عتبة إلى عتبات النص ليوسف الإدريسي
بقلم : روفيا بوغنوط
العتبات النصية بأجناسها الخطابية أول ما يشد البصر ، وقد تكون آخر شيء يبقى في الذاكرة حين ننسى النص يظل العنوان وهو واحد من بين عتبات النص يلفح الذاكرة يصر على البقاء. تحملنا هذه العتبات أو ما يصطلح عليه بالنصوص الموازية إلى متاهات التأويل تشدنا إليها، فأنى لنا أن نفلت من قبضة ذلك الإغراء والإغواء الذي لا ينتهي ، كلما اعتقدنا أننا تحررنا منها عادت وطوقتنا راسمة أمالا عراضا ، تقدم لنا قرابين العشق حتى لا ننسى لذة القراءة واللقاء،إنها فخاخ للعشق تحشد الأفكار وتشدها إليها، في كل ذلك تذكرنا أنها أهدتنا مفتاحا للدخول وفي الوقت نفسه تطالبنا بضريبة هذا الدخول ، ففي النهاية إقامتنا غير شرعية مادامت القراءة قراءات متعددة، قد تمنحنا تأشيرة سفر بلا رجعة تاركة إيانا نتخبط في متاهات التأويل بلا هوادة حتى ندرك أن ليس كل العتبات النصية حاملة لامتياز الشعرية، فكثيرا ما نلتقي بعتبات ونصوص موازية بلا نوايا دلالية
النص الموازي "أفق قد يصغر القارئ عن الصعود إليه وقد يتعالى هو عن النزول لأي قارئ"1 ، حقل معرفي أخذ اهتماما كبيرا في الدراسات النقدية المعاصرة ، وكتاب الدكتور الناقد يوسف الإدريسي"عتبات النص بحث في التراث العربي والخطاب النقدي المعاصر "الصادر عن منشورات مقاربات سنة 2008، يندرج في سياق حركة نقدية هامة لعبت فيها الدراسات المغربية دورا " في جعل هذه الحركة تبلور تعاقدا متناميا بالالتزام بالمعرفة والمنهج في تهيئ وضعية علمية تسمح بإنتاج التراكم النقدي"2 ،وهذه الجهود النقدية المعتبرة –ربما- تمنح الباحث ما يحرره من ضبابية الرؤية، فالعتبات محافل نصية قادرة على إنتاج الدلالة من خلال عملية التفاعل وإقامة علاقة جدلية بينها وبين النص الرئيس.
من اللافت أن الإدريسي سيج كتابه "عتبات النص بحث في التراث العربي والخطاب النقدي المعاصر" بعتبات نصية كان مركز ثقلها الإنتاجي الخطاب المقدماتي الذي عادت دباجته إلى ناقدين هما "عبد الجليل الأزدي " و القاص والروائي الناقد جمال بوطيب، وقد شكلت المقدمتان خطابا نقديا بينا ، حيث سعى الأزدي في تلك العتبة التي عنونها "بلاغة الاجتياز" والتي يرى بأنها "لا تقوم في العبور من العتبات إلى النص ، أو من الفاتحة إلى الخاتمة ، ,إنما في العبور بين النص والقارئ، بين الداخل والخارج، بين الفني والجمالي، بكيفية مفتوحة ديمقراطية وإيجابية ومناقضة لإعادة إنتاج النص المغلق،"3 إلى تبين ما لهذا المحفل النصي من أهمية وإن كنا ألفينا عبد الجليل الأزدي يفرد حديثه لعتبة واحدة هي عتبة "البداية السردية" مدرجا معها الخواتم خصوصا "أن النثر السردي التخييلي شكل مجالا مفضلا ومتميزا لهذا عبر إضاءة واستجلاء تكنيك كتابي على نحو شعائري غالبا ، وهو التكنيك الذي يطلب الوصف في المقام الأول والمساءلة والتأويل بعد ذلك "4، ومما يحسب للإدريسي حسب قول عبد الجليل الأزدي أن مقاربته تقع "ضمن هذا الشكل من العبور والاجتياز... التي جمعت بين المشاغل النظرية ودراسة حالة محددة ،علاوة على أنها صيغت في سياق أكاديمي جامعي يعود إلى بداية التسعينيات ، وذلك قبل أن تنبري العديد من المصنفات للاهتمام بهذا الموضوع "5 ويشير الأزدي إلى جهد عدد من الأساتذة في الجامعة المغربية كان لهم السبق في نهاية السبعينيات في الاهتمام بهذا الحقل المعرفي وإن كانت كما يقول "ظلت رهينة التقاليد الشفوية"6 لأنها شكلت مجموعة محاضرات ألقيت على الطلبة ولم تخرج عن هذا السياق ، ونعتقد أنه جهد طيب لو كتبت له الطباعة ، كان ليضيف إلى الدرس النقدي المغربي والعربي الكثير. عموما لم تخرج مقدمة الأزدي عن البيان النقدي -على اقتضابها - وشكلت عتبة مهمة لعتبات الإدريسي.
