعل مع الآخرين في عصر التحولات والتطورات المذهلة الذي نحن فيه، فهل ننظر إلى هذا الأمر من منظور المصلحة العربية العليا، ومن خلال ما يشكله عدم قيامه من مخاطر على الوجود والهوية والعقيدة والمصالح والثروات وحتى على السياسة والكرامة والنظام القطري، وليس من منظور "المأخوذين" بهاجس الوحدة أو الاتحاد أو العمل العربي المشترك في سياق وجودهم التاريخي؟! إن نظرة عربية جديدة لما هو مطلوب بإلحاح، وإن لقاء مسؤولاً بين تيارات المفكرين والساسة، لا سيما التيار القومي والإسلامي لهو واجب في ظروف تهدد الجميع.‏
                              وإن وعياً عربياً- إسلامياً شاملاً، للذات وللآخر، في ضوء الصراع والمصالح، لما هو ضروري بإلحاح، وإن فيه إنقاذاً حتى لمن ينظرون نظرة أنانية ضيقة، فلن يخلصهم إلا خلاص أمتهم، ولن يهب لهم الإحساس بالكرامة إلا وطن حر كريم وأمة قادرة على المواجهة بكل أشكالها وصورها.‏
                              وإننا على ذلك قادرون، ولكن... هل نريد..؟ وهل نواجه بشجاعة من أجل تحقيق ما نريد؟؟!.‏
                              إن السؤال مطروح علينا جميعاً من دون استثناء.‏
                              دمشق 24/9/1997‏
                              الأسبوع الأدبي/ع579//27/9/1997.‏

                              إذا الشعب يوما أراد الحياة
                              فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                              و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                              و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                              تعليق


                              • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                                روح تشرين المنعشة
                                أربعة وعشرون عاماً مرت على حرب تشرين وما زال في الآفاق منها صدى، وما زالت نتائجها تستذكر وأيامها تستعاد والدروس المستخلصة منها تدخل في الحسابات السياسية والعسكرية؛ ولولا المغالاة لقلت إننا ما زلنا نحصد بعض زرعها ونستاف الزؤان الذي فرش به حقلنا بسبب منها.‏
                                في تشرين اقتحمنا بجيشين نسّقا معاً- السوري والمصري- تحصينات العدو وخطوطه التي أقامها في أرضنا التي احتلها عام 1967، واخترقنا تلك التحصينات والخطوط، واندفعنا لنحرر الأرض الطيبة؛ ولكن من خاضها بهدف التحريك توقف عند ضفة قناة السويس بعد العبور الظافر، ومن خاضها بهدف التحرير توقف عن التقدم بسبب الضغط الذي تحول على جبهته وأخذ موقع الدفاع بدل الهجوم واضطر إلى التراجع في بعض المواقع.‏
                                "إسرائيل تحترق" كلمتان من غولدا مائير رئيسة وزراء الكيان الصهيوني عبرتا عن الموقف الذي كان للعرب في الأيام الأولى للحرب والموقف الذي كان للعدو؛ وعلى إثر تلك البرقية التي أرسلت للرئيس الأميركي تحرك أكبر جسر جوي عرفه التاريخ حتى ذلك الوقت، وتدفقت القوات والمعدات والتجهيزات والمساعدات على الكيان العنصري تزيده قوة وتدفعه للغطرسة على أرضية القوة.‏
                                وبينما كان السادات يأمر بتحرك يشبه التوقف سماه "المدْحَلَة الروسية"، كان كيسنجر يُعدُّ عدته للعمل بفضل ناقوس الخطر الذي قرع في الغرب كله، لا سيما في واشنطن، بعد استعمال العرب لسلاح النفط جزئياً في المعركة وظهور تضامن عربي دام ستة أشهر لا غير.‏
                                تم ترتيب عقل السادات أولاً، وفي الخيمة /101/ بدأت كامب ديفيد فعلياً، إذ في زحمة ذلك الموت الأصغر واستمرار حرب الاستنزاف على الجبهة السورية كان السم اليهودي يسري في جسم مصر من خلال توجه رئيسها آنذاك نحو قبول "إسرائيل" شريكاً كامل الشراكة في مستقبل المنطقة، وطرفاً في "سلام" تنسج خيوطه على مهل .‏
