إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

الاختلاف والائتلاف في جدل الأشكال والأعراف

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الاختلاف والائتلاف في جدل الأشكال والأعراف

    الاختلاف والائتلاف في جدل الأشكال والأعراف

    - طراد الكبيسي -

    مقالات في الشعر- من منشورات اتحاد الكتاب العرب 2000

    لا. مُقدّمة
    نحو شعرية حضارية جديدة شعرية اللامألوف: صراع الذات في العالم
    خــلاصات في الشــــعـر "الآن"من أجل كسر الصمت:قصيدة النثر: بين التوهّم والحقيقة
    الرؤية النقدية في الاختيارات الشعرية مدخل
    الأيقونة اللفظية في القصيدة السينيَّة مُقدَّمة/ خارج النص:
    المماثلة الأيقونية في نونيّة المعري:
    قضية الشعر النسوي ( من... إلى نازك الملائكة)
    صورةُ المرأةَ في ذاتها
    لغةٌ للصَحْوِ... لغةٌ للغيم!قراءة في (الأعمال الشعرية)، للشاعر:
    الجواهري: صراع القديم والجديد في شعره 1- الجواهري وعمود الشعر:
    نزار قبّاني:
    آخِرُ هدايا المُعلّم الثالث: البياتي(1) "نصوص شرقيّة"(2)

    إذا الشعب يوما أراد الحياة
    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

  • #2
    رد: الاختلاف والائتلاف في جدل الأشكال والأعراف

    لا. مُقدّمة
    هل ينبغي أن تكون مقدمة لكلِّ كتاب؟‏
    الكلُّ يقول: نعم!‏
    لكنّني أتساءل: لماذا ينبغي لزوم مالا يلزم؟ فأنا -مَثَلاً- فيما يضمُّه الكتاب هذا، لم يَعُدْ لديَّ ما أقوله. إنها مجموعة مقالات تتحدَّث عن نفسها بنفسها. أمَّا "أنا" فقد غَدَوْتُ خارجها. شأْني معها، شأن أيّ قارئ. حين أُراجعها قد تسرُّني أو لاتسرُّني. قد أتأوّلها، قد أجدها مؤوَّلة بنفسها.‏
    أنا قارئٌ -الآن- قد أستلُّها من مكتبتي حين أجد فيها مايُعينني في بحثٍ، أو مراجعةٍ، أو استذكار... وقد لاأراها بعد يومي هذا، في زمني هذا... وإلى الأبد!‏
    إذن. معذرةً.‏
    فهذه: لا. مُقدَّمة!‏
    طراد الكبيسي‏
    9/9/999‏

    إذا الشعب يوما أراد الحياة
    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

    تعليق


    • #3
      رد: الاختلاف والائتلاف في جدل الأشكال والأعراف

      نحو شعرية حضارية جديدة شعرية اللامألوف:صراع الذات في العالم


      -1-

      [I]في ملحمة جلجامش وفي القصة التي يُسميها كريمر (أول أيّوب)() وفي سفر أيوب وكتب المراثي ومحن المدن والرجال... الخ نجد الصراع الأزلي بين ثنائيات من نوع: الموت/الحياة، الخير/الشر، الإنسان/القدر. الوجود/اللاوجود... الخ مجسّداً عبر خطايات ذات منحى تحليلي -تركيبي لمشكلات الإنسان في الوجود. بحثاً عن الحقيقة في مسألة الوجود المنعدم، أو محنة أن نكون ولانكون في آن واحد. ونخص، هنا بالذات، خطابين رئيسين في هذا الموضوع. خطاب ملحمي تحليلي وصفي. وخطاب ذاتي- نبوئي: الأول يستغرق في مسألة الكائن في الوجود. والثاني ينشغل في مسألة الوجود -اللاموجود، أو الذي هو في سبيل أن يكون موجوداً.
      طبعاً، لايعني هذا أن الخطابين منفصلان، انفصالاً كلياً عن بعضهما، أو أنها لايتداخلان مع بعضهما، كما لايعني كذلك أننا معنيون بميتافيزيقيا الوجود، بل بما يمحي الوجود. أي بالمُنْزاح من بُرَه الوجود، أو هذا "الشيء" الذي يشكل تاريخاً لهذا الوجود: الإنسان. فالذي لاشك فيه، دائماً يجري تشطيب/ امحاء لهذا الوجود. ومحنة أو مهمة الشعر "الآن" كما كانت منذ القديم فيما نعتقد، قراءة هذا الممحي- المنفي عن المدن الفاضلة! المنسي، أبداً، بين الترحال والنسيان والمحْوِ ومجهول البيان، وماوراء القراءة، وخلف الاستعارة!
      هذا "الشيء" المُختبئ داخل الغابة المظلمة، وبين طيّات تراب الأرض، والعشب من قبل أن تلتهمه البهائم لتحوله إلى روث. هذا الذي يراد تهميشه أو عدم الاعتراف به، والذي لايظهر في الكلام الخطّي، لكن لايظهر بدونه. إنه الذي يأتي من الصمت ويعود إلى الصمت، كما يقول ملارميه -أو أنه الصوت القادم تحمله رمال الصحاري والمجاهل، لكن البدويّ يسمعه عندما يلصق أذنه بالأرض: أصواتٌ قادمة، مجهولة، تحمل له الفرح أو الخطر، وصورٌ تُشكّل مالا يُرى على نحو ما نجد في قصص الخَلْق؛ والمعارج في المجهول حيث تمّ تشكيل الخلق الأول: الكون، الإنسان، الجنّة والجحيم، السموات والأرضين. المعرفة. الأغاني، الكتابة والأشعار.. لقد أنصتوا إلى صوت الطين، والريح، والشجر، والماء، والطير، والقصب.. فأنشأوا.. شعراً، لغةً. وحضارة.
      فمنذ البدء كان يُنظر إلى الشعر/ الكلام على أنه قادر على تحقيق استكشافات كثيرة. فبالشعر تأسس العالم، وبدون الشعر، يبدو العالم جافاً ناقصاً، لأن الشعر -كما قال ورد زورت، (نَفَسُ المعرفة وروحها المرهفة)([ii]) وقد جُعلت الألفاظ هي ماتُسمّي الأشياء، وأن تُسمّي الأشياء يعني أن تدعها تُوجد. وبهذا يكون الشعر هو (التسمية التأسيسية للكائن ولجوهر الأشياء)([iii]) فمن
      خلال السيطرة المذهلة للشاعر على الكلمات، يُؤسس ويُوجد، ويستكشف، المخفيّ" في المرئي([iv]).

      طبعاً، نحن نتحدث "الآن" في نهاية قرن/ القرن العشرين/ والنهايات غالباً. ماتبعث شعوراً بالزوال والتغيّر، والامتداد. وإذا كان المستقبل يتغذّى مما لم يتحقق في الماضي والحاضر ومما هو غير متوقع، كما قال البيريس (ص8-9) فإن ما تعرّض له أواخر القرن العشرين من هزات مدمّرة وأزمات ذات تحولات عميقة ومُعقدة على مستوى العلوم والآداب والفنون أو السياسة والاقتصاد والقوى النافذة في العالم. وماتعرّض له الوطن العربي على المستويات نفسها، كان خطيراً وكارثياً. حيث بات يصعب معه، التنبؤ بما سيكون عليه الحال في القرن القادم.
      بل ثمة إحساس فاجع تجاه الواقع (الحاضر) وخوف من فقدان القُدرة على امتلاك مصير القادم. لعدم امتلاك أي إحساس تاريخي عنه.
      ومع أننا، بشكل عام وعلى مستوى العالم. نرى أن الزمن القادم سيكون أكثر توجّهاً نحو حقول العلوم والتكنولوجيا، لكننا، كعرب، لانعرف حظّنا من هذا. ولانعرف كيف موقع الشعر واتجاهه. ومن هنا، حين أستعيد الظروف المولّدة للحداثة ومقوّماتها على جميع المستويات، أشعر بأننا اليوم. ربما بحاجة لأن نبدأ من حيث بدأت أو حيث بدأت. فالشعور بجدب اللغة والخيال، والقلق حول موقع الشعر في محيط تطورات العلم والتكنولوجيا، والمتغيّرات السياسية والاجتماعية والفكرية والأيديولوجية والشعور بتحطم كل شيء في عالم لم يعد يقوى الشعر فيه على الاعتماد على أيّ مبدأ يقع خارج ذاته.. كلّ هذا وسواه، يدفع باتجاه القلق والعزلة([v]).
      إن الشعر الحديث الذي ظهر في وسط ثقافي برجوازي، أوربي، ثم في عالم ثالثي عربي يواجه اليوم وسطاً طفيلياً معادياً لكل ماهو جوهري في الثقافة. فاللغة أصيبت بالتشويه، والتفسّخ، والكتابة مثل زقاق غير نافذ في مجتمع مسدود، على حدّ تعبير، رولان بارت، وبات الشعر/ المثقف مُغربّاً عن نفسه ومجتمعه وثقافته([vi]). ولا أحد يدري ماستؤول إليه الحال نهاية هذا القرن. إلا إذا كانت نهاية تهكميّة، كما ذهب ريجارد هولسنْبك Richard Huelsenbeck في قصيدته (نهاية العام) -1916 التي تبدأ:
      (هذا ماآلت إليه الأشياء في هذا العالم
      تجلس الأبقار على أعمدة التلغراف تلعب الشطرنج،
      والببغاء ذات العُرْف تحت تنورة الراقصة
      الإسبانية، تنشد بحزن كحزن بُوقي
      مقر القيادة والمدفعية، وهو يندب طوال النهار)([vii]).
      بمعنى، مطلوب من الشعر والشاعر في المناخ الاجتماعي والسياسي والثقافي والاقتصادي العربي والعالمي الراهن، أن يعيد وضع نفسه، أو يستعيد ظروف الحرب العالمية الثانية وما أعقبها، حيث انطلقت حركة الحداثة- متأخّرة خمسين عاماً في الأقل عن أوربا -في الشعر والقصة والرسم والنحت وإعادة قراءة الموروث العربي الثقافي في منهجيات جديدة، إضافة إلى اشتداد حركة التحرر من المستعمر الغربي. والاستفادة في الوقت نفسه، من الموروث والثقافة الغربية المعاصرة.
      ألا يجد المثقف والمواطن العربي نفسه، ومنذ أوائل التسعينيات، يعيش ظروفاً سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية، مماثلة إلى حدّ كبير، لتلك الظروف، حيث عودة الهيمنة الامبراطورية والتبعية الثقافية والتمزق الاجتماعي والثقافي وانهيار وتدمير معظم القيم الفكرية والجمالية والأخلاقية وعدم جدوى الكثير مما هو سائد.. وأنه بحاجة إلى "انتفاضة" جديدة تعيد للمواطن كرامته، وللمثقف حريته، وللمؤسسة الثقافية دورها، وللأمة العربية "جغرافيتها" في حضارة أو حداثة العالم في القرن القادم!
      -2-

      إذا أخذنا بنظر الاعتبار ما يمر به العالم، والعالم العربي خاصة، في هذه المرحلة مما يمكن تسميته بـ (أزمة أخلاقية) تماثل إلى حد كبير، الأزمة التي عاشتها أوربا إبان وبعد الحرب العالمية الثانية، حيث الإحساس بضياع كل شيء، وحيث البؤس والتعاسة يهددان مستقبل الإنسان. فالسؤال نفسه الذي طرحه كُتّاب، أمثال: مالرو، سارتر، كامو، سيمون دي بوفوار، فيركور، جان آنوي، هنري ميللر، أراغون.. الخ: كيف يُعبر الإنسان عن مسؤوليته في عالم عبثي. يواجه الكاتب العربي اليوم. وأظن أن الإجابة نفسها هي ماينبغي أن تكون. أي: رغم كل الشر والقلق والدناءة والقبح والخراب والقمع الذي يسود حياة المجتمع العربي، يظل التمسك بالشرط الإنساني في الحفاظ على ماتبقّى، مسؤولية الكاتب([viii]).
      حقاً إن الطفيليات نمت وتنمو بشكل خطير، والتمييز بين أدب حقيقي، وأدب زائف، بات أمراً صعباً ومُحيراً، لكن لابد من مواجهة الواقع بتنشيط الخيال، وتفعيل الصور، وتعميق أبعاد الرؤية، والجرأة في طرح الأسئلة، ومعاناة البحث عن الإجابة. أي من الضروري مواصلة أن نكون مُحدثين بصورة مطلقة، كما قال رامبو.
      لقد كان لمعظم الشعراء والجماعات الشعرية التي ظهرت في القرن العشرين، مشروعها الشعري، قد نتفق أو نختلف حول منطلقاته أو مقدار ماتحقق أولم يتحقق، وليس هذا هو المهم، بقدر ما المهم أنه كان لكل شاعر أو فئة مشروعها أو رؤيتها التي تُعبّر عن وعيها وعالمها -وليس هنا بالطبع مجال فحص هذا، ولانريد تكرار الكلام في الماضي -لكن السؤال: مامشروع الشاعر العربي اليوم؟ وإلى أين يتجه هذا الكم الهائل الذي يملأ الصحافة الأدبية تحت لافتة الشعر([ix]) حتى بتنا لانميز بعضاً عن بعض: لغةً، وأسلوباً، وصوراً، وموضوعاً.. الخ؟. وكأن مايُنشر يصدر عن ذات تشظّت ذواتاً راحت كل واحدة منها، تنأى بنفسها إلى درجة الصفر من التاريخ والجغرافيا واللغة والفكر والحضور الإنساني! ويؤسفنا أن نقول: إن القارئ لم يعد الشّعر في جملة مايُنشر في الساحة العربية على أنه شعر، بقدر مايحس له إزاء تمارين للصغار، وإثبات وجود للكبار! بمعنى أن القارئ لايحس قوة التدمير والإنشاء بقدر مايحس اللعب اللامجدي على فُسحة متاحة من الحياة الاجتماعية /الثقافية/ أو على أطراسٍ مغسولة بالماء!
      حسناً. سنتفق مع القائل بأن الماضي والحاضر يسهل وصفهما، لكن ماذا بشأن المستقبل؟ أي ما الذي يمكن تحقيقه مما لم يتحقق، أو مما هو غير متوقع؟
      إنه سؤال تهكمي دون شك، بالنسبة للقائلين بأننا نعيش في الرُبع الأخير من الساعة الخامسة والعشرين! لكنه سؤال تراجيدي بالفعل لمن يُفكّر بما بعد النهايات الفاجعة:
      يقول الفاتح في (أسطورة سيزيف): (في اختياري بين التاريخ والأبدية، اخترْتُ التاريخ لأنني أميل إلى ماهو يقين، فأنا، في الأقل، موقنٌ منه، وكيف أستطيع أن أنكر هذه القوة التي تسحقني)([x]).
      فإذا كان صحيحاً أن التاريخ لانهاية له بالنسبة للأمم الحيّة، في الأقل، وبالتالي، الإبداع، أيضاً، لايتوقف، والنهايات موصلة بالبدايات عادة، والشعر لغة، واللغة تأسيس لكينونة وإفصاح عن كينونة، والشاعر موهبة ينبغي تثقيفها باستمرار بشتى المعارف والعلوم الإنسانية.
      أقول، إذا كان هذا صحيحاً، وسواه مما يمكن إضافته فلابد أن يُساور القلق، الشاعر والناقد والقارئ والباحث، فالإحساس والمعرفة باللغة، يتدنّى في جُلّ الكتابات الشعرية المعاصرة، كما أن الثقافة أو المعرفة تكاد تغيب أوهي غائبة، لأن الكتابة السهلة تفتقد، عادة، لبُعْدين جوهريين: بُعْد اللغة، والبُعْد المعرفي، والسائد في المجتمع العربي، ومنذ سنوات، هو مايُعرف بالشعر الجماهيري. أي الشعر الذي يسعى لكسب جمهور واسع بقصد الشهرة أو المنفعة على حساب الحقيقة الشعرية ولسنا بحاجة لأن نعرّف بخصائص هذا الشعر. فهي معروفة وشائعة. لكننا بالتأكيد بحاجة لأن نؤكد "الآن". أن الشعر الذي لايكشف عن مرجعيّته، جغرافيته، وعيه التاريخي، حسّه الإنساني، فضلاً عن بُعد اللغة. أقصد ملاحظة الأصل في الاستخدام الاستعاري للغة بتعبير الجرجاني.. شعر مغرّب، مغيب الوعي والدلالة. أو أنه من الكلام الذي يمكن أن يقال، في كل زمان ومكان. والنظرة العامة تبيّن أن الهيمنة إن جاز القول، تتمثّل، اليوم، في التقلّص المتزايد للأساليب التعبيرية، والتكاثر الواضح للأساليب التجريدية، الأمر الذي يؤدي أو أدّى إلى لون من "تغريب الشّعر"([xi]).
      -3-

      ونصل "أخيراً"، إلى مايمكن تصوره حول: (الشعرية الحضارية) وأول ماتجب ملاحظته هو مراجعة سجلاّت الشعرية. بمعنى: نشوء الظاهرة ثم مايصيبها فيما بعد /مع مرور الزمن/ من تحولات. أي نظام السلسلة أو المُتتابعة كما عبّر عنها جورج كوبلر في (نشأة الفنون الإنسانية)([xii]) في إطار عوامل لغوية وتاريخية وثقافية واجتماعية، مركزين على البنى. فإذا أخذنا، مثلاً، الشعر العربي في نشأته وتطوره منذ أن كان نثراً فتيّاً أو نثراً مسجّعاً ثم رجزاً فقصيداً إلى التحولات الأخيرة في القرن العشرين: (شعر مرسل، منثور، شعر تفعيلة، قصيدة النثر... الخ) نجد أن هناك سمات قارّة، هي مايُطلق عليها (الشعرية) أو قوانين علم الشعر، التي بدونها لايُعدّ الكلام شعراً، بينما هناك سمات متغيّرة متطورة، كتلك التي تلحق الشعر من أجناس أدبية أخرى، أو تفرزها الموهبة الفردية، أو عوامل بيئية أو ثقافية، أو تحوّلات تاريخية. ويرجع لهذه، في الواقع "مرحلة" الانتقالات في سيرورة الجنس الأدبي.
      فعندما وصف النقادُ، الشعر، في العهد العباسي، على يدي بشار ومسلم بن الوليد وسلم الخاسر وأبي نواس وأبي تمام.. بالمحدث ومايزوا بينه وبين القديم، تلمّسوا هذه الفروقات، لا في البنى الجوهرية التي لايُسمّى بدونها الشعرُ، شعراً؛ وهي: (الوزن أو الإيقاع، التعبير الاستعاري أو المجازي، المعاني.. الخ) بل في تحوّلات ثانوية تطرأ نتيجة عوامل جديدة دخلت على الشعر بسبب متغيّرات في الثقافة والمجتمع واللغة والرؤى.. كالاستعارات البعيدة والمعاني المولّدة. أي (الميل إلى الصنعة والمعاني الغامضة التي تستخرج بكدّ الفكر. فبشار وأبو نواس ومسلم ومن تقيلهم على حد تعبير ابن المعتز، لم يسبقوا إلى فنّ البديع، الاستعارة والتجنيس والمطابقة، لكنه كثر في أشعارهم فعرف في زمانهم، ثم إن الطائي أبا تمام تفرّغ فيه([xiii]).
      وهكذا يمكن القول في تمرحل حركة الشعر العربي الحديث (شعر التفعيلة) في أواخر الأبعينيات حيث سمات البنية الشعرية، قارّة. والذي طرأ تغييرات على البنية الإيقاعية (إعادة ترتيب نظام الوزن والتقفية) والتشكيل المكاني للقصيدة وغير ذلك مما يتصل بالبنى التركيبية والصوريّة.
      إذن وبإيجاز إذا كان الشعر من حيث الجوهر، واحداً في العصور والأمكنة. فإنّ مايمايز شعراً عن شعر لدى الشعوب والأمم، والمراحل التاريخية- والحضارية لشعب أو أمة بعينها، هو: الوعي بمشكلات الإنسان وخصائصها وخصائص هذا الإنسان في الإطار المحلّي والإنساني. والتعبير عن هذا الوعي أو الرؤيا في لغة طبيعة خاصة /استعاريّة/ وبُنى تشكيلية في إطار شبكة التعالقات المكوّنة للنص.
      وبعبارة أخرى، الشعر في جوهره الأصلي الإنساني، هو مواجهة للموت والذل والبؤس والتعاسة والكراهية.. الخ مما يحيط بالفرد والمجتمع والإنسانية. كان هذا بداية الخليقة. تعبيراً عن وجع الإنسان المعذّب، المحروم، المعرض للموت والخراب. في لغة مشرقة، جميلة، نديّة، تجمع بين قدسيّة الجمال وقدسيّة الإنسان. هذا ما يؤكده ماجاءنا من الشعر عن أوائل الحضارات وماجاء به الرُّسل والأنبياء: هؤلاء الشعراء الأفذاذ المتعالون عن "الأنا" ليكشفوا ويصرعوا الشقاء الإنساني. ويرفعوا (العُقب الحديدية) عن أعناق البشر! لقد عاشوا في خطر، ونحن نعيش اليوم في خطر. والشعر أحد الوسائل المهمة الضرورية لمواجهة هذا الخطر. ولكن ليس شعر الشعارات والتهويمات والكلمات الجوف. إنه الشعر/ الإبداع الذي يمتلك طاقته الحقيقية في التأسيس لمفاهيم جديدة في الحياة والفكر والجمال من خلال رؤيا كونية يتوحد فيها الشاعر، والنص، والعالم.
      إنّ السعي لتأسيس تجربة ثقافية حضارية جديدة، في الوقت الذي يتطلب معاينة وفحص التجارب والمفاهيم الثقافية والاجتماعية السائدة، يتطلب نزوعاً "انقلابياً" على الأطر والاتجاهات والبنى الاجتماعية والثقافية والجمالية التي قادت إلى الهزائم والإحباطات والانكسار في مجال السياسة والاجتماع والثقافة والأنطولوجيا.
      والشاعر -الشاعر الحقيقي، فيما نرى، ليس بحاجة إلى "وصايا" تدلّه كيف يحلم -يهدم ويبني- ليحقق حلمه في عالم جميل معافى حُرّ، آمن: لا الذئب فيه يفترس الحمل، ولا الغراب ينعب في الخرائب والأزبال.. كما تقول قصيدة النشأة الأولى للخلق الأول.
      حقاً، إن مايهمنا القصيدة وليس ماتقوله القصيدة، كما قال رتشاردز([xiv]) -لكن، وكما قال أيضاً، إن الكلمات التي تشكل القصيدة، حين تتّحد معاً، هي مايستجلب وينسق التجربة ويضبطها. فالكلمات كمفردات بحد ذاتها لاقيمة لها إلاّ بقدر ماتدلّ على شيء أو مكان أو زمان... لكن حين تتّحد الكلمات معاً، أي تصبح تعبيرات، تصبح شيئاً آخر مختلفاً. عالماً آخر. فمن حيث أن الخطاب الشعري هو ممارسة متميّزة لها استقلالها الخاص، لكنه من جانب آخر، جزء من التكوين الاجتماعي/ الثقافي المُحدّد تاريخياً، أي خطاب أيديولوجي. على أن نفهم من هذا: أن مايجعل الشعر شعراً هو مايجعل الشعر أيديولوجيّة([xv]).
      أي أيديولوجيا، من نوع مايسميها البعض بالخفيّة hidden ldeology تتحدد حالما يتحدّد شكل الخطاب لغوياً. ويأخذ النصُّ سمته من الأنظمة الشفريّة، حيث تحمل هذه الأنظمة، كما قال بارت، في طياتها اتفاقاً ضمنيّاً بين النص والقارئ حول الفرضيات الأيديولوجية([xvi]).
      وباختصار، "إن مانؤكد عليه ليس انعزالية الفن، وإنما استقلالية الوظيفة الجمالية([xvii]) فالعمل الأدبي، كما ذهب تودوروف- تعبير عن "شيء ما" والغاية هي الوصول إلى هذا "الشيء" عبر القانون الشعري([xviii]). فما لم تكن لقصيدة مادلالة، فلن تعتبر قصيدة، لأنها لم تعد لغة..([xix])
      هوامش وأسئلة حول:
      الشعر والحداثة ومابعد الحداثة!