ثاني عتبة مقدماتية حظيت بها عتبات الإدريسي كانت من توقيع القاص والروائي جمال بوطيب والتي يعنونها هو الآخر بعنوان لافت –وكأننا به قد تواطأ مع الأزدي في وضع عناوين لافتة للمقدمات- " الانتباه المزدوج" مقدمة /عتبة كتبت بنفس نقدي بعيد عن التقريظ- وهو هنا يتفق مع عبد الجليل الأزدي - الذي عادة ما يلازم كتاب المقدمات خصوصا حين تكون بين المقدم والمقدم له /المؤلف سابق معرفة أو صداقة ،مما يحول بعض المقدمات إلى خطاب حجاجي دفاعي ينحاز لصاحب المتن الروائي أو الشعري أو النقدي وهي مقدمات تقريظية لا تضيف للنص شيئا ،أول ما افتتح به جمال بوطيب خطابه المقدماتي كلمات لفيلب لان "ينبغي أن ننتبه إلى النص الموازي وأن ننتبه منه "7 هو نفس التحذير الذي قدمه جيرار جينت " علينا أن نحذر العتبات"*مفاد هذا التحذير أولفت الانتباه حسب بوطيب يعود إلى "أن دراسة المتوازيات هي دراسة لمنطقها ، وثانيا أن الاهتمام بها ينبغي أن يكون دونما مبالغة ، أي أنه يعي ازدواجية الاهتمام بالمناص إن خطورة أو استسهالا، فلا يمكن المروق أمام عتبة نصية ، كما لا يمكن بالمقابل إيلاؤها أكثر مما تستحق"8 ، وبوطيب بكلامه هذا لم يجانب الصواب وربما- لنا
أن نتفق معه ، لكن ما يلفت الانتباه استعماله لثلاثة مصطلحات دفعة واحدة مما يجعل منها
بالضرورة مقابلا للمصطلح الأجنبي() وهي المتوازيات ، المناص ، العتبة النصية ، وهو ما يعكس فوضى المصطلح في النقد العربي وعدم وجود مصطلح واحد للمقابل الأجنبي ، وإن كنا لسننا بصدد الحديث عن إشكالية المصطلح لكن نشير إلى هذا الإشكال من باب لفت الانتباه حتى نحذر هذه الفوضى
يشيد جمال بوطيب بجهد الإدريسي الذي قدم اشتغالا تطبيقيا على نص روائي عربي " الآن..هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى" للروائي عبد الرحمن منيف "رواية بالغة وبليغة : بنيانها مرصوص وعمقها مخصوص وعتباتها فصوص ، وهي قبل كل هذا نص لاحق لنص سابق هو يتيمة دهر أدب السجون المسماة "شرق المتوسط" "9 ، لقد قدم يوسف الإدريسي بكتابه هذا اشتغالا مزدوجا بين "التنظير والممارسة من جهة ، والتنظير الغربي والعربي من جهة ثانية ، والوعي بالاكتمال النظري في التراث العربي من جهة ثالثة، مواطن تجعل بحث الباحث الدكتور يوسف الإدريسي بحثا يحقق بعد نظر يسمح للقارئ بمساءلة المتن التطبيقي بهدوء" 10 والحق يقال إن جهد الإدريسي في الإحاطة بعتبات النص بوصفها عناصر نظرية في الثقافة العربية الإسلامية جدير بالإشادة.
