إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

في رحاب السيرة النبوية المعطرة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #31
    الأيام النظرة في شرح السيرة العطرة ( 5 )



    الأيام النظرة في شرح السيرة العطرة ( 5 )
    الشيخ صالح بن عواد المغامسي

    أعمامه و عماته و أزواجه ـ صلى الله عليه و سلم :
    الدرس الخامس :
    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضل له ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مُرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره وتبع منهجه بإحسانٍ إلى يوم الدين.
    اليوم إن شاء الله تعالى سنشرع في التعليق على ما جاء في ذكر أعمامه وعمّاته وأزواجه صلوات الله وسلامه عليه.

    فصل في أعمامه وعماته:

    (وكان له صلى الله عليه وسلم، من العمومة أحد عشر؛ منهم:
    الحارث: وهو أكبر ولد عبد المطلب، وبه كان يكنى، ومن ولده وولد ولده جماعة لهم صحبة النبي صلى الله عليه وسلم.
    وقثم: هلك صغيرًا، وهو أخو الحارث لأمه.
    والزبير بن عبد المطلب: وكان من أشراف قريش، وابنه عبد الله بن الزبير، شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينًا، وثبت يومئذ، واستُشهد بأجنادين، ورُوي أنه وجد إلى جنب سبعة قد قتلهم وقتلوه.
    وضُباعة بنت الزبير، لها صحبة، وأم الحكم بنت الزبير، روت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
    وحمزة بن عبد المطلب: أسد الله وأسد رسوله، وأخوه من الرضاعة، أسلم قديمًا، وهاجر إلى المدينة، وشهد بدرًا، وقُتل يوم أحد شهيدًا، ولم يكن له إلا ابنة.
    وأبو الفضل العباس بن عبد المطلب: أسلم وحسن إسلامه، وهاجر إلى المدينة، وكان أكبر من النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين، وكان له عشرة من الذكور: الفضل، وعبد الله، وقثم لهم صحبة، ومات سنة اثنتين وثلاثين في خلافة عثمان ابن عفان بالمدينة. ولم يسلم من أعمام النبي صلى الله عليه وسلم إلا العباس وحمزة.
    وأبو طالب بن عبد المطلب: واسمه عبد مناف، وهو أخو عبد الله – أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم – لأمه، وعاتكة صاحبة الرؤيا في بدر وأمهم فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم.وله من الولد طالبٌ – مات كافرًا – وعقيل، وجعفر، وعلي، وأم هانئ – لهم صحبة – واسم أم هانئ فاختة، وقيل: هند. وجمانة ذكرت في أولاده أيضًا.
    وأبو لهب بن عبد المطلب: واسمه عبد العزى، كناه أبوه بذلك لحسن وجهه، ومن ولده عتبة، ومُعتَّبٌ، ثبتا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين، ودرة، لهم صحبة. وعُتَيْبَةُ قتلة الأسد بالزرقاء من أرض الشام على كفره بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم .
    وعبد الكعبة، و حِجْلٌ واسمه المغيرة، وضرار أخو العباس لأمه، والغَيْدَاق، وإنما سمي الغيداق لأنه أجود قريش، وأكثرهم طعامًا )

    هؤلاء كما ذكر صاحب المتن من أعمام النبي صلى الله عليه وسلم، وقبل التعليق على هذا يحسن أن تعلم أن الأصل أن العمّ معروفٌ هو أخو الوالد، أن عبد المطلب هو جد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن له في أول الأمر إلا ابنٌ واحد، ثم إنه اشتد عليه بعض الخلاف مع زعماء قريش فنذر إن رزقه الله أولادًا يمنعونه أن يذبح أحدهم –هذا في الجاهلية-، فرزقه الله جلّ وعلا أولادًا،
    فأراد أن يذبح ابنه عبد الله ثم حصل ما حصل من قضية الاستهام، فُديَ عبد الله بمائة من الإبل، هؤلاء كلهم إخوة لعبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم فأصبح إخوة أبيه أعمامًا له. نعود لأصل الموضوع، أصل الموضوع أن لوطًا عليه الصلاة والسلام، ويحسن لطالب العلم أن يربط بين حياة الأنبياء ويفقه السنن التي يبعث الله جلّ وعلا من أجلها الرسل، الأصل أن لوطًا عليه الصلاة والسلام كان ابن أخٍ لإبراهيم عليه الصلاة والسلام، فلما هاجر لوطٌ ونزل أرض سدُّوم في جهة البحر الميِّت اليوم وجاءته الملائكة في صورة وجوهٍ حسانٍ تام الخلقة وفُتن بهم قوم لوطٍ ودخلوا عليه وراودوه عن ضيفه كما قال القرآن، قال لوطٌ –كما نص الله- ﴿ قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آَوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ﴾ [هـود: 80]، فكان يتمنّى أن يكون له قومٌ ينصرونه على هؤلاء، لأنه لو كان منيعًا لما تجرأ هؤلاء عليه، قال صلى الله عليه وسلم كما في البخاري وغيره ( فما بعث الله بعده من نبيٍّ إلا في منعةٍ من قومه ).
    فكان للنبي صلى الله عليه وسلم أعمامًا، وبنو هاشم كانوا لهم سيتُ عند القرشيين، هذا كله من أجل حفظ نبيِّنا صلى الله عليه وسلم، وقد بيّنا في السابق أن الإنسان قد يستفيد حتى من الكافر، فبنو هاشم مؤمنًا وكافرًا كانوا عصبة للنبي عليه الصلاة والسلام، وقلنا إنهم جميعًا دخلوا معه الشعب المؤمن منهم والكافر، وقبلوا الحصار لأنهم يشعرون بالأنفة والحميّة لمن يحمونه ولو كانوا يخالفونه، والشاهد من هذا كله، هذه قضية أن النبي عليه الصلاة والسلام كان له أعمامٌ كثيرون، لكن هؤلاء الأعمام أنت لست مُلزمًا بحفظهم، وإنما ذكرهم صاحب المتن من باب التعلم، ولست مُلزمًا كطالب علم بحفظ أسماء الأحد عشر، لكن ما الذي أنت مُلزمٌ به؟ التصور الكامل للمسألة، أن تعلم أن أعمام النبي صلى الله عليه وسلم يمكن تقسيمهم إلى ثلاثة أقسام:
    القسم الأول : قسمٌ لم يُدرك نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم ومبعثه، وبالتالي عندما لم يدرك النبوة ولم يدرك المبعث يكون مات على ماذا؟ يموت على دين آبائه فهو من أهل الفطرة، يجري عليه ما يجري على أهل الفطرة، لأنه ما أدرك بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، هذا قسمٌ أول.
    القسم الثاني: أدرك مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ولم يؤمن، وهذا يضم اثنين شهيرين، أبو طالب وأبو لهب، فكلاهما أردك البعثة النبوية ولم يؤمن، إلا أن هذا القسم نفسه –أي الثاني- هو نفسه ينقسم إلى قسمين:
    • قسمٌ لم يؤمن وناصر النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أبو طالب.
    • وقسمٌ لم يؤمن وعاد النبي عليه الصلاة والسلام ولم ينصره وهو أبو لهب، وسُمِّي أبو لهب لجمال خديه ونورهما، واسمه الحقيقي عبد العُزّى، وإنما أبو لهبٍ كنيته، وفي هذا نزل قول الله جلّ وعلا ﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ﴿1﴾ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ﴿2﴾ ﴾ [المسد: 1، 2].
    وهذه الآية من أعظم الصور الدالة على أنه لا يمكن لأحدٍ أن يخرج عن مشيئة الله، كيف هي دالة على هذا؟ النبي عليه الصلاة والسلام يقول هذا القرآن من عند الله، وقريشٌ تقول ومن ضمنها أبو لهب هذا القرآن ليس من عند الله، فلمّا قال أبو لهب للنبي عليه الصلاة والسلام تبًّا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا أنزل الله على نبينا هذه السورة، فقال عليه الصلاة والسلام يتلوها ﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ﴿1﴾ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ﴿2﴾ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ ﴿3﴾ ﴾ [المسد: 1-3].

    ومعلومٌ أن النار ذات لهب لا يصلاها المؤمن، يصلاها الكافر، فهو يقول للناس وأبو لهب يسمع ﴿ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ ﴾، أنا قلت أن فيها دليلا أنه لا يسع أحدٌ أن يخرج على مشيئة الله، فأين الدليل؟ كان بإمكان أبي لهب أن يقول للناس محمد يقول إنني في النار، أنا الآن مؤمن بمحمد حتى يُبطل على النبي القرآن، يعني كان بإمكان أبي لهب أن يقول أمام الناس هذا محمدٌ يقول إنني سأدخل النار، كلام ربه يقول أنني سأصلى نارًا ذات لهب، وهو يقول لكم أن المؤمن لا يدخل النار، فأنا أريد أن أُبطل قرآن محمد فأنا أقول لكم الآن أنا أشهد أن لا إله إلا الله، فكيف أدخل النار؟ إذا محمدٌ كذّابٌ.
    هذه على سهولتها لم يستطع أن يقولها، و إلا لو قالها لخرج، لكن الله جلّ وعلا يعلم يقينًا أنه لن يقولها، ولذلك قال الله ﴿ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ ﴾، وأنا لا أريد أن أخرج من السيرة إلى التفسير، ولكن من أراد أن يخشع في القرآن فليتدبر القرآن في المقام الأول، وفي القرآن كنوزٌ ليس هذا وقت إخراجها، من رُزق قدرةً على التفسير سيرى شيئًا عجبًا في دلائل قدرة الله، لكن كما قلت لا أريد أن أخرج إلى هذا المنحى المقصود أن أبا لهب لم يؤمن بالرسول – صلى الله عليه وسلم - وعاداه.

    والقسم الثالث هو من أدرك بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وآمن، وهذا يشمل اثنين فقط رضي الله عنهما وأرضاهما، وهما العباس وحمزة ابنا عبد المطلب، فهذان – حمزة والعبّاس- عمَّا الرسول صلى الله عليه وسلم، إلا أن الفرق أن حمزة تقدم إسلامه والعبَّاس تأخر إسلامه،
    وحمزة رضي الله عنه لم يترك إلا ابنة، وهو أسد الله وأسد رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو سيد الشهداء – كما صحَّ الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم-، وقاتل قتالا عظيمًا يوم بدرٍ ويوم أحد.
    فأراد أحد المشركين ممن وُتِرَ في بدرٍ جاء لغلامٍ اسمه وحشي، وحشيٌّ هذا غلامٌ ليس له ناقة ولا جمل في دين قريش، فقيل له تشتري حريتك بأن تقتل حمزة، فأعد حربةً ومكث في يوم أحد لا يريد أن تنتصر قريش ولا أن ينتصر محمدٌ صلى الله عليه وسلم، المهم عنده أن يفوز بحريته، فاتخذ الحربة وتربص بحمزة ثم رماه بها فقتله، ثم جاءت هندٌ قبل إسلامها فقطعت بعضًا من جسده –رضي الله عنه وأرضاه-، أخذت كبده ولاكتها بفمها، وحصل ما حصل له من التمثيل رضي الله عنه وأرضاه، مُثل به، مُثل به قليلا.
    ثم إن وحشيًّا هذا أُعتق فاشترى حريّته بقتل حمزة، ثم مرت الأيام ومرت السنون وكل شيءٍ بقدر، ( وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يبقى بينه وبنيها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن الرجل ليعلم بعمل أهل النار حتى ما يبقى بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها )، فلما أسلم وحشيٌ، فلما أسلم قصَّ على النبي صلى الله عليه وسلم كيف قتل حمزة، فقال له عليه الصلاة والسلام ( غرِّب وجهك عني )، أي لا أستطيع أن أراك، ولم يرد إسلامه لأن هذا دين، ليس للنبي عليه الصلاة والسلام أن يتحكم فيه، لكن مسألة العاطفة مع العم أمرٌ متروكٌ له، وهو شيءٌ بشريٌ فلم يستطع عليه الصلاة والسلام بعد ذلك أن يرى وحشيًّا،وقُدِّر لوحشيٍّ كما قتل حمزة أن يقتل مُسَيْلِمَةَ الكذاب في حرب اليمامة، ولعل هذه تُكفر تلك وإن كان الإسلام يجبُّ ما قبله.
    أما العبّاس رضي الله عنه فقد عُمِّر حتى بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أكبر من النبي عليه الصلاة والسلام بثلاث سنين، فإذا سُئل أيهما أكبر أنت أم رسول الله يتأدب ويقول: هو أكبر مني وأنا أسنُّ منه، يتأدب ويجيب ويقول: هو –أي النبي- أكبر مني وأنا أسنُّ منه، كلمة "أسن" تُشعرك بالضعف، كلمة أكبر تُشعرك بالقوة، فينسب القوة والعلو للنبي عليه الصلاة والسلام، يعني أكبر مني قدرًا، وأنا أسن منه يعني في السن، ولا يقول أنا أكبر لأن هذا من الأدب في الألفاظ، هذا العبّاس رضي الله تعالى عنه وأرضاه.

    إذًا ينجم عن هذا أنه لم يُسلم من أعمام النبي صلى الله عليه وسلم إلا اثنان هما حمزة والعبّاس رضي الله تعالى عنهما وأرضاهما.

    وعماتُه صلى الله عليه وسلم ست:

    (صفية بنت عبد المطلب: أسلمت وهاجرت، وهي أم الزبير بن العوام، توفيت بالمدينة في خلافة عمر بن الخطاب، وهي أخت حمزة لأمه.
    وعاتكة بنت عبد المطلب: قيل إنها أسلمت، وهي صاحبة الرؤيا في بدر، وكانت عند أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، ولدت له عبد الله، أسلم وله صحبة، وزهيرًا، وقريبة الكبرى.
    وأروى بنت عبد المطلب: كانت عند عمير بن وهب بن عبد الدار بن قصي، فولدت له طليب بن
    عُمير، وكان من المهاجرين الأولين، شهد بدرًا، وقُتِل بأجنادين شهيدًا، ليس له عقب.
    وأميمة بنت عبد المطلب كانت عند جحش بن رئاب، ولدت له عبد الله المقتول بأحد شهيدًا، وأبا أحمد الأعمى الشاعر واسمه عبد، وزينب زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وحبيبة، وحمنة، كلهم لهم صحبة، وعبيد الله بن جحش أسلم ثم تنصر، ومات بالحبشة كافرًا.
    وبَرَّة بنت عبد المطلب: كانت عند عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، فولدت له أبا سلمة، واسمه عبد الله، وكان زوج أم سلمة قبل النبي صلى الله عليه وسلم، وتزوجها بعد عبد الأسد أبو رهم بن عبد العزى بن أبي قيس، فولدت له أبا عبرة بن أبي رهم.
    وأم حكيم وهي البيضاء بنت عبد المطلب، كانت عند كُرَيْز بن ربيعة بن حبيب ابن عبد شمس بن عبد مناف، فولدت له أروى بنت كُرَيْز، وهي أم عثمان ابن عفان رضي الله عنه ).

    بعد أن ذكر المؤلف أعمام النبي صلى الله عليه وسلم ذكر عمّات النبي عليه الصلاة والسلام، وكما قلنا في الأعمام نقول في العمّات، الذي يلزم منهم المعرفة الإجمالية، ومن يثبت منهن من الست أنها أسلمت إلا صفية، صفية ثبت إسلامها، وهي أم الزبير بن العوام والأخت الشقيقة لحمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وأرضاه. وأما عاتكة وأروى فاختلف في إسلامهما، وأروى بعض العلماء يُصحح إسلامها، أما عاتكة فقليلٌ من قال به، وقد قال المصنف إن عاتكة هي صاحبة الرؤيا يوم بدر، والمقصود برؤيا بدر أن عاتكة هذه قبل موقعة بدر رأت في منامها أن رجلا يأتي على مكة ويقول: يا أهل بدر هلم إلى مصرعكم، ثم إن صخرةً جاءت فانفلقت وخرجت منها شظايا فلم تترك بيتًا في مكة إلا أصابته، فلمّا شاع الخبر في قريش –وهذا قبل بدرٍ- جاء أبو جهلٍ إلى العباس رضي الله تعالى عنه وأرضاه وقال: يا بني عبد المطلب أما يكفيكم أن يتنبأ رجالكم حتى يتنبأ نساؤكم، لقول عاتكة أنها رأت كذا وكذا، ثم تحققت هذه الرؤيا وصدّق الله رؤياها ووقع ما وقع في بدرٍ وكان كما قالت هؤلاء الناس أكثرهم صرعى في قليب بدر، ولم تترك بدرٌ أحدًا من قريشٍ إلا قليلا إلا أصابته بسوء وناله من كربها كما هو معلومٌ. فهؤلاء على الإجمال عمّات النبي صلوات الله وسلامه عليه، ثم بعد ذلك ننتقل إلى أزواجه رضي الله عنهن وأرضاهن.

    ذكر أزواجه عليه وعليهن الصلاة والسلام:

    (وأول من تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى ابن قصي بن كلاب، تزوجها وهو ابن خمس وعشرين سنة، وبقيت معه حتى بعثه الله – عز وجل – فكانت له وزير صدق، وماتت قبل الهجرة بثلاث سنين، وهذا أصح الأقوال، وقيل: قبل الهجرة بخمس سنين، وقيل: بأربع سنين )

    هذه أولى أمهات المؤمنين، وقد سبق التعليق عليها بما سلف، وهي خديجة بنت خُويلد، وقلنا إن لها مزايا، من مزاياها أن الله جلّ وعلا أبلغها السلام عن طريق جبريل، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتزوج أحدًا عليها في حياتها، وأنها رضي الله تعالى عنها وأرضاها رزق الله نبينا منها الولد كما قال عليه الصلاة والسلام، ورزق الله جلّ وعلا نبينا حبها، وكان عليه الصلاة والسلام يحبها حبًّا جمًّا، تقول عائشة "ما غرت من أحدٍ من النساء ما غرت على خديجة".
    وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يذبح الشاة ثم يبعث بها إلى من له علاقة أو قرابة أو معرفة بخديجة رضي الله تعالى عنها وأرضاها، وقد ورد أن عائشة قالت للنبي عليه الصلاة والسلام "وهل كانت إلا عجوزًا في غابر الأزمان أبدلك الله خيرًا منها" –تقصد نفسها-، قال ( والله ما أبدلني الله خيرًا منها، لقد آمنت بي إذ كفر بيَ الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، وصدقتني إذ كذّبني الناس، ورزقني الله منها الولد ).
    وهي إحدى سيدات نساء العالمين كما صحّت بذلك الأخبار وجاءت بذلك الآثار، وهي –كما يظهر- أعظم أمهات المؤمنين قدرًا، رضي الله تعالى عنها وأرضاها، وقد سبق الكلام عنها تفصيلا فيما سبق.