      1-لست أدري ما إذا كان يحقّ لنا نحن أبناء الجنوب /العالم الثالث/ الوطن العربي/ أن نتحدّث في الحداثة. ومابعد الحداثة. وفي التاريخ، ومابعد التاريخ... كما يتحدّث أبناء الشمال /العالم الأول/ العالم الصناعي/ أمْ نَحْتَضِنُ موتنا وننتظر حتى يدفن الأموات موتاهم! خاصةً وأنّ هناك من يرى أنّ كلّ حديث عن "حداثة" عربية، هو بمثابة حديث خرافة! وفي أفضل الأحوال. إن مايُسمّى "حداثة" عربية إنّما هي " حداثة مهرّبة" أي "هي غربيّة بكاملها"(1).
      2- ولست أدري أيضاً، هل يكفي الحديث عن الحداثة ومابعد الحداثة من جانبٍ نخبوي، أقصد الاتجاه الأدبي، لنثبت أننا حداثيون، أو مابعد حداثيين، في حين يعيش المجتمع مرحلة ماقبل الحداثة أصلاً: تاريخياً، وسياسياً، واقتصادياً، وسيكولوجياً.. الخ.
      حقاً. لقد علّمتنا تقنيات "الحداثة" التي لاتنتمي لنا، ولاننتمي لها، بعض المهارات الفنية في كتابة قصيدةٍ "حديثة!". ولكن متى كان الشعر، بعيداً "عن أبعد جوانب الروح انتساباً إلى جذورها"؟(2).
      على أية حال.. لنأخذ بأضعف الأيمان!
      3- إنَّ مصطلحات: مابعد الحداثة، مابعد البنيوية، مابعد الثقافة، ما بعد التاريخ.. الخ. رغم الغموض الذي يكتنفها. توحي بالقصديّة الضديّة أو التجاوز أو المُناهضة للقدَم.. أي تجاوز ماهو حداثي، بنيوي، ثقافي، تاريخي.. ولكن: إلى أين؟ ذاك ما يُشكّك فيه العديد من نقاد العلوم الإنسانية: الأدبية، الاجتماعية، الأنتروبولوجيّة، الألسنية، والمنهجيّات.. الخ. فهُمْ يرون أن ليس هناك سورٌ صينيٌّ يفصل مابين الحداثة ومابعد الحداثة. حيث يمكن أن يكون المرءُ حديثاً ومابعد حداثي في آن واحد. مثلما يمكن أن يكون رومانسياً وواقعياً، كلاسيكياً وحداثياً. والشواهد على هذا كثيرة. لأن الثقافة متنافذة بين الماضي والحاضر والمستقبل. فهناك، مثلاً، العديد من الكُتّاب، اكتشف النقاد أخيراً، أنهم: مابعد حداثيين، أو لديهم من الإنتاج ماهو بعد حداثي مثل جيمس جويس. وليم بليك، رامبو، المركيز دو ساد، عزرا باوند.. الخ(3). والقائمة طويلة. بينما إلى وقتٍ غير بعيد، كان هؤلاء وسواهم كثيرٌ، يُعدُّون من رؤوس الحداثة. فهل ياترى، يجيءُ اليوم الذي نكتشف فيه، أنّ هوميروس والمتنبي -مثلاً: مابعد حداثيّين، أو أنّ في إنتاجهم عناصر مابعد حداثيّة؟!
      4-لابأس من "اختراع الأسلاف" أو إعادة اكتشافهم. فتلك مهمة النقاد والباحثين. وهل عندهم مشغلةٌ غيرها! لكن ينبغي والحالة هذه، الحذر من "التحقيب". فالذي لاشك فيه أنّ "مابعد الحداثة": مرحلة. أيْ "صفة انتسابٍ لعصر. وليست معيار قيمة"(4) هكذا يراها نقّادُها ومُنظّروها، معاً. مرحلة من الابتكار أو التغيير أو إعادة الاكتشاف. والسؤال: ماذا بعد، مابعد الحداثة؟ ومابعد، بعد، مابعد الحداثة.. الخ.؟. سلسلة لا علم لأحدٍ كم تمتد! وكم ينبغي الإجابة، أو البحث عن إجابةٍ عليها؟
      والحقيقة أنّ الفوارق التي يضعها البعض للتمييز بين ماهو حداثي وماهو بعد حداثي، هي فوارق تتنقَّل، وتُرْجَأ. وتتماثلُ، وتنهار أيضاً. فهي في الأعمّ الأغلب ليست أكثر من افتراضات والتباسات تشكّلها اللغة الأدبية وأحجيات غنوصيّة، تكشف عنها "حفرياتٌ" هي مزيج من المعرفة العلمية والمثيولوجيا(5).
      5-لابد أن يشعر، بعضنا في الأقل، بالسعادة! عندما يقال لنا بأننا: في الحداثة. أو في مابعد الحداثة. لكن دائماً هناك من يصطدمنا بالسؤال: متى كنا في الحداثة؟ وكيف لنا أن ننتقل -كما يدعونا خطاب مابعد الحداثة- إلى عالم مابعد الحداثة، ونحن مانزال في: ماقبل الحداثة. في عالم بلا حداثة!(6)
      إذن. نعود إلى "حقلنا النخبوي" الأدبي، معزّين النّفس "بتشجير الكلمة في فضاء اللغة والبلاغة. ملقين بأسئلة الواقع والبشر إلى حيّز مهجور، كما لو كانت الحداثة تقتات بزادها اللغوي، لابأسئلة الإنسان المقيّد الباحث عن فضاءٍ منير"(7).
      6-وأول شيء نودّ الإشارة إليه هنا، هو: علاقة المبدع بالنص. في زمن ماقبل الحداثة كان ثمّة اعترافٌ واضح بعلاقة النص بكاتبه، أو علاقة الكاتب بنصّه. سواء جاء ذلك عبر اعتبار النص ترجمة لحياة المبدع، أو عبر علاقة المبدع بالمحيط الخارجي. أو عبر تدخُّل المبدع في تكييف الوقائع والتحكّم بها من خلال اللغة. ثمّ في الحداثة، قيل بانفصال النص عن منتجه حال خروجه من بين يديه، كتاباً بين يدي القارئ. وعلى القارئ أو الناقد أن يعتبر النصّ، نصّاً مجرّداً. ويتفاعل معه على أنه صار نصّه هو... فالمرحوم المؤلّف مات وغدا النص يتيماً وبحاجة لمن يتبنّاه -أي القارئ! كما هو حال النص الشفاهي المجهول المؤلّف. ثمّ هانحن نعود مرّةً أخرى لنكتشف في: ما بعد الحداثة، أنّ للنص مؤلّفاً. وأنه من الصعب إعدام أو إلغاء الذات الكاتبة الفاعلة واستبدالها بالبنية اللغوية أو المجتمعيّة أو بنية اللاوعي(8).
      7-عادةً مايقال: إنّ النص لغة. إنه كلمات. وهذه مشغلة الشعراء- على رأي هيدغر- يحرّكونها ليخلقوا منها "ألعاباً". لكنّ هذه اللغة أو الكلمات لاتنتمي إلى لسانٍ واحد. بل إلى ألسنٍ -بما فيها اللغة الواحدة- (العربية مثلاً). ألم نسمع من أحدهم، أحياناً، قوله: إنّ لغة (فلان) أو (القوم الفلانيّين) ليست من لغتنا!. إذن. فهي لسان. وألسنة الشعراء الكُتّاب الناثرين عديدة. بل غالباً مايكون للواحد منهم أكثر من لسان. وهذا اللسان يحرّكه البصر والقلب والعقل. أي أنه بثلاثة أعين: عين الوجه: البصر. وعين العقل: الفكر. وعين القلب: الرؤيا أو الكشف- كما ذهب ابن عربي في وصفه الأنبياء والحكماء والأولياء ومن في منزلة الرائيين. فمن حصلت له مثل هذه التجليات، غير مكتفٍ بما في الدفاتر والطروس. رأى مالا يراه الآخرون. ونطق بـ (جهل) مايجهله سواه... فاللغة -كمال يقال- أسرار. وتنطوي على أسرار. ومفتاح هذه الأسرار هو الشعر. فالشعر إذ يقول أشياء غامضةً، يكشف أشياء غامضةً!.
      8-والكشف يدعونا لأن نتفحّص الآراء فيما يوصف بـ (الشعر الأصيل): ماهو؟ يعتقد البعض أنّ (الأصيل) أو الأصالة في الوفاء لتقاليد الشعر المتوارثة. بينما يرى البعض الآخر، المسألة على الضدّ من ذلك. أي في اغتيال هذه التقاليد ورفضها جملةً وتفصيلاً. مؤسّساً لنفسه تقاليد /أوْ- لاتقاليد/ مغايرةً، وخاصّةً، انطلاقاً من القول: إنّ الأصالة في العمل الفني تكون في صدق الشاعر مع نفسه.
      وعلى أية حال.. نرى أنّ (الأصيل) لايكون بالوفاء المطلق، ولا بالرفض المطلق للتراث الثقافي/ الحضاري القومي والإنساني. لأنّ مثل هذا الكلام لامعنى له اليوم، في زمن التناصّات والمثاقفة ونظرية القراءة والقارئ وتداخل الأجناس الأدبية.. الخ. الأصيل هو الكشف: الكشف عن النور الكامن في أعماق الظلمة. أو الكشف عن الظلمة المختبئة في المظهر البرّاق. الكشف عن الحزن في شجر رمى ورقه، أو -لسرٍّ ما- ظلّ محتفظاً به فلم يحزن على ابن طريف! والكشف عن أرض الإنسان المحجوبة بأسيجة وغبار، أو عن أحلام الإنسان، مثل كتابات منقوشة على الأحجار، غطّاها التراب والنبات البرّي!. الكشف عن حقيقة هذا (العالم الأكبر) داخل جرم صغير -على حدّ قول الشاعر:
      وفيكَ انطوى العالمُ الأكبرُ



      وتحسبُ أَنّكَ جُرْمٌ صغيرٌ


      وباختصار، (الأصيل) هو هذا المختلف عن الأصول الطالع منها. مثل الماس الذي أصله فحم أسود، أو كاربونٌ منتثرٌ في الفضاء. والأصيل: اختراقٌ سجن العالم -ولو بالحلم عبر الكلام- متحدياً نفاق العوام، وزهوَ الحُكّام، صارخاً: ولكنّ الامبراطور.. لايلبس شيئاً!
      9-حسناً.. هل رأيت امبراطوراً ليس له شكل؟
      الشعر /القصيدة/ هو هذا الامبراطور. يولد من أعماق الظلمة. شفّافاً، يبحث في الفراغ عن فراغ يتجوْهَرُ داخله. والفراغ هو هذا اللامرئي من الوجود الذي لايدركُ، أو لايُعرف معناه إلاّ بالظنّ والحدس -كما قال الآمدي في شعر أبي تمام- أو بالتخييل -كما ذهب آخرون. ومن هنا يحصل اللَّبس المولّد، في الوقت نفسه، لمعانٍ متكاثرة تكاثر القرّاء النموذجيّين.
      10-حين يبحث أو يحرث القراء والنقاد في تراثهم أو تراث الإنسانية عموماً. يكتشفون أن معظم ماتمّ التعبير عنه من أفكار ورؤى وتجارب إنسانية عبر مئات أو آلاف السنين، يعبّر عنه اليوم. ولكن بلغةٍ أو استخدام جديد للغة نفسها -كلُّ قومٍ بلغتهم طبعاً- ما ينتج رؤى جديدة ودلالات مختلفة. فما ترك القدماء من متردّم! حسب عنترة/ وذلك بحسب "ترتيب الألفاظ وتواليها على النظم الخاص "حتى" تؤلّف وحدات اللغة" أو وحدات النص "ضرباً خاصّاً من التأليف"- كما ذهب الجرجاني.
      وهذا يعني أن الحداثة، و مابعد الحداثة، ومابعد، بعد الحداثة... متتابعة في الفكر والإبداع والتطور الحضاري: في كلّ نصٍّ تتموضع نصوص /حسب سولير/ وكل تعبير يقترح تعبيراً آخر، فلا وجود لما يتولّد من ذاته. بل من تواجد أصوات متسلسلة ومتتابعة /حسب فوكو/ وميزة أيّ أثرٍ أدبي حقيقي أنه يفتح آفاقاً لنصوص أخرى /حسب رولان بارت/ والمنجزات الحضارية: الفنية والأدبية، هي أشبه بمتتابعة مفتوحة تتولّد كل واحدة عن السابقة لتنداح في اللاحقة.. وهكذا. حسب جورج كوبلر(9).
      ولست أدري لماذا يُعادي بعض كُتّابنا، تراثهم، أو يخشون أن ينسبوا إليه /في الجانب الفني/ وهم يغترفون منه دون توقُّفٍ: مادةً وصيغاً، وأشكالاً. مؤكّدين فيها خلود أجدادهم الموتى في أكثر أجزاء العمل فرديّة -كما ذهب إليوت. ألسنا نراهم يكادون يجمعون على أن من أبرز ملامح الحداثة الشعرية العربية، أنها أعادت اكتشاف رموز الخصب والموت والبعث، وبعثها من ظلمة التاريخ إلى نور الوجود المشعّ، كما هي لدى السيّاب والبياتي وخليل حاوي وأدونيس.. مثلاً!
      11-يصف بعضهم، شعراء الحداثة العرب، بأنهم: "سارقو النار" أو "حملة النار" رمزاً للهدم والبناء. تبديد الظلمة وإشاعة النور. لكن في كل ظلمةٍ، نورٌ. وداخل كلّ نورٍ. ظلمةٌ. ولذا لا يصحُّ القول؛ بإحراق الماضي. أو أنّ الماضي كلّه ظلمة. كما ليس صحيحاً أنّ "الجديد" أو "الحديث" كلّه نور. فنحن إزاء حالة من الجدل بين النور والظلمة. بين المعنى والمبنى. بين المادة والصورة. بين الحلم والواقع. بين المدنّس والمقدس.. حيث تتواصل حركة الأشياء وكأنّها "شدّة ائتلاف في شدّة اختلاف". ودائماً هناك اللاكمال. وطموح المبدع -دون شكّ- الوصول إلى الكمال. لكنه لن يبلغه. لأنه متى ماظنَّ أنه بلغ الكمال، كان هذا الكمال نقصاً فيه -كما يذهب المتصوفة(10).
      12-يعيش بعض دعاة الحداثة -مع الأسف- على التزوير. فهم يزعمون -مثلاً- أنّ كلّ الشعر العربي، من امرئ القيس إلى الجواهري: باطل! إنّه مجرد كلام موزون مقفّى! صناعة كلام، أو نظام لغة! وبذلك يجهلون، أو يتجاهلون أنّ اللغة، في النهاية، هي مشروع من جهة. وهتكٌ للظلمة التي تحجب عنا أسرار الكون والكائنات من جهة ثانية. فاللغة، كمشروع، علاقة سريّة تربط بين البشر من جهة، وبين الإنسان والأشياء من جهة ثانية.
      نقول: إنها علاقة سرّيّة مثل علاقة الأنبياء بالربّ: (وما ينطق عن الهوى): وحيٌ وإلهام. ومثل علاقة الصوفيّ /الإنسان الكامل/ باللّه والأشياء: تأمّلٌ واستغراق واتّحاد حدّ الامّحاء بالمطلق والوجود: (ليت الفتى حَجَرُ...) إنها نوع من (ميتافيزيقا يتعذّر الدفاع عنها) حيث (يفضُّ سرُّ الحياة فضّاً ملغزاً). وهذا مايحقق أمنية هُولْدَرْلنْ: (أن تكون إقامتنا على الأرض إقامةً شعريّة)(11).
      بمعنى أن الواقع/ الأشياء واللغة لايوجدان معاً. فأمّا أن يستلب الواقع، اللغة. فتصبح نثرية تقريرية. وإمّا أن ينصهر الواقع والأشياء في اللغة. فيصبح الكلام شعريّاً. إنها: (كيمياء الكلمات). وإلاّ كيف تكون.. (..الوردة والنار.. شيء واحد) -كما يقول إليوت. أو كيف يجتمع الثلج والنار معاً، دون أن تذيب النار، الثلج. ولاالثلج يطفئ النار -كما جاء في المعراج!
      13-حين نستذكر كيف ينبجس الكلام/ الشعر عن الشاعر العربي القديم، لحظة وقوفه على طللٍ أو موقد نارٍ منطفئة، أو أيّ أثر من آثار حبٍّ غائر في أعماق النفس... نفهم كيف أنّ الشعر هو انفجار الذاكرة لحظة التقائها بالأشياء واللغة معاً، في لحظة خاطفة... بمعنى استحضار عالمٍ مفقود، عالمٍ من الرماد، أو الدّمى، أو الحجارة.. لكن كلّ شيء فيه مفعم بالحياة. وبمقدور مخيّلة خلاّقة، بعثه وتركيبه من جديد. إنها لعبة الوجود والعدم هذه التي يلعبها الشاعر. وهي مايربط الشاعر بالمكان/الوجود. ولكنه، أي الشعر، إذ يرتبط بالأشياء، إنّما ليكشف ماوراء هذه الأشياء. يكشف الممحيّ -المنفيّ عن المدن الفاضلة‍! المنسيّ أبداً. بين الترحال والمحو ومجهول البيان. وماوراء القراءة، وخلف الاستعارة‍! أقول: حين نستذكر كيف ينبجس الكلام الشعري عن الشاعر العربي القديم، نفهم أنّ القصيدة هكذا تأتي مرّةً واحدة، ومايتبقّى بعض الفراغات التي يجب ملؤها، والاستطالات التي ينبغي قضمها. وهذا يعني -في رأينا- أن الشعر ليكون شعراً، لايحتاج إلى نظريات: الخلق لايحتاج إلى نظرية. إنه ينطلق هكذا عفوياً. فجائياً، وكأنّ الأمر: كن.. فيكون! وقد جعلت الألفاظ هي ماتُسمّي الأشياء. وأن تسمّي الأشياء يعني أن تدعها توجد. وبهذا يكون الشعر هو: (التسمية التأسيسيّة للكائن ولجوهر الأشياء)(12). فمن خلال السيطرة المذهلة للشاعر على الكلمات، يؤسّس ويوجد، ويستشكف "المخفي" في المرئيّ(13). ولكن -بالطبع- ينبغي السيطرة على العملية بمجملها: (ألم يخلق اللّه الكون بكلمة (وفي البدء كانت الكلمة) ثمّ وضع القوانين المُنظّمة والمسيطرة بعد ذلك. لأن الشعر في كل زمان ومكان، وفي أية لغة أو شكل جاء، هو: شعر -أو- لاشعر. أما النظريات في الشعر. فإنما توضع لتساعد في فهم الشعر وتذوّقه. وفهم تحولاته ومتغيّراته التركيبية والبنيوية والدلالية. ثم منزلته في نسق البنية الثقافية حين يكون فاعلاً في هذه البنية.
      14-ونعود إلى حداثتنا التي تقتات بزادها اللغوي. فنقول مع هايدغر، إنّ الشاعر تأسيس باللغة. اللغة التي هي أهم مقتنيات الإنسان -بمعنى أنها ليست المقتنى الوحيد- لكنها مايؤسّس "أرضيّة حقيقية للثقافة".
      ونقول: "ثقافة": ذاك أنّ الموضوع الفني مدينٌ بتعبيريّته إلى كونه يقدّم عملية تنافذ تام وشامل لمواد متصلة باللحظة المنقضية واللحظة الفاعلة. حيث تكون الأخيرة إعادة تشكيل كامل للمواد المخزونة من تجربتنا السابقة..). (والنتيجة أنّ التشكّل في صيغةٍ، معناه طريقة في التصوّر، وفي الإحساس، وفي عرض المادة المستخدمة على نحو يجعل منها وسائل جاهزة وفاعلة لتشكيل تجربة مماثلة لدى من هم دون موهبة المبدع الأصيل)(14).
      الإشارات