ومما يضاف للناقد أيضا وعيه باشتغال العتبات "فلم يغرق في الاهتمام بالعتبات ، ,إنما جعلها مكونا تحليليا لا ينبغي تجاوزه مع احتراز منها باعتبار بعض من مكوناتها –إن لم نقل كلها –
مقاطع إديولوجية بتعبير بارثي"11 فالنص الموازي/العتبات خطاب أساسي ومساعد سخر لخدمة شيء آخر هو النص، هذا ما أكسبه بعدا تداوليا و قوة انجازية وعلى "الباحث أن يعي حدودها وتطبيقاتها ومرجعياتها "12 و الإدريسي حسب ما قدم به جمال بوطيب قد وفق في الانتباه إلى هذه الازدواجية التي تلف العتبات النصية و"لعل أهم ما يميز الكتاب هو سعي مؤلفه إلى خلق تآلف بين الدلالي واللساني في خلق السرديات من خلال مكون هو العتبات .. بتفاصيلها الصغرى من عناوين وعناوين داخلية ، ومقتبسات ووظائفها"13 لقد عمل بوطيب على تتبع إشغال الإدريسي على العتبات النصية في الخطاب السردي فقدم بالمقابل خطابا تقديميا نقديا -على اقتضابه- وعتبة نصية عملت على الوشاية باستراتيجية الكتابة عند يوسف الإدريسي
ثالث عتبة تصادفنا داخل هذا المتن النقدي عتبة التقديم الذاتي الجدير بالذكر أن عبد الجليل الأزدي عنون عتبته "بتصدير"و جمال بوطيب وضعها قيد عنوان "تقديم" مما يفضي إلى أن الإدريسي سيج عتبات كتابه بطريقة إستراتيجية أو كما قال جمال بوطيب" عتبات النص كتاب يمكنه هو الآخر – وغير بعيد من مضامينه المعرفية واشتغالاته المنهجية – بما يميزه به صاحبه من نصوص موازية عليا : تصدير ، تقديم ، تذييل أن يكون محط دراسة وتحليل"14 ، مع هذا الاشتغال الملفت للانتباه إلا أننا لم نطمئن إلى مصطلح "التصدير " والذي يأتي عادة بمعنى "نقشة كتابية على حجارة بناء ، استشهاد في صدر الكتاب"15 هي تلك الكتابة المحفورة على مبنى أو تمثال أو عبارة توجيهية ، أو فكرة لكتاب ، إنها تقنية تلخص فكرة المؤلف سواء كانت له أو لغيره توضع في صدر الكتاب وبالضرورة يحق لنا - في اعتقادنا – أن نطلق على تصدير الأزدي تقديم لأنه أقرب إلى المقدمة منه إلى التصدير
نعود إلى عتبة /مقدمة الإدريسي مع أنه اسـتكتب لعتبة نصه قلمين نقديين إلا أنه لم يطمئن عليها فأردفها بتوقيع من قلمه وقد أخذت بعدا أكاديميا بحثا استعرض فيها أقسام كتابه كما أبرز ما للعتبات من أهمية وإن كنا لم نجد أي إحالة من قبله لسبب انتخاب مصطلح عتبات ليعتلي عرش العنونة وإن كان يستعمل مصطلح النص الموازي ، والموازيات النصية على غرار عبد الرحيم العلام في كتابه الفوضى الممكنة " ، يبدو أن الإدريسي تجنب إشكالية المصطلح عن سبق رصد و ترصد خصوصا أنه وجه اهتمامه إلى عتبات النص في الثقافة العربية الإسلامية والتنظير الغربي لخطاب العتبات وأقصى تعامل النقد العربي مع هذا الحقل المعرفي
من النصوص الموازية التي أحاطت بعتبات الإدريسي عتبة التصدير التي استجلبها من سياقات مختلفة كان أولها ل "التهانوي : كشاف اصطلاحات الفنون" "الواجب على من شرع في شرح كتاب ما أن يتعرض لأشياء قبل الشروع في المقصود ، يسميها قدماء الحكماء الرؤوس الثمانية ، أحدها الغرض (..) وثانيها المنفعة (..) وثالثها السمة (..) ورابعها المؤلف (..) وخامسها أنه من أي علم هو (..) وسادسها أنه من أية مرتبة هو (..) وسابعها القسمة(...)وثامنها الأنحاء التعليمية (...)"