إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

العلامة ابن خلدون رائد علم الإجتماع - تقديم فريد ظفور

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • العلامة ابن خلدون رائد علم الإجتماع - تقديم فريد ظفور

    ابن خلدون - رائد علم الإجتماع
    تقديم : فريد ظفور
    من هو العلامة ابن خلدون؟
    ولد عبد الرحمن بن خلدون بتونس عام 732 هـ / 1332م . سليلاً لأسرة من أعرق الأسر العربية اليمنية في حضر موت ، وقد بدأ تعليمه في تونس على يد كبار العلماء والفقهاء ، ولما بلغ الثامنة عشر حدثت حادثتان عاقتاه عن مواصلة الدراسة ، أخطرهما وأعظمهما أثر الطاعون الجارف الذي انتشر سنة 749هـ في معظم البلاد شرقية وغربية وقد كان الطاعون نكبة كبيرة بالنسبة لابن خلدون فوصفها بأنها "طوت البساط ما فيه" فقد هلك الأعيان والصدور والمشايخ وهلك أبواه مما كان له الأثر السيء لدى ابن خلدون فعاقه ذلك عن التحصيل والتعليم ، والحادث الثاني الهجرة التي انتجتها نكبة الجفاف فهاجر معظم العلماء والأدباء من تونس إلى المغرب الأقصي سنة 750هـ.
    وقد حدثنا الأديب الدكتور المرحوم طه حسين في مؤلفه "فلسفة ابن خلدون الاجتماعية" والذي ترجم بقلم محمد عبد الله عنان عن حياة العلامة ابن خلدون:-
    ( توقف ابن خلدون عن الدراسة وأخذ يتطلع لتولى الوظائف العامة في الدولة وكان أول وظيفة تولاها لدى حاكم تونس في تلك الفترة هي وضع عبارة "الحمد لله والشكر لله" بالقلم الغليظ فيما بين البسملة وما بعدها ومن مخاطبة ومرسوم، ثم قبل منصباً أخر على كره منه لدى ملك المغرب الأقصى إذ نظمه في مجلسه واستعمله في كتابته والتوقيع بين يديه، وقد كره هذه الوظيفة لأنها لا تليق به إذ كان يطمع في الوزارة فاشترك في الدسائس و المؤامرات السياسية التي كثيراً ما انتهت به إلى السجون، وتوالت عليه بعد ذلك الوظائف فقد كان الحكام يخطبون وده ، فقضى فترة في التنقل بين المغرب الأقصى وبلاد الأندلس ، يراقب عن كثب الحوادث السياسية وما تنطوى عليه من ظواهر وقوانين تخضع للبحث الاجتماعي) إلى هنا وانتهي حديث العلامة الدكتور طه حسين عن العلامة ابن خلدون، ونستطيع أن نفهم من حالة الاضطراب الذي كان يعيشه ابن خلدون قيمة نظرياته في الدولة والسياسة فلكي تتمكن من قراءة الأفكار تحتاج لفهم محيط انتاجها والعوامل التي اسهمت في تفاعيل الأخذ بها والامساك الحقيقي على كيف انبنت مثل هذه المفاهيم والعينة الاجتماعية التي طبقت فيها مثل هذه الأفكار! ، وابن خلدون من المراجع السياسية لفهم المجتمعات العربية وبالذات في فترة تفكك السلطة المركزية لدى العرب والتي كانت ممثلة في حكومة كونية مثالية الطابع في مدينة رسول الله ثم في عهد خلفائه الراشدين ومن ثم الدولة الأموية ومن بعدها العباسية ولنا أمثلة كثيرة بافتراض ان ابن خلدون لم يكن يتمتع بفكر مستقل نسبة للحالة التي كانت تعيشها المجتمعات المسمية مجازاً عربية فقد كان المقصد أنها تدين بالإسلام ، ويرى البعض من حياة بن خلدون انه كان متشائماً وقارنوا بينه وبين أبي العلاء المعري في التشاؤم ، ويقارن فريرو ابن خلدون بميكافيلي ويري أن حياته السياسية الجمة الاضطراب في منشأ تشاؤمه ، ويعرض الدكتور طه حسين في مؤلفه سابق الذكر أن ابن خلدون وفي أخر أيامه أي قبل وفاته بخمس أعوام كان يحاول نيل الحظوة لدى تيمورلنك؟! فأين فكره السياسي المعتدل في تصرف مثل هذا؟