      1-ينظر أدونيس: (بيان الحداثة) كتاب (البيانات) -إصدار أسرة الأدباء والكتاب في البحرين -1993-ص56-57.
      لا2-ينظر مقال فوزي كريم: (المرايا الخادعة لحداثة الشكل) مجلة (نزوى) العدد 17-يناير 1999- ص96-97.
      3-ينظر مقال إيهاب حسن: (نحو مفهوم لما بعد الحداثة) مجلة (الكرمل) العدد (51) ربيع 1997-ص15-16.
      4-ينظر مقال فوزي كريم -مصدر سابق- ص95.
      5-ينظر مقال إيهاب حسن -مصدر سابق- ص18- ويمكن مراجعة الجدول الذي وضعه إيهاب حسن للتمييز بين الحداثة ومابعد الحداثة عبر فوارق تخصصّية من علوم مختلفة: أدبية وعلمية واجتماعية ونفسيّة ولاهوتيّة.
      6-ينظر مقال صبحي حديدي: (الحديث، الحداثة، مابعد الحداثة) مجلة (الكرمل) -مصدر سابق- ص59.
      7-ينظر مقال فيصل درّاج: (مابعد الحداثة في عالم بلا حداثة) مجلة الكرمل -مصدر سابق- ص64.
      8-ينظر مقال محمد برادة: (الأدب وبويطيقا المجهول) مجلة (الكرمل) -مصدر سابق- ص295.
      9-نشأة الفنون الإنسانية -ترجمة عبد الكريم الناشف- بيروت 1965.
      10-ينظر ابن عربي في (الفتوحات المكية) وعبد الكريم الجيلي في: "الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل).
      11-ينظر كتاب (ليل المعنى) لصلاح ستيتيّة- حاوره جواد صيداوي: الصفحات: (210/211/208) كما جرى استيحاء ومناقشة بعض آرائه في أكثر من موضع.
      12-هايدغر. عن كتاب (متاهات): نصوص وحوارات في الفلسفة والأدب -ترجمة حسونة المصباحي- بغداد- 1990/ص27.
      13-رتشاردز- عن كتاب (أسس النقد الأدبي) ترجمة هيفاء هاشم -دمشق 1967- ص118.
      14-امبرتكو إيكو- مقال: (تحليل اللغة الشعرية) مجلة (الحياة الثقافية) تونس -ع- 79/1996-ص72.


      [I]() القصيدة التي يسميها كريمر (أول أيوب) معتبراً إياها (أول مقالة تعالج مسألة عذاب الإنسان وخضوعه) دون أن يستحق ماحلّ به. تحكي قصة رجل سومري موسر حكيم وصالح.. لمّا حلّ به ماحلّ، أكثر من التضرع لربّه. فتقبل ضراعته وأجاب ملتمسه وخلّصه من مصائبه. منها:
      -"أنا الحكيم العاقل لماذا أقيد مع الأحداث الجهلة؟
      أنا المدرك العاقل لماذا أحسب مع الجهال
      الطعام وفير في كل مكان، ولكن طعامي الجوع.
      في اليوم الذي قُسمت فيه الأنصبة، كانت حصتي المخصصة لي، العذاب، والألم".
      -"لقد قالوا -أي الحكماء البارعون- كلمة صدق وحق:
      لم يولد لأم طفلٌ بلا خطيئة.
      إنّ الطفل البريء لم يكن في الوحود منذ القدم"
      [انظر: من الواح سومر -ترجمة طه باقر/ منشورات مكتبة المثنى ببغداد ومؤسسة الخانجي بالقاهرة وبالاشتراك مع مؤسسة فرانكلين/ مطبعة مصر. بلا تاريخ] ص111-112.

      ([ii]) عن مقال ماثيو أرنولد: (دراسة الشعر) في كتاب (أسس النقد الأدبي الحديث) ترجمة هيفاء هاشم- دمشق (1967-ص58).

      ([iii]) هايدغر، عن كتاب (متاهات) (نصوص وحوارات في الفلسفة والأدب) ترجمة حسونة المصباحي- بغداد 1990/ص27.

      ([iv]) رتشاردز- عن كتاب (أسس النقد الأدبي)- ترجمة هيفاء هاشم- ص118- دمشق 1967.

      ([v]) الحداثة- تحرير مالكم برادبري وجيمس ماكفارين- ترجمة مؤيد حسن فوزي دار المأمون-بغداد 1987-ط2 ص20.

      ([vi]) نفسه، ص17.

      ([vii]) عن كتاب جاكوب كورك: (اللغة في الأدب الحديث: الحداثة والتجريب) ترجمة ليون يوسف وعزيز عمانوئيل- دار المأمون -بغداد ص232.

      ([viii]) البيريس: الاتجاهات الأدبية في القرن العشرين- ترجمة جورج طرابيشي- منشورات عويدات- بيروت 1965-ص81-87.

      ([ix]) وينظر د.علي جعفر العلاق: (النص الشعري: دراسات نقدية) -دار الشؤون الثقافية- بغداد 1990-ص21-22.

      ([x]) البيركامو: (أسطورة سيزيف) ترجمة أنيس زكي حسن/ منشورات دار مكتبة الحياة- بيروت- ص101.

      ([xi]) د.صلاح فضل: (أساليب الشعرية المعاصرة) دار الآداب- 1995/ص30-31.

      ([xii]) ترجمة عبد الكريم الناشف- بيروت 1965.

      ([xiii]) الموازنة للأمدي: 1/5و18 وينظر: ( الشعرية العربية) لأدونيس في الكلام عن بشار وسلم وأبي تمام... ص51-52.

      ([xiv]) مصدر سابق -ص111.

      ([xv]) ينظر مقال (الخطاب الشعري بوصفه أيديولوجيا) لانتوني أيستوب- ترجمة حسن البنا- مجلة (فصول) ع3-1985-ص99.

      ([xvi]) مقال: (التفسير، والتفكيك والأيديولوجية) لكريستوفر بطلر- ترجمة نهاد صليحة- مجلة (فصول) ع3-1985-285.

      ([xvii]) جاكوبسن: قضايا الشعرية- ترجمة محمد الولي ومبارك حنون- دار توبقال- الدار البيضاء- المغرب 1988/ص19.

      ([xviii]) الشعرية: ترجمة شكري المبخوت ورجاء بن سلامة- دار توبقال- المغرب 1987-ص22.

      ([xix]) جان كوهين: (بنية اللغة الشعرية) ترجمة محمد الولي ومحمد العمري- دار توبقال- 1986/ص31.


      إذا الشعب يوما أراد الحياة
      فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
      و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
      و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

