إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

للمصري حمدي أبو جليل رواية «الفاعل»

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • للمصري حمدي أبو جليل رواية «الفاعل»

    صدور الطبعة الرابعة من رواية الفاعل للكاتب حمدي أبو جليل

    نورا ناجى

    8

    صدرت عن دارالساقي اللبنانية الطبعة الرابعة من رواية الفاعل لحمدي أبو جليل وهى الرواية الثانية للكاتب الذي صدرت الطبعة الأولى منها عن دار ميريت للنشر عام 2008 و حققت نجاحاً كبيراً في أوساط المثقفين الأمر الذي جعلها تستحق الفوز بجائزة نجيب محفوظ التي تمنحها الجامعة الأمريكية بالقاهرة سنوياً.
    الرواية هي أقرب للسيرة الذاتية التي يحكي فيها لن الكاتب عن رحلته في عالم الكتابة و حرفة البناء كما لو كان فاعلاً كما يوحي اسم الرواية,وتتضمن الرحلة حكايات فرعية كثيرة، تكشف عن تردي أوضاع مختلفة، خصوصا على الصعيد الاجتماعي، ما يجعل "الفاعل" تتجاوز البوح والسيرة الذاتية إلى أن تصبح لوحة لقاع مصر أواخر القرن العشرين، يمتزج فيها المضحك بالمبكي، بحسب ما جاء على ظهر غلاف طبعتها الجديدة.
    حمدي أبو جليل مواليد الفيوم 1963 صدر له من قبل رواية لصوص متقاعدون , وصدرت له مجموعتان قصصيتان هما "أشياء مطوية بعناية فائقة" و"أسراب النمل"، فيما صدر له كتاب بعنوان "القاهرة شوارع وحكايات".
    رواية «الفاعل» للمصري حمدي أبو جليل
    سرد متقطع يتبادل المرح مع العالم