    ( ثم تزوج: سودة بنت زُمعة بن قيس بن عبد شمس بن عبد وُدِّ بن نصر بن مالك بن حِسْل بن عامر بن لؤي، بعد خديجة بمكة قبل الهجرة، وكانت قبله عند السكران بن عمرو أخي سهيل بن عمرو، وكبرت عنده وأراد طلاقها فوهبت يومها لعائشة فأمسكها )

    هذه ثاني أمهات المؤمنين سودة بنت زُمعة، وقد كانت رضي الله عنها وأرضاها بدينة ثقيلة الحركة، ولذلك رخّص لها النبي صلى الله عليه وسلم أن تنزل في يوم مزدلفة قبل الناس ومن كان في وضعها، أذن لها أن تخرج من مُزدلفة عند مُنتصف الليل كما هو معروفٌ في كتب الفقهاء، وأذن لها أن تأتي منًى قبله، وقلنا إنها كانت امرأة ثبطة، ثم إنها في آخر أيامها خشيت أن يطلقها النبي صلى الله عليه وسلم وأرادت أن تكون زوجته في الجنة فقبلت معه أن تمنح ليلتها لعائشة رضي الله وأرضاها.
    على هذا أصبح أن النبي عليه الصلاة والسلام اجتمع عنده من النساء تسع، وكان يقسم على ثمان لأن سودة تنازلت عن ليلتها لعائشة رضي الله عنها وأرضاها.

    ( وتزوج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: عائشة بنت أبي بكر الصديق بمكة قبل الهجرة بسنتين، وقيل: بثلاث سنين، وهي بنت ست سنين، وقيل: سبع سنين، والأول أصح، وبنى بها بعد الهجرة بالمدينة وهي بنت تسع سنين على رأس سبعة أشهر، وقيل: على رأس ثمانية عشر شهرًا. ومات النبي صلى الله عليه وسلم وهي بنت ثمان عشرة، وتوفيت بالمدينة، ودفنت بالبقيع، أوصت بذلك، سنة ثمان وخمسين، وقيل سنة سبعٍ وخمسين، والأول أصح، وصلى عليها أبو هريرة، ولم يتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بكرًا غيرها، وكُنيتها أم عبد الله، وروى أنها أسقطت من النبي صلى الله عليه وسلم سقطًا، ولم يثبت )

    هذه هي الصديقة بنت الصديق حبيبة حبيب الله صلى الله عليه وسلم، وهي أمنا أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكرٍ، ولها خصائص منها:
    • أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتزوج بكرًا غيرها، هذا ذكره المصنف.
    • أن الوحي لم ينزل عليه عليه الصلاة والسلام في لحاف امرأة غير عائشة.
    وقد شاع عنها حديث الإفك المعروف، وأصله أن النبي عليه الصلاة والسلام انصرف من بني
    المصطلق على غير بعيدٍ عن المدينة لما أناخ الجيش مطاياه –وأنا أقوله بإسراعًا لأنه يتلعق بخبرها رضي الله عنها وأرضاها- خرجت تلتمس عقدًا لها فقدته كانت أمها أم رومان قد أهدته لها، فلما ذهبت تلتمسه مضى الجيش، وكانت امرأة آن ذاك سنها تقريبًا في الرابعة عشر عندما حصلت غزوة بني المصطلق، لأنها حصلت تقريبًا في السنة الخامسة، والنبي صلى الله عليه وسلم تُوفي في العاشرة وقد كان لها ثمانية عشر عامًا، ينجم عن هذا أن عمرها في حادثة الإفك تقريبًا في الرابعة عشر، وكانت امرأة خفيفة اللحم، خفيفة البدن غير مكنزة اللحم، بل إنها كانت قبل أن يتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم نحيلةً جدًا فأشار النبي عليه على أبويها على أبي بكرٍ وعلى أم رومان أن يُطعموها القثاء بالرطب حتى يمتلئ بدنها يسيرًا، ودخل عليها النبي صلى الله عليه
    وسلم بالمدينة في شهر شوال عام تسع.
    والمقصود لما جاء الذين يحملون الهودج حملوه ولم يخطر ببالهم أبدًا أن أم المؤمنين ليست موجودةً فيه، فحملوا الهودج وذهبوا، فلما ذهبوا جاءت رضي الله عنها وأرضاها ولم يكن في ظنها أن يحدث أمور عظام على تأخرها هذا، ظنت أن الجيش سيفقدها على بعد قليل ثم يعود إليها فأناخت تحت شجرة وتقنعت رضي الله عنها وأرضاها، وكان قد تأخر عن الجيش صفوان بن مُعطلة السُلمي فلما جاء صفوان ورآها عرفها، فلما عرفها رزقه الله وألهمه أن يقول "إنا لله وإنا إليه راجعون"، والإنسان إذا ابتلي قبل أن يقع يوطن نفسه على كثرة أن يقول هذه الكلمة "إنا لله وإنا إليه راجعون"، فقال صفوان كأنه علم أن هذا الأمر لن يتم بسهولة ولن يتركه المنافقون يمضي فقال "إنا لله وإنا إليه راجعون".
    ثم أناخ بعيره عندها وتنحى فركبت على البعير رضي الله عنها وأرضاها، وقاد صفوان -وهو رجلٌ طاهرٌ- البعير دون أن يكلمها بكلمةٍ واحدة، فلما أشرف على الجيش رآه المنافقون، فقام عبد الله بن أُبي فقال للناس: امرأة نبيكم مع رجلٍ غيره والله ما سلمت منه ولا سلم منها –عياذًا بالله-، فألاك الناس الخبر وهي كل ذلك لا تدري، والله يقول ﴿ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ ﴾ [النـور: 23]، يعني لا يعلمون ما يُدار ويُحاك حولهن، فلما رجعت إلى بيتها رضي الله عنها وأرضاها وجدت تغيُّرًا من النبي صلى الله عليه وسلم رغم وجعها، لكنه لم يخطر ببالها أن يكون هذا الأمر، حتى إن أمها أم رومان لم تكن تعلم. ثم إنها خرجت مع أم مسطح لبعض شأنها تقضي حوائجها -ولم يكن الناس قد اتخذوا الكُنُف آن ذلك- فعثرت أم مسطح، فلما عثرت أم مسطح قالت: تعس مسطح، فسكتت عائشة، ثم عثرت مرة ثانية فقالت: تعس مسطح –تسب ابنها-، فتعجبت عائشة، هي تريد أن تفتح الموضوع معها، فقالت لها: عجبًا لك رجلا شهد بدرًا تسبينه، فذكرت لها القصة، فتعجبت قالت:
    أو خاض الناس في هذا، ورجعت إلى البيت تبكي، ثم استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم أن تُمرض عند أمها أم رومان فوافق عليه الصلاة والسلام.

    فكان أبو بكرٍ رضي الله عنه يجلس على سقف البيت -وهو الصديق الأكبر وأول الناس إسلامًا وخير العباد بعد النبيين والمرسلين رضي الله عنه وأرضاه-، لكن المؤمن مُبتلى، جالسٌ على سطح البيت يقرأ القرآن، وهو يقرأ القرآن يسمع بكاء ابنته تحت، فينزل فيسمع بكاء عائشة رضي الله عنها فلا يملك إلا أن يزرف دمعة ويقول: والله إنه لأمر ما فعلناه لا في جاهلية ولا في إسلام، يعني الزنا والخوض في الفواحش أمرٌ لا نعرفه لا في جاهلية ولا في إسلام، ثم لا يلبث أن يقول إنا لله وإنا إليه راجعون، ويستحيي أن يُكلم النبي صلى الله عليه وسلم في الموضوع، ويصبر على ما يجد.
    حدثت أمور بعد ذلك منها اختصام الأوس والخزرج لما خطب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم، المهم بعد شهرٍ تقريبًا والنبي عليه الصلاة والسلام لا يأتيه وحيٌ حتى يعلم الناس أن النبي لا يأتي بقرآن من عنده، لو كان القرآن من عنده لكان أول ما قال أن يُبرئ زوجته، لكنه سكت لأن الله سكت، شهرًا من الأسى قضاه عليه الصلاة والسلام والناس يخوضون في عرض أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها. ثم لما بعد شهرٍ دخل عليها صلى الله عليه وسلم في بيت أبويها وأم رومان وأبو بكرٍ عندها وهي تبكي، فقال لها ( يا عائشة إن كنت قد ألممت بذنبٍ فاستغفري الله )، وأخذ
    يعرض عليها الأمر، فقالت رضي الله عنها وأرضاها: والله إن قلت أنني بريئة لن تصدقوني ولكن أقول كما قال العبد الصالح –نسيت اسم يعقوب على شهرته- ﴿ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴿18﴾ ﴾ [يوسف: 18]، ثم إن النبي عليه الصلاة والسلام نزل عليه الوحي، فإذا نزل عليه الوحي تصبب منه العرق كأنه في يومٍ صائف رغم أنه في يوم شاتٍ، ثم قال لها بعد أن نزل عليه الوحي ﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ﴾ [النور: 11] إلى آخر الآيات في سورة النور المتعلقة بالحدث، قال رسول الله ( يا عائشة أبشري فقد برأك الله )، فقالت لها أمها: قومي إلى رسول الله فاحمديه، فرفضت أن تقوم تدللا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإظهارًا لمكانتها، وقالت: لا أحمد إلا الله، فنجاها الله جلّ وعلا من حادثة الإفك، وبرأها الله تبارك وتعالى من فوق سبع سماوات.
    وبرأ صفوان بن المعطل وقال جلّ وعلا فيما قاله ﴿ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ ﴾ [النور: 26]، ولم يقل جلّ وعلا -وهو أعلم- أولئك مبرءون مما قالوا، قالها في صيغة المضارع ولم يقلها في صيغة الماضي مما يدل على أنه سيبقى في الناس –والعياذ بالله- من يخوض في عرض هذه الطاهرة التي برأها الله جلّ وعلا من فوق سبع سماوات وهو ما هو حاصلٌ من بعض الفرق.
    الذي يعنينا براءة أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها، وقد مات النبي صلى الله عليه وسلم وهو مُسنِدٌ رأسه الشريف إلى صدرها ونحرها رضي الله عنها وأرضاها، وجمع الله بين ريقه وريقها أنها أعطته المسواك قبل أن يموت صلوات الله وسلامه عليه ومات في بيتها ودُفن في حجرتها رضي الله عنها وأرضاها وعن جميع أمهات المؤمنين.

    ( وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم: حفصة بنت عمر بن الخطاب – رضي الله عنهما – وكانت قبله عند خُنَيس بن حذافة، وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، توفي بالمدينة، وقد شهد بدرًا. ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم طلقها، فأتاه جبريل – عليه السلام - فقال: ( إن الله يأمرك أن تراجع حفصة فإنها صوامة قوامة، وإنها زوجتك في الجنة ).

    وروى عقبة بن عامر الجُهني قال: طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة بنت عمر،
    فبلغ ذلك عمر، فحثا على رأسه التراب، وقال: ما يعبأ الله بعمر وابنتِه بعد هذا، فنزل جبريل من الغد على النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ( إن الله – عز وجل – يأمرك أن تراجع حفصة رحمة لِعمر )، توفيت سنة سبع وعشرين. وقيل: سنة ثمان وعشرين عام أفريقية )

    عام أفريقية يعني عام فتح أفريقية، أما حفصة فهي بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما أن عائشة بنت الصديق، فعائشة وحفصة يتفقان في أنهما ابنتا وزيري رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحفصة رضي الله عنها وأرضاها تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاة زوجها، وكان أبوها عمر قد عرضها على عثمان فأخبره أنه لا حاجة له في النساء، ثم عرضها على أبي بكرٍ فسكت، فوجد عمر في نفسه شيئًا على أبي بكر، فلما خطب النبي عليه الصلاة والسلام حفصة أفصح أبو بكرٍ عن السبب الذي جعله يمتنع على أن يقبل حفصة عندما عرضها عليه عمر، وقال "النبي صلى الله عليه وسلم يذكرها".

    ( وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم: أم حبيبة بنت أبي سفيان، واسمها: رَمْلَةُ بنت صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، هاجرت مع زوجها عبيد الله بن جحش إلى أرض الحبشة، فتنصر بالحبشة، وأتم الله لها الإسلام، وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بأرض الحبشة، وأصدقها عنه النجاشي بأربعمائة دينار، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري فيها إلى أرض الحبشة، وولي نكاحها عثمان بن عفان، وقيل: خالد بن سعيد بن العاصي. توفيت سنة أربع وأربعين )

    هذه أم حبيبة بنت أبي سفيان، كما كانت عائشة وحفصة بنت وزيريه فإن أم حبيبة عندما تزوجها على أنها بنت من؟ بنت عدوه أبا سفيان قبل أن يسلم أبو سفيان، ولا أريد أن أدخل في أم حبيبة أكثر مما أدخل في القضية التي دائمًا نؤكد عليها قضية القلوب وتغيرها، فزوجها عُبيد الله بن جحش خرج من مكة مُسلمًا إلى الحبشة فارًا بدينه، وهناك في الحبشة تنصر ومات على الكفر، فالقلوب بيد الرحمن جلّ وعلا.
    لكنني سأذكر سببًا واحدًا مهمًّا من أسباب سوء الخاتمة، من أسباب سوء الخاتمة الخوض في أعراض الناس، أعظم أسباب سوء الخاتمة الخوض في أعراض الناس، كان أحد الصالحين –وأحيانًا أترك الأسماء عمدًا- محبوبًا من طلابه، وهذه ذكرها الذهبي في الأعلام، وذكرها ابن خلان –إن لم أنسَ- في وفيات الأعيان، والشاهد فكان رجلٌ يحسده على هذه المنزلة من طلابه، فكان إذا جاء الشيخ يحدث يقوم هذا ويُشغب عليه في الحلقة، فقام ذات يومٍ والناس مُستمعون للشيخ فقام، وهذا الذي قام حافظٌ للقرآن حسن الصوت به، فلما أغضب الشيخ قال الشيخ: اجلس فوالله إني لأخشى أن تموت على غير ملة الإسلام , ثم قدر لهذا الرجل الذي شغب على الشيخ أن يزور بغداد رجلٌ من النصارى من السفراء من القسطنطينية من سفراء الروم، فلما أراد الرجوع أحب هذا الذي يحفظ القرآن وندي الصوت به أن يرى بلاد الروم فذهب معه إلى القسطنطينية، فلما ذهب معه إلى القسطنطينية أعجبه عالمهم وترك الإسلام وبقي على النصرانية، ثم إن أحد تجار المسلمين دخل القسطنطينية فرآه وعرفه وكان يعرف جمال صوته بالقرآن، فرآه وهو على باب إحدى الكنائس يهش الذباب عن نفسه، فقال له: يا هذا ما فعل الله بك؟، قال: أنا كما ترى، قال: إنني كنت أراك حافظًا للقرآن فما بقي في صدرك منه؟، قال ما بقي منه ولا آية إلا آيةً واحدة ثم مات –والعياذ بالله- على الكفر، فصدقت عليه مقولة الشيخ لما كان يراه في الحلقة يُشغب عليه أنه قال له: إني لأخشى أن تموت على غير ملة الإسلام.

    والإنسان إذا سلم قلبه من الحقد على الناس وسلم لسانه من الخوض في أعراضهم كان أدعى إلى أن يُوفق إلى حسن الخاتمة، وقد كان عندنا في المدينة -مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم- رجلٌ يمني، وهذا من دلائل حسن الخاتمة، وقد ذكرت هذا في بعض المحاضرات، كان رجلٌ يمني ليس له علاقة بالناس، يدخل إذا جاء وقت الصلوات ويخرج وليس له أي ارتباط بالناس، وكان لا يقرأ ولا يكتب، فكان إذا دخل المسجد يأتي لأي إنسان ليس عنده شيء –يعني خالٍ- فيأخذ مصحفًا ويُعطيه للرجل الخالي ويقول: اقرأ عليَّ من كلام ربي ويستمع، والناس يعرفونه خاصةً من يُكثر الصلاة في الحرم , فيأتي على هذه الطريقة سنين، حتى كان عام 1418هـ دخل الحرم فرأى رجلا خاليًا فأخذ مصحفًا كالعادة وأعطاه للرجل هذا وقال اقرأ عليَّ من كلام الله، فلما قال له اقرأ عليَّ من كلام الله مرَّ بآية سجدة، لما مرَّ بآية سجدة سجد الاثنان القارئ والأخ اليمني، فانتهى القارئ من التسبيح ورفع رأسه وبقي الأخ اليمني ساجدًا وقبضه الله جلّ وعلا وهو ساجدًا، فمات في حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم في هيأة ليس بعدها ولا أشرف منها هيأة وهي هيأة السجود لرب العالمين.
    نحن نتكلم عن الظاهر، أما سريرته فأمرها إلى الله، لا نحكم لأحدٍ بجنةٍ ولا نار، لكن أقول هذا عُبيد الله بن جحش يأخذ زوجته ويفر من مكة إلى الحبشة بدينه ثم يتنصر، ثق تمامًا أنه لا يهلك على الله إلا هالك، دواخل القلوب هي من أعظم أسباب سوء الخاتمة، لكن الله جلّ وعلا أكرم وأرحم أن يكون أحدٌ صادق معه ثم إن الله جلّ وعلا يقدر ويُميته ميتة السوء، لكن من صدقت سريرته تصدق خاتمته، ومن صدق إلى الله فراره صدق مع الله قراره، أعيد، من صدق إلى الله فراره صدق مع الله قراره، من صدق إلى الله فراره -أي صادق في أوبته إلى الله- صدق مع الله قراره، أي يبقى مع ربه جلّ وعلا، المقصود بيبقى مع ربه يعني في إيمانه بربه تبارك وتعالى.
    فلما مات زوجها وتنصر –أي أم حبيبة- أكرمها النبي صلى الله عليه وسلم بأن طلبها وخطبها وتزوجها عليه الصلاة والسلام وسيقت له من الحبشة.

    ( وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم: أم سلمة، واسمها هند بنت أبي أمية بن المغيرة ابن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب، وكانت قبله عند أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، توفيت سنة اثنتين وستين، ودفنت بالبقيع بالمدينة، وهي آخر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وفاة، وقيل: إن ميمونة آخرهن )

    هذه أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها، لما مات زوجها استرجعت، قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي واعوضني خيرًا منها، وكانت تقول في نفسها من يخلفني في أبي سلمة، فلما مات خطبها النبي صلى الله عليه وسلم فاعتذرت بثلاث حجج، اعتذرت بأنها مُصبِية -أي لديها صبيان كثيرون-، وأنها غيرة –أي شديدة الغيرة-، وأنها ليس لها عائلٌ يزوجها، فأما التزويج فاختلف في من زوجها وقيل عمر بن الخطاب، وأما كونها مُصبية فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( هم إلى الله وإلى رسوله )، وأما أنها غيره فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال ( أنا أسأل الله أن يذهب غيرتك )، فتزوجها عليه الصلاة والسلام , وابنها عمرو بن سلمة الذي طاشت يده بالصفحة وقال عليه الصلاة والسلام له ( يا غلام سم الله كل بيمينك وقل مما يليك ) ابن أم سلمة، وعمر هذا ربيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني من تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم من أبنائها عمر فكان يأكل النبي عليه الصلاة والسلام فطاشت يده في الصفحة، وأنت تسمع هذا الحديث بكثرة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال ( يا غلام سم الله كل بيمينك وقل مما يليك )، هذا قاله لربيبه عمر بن أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها.

    ( وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم: زينب بنت جحش بن رئاب بن يَعْمر بن صبرة بن مرة بن كبير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن مَعَد بن عدنان، وهي بنت عمته أميمة بنت عبد المطلب، وكانت قبله عند مولاه زيد بن حارثة، فطلقها، فزوجها الله إياه من السماء، ولم يعقد عليها، وصح أنها كانت تقول لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم: " زوجكن آباؤكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات ". توفيت بالمدينة سنة عشرين، ودفنت بالبقيع )

    هذه زينب بنت جحش التي قالت مُفتخرةً "زوجكن أهليكن وزوجني الله جلّ وعلا من فوق سبع سماوات"، هذه باختصار زينب، النبي عليه الصلاة والسلام كان قبل البعثة تبنّى زيد بن حارثة، فكان يُسمّى عند الناس زيد بن محمد، فلما قال الله جلّ وعلا ﴿ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ ﴾ [الأحـزاب: 40]، وقال ﴿ ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ ﴾ [الأحـزاب: 5] أصبح يُدعى زيد بن حارثة باسمه الحقيقي.
    زيدٌ هذا تزوج زينب بنت جحش ابنة عم النبي صلى الله عليه وسلم، فلما تزوجها كانت ترى في نفسها أنها أعلى منه لأنه هو مولى وهي قرشية، فأخبر الله نبيه أن زينب هذه التي هي الآن تحت زيد ستصبح زوجةً لك، أعيد لأن هذه آية شغب حولها المُستشرقون كثيرًا، الله جلّ وعلا أخبر نبيه وزينب تحت زيدٍ أنها ستكون زوجته، فجاء زيدٌ يشتكي زوجته زينب إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال له عليه الصلاة والسلام ( اتق الله وأمسك عليك زوجك )، فقال الله جلّ وعلا في كتابه ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ﴿36﴾ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا
    مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ﴿37﴾ ﴾ [الأحـزاب: 36، 37]. من القائل؟ النبي صلى الله عليه وسلم، من الذي أنعم الله عليه وأنعم عليه الرسول؟ زيد، ﴿ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ ﴾ ما الذي أخفاه في نفسه صلى الله عليه وسلم؟ أنها ستكون زوجتك، ﴿ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ ﴾ ما معنى ﴿ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ ﴾؟ الذي سيظهره الله وسيقع وسيكون وهو زواجك من زينت، ﴿ وَتَخْشَى النَّاسَ ﴾ تخشى الناس في ماذا؟ تخشى الناس أن يقولوا تزوج محمدٌ ابنة
    ابنه، ابنة ابنه على ما كانوا يعتقدونه في الجاهلية. ﴿ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ ﴾ وليس في القرآن ذكرٌ لأحدٍ من الصحابة إلا زيد، وليس في القضية فضلٌ في ذاته، وإنما القضية قضية حادثة عين، فلابد أن يُذكر باسمه حتى ينجلي ما في القلوب، وإلا أبو بكرٍ وعمر وغيرهما ممن هو أفضل من زيد على فضل زيدٍِ لم يُذكر اسمهم صراحة في القرآن، لم يُذكر في القرآن إلا النبيون وثلاث أو أربعة اختلف فيهم كلقمان وعيسى بن مريم لحادثة عينٌ به هو، والنساء لم يُذكر في القرآن إلا مريم ابنة عمران لشرفها وفضلها، والمقصود هذا معنى قول الله جلّ وعلا ﴿ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ﴿37﴾ ﴾. هذا ما يتعلق بزينب بنت جحش رضي الله عنها وأرضاها.

    ( وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم: زينب بنت خزيمة بن الحارث بن عبد الله بن عمرو بن عبد مناف بن هلال بن عامر بن صعصعة بن معاوية، وكانت تسمى "أم المساكين"؛ لكثرة إطعامها المساكين، وكانت تحت عبد الله بن جحش، وقيل: عبد الطفيل بن الحارث، والأول أصح. وتزوجها سنة ثلاث من الهجرة، ولم تلبث عنده إلا يسيرًا: شهرين أو ثلاثة )

    لم تلبث زينب بنت خزيمة بن الحارث عند النبي صلى الله عليه وسلم إلا شهرين، وورد في بعض الروايات أنها لبثت عنده ثمانية أشهر، وكونها لم تلبث مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا هذه المدة اليسيرة لذلك المصادرالتاريخية شحيحة بالكثير من أخبارها، لكن أنت كطالب علم تضمها مع من الآن؟ تضمها مع خديجة لأنها هي وخديجة فقط اللتان ماتتا في عصمته صلى الله عليه وسلم أو في حياته صلى الله عليه وسلم، أما باقي أمهات المؤمنين كلهم ماتوا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، أما زينب هذه وخديجة ماتتا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم.

    ( وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم: جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار بن حبيب ابن عائذ بن مالك بن المصطلق الخزاعية، سُبِيت في غزوة بني المصطلق، فوقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس، فكاتبها فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابتها، وتزوجها في ست من الهجرة، وتوفيت في ربيع الأول سنة ست وخمسين ).

    هذه جويرية بنت الحارث الخزاعية، سُبيت في بني المصطلق وكان أبوها زعيمًا، فدخلت على النبي صلى الله عليه وسلم تريد أن تدفع ثمن لتخرج من الأسر، جمعت يسيرًا بقي عليها، ودخلت على النبي عليه الصلاة والسلام تطلب منه زيادة مال، فلما رآها جعلها الله جلّ وعلا يطلبها على أنه يساعدها ويتزوجها فوافقت رضي الله عنها وأرضاها، فتزوجها، فلما علم الصحابة أن النبي عليه الصلاة والسلام تزوجها تركوا من بأيديهم من الأسرى من بني المصطلق، فكانت امرأة عظيمة البركة على قومها، ثم جاء أبوها الحارث إلى النبي عليه الصلاة والسلام يطلبها فخيرها النبي عليه الصلاة والسلام ما بين البقاء معه أو بين أن تذهب مع أبيها فاختارت البقاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أسلم الحارث بعد ذلك وجعله النبي عليه الصلاة والسلام على صدقات قومه. وبهذا نكتفي، وصلى اللهم على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.

    تعليق


    • #32
      الأيام النظرة في شرح السيرة العطرة ( 6 )


      الأيام النظرة في شرح السيرة العطرة ( 6 )
      الشيخ صالح بن عواد المغامسي

      تـابع ذكـر أزواجه - خدمـه - أفراسـه صلى الله عليه و سلم :

      الدرس السادس :
      إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضل له، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مُرشدًا.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آهل وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه
      بإحسانٍ إلى يوم الدين. أما بعد .
      فهذا هو الدرس السادس من تعليقنا على الدرة المضيئة للسيرة النبوية للإمام المقدسي رحمه الله تعالى، وكنا قد انتهينا في ذكر أزواجه صلوات الله وسلامه عليه، وتكلمنا عن أكثرهن، ولم يبق لنا إلا الحديث عن زوجتين من أزواجه رضي الله تعالى عنهن وأرضاهن.
      وكما جرت العادة استدراكًا لما كان بالأسبوع الماضي نراجع بعضًا مما ذكرناه , أن الله أبطل عادة منع الزواج بالتبني في زواجه صلى الله عليه وسلم من زينت بنت جحش، وقلنا إن زيدًا رضي الله تعالى عنه وأرضاه كان زوجًا لها، وأنها كانت تفخر عليه بأنها من قريش، ثم إنه جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام يشتكي إليه زينب، فأنزل الله جلّ وعلا قوله في سورة الأحزاب ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ﴿36﴾ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ ﴾ من المخاطب هنا؟ زيدٌ ﴿ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ ﴾ هذا قول النبي الله عليه وسلم ﴿ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ ﴾ ما الذي أخفاه النبي صلى الله عليه وسلم والذي هو سيُبديه الله؟ زواجه من زينب، أي أن الله أوحى إلى نبيه أن زينب ستكون زوجةً له ﴿ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ﴾ ما الذي خشيه صلى الله عليه وسلم من الناس؟ أن يقول الناس تزوج محمدٌ صلى الله عليه وسلم زوجة ابنه بالتبني [الأحزاب: 36، 37].
      كما أننا ذكرنا أن من أزواجه صلى الله عليه وسلم أم حبيبة، وأنها كانت تحت عبيد الله بن جحش، وقلنا إنه فر بها من مكة إلى الحبشة فرارًا بدينه لكن وقع أنه تنصر، وقلنا هذا من أعظم أن يحرص الإنسان على الأعمال التي تجعل الإنسان يظفر بحسن الخاتمة، هذا بعضٌ مما ذكرناه .
      أما اليوم فإنا سنشرع إن شاء الله تعالى في قراءة المتن والتعليق عليه كما جرت العادة.

      ( وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم: صفية بنت حيي بن أخطب بن أبي يحيى ابن كعب بن الخزرج النضرية، من ولد هارون بن عمران – أخي موسى بن عمران عليهما السلام – سُبيت في خيبر سنة سبع من الهجرة، وكانت قبله تحت كنانة ابن أبي الحقيق، قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعتق صفية، وجعل عتقها صداقها، وتوفيت سنة ثلاثين. وقيل سنة خمسين )

      هذه صفية بنت حيي بن أخطب زوجة نبينا صلى الله عليه وسلم أم المؤمنين، حيي ابن أخطب أحد زعماء يهود، ولما قدم النبي عليه الصلاة والسلام المدينة رآه حُيَيٌّ فعرف أنه نبيٌّ، واليهود كانت تعرف النبي صلى الله عليه وسلم؛ لما قرأت عنه في التوراة، وهي حدثت بعد ذلك –أي صفية– أن أباها وعمّها التقيا بعد أن رأيا النبي عليه الصلاة والسلام،فقال عمُّها لأبيها: أهو هو؟ –يسأل–، قال: نعم أعرفه بوجهه –أو بنعته–، قال: فما في صدرك له؟، قال: عداوته ما بقيت، وهذا مصداق قول الله جلّ وعلا: ﴿ فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ﴾ [البقرة: 89]،
      وقال تبارك وتعالى ﴿ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ﴾ [البقرة: 146، الأنعام: 20]، أي أن أهل الكتاب يعرفون النبي عليه الصلاة والسلام لا يُخطئون في وصفه كما يعرف الرجل منهم ابنه، والرجل عادةً لا يُخطئ في معرفة ابنه. ثم إنه ذهب إلى خيبر في الإجلاء الأول وهو من بني النضير، فلما ذهب إلى خيبر وقعت معركة خيبر كانت تحت كنانة بن أبي الحقيق، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها بعد أن كانت في سبيه، فأصبحت أمةً له، فأعتقها وجعل عتقها صداقًا لها .

      واختلف العلماء رحمهم الله – من باب الفائدة الفقهية – هل يكون العتق صداقًا أو لا؟
      منهم من قال: إن هذا خصيصة للنبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم من قال: إنه غير ذلك، والذي يعنينا في شرح السيرة هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أعتقها، وجعل عتقها صداقها سواءٌ كان هذا خاصًا به أو كان شاملا لأمته.وقد كانت جميلةً رضي الله عنها وأرضاها، وهي من ولد هارون بن عمران أخي موسى ـ على موسى وعلى هارون السلام ـ ، وقد أغضبتها بعض أمهات المؤمنين – وقد مر معنا هذا في الدرس الأول– فجاءت للنبي عليه الصلاة والسلام تبكي فقال لها عليه الصلاة والسلام ( بم تفخر عليك، فإنك ابنة نبي، وعمك نبي ) يقصد موسى ( وإنك لتحت نبي ) يقصد نفسه عليه الصلاة والسلام.ولما تزوجها عليه الصلاة والسلام في منصرفه من خيبر أراد أن يدخل عليها على مقربة من خيبر فامتنعت وأبت، ثم لما تقدم قليلا نحو المدينة قبلت ودخل عليها صلى الله عليه وسلم، فسألها عن المانع الأول فقالت: "خشيت عليك من اليهود"، مما يدل على أنه وقر في قلبها محبة الدين ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد خشي أبو أيوب الأنصاري على نبينا عليه الصلاة والسلام يوم أن دخل عليها فبات يحرصه خوفًا أن يكون بها شيءٌ من غدر يهود وهو لا يعلمها، ثم تبين مدى حبها لنبينا صلى الله عليه وسلم وحسن إسلامها، وبقيت كذلك حتى توفاها الله جلّ وعلا، فهي زوجة نبينا في الدنيا والآخرة رضي الله عنها وأرضاها.
      ( وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم: ميمونة بنت الحارث بن حزن بن بجير ابن الهرم بن رويبة بن عبد الله بن هلال بن عامر بن صعصعة بن معاوية، وهي خالة خالد بن الوليد، وعبدالله بن عباس، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسرف، وبنى بها فيه، وماتت به، وهو ماء على تسعة أميال من مكة، وهي آخر من تزوج من أمهات المؤمنين، توفيت سنة ثلاث وستين.فهذه جملة من دخل بهن من النساء، وهن إحدى عشرة، وعقد على سبع ولم يدخل بهن ).
      هذه ميمونة بنت الحارث الهلالية أخت أم الفضل زوجة العباس بن عبد المطلب، فالعباس رضي الله عنه وأرضاه عم النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرف منها الصلاة والصيام والقيام؛ فأشار على النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوجها، وهي أخت زوجته، أخت أم الفضل، فتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم في مُنصرفه من عمرة القضاء في وادٍ يُقال له سَرف على وزن كَتف، وهو وادٍ في مكة، في طريق المدينة
      الخارج من مكة إلى المدينة بعد النوارية بقليل يأتي وادي سرف، وهو الآن معمور به بقالات ومحطات تأتي على يمنك وشمالك، هذا الوادي هو وادي سرف الذي تزوج فيه النبي صلى الله عليه وسلم أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث.
      وكان من فائدة زواجه بها بالنسبة للأمة أن عبد الله بن عبّاس رضي الله تعالى عنهما تُصبح هذه المرأة خالته فكان يبيت عندها، فإذا بات عندها يرى قيام النبي صلى الله عليه وسلم، فنقل عبد الله بن عبّاس كثيرًا من أخبار النبي عليه الصلاة والسلام لكونه يستطيع أن يدخل على خالته ميمونة بنت الحارث رضي الله تعالى عنها وأرضاها.
      وقد ذكر المصنف أنها آخر أمهات المؤمنين موتًا –هذا على قول–، والقول الثاني أن آخر أمهات المؤمنين موتًا هي أم سلمة، إذًَا هناك خلاف في آخر أمهات المؤمنين موتًا هل هي ميمونة أو هي أم سلمة رضي الله تعالى عنهن وأرضاهن، هذا علمٌ تاريخي لا يتعلق به حكم، كما أنهم اتفقوا على أن زينب بنت جحش هي أول نساء النبي صلى الله عليه وسلم موتًا بعده، ماتت بعد عشرين سنة من وفاته صلى الله عليه وسلم، فهي أول نسائه لحوقًا به عليه الصلاة والسلام.
      يتحرر من هذا كله أمهات المؤمنين، وقد ذكر المصنف في آخر المقال أن النبي صلى الله عليه وسلم عقد على سبعٍ ولم يدخل بهن، وهذا بعيدٌ بعض الشيء، والأشهر أنه على خمس أو أربع ولم يدخل بهن، منهن من استعاذت به[1]، ومنهن من وجد في كشحها بياضًا، وأخريات لم تثبتهن كتب المصادر إثباتًا جيدًا، لكن الذي يعنينا أن النبي صلى الله عليه وسلم مات عن تسعٍ من النساء، وكان يقسم –كما قلنا بالأمس– لثمان، لماذا؟ قلنا أن سودة وهبت ليلتها لعائشة رضي الله تعالى عنهن جميعًا وأرضاهن.
      في عصرنا الحديث ما شغّب المُستشرقون والطاعنون بالسنة في شيء كما شغّبوا في قضية أن النبي صلى الله عليه وسلم كيف يتزوج هذا العدد من النساء؟
      وهذا مما يطول شرحه لكن نقوله على وجه الإجمال، لو كان النبي عليه الصلاة والسلام يريد ما يفهمه الناس من زواجه من النساء لكان إلى الأبكار أقرب منه إلى الثيب، ومع ذلك لم يتزوج بكرًا إلا عائشة، ولم يُثني –يتزوج الثانية– إلا وقد جاوز الخمسين صلوات الله وسلامه عليه، وعاش قرابة ثلاثين عامًا مع زوجته خديجة وهي أكبر منه سنُّا ولم يتزوج عليها صلوات الله وسلامه عليه، وإنما تزوج لأمورٍ متعددة وأغراضٍ، منها ما يكون إبطالا لحكم جاهلي كزواجه من زينت، ومنها ما يكون نصرةً للدين، فإن العرب في عادتها وأعرافها السابقة كانت ترى أن الصهر يقرب بين بطون القبائل، فكان صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة له خصوم وأعداءٌ في القبائل فكان يتزوج حتى يكسر ثورة غضب واجتماع القبائل عليه حتى يكون له عندهن رحمًا وصهرا فيكون هناك نوع من الحمية بالنسبة لهن أن بناتهن تحت نبينا صلوات الله وسلامه عليه.
      ثم إننا نقول إن هؤلاء الأمهات رضي الله تعالى عنهن وأرضاهن صبرن على شظف العيش، فليس في الزواج منه صلى الله عليه وسلم متاعٌ دُنيويٌّ ظاهرٌ، وإنما المكسب العظيم في أنهن زوجاته في الآخرة، ولذلك كان بيت النبي عليه الصلاة والسلام لو رفعت يدك للمست سقفه، ولو اتكأت على أحد حائطه ومددت قدمك للمست الحائط الآخر من ضيق حجرات أمهات المؤمنين رضي الله تعالى عنهن وأرضاهن.
      ثم إنهن كما قال الله تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ﴿28﴾ وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآَخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 28، 29]، فالنبي عليه الصلاة والسلام خيّر نساءه ما بين البقاء معه والصبر على شظف العيش في الدنيا؛ لأن الله خيره هو نفسه من أن يكون ملكًا نبيًّا أو عبدًا نبيًّا فاختار العبودية، ولم يختر الملك كما اختارها داود واختارها سليمان عليهما السلام، فبقي صلى الله عليه وسلم عبدًا يشبع ويجوع، ويمرض ويصح، وتجري عليه أحكامٌ عديدة عليه الصلاة والسلام حتى أنه كان يظهر الهلال ثلاث مرات في الشهرين الهلال ثم الهلال ثم الهلال ولا يُوقد في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم شيءٌ، فهو أكرم الخلق على الله، فلما سُئلت عائشة عن ذلك –عن طعامهم– قالت "الأسودان، التمر والماء".
      فلم يكن مما قاله المستشرقون شيء، وإنما صبرن أولئك الأمهات وقدمن نماذج إنسانية فريدة، ومنهن من اشتهرت بالصلاة والصيام، ومنهن من اشتهرت بحب المساكين، ومنهن من اشتهرت بالعلم، تنوع عطاؤهن حتى يستفيد المجتمع من قربهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم وتنزل الوحي،
      ولذلك قال حسان يذكر حجرات أمهات المؤمنين ونزول الوحي عليها:

      بها حجرات كان ينزل وسطه *** من الله نور يستضاء ويوقد
      فخرجن أمهات المؤمنين يُحدثن بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيوتهن، هذا ما يمكن التعليق عليه إجمالا، ونحن كما قلت من قبل مُقيدون بالمتن حول زواجه صلى الله عليه وسلم عليه وسلم من أمهات المؤمنين.