      تعليق


      • #4
        رد: الاختلاف والائتلاف في جدل الأشكال والأعراف

        خــلاصات في الشــــعـر "الآن"من أجل كسر الصمت:قصيدة النثر: بين التوهّم والحقيقة
        تهيمن في الساحة الشعرية العربية، ظاهرة القصيدة النثرية- وتحت أسماء مختلفة، وتروّج تحت عنوان الظاهرة هذه، مفاهيم، وأدوات، وتعابير ملتبسة غالباً. وتنسب منجزات وخصائص، وتعلّق آمال، في الغالب، غير حقيقية. بل هناك من يسعى لأحداث "قناعة" لدى القارئ، أن الكتابة هذه هي الممثّل الشعري- الفرد لروح آخر العصر، والفاتحة المانحة لمستقبله.‏
        في الملاحظات -الخلاصات التالية، نحاول أن نضع الأمور في سياقها الحقيقي، أو المقارب للحقيقة الشعرية، دون أن نفترض ولاندّعي احتكار "الحقيقة". إننا نجتهد -قدر العزم!- في مقاربة الأشياء، من خلال تبيّن أبعاده ومواضعها الواقعية.‏
        أولاً: الكتابة النثرية، تحت أيّة تسمية جاءت (قصيدة نثر. نثر شعري. شعر منثور. نص. كتابة جديدة.. الخ.) ليست هي البديل الجنيني للشعر. كما لايمكن لأية كتابة أخرى أن تدعي ذلك. فليست هي التعبير الشعري- الفرد. ولا الأفضل، ولا الأكثر معاصرةً أو استجابة لروح آخر العصر (القرن 20) كما يُروّج البعض، فالعصر (القرن20) موشك على الزوال، أولاً، وتاريخها يؤكد أنها ليست وليدة هذا العصر، ثانياً(1). وينبغي أن ننزع من أذهاننا منهج المفاضلة أو الموازنة بين النظم والأشكال الشعرية، ثالثاً. لأنّ مثل هذا المنهج لم يعد مقبولاً ولامناسباً، والنقاد القدماء أنفسهم كانت لديهم عليه اعتراضات، ووضعوا شروطاً تكاد تكون تعجيزية في استخدامه(2). إنه منهج في جوهره، ينتمي، بشكل ما، إلى أساليب المفاخرة بشجرة العائلة والقبيلة، بينما تتجه المناهج المعاصرة نحو مقاربة النصوص: شعرية أونثرية. مع ملاحظة بينونة النص بذاته، باعتباره كياناً منصرفاً لذاته، بائناً لغيره من حيث مكوّناته وبناه الحاضنة للمعنى أو الكاشفة للدلالة.‏
        إن المباني التي تكوّن مايعرف بـ (الشكل) ليست هي مايقترح التجربة (المعنى والدلالة) بل هي التي تقوم بتجسيدها وإبرازها. فعندما أقوم [بترتيب النص بكيفية معينة](3) يعني أني أقوم بتجسيد تجربة أو إبراز دلالة بطريقة ما... لكنّ الشيء الأكيد أن الشكل هذا "ليس قفصاً مقفلاً على الدلالة. فدائماً هناك فضاء مفتوح، أو ثغرات تسمح للقارئ أن يغوص في العمق، ويتقرّى الامتداد، مستنطقاً مايمكن أن يبوح به النص في صورتيه: صورة القراءة، والصورة المعاينة.‏
        إنّ الشكل لايقيّد المحتوى أو الدلالة إلاّ في نوع محدّد من الكتابة: (الآلية). أي تلك التي تنطلق من (بياض) الذهن -إذا جاز القول- لترتسم على (بياض) الورقة: (سواداً): كتابةً أو أيّة خربشاتٍ أخرى. تدلّ بنفسها، أوتترك للمتلقّي مايتأوّله بنفسه.‏
        ثانياً: وبناء على ماتقدّم، فإن حرية التجريب حقٌّ مشروع للجميع في إطار حرية الفنان قبل كل شيء. ولكنّ التجريب، كما نفهمه، وكما هو مفترضٌ، ينبع من الداخل، لايستعار من الخارج. بمعنى أن (أجرّب) بدافع وحاجة ذاتيّة ومتطلّبات تعبيرية وجمالية، لا أن (أجرّب) بدافع المغايرة لذاتها. أو استمناءً لتجريب آخر بدافع المجاراة أو المجايلة.‏
        إنّ الأشكال الشعرية، هي خلاصة تجارب في الكتابة الإبداعية. والكتابة تخلق تقاليدها في محيط ثقافي -تاريخي. وتتطور أو تتغيّر هذه (التقاليد) حسب المتغيّرات في الأزمنة الثقافية والتاريخية.‏
        وعليه، إنّ حقّ المبدع في أن يكتب (نصّه) بمواصفاته هو، يظل حقاً ذاتياً تاريخياً. ولكن من اشتراطات اللعب، أن يعرف اللاعب (قواعد) أو (حدود) اللعبة -كما يقال- كما تجسّدت في الموروث القومي والإنساني. وتلك هي الحرية الحقيقية. أي حينما تظهر على خلفيّة من القيود التي تنطوي عليها الصنعة. كما قال إليوت في مقالته: (تأملات في الشعر الحر)(4).‏
        يعني -وهو مايكاد يتفق عليه الجميع - أن (القانون) في الكتابات الشعرية- النثرية، هو الحرية. إلاّ أن هذه الحرية ينبغي أن تفهم في (قوانين) منظّمة -لها- إن جاز القول. إنّ الفوضى التي تعمُّ شعرنا اليوم تكمن في جزء أساسيّ منها في توهُّم البعض، أن الحرية تعني الفوضى والهدم حسب.‏
        نعم. قد ينتج عن الفوضى، نصوصٌ إبداعية مهمة، لكن الفوضى لاتخلق ثقافةً. ومعلوم أنه لا(فنّ) دون أعراف. أو أنه يخلق أعرافاً. فكل معمار فني لايمكن أن يقوم، دون شك، دون تآلق بين عناصر، مهما بدت متنافرة في الظاهر، لكنها لابد أن تكون متماسكة، متكاملة، أو متساندة في الداخل. وإلاّ تعرّض للانهيار أو فقد طموحه في التأسيس والانتماء.‏
        إنّ قصيدة النثر، مثلاً، التي تطمح لأن تضمن لها مكاناً بين الأنواع الأدبية- وهذه إحدى تناقضاتها المشخّصة بين الطموح إلى النوع والتمرد على النوع- كيف لها أن تحقّق "نوعها" دون أن تتشبّث بخصائصها المحدّدة- أي: القصر، الكثافة، التوهج- السردية، الدلالية.. الخ.. كما يشخّصها كتّابها ونقّادها.‏
        ثالثاً: إن قصيدة النثر ليست إقصاءً للشعر. كما يعتقد البعض، لأنها ببساطة نثر يبحث عن مكانة في قارة الشعر.‏
        وبعبارة أخرى، إنها نثر يعمل على اكتساب صفة الشعر دون التقيّد بالتزامات الشعر: الوزن، والقافية، والتشطير على الورق. فهي، إذن، تأخذ من الشعر أبرز مقوّماته: فهي تملك إيقاعاً ملفوظاً، وتأثيراً مصوّتاً، ولغة مجازية وكثافة في التعبير، وقد تنطوي على قافية ظاهرة أو داخلية وتعاقب موزون أحياناً. إنها بإيجاز: (تأليف يتّخذ كل أشكال الغنائية باستثناء أنها توضع على الورق كنثر..)(5) وتترك الباقي. ليس لأنّ الباقي (الوزن والقافية) ليس شعريّاً، أو ليس مفيداً للشعر، بل لأنها جعلت من صفتها (الانفرادية) التضادّية: (شعر -نثر) خاصيّة مميّز لها.‏
        رابعاً: ولا أعتقد أن قصيدة النثر وسائر الكتابات النثرية -الشعرية، بإهمالها الوزن والقافية، ترمي إلى الدخول في (التنافر الصوتي) لإيقاعات العصر: إيقاع الآلة- على الأقل في معظم دول العالم الثالث- ذات الواقع البدائي، أو يشبهه:‏
        أولاً : لأن الآلات المعنية: (قطارات، طائرات، بواخر، معامل، سيارات.. الخ) لا تؤلّف إيقاعاً سمفونياً‍.‏
        ثانياً : ولأن الآلات ليست حكراً على هذا العصر حسب، لا في أوربا، ولا في غيرها. فلا ينبغي أن ننسى، مثلاً، مايسمّى: بـ (تكنولوجيا العالم القديم) ومنها نواعير الفرات في العراق وسوريا، ومحال الحدّادين والصفّارين والبنائين والفخّارين.. إلى غير ذلك من الآلات تنتج عنها ضوضاء أو تنافر صوتي!‏
        ثالثاً : ولأن الأشياء كلّما داخلها الاضطراب، كلّما كانت في حاجة ماسة إلى "ضابط". فهذا هو مبدأ الخلق والتكوين، من الفوضى يتولّد النظام الكوني. والوزن في الشعر، في رأي البعض، مهما كان نوعه: كيفيّاً أو كميّاً، هو ضابط يعين الشاعر على استعادة سيطرته على موضوعه. والخيار، بالطبع، متروك للشاعر نفسه(6).‏
        رابعاً : ولأنّ زمننا العربي، اليوم، أبطأ من سلحفاة. ولايعاني من (التنافر الصوتي) الذي تسببه الآلات كما في أوربا وأميركا، مثلاً، فإن القول بإسقاط الوزن والقافية للسبب المذكور -إن صحَّ! يصبح المبرّر لكتابه- القصيدة النثرية في العربية، باطلاً، ولسببين:‏
        أولهما: أن الغالبية من شعراء الدول الصناعية مايزالون يكتبون الشعر بالوزن -كلُّ حسب طبيعة لغته وبناها الإيقاعية وأنماطها الشعرية التقليدية منذ مئات السنين. وعلى سبيل المثال: الهايكو والتانكا في الشعر الياباني.‏
        ثانيهما: أن واقعنا العربي الراهن لها يعاني من (التنافر الصوتي) بسبب الآلة. بل يعاني من تنافر وتبلبل في الأذهان والأصوات بسبب أن جميع طرق الحداثة والتحرر، مسدودة أمامه. فضلاً عن أنه لم يعد يملك خياره في الطريق الذي يريد. وكلّنا سمع بحكاية الغراب الذي أضاع المشيتين!‏
        خامساً: ولأنّ الكتابة النثرية -الشعرية قديمة جداً. تؤكدها جميع الكتابات التي وصلتنا عن الحضارات القديمة: (حضارات العراق القديم، مصر، والشام (حضارة أوغاريت)...) ثم القرآن والتوراة، وكذلك الكتابات النثرية العربية ذات الطابع الشعري والتي أطلق عليها النقاد العرب مصطلح: (القول الشعري) تمييزاً لها عن (الشعر) الموزون المقفّى. وهو مايفنّد الزعم القائل، إن النقاد العرب لم يميّزوا بين القصيدة الموزونة والقصيدة النثرية.‏
        لقد أدرك العرب منذ وقت مبكر أنّ في الشعر، قدراً من النثر، وفي النثر قدرٌ من الشعر، وميّزوا بين (الشعر الموزون) و (القول الشعري) الخالي من الوزن والتقفية. ولأن الأمر هذا، معروف وفيه كتابات كثيرة، نكتفي بالإشارات التالية:‏
        1-عن أبي سليمان المنطقي، وهو يعبّر عن أهمية الإيقاع وكونه العامل الذي تشترك فيه كل فنون القول، قال: (ومع ذلك ففي النثر ظلٌّ من النظم. ولولا ذلك ماخفّ ولا حلا، ولا طاب ولاتحلاّ. وفي النظم ظل من النثر، ولولا ذلك ماتميّزت أشكاله، ولاعذبت موارده ومصادره، ولا بحوره وطرائقه، ولا ائتلفت وصائله وعلائقه).‏
        2-وعن ابن هند الكاتب قال: (إذا نظر في النظم والنثر على استيعاب أحوالهما وشرائطهما، والاطلاع على هواديهما وتواليهما، كان أنّ المنظوم فيه نثرٌ من وجهٍ. والمنثور فيه نظمٌ من وجهٍ. ولولا أنّهما يستهمان هذا النعت لما ائتلفا ولا اختلفا) (7).‏
        3-وعرّف ابن سينا، الشعر بأنه مخيّل.. (وقد تكون أقاويل منثورة مخيّلة. وقد تكون أوزان غير مخيّلة(8).‏
        4-وعرّف ابن رشد، الشعر بأنه: (إخراج القول غير مخرج العادة). أي: مغيّراً عن القول الحقيقي، فإذا غيّر القول الحقيقيُّ سمي شعراً أو قولاً شعرياً. ووجد له فعل الشعر(9).‏
        5-أما الفارابي فقد رأى أنّ عنصر الوزن أقلّ شأناً من عنصري المحاكاة ومادتها في الشعر. لكنه شرط الوزن في الشعر. وماخلا منه يسمّى قول شعري(10).‏
        وهكذا ميّزوا بين:‏
        الشعر: الكلام المخيّل الموزون المقفّى‏
        القول الشعري: وهو كلّ مااشتمل على جميع خصائص الشعر باستثناء الوزن والقافية. علماً أن ابن رشد ساوى بين الشعر والقول الشعري إذا ماتحقق المجاز أو تحقق انزياح القول عن معناه الحقيقي- الاصطلاحي إلى مجازي أو استعاري.‏
        خامساً: ليس صحيحاً أن "الغموض" مطلقاً، شرط لازم للشعر. وإنْ كان من خاصيّاته الطبيعية لأسباب تتعلّق بالطبيعة المجازية للغة التعبير الشعري.‏
        في الشعر هناك "غموضان": غموض متأتٍّ من طبيعة التعبير الاستعاري -كما قلنا- وغموض متأتٍّ من (مرجعيّات) الشعر. ولابد للقارئ والناقد من الوصول إليها لاستيعاب موحيات التجربة أو اتجاه الدلالة. وهذه (المرجعيّات) قد تعود إلى أسماء أماكن... أو وقائع حصلت للشاعر أو لأهله ولأصدقائه، أو أية إشارات أخرى تتصل بلغات وقراءات على نحو مانجد، مثلاً، في قصيدة (الأرض اليباب) لإليوت. مما ينبغي الوصول إليها، لأنها، غالباً، هي مفاتيح القارئ إلى القصيدة (التجربة الشعرية). وخاصة فيما يدعى بالشعر الاعترافي. أي الذي ينحو منحى بيوغرافياً. وتتجلّى أهمية معرفة هذه المصادر، لمترجم الشعر إلى لغات أخرى. فهي التي تمكّنه من فهم النص وتجلية غوامضه، أو مايبدو هكذا.‏
        على أن مايدعى (غموض الضرورة) يأتي في الأساس من طبيعة البنية المجازية للتعبير الشعري في عمقها أو امتداداتها.‏
        أما "الغموض" الذي يتباهى به البعض باعتباره دليلاً على "العبقرية"! فقد بات يدعو للرثاء في أهون ما يمكن أن يوصف به، هو أنه إرباكٌ متقصّد للعلاقات اللغوية- لا انتهاكٌ منتظم لقانون اللغة- المعياريّة، حيث هو الذي يجعل الاستخدام الشعري للغة، ممكناً، وحيث تشكل اللغة المعيارية، الخلفيّة التي تنعكس عليها بنية العمل الشعري(11).‏
        وبتعبير الجرجاني: الألفاظ لاتراد لأنفسها، وإنما تراد لتجعل أدلّةً على المعاني. ذاك أن علاقة الشاعر بألفاظ اللغة ومواصفاتها، أشبه بعلاقة الصانع بمادته الخام. إنه لايصنع المادة، لكنه يعيد تشكيلها. وهكذا الشاعر ليس هو من يحدّد دلالة الألفاظ أو مواصفاتها، بل هو من يعيد تشكليها في علاقات جديدة لتنتج شكلاً يؤثر بدوره على دلالتها... ومدار هذا الأمر على الكناية والاستعارة والتمثيل.. الخ. مما ينتج دلالة ثانيةً، أو مايسميّه الجرجاني: (معنى المعنى)(12).‏
        سادساً: لقد شاع منذ زمن، ومايزال، في الأوساط الأدبية، تصوّرٌ فحواه أن المساحة، شاسعةٌ بين مايسمّى بالإيقاع الخارجي، والإيقاع الداخلي في الشعر. لدرجة أن توهم البعض، أن أحدها منفصل عن الآخر، أو أنه يمكن أن يوجد أحدهما ولايوجد الآخر.‏
        والحقيقة أن هذا مجرد وهمٍ من أوهام كثيرة شائعة في الوسط الأدبي، مثلما هو وهمٌ أن تخصَّ قصيدة التفعيلة بالإيقاع الخارجي -(وقبلها قيل الشيء نفسه عن القصيدة ذات الشكل التقليدي (العمودي) في المواجهة بينها وبين قصيدة التفعيلة الجديدة)- بينما تخصُّ قصيدة النثر أو القصيدة النثرية بالإيقاع الداخلي! ذاك أنه لاشعر حقيقياً، مهما كان نوعه أو تسميته، يخلو من الإيقاعين، وإن تفاوتت نِسب تواجدهما فيه. لأنه إذا خلا الشعر من إيقاع الوزن والقافية، هناك إيقاع النثر -النَّبرُ أو سواه. فالشيء الأكيد أنّ لقصيدة النثر، ولأيّة كتابة شعرية، إيقاعها الخاص، أو عليها أن تبتكره، وإلاّ فقدت شعريَّتها أو أنقصتها.‏
        أما بالنسبة للإيقاع الداخلي فهو من خاصيّات الشعر، مهما كان نوعه وبأية صيغة جاء، لأنه متأتٍ من التفاعل العضوي بين الأفكار واللغة وصور التعبير عنها في مجازات واستعارات، وموازاةٍ وتشبيهٍ وقوافٍ داخلية وجناساتٍ.. الخ. وبين هذه وإيقاعات التفاعيل والقوافي في الشعر الموزون المقفّى. لأن التفاعيل والقوافي ليست ألفاظاً مجرّدة معزولة عن السياق: لغةً وتعبيراً وأفكاراً.. بل هي أزمانٌ صوتيّة لتراكيب لغوية لها معانٍ ودلالات، فنحن لانستخدم تفعيلة المتقارب (فعولنْ) -مثلاً- مجردةً. فهي هنا لامعنى لها. إنها مجرد (عددٍ إيقاعي) على رأي ابن سينا. لكننا نستخدمها -أي (فعولن) في كلام له معنى وفيه صورة على نحو قول السيّاب:‏
        (وتلتفُّ حولي دروبُ المدينة)‏
        وهكذا بالنسبة للقافية، فهي: (لفظٌ مثل لفظ سائر البيت في الشعر، ولها دلالة على المعنى -كما لذلك اللفظ أيضاً. كما قال قدامة بن جعفر في (نقد الشعر)(13).‏
        سابعاً: وينبغي الحذر الشديد من أولئك الذين ينتزعون مقاطع من روايات وقصص غربية أوعربية على أنها: قصائد نثر -بحجة أنها تنطوي على تيّار هادر من الصور، والعواطف، والمجازات.. الخ.. فهذا كلام خادع. لأن معنى هذا، أننا سنحيل جميع أو معظم الإنتاج الأدبي السردي: (قصة قصيرة، مقالة أدبية، رواية، مقامة، ملحمة نثرية، خواطر، رسائل غرام.. الخ إلى قصائد نثر، باعتباره ينطوي على قدرٍ ما من "الأدبيّة". متناسين في الوقت نفسه، أن الأدب بجميع فنونه المعروفة: نثرية وشعرية، ينطوي على "الأدبية". بمقادير متفاوتة. ومن أجل هذا سمي: "أدباً". ومن أجل هذا أيضاً، يوصف سردٌ ما.. بالشعرية أو الشاعرية، دون أن يعني ذلك أنه: شعر. بالمعنى الذي نتكلم فيه.‏
        ثامناً: وينبغي الحذر أيضاً، من المضيِّ في الماضي. فنحن نشاهد في الساحة الثقافية العربية اليوم. من يبحث عن مبررات لكتاباته في الماضي: السوريالي يبحث عن جذر لسورياليّته عن النفّري وسواه من المتصوفة. والبنيوي يبحث عن أصل في (بنية) نظرية النظم عند الجرجاني. وكاتب قصيدة النثر يبحث عن تأصيل لها في النثر القرآني ونظرية (القول الشعري) عند النقاد الفلاسفة العرب.‏
        طبعاً. لا اعتراض على إعادة قراءة وتأويل الماضي. وخاصة إذا كانت (نصوص) الماضي من نوع مايسمّى: النصوص المفتوحة لقراءة مفتوحة. لكن الذي ننبّه إليه هو أن يكون القصد من البحث عن "مماثلات لكتاباتنا المعاصرة في الماضي، من قبيل التبرير، كمن ارتكب "جنحةً" أو "خطيئة" ويحاول تأصيلها في "سابقة" مباحة!‏
        إن من "يرتكب" أو "يحدث حدثاً" عليه أن يقدّم تبريره من داخل "الحدث" /النص نفسه. وفي حال وجود "مماثلات، في الماضي (الموروث) علينا إيضاح، وجوه الائتلاف والاختلاف على مستوى البنية والمحفّزات التعبيرية والانحراف في الدلالة.‏
        تاسعاً: إلى أيّ مدى يمكن لنا أن نصدّق الذين يتحدّثون عن (إبداع دون نموذج)؟ إذن. أين يذهب كلُّ مااحتوته ذاكرتنا مما عشناه وعانيناه وحلُمنا به وقرأناه في كتب الأوّلين والمعاصرين من تاريخ وجغرافيا، وفلسفة وشعر وأدب وسير وتجارب شخصيات وفنّ وعلوم.. الخ.‏
        أقادرٌ هؤلاء الذين يقولون بـ (إبداع دون نموذج) أن يغسلوا ذاكرتهم من كل ذك! وكيف يمكن تمييز "إبداع دون نموذج" بمعزل عن ذاكرة تملؤها "النماذج" مما شاهدنا وقرأنا؟‏
        بالتأكيد لانعني هنا أن نضع المبدع أمام خيار "نموذج" من "نماذج" يحتذيه ويقع عليه وقع الحافر على الحافر -كما يقال- ولكن إذا كانت القصيدة لاتجيء (خارج آلية الكتابة والوعي الذي ينتجها- كما يقول فاضل العزاوي، مثلاً -فهل "آلية الكتابة" غير "نماذج" وتيّار من الوعي -وعي هذه النماذج وغيرها، حتى لو تمّ نسيانها. إنها خزين الذاكرة .)‏
        إن "الأزمنة" التي يتحدث عنها البعض في الشعر العربي، ويظنها في "الشكل" ويرى حلّها في الانتقال من الشعر إلى النثر الشعري باعتباره "الإبداع دون نموذج"! تطرح، في الحقيقة، لا أزمة الشعر بقدر ماتطرح "أزمة" المبدع نفسه. لأنه هو (خالق) الأشكال. وهو المسؤول، أولاً، عن توسيع وابتكار خطاباته لتستوعب الرؤية المتّسعة.‏
        لقد كان المشكل، دائماً، في الأدب: في التعبير -فالمعاني مطروحة في الطريق- قال الجاحظ- ولم يكن التعبير- الشكل يوماً، مسؤولاً عن جميع الأفكار والرؤى. فالمبدع الحقيقي بموهبته وخبرته واشتعال الروح بمزيد من التطلّع والأسئلة، كان دائماً هو الباحث والمجترح لأشكال وأساليب تعبيرية مبتدعة أو مطوّرة عن الموروث أو السائد في عصره.‏
        المبدع الحقيقي -في رأينا- لايتحدث عن أزمة من هذا النوع.. يمكن له أن يتحدث عن أزمة نثر، حرية تعبير، مثلاً، لكن عن أزمة في أشكال وأساليب التعبير، فهذه مشكلته ومسؤوليته.‏
        عاشراً: تبقى مسألة محيّرة بشقين، لن نطيل الوقوف عندها.. وأعني: أولاً: تخاصم غير قليل من الكتّاب والشعراء العرب حول تقنين الحدود بين قصيدة النثر، والقصيدة الحرّة (النثرية) أو قصيدة التفعيلة. ذاك أننا إذا استثنينا الوزن في قصيدة التفعيلة، نجد أن الخلاف ينحصر في (شكل) الكتابة. أي: بين امتلاء الصفحة في قصيدة النثر، وبين تقطيع القصيدة إلى أبيات (أشطر) في قصيدة التفعيلة -. هو خلاف كما يبدو، شكلي، ولا يستحق الخصام والضجيج. علماً أن معظم الكتابات الشعرية النثرية، بما فيها قصيدة النثر، غالباً مايجري توزيعها على أشطار، وليس كما يكتب النثر -بامتلاء الصفحة.‏
        ثانياً: والمسألة الثانية تتعلّق بمستقبل الكتابة، وأعني ادعاء البعض أن (الشكل) أو (القصيدة) التي يكتبها اليوم، هي قصيدة المستقبل. وهذا ادعاء من قبيل محاولة فرض رغباتنا على مستقبل نجهل ماسوف تؤول إليه الأشياء. وأعتقد يكفينا أن ندرك روح عصرنا، فنجلّي أعماقه، ونكشف عن آفاقه وإرهاصاته.. ونترك للقادمين، حقّهم في أن يكون لهم زمنهم ومشروعهم وفق خياراتهم في الشعر والحداثة والحياة!.‏
        خلاصة/ خاتمة:‏
        إن مشكل الشعرية، اليوم، مثل مشكل الحداثة، يأخذ منحى عالمياً وهو بذلك، يوفر فرصة هامة لإعادة قراءة الموروث الشعري، قراءة أو قراءات جديدة في ضوء المناهج النقدية والألسنية الحديثة، وبالذات مفهوم الدلالة والعلامة. هذه ملاحظة.‏
        وملاحظة أخرى، لقد رأينا جلّ الدارسين ومنظّري الشعرية، يتفقون مع رومان جاكوبسن في أن موضوع الشعرية، بالتحديد، هو محاولتها الإجابة على السؤال: ما الذي يجعل من رسالة لفظية أثراً فنيّاً؟ أو ما الذي يجعل عبارتين: الأولى شعرية، والثانية نثرية. رغم أنها تصفان حالة واحدة، أو تعبّران عن مدلول واحد، أو تحملان المحتوى نفسه(14).‏
        باختصار، وباعتبار الشعر فنٌ لفظي، ويستلزم قبل كل شيء، استعمالاً خاصاً للغة، يرى جاكوبسن أن على الشعرية التي تؤول الشعر من خلال موشور اللغة، أن تنظر إلى القصيدة على أنها "مجموع مركب وغير قابل للتجزئة" من جهة. وأنّ القول الشعري، قول غير عادي. أي أنه يمثل الانحراف النادر والثابت في استخدام اللغة وتطوّرها منذ آلاف السنين. من جهة ثانية.‏
        وهذا يعني، حسب تودوروف، أن النص هو تجلّ لبنيةٍ مجرّدة. وبذا لايصبح العمل الأدبي هو موضوع الشعرية في حدّ ذاته، بل ماتستنطقه خصائص الخطاب النوعي الذي هو الخطاب الأدبي. أي الخصائص المجرّدة التي تصنع فرادة الحدث الأدبي.‏
        ومعنى هذا أيضاً، أن اختصاص الشعرية ليس الشعر وحده، بل الأدب كله، منظوماً أم غير منظوم. وبذا فهي تسهم في توحيد كل الاتجاهات التي تكون "البنى المجرّدة" فيها أساس العمل الأدبي. وبهذا المعنى لن يصبح الأدب، أجناساً، بل "تقاطع مستويات". والشعرية "كاشفاً" للخطابات(15).‏
        يعني، أن هدف الشعرية لم يعد البحث في "الشعر" -مصطلحاً- وحسب، بل البحث عن السمات الحاضرة فيما نصنّفه ضمن الشعر أو الشعري، وما نصنّفه ضمن النثر. ومانصنّفه بينهما. وهذا البحث يقتضيها البحث فيما يعرف "بالأسلوب" الذي هو الكاتب أو الشاعر، أو الشعر. والذي يهمنا من الأسلوب في الشعر. ليس ماهو مطابقاً لمعيار العام المألوف، بل مقدار الانزياح في الاستخدام غير العادي للغة. وبتعبير ابن رشد: القول المغيّر عن القول الحقيقي. وبهذا يصح وصف (الشعرية) بأنها (علم الأسلوب الشعري) بكل ماينطوي عليه هذا الأسلوب من فرادة في الاستخدام الخاص للغة، وحيث ينتفي الحديث عن شكل ومادة، أو دالٍ ومدلول.. بل: (شكل). فالشكل هو هذه المادة كما تُبَنْينها العبارة، لسبب مهم، هو أنك لن تقول "المعنى" مرتين. فأيّ تغيير في صيغة العبارة، يؤدي إلى تغيير في المعنى. كما قال الجرجاني.‏
        وبناء على تقدم، يصبح البحث عن الشعرية على أساس الظاهرة المفردة: الوزن وحدة، أو القافية، أو الإيقاع، أو الرؤيا، أو الصورة.. الخ، بحثاً لاطائل وراءه. فهذه العناصر وغيرها جميعاً مندرجة ضمن شبكة من العلاقات المتشكّلة في بنية كلية. هي ماتكوّن الشعر. وقد أدرك الجرجاني وغيره من النقاد والبلاغيين العرب هذه الحقيقة، حين أكّدوا أن الشعرية ليست سوى مباينة التعبير باللغة للاستعمال العادي المألوف لها في النثر العادي.‏
        الإرشادات:‏
        1-ينظر كتاب: (قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا) لسوزان برنارد -ترجمة د.زهير مجيد مغاس -إصدار دار المأمون- بغداد- 1993.‏
        2-قال الآمدي في وصف منهجه: (ثم أوزان من شعريهما بين قصيدة وقصيدة إذا اتفقتا في الوزن والقافية وإعراب القافية ثم بين معنى ومعنى. فإن محاسنهما تظهر في تضاعيف ذلك وتنكشف) [الموازنة: 1/57].‏
        أما القرطاجني فكاد يجعل المفاضلة بني الشعراء، مستحيلة نظراً لأن الشعر يختلف في نفسه بحسب اختلاف أنماطه وطرقه. وبحسب اختلاف الأزمان والأمكنة وتفاوت الغايات وتباين المذاهب واختلاف أحوال القائلين.. الخ [المنهاج: ص374-377).‏
        3-ينظر (بنية الخطاب النقدي) د.حسين خمري- دار الشؤون الثقافية /بغداد- 1990-ص6.‏
        4-مجلة (الشعر) المصرية- العدد- يونية 1964/ص105-106 -ترجمة: ماهر شفيق فريد.‏
        5-مجلة (اللحظة الشعرية)- لندن/العدد (1) -1992/ص48 [خواطر حول الشعر والموسيقى- قصيدة النثر- ترجمة عن كتاب الشعر والشعرية تحرير ألكس بريمنغر /لم تذكر المترجم.‏
        6-مجلة (اللحظة الشعرية) العدد: 5/6-1994/ص56- رأي الناقد حاستس عن فوزي كريم.‏
        7-الإمتاع والمؤانسة: 2/135 ومابعدها.‏
        8-ضمن كتاب (فن الشعر) لأرسطو -ترجمة عبد الرحمن بردي- دار الثقافة- بيروت 1973/ص161.‏
        9-نفسه: ص242.‏
        10-عن كتاب (تاريخ النقد الأدبي عند العرب) د.إحسان عباس /بيروت، 1971/ص219.‏
        11-ينظر (اللغة المعيارية واللغة الشعرية). ليان موكاروفسكي. ترجمة وتقديم ألفت كمال الروبي -مجلة (فصول) المصرية/العدد (1)- 1994/ص45.‏
        12-دلائل الإعجاز: ت: د.محمد رضوان الداية ود. فايز الداية- مكتبة سعد الدين -دمشق- 1987 ط2/ ص258.‏
        13-ت: كمال مصطفى -مكتبة الخانجي بمصر 1963-ص23.‏
        14-قضايا الشعرية -ترجمة محمد الولي ومبارك حنون -دار توبقال- الدار البيضاء- المغرب- 1988-ص24.‏
        15-تودوروف: الشعرية: ترجمة: شكري المبخوت ورجاء بن سلامة- دار توبقال، الدار البيضاء -المغرب- 1987/ص22-23.‏

        إذا الشعب يوما أراد الحياة
        فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
        و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
        و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