    وحياة ابن خلدون السياسية في المناصب بين مد وجزر فحظه السيء في السلم السياسي وتعثره الواضح في نيل ما تتوق إليه نفسه من المناصب العالية كأن يريد أن يصبح وزيراً لدى حاكم تونس ولم ينجح ، فهجر المناصب وسئم السياسية واعتزل فأقام أربعة أعوام بالجزائر بلا عمل ، وكان يبلغ من العمر الخامسة والأربعين وهي فترة من النضج الفكري والسياسي ويلاحظ في فلسفة ابن خلدون نزوعه نحو التشاؤم أحياناً حتى شبهه البعض بالكيان العالمي المتشائم الحكيم الإنساني أبو العلاء المعري ، وذهب كثيرون من دارسي فلسفة ابن خلدون الاجتماعية والسياسية خاصة إلى تشبيهه بميكافيلي ، ولكن ابن خلدون له أيادي بيضاء على المفكرين والتاريخيين المعاصرين فهذا أبو التاريخ البشري "أرنولد توينبي" يقول( المقدمة هو أعظم عمل اجتماعي سياسي إنساني منذ فجر البشرية) ، ولكننا نناقش ابن خلدون السياسي الذي ونتتبع تاريخه السياسي لنلاحظ التخبط السياسي الذي كان يعانيه بين سياسي متسلق يتملق الحكام ويشترك في الدسائس والمؤامرات الفاشلة وبين مزاجه الساخر والفهم العنصري لمعني الدولة فقراءة علمية لنظريته في العصبية توضح كيف كان ابن خلدون العالم الاجتماعي الانثربولوجي يري الدولة ويقسمها إلى مراحل تكوين ونشأة وبلا خوض دقيق في أسس النظرية ولذلك لعوامل كثيرة يتضح من سياق استقراءاته للواقع العربي الممزق حينها فيحكم على تطور المجتمعات العربية بفهم برغماتي تنقصه الرؤية العلمية والمسألة الأخلاقية وبمحاولة علمية نحاول قراءة مفاهيمه أو نظريته حول نشأة العمران البشري :
    يقول ابن خلدون في المقدمة – تحقيق الدكتور على عبد الواحد وافي :-
    "إن الاجتماع البشري الإنساني ضروري "فالإنسان مدني بالطبع" فالبشر لا يمكن حياتهم ووجودهم إلا باجتماعهم وتعاونهم على تحصيل قوتهم وضروراتهم . وإذا اجتمعوا دعت الضرورة إلى المعاملة واقتضاء الحاجات ، ومد كل واحد منهم يده إلى حاجته يأخذها من صاحبه"
    هنا ابن خلدون يختلق مفاهيم ضاربة في الشوفينية بأن يقول مثلاً محللاً ومفسراً نظرية النشاط العمراني بأن يربط مسألة القوة كمذهب إنساني أصيل ولا يتعدى في فهمه المجتمع العربي ويحكم على التطور الإنساني بشكل أكبر ، فكيف يحدد ابن خلدون ملامح تظور المجتمعات ولا يراعي مسألة التقدم الأخلاقي الذي يغير من القوة كمذهب ، وهنا يختلف مع استاذه افلاطون "وإن قال البعض بأنه لا علاقة لابن خلدون بالفلسفة اليونانية ولكننا نختلف ونتعجب من ذلك ، فقد أفاد كل فلاسفة العرب من المدارس اليونانية وخاصة أخلاقية إفلاطون " فإفلاطون يري وإن كان مثالياً " لتطور المجتمع شيئاً أكبر وهو "الأخلاق ، فالأخلاق هي انسجام فعال في المجموع".