      ذكر خدمه صلى الله عليه وسلم :

      (أنس بن مالك بن النضر الأنصاري.وهندٌ وأسماءٌ ابنا حارثة الأسلميان. وربيعة بن كعب الأسلمي.
      وكان عبد الله بن مسعود صاحب نعليه،، كان إذا قام ألبسه إياهما، وإذا جلس جعلهما في ذراعيه حتى يقوم. وكان عقبة بن عامر الجهني صاحب بغلته، يقودها في الأسفار.وبلال بن رباح؛ المؤذن. وسعد، مولى أبي بكر الصديق.وذو مِخمر ابن أخي النجاشي، ويقال: ابن أخته. ويقال: ذو مخبر بالباء.وبكير بن شداخ الليثي، ويقال: بكر. وأبو ذر الغفاري ).

      هؤلاء هم خدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا ريب أنهم قد أصابهم من الشرف ما لا يعلم قدره إلا الله، فإن الله سخرهم رضي الله عنهم وأرضاهم ليكونوا خدمٌ لسيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه، وقد علموا أيَّ شرفٍ يكتسبوه، فلذلك كانوا يفتخرون رضي الله عنهم بأنهم كانوا يخدمون النبي صلى الله عليه وسلم، فخدمته عليه الصلاة والسلام شرفٌ عظيم، وهؤلاء يتفاوت المهام التي أوكلها النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، والعاقل إذا تبوأ مكانةً يختلف اصطفاؤه للرجال من واحدٍ إلى آخر، فليس كل الناس يصلح لمهمةٍ واحدة، فقد يُحسن الرجل مهمة ولا يحسن أخرى، ولذلك تفاوتت مهام خدم رسول الله صلى الله عليه وسلم.فأما أنس فهو الذي جاءت به أمه وجعلته وهو صغير ووهبته للنبي صلى الله عليه وسلم أن يكون خادمًا له، وقد دعا له النبي عليه الصلاة والسلام بكثرة المال والولد فتحققت دعوته عليه الصلاة والسلام لأنس، ولما جاءت خلافة عبد الملك بن مروان وصلت الحجاج بن يوسف على مكة والمدينة آذى الحجاج بن يوسف أنسًا، فكتب أنسٌ رضي الله عنه إلى عبد الملك –وكان يومئذٍ أميرًا للمؤمنين– يشكو تسلط الحجاج بن يوسف عليه، وكان فيما كتبه أنس قال "لو أن رجلا من بني إسرائيل خدم موسى يومًا لعظمته بني إسرائيل، فكيف وقد خدمتُ نبينا صلى الله عليه وسلم عشر سنين"، فبعث عبد الملك إلى الحجاج يأمره أن يكف يده عن أنس.هذا أنسٌ رضي الله تعالى عنه، وقد كان أنس من مهامه يذهب في الحوائج اليومية، يغدو ويروح في الحوائج اليسيرة، وقد نقل لنا أنسٌ ما كان عليه الصلاة والسلام من خلق فقال "خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين فلم يقل لشيءٍ لم أفعله لِمَ لَمْ تفعله، ولا لشيءٍ فعلته لم فعلته"، وهذا من جميل خلقه وكريم أدبه، وحسن معاملته صلى الله عليه وسلم من الأهل والخدم والموالي وسائر الناس.
      وممن خدمه عليه الصلاة والسلام عقبة بن عامر، وهذا كان يقود له البغلة، وهو الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم في أحد أسفاره لما هبت ريح أمره أن يتعوذ بالمعوذتين ﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ﴾ و﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ﴾ وقال ( ما تعوّذ مُتعوِّذٌ بمثلهما ).
      ومنهم بلال وهو مؤذنه، وهذا مشهور.ومنهم ربيعة بن كعب الأسلمي وكان من مهامه أنه يضع الوَضوء للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان يفعل هذا تطوعًا، فأحب النبي صلى الله عليه وسلم أن يُكافئه فقال ( يا ربيعة سلني حاجتك ) ، قال: يا رسول الله أسألك مرافقتك في الجنة، ولقد وجد ربيعة من الشرف والحَظْوَة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم والفخر بخدمته له في الدنيا ما جعله يتطلع لأن يكون رفيقه في الجنة، فقال له صلى الله عليه وسلم ( فأعني على نفسك بكثرة السجود )، فدل على أن كثرة الصلوات مما تجعل العبد قريبًا من جوار نبينا عليه الصلاة والسلام.
      ومن خدمه عليه الصلاة والسلام بُكير بن شدّاخ الليثي، وكان صغيرًا، وقد نقل الحافظ ابن كثيرٍ رحمه الله تعالى عنه قصةً مفادها أن بكيرًا هذا كان يبعثه النبي عليه الصلاة والسلام إلى بيوت أمهات المؤمنين، فلما بلغ واحتلم جاء للنبي عليه الصلاة والسلام وقال: يا رسول الله إنني بلغت مبلغ الرجال فلا تبعث بي إلى
      نسائك، فتعجب النبي صلى الله عليه وسلم من صدقه، وقال له ( اللهم صدّق قوله وبلغه الظفر )، فكانت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم مُتحققة فيه، فلما كانت ولاية عمر بن الخطاب رضي الله عنه وخرج المجاهدون في أصقاع الأرض يحملون لواء الدين، كان ممن خرج أحد الأنصار فترك زوجته، وكأن الأنصاري هذا أوصى بكيرًا بأهل بيته، فكان هناك يهودي يأتي إلى تلك المرأة ويراودها عن نفسها، فقام بكيرٌ فقلته.فلما قتله وُجد هذا اليهودي مُلقًا في أحد أحياء المدينة مدرجًا في دمائه فحُمل، فقام عمر رضي الله عنه وهو أمير المؤمنين على المنبر فخطب خطبةً ثم قال: أنشد الله كل رجلٍ يعرف عن هذا القتيل شيئًا إلا أخبرنا، فقام بكيرٌ والناس يسمعون وقال: أنا قتلته يا أمير المؤمنين، فتعجب عمر من صراحته وجرأته، قال: ما دفعك إلى هذا؟ فأخبره القصة، فتذكر عمر دعوة النبي صلى الله عليه وسلم فتركه ولم يصنع به شيئًا إكرامًا لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأنه جعل دم اليهودي في هذه الحالة أنه مُهدر.والذي يعنينا أن بكيرًا هذا خدم النبي صلى الله عليه وسلم وهو صغير، فهؤلاء جميعًا رضي الله عنهم وأرضاهم شرفوا بخدمة سيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه.

      ذكر مواليه صلى الله عليه وسلم:
      (زيد بن حارثة بن شُراحيل الكلبي، وابنه أسامة بن زيد، وكان يقال لأسامة بن زيد: الحب بن الحب.
      وثوبان بن بجدد؛ وكان له نسب في اليمن.وأبو كبشة من مُولدي مكة. يقال: اسمه سُليم، شهد بدرًا، ويقال: كان من مُولدي أرض دوس.وأنسةُ مُولدي السراة.وصالح، شقران. ورباح، أسود. ويسارٌ، نوبي.وأبو رافع، واسمه أسلم. وقيل: إبراهيم، وكان عبدًا للعباس، فوهبه للنبي صلى الله عليه وسلم فأعتقه.وأبو مويهبة، من مُولدي مزينة. وفضالة، نزل بالشام.ورافع كان لسعيد بن العاص فورثه ولده، فأعتقه بعضهم، وتمسك بعضهم، فجاء رافع إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستعينه، فوُهب له، وكان يقول: أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم.ومِدعم، أسود، وهبه له رفاعة بن زيد الجذامي، وكان من مولدي حِسمي، قتل بوادي القرى.
      وكركرة، كان على ثقل النبي صلى الله عليه وسلم.وزيد، جد هلال بن يسار بن زيد، وعُبيد.وطهمان، أو كيسان، أو مهران، أو ذكوان، أو مروان.ومأبور القبطي، أهداه المقوقس.وواقد، وأبو واقدٍ، وهشام، وأبو ضميرة، وحنين، وأبو عسيب، واسمه أحمر، وأبو عبيد.وسفينة كان عبدًا لأم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فأعتقته، وشرطت عليه أن يخدم النبي صلى الله عليه وسلم حياته، فقال: لو لم تشترطي علي ما فارقت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
      هؤلاء المشهورون، وقيل: إنهم أربعون.
      ومن الإماء: سلمى أم رافع، وبركة أم أيمن، ورثها من أبيه، وهي أم أسامة بن زيد، وميمونة بنت سعدٍ، وخضرة، ورضوى )

      ذكر المصنف هنا موالي النبي صلى الله عليه وسلم، والمولى في اللغة تُطلق على أربعة أو أكثر –وهذا من الفوائد–:
      • تُطلق على السيد، فتقول للغلام: أين مولاك؟
      • وُتطلق على العبد إذا أُعتق فيُصبح ولاؤه لسيده، فيُقال له: مولى بني فلان، أي أن ولاءه لهم، كان عبدًا عندهم ثم أُعتق، وهذه هي التي أرادها المصنف حينما قال ( ذكر مواليه صلى الله عليه وسلم )
      • وتُطلق على النصير والظهير، ودليلها من القرآن ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا
      مَوْلَى لَهُمْ ﴾ [محمد: 11]، أي أن الله نصيرٌ وظهيرٌ للمؤمنين، والكافرين ليس لهم ظهيرٌ ولا نصيرٌ.
      • وتُطلق على الرب جل جلاله، ودليلها من القرآن ﴿ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ
      أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ﴾ [الأنعام: 62]، فمولاهم هنا بمعنى ربهم، ليست بمعنى نصيرهم لأن الله ليس نصيرًا ولا ظهيرًا للكفار.
      هذه كفائدة لغوية، أما الموالي المقصود بها هنا من كان عبدًا ثم أُعتق، وقد بدأ المصنف بزيد بن حارثة وابنه أسامة، فأما زيدٌ وأسامة فهما حبَّا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أسامة حبًّا جمًّا، وأسامة هو الذي طلبت قريشٌ منه أن يتشفع عند النبي عليه الصلاة والسلام فقال له ( أتشفع يا أسامة في حدٍ من حدود الله )، لعلم المخزوميين من قريش بمكانة أسامة عند النبي عليه الصلاة والسلام.
      وقد كان زيدٌ أبوه أبيضًا، وكان أسامة أسمر اللون، فكان هذا يثير التساؤلات عند الناس، وكان هذا يحدث أسًى في قلبه صلى الله عليه وسلم، أي التساؤلات التي يثيرها الناس من كون أسامة يختلف لونه عن لون أبيه، حتى ناما ذات يومٍ بجوار بعضهما وظهرت أقدامهما دون أن تظهر وجوههما فجاء رجلٌ من بني مدلج له علمٌ بالقفاية والأنساب والأثر، فلما نظر إلى قدمي أسامة وقدمي زيد وهو لا يعرف أن هذا أسامة وهذا زيدٌ ابنه، وإنما نظر إلى الأقدام بعضها سمراء وبعضها بيضاء، قال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض، فتهلل وجهه صلوات الله وسلامه عليه وظهر الفرح عليه ودخل على عائشة تبرق أسارير وجهه وهو يقول ( أما علمت أن فلانا المدلجي نظر إلى أسامة وزيد فقال كذا وكذا )، لأن الإنسان إلى أحب شيئًا أحب ما يتعلق به وأحب ما يفرحه، وإذا أبغض شيئًا –عياذًا بالله– أبغض ما يتعلق به، فكان صلى الله عليه وسلم مُحبًّا لزيدٍ ومُحبًّا لأسامة، فكان يحب أي شيء يدخل الفرح أو يظهر الكرامة أو الفضل لأسامة ولزيدٍ رضي الله تعالى عنهما وأرضاهما.
      فهما موالي النبي عليه الصلاة والسلام، وزيدًا كان عبدًا للنبي عليه الصلاة والسلام أهدته إياه زوجته خديجة ثم أعتقه صلوات الله وسلامه عليه.
      وممن ذكر المصنف رحمة الله عليه من الموالي سفينة، واسمه على الأشهر مهران، وأما سفينة فلقبٌ قيل إن النبي عليه الصلاة والسلام أطلقه عليه كما رواه الإمام أحمد بسندٍ حسن، كان يحمل المتاع فألقى الصحابة رضي الله تعالى عنهم متاعهم في ردائه، فكأن الرداء حمل أكثر من المعهود، فقال النبي عليه الصلاة والسلام ( بل أنت سفينة )، كناية على أنه يحمل شيئًا غزيرًا، فقال سفينة: فلو أنني حُمِّلت حمل بعيرين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة أو ستة أو سبعة لحملتها من قول النبي صلى الله عليه وسلم.

      سفينة وإذعان الأسد له :
      وسفينة هذا أدرك زمن عثمان، وركب البحر فرمت به ألواح البحر، كان مُتكئًا على لوح قارب في البحر فضربتهم الأمواج ورماه البحر إلى أجمة –يعني غابة–، فلما رماه البحر إلى أجمة ضل الطريق فرأى الأسد، فلما أبصر الأسد –والعرب تُسمي الأسد أبا الحارث–، فلما رآه سفينة أخذ ينظر إلى الأسد ويقول: يا أبا الحارث أنا سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطأطأ الأسد رأسه وأقبل على سفينة وحمله على عاتقه وخرج به من الغابة حتى دله على الطريق، ثم رجع قليلا، ثم أقعى على ذنبه، ثم أخذ يهمهم كأنه يودعه،
      فهذا كما قال العلماء وحشٌ كاسرٌ وسبعٌ مُفترس لما علم أن الذي بين يديه مولى لرسول الله صلى الله عليه وسلم تغير طبعه وتغير حاله، فالمؤمنون أولى أن يكونوا أرق قلوبًا وعاطفة مع بعضهم البعض في المقام الأول، لماذا؟ لأن يجمعني ويجمعك شهادة التوحيد ومحبتنا لرسول صلوات الله وسلامه عليه.
      وممن كانوا من موالي النبي صلى الله عليه وسلم كُثر، لكن ذكر المصنف بعضًا منهم، ثم ذكر زيدًا وذكر أسامة وذكر سفينة، وهؤلاء أشهر موالي النبي عليه الصلاة والسلام.
      وذكر من النساء أم أيمن، وهي اسمها بركة، وهي إحدى حواضن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحبها، وهي زوجة زيدٍ رضي الله تعالى عنه وأرضاه.

      ذكر أفراس رسول الله صلى الله عليه وسلم:
      (أول فرس ملكه: السكب، اشتراه من أعرابي من بني فزارة بعشر أواق، وكان اسمه عند الأعرابي الضرس، فسماه السكب، وكان أغر محجلًا طلق اليمين، وهو أول فرس غزا عليه، وكان له سبحة، وهون الذي سابق عليه، فسبق، ففرح به.
      والمرتجز: وهو الذي اشتراه من الأعرابي الذي شهد له خزيمة بن ثابت، والأعرابي من بني مرة.وقال سهل بن سعد الساعدي: " كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم عندي ثلاثة أفراس: لزاز، والضرب، واللحيف. فأما لزاز: فأهداه له المقوقس، وأما اللحيف: فأهداه له ربيعة بن أبي البراء، فأثابه عليه فرائض من نعم بني كلاب، وأما الضرب: فأهداه له فروة بن عمرو الجذامي.وكان له فرس يقال له: الورد، أهداه له تميم الداري، فأعطاه عمر، فحمل عليه، فوجده يباع.وكانت بغلته الدُلدُل، يركبها في الأسفار، وعاشت بعده حتى كبِرت وزالت [أسنانه]، وكان يجش لها الشعير، وماتت بينبع، وحماره [عُفَير] مات في حجة الوداع.
      وكان له عشرون لقحة بالغابة، يراح إليه كل ليلة بقربتين عظيمتين من لبن، وكان فيها لقاح غزار: الحناء، والسمراء، والعريس، والسعدية، والبغوم، واليسيرة، والريا.وكانت له لقحة تدعي بردة، أهداها له الضحاك بن سفيان، كانت تحلب كما تحلب لقحتان غزيرتان.وكانت له مهرة أرسل بها سعد بن عبادة من نعم بني عقيل. والشقراء.وكانت له العضباء، ابتاعها أبو بكر من نعم بني الحريش، وأخرى بثمانمائة درهم، فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعمائة درهم، وهي التي هاجر عليها، وكانت حين قدم المدينة رباعية،وهي القصواء والجدعاء، وقد سُبقت، فشق على المسلمين.
      وكان له منائح سبع من الغنم: عجرة، وزمزم، وسقيا، وبركة، وورسة، وأطلال، وأطراف.وكان له مائة من الغنم )

      هذه الأخبار جملةً بعضها قد لا يكاد يثبت، لكن الذي يعنينا حرص سلف الأمة رضي الله عنهم ورحمهم الله على كل ما يتعلق بنبينا صلى الله عليه وسلم، حتى إنهم دوّنوا ما كان يركبه صلى الله عليه وسلم وما كان يملكه من الدواب، وهذا أمرٌ محمودٌ لهم، وقد كان السلف كذلك من عنايتهم بكل ما يتعلق به صلوات الله وسلامه عليه، وهذا يؤكد ما قلناه من قبل أن من أحب شيئًا أحب ما يتعلق به.
      أما ما ذكره المصنف فبالنسبة لك كطالب علمٍ لا يلزم حفظ هذا كله، لكن هو المقصود عندما تتذكر الأحاديث تربط الأحاديث الفقهية أو غير الفقهية بما سمعت الآن في السيرة، فمثلا حديث خزيمة بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى فرسًا من رجلٍ من بني مرة لم يكن هناك شاهد، فكأنهما اختلفا في أمر فطلب الأعرابي شاهدًا يشهد أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى منه هذا الفرس، لأن النبي عليه الصلاة والسلام اتفق معه على سعر، ثم أن الأعرابي كأنه طمع فقال ما بعتك بهذا السعر أريد سعرًا أرفع، فقال النبي عليه الصلاة والسلام ( إنك بعتني إياه، سبق أن انتهينا من الأمر )، فلم يجد شاهدًا، فجاء خزيمة بن ثابت رضي الله تعالى عنه وأرضاه وقال: أنا أشهد أن النبي صلى الله عليه وسلم اشتراه منك بكذا وكذا، فلما شهد قال له عليه الصلاة والسلام ( كيف تشهد؟ ) وهو يعلم أنه لم يحضر، فقال: يا رسول الله إنني أصدقك بخبر السماء ـ أو كلمةٍ نحوها ـ أفلا أصدقك أنك اشتريت فرسًا من أعرابيٍّ بكذا وكذا، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة بشهادة رجلين.
      وهذا يُسمى –إن صح التعبير– في علم الاجتماع، الإنسان أحيانًا يرزقه الله موهبة انتهاز الفرص الحسنة، وذكرنا على هذا أمثلة من السيرة كأبي أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه، أن النبي عليه الصلاة والسلام لما دخل المدينة كان فيها حيَّان عظيمان، الأوس والخزرج، فكان راكبًا على الناقة فيقول له الخزرج: هلم إلى هاهنا يا رسول الله، يقول ( خلو سبيلها فإنها مأمورة )، ويقول الأوس نفس القضية ويقول عليه الصلاة والسلام ( خلو سبيلها فإنها مأمورة )، فلما بركت الناقة وقامت تركها النبي صلى الله عليه وسلم حتى تبرك ولم ينزل، ثم قامت وجالت جولة ثم رجعت وبركت في موطنها الأول، هنا لم ينزل عليه الصلاة والسلام حتى لا يقولن قائل لو نزل عند الأوس لقال الخزرج مال علينا من أول يوم، ولو نزل عند الخزرج لقالت الأوس ذلك وبقي على الناقة. فجاء أبو أيوب الأنصاري، وهذا الذي نتحدث عنه عن انتهاز الفرص، فعمد إلى متاع النبي عليه الصلاة والسلام وأدخله بيته، فلما أدخله بيته حُسم الأمر، فلما جاء الناس المجاورون للأرض التي أصبحت بعد ذلك مسجدًا يقولون: يا رسول الله هاهنا هاهنا قال عليه الصلاة والسلام ( المرء مع رحله )، فظفر أبو أيوب رضي الله عنه وأرضاه بسكنى النبي عليه الصلاة والسلام عنده من دون غيره من الأنصار لتبكيره وانتهازه للفرصة الحسنة هنا.
      كذلك خزيمة بن ثابت، كل الصحابة أصلا من أبي بكر فمن دونه –وليس فيهم من يُسمى بالدون– يصدقون النبي عليه الصلاة والسلام بخبر السماء، لكن خزيمة استغل الأمر أكثر من غيره وقال: أنا أشهد، ومعلومٌ لما يُقال هذا الأمر النبي عليه الصلاة والسلام لم يرد شهادته، فظفر بأن شهادته بشهادة رجلين رضي الله عنه وأرضاه، وهذه من المناقب المحمودة في الرجال.