                                وبين القطع العسكرية المنتشرة على ضفتي قناة السويس - إسرائيلية ومصرية- تقدمت شاحنتان إسرائيليتان كبيرتان تحملان معدات زراعية وخبراء صهاينة توجهتا إلى مزرعة السادات في "ميت أبو الكوم" لتقدما عربون صداقة سوف يعلن عنها ولتقيما ظلال زراعة نبت على فروعها ثمر كامب ديفيد المر الذي ما زال يهري مِعَد الساسة العرب ويفري كبد الوطن العربي على نحو ما.‏
                                أسس كيسنجر لعلاقة يهودية- ساداتية أخذت تنمو، وأسس قوات التدخل السريع وشرع يحرث في أرض العرب بخبث يهودي وضغط أميركي إلى أن حقق بسياسة الخطوة خطوة ما أراد أن يؤسس: بداية فرقة للصف تمهد سيطرة على المنطقة وفرض لوجود إسرائيل بكل أنواع القوة التي يمكن التفكير بها: سياسة وعسكرية واقتصادية..الخ.‏
                                في تشرين استعدنا القنيطرة إثر حرب الاستنزاف- أكثر من سبعين يوماً- وخسرنا أرضاً سواها، واستعدنا ثقتنا بأنفسنا وخسرنا مصر التي من دون حضورها في ساحة القرار العربي لا تكون حرب.‏
                                وحين شكل السادات "سلمه" ومضى فيه ثم مضى إلى قبره، أدرك العرب وأدرك الغرب وأدرك الصهاينة حقيقة قول كيسنجر المختصر: "لا حرب من دون مصر، ولا سلام من دون سورية" وما زلنا في دوامة هذا الوضع الذي ساد بعد حرب تشرين.‏
                                لم تكن كامب ديفيد مدمرة لفرص بناء القوة العربية على أرضية قرار التحرير وحسب، وإنما قوضت فرص الوحدة والاتحاد والتضامن على الرغم مما قام من صيغ عادية وعلا من أصوات تدعو إلى التضامن. لقد اكتشفت الأنظمة العربية منذ ذلك التاريخ طعم ارتياد الحانة الغربية الصهيونية على انفراد والشرب حتى الثمالة والترنح بين أيد تحرص على أن تعيدها إلى الفراش وتحميها بين سكرة وفكرة، بين سبات وصحو، وتبقيها خارج السرب العربي وهي على مشارف الأمان والثقة بالقدرة على الاستمرار في هذا السياق من الفعل والنشوز "الاستقلالي" الخارج على كل التزام قومي وكل مسؤولية تاريخية حيال الأمة والقضية من جهة، والمنقذ لكل مقوم من مقومات الأمن من جوع وخوف يضفيه اطمئنان الجزء في حضن الكل- القطري في ظل القومي- من جهة أخرى.‏
                                وما بين وقع المحنة في مواقع الامتحان وتطلع الأمة إلى الخروج من مآزقها على أمل ما كان لها من مكان في الزمان، كان اشتعال النيران يزداد في محارق وبؤر حساسة أتقن الأميركيون والصهاينة توزيعها وتغذيتها واستثمارها.‏
                                - في لبنان بدأت الحرب التي أكلت الطوائف واستقرت في الطائف بعد أن نفت منظمة التحرير للمرة الثالثة، وشغلت سورية بها عن نفسها، ووضعتها في مواجهة أعقد ملف تضع إسرائيل نفسها طرفاً فيه.‏
                                - في المغارب بدأت حرب البوليزاريو من أجل "الاستقلال" عن المغرب تفتك بالمغرب العربي كله وتتوازع قواه، وتشغل أقطاره في صراع خاص يحول دون مشاركتها في الصراع الأساس صراع العرب مع العدو الصهيوني.‏
                                - في الشرق دخل العراق حرباً مع إيران جعلت كلاً من العراق وإيران ودول الخليج العربي تستنزف بلا حدود طاقة وثروة وجهداً وزمناً، وتعطي ظهرها للقضية المركزية- قضية فلسطين.‏
                                بدأت الحرائق تلف الأقطار العربية وتنشر دخانها في سماء الأمة، وفي ظلال تلك الحرائق الكثيفة دفع الغرب القوة المتعددة الجنسيات- طلائع قوة التدخل السريع- لتحمي مشروع الجميّل- بيغن، اتفاق 17/أيار الذي يؤسس لدولة بشير الجميل المحمية إسرائيلياً والمعتمدة غربياً، ليدخل منها إلى تفتيت سورية والأردن على أسس طائفية، ويقيم سياجاً من فسيفساء دول المدن تكون نجوماً في الفَلَك الإسرائيلي المتحالف مع الولايات المتحدة الأميركية، وليسدَّ معظم ساحل المتوسط في وجه سورية ويحشوها في الصحراء.‏
                                في ذلك الامتحان الغربي- الصهيوني لكامب ديفيد "صمد اتفاق كامب ديفيد" ولم تحرك المحنة العربية أكبر دولة عربية- مصر- لتكون إلى جانب أمتها على الرغم من اجتياح لبنان واحتلال بيروت وحصارها وفرض اتفاق /17/أيار عليها بالدبابة الإسرائيلية التي حملت بشير الجميل إلى قصر "بعبدا"، وبهذا اطمأن الغرب واطمأنت الحركة الصهيونية إلى أن "كامب ديفيد" أصبح أقوى من العلاقة التاريخية بين مصر وسورية، وأقوى من أن تزعزعه شراكة السلاح والدم التي قامت في حرب تشرين/أكتوبر 1973.‏