    ولابن خلدون آراء جديرة بالنظر ففلسفته حول الدولة تستحق إعادة القراءة ولكن بفهم جديد ونقد جديد فالفلسفة الإسلامية السياسية هي فلسفة مثالية الطابع لأنها لم تستطع تحرير الإرادة السياسية من سلطة النص الديني أي لا تتمكن من الفصل بين الوعي الإنساني "بما فيه من علوم إنسانية " كمنفذ أصيل للحكم وبين الاعتبارات الواهية والوهمية للنص التراثي ففشلت في إدارة تفكيك يؤدي إلى نتائج إيجابية تمنح السياسة طريقها الواضح لحكم الناس، ويبدو لي أن السياسة لا علاقة لها بالنص التراثي لأنها علم يمكننا تحريره بقول " كثرة البشر تعني تنوع الآراء" فكيف يمكن سجن إرادة الرأي عند التكنهات حول أسس وأصول نص ديني يتنازع حوله العلماء والمفسرون؟


    ابن خلدون مؤسسً علم التاريخ
    1- التاريخ بين المفهوم الحدثي و المفهوم العلمي:
    يميز ابن خلدون من خلال تأصيل نظري متميز بين المفهوم التجريبي للتاريخ و المفهوم العلمي ، و يبين إشكاليته الرئيسية التي تتمثّل باعتقاد سطحي يماثل بين باطن الظواهر وبين مظهرها وبالتالي يكتفي من التاريخ بمجرد ربط أحداثه أو سردها بهدف التسلية أو لغرض وعظي أخلاقي أي التأريخ ، إنّ هذا المفهوم الإخباري الحدثي يكون عبارة عن نقل عن ناقل وصولاً إلى المصدر الأول ، الذي هو عينٌ رأتْ من الأحداث مظهرها الخارجي فقط ، وافتقرتْ إلى الحد الأدنى من الانتقاد و التحليل ، أو بالأحرى لم تمتلك من الأدوات المعرفية ما يؤهّلها لمثل هذا الأمر ، وبهذا يلتقي هذا المفهوم التسليمي الذي يقرّ بما يراه كما هو مع المفهوم الديني للتاريخ و يتطابق معه إلى حدًّ بعيد وهذا ليس بمستغرب طالما أن الأيديولوجية المعبّرة عن السلطة السياسية للفئات الحاكمة كانتْ الإيديولوجية الدينية ، فكل ما في الكون من موجودات أو أحداث يُردّ خطيّاً إلى الله باعتباره أولها و باعتباره وجوداً مطلقاً ، لذا يستحيل في ظل هكذا رؤية تجريبية دينية امتلاك التاريخ كظاهرة مكتملة ... كعلم له أسسه الموضوعية و قوانينه ومرتكزاته النظرية ، لهذا السبب يؤكد ابن خلدون أن التاريخ ليس مجرد حشد عشوائي من الأحداث و إن بدا ظاهريّاً كذلك ، فعلى العين الخبيرة الفاحصة أن تستكشف الباطن فلو (( كان مظهر الأشياء متطابقاً مع جوهرها لغدا العلم أمراً نافلاً )) على حد تعبير ماركس ( 1 ) ، و من أجل بلوغ هذا الباطن يتوجب امتلاك أدوات نظرية ومنهج واضح المعالم ، بحيث تشكل سويّةً نسقاً علميّاً متكاملاً فلا بد (( من تحديد الواقع التاريخي وتحديد العلم التاريخي ، بمعنى أن بنية هذا الواقع التي هي موضوع معرفة ، هي التي تحدد شكل مقاربته )) ( 2 ) ، فالتاريخ هو علم بكيفيات الواقع ، ولا بد من تمييز الظاهري في الواقع من الباطني الجوهري ، وبين الخبر والواقعة العمرانية ( الاجتماعية ) ، فالممارسة التاريخية حين تحكمها المادة الإخبارية تستحيل سرداً أي تعرض الأحداث وفق تسلسلها الزمني دون تـفسير حقيقي لها أو أنها تـفسرها بأحداث أخرى فتبقى في مسار ركودي دوراني لا ينتج معرفة حقيقية .