      إذا هبت رياحك فاغتنمها *** فـــإن لكل خافقة سـكون
      و إن درت نياقك فاحتبلها *** فلا تدري الفصيل لمن يكون
      هذه أسباب يضعها الله تبارك وتعالى في الناس، هذا يصيب وهذا يُخطئ، لكن هذه سنن الله في الخلق، وإذا أراد الله شيئًا هيَّأ أسبابه.
      ونقف عند العضباء وهي القصواء لمُسمًّى واحد،
      وهي الناقة –إذا صح التعبير– الرئيسة التي كانت تحمل النبي عليه الصلاة والسلام، والتي حملته في الهجرة، وحملته في يوم عرفة، حلمته في الحج وحملته في الهجرة، وهذه الناقة كانت لا تكاد تُسبق، فجاء أعرابيٌّ بقعود فسابق هذه الناقة وسبقها، فلما سبقها شق ذلك على الصحابة، لماذا شق على الصحابة؟، نُعيد نفس القاعدة، إن من أحب شيئًا أحب ما يتعلق به، الصحابة ما الذي يعنيهم أن قعودًا يسبق ناقة؟! لا يعنيهم شيءٌ، لكن شق عليهم وتغير حالهم أن هذه الناقة ناقة من؟ ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هنا جاء التأديب النبوي للأمة،
      وهذا من أعظم وسائل تربية الناس على التوحيد أن يُربوا عمليًّا، فإن متون التوحيد على جلالة قدرها مما دونه العلماء أمرٌ عظيم لا خلاف فيه، لكنه لا يُدرس التوحيد بشيءٍ أكثر من تدريس كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الأمة التوحيد، الآن ناقة تُسبق أين التوحيد في ناقةٍ تُسبق؟، فلما سُبقت الناقة وتغير وجوه الصحابة قال صلى الله عليه وسلم ( إنه حقٌّ على الله ألا يرفع شيئًا إلا وضعه )، لا يرتفع شيءٌ إلا وضعه الله .
      هذا هو التوحيد، أين التوحيد؟، الشمس والقمر فتنةٌ للناس، ولذلك كتب الله على الشمس والقمر الكسوف والخسوف حتى يُعلم أنا مهما بلغت قابلة للنقصان، وجهه صلى الله عليه وسلم ليس هناك وجهٌ أشد نورًا من وجهه عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك يُشج وتُكسر الرباعية وينزل الدم، لأنه مهما بلغ فهو وجه مخلوقٍ، كل من حولك من العظماء يريك الله جلّ وعلا فيهم آية تدل على أنهم بشر تجري عليهم أحكام البشر، انظر إلى جمعٍ من الممثلين والممثلات ممن يوصفون بالجمال، غالبهم يموت بمرضٍ يشوه جماله، حتى آخرهم موتًا، كنت أدرس في المدينة، آخرهم موتًا –ولا أتكلم عن أسماء– عفا الله عنه وغفر الله له، الجنة والنار ليس لنا فيها سبيل، هذا الرجل كان فتنة في زمانه قديمًا لكثيرٍ من الصبايا والنساء، فلما قربت وفاته دخلته أمراض حتى تغير وجهه حتى إن أهله كانوا يخفون وجهه عن الناس، حتى مات ووري في جنازة مستورة حتى لا يرى الناس وجهه بعد أن رأوه أنه كان فتنة في السابق، فسنة الله في خلقه أن كل شيءٍ مهما عظم يعتريه النقص، قال الله جلّ وعلا ﴿ وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ
      هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [القصص: 88] ، وقال سبحانه ﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ﴿26﴾ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ﴾ [الرحمن: 26، 27].
      فكل عظيمٍ مهما ارتقى فينزل، ونبينا صلى الله عليه وسلم لما ساد الجزيرة ودخل مكة فاتحًا وخطب الناس في خطبة الوداع وبلغ الأمر منتهاه مرض وأصابته الحمَّى وأصبح وهو سيد الخلق الذي جاهد في أرجاء الجزيرة كلها يعجز أن يصل إلى المسجد، ثم كان عليه الصلاة والسلام أفصح من نطق الضاد وأفصح الفصحاء وسيد البلغاء يعجز أن يتكلم ويدعو لأسامة بصوتٍ مرتفع، بل يصل إلى أنه يرى السواك –كما قلنا قبل درسين– ولا يستطيع أن يقول أعطوني السواك، فسبحان ربنا الذي لا شيء مثله، ولا نظير له ولا ند، وهو الذي يرينا عظمته وجلاله وكماله وقدرته، وأنه تبارك وتعالى ليس كمثله شيءٌ وهو السميع البصير، يرينا هذه الآية في كل غدوة ورواح، لكن المتعظين بتلك الآيات قليل، جعلني الله وإياكم من أولئك القليل.
      هذا ما يتعلق سبق القصواء من قبل القعود الذي مع الأعرابي.
      مما يتعلق بذكر أفراسه ودوابه عليه الصلاة والسلام أنه كان عليه الصلاة والسلام بشرٌ من الناس، يعيش كما يعيش الناس، يركب كما يركبون، ويمشي كما يمشون، ويفرح كما يفرحون، فلما سبق فرسه فرح، ولما رأى فرسًا أعجبه اشتراه، وقلما نُقل عنه البيع، البيع في حياته صلى الله عليه وسلم قليل، أما الشراء فهو كثيرٌ، فكان يشتري ما كان يعجبه، وكان يأخذ ويعطي ويفاوض ويبيع ويساوم، وسمحًا إذا باع وسمحًا إذا اشترى.
      فهذا كله يدل على أنه بشر، وقد كان القرشيون يتعجبون في أول الأمر كيف يكون هذا نبيًا ويقولون ﴿ مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا ﴾ [الفرقان: 7]، فأخبره الله جلّ وعلا بآياتٍ عديدة أن الدنيا ليست مكافأةً لأحد، ولو كانت مكافأةً في ذاتها فلمنعها الله جلّ وعلا أهل الكفر، فعاش نبيه صلى الله عليه وسلم بشرًا كما يعيش الناس، ونُعِّم أهل الكفر، بعضهم ينعم وبعضهم لا ينعم، تجري على الجميع أحكام الله جلّ وعلا القدرية، ولا علاقة لها بالإيمان ولا بغيره. لكن الآخرة هي دار الجزاء، فالله يقول في "الزخرف" ﴿ وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ﴿33﴾ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ ﴿34﴾ وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [الزخرف: 33–35]، فجعل الله جلّ وعلا الآخرة هي دار التقوى، ولما كان يحمل الّلبِن ويحمل أصحابه اللبن كان عمّار يحمل لبنتين لبنتين، فأعجب النبي صلى الله عليه وسلم عمار أنه يحمل لبنتين لبنتين فقال ( ويح ابن سمية تقتله الفئة الباغية )، ثم قال ( اهتدوا بهدي عمّار )، الشاهد منه لما أراد أن يبث فيهم العلاقة الأخروية قال لهم عليه الصلاة والسلام يدعو ( اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة ).
      فالمؤمن وطالب العلم في المقام الأول لا يجعل من العلم حظًا للكسب الدنيوي، وإنما يجعل العلم الذي علم به سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه وفقهه وما إلى ذلك طريقًا إلى الآخرة، وكلما كان للإنسان حظٌ من الدنيا بعلمه قل حظه في الآخرة وقل قبول علمه عند الناس في الغالب.
      العلامة الألباني رحمه الله تعالى وغفر له لما بُشر بأنه فاز بجائزة الملك فيصل العالمية حاول الصحفيون أن يجعلوا من فوزه بها مادةً ثريةً في الصحافة، واتصل به أحد الصحفيين ليهنئه ويسأله عن مشاعره فقال الشيخ رحمه الله ﴿ وَالْآَخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [الزخرف: 35]، ثم أقفل الهاتف وأنهى المكالمة، فالعالم الرباني بحق هو من ينشد ما عند الله وأجر الآخرة، وهذا الذي ينبغي أن يكون عليه العلماء وطلبة العلم في المقام الأول.

      فبادره وخذ بالجد فــيه *** فإن أعطاكه الله انتفعت
      وإن أوتيت فيه طويل باع *** وقال الناس إنك قد رأست
      فلا تأمن سؤال الله عنه *** بتوبيخ علمت فهل عملت
      وإنما العلم العمل، والله جلّ وعلا يقول ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28]، هذا أهم ما يمكن أن يكتسبه الإنسان في هذه المقطوعة من السيرة.

      وصلى اللهم على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.

      ---------------------------------------

      ( 1 ) ملاحظة : الكتابة بالخط الأخضر هي المتن .
      [1] ولعل الأصح "استعاذت منه"، فقد ثبت عند البخاري ومسلم عَنْ سَهْلِ بْنِ
      سَعْدٍ قَالَ : ( ذُكِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةٌ مِنْ الْعَرَبِ فَأَمَرَ أَبَا أُسَيْدٍ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهَا
      فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا فَقَدِمَتْ فَنَزَلَتْ فِي أُجُمِ بَنِي سَاعِدَةَ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى جَاءَهَا فَدَخَلَ عَلَيْهَا فَإِذَا امْرَأَةٌ مُنَكِّسَةٌ رَأْسَهَا فَلَمَّا كَلَّمَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ قَالَ قَدْ أَعَذْتُكِ مِنِّي...) .

      تعليق


      • #33
        الأيام النظرة في شرح السيرة العطرة ( 7 )


        الأيام النظرة في شرح السيرة العطرة ( 7 )
        الشيخ صالح بن عواد المغامسي

        ذكر سلاحه صلى الله عليه و سلم و الانتهاء من شرح المتن :

        الدرس السابع :
        الحمد لله الذي لا رب غيره ولا إله سواه، والصلاة والسلام على عبده ونبيه ومصطفاه ، أما بعد : فهذا بعون الله تعالى خاتمة الدروس ، والمقصود والتعليقات على متن الدرة المضيئة في السيرة النبوية للحافظ المقدسي رحمه الله تعالى .
        سنشرع اليوم إن شاء الله تعالى في ختم الكتاب وإتمامه، وقد يقول قائل: إنه كيف يُعطى في يوم واحد ما أعطى قرابته في أسبوع كامل؛ حتى يزيل اللبس فإن المتبقي من الكتاب أكثره أسماء تتعلق بالعشرة المبشرين رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، وأما ما يتعلق بصفته صلى الله عليه وسلم فهذا ما سنقف عنده كثيراً ، فنقول مستعينين بالله تبارك وتعالى: أننا انتهينا في الأسبوع الماضي ووصلنا إلى سلاحه صلى الله عليه وسلم.

        أسلحته صلى الله عليه وسلم :

        قال المصنف رحمه الله:
        ( وكان له ثلاثة رماح أصابها من سلاح بني قينقاع، وثلاثة قسي، قوس اسمها الروحاء، وقوس شوحط، وقوس صفراء تدعى الصفراء.وكان له ترس فيه تمثال رأس كبش، فكره مكنه، فأصبح وقد أذهبه الله عز وجل.وكان سيفه ذو الفقار، تنفله يوم بدر، وهو الذي رأى فيه الرؤيا يوم أحد، وكان لمنبه بن الحجاج السهمي.وأصاب من سلاح بني قينقاع ثلاثة أسياف: سيف قلعي، وسيف يدعى بتارا، وسيف يدعى الحتف.وكان عنده بعد ذلك المخدم، ورسوب، أصابها من الفلس، وهو صنم لطيء.
        قال أنس بن مالك: كان نعل سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فضة، وقبيعته فضة، وما بين ذلك حلق فضة .وأصاب من سلاح بني قينقاع درعين: درع يقال لها: السعدية، ودرع يقال لها: فضة.وروي عن محمد بن سلمة قال: رأيت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد درعين: درعه ذات الفضول، ودرعه فضة، ورأيت عليه يوم خيبر درعين: ذات الفضول والسعدية ).

        هذا ما ذكره المصنف النبي صلى الله عليه وسلم كان إمام المجاهدين، ولا يمكن إن يكون إمام المجاهدين حتى يكون لديه سلاح، وهذه الأسلحة التي ذكرت ونقلت عنه صلى الله عليه وسلم نُقلت بأسانيد تختلف منها ما هو صحيح منها ما هو دون ذلك، لكن جملة قُبلت عند العلماء وتناقلوها هذا الفكرة الأولى في الموضوع.
        الفكرة الثانية في الموضوع إذا أردت أن تدون سيفه ذو الفقار هذا السيف الذي كان لا يكاد يفارقه صلى الله عليه وسلم، سيف ذو الفقار هو السيف الذي كان لا يكاد يفارقه صلوات الله وسلامه عليه بمعنى أنه كان يحمله كثيراً ولذلك قال المصنف ( وهو الذي رأى فيه الرؤيا يوم أحد ) فلو سُئلت وأنت درست المتن ما معنى قول المصنف ( وهو الذي رأى فيه الرؤيا يوم أحد ) أي أن هذا السيف قبل معركة أحد النبي صلى الله عليه وسلم رأى في هذا السيف ثلمة رأى فيه ماذا؟ ثلمة يعني شبه كسر، وسيف الإنسان هو الذي يدفع به عن نفسه فأُول في المنام بأنه أحد عصبته، وكان مقتل من ؟ مقتل حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وأرضاه وموته شهيداً، فالرؤيا التي رآها رأى بقراً تنحر هذا موت أصحابه ورأى في سيفه ثلمة؟ هذا هو مقتل من مقتل حمزة في أي سيف رأى هذه الرؤيا في سيفه ذي الفقار، فعلى هذا قلنا إن سيفه ذا الفقار هو السيف الذي لا يكاد يفارقه.

        الفائدة الثانية: ما لم يذكره المصنف أن له صلى الله عليه وسلم سيفاً يقال له مأثور ورثه عن أبيه، بمعني أن النبي صلى الله عليه وسلم ورث هذا عن أبيه عبد الله أي أن مأثور في الأصل لمن ؟ لعبد الله هو والد النبي صلى الله عليه وسلم.
        ثالثاً: وهذه هي أهم الفوائد مر معنا يا أُخي السلاح الآن ومر معنا قبله الدواب ومر معنا قبل الدواب الإماء والموالى والعبيد، السؤال أين ذهبت هذه؟ الإماء والعبيد والسلاح والدواب الذي ذكرنها جميعاً تكتب في المتن قال الحافظ بن كثير رحمه الله : إن النبي صلى الله عليه وسلم قد صح عنه إنه مات ولم يترك ديناراً ولا درهماً وأن درعه كانت مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعاً من شعير، وأن جميع ما ذكر من قبل من
        العبيد والإماء والدواب والسلاح قد أنجز التصدق به صلى الله عليه وسلم قبل موته؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم ( إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقه ) الآن انتهينا من قضية سلاحه.

        فصل في صفته صلى الله عليه وسلم :
        ( روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه إذا رأى النبي صلى الله عليه وسلم، مقبلا يقول:أمين مصطفى بالخير يدعو كضوء البدر زايله الظلام وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ينشد قول زهير بن أبي سلمى في هرم بن سنان، حيث يقول: لو كنت من شيء سوى بشر كنت المضيء ليلة البدر.ثم يقول عمر وجلساؤه: كذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم،ولم يكن كذلك غيره ) .
        هذا إجمال ما ذكره المصنف هنا قد يكون في الأول بالذات فيه نظر بأن أبا بكر ما يعرف عنه الشعر، لكن جملة مقبولة لأن المعنى صحيح قد لا يصح نسبة هذه الأمور إلى أبي بكر لكن المعني صحيح، ثم جاء عن وصفه صلى الله عليه وسلم من حيث التفصيل قال
        ( وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أبيض اللون، مشربًا حمرة ).
        الأبيض إما أن يكون أبيض أمهق كما سيأتي فيكون بياضه غير ممدوح ولكن بياضه صلى الله عليه وسلم كما قال علي كان مشرباً بحمرة أي مخلوطاً بحمرة
        ( أدعج العينين)
        المعني شديد سواد العينين.
        ( سبط الشعر )
        معنى سبط الشعر أي أن شعره ليس مسترسل، الآن اليوم العامية يقولون ناعم ليس مسترسلاً ولا ملتوي أي أن شعره صلى الله عليه وسلم ليس مسترسلاً تماماً ولا ملتوي مسترسل ليس مسترسلاً خبر ليس ولا ملتوياً.
        ( كث اللحية، ذا وفرة، دقيق المسربة )
        والمقصود الشعر الذي من أعلى الصدر إلى أدني السرة دقيق المسربة وليست المشربة مكتوبة في الكتاب بالشين وهي المسربة والمعنى الشعر الممتد من أعلى الصدر إلى أدنى الصدر .
        ( ليس في بطنه، ولا صدره شعر غيره ) هذا واضحة ( شئن الكفين والقدمين)
        هذه معناها غليظ أصابع الكفين وغليظ أصابع القدمين.
        ( إذا مضى كأنما ينحط من صبب، وإذا مشى كأنما ينقلع من صخر، إذا التفت التفت جميعً)
        هذه واضحة ينحط من صبب، الصبب المكان العالي.