        تعليق


        • #5
          رد: الاختلاف والائتلاف في جدل الأشكال والأعراف

          الرؤية النقدية في الاختيارات الشعرية مدخل

          تنتظم الاختيارات الشعرية (وهكذا القصصية، والمقالات النقدية والفكرية..) على أسس مختلفة، ولغايات معينة: *فهناك الاختيارات من شعر شاعر بعينه، قد يقوم بها الشاعر نفسه أو شخص آخر. مثل (أحلى قصائدي) لنزار قباني، واختيارات أدونيس للسياب والمتنبي، و (حماسة) شميم الحلي، *واختيارات الأعلم الشنتمري: (الشعراء الستة الجاهليين). *اختيارات على أساس مرحلة تاريخية محددة، مثلاً: العصر الجاهلي. أو الأموي، أو الأندلسي، أو مثل: الشعر في القرن العشرين، أو ديوان الشعر العربي لأدونيس. * اختيارات على أساس موضوع محدد، مثلاً: المديح، الهجاء، الغزل، الحرب، الخمرة، وصف الطلل.. أو أي موضوع آخر: سياسي أو أيديولوجي. *اختيارات على أسس الجنس، مثلاً، اختيارات من أشعار النساء: (نزهة الجلساء في أشعار النساء) للسيوطي. *اختيارات لقصائد نشرت في مجلة ما.. لفترة محددة، مثل: (ديوان الأقلام). *اختيارات جهوية، مثلاً: المختار من شعر أهل الأندلس والمغرب.. أو أي قطر آخر. *اختيارات على أسس لغوية، مثل: اختيارات للشعراء الناطقين بالانجليزية، أو الفرنسية، أو الإسبانية، أو البرتغالية.. ومن قوميات، وأقطار مختلفة (فرانكوفونية). *اختيارات يقصد منها المتعة: (أغزل الغزل..) أو: المتعة والفائدة: (نزهة الأبصار في محاسن الأشعار). *اختيارات معنوية، أي إبراز المعاني المتداولة في الشعر وأفضل من عبر عنها، مثلاً: (ديوان المعاني) لأبي هلال العسكري، و (مجموعة المعاني) لعبد السلام هارون. * اختيارات تقع في إطارات المماثلة أو المناظرة (الأشباه والنظائر) للخالديين -في المماثلة والمناظرة بين المعاني المتداولة بين الشعراء.
          وعلى العموم، الاختيارات، معروفة ومألوفة في مختلف آداب العالم: قديماً وحديثاً. وحسب علمنا -وفوق كل ذي علم عليم!- أن أقدم المختارات، (كتاب الأغاني- الشي جنج) لكنفوشيوس حيث ضاع معظم ما كتب من الشعر قبله، وأكثر ما بقي منه هو ما اختاره هذا الفيلسوف من نماذج كلها جد وصرامة.. وقيلت في فترة تزيد على ألف عام تمتد من أيام الشعر القديم الذي قيل في أيام أسرة (شانج) إلى الشعر ذي الصيغة الحديثة الذي قيل في زمن معاصر لفيثاغورس، وتبلغ عدة هذه القصائد الباقية (305) قصائد(1) أما في العربية، فيحسن أن نبدأ بـ:
          المعلقات: التي تعد من أقدم الاختيارات الشعرية. وحولها، ثمة اتفاق في أن حماد الراوية(2): هو من قام باختيارها، وإن الجاهليين لا صلة لهم مطلقاً بهذه التسمية. أما الاختلاف فحول عددها، وقضية التعليق، والتسمية.
          أما العدد، فهو سبع وهو اختيار حماد، وشعراؤها هم: امرؤ القيس، طرفة، زهير، لبيد، عمرو بن كلثوم، عنترة، الحارث بن حلزة.. لكن هناك من جاء فيما بعد، فأوصل العدد إلى عشرة، بإضافة الشعراء: النابغة الذبياني، والأعشى، وعبيد بن الأبرص(3).
          لكن الخلاف يشتد حول التسمية والتعليق: حيث بالإضافة إلى تسميتها بالمعلقات، اشتهرت هذه القصائد بأسماء عدة، منها: المذهبات، السموط، والطوال، والمشهورات، والسبعينات، والمختارة، أما بالنسبة للتسمية بالمعلقات، فقد قالوا: أن العرب كلفت بقصائد من الشعر الجاهلي وفضلتها على غيرها، وعمدت إلى سبع قصائد تخيرتها، فكتبتها بماء الذهب في القباطي، وعلقتها على أستار الكعبة. ولذلك يقال أيضاً: مذهبة امرئ القيس، ومذهبة زهير... الخ(4).
          وحول هذه المسألة، انقسم المحدثون، مثلما انقسم القدماء، بين مؤيد لقصة التعليق وبين رافض لها. فمن القدماء، قال ابن النحاس: لم يثبت ما ذكره الناس من أنها كانت معلقة على الكعبة، وهكذا عدد من علماء الأدب والشعر لم يؤثر عنهم أن استخدموا هذه التسمية كالجاحظ والمبرد والقرشي صاحب الجمهرة، وصاحب الأغاني، وهو دليل على شكهم في التعليق.
          فضلاً عن أن بعض الشراح المشهورين لم يذكروا أنها معلقات مثل الأنباري والنحاس والزوزني والتبريزي(5).
          أما من المحدثين الذين أيدوا مسألة التعلييق فهم: جرجي زيدان، وأحمد حسن الزيات، وناصر الدين الأسد، وبدوي طبانة.. والذين رفضوا القصة، هم: طه حسين، الرافعي، د. جواد علي، وبروكلمان، وذهب نيكلسون إلى أن المعلقات، (مشتقة في الغالب من كلمة: علق أي ثمين نفيس)، وقد يكون المقصود، أن الإنسان يعلق بها، أو أنها تعلق في مكان الشرف أو مكان أمين/ الخزانة. وذهب نولدكه إلى: أن المعلقات معناها المنتخبات.(6) ورأى د. جواد علي، أن الذي أوحى إلى أهل الأخبار بفكرة المعلقات السبع، هو ما جاء في القرآن الكريم: (ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن الكريم). وما جاء في الحديث: (أوتيت السبع الطوال) من سور القرآن..(7)
          وبينما يقول د. جواد علي: لا نعلم اسم أول من أطلق مصطلح (المعلقات السبع) على هذه القصائد(8) يذهب بروكلمان إلى أن حماد الراوية جمع هذه الاختيارات وسماها: السموط، والمعلقات. وأراد من هاتين التسميتين، الدلالة على نفاسة ما اختاره، والافتخار بخالص اختياره.. لكنه يضيف قائلاً: وزعم المتأخرون أنها سميت بذلك لأنها كانت معلقة، على الكعبة لعلو قيمتها(9). وكأنه يشك بمسألة التعليق.
          إذن ورغم خلاف القدماء حول التسمية (المعلقات، السموط، الطوال، المشهورات.. الخ) ومسألة التعليق على الكعبة، فإن اختيار حماد لها، رغم أنه لم يكن موثوقاً به(10) لم يثر اختياره للشعراء وقصائده، اعتراض أحد من القدماء، ولا قدم أحد من القدماء، ولا حماد نفسه، المسوغ الذاتي أو الموضوعي (رؤيته النقدية) لاختياره هؤلاء الشعراء السبعة وقصائدهم بعينها. وهذا يدل -في رأينا- أن حماداً، أخذ بإجماع العرب على أسماء الشعراء وقصائدهم، على نحو ما ذكره، ابن عبد ربه وغيره، من: (أن العرب كلفت بقصائد من الشعر الجاهلي وفضلتها على غيرها، وعمدت إلى سبع قصائد تخيرتها فكتبتها بماء الذهب... الخ، الخير).
          بل حتى المتأخرين بلغ كلفهم، بها حد أن شروحهم لها تجاوزت العشرين شرحاً، كما ذكر ذلك بروكلمان.
          لكن ابن طيفور في كتابه (المنظوم والمنثور) يتفرد في أنه حاول تبين الأسس النقدية في اختيار المعلقات أو القصائد السبع الطوال التي نالت الإجماع بـ:(1) اشتمال القصيدة على معان كثيرة لا مثل لها، مثل قصيدتي امريء القيس وزهير. (2) وانفرادها بمحاسن لم تجيء في غيرها، واطلاق خاتمة بليغة فيها كقصيدة طرفة. (3) وانفرادها في الوزن والعروض كقصيدة عبيد بن الأبرص. وقال عن قصيدة لبيد: (إنها عين شعر صاحبها).(11)
          الاختيارات القديمة:

          أقدم ما وصلنا من الاختيارات هو: القصائد المفضليات التي صنعها المفضل الضبي، ثم الأصمعيات، وجمهرة أشعار العرب، (ومختارات شعراء العرب) لابن الشجري، و (كتاب الاختيارين) للأخفش الأصغر، والمختار من (أشعار الشعراء الستة الجاهليين) للأعلم الشنتمري، وهناك اختيارات أخرى سنأتي على ذكرها.
          أما المفضليات فهي اختيار لقصائد طويلة من عيون الشعر وهو اختيار الذوق الأدبي والجزالة اللغوية فيما تراءى له في ذلك العصر.(12) وتحتوي على 126 قصيدة -أضيف إليها أربع قصائد وجدت في إحدى النسخ، لسبعة وستين شاعراً، منهم ستة شعراء إسلاميون، وأربعة مخضرمون، والباقون(47) جاهليون لم يدركوا الإسلام. ولم يشرح المفضل، هذه المختارات، ولا بين أسس الاختيار، غير ما ذكر أن أبا جعفر المنصور قال للمفضل: (لو عمدت إلى أشعار الشعراء المقلين واخترت لفتاك (المهدي) لكل شاعر أجود ما قال. لكان ذلك صواباً؟) ففعل المفضل(13).
          لكن التبريزي، شارح المفضليات، قال، بعد أن سألوه شرح المفضليات بعد شرحه (الحماسة): "لاتفاق الناس على أنه ليس فيما اختير من المقصدات، أحسن ما اختاره المفضل بن محمد الضبي، كما أنه ليس في المقطعات أحسن من اختيار أبي تمام في الحماسة..)(14)
          وهذا يعني، كما ذهب د. إحسان عباس، إلى أن المفضل الضبي والأصمعي، إنما عمدا في اختيارهما إلى القصيدة، معتمدين على ما كانت الرواة قد استخرجته ونوهت به من شعر المقلين..(15)
          لكن بروكلمان يرى أن الأصمعي لم يجد سوى نخبة متواضعة من القصائد حين أراد جمع اختياراته.. ولذا فهي لم تلق ما لقيته المفضليات وغيرها من الانتشار والقبول لأنها أقل اشتمالاً على غريب اللغة.(16) ولهذا قيل: الأصمعيات التي أخلت بها المفضليات، أي أدخلت في خلالها.
          وقام الأخفش الأصغر بجمع المفضليات والأصمعيات في كتاب واحد، شرحه وعلق وفسر بعض الغريب، ووضح بعض المعاني البعيدة، فكان ما سمي بـ (الاختيارين). وفيه (58) قصيدة ليس فيما عرف من روايات المفضل والأصمعي. وقد صنف الكتاب هذا على غير نسق واضح. فتداخلت اختيارات المفضل واختيارات الأصمعي.. ولم يكن فيه أسانيد... ولا يوجد أي مقياس للاختيار أو على أي رأي..(17)
          أما (جمهرة أشعار العرب) للقرشي، فقد قسم ما فيها من الشعر، سبعة أقسام، هي:المعلقات (السموط)، المجمهرات، المنتقيات، المذهبات، المراثي، المشوبات، الملحمات.. كل قسم يضم سبع قصائد، باستثناء (المعلقات) ثماني قصائد، والمجمهرات ست قصائد.. قال المفضل الضبي: (فهذه التسع والأربعون قصيدة، عيون أشعار العرب في الجاهلية والإسلام، ونفس شعر كل رجل منهم).
          أما القرشي نفسه فقال موضحاً رأيه في الاختيار: "إنه لما لم يوجد أحد من الشعراء بعدهم إلا مضطراً إلى الاختلاس من محاسن ألفاظهم وهم إذ ذاك مكتفون عن سواهم بمعرفتهم، وبعد، فهم فحول الشعراء الذين خاضوا بحره، وبعد فيه شأوهم، واتخذوا له ديواناً كثرت فيه الفوائد عليهم. ولولا أن الكلام مشترك لكانوا قد حازوه دون غيرهم، فأخذنا من أشعارهم إذا كانوا هم الأصل، غررا هي العيون من أشعارهم وزمام ديوانهم..."(18).
          وهكذا فعل ابن الشجري في (مختارات شعراء العرب): (انتقى فيه عيون القصائد العربية وشرحها شرحاً لغوياً وأدبياً.. وانفرد برواية بعض القصائد.. وقسمه إلى ثلاثة أقسام: الأول:(12 قصيدة) والثاني: (25 قصيدة) والثالث: مختار من شعر الحطيئة (13 قصيدة، سوى المقطعات.) (19)
          أما اختيارات الأعلم الشنتمري: (أشعار الشعراء الستة الجاهليين) فهي اختيارات لأشهر الشعراء الجاهليين وهم: امرؤ القيس، علقمة الفحل، النابغة الذبياني، زهير بن أبي سلمى، طرفة بن العبد، عنترة بن شداد.. وتشتمل هذه المختارات على 136 قصيدة، تحتوي على 2548 بيتاً من الشعر ولم يذكر الشنتمري أي مقياس اعتمد في الاختيار.(20)
          هذا ولم تقف الاختيارات عند هذا، فهناك: (مختارات عبد القاهر الجرجاني) من دواوين المتنبي والبحتري وأبي تمام. وللمبرد (الروضة) اختيار من شعر المحدثين، و (البارع) لأبي عبد الله هارون بن علي، اختيار من شعر المحدثين. وله أيضاً كتاب اختيار الشعراء الكبير. من شعر بشار وأبي العتاهية وأبي نواس. ولابن طيفور عدد من كتب الاختيار منها: شعر بكر بن النطاح، ودعبل، ومسلم بن الوليد، والعتابي، ومنصور النمري، وأبي العتاهية، وبشار وغيرهم.. على أن اختيارات ابن طيفور في (المنظوم والمنثور) لم تقتصر على الشعر فحسب، بل شملت النثر أيضاً.. والقاعدة في اختياره هي تمييز النظم والنثر على درجتين:
          (1) المفرد في الإحسان. (2) المشارك بعضه بعضاً في الإحسان. فالمفرد قصيدة كان أم مقطوعة أم بيتاً هو هدف ابن طيفور في اختياره ولهذا أخذ يورد المفردات مثل قصيدة جران العود النمري:
          وراجعك الشوق الذي كنت تعرف



          ذكرت الصبا فانهلت العين تذرف


          قائلاً: "إنها من الشعر المقدم في الغزل الذي لا يعرف له مثيلاً في جاهلية ولا إسلام".(21).
          الحماسات:

          قال بروكلمان: حينما انتشرت نزعة التجديد في الشعر في عهد العباسيين، تغير أيضاً ذوق الأدباء، ولم يعد أحد يطيق الصبر على قراءة القصائد الطوال، بل اكتفوا بتذوق القطع المختارة، وظهرت اختيارات كثيرة لتلبية هذه الرغبة مرتبة على معاني الشعر. وأقدم هذه الاختيارات ما جمعه أبو تمام في كتاب (الحماسة). وهو عنوان غلب على هذا الكتاب تسمية له بأول أبوابه: (الحماسة). ويليه: باب المراثي، الأدب، النسيب، الهجاء، الأضياف والمديح، الصفات، المللح، مذمة النساء. وهذه الأبواب أقل مادة من الباب الأول، وقصر أبو تمام اختياره على شعراء الجاهلية وصدر الإسلام.(22)
          ويلاحظ د. إحسان عباس، أن أبا تمام خالف في تأليفه كتاب (الحماسة) الروح المتجهة نحو الشعر المحدث، لأن ما أورده في كتابه من شعر المحدثين، قليل... حيث عمد إلى الشعر القديم يستخرج منه المقطعات التي يحتاج إثباتها إلى تذوق أصيل... وقد دلت مختاراته على أنه يستطيع أن يتجاوز طريقه الشعرية وما فيها من طلب للصور، ومن أغراب في توليد المعاني، واستغلال للذكاء الواعي إلى شعر مشمول بالبساطة وشيء غير قليل من العفوية والصدق العاطفي المباشر.. ولم يعمد إلى المشهورين حسب، بل وإلى أناس مغمورين من شعراء الجاهلية والإسلام.(23)
          وهذا أيضاً ما ذهب إليه المرزوقي في شرحه ديوان (الحماسة) إذ قال: (ومعلوم أن طبع كل امريء- إذا ملك زمام الاختيار، يجذبه إلى ما يستلذه ويهواه ويصرفه عما ينفر منه ولا يرضاه.. وكان أبو تمام يختار ما يختار لجودته لا غير، ويقول ما يقوله من الشعر بشهوته..) (.. ولأن اختيار الناقد الحاذق قد يتفق فيه ما لو سئل عن سبب اختياره إياه، وعن الدلالة عليه، لم يمكنه في الجواب إلا أن يقول: هكذا قضية طبعي).(24)
          أي أن أبا تمام: (صب ذوقه الفني على ما وصل إليه من أشعار العرب، فاختار لكل باب من أبواب الحماسة ما ارتضاه ذوقه..)(25) لا مايشتهي قوله في شعره. ولذا لا مكان لقول التبريزي: (أبو تمام في اختياره أشعر منه في شعره).
          وقد نسج الأدباء على منوال أبي تمام في حماسته كالبحتري، والديمرتي، وابن فارس، والخالديين، وأبي هلال العسكري، والأعلم الشنتمري، والتادلي، والكوراني.. الخ(26) كما كلف بها الشراح حتى تجاوزت شروحها الثلاثين شرحاً.
          وبالرغم من أن أبا تمام لم يوضح منظوره أو تذوقه النقدي في اختياراته، إلا أن اختيارات الشعرية نفسها تكشف عن نزوعه. ففي الوقت الذي غلبت -مثلاً- النزعة الأخلاقية على اختيارات البحتري، كان المحمل الضمني عند أبي تمام، جمالياً، وفي هذا لا تمثل حماسة البحتري إزاء طريقته في الشعر(تكامل) التشابه أو التناظر، بينما تكون حماسة أبي تمام وطريقته (تكامل) التوازي بين شعره وأشعار الحماسيين..(27).
          وتعتمد الحماسات الأخرى في أغلبها، على ذوق صاحبها، وذوقه يرتد، في الغالب، إلى "مسبقات" ضمنية توجهه في أخذ ما يثبته وترك ما ينفيه..(28) ومصداق هذا ما ذهب إليه صاحب (الحماسة البصرية) قال:
          "وبعد، فإنه لما كنت المجاميع الشعرية صقال الأذهان، ولأنواع المعاني كالترجمان.. توخيت في تحرير مجموع محتو على قلائد أشعارهم (يقصد أشعار العرب) وغرر أخبارهم، مجتنباً للإطالة والأطناب، بما تضمنته أبواب الكتاب، كأمالي العلماء وحماسات الأدباء، ودواوين الشعراء من فحول القدماء والمحدثين ومختارات الفضلاء كأشباه الخالديين المحتوية على درر النظام وجواهر الكلام".(29)
          وإلى هذا نهج صاحب (الحماسة المغربية) حيث كان اختياره في الأغلب الأعم، يقع على المتميز من قصائد الشعراء، وفي المشهورين كانت النصوص من المشهور من شعرهم..(30)
          مؤلفات أخرى:

          هناك مؤلفات أخرى، وإن لم تسم، ولا عدت من (الاختيارات) لكننا نرى أنها تقع في هذا الذي يسميه د. إحسان عباس (بالنقد الضمني) مثل كتاب (طبقات فحول الشعراء) لابن سلام، و (زهر الآداب وثمر الألباب) للحصري، و (نزهة الأبصار في محاسن الأشعار) لشهاب الدين أبي العباس العنابي، و (ديوان المعاني) لأبي هلال العسكري، و (الأشباه والنظائر) للخالديين، و (المنتخب والمختار في النوادر والأشعار) لابن منظور صاحب لسان العرب.
          أما ابن سلام في (طبقات فحول الشعراء) فقد بنى كتابه على فكرة (الطبقات) من شعراء الجاهلية والإسلام والمخضرمين.. (فنزلناهم منازلهم، واحتججنا لكل شاعر بما وجدنا له من حجة، وما قال فيه العلماء.. فاقتصرنا من الفحول المشهورين على أربعين شاعراً.. فألفنا من تشابه شعره منهم إلى نظرائه.. فوجدناهم عشر طبقات، أربعة رهط كل طبقة، متكافئين معتدلين).(31)
          أما الأسس التي أقام عليها ابن سلام هذا التمييز والتدريج في الطبقات فهي: (أولاً): الفحولة. فكل من ذكرهم هم من الشعراء الفحول. (ثانياً) تقارب كل أصحاب طبقة في أشعارهم، أي التشابه والتناظر. (ثالثاً) اعتبار (الكم) في إلحاق الشاعر بالفحول. أي أن يكون للشاعر، شعر كثير، حتى وإن ضاع أكثره. فالضياع لا يحرمه من التقديم.(32) وبالطبع، الشهرة هي، أيضاً ما يفرض ذلك قال: (فاقتصرنا على ما لايجهله عالم. ولا يستغني عن علمه ناظر في أمر العرب).(33)
          أما (زهر الآداب وثمر الألباب) فهو: (.. كتاب اخترت فيه قطعة كاملة من البلاغات في الشعر والخبر. والفصول والفقر، مما حسن لفظه ومعناه، واستدل بفحواه على مغزاه، ولم يكن شارداً حوشياً، ولا ساقطاً سوقياً: ولم أذهب في هذا الاختيار إلى مطولات الأخبار).
          وقال المؤلف أيضاً: (وليس لي في تأليفه من الافتخار، أكثر من حسن الاختيار.. واختيار المرء قطعة من عقله، تدل على تخلفه أو فضله...)(34).
          وهذا كلام يغني عن أي تعليق في مسألة الاختيار، ومنظور المؤلف في الاختيار.
          وهكذا يمكن القول في كتاب (نزهة الأبصار في محاسن الأشعار) حيث تم تأليفه استجابة لأمر من الأمير شجاع الدين.. في (تأليف كتاب لطيف يحتوي على جيد الشعر ومحكمه. وأمثاله وحكمه.. وجمعت في هذا الكتاب من مقطعات الآداب في المللح الغريبة، واللمح العجيبة، وطرائف اللطائف، وجواهر النوادر، وقلائد الفرائد، وشوارد الفوائد..) وتجنب المؤلف التطويل، وجعله مختصراً في سبعة أبواب، كل باب فصول، وفروع وأصول.. في المدح ومكارم الأخلاق، والأخوانيات والحكم والغزل والنسيب وأوصاف الأزهار والثمار.. الخ.(35)
          فهو إذن، اختيار من منظور المؤلف في المللح والفوائد، والجواهر والفرائد.
          والاتجاه نفسه يبرز في (كتاب الأشباه والنظائر من أشعار المتقدمين والجاهلية والمخضرمين). قال الخالديان في ختام الجزء الثاني: (قد اخترنا في هذا الكتاب من أشعار العرب وبديع معانيهم وطريف استعاراتهم وتشبيهاتهم ما وقع في جملة من الورق كثيرة وضمنه عدة أجزاء.. إلا أننا ملنا إلى الاختصار، وتجنبنا الإكثار.. ولعل غيرنا ممن يقرأ هذا الكتاب يرذل شيئاً مما اخترناه، ويهجن شيئاً نقلناه، وهذا غير مزر لنا، ولا ناقص لنا، لأن لكل إنسان اختياراً..)(36)
          وقال المحقق: (وهذا الكتاب ليس مجموع شعر القبائل ولا مجموع قصائد طوال، ولا مجموع قصائد طوال ولا مجموع قطعات مختارة مبوبة على طراز حماستي أبي تمام، والبحتري، بل مجموع قطعات من شعر المتقدمين والمخضرمين ونظائرها من شعرهم هم (الخالديين) ومن شعر المحدثين، مع ملاحظة أن تلك القطعات اختيرت ورتبت من غير تبويب لإبراز فكرة معينة.. ولعل الكتاب هذا بما يحتوي عليه من أخبار الشعراء وآراء أدبية متناثرة أقوى شبها بكتاب الأغاني).(37)
          ولما طالع عماد الدين الأصفهاني، كتابي (يتيمة الدهر) و (دمية القصر) للثعالبي والباخرزي في محاسن أهل عصريهما، الشعراء.. آثر هو أيضاً أن يصنف كتاباً في أهل عصره، وأهل عصر آبائه وأعمامه.. يخلد آثارهم، ويحدد منارهم، خاصة وأنه وجد المعاصرين لعمه الصدر الشهيد عزيز الدين أبي نصر أحمد بن حامد، من الشعراء... ما فيهم إلا من أم قصده. وطلب رفده بمدحه..
          فأحب أن يحيي ذكرهم، ويقابل بالمجازاة شكرهم.. فصنف هذا الكتاب وألفه: (ورقمت هذا الوشي وفوقته وسميته "جريدة القصر وجريدة العصر" لأنها حسناء ذات حلي وحلل، غانية تغبطها على الحسن، أقمار الكلل. فهذا الكتاب كالروض الآنف يجمع أنواع الزهر، وكالبحر تضمن على أنواع الدرر.. ولم أقتصر على المنتقى المنتقد. والتنخل المنتخب، بل ذكرت لكل شاعر ما وقع إلي من شعره، وأثبته: إما لمعنى غريب، أو لفظ مستحسن، أو أسلوب رائق، أو حديث بحال من الأحوال رائق..)(38)
          إذن. فهو كتاب يقع بين تاريخ الأدب والاختيار بما هو نقد ضمني، للأدب.
          أما ما فعله ابن منظور في (المنتخب والمختار في النوادر والأشعار) فيقع فيما يمكن أن نسميه: اختيار الاختيار. فقد عمد إلى كتاب التذكرة للشيخ الإمام أبي عبد الله محمد بن الحسن بن محمد بن حمدون. وقد أعجبه في ترتيبه وجمعه لفنون المحاسن وتبويبه، فاختار منه ما هو الأحسن. وهذا اختيار بدوره، إذ (حذفت ما لا حاجة إليه من زوائده وفضوله) ورتبه في خمسين باباً (كل باب في فن، يجمع فصولاً متقاربة ومعاني متناسبة..) في المواعظ والآداب الدينية، والسياسة الدنيوية، وفي محاسن الأخلاق ومساوئها، وفي السخاء والجود.. الخ.(39)
          وهو أيضاً، اختيار يقع في باب الأشباه والنظائر من المعاني في الشعر. وهو ما يقربنا من (ديوان المعاني) لأبي هلال العسكري الذي جمع في هذا الكتاب: (أبلغ ما جاء في كل فن وأبدع ما روي في كل نوع من أعلام المعاني وأعيانها إلى عواديها وشذاذها. وتخيرت من ذلك ما كان جيد النظم، محكم الوصف غير مهلهل رخو. ولا متجعد فج..).
          أما الذي دعاه إلى جمع هذا النوع، هو أنه لم يجد فيه كتاباً مؤلفاً يجمع فنونه ويحوي ضروبه.. فجمع ما تناثر في الكتب وتضاعيف الصحف، وأضاف إلى كل نوع منه ما يقاربه من أمثاله.
          وجعله نظماً ونثراً، وخبراً وشعراً، ليبعث به نشاط الناظر، ويجلي صداء الخاطر.. فكان في اثني عشر باباً، في: التهاني والمديح والافتخار، وفي المعاتبات والهجاء والاعتذار، والغزل وأوصاف الحسان.. الخ(40)
          الاختيارات الشعرية المعاصرة:

          وتواصلت الاختيارات الشعرية في العصر الحديث حتى بات من الصعب حصرها لكثرتها وتنوعها بدواعيها وأسس الاختيار. وهي في العموم تقع في ثلاثة أصناف: (1) اختيارات من الشعر القديم فحسب. مثل (ديوان الشعر العربي) لأدونيس، ومختارات الجواهري من العهدين: الجاهلي، والإسلامي والأموي. (2)اختيارات مختلطة من القديم والحديث، مثل: (مختارات البارودي) من العصر العباسي حتى يومه. و (حب وبطولة) لسليمان العيسى، و (شاعر وقصيدة) لمصطفى طلاس، و (من روائع الشعر العربي) لخليفة محمد التليسي، (3) اختيارات من الشعر الحديث فحسب. مثل: (ديوان الشعر العربي في القرن العشرين) لراضي صدوق.
          و (مختارات من الشعر الحديث) لإبراهيم العريض.. الخ. وكذلك أما أن تكون: (1) اختيارات من شعر شاعر بعينه، مثل: (قصائد مختارة من شعر علي محمود طه) لصلاح عبد الصبور. و (قصائد مختارة من شعر خليل مطران) لأحمد عبد المعطي حجازي، واختيارات أدونيس من أشعار أحمد شوقي، ويوسف الخال والزهاوي، وبدر شاكر السياب. أو (2) اختيارات لشعراء متعددين في موضوع محدد: من القدماء، أو من القدماء والمحدثين، أو من المحدثين فقط، وهي كثيرة.
          والحق أن الاختيارات، كما قال صاحب (الشوارد): "أمر نسبي.. فضروب القراء وأذواقهم واتجاهاتهم، ومحصولهم الثقافي متباينة، وكل منهم يحركه جانب، ويعلق بذهنه معنى، ويبهجه ضرب من الضروب.. والحكم في ذلك - من قبل ومن بعد- لمن يحمل مؤهلات الاختيار، ويتوافر لديه الذوق السليم، والحاسة المدركة..(41)
          إذن.. تنوع الاختيارات، مظهر طبيعي، لأنه يعتمد على قاعدة (التفاوت)(42) في الأذواق والمؤهلات الثقافية والحاسة الجمالية، والمواقف الفكرية والأيديولوجية، ورؤية صاحب الاختيار للشعر كفعالية إبداعية.. فأدونيس، مثلاً، في (ديوان الشعر العربي؛ يجيب صراحة عن السؤال الذي يطرحه هو نفسه، حول المقاييس التي اعتمدها في اختياراته، بأنه: (اختيار شخصي)(43)، وهذا الاختيار الشخصي، قوامه: التقدير الشخصي، أيضاً، للقيمة الفنية والصوت الخاص للشاعر. قال: (حاولت أن أنظر إلى الشعر العربي من ناحية القيمة الفنية الخالصة التي تتجاوز حدود الزمان والمكان وتتخطى الاعتبارات التاريخية والاجتماعية.. لكن دون أن أغفل دورها..)
          يعني: (تتبع الخيط الذي يصلنا بشخص الشاعر: بهمومه وأفراحه وآلامه وحياته هو -دون اعتبار للسياسة والقيم الاجتماعية السائدة) (الخيط الذي يصلنا بالشخص لا بالمجتمع. بالأدب لا بالتاريخ، بالشعر لا بموضوع الشعر).وهذا يعني، يفترض بالشاعر الذي يقع اختيار على شيء من نتاجه، إنه يكون له: (صوت خاص به دون غيره، وأن يكون هذا الصوت ملء اللغة الشعرية وملء قامة الشعر. لا يطيع إلا ضرورته الداخلية، بعيداً عن التقليد أو التكرار، وعن استنساب الطريقة التعبيرية الشائعة).
          أما السؤال: كيف نحيا مع قصائد الماضي وكيف نميز بين قصائد ما تزال تحتفظ بحضورها، وقصائد جمدت وماتت؟ (الجواب شخصي، ولكل جوابه)(44)
          وفي الحقيقة، إذا تأملنا جميع الاختيارات، قديمها وحديثها، نجدها لا تخرج عن إطار هذا الموقف الشخصي: ذوقياً، وجمالياً، ونفعياً، وأيديولوجياً.. الخ. فالذي يحدد اختيار هذا وترك ذاك.. هو "الشخص" الذي ينهض بالاختيار، سواء انطلق من تذوق جمالي، أو من موقف آخر.. أيديولوجي- ديني.(45) أو أيديولوجي- سياسي،(46) أو من موقف سياسي- نضالي(47) أو تربوي(48) أو تذوق جمالي( 49) ويلعب الموقف الفني من الشعر وأساليبه دوره في الاختيار: سلباً أو إيجاباً، أو الاثنين معاً، ونضرب مثلاً هناك باختيارين:
          (1) ديوان الشعر العربي في القرن العشرين: لراضي صدوق حيث نجده استبعد نهائياً كل ما يقع تحت مصطلح (قصيدة النثر) أو الشعر المنثور، النثر الشعري.. (على اعتبار أن قضية ما تسمى بـ (قصيدة النثر) ما تزال موضع خلاف بين الدارسين والباحثين ولم يحسم أمرها بعد..)( 50)
          ولست أدري كيف وضع نفسه موضع الموثق (الأنتولوجي والأنطولوجي) -كما وصف اختياراته- لشعر قرن كامل، تقريباً، وهو يرى نفسه غير مؤهل لأن يحسم موقفه من قضية فنية- شعرية..؟ ومن هم (الثقاة) الذين ينتظرهم لحسم هذه القضية؟
          ولماذا لم يعتمد (تقويمه الشخصي) كما فعل في المختار من الأشعار الأخرى: (العمودي والحر) تحديداً؟!
          (2) والموقف الفني نفسه، نجده في مختارات من الشعر العربي المعاصر)(51) للسيد وديع فلسطين. حيث استبعد من اختياراته، الموزعة على أقطار الوطن العربي، كل ما يقع خارج الشعر العمودي وبعض أنماط الشعر المهجري المقطعي، مثل الشعر الحر والشعر المنثور وقصيدة النثر.. بل حتى عندما يجد نفسه مضطراً للاختيار لشعراء هجروا الأنماط التقليدية واتجهوا نحو الشعر الحر كنزار قباني والسياب ونازك الملائكة.. فإنه يختار لهم مما جاء على نمط الشعر المهجري.. معللاً موقفه هذا بقوله: (.. إن المختارات الشعرية الواردة في هذا الكتاب هي من الشعر الوحيد الذي نعرفه ونستطيبه بعد معاناة عنيفة في محاولات مستميتة لفهم الشعر الجديد..)!
          وهكذا نعود، عند السؤال: لماذا اخترت هذا.. وتركت ذاك؟ إلى الجواب القديم- الحديث نفسه:
          - (هكذا قضية طبعي) -المرزوقي.
          - (اختيار شخصي) - أدونيس.
          الهوامش:

          1- قصة الحضارة: جـ4-م1- ص 23-24.
          2- د. إحسان عباس (ص75)، د. جواد علي: 9/ 508، الأنباري (مقدمة المحقق) -ص11- وطلال حرب: ص12 وبروكلمان: 1/ 67.
          3- والراجح أنها سبع، فقد شغف الباحثون بالعدد سبعة قال د. جواد علي: وأرى أن الذي أوحى إلى أهل الأخبار بفكرة المعلقات السبع، هو ما جاء في القرآن الكريم: (ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن الكريم)، وما جاء في الحديث: (أوتيت السبع الطوال مكان التوراة) وهي: سورة البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، واختلفوا في السابعة أهي: يونس، أم يوسف، أم الكهف. وقال د. جواد علي: والنظام السبعي عند الشعوب السامية عامة والعرب خاصة، تقسيم قديم يعود إلى سنين طويلة قبل الميلاد. فالسماوات سبع، والأرضون سبع، والكواكب السيارة سبعة، والأنغام الموسيقية سبع، وأيام الأسبوع سبعة، والعدد سبعة هو عدد مقدس عند بعض الشعوب القديمة، وقد حافظ هذا العدد على أهميته في الإسلام.
          فهناك عدة أحاديث تحتوي على العدد سبعة، منها: (أن القرآن أنزل على سبعة أحرف..) (وأمرنا أن نسجد على سبعة أعظم) (والكافر يأكل في سبعة أمعاء..)... الخ: 518. وتتواتر الأخبار عن القدماء (أن العرب عمدت إلى سبع قصائد تخيرتها..):
          4- ابن عبد ربه: 5/269، وابن رشيق: 1/96، وطلال حرب.
          5- طلال حرب: ص 12، الأنباري: ص 13.
          6- طلال حرب: ص 12-13.
          7- 9/517-918.
          8- 9/508.
          9- 1/67.
          10- قال الأصمعي: كان حماد أعلم الناس إذا نصح، يعني إذا لم يزد وينقص في الأشعار والأخبار، فإنه كان متهماً بأنه يقول الشعر، وينحله شعراء العرب، وقال المفضل الضبي: قد سلط على الشعر من حماد الراوية ما أفسده فلا يصلح أبداً. (ولد حماد سنة 95هـ، وتوفي سنة 155هـ، واسمه: حماد بن ميسرة بن المبارك بن عبيد الديلمي، الكوفي المعروف بالراوية) (ياقوت الحموي: 9/ 265- 266).
          11- د. إحسان عباس: ص 75.
          12- مقدمة المحقق لشرح ديوان الحماسة لأبي تمام، للمرزوقي ص6.
          13- د. ناصر الدين الأسد. ص 573، وحسن السندوبي- ص 11 قال ما تقدم، المنصور، بعد أن سمع المفضل ينشد المهدي، قصيدة المسيب بن علس:
          قبل العطاس ورعتها بوداع



          أرحلت من سلمى بغير متاع


          وكانت طويلة.
          14- ص1- شرح المفضليات.
          15- د. إحسان عباس، ص 72.
          16- 1/74.
          17- مقدمة المحقق/ ص 5.
          18- ص 9.
          19- لاحظ مقدمة المحقق المختارات.
          20- لاحظ النص، ومقدمة المحقق.
          21- د. إحسان عباس: ص 73- 76.
          22- 1/78 (وقد روي أن الشتاء غلب أبي تمام في همزان، وهو عائد من خراسان إلى العراق. فأنزله أبو الوفاء بن سلمة في ضيافته، ووقع ذات يوم ثلج عظيم، فقال له: وطن نفسك على المقام، وأحضر له خزانة كتبه، فأقبل عليها أبو تمام وطالعها واشتغل بها وصنف خمسة كتب في الشعر، منها كتاب الحماسة...).
          23- د. إحسان عباس/ ص 72.
          24- المرزوقي: ص 15.
          25- المرزوقي: ص 13.
          26- شرح ديوان الحماسة لأبي تمام. المنسوب لأبي العلاء المعري/ مقدمة المحقق: وذكر الحماسات التالية: (1) حماسة البحتري، (2) حماسة الديمرتي وهو محمد بن المرزبان أبي العباس الديمرتي (مفقودة) (3) الحماسة المحدثية لأحمد بن فارس (مفقودة) (4) حماسة شعر المحدثين للخالديين (5) الحماسة العسكرية لأبي هلال العسكري(6) حماسة الظرفاء لأبي محمد عبد الله بن محمد العبد لكأني الزوزني (7) حماسة أبي عامر الشاطبي الأندلسي (مفقودة)، (8) حماسة الأعلم الشنتمري، (9) حماسة ابن الشجري، (10) الحماسة البياسية أو المغربية، (11) الحماسة البصرية، (12) حماسة الكوراني.
          27- د. إحسان عباس/ ص 73.
          28- د. إحسان عباس/ ص 146- 147.
          29- ص 3-4.
          30- مقدمة المحقق: ص 43. ويذكر أن المؤلف، ألف كتابه هذا ليقدمه إلى الخليفة الموحدي أبي يوسف يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن، ولما أطلع عليه أعجب به وطلب اختصاره، فاختصره المؤلف، ومن هنا صار العنوان: (مختصر كتاب صفوة الأدب ونخبة ديوان العرب). وهو مختارات في المديح والفخر والمراثي والنسيب والأوصاف والحكم والمللح... الخ.
          31- الطبقات: ص 24، ود. إحسان عباس: ص 80.
          32- د. إحسان عباس: ص 80.
          33- الطبقات: ص 3.
          34- المؤلف: ص 33- 36.
          35- المؤلف: ص 17- 19.
          36 المؤلفان: 2/ 363.
          37- جـ 1- ص (ص-ت) -كما يرى المحقق أن هذا الكتاب غير (حماسة الخالديين) كما توهم البعض ومنهم بروكلمان، ويرى أن (اختيار أشعار المحدثين) هو الذي ذكر باسم (حماسة شعر المحدثين) عند ابن نديم والصفدي...
          38- المؤلف: ص 3-8.
          39- المؤلف: ص 15-16.
          40- المؤلف: ص 7- 14- وقد وحذا حذو العسكري، المحقق عبد السلام هارون في كتابه (مجموعة المعاني) إذ قال: (أحببت أن أجمع منه (الشعر) نبذة أذكر فيها من أشعار القوم ومقاصدهم في كل معنى بديع، ولفظ منيع، ما يطرب ذوي القلوب، ويجلي به المكروب، فجمعت منه ما ينتظم في مائة معنى تصلح للمتمثل أن يصل بها خطابه.. ويحلي بمحاسنها كتابه...) ص3.
          41- عبد الله بن محمد بن خميس: ص 16.
          42- د. إحسان عباس: ص 76.
          43- أدونيس: 1/ 14.
          44- أدونيس: 1/ 15.
          45- مثل كتاب: (أجمل مائة قصيدة في الشعر الإسلامي المعاصر).
          46- مثل كتاب: (قصائد مختارة من شعراء الطليعة العربية).
          47- مثل كتاب: (مختارات من شعر المقاومة في الأرض المحتلة).
          48- مثل كتاب: (المختارات السائرة).
          49- مثل كتاب: (شاعر وقصيدة) و (أغزل الغزل في الشعر العربي) و (معجم لآليء الشعر- أجمل الأبيات وأشهرها)... الخ.
          50- المؤلف: ص 14.
          51- اعتمدنا هنا على مقال الدكتور يوسف بكار (مختارات جديدة من الشعر العربي المعاصر) -ملحق "الرأي" الثقافي: 6/2/1998.
          بعض المصادر حسب ورودها في البحث:

          1- ديورانت /قصة الحضارة/ جـ4 /م1/ ترجمة: محمد بدران.
          2- د. إحسان عباس: (تاريخ النقد الأدبي عند العرب) نقد الشعر من القرن الثاني حتى القرن الثامن الهجري -دار الشروق للنشر- عمان 1986.
          3- د. جواد علي: المفضل في تاريخ العرب قبل الإسلام -دار العلم للملايين بيروت -ط2- 1978.
          4- طلال حرب: الوافي بالمعلقات: قراءة حديثة لخطابها الشعري وتاريخها -المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر- بيروت 1993.
          5- شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات لأبي بكر محمد بن القاسم الأنباري/ ت: عبد السلام هارون- دار المعارف/ مصر 1963.
          6- شرح المفضليات للتبريزي /ت: علي محمد البجاوي- دار نهضة مصر.
          7- المفضليات للضبي: ضبطها وشرحها: حسن السندوبي- المكتبة التجارية الكبرى/ بمصر (ط1)- 1926.
          8- د. ناصر الدين الأسد: مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية/ دار المعارف بمصر /ط6/ 1982.
          9- كتاب الاختيارين: صنعة الأخفش الأصغر/ ت: د. فخر الدين قبارة- مؤسسة الرسالة- بيروت /ط2/ 1984.
          10- الأصمعيات/ ت: أحمد محمد شاكر وعبد السلام هارون- دار المعارف بمصر- سلسلة ديوان العرب/ 1955.
          11- تاريخ الأدب العربي- كارل بروكلمان/ ت: د. عبد الحليم النجار- دار المعارف/ ط5.
          12- شرح ديوان الحماسة لأبي تمام -للمرزوقي/ ت: أحمد أمين وعبد السلام هارون- لجنة التأليف والترجمة- القاهرة 1967/ ط2.
          13- شرح ديوان الحماسة لأبي تمام، المنسوب لأبي العلاء المعري ت: د. حسين محمد نقشة/ دار الغرب الإسلامي- بيروت 1991.
          14- جمهرة أشعار العرب للقرشي- دار صادر ودار بيروت/ 1963.
          15- مختارات شعراء العرب لابن الشجري/ ت: علي محمد البجاوي دار الجيل- بيروت 1992.
          16- أشعار الشعراء الستة الجاهليين (مختارات من الشعر الجاهلي) للأعليم الشنتمري/ ت: د. محمد عبد المنعم خفاجي- دار الجيل- بيروت 1992.
          17- كتاب الحماسة البصرية: لصدر الدين علي بن أبي الفرج ابن الحسن البصري/ ت: د. عادل جمال سليمان -لجنة أحياء التراث- مصر 1977.
          18- الحماسة المغربية/ مختصر كتاب صفوة الأدب ونخبة ديوان العرب/ لأبي العباس أحمد بن عبد السلام الجراوي التادلي/ ت: د. محمد رضوان الداية/ دار الفكر المعاصر- بيروت/ ودار الفكر- دمشق / ط1/ 1991
          19- طبقات فحول الشعراء/ ت: محمود محمد شاكر- القاهرة.
          20- زهر الآداب وثمر الألباب: لأبي اسحاق ابراهيم بن علي الحصري القيرواني /ت: محمد محيي الدين عبد الحميد- دار الجيل- بيروت/ ط1/ جـ 1/ 1972.
          21- نزهة الأبصار في محاسن الأشعار: لشهاب الدين أبي العباس العنابي أحمد بن محمد بن علي/ ت: مصطفى السنوسي وعبد اللطيف أحمد لطف الله- دار القلم- الكويت 1986.
          22- كتاب الأشباه والنظائر من أشعار الجاهليين والمخضرمين - للخالديين/ ت: د. السيد محمد يوسف/ لجنة التأليف والترجمة والنشر- القاهرة 1965.
          23- جريدة القصر وجريدة العصر: لعماد الدين الأصفهاني الكاتب/ ت: محمد بهجت الأثري ود. جميل سعيد- مطبعة المجمع العلمي العراقي- الجزء الأول- القسم العراقي- بغداد 1955.
          24- المنتخب والمختار في النوادر والأشعار: لابن منظور- صاحب لسان العرب/ ت: د. عبد الرزاق حسين/ دار عمار- عمان ومكتبة الذهبي/ السعودية /جـ1/ 1994.
          25- ديوان المعاني: لأبي هلال العسكري/ مكتبة القدس/ نسخة مصورة عن نسخة الأمامين: الشيخ محمد عبده، والشيخ محمد محمود الشنقيطي.
          26- مجموعة المعاني: إعداد عبد السلام هارون -دار الجيل- بيروت 1992.
          27- الغصون اليانعة في محاسن شعراء المائة التاسعة: لابن سعيد أبي الحسن علي بن موسى الأندلسي /ت: إبراهيم الأبياري/ ط3، دار المعارف/ القاهرة 1977.
          28- العقدة لابن رشيق/ ت: محمد محيي الدين عبد الحميد /دار الجيل/ ط5/ 1981.
          29- معجم الأدباء لياقوت الحموي -دار الفكر /ط3/ 1980.
          30- أدونيس: ديوان الشعر العربي -دار الفكر- بيروت /ط2/ 1986.
          31- الشوارد: لعبد الله بن محمد بن خميس / دار اليمامة/ السعودية 1974.
          32- راضي صدوق: (ديوان الشعر العربي في القرن العشرين: توثيق أنتولوجي وأنطولوجي للشعراء العرب المعاصرين) -روما- 1994.
          33- في الشعر العراقي الجديد: طراد الكبيسي - المكتبة العصرية/ بيروت 1973.
          34- ديوان "الأقلام": طراد الكبيسي وباسم عبد الحميد حمودي/ بغداد.
          35- قصائد مختارة من شعراء الطليعة العربية: إعداد: علي جعفر العلاق/ بغداد- 1977.
          36- معجم لآليء الشعر- أجمل الأبيات وأشهرها: إعداد: د. أميل يعقوب -دار صادر- بيروت 1966.
          37- أغزل الغزل في الشعر العربي: إعداد: سمير حداد- مركز الكتب الأردني/ عمان - 1966.
          38- شاعر وقصيدة (مختارات شعرية): مصطفى طلاس /دمشق/ ط2/ 1985.
          39- أجمل مائة قصيدة في الشعر العربي الإسلامي المعاصر، إعداد: أحمد الجدع -دار الإسراء- عمان 1991.
          40- المختارات السائرة -أنيس مقدسي- دار العلم للملايين /ط4/ بيروت 1955.
          41- ديوان رثاء الأزواج في الشعر العربي: د. عمر الأسعد- دار سبيل الرشاد- بيروت 1995.
          42- مختارات من الشعر العربي المعاصر: وديع فلسطين/ مركز الأهرام للترجمة والنشر/ القاهرة- 1995.

          إذا الشعب يوما أراد الحياة
          فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
          و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
          و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

          تعليق


          • #6
            رد: الاختلاف والائتلاف في جدل الأشكال والأعراف

            الأيقونة اللفظية في القصيدة السينيَّة مُقدَّمة/ خارج النص:

            اختلفت الآراء في المُحفِّز في كتابة القصيدة. ولكنها تُجمِعُ على أنَّ البحتري بعد أن شهد مصرعَ المتوكل ووزيره الفَتْح.. ولم ينلْ حظوة لدى المستعين، ومن بعد المعتز. وصارت الأُمور أَقرب إلى العامة ودارت التهمة، أنه (ثَنوي).. غادر بغداد، مُتوّجهاً إلى (المدائن) قاصداً الشام(1).
            وهذا يعني أن جملة أُمور تعاضدت على إزعاج البحتري، منها على سبيل المثال: (1) إضطراب الأمور السياسية وغلَبة العامة على بغداد. (2) مشاغبات الشعراء والأدباء بعضهم على بعض. (3) لُؤْم بعض الممدوحين وشّحهم في العطاء. (4) بُرْهة من الأحساس بُجرح الكرامة وإنتفاض النفس على النفس. بعد السقوط والابتذال. (5) ويزيد من هذا كلّهِ، شعورٌ بالغُرْبةِ، والغُبْنِ في صفقة خاسرة: بيعُه الشام واشتراؤه العراق!
            كل هذه العوامل مجتمعة -وربما هناك غيرها- : أَيْ شعور بالغُبْنِ والجفاء وضيق المعاش والغربة وإنقلاب أحوال الزمان الذي: (أصبح محمولاً هواهُ مع الأخس الأخس).. حملت البحتري على الرحيل، وعدَّةُ الرحيل: (مَضاء الهمّ) كما هي عادة الشعراء: ناقة قوية تحمله بعيداً (غَيْرَ مُصبحِ حيث أُمسي). وتكون الرحلة إلى (أبيض المدائن) بحثاً عن تعزيةٍ للنفس. واعتبارٍ بفعل الخطوب والزمان: هادم اللّذات ومُفرِّق الجماعات!
            طبعاً، لسنا هنا في موضع الشرح والتفسير، أو مكانة القصيدة السينية في شعر البحتري أو في الشعر العربي، فقد قيل حولها، الكثير، فهي بالإجماع تُعَدُّ من (دُرَر) البحتري وقمم الشعر العربي، حتى أن البحتري عُدَّ: (أَوْحَد الشعراء المُحْدَثين) بسببها(2).
            كما أننا، هنا، لسنا بصدد الكلام عن خصائص البحتري الشعرية -وهو القائم بعمود الشعر- أو (الموازنة) بينه وبين غيره من الشعراء -أبي تمام مثلاً- فقد كُتب في هذا، مُؤلَّفات وفصول عديدة.
            إننا، هنا، بالتحديد -وكما جاء في عنوان هذه المقالة، بصدد: كيف يُحوّل التجسيد المادي، الفعل الأدبي إلى موضوع أدبي. بمعنى: كيف تصير اللغة الأدبية، إِيقوناً للموضوع المادي، الطبيعي، وبتعبير القرطاجني (حازم): إجراء المسموعات من الأسماع مجرى المرئيات من البَصَر. أو قوله في المحاكاة: (يجب في مُحاكاة أجزاء الشيء أنْ تُرتَّبَ في الكلام على حسب ما وُجِدَتْ عليه في الشيء. لأنّ المحاكاة بالمسموعات تجري من السمع مجرى المحاكاة بالمتلوّنات من البَصَر.(3)"
            أو كما تقول العربُ في الوصف: (وأحسن الوصف ما نُعت به الشيءُ حتى يكاد يُمثِّله عياناً للسامع.). وقال آخرون: (أبلغ الوصف ما قلب السمعَ بصراً. وأصلُ الوصف: الكشف والأظهار)(4)
            وذاك هو (سيماء) أو (سيمياء) -إذا جاز القول- الإصابة في الوصف- كما ذهب المرزوقي(5)
            وطبعاً -وقبل الدخول في النص- لابد من القول: أن التماثل الأيقوني بين الفعل الشعري (اللفظي) والموضوع (المادي) يتمُّ بقصدية، بوصف النموذج المادي، ناقلاً وقابلاً لمحتوى نفسيّ أو عقليّ في ذهن الشاعر، ومنه بالطبع إلى ذهن القاريء، حيث يتمُّ على نحو ما يسكب المرءُ، الخمرةَ من جرَّة إلى قدح(6).
            في النص:

            ما يعنينا، فيما نحن فيه / من قصيدة البحتري/: مجموعتان من الأبيات: الأولى: تلك التي تتعلّق بصوف (صورة إنطاكيَّة) والتي تُجسّد المعركة التي وقعت في هذه المدينة بين الروم والفرس. أي الأبيات من (22- 28) حسب ترتيبها في طبعة الديوان الذي اعتمدناه هنا:(7)

            22 وإذا ما رأيتَ صُورةَ "أَنْطَا
            كِيَّةَ" ارتَعْتَ بَيْنَ "رُومٍ" و "فُرْسِ"

            23 والمَنَايَا مَوَاثِلٌ، و "أنُوشَرْ
            وانْ" يُزْجِى الصُّفوفَ تَحْتَ الدِّرَفْسِ


            24 في اخْضِرَارٍ من اللِّبَاسِ على أَصْـ
            ـفَرَ يَخْتَالُ في صَبِيغَةِ وَرْسِ

            25 وعِرَاكُ الرِّجال بَيْنَ يَدَيْهِ
            في خُفُوت مِنْهُمْ وإِغماض جَرْسِ

            26 مِنْ مُشِيحٍ يَهْوى بِعَامِلِ رُمْحٍ،
            ومُلِيحٍ من السِّنَانِ بِتُرْسِ

            27 تَصِفُ الْعَيْنُ أنَّهُمْ جِدُّ أحيَا
            ءٍ لَهُمْ بَيْنَهُم إشَارةُ خُرْسِ


            28 يَغْتَلي فيهِم ارتِيَابَي حَتَّى
            تتَقرَّاهُمُ يَدَايَ بِلَمْسِ



            نحن هنا إزاء أيقونة لفظية هي تجسيد لصورة تشكيلية لمعركة إنطاكية بين الروم والفرس (وقعت 540م) على جدران الإيوان.
            والبحتري يستنفر جماع أحاسيسه باللون والصوت والحركة واللمس. ليُعيد إنتاج "الشكل" الأيقوني المادي عبر شكل بَصَري- لفظي.
            فعلى مستوى الحدس، هناك الإحساس بالموت: (والمنايا مواثلٌ) والإحساس بالحياة: (نصفُ العينُ أنهم جِدُّ أحياء..) وعلى مستوى الحركة: (وأنو شروان يُزجي الصفوف تحت الدرفس) والأفعال: (يختال، عراك الرجال، يهوي، يغتلي..)
            وعلى مستوى اللون: (إخضرار، أصفر، صبيغة ورس..)
            وعلى مستوى الصوت: (خفوت، إغماض جَرْس، إشارة خُرْس..)
            وعلى مستوى اللمس: (تتقرَّاهُمُ يدايَ بلمس..)
            وعلى مستوى الأشياء: (الدرفس، اللباس، رمح، السنان، ترس..)
            ولعل التعبير: (تتقرَّاهُمُ يدايَ بلمس) يُلخِّصُ التمثيل الأيقوني لكامل المشهد (الصورة)، عبر إدراكٍ جشتالي: حسي وحدسي.
            وهذا يعني أيضاً، أن البحتري إذْ قام باستنطاق عمل محسوس (صورة معركة إنطاكية): في السطح (الشكل) والعمق، ليُطابق بين الوجود الأنطولوجي للعمل، وبَنْيَنَة (العمل) لفظيّاً- أي عبر ما يبثُّهُ النصُّ /الواقعُ/ في التلفُّظ النّصي الأدبي- وضع نفسه في موضع المؤوِّل للنص (المادي) من خلال إدراكه (معرفته) للبنية القَبْليَّة للنص. ولكنْ -بما أنَّ النص نفسه مُنكشف، فقد أمكن للبحتري الوصول إلى الدلالة والمُطابقة بيُسر. وهذا ما سوف يُسهِّل لنا ولهُ- الانتقال إلى المجموعة الثانية من الأبيات في القصيدة، والتي سوف ندعوها بـ (العلامة المؤوِّلة) -وأقصد بها: الانتقال من التجربة البَصَرية إلى التجربة الأدراكيَّة البصريَّة المُجرَّدة، بوصفها حالة ذهنية -استعاديَّة- حُلم المكان. وتشتمل هذه المجموعة، الأبيات:

            33 وتَوَهَّمْتُ أنَّ "كِسْرَى أَبَرْوِيـ
            زَ" مُعَاطِىَّ، و "البَلَهْبَذَ" أُنْسِى

            34 حُلُمٌ مُطْبِقٌ على الشَّكِّ عينيْ
            أَمْ أمانٍ غيَّرْنَ ظَنِّي وحَدْسِي؟!

            35 وكأَنَّ "الإيوانَ" مِنْ عَجَبِ الصَّنْـ
            ـعَةِ جَوْبٌ في جَنْبِ أرْعَنَ جِلْسِ

            36 يُتَظَنَّى مِنَ الكآبةِ إذْ يَبْـ
            ـدُو لِعَيْنَيْ مُصَبِّحٍ أو مُمَسِّى:

            37 مُزْعجاً بالْفِرَاقِ عَنْ أُنْسِ إلْفٍ
            عَزَّ، أَو مُرْهَقاً بِتَطْلِيقِ عِرْسِ

            38 عَكَسَتْ حَظَّهُ اللَّيَالي، وباتَ الـ
            ـمُشْتَرِي فِيهِ وَهْوَ كَوْكَبُ نَحْسِ

            39 فهو يُبْدِي تَجَلُّداً وعليهِ
            كَلْكَلٌ مِنْ كَلاكِلِ الدَّهْرِ مُرْسِى

            40 لم يَعِبْهُ أنْ بُزَّ مِنْ بُسُطِ الدِّيـ
            ـبَاجِ، واستُلَّ من سُتُورِ االدِّمَقْسِ

            41 مُشْمَخِرٌّ، تَعْدُو لهُ شُرفاتٌ
            رُفعتْ في رؤوسِ "رَضْوى" و "قُدْسِ"

            42 لابِساتٌ مِنَ البياضِ فمَا تُبـ
            ـصِرُ مِنْهَا إلاَّ غَلائلَ بُرْسِ

            43 لَيسَ يُدْرَى أصُنْعُ إِنْسٍ لِجِنٍّ
            سَكَنُوهُ، أمْ صُنْعُ جِنٍّ لإنْسِ

            44 غَيْرَ أنِّي أَرَاهُ يَشْهَدُ أنْ لَمْ
            يَكُ بانِيهِ في المُلُوكِ بِنِكْسِ


            45 فكأني أرَى المَرَاتِبَ وَالقَوْ
            م إذا ما بَلَغْتُ آخِرَ حِسِّي

            46 وكأنَّ الوُفُودَ ضَاحِينَ حَسْرَى
            مِنْ وُقوفٍ خلفَ الزِّحامِ وخُنْسِ

            47 وكأنَّ الْقِيَانَ وسط المَقَاصِيِـ
            رِ يُرَجِّعْنَ بَيْنَ حُوٍّ ولُعْسِ

            48 وكأنَّ اللِّقاءَ أوَّل مِنْ أَمْـ
            سِ، ووَشْكَ الفِرَاقِ أوَّلُ أَمْسِ

            49 وكأنَّ الَّذي يُرِيدُ اتِّبَاعاً
            طامِعٌ في لُحُوقِهِمْ صُبْحَ خَمْسِ

            50 عُمِّرَتْ للسُّرُورِ دَهْراً، فصارتْ
            للتَّعَزِّي رِبَاعُهُمْ والتَّأَسِّي



            حيث أنَّ البحتري بعد أن سقاه ابنه (أبو الغوث): (شَرْبَةَ خُلْسِ).
            - وهذه يمكن أن نعدَّها (استعارة) لحالة ذهنيّة حُلميّة -وشَمِلَ:
            توهَّم (البحتري) أنّ كسرى منادمه، و (البَلَهْبَذَ) مُغنيّ كسرى: مُغنيّه ومطربه. وما بين الحلم والتمنّي، الشك والحدس، راح يرى الأيوان، رغم ما يعانيه من الوحشة والنحس، في الظاهر، إلاّ أنه يُبدي تجلُّداً تحت ما أصابه من مصائب. ولم يُقلّل من شأنه استلابه مظاهر الأُبهة والجمال، من أثاث وسواه.
            فهو ما يزال مُشمخّراً، عالية شُرُفاته، مكسوّاً بالبياض، حتى أنَّ المرءَ ليحارُ: أَهُوَ صُنْعُ إِنسٍ لجنٍّ، أم صُنعِ جنٍّ لأنسِ!
            ثم أنَّ البحتريّ، يعود مرَّة أخرى (يتقرَّى). فيرى ما لا يراه سواه. ويتلمّس ما ليس له وجودٌ مادي. حيث يرى الأيوان حيَّاً ضاجَّاً بالحركة والاحتفالية. وكأنّ القوم أو مظاهر الحياة هذه لم تفارقه إلاّ أوّل أَمس.
            إنَّ البحتريَّ -وحسب نظرية الأشكال- وبالاتجاه الجشتالي- يدمج البنية الشكليّة- كما رآها- بالعالم المادي/ الإنساني.
            فالصورة هنا ليست مجرد صورةٍ مرسومة على جدار، بل هي (أرواح تتنفّس وتتحّرك (بدلالتها. والصورة التي يرسمها لها. يُقدّمها أجزاء مُتتابعة. كل جزء يأخذ بأطرافِ سابقه ويُكمِّله(8).
            كما أنه يربط بين (الشكلُ والعُمْق). أَي بين الإدراك الكليّ للعمل والحالة النفسيَّة التي كان هو عليها: شعوره بالغربةِ وسأمِ الحياة وذلّ بعد مجدٍ وعزٍّ:
            إليهم.