    إن الواقع التاريخي يمثل بنيةً معقدة تتألف من أحداث مترابطة وناظمها قواعد معينة هي التي أنتجتْ الحدث التاريخي وجعلتْ حدثاً ما ممكناً ضمن مرحلة تاريخية معيّنة و حدثاً آخر مستحيلاً ، فمن خلال قراءة الأحداث يجب التوصل إلى أسبابها و اكتشاف العلاقات فيما بينها ، وبذلك يتمّ تجاوز الفهم التجريبي للتاريخ و الانتقال إلى فهم سببي و تتحقّق القفزة الخلدونية من المفهوم السردي الما قبل علمي للتاريخ إلى المفهوم العلمي ، من خلال الانتقال دوماً من الحدث إلى الواقع ، فليكون الحدث موضوعاً لمعرفة علمية لا بد من ربطه بقاعدته المادية التي أنتجته ، إن ابن خلدون يقول أن علم التاريخ (( نظرٌ و تحقيق )) ( 3 ) ، وبهذا رفضٌ للسرد والإخبار وتـنويه لضرورة تأسيس نظرية متماسكة تكون نقطة الانطلاق في عملية الإنتاج المعرفي للفهم التاريخي ، ويتحدد مفهوم ابن خلدون للتاريخ من خلال عبارتين :
    1 – التاريخ (( تعليل للكائنات ومبادئها )) ( 4 ) ويعني بذلك معرفة علّة الشيء أو الحدث وسببه أي سبب وجود الواقع المبحوث في الشكل القائم عليه .
    2 – التاريخ (( علمٌ بكيفيات الوقائع وأسبابها )) ( 5 ) بمعنى البحث في أسباب حركة الواقع والنظر إليه كصيرورة متحولة وفق هذه الأسباب ، ... نستشف من ذلك أن التاريخ عند ابن خلدون هو الواقع الاجتماعي أو الكل الاجتماعي منظوراً في أسباب وجوده و أسباب حركته و تغيراته ، فلا بدّ من التمحيص في بنية الكل ومعرفة القوانين التي تحكم ترابطه الداخلي الذي هو أساس تماسكه ككل اجتماعي .
    2 – السببية التاريخية :
    إن الإشكالية الرئيسية في الفهم التجريبي للتاريخ الذي كان سائداً في المرحلة ما قبل الخلدونية هو أن التاريخ يستحيل أحداثاًً لا رابط حقيقي جوهري فيما بينها ، سوى كون السابق سبباً لما هو لاحق ، فقط لكونه سابقاً عليه زمنياً ، ... في الواقع إن هذه السببية الميكانيكية الحدثية سببية ظاهرية فقط لأنها لا تقوم على ترابط داخلي حقيقي بين الأحداث بل ترابط شكلي فقط ، ممّا يبدّد المفهوم العلمي للتاريخ ويمنع تحصيل أي نِتاج معرفي حقيقي فعلي اللهمّ إلّا تكويم الأحداث وفق محورين إحداثيين أحدهما للزمن و الآخر للأحداث ، و يمكننا أن نلاحظ بوضوح المنطق المثالي الذي كان سائداً في تـفسير التاريخ على أنه تاريخ الملوك والخلفاء و عِليّة القوم وأكبر دليل على ذلك أن الكتابة التاريخية كانت تقوم على أساس تعاقب الملوك و الخلفاء أو التقسيم الزمني الرقمي ، أمّا فكرة التاريخ المُتمرحِل على أسس مادية اجتماعية فلم تكن قائمة و لم يكن التاريخ سوى التعاقب الحدثي لأفراد معينين من البشر في أوقات معينة .
    أمّا في المفهوم العلمي الخلدوني يكون السبب علاقةً اجتماعية محددة تتجلّى من خلال أحداث معينة ، فعلى الباحث إذا ما أراد توضيح جوهر هذه الأحداث أن يتملّك أدواتٍ معرفية معينة تكون سبيله لذلك ، و طبعاً لابد من بناء مفاهيم نظرية تضع ما هو واقعي في صيغ تجريدية تشكل أبجدية أي علم ( التعصب – الملك – التغلب .... ) وعبر هذه المفاهيم يتمّ الولوج إلى الجانب الخفي في الأحداث التاريخية المتراكمة أمام الباحث و يستكشف من خلالها القوانين التي تحكم الواقع الاجتماعي ، و يصل إلى قانون الحركة الاجتماعية ، والباحث من خلال امتلاكه هذه القوانين لا يتمكن فقط من إنتاج المعرفة التاريخية ، بل يستـشف آفاق التطوّر التاريخي ، أي الواقع الاجتماعي في صيرورته التطورية ، وهنا تقوم عملية التـنبؤ التاريخي على أساس علمي بعيد عن المثالية و الغيبية ، إن الضرورة التاريخية هي منطق الاجتماع البشري ، إنها الضرورة التي حكمت بانتقال المجتمع من البداوة إلى الحضارة ، و انتقال الدولة من طور إلى طور : ( طور الظفر، طور الاستبداد، طور الفراغ و الدعة، طور المسالمة، طور الإسراف ، طورالانحلال ) هذا هو لب السببية التاريخية الخلدونية التي من خلالها يتمرحل التاريخ و يسير من الدرجات الدنيا إلى العليا و يكتسب نوعاً من الحتمية .