        ( كأن عرقه اللؤلؤ، ولَريح عرقه أطيب من ريح المسك الأذفر، ليس بالطويل ولا بالقصير، ولا الفاجر ولا اللئيم )
        هذه واضحة جداً .
        ( لم أر قبله ولا بعده مثله )
        من القائل ؟ علي ابن أبي طالب، وفى لفظ أي لعلي بين كتفيه خاتم النبوة وهو خاتم النبيين، خاتم النبوة شعيرات ما بين الكتفين من الخلف إلى جهة الشمال أقرب، خاتم النبوة شعرات من الخلف اجتمع بعضها إلى بعض إلى الشمال أقرب، واضح وهو خاتم النبيين .
        ( أجود الناس كفا ) كناية عن الكرم ( وأوسع الناس صدرًا ) هذه ظاهرة (وأصدق الناس لهجة، وأوفى الناس ذمة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عِشرة، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه أحبه، يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده مثله صلى الله عليه وسلم )

        ( وقال البراء بن عازب: صاحبي معروف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مربوعًا ) أي لا بالطويل ولا بالقصير ( بعيد ما بين المنكبين، له شعر يبلغ شحمة أذنيه، رأيته في حلة حمراء، لم أر شيئًا قط أحسن منه صلى الله عليه وسلم ) مربوعاً قلنا واضح ما بين الطول والقصر بعيد ما بين المنكبين هذان المنكبان والمقصود أن صدره وظهره ممتد .
        ( له شعر يبلغ شحمة أذنيه ) هذه شحمه الأذن ( رأيته في حلة حمراء ) الحلة الثوب المكون من قطعتين، الإزار والرداء ( لم أر شيئًا قط أحسن منه صلى الله عليه وسلم )
        لم هذه أداة نفي جاء بعدها بقط لأنه نفى شيئاً ماضي ولو أراد أن ينفي شيئاً في المستقبل يأتي بأبداً .
        ( وقالت أم معبد الخزاعية في صفته، صلى الله عليه وسلم )
        أم معبد أين رآها النبي صلى الله عليه وسلم ؟ رآها أين ؟ أم معبد في الهجرة في طريقه من مكة على المدينة مر على أم معبد، أم معبد امرأة من خزاعة كان عندها خيمتان تكري الأضياف فمر النبي صلى الله عليه وسلم عليها ونزل ضيفاً عندها وجاءت معها قصة الشاة المعروفة :
        جزى الله رب الناس خير جزائه رفيقين حلا خيمة أم معبد
        هما نزلا بالبر وارتحلا به وأفلح من أمسى رفيق محمد
        هذه أم معبد رأته وكانت خزاعية فصيحة فلما جاء زوجها سألها فأجابته بالتالي:
        ( رأيت رجلًا ظاهر الوضاءة، أبلج الوجه، حسن الخلق، لم تعبه ثجلة، ولم تزر به صعلة ) هذه ثجلة وصعلة تحتاج إلى شرح لم تعبه ثجلة، الثجلة الضخامة في البدن والصعلة صغر الرأس، فهو عليه الصلاة والسلام ضخم إلى حد لا يعاب ولا صغير الرأس إلى حد يعاب به (قسيمًا، في عينيه دعج ) أي سواد ( وفي أشفاره غطف ) الأشفار شعر الجفن ( وفي صوته صحل ) أي في صوته بحة، الصحل هو ماذا ؟ البحة ( وفي عنقه سطع ) تقصد نور تقصد أن عنقه منير ( وفي لحيته كثاثة ) هذه واضحة أي كثرة ( أزج أقرن )
        أما كونه أزج فالمعنى أن خيط الجفن هذا دقيق قليلاً، أما قولها أقرن هذا لا يقبل فإما أن يكون
        خطأً منها وإما أن يكون خطأً من الرواة الذين نقلوا قالت
        ( أزج أقرن )
        فإما أن يكون خطأً منها وإما أن يكون خطأً ممن من الرواة؛ لأن معنى أقرن أن يكو ن هذان ملتصقان بعضهما ببعض الحاجبان إذا اتصلا يسمى أقرن بمعنى مقترنين وهذا عيب مذموم عند العرب قديماً وهو لا يعيب الرجل إذا وجد فيه؛
        لأن هذا خلق لكن الله جلّ وعلا لا يجعل نبيه بهذا الأمر وسيأتي وصفه عليه الصلاة والسلام بأنه أزج في غير قرن سيمر معك أظن المصنف تعرض له هذا محفوظ وما أدري إن كان المصنف ذكره أو لا أزج في غير قرن، فقولها أزج أقرن إلا أن تكون قصدت شيئاً لم أفهمه أنا، واضح إذا؟ كم تخريج الآن ؟ ثلاثة.
        الأول : أن يكون خطأ ممن؟ من أم معبد.

        والخطأ الثاني أن يكون ممن ؟ من الرواة، والخطأ الثاني يكون في فهمنا نحن لكن الصواب الذي لا محيل عنه أن الرسول لم يكن أقرن واضح .
        ( أزج أقرن، إن صمت فعليه الوقار، وإن تكلم سما وعلاه البهاء ) وهذه ظاهرة ( أجمل الناس، وأبهاه من بعيد، وأحلاه وأحسنه من قريب، حلو المنطق، فصلٌ، لا نزل ولا هذر، كأن منطقه خزرات نظم تحدرت ربعة لا بائن من طول، ولا تقتحمه عين من قصر، غصن بين غصنين ) تتكلم عن من الغصنين الأخرين؟ أبو بكر وعامر بن فهيرة ( وهو أنضر الثلاثة منظرًا، وأحسنهم قدرًا، له رفقاء يحفون به، إن قال؛ أنصتوا لقوله، وإن أمر تبادروا لأمره محفود محشود )
        ما معنى محفود ما معنى محشود ؟ المحفود من يعظمه أصحابه ومن حوله ويسارعون في طاعته هذا معنى محفود.
        محشود: أي يجتمع إليه الناس
        ( لا عابس، ولا مفند )
        التفنيد الصد الرد التهجين، ومعنى لا عابس، ولا مفند، أي جميل المعاشرة لا يهجن أحداً ولا يحتقره.
        ( وعن أنس بن مالك الأنصاري رضي الله عنه أنه وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كان ربعة ) مستحيل طبعاً أن تكون ربعة لماذا؟ خبر كان ما يكون مرفوعا منصوبا ( كان ربعة من القوم، ليس بالطويل البائن) هذه مرت معنا ( ولا بالقصير المتردد، أزهر اللون، ليس بالأبيض الأمهق، ولا بالآدم )
        الآدم الأسمر الآدم من يميل إلى السمرة أي أن بياضه صلى الله عليه وسلم كما قلنا مشرباً بحمرة والأبيض الأمهق الكريه البياض.
        فائدة مَن من الأنبياء كان يميل إلى السمرة؟ موسى ولذلك الله قال أن يده بيضاء من غير سوء.
        موسى كان أسمر
        ( ليس بجعد، ولا قطط، ولا سبط، رجل الشعر )
        هذه مرت معنا أي ليس مسترسلاً .
        ( وقال هند بن أبي هالة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فخما مفخما، يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر، أطول من المربوع، وأقصر من المشذب ) المشذب يعني الطويل ( عظيم الهامة، رجل الشعر، إن انفرقت عقيقته فرق، وإلا فلا يجاوز شعره شحمة أذنيه إذا هو وفره، أزهر اللون ) مر معنا أي بياض معقول ( واسع الجبين، أزج الحواجب، سوابغ في غير ) ماذا؟ ( في غير قرن ) كما أثبتناه في الأول ( بينهما عرق يدره الغضب، أقنى العرنين) العرنين الأنف، العرنين الذي ارتفع أعلى أنفه واحدودب وسطه وضاق منخراه ( كث اللحية، أدعج العينين ) مرت ( سهل الخدين، ضليع الفم )
        أي كبير الفم وكان عنوانا
        عند العرب على الفصاحة والبلاغة
        ( أشنب ) يعني جميل الفم ( مفلج الأسنان ) الثنايا كان فيها فلجة لم تكن متلاصقة ( دقيق المسربة ) هذه مرت معنا ( كأن عنقه جيد دمية في صفاء الفضة، معتدل الخلق، بادنًا متماسكًا، سواء البطن والصدر )
        ما معنى سواء البطن والصدر، هذه ظاهرة بتعبير البطن يعني فرق ما بين البطن والكرش كل إنسان له بطن لكن ليس كل إنسان يوصف بأن له كرش، إذا البطن برزت يسمى كرش، أما إذا لم تبرز فهي بطن لأنه لا يوجد إنسان ليس له بطن.

        ( سواء البطن والصدر مسيح الصدر، بعيد ما بين المنكبين، ضخم الكراديس ) الكراديس رؤوس العظام أي عظم هذا أو هذا في الركب يسمى كراديس ( أنور المتجرد ) المتجرد أي المواطن التي لا شعر فيها تظهر كأنها نور هذا معنى أنور المتجرد أي المواطن التي لا شعر فيها من جسمه تظهر كأن لها نور ( موصول ما بين اللبة والسرة) اللبة هذه الفتحة الذي في أسفل الصدر في أسفل الرقبة هذه اللبة ( موصول ما بين اللبة والسرة بشعر يجري كالخط ) معنى هذا أن باقي الجسم من الأمام ليس فيه شعر ولذا قال ( عاري الثديين والبطن مما سوى ذلك )
        مما سوى ذلك من ماذا؟ من الشعر .
        ( أشعر الذراعين والمنكبين ) في الذراع والمنكب كان أشعر صلى الله عليه وسلم (عريض الصدر، طويل الزندين، رحب الراحة، شئن الكفين ) مرت ( والقدمين، سائل الأطراف، سبط القصب، خمصان الأخمصين ) هذه خمصان الأخمصين معناها الأخمص هو الذي ينطوي شيء من القدم في باطنها يعني أي إنسان الأصل أنه أخمص في جهة من القدم ما تصل إلى ماذا؟ ما تصل إلى الأرض، لكنه هذا الذي طبيعة الإنسان لكن ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان أخمص أي أن قدمه كانت سواء ( ويمشي مسيح القدمين، ينبو عنهما الماء، إذا زال زال قلعا، ويخطو تكفؤا، ويمشي هونًا، ذريع المشية )
        ذريع المشية أنه مشيته ماذا
        متباعدة
        ( إذا مشى كأنما ينحط من صبب، وإذا التفت التفت جميعًا خافض الطرف ) أي النظر ( نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، ) كناية عن ماذا؟ التواضع ( جل نظره الملاحظة ) أي ما يدقق ( يسوق أصحابه ويبدأ من لقيه بالسلام )
        صلوات الله وسلامه عليه.
        هذه الصفة الخُلقية والآن طبيعي أن يأتي إلى الصفة الخَلقية.
        قال ( فصل في أخلاقه صلى الله عليه وسلم، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشجع الناس.
        قال على ابن أبي طالب رضي الله عنه ستمر معنا أشياء لا حاجة إلى الشرح وإنما سأتكلم بعد ذلك إجمالاً
        ( كنا إذا احمر البأس، ولقي القومُ القومَ اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أسخى الناس ما سئل شيئاً قط فقال: لا ، وكان أحلم الناس )

        إلا أن سخاؤه متى يظهر في أوجه؟ في رمضان، إذا لقيه جبريل
        ( وكان أحلم الناس، كان أشد حياء من العذراء في خدرها لا يثبت بصره في وجه أحد، وكان لا ينتقم لنفسه، ولا يغضب لها، إلا أن تنتهك حرمات الله، فيكون لله ينتقم، وإذا غضب لله لم يقم لغضبه أحد، والقريب، والبعيد، والقوي، والضعيف عنده في الحق واحد ).
        وهذا أمر لا خلاف فيه فالله جلّ وعلا زكى بصره، وزكى قلبه، وزكى لسانه، وزكى خلقه فأين زكى الله لسانه؟ ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى﴾[النجم:3].وأين زكى الله قلبه؟ ﴿ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى﴾[ النجم:11].
        وأين زكى الله بصره؟ ﴿ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ﴾[النجم:17].
        وأين زكى الله خلقه؟ ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾[القلم:4] هذه إجمالاً وجاءت مفصلة في آيات أخرى .
        ( وما عاب طعاماً قط، إن اشتهاه أكله، وإن لم يشتهيه تركه، وكان لا يأكل متكئاً، ولا يأكل على خوان ) ما الخوان؟ المائدة التي يوضع عليها الطعام يعبر عنها أحيانا بالطاولة.
        ( قال أنس رضي الله عنه كما في الصحيح ما أكل النبي صلى الله عليه وسلم على خوان قط ) ( ولا يمتنع من مباح، إن وجد تمراً أكله وإن وجد خبزاً أكله وإن وجد شواء أكله ) وهذا يدل على عدم التكلف، يعني لا يرد موجوداً ولا يطلب مفقوداً
        ( إن وجد خبز بر أو شعيراً أكله، وإن وجد لبناً اكتفى، أكل البطيخ بالرطب ) ما البطيخ ؟ المقصود
        بالبطيخ هنا الخربز، أين الدليل على أنه الخربز؟ ثبت عنه صلى الله عليه وسلم هذا البطيخ جاءت بثلاثة روايات.
        جاءت برواية ( أكل البطيخ بالخربز ) وجاءت بنقل عن عائشة ( أكل البطيخ الأحمر بالخربز ) ( أكل البطيخ الأصفر بالخربز ) .
        وجاءت برواية أوضح ( أكل الخربز بالرطب ) .
        علله لماذا أكل البطيخ بالرطب ؟ لماذا أكل البطيخ بالرطب ؟ ما الفرق ؟ لماذا جمع ما بين الخربز والرطب؟حار والبطيخ بارد، وقال صلى الله عليه وسلم ( نكسر حر هذا ببرد هذا وبرد هذا بحر هذا )
        ( وكان يحب الحلواء والعسل.
        قال أبو هريرة رضي الله عنه: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير، وكان يأتي على آل محمد الشهر والشهران لا يوقد في بيت من بيوته نار، وكان قوتهم التمر والماء، يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة ) ولا يأكل الصدقة خاصة به؟ هو وآل بيته، ويكافئ على ماذا؟ ( ويكافئ على الهدية )، إذا أخذ هدية يكافئ عليها، وأغلب أحواله أن يرد الهدية بأكثر منها.
        ( لا يتأنق في مأكلٍ ولا ملبسٍ، يأكل ما وجد، ويلبس ما وجد.
        وكان يخصف النعل، ويرقع الثوب، ويخدم في مهنة أهله، ويعود المرضى.
        وكان أشد الناس تواضعًا، يُجيب من دعاه من غنيٍّ، أو فقيرٍ، أو دنيء، أو شريف ) لا يفرق.
        ( وكان يحب المساكين، ويشهد جنائزهم، ويعود مرضاهم، لا يحتقر فقيرًا لفقره، ولا يهاب ملكًا لمُلكه.
        وكان يركب الفرس، والبعير، والحمار، والبغلة )
        هذا كله دليلٌ على عدم التكلف،
        ( ويُردف خلفه عبده، أو غيره، لا يدع أحدًا يمشي خلفه، ويقول ( خلوا ظهري للملائكة ).
        ويلبس الصوف وينتعل المخصوف، وكان أحبُّ اللباس إليه الحبرة، وهي من برود اليمن، فيها حُمرةٌ وبياض )
        الحبرة الثياب المقلمة ذات الخطوط، وهي من برود اليمين، فيها حمرة وبياض.
        ( وخاتمه فضةٌ، فضه منه، يلبسه في خنصره الأيمن، وربما لبسه في الأيسر.وكان يعصب على بطنه الحجر من الجوع، وقد آتاه الله مفاتيح خزائن الأرض كلها، فأبى أن يأخذها واختار الآخرة عليها.
        وكان يُكثر الذكر ويُقل اللغو، ويُطيل الصلاة ويُقصر الخطبة.أكثر الناس تبسُّمًا، وأحسنهم بشرًا، مع أنه كان متواصل الأحزان دائم الفكر .وكان يحب الطيب، ويكره الريح الكريهة.يستألف أهل الشرف، ويكرم أهل الفضل، ولا يطوي بشره عن أحدٍ، ولا يجفو عليه.يرى اللعب المباح فلا ينكره، يمزح ولا يقول إلا حقًّا، ويُقبل معذرة المُعتذر إليه.له عبيدٌ وإماءٌ، لا يرتفع عليهم في مأكلٍ ولا ملبس.لا يمضي له وقتٌ في غير عملٍ لله، أو فيما لابد له ولأهله منه.رعى الغنم، وقال: ( ما من نبيٍّ إلا وقد رعاها ).وسُئلت عائشةُ –رضي الله عنها- عن خُلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: "كان خلقه القرآن"، يغضب لغضبه ويرضى لرضاه )
        صلوات الله وسلامه عليه.
        ( وصحَّ عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه قال: "ما مسستُ ديباجًا ولا حريرًا ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شممتُ رائحةً قطُّ كانت أطيب من رائحة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد خدمتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي أُفٍّ قطُّ، ولا لشيءٍ فعلته: لم فعلت كذا؟ ولا لشيءٍ لم أفعله: ألا فعلت كذا وكذا؟".

        قد جمع الله له كما الأخلاق، ومحاسن الأفعال، وآتاه الله علم الأولين والآخرين، وما فيه النَّجاة والفوز، وهو أميٌّ لا يقرأ ولا يكتب، ولا مُعلِّم له من البشر، نشأ في بلاد الجهل والصحاري، آتاه الله ما لم يؤت أحدًا من العالمين، واختاره على جميع الأولين والآخرين، فصلوات الله عليه دائمةً إلى يوم الدين ).

        هذا كله ظاهر، ولا أعتقد أنه يحتاج إلى تعليقٍ.

        فصلٌ في معجزاته صلى الله عليه وسلم :

        (فمن أعظم معجزاته، وأوضح دلالاته "القرآن العزيز" الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيلٌ من حكيمٍ حميدٍ، الذي أعجز الفصحاء، وحيَّر البُلغاء، وأعياهم أن يأتوا بعشر سور مثله، أو بسورة، أو بآية، وشهد بإعجازه المشركون، وأيقن بصدقه الجاحدون، والملحدون ).
        القرآن الكريم معجزة نبينا الخالدة، وهو مُعجزٌ في لفظه ومعناه، قال شوقي رحمه الله:
        جاء النبيون بالآيات فانصرمت وجئتنا بحكيمٍ غير منصرمِ
        (
        وسأل المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُريهم آيةً فأراهم انشقاق القمر، فانشق حتى صار فرقتين، وهو المراد بقوله تعالى ﴿ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ﴾ [القمر: 1].
        وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن الله تعالى زوى لي الأرض فرأيتُ مشارقها ومغاربها، وسيبلغ مُلك أمتي ما زُوي لي منها ). وصدَّق الله قوله بأنَّ مُلك أمته بلغ أقصى المشرق والمغرب، ولم ينتشر في الجنوب ولا في الشمال )
        ، وهذا فيه نظر، فليس المقصود المشرق والمغرب تحديدًا، وإنما المقصود انتشار الدين في كل مكان.
        ( وكان يخطب إلى جذعٍ، فلما اتخذ المنبر وقام عليه حنَّ الجذع حنين العشار، حتى جاء إليه والتزمه، وكان يئن كما يئن الصبي الذي يُسكت، ثم سكن.
        ونبع الماء من بين أصابعه غير مرة )،
        واختلف العلماء في معنى نبع الماء من بين أصابعه عليه الصلاة والسلام على قولين، القول الأول: أن يكون الماء نبع فعلا من بين أصابعه، أي خرج من بين أصابعه، القول الثاني: أن يكون المعنى أنه ببركته عليه الصلاة والسلام لما وضع أصابعه تكاثر الماء ببركته عليه الصلاة والسلام، ولم يكن هناك نبعٌ حقيقيٌّ من أصابعه، والقول الأول هو الأظهر إذ لا مانع يمنعه وعليه الأكثرون، الأكثرون مِن مَن؟ من العلماء، هناك أشياءٌ تُحذف لدلالة المعنى عليها.
        ( وسبَّح الحصى في كفه، وثم وضعه في كف أبي بكرٍ، ثم عمر، ثم عثمان، فسبَّح.
        وكانوا يسمعون تسبيح الطعام عنده وهو يؤكل.
        وسلَّم عليه الحجر والشَّجر ليالي بُعث.
        وكلمته الذراع المسمومة، ومات الذي أكل معه من الشاة المسمومة، وعاش هو صلى الله عليه وسلم بعده أربع سنين. )،
        الذي مات معه مَن؟ بشر بن البراء رضي الله عنه.
        ( وأصيبت رجل عبد الله بن عتيك الأنصاري فمسحها فبرأت من حينها.
        وأخبر أنه يَقتل أُبي بن خلفٍ الجُمحيَّ يوم أحد، فخدشه خدشًا يسيرًا فمات.
        وقال سعد بن مُعاذ لأخيه أمية بن خلف: "سمعتُ محمدًا يزعم أنه قاتلك"، فقُتل يوم بدرٍ كافرًا.
        وأخبر يوم "بدرٍ" بمصارع المشركين؛ فقال: ( هذا مصرع فلانٍ غدًا إن شاء الله، وهذا مصرع فلانٍ غدًا إن شاء الله )، فلم يعدُ واحدٌ منهم مصرعه الذي سمَّاه.

