إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

ما تزال المغنية الصلعاء موجودة بعد أكثر من نصف قرن

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • ما تزال المغنية الصلعاء موجودة بعد أكثر من نصف قرن

    المغنية الصلعاء ما تزال موجودة بعد أكثر من نصف قرن





    مسرحية المغنية الصلعاء قدمها العديد من المخرجين العالميين وهي عبارة عن نقد لاذع للبرجوازية
    أبو بكر العيادي
    باريس – يذكر يونسكو في «الهوامش والأضداد» أن فكرة المسرحية تولدت في ذهنه حينما حاول تعلم الإنكليزية بطريقة «آسّيميل» Assimil، فكان للحوارات الرصينة والغريبة في آن، وكذلك لتوالي الجمل بشكل لا ينظمه منطق، ما أثار سخريته، فقرر كتابة نص عبثي، خطابه متشظّ تشظي ما كان يسمعه في شريط الدروس المسجلة. كان العنوان الذي اختاره في البداية «الإنكليزية بلا مشقة»، ولكن الممثل الذي عُهد إليه بأداء دور رجل المطافئ، ارتكب زلة لسان خلال التدريبات، فعوض أن يقول «المعلمة الشقراء» قال «المغنية الصلعاء»، فاستحسن يونسكو ذلك واختاره عنوانا، إمعانا في العبثية، لأن تلك العبارة وردت عرَضا ولا علاقة لها بالأحداث لا من قريب ولا من بعيد. والنتيجة أن ما كان في البداية لعبة ثقافية يراد من ورائها السخرية من وسيلة تعليمية، صار نقدا لاذعا للبرجوازية ونظرة متبصرة في الفن الدرامي بوجه عام.
    المسرحية – أو المسرحية المضادة كما يقول مؤلفها – هي عبارة عن فصل وحيد في أحد عشر مشهدا، أقدم على إخراجها كثيرون، أولهم نيكولا باطاي عام 1950 على مسرح «النوكتامبيل» بباريس، وآخرهم كاترين ديلاتر على مسرح لاهوشيت كما أسلفنا، الذي صار أشبه بمتحف يرتاده السياح، كارتياد كنيسة نوتردام، الواقعة في الحي نفسه. أحداثها عود على بدء، وما بينهما وقت يمضي سدى في أحاديث مشوشة خالية من المعنى بين سميث وزوجته عن عائلة كل أفرادها يسمّون بوبي واتسون.
    وبين الزوجين والخادم ماري، ثم بين الخادم والضيفين مارتن وزوجته، ثم بين الضيفين اللذين يكتشفان للتو أنهما من أصيلي مدينة مانشستر وأنهما ركبا القطار نفسه والعربة نفسها، وأنهما يقيمان في لندن في الشارع نفسه والعمارة نفسها والشقة نفسها ويبيتان في الغرفة نفسها على السرير نفسه، وبعد أن يتعانقا فرحين باكتشافهما أنهما شريكا حياة واحدة، تعود الخادم لتعلن أن الضيفين ليسا من آل مارتن، وأن اسمها هي في الحقيقة ليس ماري بل شرلوك هولمز، يليه حديث بين أهل البيت وضيفيهما في أكثر من مسألة دون أي ترتيب منطقي، ثم حديث رجل مطافئ يأتي بغير استئذان، فيسأله أهل البيت عن لغز جرس الباب الذي أثارت دقاته جدلا حادّا استخلص منه سميث هذه الحكمة : «أقول عن تجربة، إذا دق الجرس، فذلك معناه أن ليس بالباب أحد»، وينصرف رجل المطافئ لأن في انتظاره حريقا سوف ينشب «بعد ثلاثة أرباع الساعة وست عشرة دقيقة بالضبط» على حد قوله. وقبل الانصراف يسأل عن المغنية الصلعاء، فترد عليه السيدة سميث محرجة : « تسريحة شعرها كالعادة».
    يحدث ذلك على وقع ساعة تدق في غير موعدها، فتقدم وتؤخر الزمن وفق مسار عبثي هو أيضا، وجرس يقرع دون أن يكون بالباب أحد. ثم يختلط الكلام بين الجميع حتى صار لغطا لا يبين منه حرف، فتغوص الغرفة في ظلام مطبق لا يسمع منه غير كلام يترى : «من هنا ! ليس من هناك!» ( من هينا! لأ مش مين هنا ! كما رددها المرحوم عمر الحريري في «الواد سيد الشغال» ).
    وعندما يعود الضوء، نعود إلى مش هد البداية : سميث وزوجته في وضعهما الأول يخوضان في الحديث نفسه، بالكلمات نفسها… ( بعد نهاية العرض المائة، غير يونسكو المشهد الأخير، حيث صار مارتن وزوجته هما اللذان يظهران من جديد بدل سميث وزوجته ويستأنفان المشهد الأول قبل إنزال الستار).
    إذا كان النصّ المسرحي عند بيكيت محكوما دوما بعزلة شخص غارق في كلامه، وغارق في عبثية ذلك الكلام، بالرغم من الوهم الذي يستبدّ بالمتكلّم بأنه لا يزال حيّا يُرزَق، طالما أنّ له طاقة على الكلام، ولو كان ذلك الكلام مجرّد لغو، لا يقدّم ولا يؤخّر، فإنه يغدو عند يونسكو وسيلةً لفضح زيف البورجوازية وخضوعها لامتثالية مثيرة للسخرية، وطريقةً فنية لنقد السطحية والتكلف، تعتمد على تضخيم خيوط الوهم المسرحي، فما يدور بين الشخصيات هو حديث تافه أو كلام فارغ كما يقول العوام أو قول لا يُعرف كوعُه من بوعِه كما يقول القدامى.
    وغني عن القول إن لكل مخرج قراءته، فإذا كان جان لوك لاغارس مثلا قدّمها في إخراج استفاد من بعض تقنيات السينما عند ألفريد هتشكوك كالسكون والترقب مع ضحكات مسجلة تطلق في غير محلها للدلالة على المفارقة بين المقام والمقال في هذا النص، فإن جان كلود بيرّوتي قد استعمل أقنعة الجص والألوان الفاقعة وترك شخوصه في حلبة صراع يواجهون محدثيهم بعفوية. أما كاترين ديلاتر فقد توخت أساليب البهلول guignol والمهرج وممثل السينما الصامتة للتعبير عن روح السخرية المفرطة في المسرحية، حيث يتجاور الظرف مع السذاجة والهذيان الشفوي.
يعمل...
X