    3 – موضوع علم التاريخ :
    يتحدد موضوع علم التاريخ عبر صلته بعلم العمران و علاقته العضوية به، فموضوع التاريخ هو البحث في أسباب الوقائع الاجتماعية ، أي القوانين التي تحكم الاجتماع البشري في واقعه وفي حركته التاريخية ، فالاجتماع هو عبارة عن علاقة عمرانية بين البشر و العالم تظهر بشكل متغير تاريخياً ، و العمران يعني بناء العالم اجتماعياً و تـنظيمه وتحويله بحيث يغدو عالماً بشرياً، بمعنى هو شكل محدد لتملّك العالم اجتماعياً و يمر بأطوار متعددة وفق قوانين الاجتماع البشري ، إن علم العمران ( الاجتماع ) الخلدوني ذو أساس مادي يقوم بالدرجة الأولى على كون ابن خلدون يرى فيه مجمل العلاقات التي تـنشأ بين البشر من خلال علاقتهم بعالمهم ، فالمجتمع ينشأ عبر أعمال البشر ومساعيهم من الكسب والمعاش و العلوم والصنائع وعبرها يكون التملك ، وهو يختلف باختلاف أحوال العمران وأشكاله مثـل التأنّس والتوحّش أو البداوة و الحضر ، و هنا نستـشف مفهوماً مهمّاً لم يغب عن بال ابن خلدون و هو أن علاقة البشر بعالمهم توافق أشكالاً سياسية و اجتماعية محددة متغيرة تاريخياً وفي هذا دفعة إلى الأمام ، إلّا أن ابن خلدون يُغلِّب علاقة البشر مع بعضهم البعض على علاقة البشر بعالمهم و يؤكد ذلك الحيز الكبير الذي يحتلّه مفهوم العصبية في كتابات ابن خلدون، فموضوع التاريخ إذاً هو عمران العالم فالتاريخ لا يكتسب سمته العلمية إلّا حين يصير تاريخاً اجتماعياً .
    4 - المفهوم العلمي للتاريخ :
    من الأخطاء الكبرى التي يقع فيها الباحثون لا سيما الإسلامويّون النظر إلى الفكر الخلدوني بوصفه فلسفةً تاريخية ، وذلك بغرض إدراجه ضمن الإيديولوجية الدينية التي كانتْ مهيمنة في ظل الحضارة العربية الإسلامية ، ممّا يفقده جِدّته وسبقه المعرفي و العلمي ويجعله مجرد مكمل للفلسفات الإسلامية السابقة ، إن ابن خلدون ينتقل إلى أرض بكر لم تطأها قدمٌ قبله فهو يؤسس علم التاريخ على أساس مادي ، و لا يلجأ كما فعل الفلاسفة السابقون إلى إسقاط قوانين فلسفية قبلية من الخارج لفهم حالة اجتماعية معينة كما فعل الفارابي في مدينته الفاضلة، بل يبحث في مجمل العلاقات الاجتماعية المتـفاعلة في المجتمع و يتمثـل ذلك في دراسته انحطاط الدولة المغربية في القرن الرابع عشر، فهو يدرس النمط الاجتماعي القائم و أسسه المادية في مرحلة تاريخية محددة هي المغرب في القرن الرابع عشر، وبذلك يمكننا أن نميز معالم العلم التاريخي عند ابن خلدون في بحثه أسباب قيام المجتمع و تماسكه و انحلاله .. في بحث القوانين و الأسباب التي ترتبط ببنيته الداخلية .. بمجمل القوى والعلاقات الموجودة في المجتمع .. لا بردّها إلى عوامل غيبية، فابن خلدون يفصل البحث