        وأخبر أن طوائف من أمته يغزون البحر، وأن أم حرام بنت ملحان منهم، فكان كما قال.
        وقال لعثمان: إنه سيُصيبه بلْوى؛ فقتل عثمان.
        وقال للحسن بن عليٍّ: ( إن ابني هذا سيدٌ، ولعل الله أن يُصلح به بين فئتين من المؤمنين عظيمتين ) فكان كذلك.
        وأخبر بمقتل الأسود العنسيِّ الكذاب ليلة قَتْلِهِ، وبمن قتله، وهو بصنعاء اليمن، وبمثل ذلك في قتل كسرى.
        وأخبر عن الشيماء بنت بُقيلة الأزدية أنها رُفعت له في خمارٍ أسود على بغلةٍ شهباء، فأُخذت في زمن أبي بكرٍ الصديق في جيش خالد بن الوليد بهذه الصفة.
        وقال لثابت بن قيس بن شماس: ( تعيش حميدًا، وتُقتل شهيدًا )، فعاش حميدًا، وقُتل يوم اليمامة شهيدًا.
        وقال لرجلٍ ممن يدَّعي الإسلام وهو معه في القتال: ( إنه من أهل النار )، فصدَّق الله قوله بأنه نحر نفسه ).


        جماع هذا علميًّا أن يُقال: الغيب الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
        أولا: غيبٌ يتعلق بالأمم والقرون الغابرة، ومثاله إخباره عن يوسف، أصحاب الكهف، قوم نوح، قوم عاد، هذا كله إخبارٌ عن غيبٍ سبق، كإخباره عن أهل الكهف، وإخباره عن يوسف وإخوته، وإخباره عن غير ذلك مما سلف.
        الثاني: إخباره عن غيبٍ وقع في حياته قبل أن يموت، مثل إخباره بالذي قتل نفسه، و إخباره بمقتل قريش يوم بدر، ومقتل الأسود العنسي، هذا كله حصل في حياته صلى الله عليه وسلم.
        الثالث: إخباره بغيبٍ وقع بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، مثل ( إن ابني هذا سيدٌ ) هذا وقع بعد وفاته، و قصة سراقة بن مالك أنه لبس سوار كسرى، وأشراط الساعة ستقع بعد وفاته صلى الله عليه وسلم.
        هذا خلاصة ما يمكن أن يُقال في الغيب الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم.

        ( ودعا لعمر بن الخطاب، فأصبح عُمر فأسلم.ودعا لعليٍّ بن أبي طالب أن يُذهب الله عنه الحرَّ والبرد، فكان لا يجد حرًّا ولا بردًا.ودعا لعبد الله بن عبَّاسٍ أن يُفقهه الله في الدين، ويُعلمه التأويل، فكان يُسمَّى
        الحبر والبحر لكثرة علمه.ودعا لأنس بن مالكٍ بطول العمر، وكثرة المال والولد، وأن يُبارك الله له فيه، فوُلد له مائة وعشرون ذكرًا من لصلبه، وكان نخله يحمل في السنة مرتين، وعاش مائة وعشرين سنة أو نحوها.وكان عتيبة بن أبي لهبٍ قد شقٌّ قميصه وآذاه، فدعا عليه أن يُسلط الله عليه كلبًا من كلابه، فقتله الأسد بالزرقاء من أرض الشام.وشُكي إليه قحوط المطر وهو على المنبر فدعا الله عزّ وجلّ وما في لسماء قزعة، فثار سحابٌ كثيرٌ أمثال الجبال، فمُطروا إلى الجمعة الأخرى حتى شُكي إليه كثرة المطر، فدعا الله عزّ وجلّ فأقلعت وخرجوا يمشون في الشمس.
        وأطعم أهل الخندق –وهم ألفٌ- من صاع شعيرٍ أو دونه، وبهيمة، فشبعوا وانصرفوا والطعام أكثر ما كان.
        وأطعم أهل الخندق أيضًا من تمرٍ يسيرٍ أتت به ابنة بشير بن سعدٍ إلى أبيها وخالها عبد الله بن رواحة.
        وأمر عمر بن الخطاب أن يُزوِّد أربعمائة راكبٍ من تمرٍ كالفصيل الرابض، فزوَّد، وبقي كأنه لم ينقص تمرةً واحدةً.وشهد الذئب بنوَّته ).

        شهادة الذئب بنوته رواها الإمام أحمد في مسنده بسندٍ صحيح من حديث أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه.
        (ومرَّ في سفرٍ ببعيرٍ يُستقى عليه، فلما رآه جرجر، ووضع جرانه فقال: ( إنه شكا كثرة العمل وقلة العلف).
        ودخل حائطًا فيه بعيرٌ ) الحائط أي البستان ( فلما رآه حنَّ وذرفت عيناه، فقال لصاحبه ( إنه شكا إلىَّ أنك تجيعه وتؤدبه ).
        ودخل حائطًا آخر فيه فحلان من الإبل، وقد عجز صاحبهما عن أخذهما، فلما رآه أحدهما جاءه حتى برك بين يديه، فخطمه، ودفعه إلى صاحبه، وفلمَّا رآه الآخر فعل مثل ذلك ).
        هذه كلها أخبر تدل على ما سخره الله جلّ وعلا له صلوات الله وسلامه عليه.إلى أن قال في آخر صفحة
        ( وخرج على مائة من قريشٍ وهم ينتظرونه فوضع التراب على رؤوسهم ومضى ولم يروه.وتبعه سراقة بن مالك بن جُشعم يريد قتله أو أسره، فلما قرب منه دعا عليه، فساخت يد فرسه في الأرض، فناداه بالأمان، وسأله أن يدعو له، فدعا له، فنجاه الله.وله صلى الله عليه وسلم مُعجزاتٌ باهرةٌ، ودلالاتٌ ظاهرةٌ، وأخلاقٌ طاهرةٌ، اقتصرنا منها على هذا تحقيقًا ).

        وفي الختام أوصيكم ونفسي بتقوى الله تبارك وتعالى وسلامة الصدر لجميع المؤمنين، والسعي بالعمل بما نعلم، لعل الله جلّ وعلا أن يبلغنا أعلى المنازل في الدنيا والآخرة.
        هذا، والله تعالى أعلم، وصلى الله على محمدٍ وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.


        يتبع لاحقاً

        تعليق


        • #34
          التوازن النفسي والسلوكي في شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم


          التوازن النفسي والسلوكي في شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم

          إن الدارس لشخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستلف نظره ذلك التوازن الدقيق بين معالمها مما لا يمكن أن تجده في أي بشر سواه، هذا التوازن - الذي يعد من أبرز دلائل نبوته - يتمثل في الكم الهائل من الشمائل ومحاسن الأخلاق التي اجتمعت في شخصيته صلى الله عليه وسلم على نسق متعادل لا تطغى صفة على صفة ولا توظف صفة في موقف لا تحتاجه ولا تليق به بل لكل مقام مقال ولكل حالة لبوسها حتى لا يستطيع ذو عقل أن يقول ليت ما أمر به نهى عنه أو ما نهى عنه أمر به أو ليته زاد في عفوه أو نقص من عقابه إذ كل منه على أمنية أهل العقل وفكر أهل النظر، إنه الكمال البشرى الذي يقود المسلمين إلى مزيد من الإعجاب والحب لرسولهم الكريم مفاخرين الدنيا بأسرها أنهم أتباع سيد البشر.

          التوازن النفسي في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم
          حقق التوازن النفسي في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم أسمى غاياته فكان ذو نفس سوية تتمتع بمثالية يدركها من له أدنى معرفة بالسلوك النفسي وأبعاده فما كان صلى الله عليه وسلم بالكئيب العبوس الذي تنفر منه الطباع ولا بالكثير الضحك الهزلى الذي تسقط مهابته من العيون ولم يكن حزنه وبكاؤه إلا مما يحزن ويبكى منه العقلاء في غير إفراط ولا إسراف وفي ذلك يقول ابن القيم [ وأما بكاؤه صلى الله عليه وسلم فلم يكن بشهيق ورفع صوت ولكن كانت تدمع عيناه حتى تهملا ويسمع لصدره أزيز وكان بكاؤه تارة رحمة للميت وتارة خوفا على أمته وشفقة عليها وتارة من خشية الله وتارة عند سماع القرآن وهو بكاء اشتياق ومحبة وإجلال مصاحب للخوف والخشية ولما مات ابنه إبراهيم دمعت عيناه وبكى رحمة له وقال (تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضى ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون) وبكى لما شاهد إحدى بناته ونفسها تفيض وبكى لما قرأ عليه ابن مسعود سورة النساء وانتهى فيها إلى قوله تعالى (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) وبكى لما مات عثمان بن مظعون وبكى لما كسفت الشمس وصلى صلاة الكسوف وجعل يبكى في صلاته وجعل ينفخ ويقول (رب ألم تعدني ألا تعذبهم وأنا فيهم وهم يستغفرون ونحن نستغفرك) وبكى لما جلس على قبر إحدى بناته وكان يبكى أحيانا في صلاة الليل ](1).
          أما ضحكه صلى الله عليه وسلم فكان يضحك مما يُضحك منه وهو مما يُتعجب من مثله ويستغرب وقوعه ويستندر كما كان يداعب أصحابه. فعن زيد بن أسلم رضي الله عنه قال (أتت امرأة يقال لها أم أيمن إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت إن زوجي يدعوك قال: ومن هو ؟ أهو الذي بعينه بياض ؟ قالت والله ما بعينه بياض فقال بلى إن بعينه بياضا فقالت لا والله فقال ما من أحد إلا وبعينه بياض) رواه أبو داود وعن أنس بن مالك أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فاستحمله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنا حاملوك على ولد ناقة) فقال يا رسول الله ما أصنع بولد ناقة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (وهل تلد الإبل إلا النوق) رواه الترمذى.

          التوازن السلوكي في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم
          كان التوازن السلوكي في شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد دلائل نبوته فلقد جعل هذا التوازن من رسول الله صلى الله عليه وسلم القدوة العليا التي تمثلت فيها كل جوانب الحياة فهو الأب والزوج ورئيس الدولة والقائد للجيش والمحارب الشجاع كما كان المستشار والقاضي والمربى والمعلم والعابد والزاهد … إلى آخر صفاته صلى الله عليه وسلم التي كانت من الخصب بحيث استوعبت كل جوانب حياة البشر الأمر الذي جعل من رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى للناس كافة على اختلاف طبقاتهم ومشاربهم حتى تقوم الحجة على الناس مرتين مرة بالبيان النظري ومرة بالبيان العملي وإليك بعض مظاهر هذا التوازن السلوكي:-
          (أ) التوازن النبوي بين القول والفعل.
          (شهدت البشرية في تاريخها الطويل انفصالا بين المثل والواقع، بين المقال والفعال، بين الدعوى والحقيقة وكان دائما المثال والمقال والدعوى أكبر من الواقع والفعال والحقيقة وهذا شيء يعرفه من له أدنى معرفة بالتاريخ والحياة غير أن هذه الظاهرة تكاد تكون مفقودة في واقع الرسل وأتباعهم فهم وحدهم الذين دعوا الإنسانية إلى أعظم قمم السمو ومثلوا بسلوكهم العملي هذه الذروة بشكل رائع مدهش)(2).
          وظهور هذا التوازن في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم العملية كان على أعلى ما يخطر بقلب بشر فهو العابد والزاهد والمجاهد والزوج و … و … الذي ما كان يأمر بخير إلا كان أول آخذ به ولا ينهى عن شر إلا كان أو تارك له.
          فعن عبادته تقول السيدة عائشة رضي الله عنه (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه فقلت له لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال (أفلا أكون عبدا شكورا) رواه الشيخان، وعن أنس رضي الله عنه قال (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر من الشهر حتى نظن أن لا يصوم منه شيئا ويصوم حتى نظن أن لا يفطر منه شيئا وكان لا تشاء أن تراه من الليل مصليا إلا رأيته ولا نائما إلا رأيته) رواه البخارى.
          وعن زهده يروى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنه قالت: دخلت علىّ امرأة من الأنصار فرأت فراش النبي صلى الله عليه وسلم عباءة مثنية فرجعت إلى منزلها فبعثت إلىّ بفراش حشوه الصوف فدخل علىّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (ما هذا ؟) فقلت فلانة الأنصارية دخلت علىّ فرأت فراشك فبعثت إلىّ بهذا فقال (رديه) قالت فلم أرده وأعجبني أن يكون في بيتي حتى قال ذلك ثلاث مرات ثم قال (يا عائشة رديه فوالله لو شئت لأجرى الله معي جبال الذهب والفضة) قالت: فرددته. وهو إمام الزاهدين الذي ما أكل على خوان قط وما رأى شاة سميطا قط وما رأى منخلا منذ أن بعثه الله إلى يوم قبض ما أخذ من الدنيا شيئا ولا أخذت منه شيئا وصدق صلى الله عليه وسلم إذ يقول (مالي وللدنيا إنما أنا كراكب استظل بظل شجرة ثم راح وتركها) .
          وأما عن شجاعته وجهاده فيروى أنس رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وأجود الناس وأشجع الناس ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق الناس قبل الصوت فاستقبلهم النبي صلى الله عليه وسلم قد سبق الناس إلى الصوت وهو يقول (لم تراعوا … لم تراعوا) وهو على فرس لأبى طلحة عرى ما عليه سرج في عنقه سيف فقال (لقد وجدته بحرا) ، وعن على رضي الله عنه قال: كنا إذا احمر البأس ولقي القوم القوم اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فما يكون منا أحد أدنى من القوم منه. ولولا خوف الإطالة لسردنا شمائله صلى الله عليه وسلم التي نادى بها وعلّمها أمته وكان أول الممارسين العمليين لها.

          (ب) الصدق النبوي في الجد والدعابة.
          (الصدق صفة أساسية لابد أن يتمتع بها صاحب الرسالة، هذا الصدق لابد أن يكون مطلقا لا يُنقض في أي حال بحيث لو امتحن صاحب الرسالة في كل قول له لكان مطابقا للواقع إذا وعد أو عاهد أو جد أو داعب أو أخبر أو تنبأ وإذا انتقضت هذه الصفة أي نقض فإن دعوى الرسالة تنتقض من أساسها؛ لأن الناس لا يثقون برسول غير صادق والرسول الصادق لا تجد في ثنايا كلامه شيئا من الباطل في أي حال من الأحوال)(3) ولقد كان الصدق من أوضح السمات في شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفي دلالة على هذا الصدق أن قومه لقبوه بالصادق الأمين بل إن أول انطباع يرسخ في نفس من يراه لأول مرة أنه من الصديقين فعن عبه الله بن سلام قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس وقيل قد قدم النبي صلى الله عليه وسلم وجئت فيمن جاء قال فلما تبينت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب فكان أول ما قال (يا أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا الأرحام وصلوا والناس نيام تدخلون الجنة بسلام) رواه الترمذى .
          فهو الصادق في وعده وعهده فعن عبد الله بن أبى الخنساء قال بايعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث وبقيت له بقية فواعدته أن آتيه بها في مكانه ذلك فنسيت يومي والغد فأتيته اليوم الثالث وهو في مكانه فقال (يا فتى لقد شققت علىّ أنا ههنا منذ ثلاث انتظرك) رواه أبو داود وبعد غزوة حنين جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم غنائم هوازن فوقف عليه رجل من الناس فقال إن لي عندك موعدا يا رسول الله قال (صدقت فاحتكم ما شئت) قال أحتكم ثمانين ضائنة وراعيها قال (هي لك وقال احتكمت يسيرا) رواه الحاكم. وأخرج الحاكم عن حويطب بن عبد العزى في قصة إسلامه أنه عندما كان مشركا تولى مطالبة الرسول صلى الله عليه وسلم بالجلاء عن مكة في عمرة القضاء بعد انقضاء مدة الثلاثة أيام المتفق عليها يقول حويطب: ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرة القضاء وخرجت قريش من مكة كنت فيمن تخلف بمكة أنا وسهيل بن عمرو لكى نخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مضى الوقت فلما انقضت الثلاثة أقبلت أنا وسهيل بن عمرو فقلنا : قد مضى شرطك فاخرج من بلدنا فصاح (يا بلال لا تغب الشمس وواحد من المسلمين بمكة ممن قدم معنا) وما حدث أن وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عاهد فأخلف أو غدر ولقد روى البخارى (أن هرقل لما سأل أبا سفيان عن محمد هل يغدر ؟ أجاب أبو سفيان لا فقال هرقل بعد ذلك وسألتك هل يغدر فزعمت أنه لا يغدر وكذلك الرسل لا تغدر) بل إنه صلى الله عليه وسلم لا يحيد عن الصدق ولا حتى مجاملة لأحد فعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل بوجهه وحديثه على أشر القوم يتألفهم بذلك فكان يقبل بوجهه وحديثه علىّ حتى ظننت أنى خير القوم فقلت يا رسول الله أنا خير أم أبو بكر فقال أبو بكر فقلت يا رسول الله أن خير أم عمر فقال عمر فقلت أنا خير أم عثمان فقال عثمان فلما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فصدقني فلوددت أنى لم أكن سألته) رواه الترمذى.
          وحتى في أوقات الدعابة والمرح حيث يتخفف الكثيرون من قواعد الانضباط كان رسول الله صلى الله عليه وسلم الصادق في مزاحه فعن أبى هريرة قال (قالوا يا رسول الله إنك تداعبنا قال إني لا أقول إلا حقا) رواه الترمذى.