                                واعتقد الغرب أن الاستفراد بسورية سوف يحل وتجنى ثماره "اليانعة" ولكن سورية فوتت ذلك على المتآمرين وأسقطت اتفاق /17/أيار، ودعمت المقاومة الوطنية اللبنانية وأخرجت بالتعاون معها قوات التدخل السريع من لبنان، وضاع الحلم الصهيوني- الأميركي- البابوي، وارتفع لبنان فوق المؤامرة والجراح مثبتاً انتماءه العربي، مستمراً في مقاومة نوعية للوجود الإسرائيلي في الجنوب.‏
                                وحين أصبحت قوة التدخل السريع الأميركية- الغربية جاهزة للعمل ومستعدة لأخذ مواقعها في منابع النفط العربي تم استدراج العراق لاحتلال الكويت، وتم تدبير الفخ الرابع أو الخامس للعرب بعد: حرب لبنان- وكامب ديفيد- وحرب الخليج الأولى مع إيران- ومشكلة الصحراء المغربية وكانت حرب الخليج الثانية التي قضت على قوة العراق، وقسمت الشارع العربي وأضعفت التضامن فيه إلى أبعد الحدود، واستنزفت أموال العرب كلها وحققت الاحتلال المباشر لمنابع النفط العربي في الخليج والجزيرة حيث أصبح الوجود الأميركي حاسم النفوذ يتحكم بضخ النفط وتسويقه وتسعيره، ويبعد شبح ما حدث في أشهر ستة بين تشرين 1973 ونيسان 1974/ عمر التضامن العربي الفعال الذي استخدم سلاح النفط استخداماً جزئياً في المعركة وأعطى نتائج هائلة سياسياً واقتصادياً.‏
                                لقد زرع العرب في تشرين وما تلاه من أشهر معدودات الخوف في نفوس الغربيين والبرد في أوصالهم ووصلوا حدود استقطاب دول العالم الأخرى وحملوا فلسطين إلى الأمم المتحدة بصفة مراقب، وأخذوا يجنون ثمراً سياسياً طيباً.. ولكن ذلك المد توقف بتدبير صهيوني- أميركي- غربي مشترك.‏
                                وما إن وضعت حرب الخليج الثانية أوزارها، حتى فرض على العرب مؤتمر مدريد الذي كان ملغّماً بنهج كامب ديفيد ليعطي مزيداً من الاتفاقيات على غراره، ويحدث مزيداً من الفرقة كما أحدث، وليقضي على كل أمل قد تهب به رياح ذكرى تشرين بتضامن وتنسيق وعمل عربي مشترك يضع التحرير هدفاً واستخدام القوة أداة لتحقيق ذلك الهدف.‏
                                وها هي النتائج التي أسفرت عنها مدريد تحقق من جديد ما حققته كامب ديفيد: فاتفاقية أوسلو تقضي على القضية وتضع الفلسطينيين أداة بيد الإسرائيليين لقتل الفلسطينيين وتصفيتهم وإبادة روح المقاومة؛ وها هي وادي عربة تضع الأردن- حسب نص الاتفاق- خارج أي التزام عربي/ثنائي أو جماعي/ من شأنه أن يعادي إسرائيل أو يهددها أو يفكر بشن حرب عليها أو لتحرير الأرض العربية المحتلة والإنسان العربي المقهور.‏
                                وها هو العربي ينظر إلى العربي في قفص الحصار، أو في دائرة الضغط وكماشة الأحلاف، فلا يستطيع التعاطف معه بَلْه تقديم العون المادي والمعنوي له في محنته ومواقع امتحانه.‏
                                وها هي مجرد المناشدة العربية الجماعية بتخفيف الحصار جزئياً على ليبيا إلى أن يتبيّن الحق بعد أن طال الظلم تواجه باحتجاج غربي يجبر بعض العرب المنضمين إلى تلك المناشدة يبحثون عن أبواب تملص مما قالوه، ويتبرؤون من "الخطيئة" التي وقعوا فيها وهم داخل "سياج" الجامعة العربية تتغشَّاهم مشاعر قومية.‏
                                موقع تشريني واحد ما زال صامداً، وامتد صموده شيئاً ما ليشمل مواقع مجاورة: إنه الموقع السوري الذي لم يَنْصَعْ للضغط الأميركي، ولم يخفه التهديد "الإسرائيلي"، ولم يذهل عن نفسه ولا عن حقه والتزامه بفعل التحالف الأميركي- التركي- الإسرائيلي، الذي يضغط من اتجاهات ثلاثة في مناخ تهافت عربي لا يضيء شمعة في ليل صحراوي قارس.‏