التاريخي عن الفقه و الفكر الديني الذي يرى في قيام الدول وانحطاطها شيئاً قدريّاً مكتوباً وفقاً لمفهوم غيبي ميتافيزيقي يجعل من التاريخ مساراً ركودياً دورانياً ولا يستوعب بناؤه التـناقضي التصاعدي التطوري، وبهذا يكتسب التفسير التاريخي الخلدوني بنيته العلمية وهو في حال وقوعه في الخطأ يكون خطؤه علمياً مشروعاً لكون المعرفة البشرية لا يمكن أن تكون حالة ناجزة بل هي متطورة تاريخياً ، وما قد يكون بمقاييس عصرنا خطأً غير علمي قد يكون بمقاييس القرن الرابع عشر في المغرب خطأً علمياً ، خصوصاًً أن الأسس النظرية التي تنتج المفاهيم و تفسّر الوقائع علمية ، فإن وقع الـخطأ فهو يندرج ضمن تاريخ العلم أمّا النظرة الفقهية فهي حين تقع في خـطأٍ ما يكون خطؤها نابعاً من بنيتها الغيبـية التي تقوم عليها وموافقاً لأدواتها المفهومية التي تـنتج المعرفة الخاصة بها ويندرج ضمن تاريخ الفكر الما قبل علمي ، و علينا هنا أن نتذكر عبارة لافوازييه الشهيرة : (( إن تاريخ العلم هو تاريخ أخطائه )) .
    5 – الطابع الكوني للنظرة التاريخية الخلدونية :
    و تكتسب النظرية التاريخية الخلدونية طابعاً كونياً من خلال تجاوزها المفهوم التجريبي المُسطّح للتاريخ، فابن خلدون ينتقل من الواقع التاريخي لينتج واقعاً نظرياً وليتملّك أدواتٍ منهجية في المعالجة، إن أي مقاربة لواقع تاريخي معيّن لا بدّ من أن تستـند إلى نظرية تكون أساساً لهذه المقاربة، وتتوصل من خلال جدل العلاقة بينها وبين الواقع إلى القوانين الكونية للحركة التاريخية المادية، وهذا ما فعله ابن خلدون حين بحث أسباب الأزمة التاريخية للمغرب ، فانطلق نحو فهم مادي اجتماعي للتاريخ المغربي بغرض القبض على الآلية الداخلية لحركة المجتمعات ولا سيما من خلال تأكيده على مفهوم العصبية القبلية و دورها في صيرورة الدولة، هذا الأمر مكّن ابن خلدون من تقديم تـفسير علمي لتاريخ المغرب، و من ثمَّ الانطلاق إلى مجتمعات أخرى تمر بشروط اجتماعية وتاريخية مشابهة للمغرب للقيام بمقاربات تاريخية، وبعبارة أدق اتخذ ابن خلدون من واقعة تاريخية محددة نموذجاً وهي المغرب وتوصل من خلال دراستها إلى قانونية تاريخية اجتماعية محددة ممّا ملّكه قدرة تحليلية تتجاوز المثال المدروس ( تاريخ المغرب ) و تنتقل إلى دراسة تاريخ مجتمعات تمر بنفس الطور التاريخي، ومن هنا اكتسب العلم التاريخي الخلدوني صفته الكونية ، فمفهوم العصبية بلغ درجة من النضج في المغرب مكّنتْ ابن خلدون من إنتاج نظرية كونية تـنظر إلى العصبية على أنّها القوة المحركة الحاسمة في المجتمعات القبلية ، فقام بتـفسير صعود وانحلال الدولة العباسية و الأموية و غيرها من الدول معتمداً بشكل أساسي على مفهوم العصبية .