    محمد بدوي
    لا تشكل رواية «الفاعل» لحمدي أبو جليل اختلافاً كبيراً عن روايته الأولى «لصوص متقاعدون». فهي مثلها تؤكد عقيدة أدبية مفادها أن الكتابة ينبغي أن تكون عما عاشه الكاتب وخبره، لا عما يتخيله، وهي مثلها أيضاً تحيل - مرجعياً - إلى عالم المهمشين وغرائبه، وإلى الفترة الزمنية التي تشير إليها الرواية الأولى.
    لكن الاختلاف الأساسي بين الروايتين أن الأولى تقوم على حبكة تقوم بوظيفة دمج وربط الأحداث والأزمنة، على رغم أنها لم تكن بالغة الإتقان، أما الثانية فهي تطوّح بالحبكة، في إيحاء أن المؤلف - مع تبغه وشايه في الفصل الأول - يفضل «الحرية» على «القيد». تعلم أبو جليل من سرد ما بعد الحداثة أن يتحدث في قصته عن «قصة القصة»، وعن علاقته بما يكتبه، وعن صورة قارئه المتخيل في وقت الكتابة. وهو هنا يقول صراحة إنه بدأ روايات عدة وتعثرت الكتابة، لذلك قرر أن يكتب «على راحته»، أي من دون أن يخضع لتخطيط أو حبكة. مع ذلك تراجع عما أعلن، وكتب في نهاية الرواية فصلاً يَوكِل إليه مهمة تنويرية للقارئ، أي يحاول به أن يحل ما اعتبره لغزاً.
    يمكن أن نقول ببساطة إن الثورة على «الحبكة» في الرواية قادت إلى تشظي الشكل الروائي. ودلّ هذا التشظي على أن ما في الواقع «انعكس» على شكل الكتابة من منظور أن التمرد على الحبك يعني رفض صقل العالم وتزيينه، ويعني بالتالي رفض الانصياع لقانون السوق التي تسلِّع الأدب، ما قاد إلى إنتاج شعر وسرد ومسرح ينهك المتلقي، أو يختار متلقيه القادر على فك الشفرات. وفي الأدب العربي، خصوصاً مع انعدام سوق أدبية حقيقية، أصبح التجريب في مرحلة بذاتها أيديولوجيا جمالية وسياسية في آن، ربما أكملت صورة الكاتب المختلف عن قارئه بالموهبة والوعي، لكن هذا لم يدم طويلاً، إذ سرعان ما انغلق المدار وبلغ «انغلاق النص» ذروته في القصيدة والقصة، فوجد الكاتب نفسه مطالباً بتبرير استراتيجيته. حينئذ كثر الحديث ثانية عن الحبكة، التي يجب أن نلاحظ أن مفهومها غالباً ما يختصر في كونها مجرد آلية إدماجية لأجزاء النص.
    يكتب حمدي أبو جليل عن تجربته، تحديداً عن نفسه إبان عمله في مهنة «الفاعل». وهي مهنة لا تتطلب أي كفاءة سوى القوة البدنية والقدرة على التحمل، أي أن المتحدث إلينا في الرواية هو المؤلف صاحب التجربة.
    واحد من البدو المصريين الفقراء يدرس في معهد فوق المتوسط، ويحب الكتابة ويزهو بها على زملائه، والطرافة تكمن هنا، أي في ازدواج السارد - الشخصية الرئيسة، كفاعل وأديب مبتدئ. من ناحية هو مطلع على هذا الفضاء الهامشي المغلق إلا على أصحابه، ومن ناحية ثانية هو أديب يستطيع الكتابة عن هذا الفضاء. حاول المؤلف أن يحول هذه المادة «الواقعية» إلى خطاب روائي من خلال حبكه وصوغه في «رواية» فاستعصى عليه ذلك، فتحرر من قيد الحبكة، وكتب تجربته كما تنعكس في ذهنه.
    لو كتبت هذه المادة كما جرت، أعني لو كتبت قصة الفاعل ورفاقه وأهله كما حدثت حقاً، فتطابق الخطاب مع القصة كما يقول البنيويون، لانخفض إذاً سقف المعنى، لأنها لن تزيد عن أن تكون «قصة جهاد» البطل للانعتاق من مصير البدوي الفقير الذي لم يبق له سوى لهجته واعتداده التقليدي بذاته مع بضع روايات في حقيبته تميزه عن زملائه. في هذا سيكون حمدي أبو جليل كاتب أمثولة، وكبرياؤه ما بعد الحداثية يأبى عليه ذلك. لأن الأمثولة كتابة أخلاقية بامتياز، وهو يحاول أن يكتب نقيضها. لم يبق له إذاً سوى أن يكتبها كما هي «في رأسه». بذلك يوحي لنا نحن القراء أنه لن يضفي على ما حدث ما يهبه التجانس، بل سيدعمه كما حدث في فوضاه وتشظيه. لا يتشظى الزمن في الرواية، لأن الأنا تعاني ارتباكاً، بل لأنها وفية لما تتذكر، متبنية منطلقاً آخر غير منطق الحبكة، أو حتى مطابقة ما كتب لما حدث، فالكاتب لا يتذكر ما حدث في غضب، ولا في هدوء ورضا، بل يذهب إليه ويستحضره ويضعه على المائدة ويتفرج عليه.
    في رواية «لصوص متقاعدون» نجح أبو جليل نسبياً في قطع علاقة المؤلف بالشخصية التي تسرد، أقول نسبياً لأنه أحاطها من دون بقية الشخصيات بقدر من الحنو. أما هنا فقد أجهز تقريباً على ذلك الحبل السِّري بين الكاتب وبطله، والذي يمثل تهديداً للنص، خصوصاً أنه يكتب عن خبرة الذات في الواقع. وقد فعل ذلك بتنمية أفضل ما فيه ككاتب وهو السخرية.
    لكن السخرية كانت إحدى دعائم روايته الأولى وبعض قصصه القصيرة، فما الجديد؟ إنه كامن في نوع السخرية، وهو ليس أمراً هيناً. في «لصوص متقاعدون» تعني السخرية اكتشاف المفارقة وصوغها في عنف، ربما تعبيراً عن عنف الحياة وخوف الشخصيات، وربما تأشيراً إلى سخط الكاتب الذي ينظر خلفه بغضب. أما هنا فالمفارقات تبنى بمنطق اللعب والمرح. الكاتب سيئ الظن بالعالم في «لصوص متقاعدون» ساخط عنيف، لكنه في «الفاعل» يقبل المفارقة، مسلِّماً بتوزيع الأدوار والدرجات.
    الرابط بين الروايتين أنه مازال مصراً على لا منطقية العالم، التي لم تعد حافزاً على السخط ومبرراً له، والرغبة في الجرح والإيلام، بل أصبحت مسوغاً للتعايش مع العالم، لكن باطنها يقول: «تعامل مع العالم باعتباره مجنوناً، وأنت العاقل الوحيد، فإذا غضبت صرت مجنوناً مثله. لذلك ابتسم وتبادل معه النكات». هذا ما يفسر تراجع تأثير محمد مستجاب، وبروز تأثير إبراهيم أصلان، الذي يمكنه أن يضحي بالوضوح من أجل الدقة، وأن ينسى راحته ككاتب وراحة قارئه بحثاً عن اكتمال الشكل وانسجامه، فخلف سخريته الحانية ثمة اعتراف بوجود المعنى في العالم، ومن ثم ضرورة إضفاء التجانس على الشكل.
    ابتعد حمدي أبو جليل عن مستجاب، لعله خشي تكرار مسيرة مستجاب إلى التجريد الأمثولي، فأصبح الحدث القصصي محصناً، استعارات ورموزاً، وخفت الثقل الواقعي حتى أصبحت الشخصيات تقريباً بلا أبعاد نفسية أو اجتماعية. واقترب من أصلان الذي لا ينسى قط نصيحة همنغواي لا تكتب إلا عما تعرفه. فحمدي كاتب «واقعي» حتى لو أغرته نظريات ميلان كونديرا أن يشطح بخياله أحياناً.
    مع هذا تقوم الواقعية بتعديل نفسها. فالكاتب الذي كان مأخوذاً بمسرحة الفعل الجنسي في «لصوص متقاعدون»، سيتعامل معه في «الفاعل» إيماءً وتلميحاً، فلا يتوقف ويبطئ، ربما بعد شيوع استخدام هذه التقنية لدى كثيرين مما يفقدها كثيراً من طاقتها.
    هكذا يكتب حمدي أبو جليل خبرته، تلميذاً، ومراهقاً، وعاملاً في «الفاعل» على نحو يتقطع فيه النص، ويتشظى الزمن، وتكف الأحداث عن النمو الرأسي. بل تدور وتلتف وترجأ نتائجها. وفي ذلك تنشغل بمشكل الهوية، هوية الذات المتحدرة من «قبيلة» تتداعى، في فترة زمنية لا تستحق سوى التعامل الهزلي مع وقائعها، ومع رفاق عمر قصير يخلو من أي مجد، يمكن أن تتخيلهم حين ينتهون من إحدى وصلات الضحك، وهم يمسحون دموعهم التي تكاد تطفر وهم يتمتمون «اللهم اجعله خيراً».
يعمل...
X