وهو ما يعكس وعي الإدريسي -الذي يحسب له – بالشذرات المتفرعة من التراث العربي ، ثاني عتبة بنت عتبة التصدير مستجلبة من المتن الروائي " (...) آخر شيء يتم اختياره عادة هو العنوان ، ويمكن استنتاجه من السياق(..)" وهو ما يعكس سلطة المتن الروائي عند الإدريسي ،ففي النهاية نحن ننطلق في مقاربتنا من النص الموازي إلى النص الرئيس و العكس ،و لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن نسقط من حساباتنا أن العتبات وضعت بالأساس لخدمة النص أو كما يقول جيرار جينت لا يوجد فيل من غير فيال ولا فيال من غير فيل16 ، وقد نتفق مع علي المتقي في أن "قيمة العتبات تكمن في ما توحي به من احتمالات تثير في القارئ شهية القراءة وهذا يتحقق قبل قراءة نص الرواية " 17إلا أننا نقول قد يتحقق ذلك – في اعتقادنا- على مستوى الجمهور الذي تغريه الأغلفة والعناوين لاقتناء المؤلف ولكن على مستوى القارئ يصبح بناء التأويل والدلالة قائما على أساس حركة الذهاب والإياب من النص إلى العتبة ومن العتبة إلى النص والجمهور ليس بالضرورة قارئا للنص الروائي ، مما يجعلنا نخالف علي المتقي في الجزء الثاني من مقولته " ينبغي قراءة صورة الغلاف بوصفها عتبة لها وظائف معينة باستقلال عن الرواية "18 ذلك أن الوحدات الغرافيكية للغلاف تشتغل على بلاغة بصرية تغري وتغوي باقتناء الرواية لكن على مستوى التأويل لن نتمكن من الوصول إلى الدلالة إلا عبر الحركة السابقة الذكر(نحن ننطلق من البنية السطحية إلى البنية العميقة) ،وعلى ما يبدو لم يرض علي المتقي في مقاله" انطباعات حول عتبات النص ليوسف الإدريسي " عن تحليل الإدريسي لبعض العتبات (المقتبسات ) فالمتقي يصر على مقاربة العتبات/ المقتبسات في ذاتها أولا ثم ربطها بسياقها الذي وضعت فيه والحق يقال إننا نتفق مع المتقي في هذا التصور فالمقتبسات تطرح إشكالية الكلام المقول سلفا فلا تنفك عتبات التصدير/المقتبسات تضعنا أمام المساءلة هل تحافظ هذه المقولات على دلالتها الأصلية أم نشأت لها دلالات أخرى بفضل التحويل والتهجير النصي الذي خضعت له. كما أن عبد الرحمن منيف لم يستحضر تلك المقتبسات من باب الترف النصي فقد وضعها بالأساس خدمة للنص وإن لم يتمكن الإدريسي من الحفر في دلالتها وعلاقتها بالمتن ، فذلك لا يعني أن قراءتها انطلاقا من المتن الروائي تقيد التأويل والتحليل
و في الختام لنا أن نقول يبقى النص الموازي حقلا معرفيا جديرا بالاحتفال النقدي لكن في غمرة هذا الاحتفال ينبغي أن نحذر منه فقد تأخذنا العتبات النصية إلى مزالق نقدية تعتيمية ويبقى كتاب الدكتور يوسف الإدريسي موطن قراءة ومناسبة احتفاء على حد قول جمال بوطيب.
الهوامش:
1 - بسام قطوس : سيمياء العنوان، ط1 ،وزارة الثقافة، الأردن ،2001 ، ص6
2 - نبيل منصر : الخطاب الموازي للقصيدة العربية، ط1، درا توبقال، المغرب ، 2007 ، ص6
3 - يوسف الإدريسي : عتبات النص بحث في التراث العربي والخطاب النقدي المعاصر، ط1 منشورات مقاربات ، المغرب ،2008 ،ص9/10
4 - المصدر نفسه : ص7
5 - المصدر نفسه : ص10
6 - المصدر نفسه : الصفحة نفسها
*Gérard genette Seuils , éditions du seuil, paris, p376
8 - المصدر نفسه :الصفحة نفسها
9 - المصدر نفسه: الصفحة نفسها
10 - المصدر نفسه : ص11
11 - المصدر نفسه :ص12
12 - المصدر نفسه: ص12
13 - المصدر نفسه : ص12
14 - المصدر نفسه : ص13
15 - جروان السابق : معجم اللغات انجليزي –فرنسي –عربي ، ط1 ،درا سابق للنشر، بيروت ، دس ، ص336
- 16 Gérard genette seuil ,p376
17- علي المتقي : انطباعات حول عتبات النص ليوسف الإدريسي، متاح على الشبكة ، مدونة علي moutaki.jeeran.com المتقي ،09 أفريل2009 ،
18 - المرجع نفسه : متاح على الشبكة
19 – شعيب حليفي ك هوية العلامات في العتبات وبناء التأويل ، ط1 ، درا الثقافة ، الدار البيضاء /المغرب، 2005 ، ص33
تعليق