    6– القطع المعرفي مع الفكر الديني :
    نعني هنا بالقطع المعرفي الانتقال من بنية معرفية إلى بنية معرفية أخرى متمايزة عنها من حيث مرتكزاتها النظرية و أدواتها المنهجية ، وهذا ما فعله ابن خلدون حين حرّر النظر في الموجودات من هيمنة الفكر الديني الذي لا ينظر إليها لذاتها بل من حيث هي دالّّّة على خالقها ، الذي هو مبدأ كل موجود ، هذا ما فعله ابن رشد في (( فصل المقال )) حين عرف الفلسفة بأنها : (( النظر في الموجودات من جهة دلالتها على الصانع )) ( 6 ) فلم يخرج عن إطار الفكر الديني بل عقْلَنه فقط ، أمّا ابن خلدون فهو يحطّم صنم العقل الفقهي ليبني عقلاً علمياً ينظر في الموجودات لذاتها و يبحث عن ضرورة الواقعات التاريخية والعمرانية في أرض المجتمع دون الاكتـفاء بردها إلى ما هو غيبي ، وبذلك يتأسّس العلم التاريخي في ارتباطٍ عضوي مع العلم العمراني و على أساس فصل الشريعة عنه كشرط أساسي لتكونه كعلم ، حيث يؤكد ابن خلدون أن للعمران أسسه و قوانينه ونُظمه المعرفية و للفقه و علوم الشريعة قواعدها وأسسها ، لذا لا يرى ابن خلدون معنىً لمحاولة إثبات النبوّة عن طريق الدليل العقلي أو البحث في العمران الإنساني لغاياتٍ إلهية مثل إثبات عظمة الخالق ، ويؤكد على أن استقلالية أي علم تكون باستقلال موضوعه ، فالإشكالية المعرفية تكمن في البحث في علم ما لا لذاته بل لغاياتٍ تخدم أغراضاً أخرى أو من أجل الوعظ الأخلاقي أو الحكمة أو خدمةً للدين ، فالبحث في أي علم يجب أن يكون بغرض خدمة هذا العلم ، دون أن يلغي ذلك مبدأ ارتباط العلوم وعلاقاتها المتبادلة .
    (( فالتاريخ من حيث هو علم ، هو تاريخ هذا العمران الذي في صيرورته لذاته موضوع علمٍ مستقل بذاته ، يصير موضوعاً لعلم التاريخ ))

    ( 7 ) .
    لقد حقق ابن خلدون قطعاً معرفياً مع الفكر الديني السابق عليه ، حين ربط تظاهرات العالم المادية المحسوسة بقوانين داخلية موضوعية من صلبه بدلاً من ردّها خطيّاً إلى مبدأ خارجي هو علّة وجوده ، فالعلم ينبغي أن يستقل عمّا هو غيبي حتّى يكتمل مفهومه كظاهرة مستقلة ، و إلا استحال فرعاً من الشريعة أو الفقه، طبعاً لا نقصد بهذا الكلام أن ابن خلدون كان مادياً إلحادياً وفق المفهوم المعاصر، بل إن ابن خلدون ينطلق من أن الله هو السبب الأول للكون و هو منح الإنسان عقلاً و أطلقه لفهم ما في هذا الكون و بالتالي إرادة الإنسان من إرادة الخالق و العقل البشري امتداد للعقل الأكبر ، لكننا يمكن أن نصف ابن خلدون بأنه كان دنيوياً في منهجه و معالجته التاريخية
    secularism .
    7- ملامح المنهج الخلدوني :
    يمكن أن نقول أنّ ابن خلدون جمع بين النظرية والتجريب من خلال المفاهيم المجرّدة التي توصل إليها والمقولات السوسيولوجية التي استـنبطها ( العصبية – البداوة – الملك ) ومن خلال الدراسات الميدانية التي قام بها ، و ما كان ذلك ليتأتّى له إلا من خلال اتباع منهجٍ بحثي كانتْ أبرز ملامحه :
    1 – المنهج التاريخي : يرفض ابن خلدون التسليم بآراء الأسلاف ، وما وصل إلينا سواءً في كتب التاريخ أو من خلال الموروث الشعبي ، فلابد من معالجة المادة التاريخية بنظرة انتقادية ، حيث يعتمد ابن خلدون على مبدأ المطابقة أي التأكد من إمكانية أو استحالة وقوع حدث معين فمنطق الضرورة الاجتماعية لكل مرحلة تاريخية هو الذي يفترض قبول خبر متوارث أو رفضه ، أمّا الأحداث الفردية الخارقة التي قد تتجاوز هذه الضرورة فهي أمر عارض لا يقدم صورةً عن مسيرة المجتمع بأكمله ، حيث يقول : (( قلا تـثـقنّ بما يُلقى إليك من ذلك و تأمل الأخبار واعرضها على القوانين الصحيحة يقع لك تمحيصها بأحسن وجه )) ( 8 ) ويؤكد أن ممارسة منهج النقد العلمي تكون (( بإرجاع الأخبار إلى طبائع العمران )) ( 9 ) .