                                وهذا الموقع الذي يتعشَّق الجولان أرضاً وتاريخاً وفلذة كبد وذكرى عزيزة على الوطن والأمة، فيه مثوى الشهداء ومواقع العزة والبؤس.. هذا الموقع يصبر على فقد الجولان مئة سنة أخرى على أن يفرط بالكرامة والمكانة والمشروع القومي الذي يشكل هو قلبه ونبضه.ويقدّم من أجل تحرير الجولان والإرادة والقرار عطاء بلا ضفاف، ويتحمل مسؤولياته القومية حيال المقاومة في لبنان، وحيال لبنان: الهوية والانتماء والتحرير والتقدم ضمن البيت العربي والصف العربي.‏
                                يقول بعض الأميركيين الصهاينة إن سورية لا تستطيع أن تغير الوضع- عسكرياً- في الجولان ولو بعد مئة سنة؛ وتقول سورية إن الجولان سيبقى عربياً وسيعود سورياً ولو بعد مئة سنة. ولا أرى سوى القوة قادرة على حسم هذا الصراع حول الجولان ذلك الذي بدأ في حزيران 1967 واستشهد في تشرين 1997 وسيحسم لمصلحة أمتنا وقطرنا في عقود أو سنين.‏
                                إن أي تفاوض كان حول الجولان يعيده إلى سورية "سلماً" وينهي نتائج حزيران ويعيد روح الثقة التي ولدت في تشرين لن ينهي إلى الأبد الصراع العربي الصهيوني ومسوغاته، فهو لم يبدأ أصلاً بسبب الجولان، ولم يقم أساساً في تشرين، وإنما هو صراع حول فلسطين ومن أجلها، وحول مستقبل الأمة العربية ومن أجلها ويوم يستعيد العرب شيئاً من الوعي القومي بأهمية التضامن وفعاليته يستطيعون استعادة روح تشرين التي كانت توحي بروح حطين واليرموك، وتقدم درس التاريخ حياً ذاك الذي يقول: إذا اتحدت سورية ومصر وتعاونتا على أمر جمعتا العرب حولهما وحققتا تقدماً ونصراً، وإذا تدابرتا وفصل الأعداء بينهما حيل بين الأمة وبين أن تحقق شيئاً جدياً مما تتطلع إليه.‏
                                وإذا كان تشرين ووقائع تاريخية أخرى مما سبقت الإشارة إليه قد مكن الأمة من فعل شيء إيجابي، فإنه يثير بالقدر ذاته حنق الحانقين على الأمة ويؤجج نار حقدهم عليها؛ ولذا فلا مناص من استخلاص عبر ودروس تجعل الأمة، إذا ما تعاونت بعض أقطارها أو تضامنت، تدرك أن التآمر المعادي سوف يستخدم الوسائل الممكنة جميعاً لتفريقها وشغلها عن الهدف الرئيس، وكل ما يمكن أن نستخلصه اليوم من عبر تشرين يلخص في: التضامن العربي الشامل، والقرار العربي الخالص، والقوة العربية المحررة، والإيمان بقدرتنا على الأداء في ظل امتلاكنا "للحق الساطع والشعب الواسع" وهو ما لن يملكه العدو في يوم من الأيام. ونحن مطالبون في تشرين بتذكر ما خلقه من مناخ عربي إيجابي، وقيم اجتماعية جعلت الشارع العربي يشعر بأنه جسد واحد وقلب واحد وبيت واحد، وما أكده من قدرة العربي على الأداء النوعي عندما يملك المبادرة والثقة، وما حققه العربي في تشرين من وعي ومجاوزة لعوامل الإحباط وارتكاس النكسات.‏
                                وأرى أن من واجبنا ونحن في الذكرى الرابعة والعشرين لتشرين التحرير أن نترحم على أرواح الشهداء الذين قضوا فيه، من أجل الوطن ومن أجلنا نحن، ومن أجل أن نصدع بالحق؛ وأن نرفع لجيشنا العربي وقيادته في كل من سورية ومصر، ولكل من شاركهم من جنود الأقطار العربية/ فلسطين- العراق- الجزائر-المغرب/ التحية والشكر والمحبة، فنحن بهم نقوى وبهم نحرر وبهم نأمن، وبهم نرفع صوتنا بالتحرير واستعادة الحق والمكانة.‏
                                فلتبق روح تشرين الخيرة التي لا تبلى بيننا متجددة بنا، تنعشنا وتدفعنا إلى التقدم بثقة وأمل على أرضية العلم والإيمان والعمل بهما.‏
                                والله الموفق‏
                                30/9/1997‏

                                الأسبوع الأدبي/ع580//3/ت1/1997‏

                                إذا الشعب يوما أراد الحياة
                                فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                                و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                                و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                                تعليق

                                يعمل...
                                X