            أَأَمدحُ عمَّالَ الطَّساسِيج راغباً
            ولي بالشآم مُسْتَمْتعٌ رَغْبُ



            وقد ساعدت قافية (السين) -التي هي بحدّ ذاتها (إيقون) بفعل الرجوعات المتكررة -كما يقول ياكوبسن- على تجسيم (ملموسيَّة) الحالة النفسية والسأم.. فبهذا (الجَرْس.. استطاع أن يعطي معانيه قوةً مُستَمدَّةً من أعماق نفسه وأن يصل بها إلى أعماق نفوس الآخرين)(9)
            وكما هو معروف للباحثين وقُرّاء البحتري، كان البحتري يولي اهتماماً وحسّاً عالياً: (للموسيقى الداخلية في الشعر وما تستتبعه من المشاكلة بين الألفاظ والمعاني والتوافق الصوتي بين الحروف والحركات والكلمات وكأنّي به كان يُوفّر وَقْتَه جميعه للصوت)(10)
            خاتمة:

            البحتري في هذه القصيدة، وفي معظم شعره، وكما هي الحال، في جُلّ الشعر العربي القديم، يستخدم تقنية السرد:
            الحكي: (صُنْتُ..) (وتماسَكْتُ..) الخ. يحكي عن نفسه أولاً. ثمّ يجعل من حال الإيوان، تعزيةً تُسلّي النفس. ثم ينتقل إلى ما سقاه (أبو الغوث).. الخ. وهكذا تأتي القصيدة في مجموعة من المشاهد/ المناظر، كلُّ واحد يؤدّي إلى الآخر، بروابط سببيَّة، وكلُّ مشهد هو تمثيل لجانب من الحال عينها، لكنها جميعاً تتَّجهُ إلى داخل نفس الشاعر.
            يعني يمكن أنْ نقول: أنَّ إيوان كسرى لم يكن مجرد (طللٍ) أو (أثَرٍ) بالنسبة للبحتري، بل غدا إشكاليَّة: نفسية ووجودية. أيْ مرآةً رأى فيها نفسه وحاله في المعاش والوجود. وربّما ساءَل نفسه: هل يظلُ مقيماً في الحال التي هو عليها، فيغدو (طللاً) تأكله الهموم، مثل هذا الإيوان، أمْ يرحل حيث يُرى (غَيْرَ مُصبحٍ حيث أُمسي). أي يغترب في الاغتراب، بحثاً عن التجدُّد: (فاغتربْ تتجدَّدِ)!؟
            وبهذا يصبح الإيوانُ مُكوِّناً علاميّاً -أو مُسْتَحضِراً لتشكيلاتٍ علاميَّة، بوصفه (حسب بيرس CH. S. Peirce ):
            إِيقوناً: أَي بِنْية صُوَريَّة
            مؤشِّراً: لأحداث، وأسماء، وأشياء.
            رمزاً: لمدلولات آيديولوجية، وسايكولوجية ووجودية.
            أي أنَّ عمل البحتري هو: (جَمْعُ نَسَق) حيث (تقوم الفكرةُ والصورةُ واللغةُ بالعمل معاً) لإيجاد المعادل الإيقوني للمكان. وتلك هي: (المحاكاة بالمسموعات التي يجري من السمع مجرى المحاكاة بالمتلوّنات من البصر.)
            كما ذهب القرطاجني. ولكنَّ الصورَ ليست مجرد صورٍ حسب، بل بكل محمولات المرئيات: التاريخية والنفسية، وفي تفاعل مع الذات الرائية/ أو المُخيَّلة الناشطة.
            وبتعبير ابن الأثير، عن البحتري في تعبيره عن معانيه؛ كأنَّهُنَّ: (نِساءٌ حسانٌ عليهنَّ غلائلُ مُصبَّغات، وقد تحلَّيْنَ بأصناف الحَلْى.). أَيْ: بأصناف الدلالات.
            المصادر والإشارات:

            1- يُنظر مثلاً: بروكلمان: تاريخ الأدب العربي: 2/ 48 والموشح للمرزباني: ص 415و 417. ومقدمة محقق ديوان البحتري المُعتمد هنا.
            2- ذهب ابن المعتز في رواية الصولي أنه قال عنه: (إنه أكبر الشعراء المحدثين لوصفه إيوان كسرى، وبركة المتوكل، وأسطول ابن دينار). وهكذا عدَّه المتنبي: (أوحد الشعراء المحدثين). ورفعه العسكري: (على سائر الشعراء المحدثين) وطبعاً هذا كله في مجال الوصف.
            3- منهاج البلغاء وسراج الأدباء- تـ: محمد الحبيب بن الخوجة- دار الغرب الإسلامي -بيروت 1986 -ط3- ص 249 و 104.
            4- العمدة: لابن رشيق - تـ: محمد محيي الدين عبد الحميد -دار الجيل- بيروت 1981 -ص 295/ جـ2.
            5- شرح ديوان الحماسة للمرزوقي -نشره أحمد أمين وعبد السلام هارون -دار الجيل- بيروت 1991 / م1/ ص10.
            6- العمى والبصيرة: (مقالات في بلاغة النقد المعاصر) تأليف: بول دي مان. ترجمة: سعيد الغانمي -منشورات المجمع الثقافي -أبو ظبي- 1995/ ص 56.
            7- ديوان البحتري: حققه وشرحه وعلَّق عليه: حسن كامل الصيرفي- دار المعارف بمصر /م2/ ط3.
            8- يُنظر مقدمة مُحقّق الديوان -ص 15.
            9- نفسه: ص 24.
            10- الفن ومذاهبه في الشعر العربي -د. شوقي ضيف دار المعارف -القاهرة /ص 199/ ط4.
            إذا الشعب يوما أراد الحياة
            فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
            و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
            و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

            تعليق


            • #7
              رد: الاختلاف والائتلاف في جدل الأشكال والأعراف

              المماثلة الأيقونية في نونيّة المعري:



              "ليلتي هذه عروسٌ من الزِّنْج
              عليها قلائدٌ منْ جُمَانِ



              عند حافة النص:(1)

              قال التبريزي: كان المعري يكرهُ أنْ يقرأَ عليه شِعرهُ في صباه، المُلقّبُ بـ (سقط الزند). وكان يُغيِّرُ الكلمةَ إذا قرأْتُ عليه شعره، ويقولُ معتذراً: "مدحتُ فيه نفسي فأنا أكرهُ سماعه". وكان لَقَّبَ هذا الديوان بـ (سقط الزند) لأَن السَّقْطَ أوّلُ ما يخرجُ من النار من الزند. وإلى هذا ذهب الخوارزمي، قال: سمَّاه بـ (سقط الزند): لأنَّ السَّقطَ ما يسقطُ من الزَّنْدِ عند القَدْح. والزَّنْدُ مجازٌ عن الطبْع. لأنَّ هذا أوَّلُ شِعْرٍ، لفظه طَبْعُه في غُرَّةِ عمره، وهو قليل مُتكَلَّفٌ بالإضافة إلى بقية شعرهِ. وهو -لَعَمْري- قال البطليوسي: شعرٌ قويُّ المباني، خفيُّ المعاني.. أكثرَ فيه من الغريب والبديع. ومَزَجَ المطبوعَ بالمصنوع.. مع إنطوائه على كلِّ نكتةٍ من العلوم، ولُمْعَةٍ هي كالسرِّ المكتوم.(1)
              في النص: (2)

              مُنْذُ البداية يُقيم المعري، توازياً /موازاة/ بين البياض والسواد، حيث تشكل الأبياتُ، وحسب تسلسلها هذا التوازي:

              1- عَلِّلاني فأنّ بيضَ الأَماني
              فَنِيَتْ والظلامُ ليس بِفَانِ



              * الأماني /بيضٌ/ لأنَّ العربَ تُعبِّرُ عن الحَسَنِ بالبياض/
              * أمَّا الظلامُ/ فأسود.

              إنْ تَنَاسَيْتُما ودادَ أُناسٍ
              فأجْعَلاني من بعضِ مَنْ تَذْكراني



              * تناسي الوداد /أسود/ لأنَه قبيح. والعرب تُعبّر عن القُبحِ بالسواد.
              * أمَّا تذكُّر الوداد /فأبيضُ. لأنّه حسنٌ.

              3- رُبَّ ليلٍ كأنَّهُ الصُّبْحُ في الحُسْنِ
              وإِنْ كانَ أَسْوَدَ الطيلسانِ


              * الليلُ إذا ما بلغ الإنسانُ فيه ما تمنَّاهُ فهو نهارٌ مضيءٌ/أبيضُ.
              * ولكنه -الليلُ- بما هو ليلٌ، في طيلسانٍ/ أسود.

              قدْ رَكَضْنَا فيه إلى اللَّهْوِ لمَّا
              وقفَ النجمُ وِقْفَةِ الحيرانِ


              * اللَّهْوُ في ذاك الليل كأنَّه الصُّبحُ/ لذَّةٌ ومُتْعةٌ بريئة فهي/ بيضاء. ثم أنَّهُ ليلٌ أبيضُ مضاءٌ بالنجوم (الثُّريَّا)
              * لكنه بما هو ليل/ وإِنْ كان لحُسْنِه عنده كالنهار/ فهو أسود.

              5- كم أَردْنَا ذاكَ الزمانَ بمدحٍ
              فَشُغِلْنا بذمِّ هذا الزمانِ


              * مدحُ ذاك الزمان /أبيضُ/ لأنه حسنٌ. وكلُّ حسنٍ: أَبيضُ.
              * ذمُّ هذا الزمان /أَسودُ/ لأَنَّه قاسٍ. وكلُّ قاسٍ: أسود.

              6- فكأنَّي ما قُلْتُ والبدرُ طِفْلٌ
              وشَبابُ الظلماءِ في العُنْفوانِ


              * البدرُ طفلٌ، في أَوّل الشهر/ أبيض.
              * وشبابُ الظلماء- أَوَّلُ الليل/ أسود.

              7- ليلتي هذه عروسٌ من الزِّنْجِ
              عليها قلائدٌ مِنْ جُمانِ

              وهنا -بعد التدرُّج في الأبيات الست السابقة، يكون المعري قد وصل إلى ذروة التمثيل الإيقوني لتلك الليلة: عروسٌ من الزنج /دُمْيَةٌ/ شابَّةٌ سوداء/ مُكلَّلةٌ بعناقيد من الأضواء: (قلائد من جُمان). ولعلّها (الثُّريَّا) -كما سيأتي. حيث ينصرف المعري في سياق الموازاة نفسه: (البياض/ السواد) إلى وصف ما تتحلَّى به عروسُ الزنج /الليلة/ من قلائد مضيئة، وحركة الاثنين: البياض/ السواد. وحركة صَحْبهِ أيضاً، في لُجَّتَيْنِ من الظلام، والبيد.
              يعني، وبتعبير النقاد العرب /القرطاجنّي مثلاً/، يُقيم المعري، هنا، نوعاً من التمثيل الأيقوني، أو ما يُطلق عليه بالمحاكاة.
              وأفضلُ المحاكاة /حسب القرطاجنيّ/: المحاكاةُ المُسْتَغْرَبة. أيْ غَيْر المُعتادة. وتقوم هذه في مُخيَّلة الشاعر، عبر ثلاث حركات: (أولاً): إدراك الشيء المُحاكى أو الصورة في العِيان.
              (ثانياً): تشكيل هذا الشيء في الذهن: أيْ أنْ تكون له صورةٌ في مُخيَّلة الشاعر. (ثالثاً): توصيل الشيء المُحاكى إلى المُتلقّي شِفاهاً أو كتابةً. وهو ما تقومُ به الهَيْأَةُ أو الصورة، المُحاكيةُ المُتشكِّلةُ بواسطة الألفاظ(2). وهو ما ذهب إليه الناقد الأمريكي w. Wimsatt حول مصطلح الأيقونة اللفظية، بتجسيد الفعل الشعري ماديَّاً. بمعنى أنَّ اللغة الأدبية تكون شبيهةً بلغة الموضوع الطبيعي الذي يصفه الشاعر(3).
              أما القوّة الأساسية الفاعلة في هذا التجسيد /المحاكاة/ حسب القرطاجني/ فهي قوةُ التشبيه حيث يُحاكى الشيء بصفاتِه، أو يُحاكى بصفات شيء آخر يُحاكيه على جهة من المجاز التمثيلي، أو بالاثنين معاً. على نحو ما في تمثيل المعري (ليلتَهُ) بـ (عروس من الزنج).
              والملاحظُ أنَّ المعري لم يُمثِّل (لَيْلتَهُ) بعروس من الزنج، على سبيل اللَّون /الأسود/ حسب. بل وعلى سبيل الطرب والسرور. قال الخوارزمي: (والزنجُ من بين سائر الأمم مخصوصون بشدّة الطرب وحُبِّ الملاهي.. وقال الثعالبي: ويُحكى من طيب عرسهم وبلوغهم فيه كلّ مبلغ من الأَخذ بأطراف القَصْفِ والعَزْفِ، وإثارة الرَّهَجِ في اللَّعبِ والرقصِ، ما تمثَّل به ابنُ طباطبا في قوله:

              وليلةٍ أَطربني جُنْحُها
              فخِلْتُني في عُرُس الزِّنجِ.


              بل إنَّ المعري نفسه، يصف (ليلته) تلك. بأنها ليلة ساحرة، ساهرة:

              هَرَبَ النومُ عن جُفُونَي فيها
              هَرَبَ الأَمْنِ عن فؤاد الجبانِ


              (3)

              واحتفاء، أو تتميماً للبنية الأيقونية /إكسسوارات- كما يقال في السينما والمسرح/ يواصل المعري رسم الصور التمثيلية. فَهاهُما الهلال والثُّريَّا مُعْتنقان، وكأنهما في موقف وداع:

              9- وكأنَّ الهلالَ يَهْوى الثُّريَّا
              فَهُما للوداعِ مُعْتَنِقَانِ


              قال الخوارزمي: الثُّريَّا.. سِتَّةُ أَنجُم ظاهرة، في ظلها نجوم مستترة خفيَّة، وهي أشهرُ المنازل، تظهر من أول الليل في المشرق عند ابتداء البرد، ثم ترتفعُ في كلّ ليلةٍ حتى تتوسط السماءِ مع غروب الشمس.. ثم تنحدر عن وسط السماء فتكون كلَّ ليلة أقرب من أفق المغرب وأبعَدُ من وسط السماء، إلى أن يهلّ معها الهلال لأَوّل ليلة، فتمكثُ شيئاً يسيراً ثم تغيب، فلا تظهر نَيّفاً وخمسين ليلةً، وهذا المغيب استسرارُها."
              وها هو (الحِنْدِسُ): (الليل شديد الظلمة). والبيد، معاً، مثل لُجج البحر، غارق فيها: الصَّحْبُ، والنجمان/ الفرقدان:

              10- قال صَحْبي في لُجَّتَيْنِ من الحِنْدِسِ
              والبيدِ إذْ بَدا الفَرْقَدانِ

              11- نحن غَرْقى فكيف يُنْقِدُنا نجمانِ
              في حومةِ الدُّجى غَرقانِ


              هذا غارق في البيد. وذاك غارق في الظلام. أيْ أنَّ ثمة تداخلاً، أو تماهياً بين النور والظلمة/ البياضُ والسواد/ خاصةً وأنَّ الفَرْقدين: نجمان لا يغيبان طوال الليل أمَّا سُهَيْل:

              12- وسُهَيْلٌ كَوَجْنةِ الحِبِّ في اللّوْنِ
              وقلبِ المُحبِّ في الخفقانِ


              فهو دائم الخفقان، وذاك لقُربه من الأُفق، يُرى كالمضطرب، ووجنتُه تضربُ إلى الحُمرة، شأن المُحبّ إذا رأى الحبيب، قلبُه يخفق، وإذا استحيا احمرَّتْ وجنته.
              والطريف في الأمر أنَّ (الثُّريَّا) التي تظهر أوّل الليل في المشرق -كما مرَّ- هي عند العرب: شاميَّةٌ، أما سُهَيْلٌ فهو يماني. وفي هذا قال عمر بن أبي ربيعة عندما بلغه تزوَّج سُهيل بن عبد الرحمن بن عوف من (الثُّريَّا) التي كان يُشبِّب بها، قال:

              أيُّها المُنكحُ الثُّريَّا سُهَيْلاً
              عَمْرُكَ اللَّه كيف يلتقيانِ

              هي شاميَّةٌ إذا ما استقلَّتْ
              وسهيلٌ إذا استقلَّ يماني


              وإلى ما يشبه هذا. ذهب الخوارزمي في تفسيرهِ بيت المعري:
              (وكأنَّ الهلال يهوى الثريا... الخ). حيث قال: (وفي هذا البيت إِيهامٌ مليحٌ، وذلك لأن (هلالاً) من أسماء الرجال. وقد جعله مُحبَّاً. والثريَّا من أسماء النساء، وقد جعلها حبيبة.)
              وفي هذا نكون قد حصلنا على: أولاً: مُفارقة. مثَّلتها أبيات عمر بن أبي ربيعة. خاصة وأنّ (سُهيْلاً) في أبيات المعري (12-16) يُوصف بأنه: مُضطرب، مُنعزل، سريع اللمعان، مُنفردٌ عن الكواكب أحمرُ كأنه قتيل مُضرَّج بدمه، بينما أختاه (الشِّعرَيان) تبكيانه.
              وهو عاجز عن الحركة لا يبرح مكانه: كساعٍ ليست له قدمان ‍(4)

              13- مُسْتَبدّاً كأنّه الفارسُ المُعْلَمُ
              يبدو مُعَارِضَ الفُرْسَانِ

              14- يُسْرِعُ اللَّمْحُ في إِحمرارٍ
              كما تُسْرِعُ في اللَّمْحِ مُقْلَةُ الغضبانِ


              15- ضَرَّجَتْهُ دماً سوفُ الأعادي
              فبكت رحمةً له الشِّعْرَيانِ

              16- قَدَماهُ وراءَهُ وَهْوَ في العَجْزِ
              كساعٍ ليستْ له قَدَمانِ



              وحصلنا: ثانياً: على مُماهاة تمثيلية في بيت المعري بين "أنْسَنة" الهلال والثُّريَّا، من جهة. وكونهما (البياض) في موازاة السواد في (ليلتي هذه عروس من الزنج) باعتبارهما، معاً، من حَلْيها: (قلائد من جُمان).
              (4)

              وأخيراً. ولمَّا كان -كما يقال- من المُحال دوام الحال في حركة الزمن. وهو الذي يدحو الليل في النهار، ويدحو النهار في الليل. كما يخرج الليل من النهار، ويخرج النهار من الليل، أي يستلُّه كما يسلُّ السيفَ من غمد الظلام، على حدّ تعبير الشاعر البُسْتي.. كان لا بد لتلك (الليلة) أن تدخل عباءةَ النهار (البياض). ويخلع الليلُ عباءةَ الليل. فكأَنّهما: (الليل والنهار) جسدٌ وظلٌّ: النهارُ ظلُّ الليل، والليلُ ظلُّ النهار، لا وجود لأحدهما دون الآخر، فهما مؤتلفان في إختلاف مختلفان في إئتلاف:

              17- ثمَّ شابَ الدُّجى وخافَ من الهَجْرِ
              فَغَطَّى المشيبَ بالزعفرانِ



              إنَّ المعري يُصوِّر لحظة التحوّل هذه، حيث يبدأ تبيُّنُ الخيط الأبيض من الخيط الأسود، بالعاشق (الليل) الذي بدأ المشيبُ: (البياض/ طلوع ضياء الفجر) يغزوه. فخاف هَجْرَ الأَحبَّة. فراح يُغطّي مَشيَبهُ بخضابٍ من الزعفران. ذاك: (أنَّ أُفق المشرق بعد طلوع الفجر وقبل طلوع الشمس، يشوبه شيءٌ من الحُمرة).
              ولَّما كان -يقول الخوارزمي: (الليلُ يعشقُ زَهْرَ الكواكب، فلَّما شابَ وخاف من هجْر الحبائب، دَلَّسَ شَيْبَهُ بالكتمان. وذلك أنْ خَضَبَهُ بالزعفران).
              وهنا، أيضاً، يشتغلُ الفعل الشعريّ على الموضوع الطبيعي، حيث تتمُّ المماثلة /الأيقونية/ بين التلفُّظ الأدبي والمنظور الفيزياوي/ الطبيعي.
              الإشارات:

              1- اعتمدنا: "شروح سقط الزند"- القسم الأول- تحقيق: (مصطفى السقا، وعبد الرحيم محمود، عبد السلام هارون، ابراهيم الأبياري، وحامد عبد المجيد) بإشراف: د. طه حسين. الهيئة المصرية العامة للكتاب 1986 -ط3- نسخة مُصوَّرة عن نسخة دار الكتب 1945.
              وتتضمن: شروح التبريزي والخوارزمي والبلطيوسي على سقط الزند.
              2- منهاج البلغاء وسراج الأدباء" د. محمد الحبيب الخوجة- دار الغرب الإسلامي -بيروت ط3- 1986/ ص 16.
              ويُنظر مقالنا عن المنهاج -في المجلة الثقافيّة) للجامعة الأردنية العدد /40/ 1996/ ص 153.
              3- يُنظر كتاب (العمى والبصيرة) تأليف: بول دي مان- ترجمة: لسعيد الغانمي -منشورات المجمع الثقافي- أبو ظبي /1995/ ص 55.
              4- قال الخوارزمي: أسفلَ من سهيلٍ كوكبان يُقال لهما: قد ما سُهبل
              إذا الشعب يوما أراد الحياة
              فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
              و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
              و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

              تعليق

              يعمل...
              X