          (جـ) التوازن الأخلاقي في شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم.
          من أبلغ وأجمع الكلمات التي وصفت أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قالته السيدة عائشة رضي الله عنه (كان خلقه القرآن) ولقد كانت هذه الأخلاق من السمو والتوازن ما جعل تواضعه لا يغلب حلمه ولا يغلب حلمه بره وكرمه ولا يغلب بره وكرمه صبره … وهكذا في كل شمائله صلوات الله وسلامه عليه هذا مع انعدام التصرفات الغير أخلاقية في حياته.
          فعن تواضعه يروى أبو نعيم في دلائل النبوة عن أنس رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أشد الناس لطفا والله ما كان يمتنع في غداة باردة من عبد ولا من أمة ولا صبى أن يأتيه بالماء فيغسل وجهه وذراعيه وما سأله سائل قط إلا أصغى إليه أذنه فلم ينصرف حتى يكون هو الذي ينصرف عنه وما تناول أحد بيده إلا ناوله إياها فلم ينزع حتى يكون هو الذي ينزعها منه.
          وعن حلمه يروى البخاري يوم حنين ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم الغنائم فقال رجل والله إن هذه لقسمة ما عدل فيها وما أريد بها وجه الله فقلت -أي عبد الله راوي الحديث- والله لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته فأخبرته فقال (من يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله رحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر )
          وعن كرمه يروى الشيخان عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال (ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قط فقال لا ..) وأخرج أحمد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسأل شيئا على الإسلام إلى أعطاه قال فأتاه رجل فأمر له بشاء كثير بين جبلين من شاء الصدقة فرجع الرجل إلى قومه فقال يا قوم أسلموا فإن محمد يعطى عطاء من لا يخشى الفاقة وأخرج ابن عساكر في قصة إسلام صفوان بن أمية عن عبد الله بن الزبير قال: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل هوازن وخرج معه صفوان وهو كافر وقد أرسل إليه يستعيره سلاحه فقال صفوان طوعا أو كرها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عارية رادة فأعاره مائة درع بأداتها فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحملها إلى حنين فشهد حنينا والطائف ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجعرانة فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في الغنائم ينظر إليها ومعه صفوان بن أمية جعل صفوان ينظر إلى شعب ملاء نعما وشاء ورعاء فأدام النظر إليه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يرمقه فقال (أبا وهب يعجبك هذا الشعب) قال نعم قال (هو لك وما فيه) فقال صفوان: ما طابت نفس أحد بمثل هذا إلا نفس نبى أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وأسلم مكانه.

          (د) التوازن النبوي بين الحزم واللين.
          (فرغم ما حباه الله به من الحلم والرأفة إلا أنه الحلم والرأفة التي لا تجاوز حدها فكان صلى الله عليه وسلم يغضب للحق إذا انتهكت حرمات الله فإذا غضب فلا يقوم لغضبه شيء حتى يهدم الباطل وينتهى وفيما عدا ذلك فهو أحلم الناس عن جاهل لا يعرف أدب الخطاب أو مسئ للأدب أو منافق يتظاهر بغير ما يبطن)(4).
          فعن عائشة رضي الله عنها قالت (ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده خادما له قط ولا امرأة ولا ضرب بيده شيئا إلا أن يجاهد في سبيل الله ولا خير بين شيئين قط إلا كان أحبهما إليه أيسرهما حتى يكون إثما فإذا كان إثما كان أبعد الناس من الإثم ولا انتقم لنفسه من شيء يؤتى إليه حتى تنتهك حرمات الله فيكون هو ينتقم لله) رواه أحمد ، وعن جابر رضي الله عنه قال (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه الوحي أو وعظ قلت نذير قوم أتاهم العذاب فإذا ذهب عنه ذلك رأيته أطلق الناس وجها وأكثرهم ضحكا وأحسنهم بشرا) رواه البزار. ولما نكث بنو قريظة العهد وتحالفوا مع الأحزاب على حرب المسلمين ثم رد الله كيدهم في نحورهم وأمكن الله رسوله منهم رضوا بحكم سعد بن معاذ كما رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فحكم سعد أن تقتل رجالهم وتسبى نساؤهم وزراريهم فتهلل وجه الرسول وقال (لقد حكمت فيهم بحكم الملك من فوق سبع سماوات) فقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم في يوم واحد أربعمائة رجل صبرا. وروى ابن إسحاق في قصة أسرى غزوة بدر قال: ومنهم أبو عزة الشاعر كان محتاجا ذا بنات فقال يا رسول الله لقد عرفت مالي من مال وإني لذو حاجة وذو عيال فامنن علىّ فمن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ عليه أن لا يظاهر عليه أحد فقال أبو عزة في ذلك شعرا يمدح به رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم إن أبا عزة هذا نقض ما كان عاهد عليه الرسول ولعب المشركون بعقله فرجع إليهم فلما كان يوم أحد أُسر فسأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يمن عليه أيضا فقال النبي صلى الله عليه وسلم (لا أدعك تمسح عارضيك وتقول خدعت محمدا مرتين) ثم أمر به فضربت عنقه. وعن المسور بن مخرمه رضي الله عنه قال خطب علىّ بنت أبى جهل وعنده فاطمة فسمعت بذلك فاتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يزعم قومك أنك لا تغضب لبناتك وهذا على ناكح ابنه أبى جهل فقام النبي صلى الله عليه وسلم فتشهد وقال أما بعد فإني أنكحت أبى العاص بن الربيع فحدثني وصدقنى وإن فاطمة بضعة منى يريبنى ما يريبها والله لا تجتمع بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنت عدو الله أبدا قال فترك علىّ الخطبة. إنه اللين الذي لا يعرف الخور والحزم الذي به تكون الرجال فصلوات الله وسلامه عليه.

          لقد سجل لنا التاريخ سير آلاف المصلحين والزعماء الذين عاشوا مناضلين من أجل فكرة أو مبدأ أفاد شعوبهم أو الإنسانية عامة ولكن لم تجتمع كل المبادئ الطيبة إلا في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في البيت والقيادة والأخلاق والعبادة والكثير من أوجه الحياة التي استنارت بمبعثه فصلوات الله عليه في الأولين والآخرين.
          يتبع لاحقاً

          تعليق


          • #35
            حق النبي صلى الله عليه وسلم علينا

            حق النبي صلى الله عليه وسلم علينا


            الحب



            الحب: كلمة جميلة محببة للنفوس، ترادفها كلمات أخرى في القاموس العربي مثل الود، ولها علاقة وطيدة بكلمات أخرى كالشفقة والرحمة، والعطف، وينبني عليها سلوك عملي يظهر على المحب تجاه من يحبه، من الأعيان، أو ما يحبه من الأقوال والأفعال والأحوال، ويتمنى كل مخلوق حي أن يعيش في عالم هذه المصطلحات المريحة في يومه وليلته، وفي بيته وشارعه وعمله، وفي إقامته وسفره لتضفي عليه جواً من السكينة والطمأنينة، والهدوء والراحة، وتخفف عنه أعباء الحياة ومشكلاتها ومشاغلها، بل لتقلب هذه الأعباء إلى لذائذ يستمتع بها، وقد يتعجب من يقرأ هذا الكلام فهل ممكن أن يكون كذلك؟ وكيف لايكون كذلك والتاريخ شاهد أيّما شاهد لأولئك الجيل الذين غمر قلوبهم حب الله تعالى وحب رسوله صلى الله عليه وسلم؟ كيف حولهم هذا الحب من أقل الناس شأناً إلى أن يسودوا الدنيا، وينشروا الخير والرحمة والإحسان في أقاصيها، ونقلهم هذا الحب من ذيل القائمة، إلى أن يكونوا قادة الناس وقدوتهم؟

            الحب: شجرة سامقة، تثمر ثماراً يانعة، متعددة الاغصان، أصلها ثابت في القلب، وفروعها ممتدة ومتفرعة.

            والحب: درجات ومنازل، والمحب يتنقل بينها فيعطي كلاً نصيبه منه بلا زيادة ولا نقصان.

            والحب: حقيقة لا يجوز تجاهلها، ولكن قد يصرف لغير أهله، أو في غير محله، ومن ثمّ فلا يؤدي غرضه، ولا يورث خيره، بل قد يكون وبالاً على صاحبه.

            * * * *

            وإذا كان ذلك كذلك فليس هنا مقام تفضيل درجات الحب، ولا مراتبه ولا تفصيلها، ولكننا نغوص في بحر حب من أعظم أنواعه وأجلها، وأرفعها قدرها، وأعمقها جذراً، وأعلاها مقاماً.

            هذا الحب – أزعم أن كل مسلم يدعيه، وآمل أن يكون مبرهناً على زعمه وصدقه في أقواله وأعماله.

            هذا الحب هو محبة الحبيب محمد عليه الصلاة والسلام وما جاء به من عند الله تعالى.

            هذه المحبة التي يجب أن تكون عميقة في نفوسنا، متجذرة في قلوبنا، تلهج فيها ألسنتنا، وتنطق بها أقوالنا، وتترجمها أعمالنا وسلوكنا، هذه المحبة عقيدة يجب أن نعتقدها، وندين الله تعالى بها، نرجوا بها الثواب، والرفعة عند الله تعالى، والصحبة لنبيه صلى الله عليه وسلم ومرافقته في الجنة، والشرب من حوضه.

            هذه المحبة: التى تمثل لنا زاداً إيمانياً يكون حادياً لنا في السير في هذه الحياة فتتسهل بها الدروب ونتخطى بها العقبات.

            هذه المحبة التي تتعدل بها الأخلاق وتستقيم بها المعاملة فيظهر الصدق و الإخلاص وحسن الظن و القول الحسن واللين في المخاطبة و العفو و التسامح و الصفح.

            هذه المحبة ممتدة مع امتداد الزمن نحيا عليها ونموت عليها، نربي عليها أنفسنا، ونقوّم فيها أعمالنا، كل يوم يزيد من حبنا للمصطفى صلى الله عليه وسلم حتى نلقى الله تعالى على ذلك.

            وهي من خير ما يخلف الأبناء و البنات فينعمون بهذا الحب العميق فيضفي على حياتهم السعادة دنيا وأخرى.

            * * * *

            هذه المحبة لا يجوز أن تكون دعوى دون تطبيق عملي فإن كانت كذلك فلا يتجاوز حبلها أن ينقطع فالدعوى سريعة الانكشاف قصيرة الأمد.

            ولا يجوز أن تكون مخصصة في مكان دون آخر فهذا مشهد يبطله المشهد الآخر.

            ولا يتجاوز أيضاً أن تكون مخصصة في زمان دون آخر فهذا مشهد آخر مزعوم.

            ولا يجوز أن تكون في حالة دون أخرى فهذا مما يبطل دعوى هذا الزعم.

            * * * *

            محبة النبي صلى الله عليه وسلم اعتقاد بالقلب : يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين).

            وقول باللسان وعمل بالجوارح يظهره في الواقع التطبيق والسلوك قال تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ) فإذا كان إتباع النبي صلى الله عليه وسلم دليلاً على محبة الله فهو دليل من باب أولى على محبة نبيه صلى الله عليه وسلم.

            محبة النبي صلى الله عليه وسلم منهج حياة متكامل يعيش فيه الإنسان المسلم متمثلاً بحق : شهادة أن محمد رسول الله .

            يتمثل هذا المنهج بوضوح في :-

            - الإيمان بأن محمداًُ عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .

            - الإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.

            - اعتقاد محبته عليه الصلاة والسلام في القلب.

            - تقديم هذه المحبة على محبة النفس و الوالد والولد و الزوجة و الزوج و الناس أجمعين .

            - العمل بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم دون زيادة فيها أو إحداث فيها ما ليس منها أو النقص منها.

            - الاستسلام والتسليم لما جاء به من أخبار وعدم الاعتراض.

            - كثرة الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم.

            - نشر سيرته وسنته وأخذ العبرة و الدروس منها .

            - الدفاع عنه وعن سنته عليه الصلاة والسلام .

            - التخلق بأخلاقه و الإقتداء به في جميع شؤون الحياة وفي المخبر والمظهر.

            - محبة رضوان الله عليهم.

            - ومحبة آله وأصحابه ومعرفة حقهم ومنزلتهم رضوان الله عليهم.

            - محبة أحبابه المؤمنين الصادقين.

            - محبة ما أحبه عليه الصلاة والسلام ومعاداة من عاداه.

            وأخيراً صياغة الحياة كلها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية و التربوية..... الخ، والفردية و الأسرية و المجتمعية، وفق شرعه سنته عليه الصلاة والسلام.

            * * * *

            هكذا المحبة الحقة فهل نحب محمداً صلى الله عليه وسلم ... آمل أن يكون كذلك، رزقنا الله ذلك وجمعنا الله به وأحبابنا مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين و الشهداء و الصالحين وحسن أولئك رفيقا ،

            ونلتقي معاً على المحبة بإذن الله

            تعليق


            • #36
              أدبُ الصحابةِ رضيَ اللهُ عنهم مع النبي صلى الله عليه وسلم

              أدبُ الصحابةِ رضيَ اللهُ عنهم مع النبي صلى الله عليه وسلم


              قال الله تعالى: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا،لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ) (الفتح:8،9)فأوجب عز وجل تعزيره وتوقيره صلى الله عليه وسلم، وألزم إكرامه وتعظيمه، قال المبرد:( وَتُعَزِّرُوهُ): ((تبالغوا في تعظيمه))، ونهى عن التقدم بين يديه بالقول وسوء الأدب بسبقه بالكلام، فقال عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ) في إهمال حقه، وتضييع حرمته (إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).
              وقال جل وعلا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ، إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ، إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) (الحجرات:1-4)، إلى غير ذلك من آيات الذكر الحكيم الآمرة بالأدب العالي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد امتثل الصحابة رضوان الله عليهم تلك الأوامر الإلهية، فحفظوا حقوق سيد البرية، وتأدبوا معه صلى الله عليه وسلم بما يليق بمقامه الشريف، وفضله المنيف.

              ففي قصة صلح الحديبية أن عروة بن مسعود (جعل يرمق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعينيه، قال ((فو الله! ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وَضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يُحِدُّون إليه النظر تعظيمًا له))، فرجع عروة إلى أصحابه، فقال: ((أي قوم! والله! لقد وفدت على الملوك؛ وفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله! إن رأيت ملِكًا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدًا) الحديث.رواه البخاري (5/330- فتح)، وأبو داود (2765)، وأحمد (4/323-331)،وانظر: ((فتح الباري))(5/341).
              وفي نفس القصة أن عروة بن مسعود دخل على النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل يحدثه، ويشير بيده إليه، حتى تمسَّ لحيته، والمغيرة بن شعبة واقف على رأس رسول الله صلى عليه وسلم بيده السيف، فقال له: ((اقبض يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن لا ترجع إليك!)) فقبض يده عروةُ. رواه البخاري (5/330- فتح)، وأبو داود (2765)، وأحمد (4/323-331)،وانظر: ((فتح الباري))(5/341).

              وُروي أن عمر عمد إلى ميزابٍ للعباس على ممر الناس، فقلعه، فقال له: ((أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي وضعه في مكانه))، فأقسم عمر: ((لتصعدنَّ على ظهري، ولتضعنه موضعه)).أخرجه أحمد (1/210)، وابن سعد (4/20)، وضعفه الشيخ أحمد شاكر لانقطاعه، رقم (1790) تحقيق ((المسند)).
              وعن أبي رزين قال: قيل للعباس))أنت أكبرُ أو النبي صلى الله عليه وسلم؟)) قال))هو أكبر، وأنا ولدتُ قبله)).عزاه الهيثمي في ((المجمع))(9/270)إلى الطبري، وقال))رجاله رجال الصحيح)).

              ولما قدم رسول الله المدينة، نزل على أبي أيوب، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم السفل، ونزل أبو أيوب العلو، فلما أمسى، وبات؛ جعل أبو أيوب يذكر أنه على ظهر بيتٍ رسول الله صلى الله عليه وسلم أسفل منه، وهو بينه وبين الوحي، فجعل أبو أيوب لا ينام يحاذر أن يتناثر عليه الغبار، ويتحرك فيؤذيه، فلما أصبح غدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((يارسول الله! ما جعلت الليلة فيها غمضًا أنا ولا أم أيوب))، فقال: " ومم ذاك يا أبا أيوب؟ " قال: ((ذكرت أني على ظهر بيتٍ أنت أسفل مني، فأتحرك، فيتنار عليك الغبار، ويؤذيك تحركي، وأنا بينك وبين الوحي)) الحديث.رواه أحمد (5/415)، ومسلم (2053)، والطبراني في ((الكبير))(3986)، والحاكم (3/460-461)، وصححه على شرط مسلم(!)، ووافقه الذهبي(!).

              وعن أبي أيوب رضي الله عنه قال: ( لما نزل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: ((بأبي وأمي إني أكره أن أكون فوقك، وتكون أسفل مني))، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أرفق بنا أن نكون في السُّفل لما يغشانا من الناس "، فلقد رأيت جرَّة لنا انكسرت، فأهريق ماؤها، فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة (القطيفة: كساء له خمل) لنا، وما لنا لحاف غيرها ننشف بها الماء فـَرَقـَـًا (الفَرَق: الخوف) من أن يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منا شئ يؤذيه)الحديث.رواه مسلم (2053)، والطبراني في ((الكبير)) رقم (3855)، واللفظ له.

              وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: ((.. وما كان أحدٌ أحب إليَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أجلَّ في عينيَّ منه، وما كنت أطيق أن أملأ عينيَّ منه إجلالاً له، ولو سُئلت أن أصفه ما أطقتُ، لأني لم أكن أملأ عينيَّ منه)).رواه مسلم رقم (121)(1/112).

              ولما أذنت قريش لعثمان في الطواف بالبيت حين وجَّهه النبي صلى الله عليه وسلم إليهم في القضية أبى، وقال: ((ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم)).انظر:) (سير أعلام النبلاء))( 3ك290-291).
              وفي حديث قـَيْلَة: ((فلما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسًا القرفصاء أرْعِدتُ من الفـَرَق، وذلك هيبةَ له وتعظيماً)).انظر: ((الإصابة))( 8/83-87).
              وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: ((إن كان ليأتي عليَّ السنةُ، أريد أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شئ، فأتهيَّبُ منه، وإن كنا لنتمنى الأعراب)).عزاه الحافظ في ((المطالب العالية))( 3/325) إلى أبي يعلى، وسكت عليه البوصيري في ((مختصر إتحاف السادة المهرة))(1/28).
              عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((كانت أبواب النبي صلى الله عليه وسلم تـُقـْرعُ بالأظافير)).رواه البخاري في ((الأدب المفرد)) رقم(1080)، وصححه الألباني في ((الصحيحة)) رقم (2092).
              وعن أبي حازم عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه: (أنه كان في مجلس قومه وهو يحدثهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعضهم يقبل على بعض يتحدثون، فغضب، ثم قال: (انظر إليهم أحدثهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعضهم يقبل على بعض؟! أما والله، لأخرجن من بين أظهركم، ولا أرجع إليكم أبداً، فقلت له: ((أين تذهب؟))، قال: ((أذهب فأجاهد في سبيل الله)).رواه الطبراني في ((الكبير))(6/5656،5866).

              تعليق

              يعمل...
              X