    2 – ركز بشكل كبير على أهمية الملاحظة ساعده على ذلك خبرته الواسعة كدبلوماسي ورحّالة وكاتب ، فجمع معلوماتٍ واسعة عن العرب و الأمازيغ ( البربر) و الفرس واليونانيين و الأتراك و الرومان، و من خلال هذه المادة الأولية التي جمعها معتمداً على ملاحظاته تمكن من القيام بالمعالجة الانتقادية و (( الكشف عما يحكم الظاهرات العمرانية من قوانين )) ( 10 ) .
    3 – أكد ابن خلدون على ضرورة الأخذ بمنهج المقارنة بين ماضي الظاهرة العمرانية وحاضرها من أجل كشف ما طرأ عليها من تغيرات و رصد تحولات النظم العمرانية تاريخياً ذلك لأن العمران متطوِّر متبدل ، و تتجلّى طريقة المقارنة عند ابن خلدون من خلال :
    أ – مقارنة الدولة في العصور السابقة بالدولة خلال عهده لأن (( أحوال الوجود والعمران متـفاوتة )) ( 11 ) .
    ب – مقارنة مدة حياة الدول مع بعضها خلال حياته .
    ج - مقارنة حياة الحضر مع حياة البدو .
    8 – إشكاليات المعالجة التاريخية عند ابن خلدون :
    على الرغم من الإنجاز العلمي الهام الذي تحقق على يد ابن خلدون إلاّ أن ذلك لا ينفي وقوعه في إشكاليات غير قليلة نتيجة شرطه التاريخي والمواقف التي اتخذها من القضايا الاجتماعية، فلقد اعتبر وجود قوانين موضوعية يخضع لها الناس في مسار حياتهم شيئاً قدريّاً لا يمكن الفكاك منه ، واستبعد أي دور فاعل للإنسان في عملية التغيير الاجتماعي و بهذا المنطق الجبري يلتقي ابن خلدون إلى حدٍّ بعيد مع المنطق الديني ، و من المعروف أن ابن خلدون قام بخيانة بلاده حين تعاون مع المغول الذين جاءوا لاحتلال المنطقة، و نقصد بهذه المعلومة لا الإساءة إلى ابن خلدون العالم من خلال التعرض لتفاصيل حياته الشخصية، إنما التأكيد على جبريّته التاريخيّة فهو برّر عمله هذا بأن المرحلة التاريخية و شروطها تقول بالسيطرة االمغولية و لا فائدة من المقاومة.
    كما اعتبر ابن خلدون السلطة السياسية غاية الغايات ، فبعد أن تتحقق الضرورة الاجتماعية وهي تكوُّن المجتمع لا بد من وجود سلطة سياسية متجسدة في ملك تكون له الغلبة و السلطان واليد القاهرة على الناس ، وليس خافياً الشكل الديكتاتوري لحكم السلاطين الذي كان قائماً على الحق الإلهي في تلك الفترة وما يحمله هذا الكلام من تسويغ لسلطتهم، كما أن موقف ابن خلدون من القضايا الاجتماعية تكشّف بشكل واضح عندما رأى في الفوارق الطبقية أمراً طبيعياً و أزلياً بل هي ضرورية للمجتمع الذي لا يمكن أن يقوم بدونها حيث يقول : (( إن الجاه متوزع في الناس و مترتب فيهم طبقة بعد طبقة ينتهي في العلو إلى الملوك الذين ليس فوقهم يد عالية ، وفي السفل إلى من لا يملك خيراً ولا نفعاً بين أبناء جنسه ، وبين ذلك طبقات متعددة ... فقد تبين أن الجاه هو القدرة الحاملة للبشر على التصرف فيمن تحت أيديهم من أبناء جنسهم بالإذن و المنع و التسلط بالقهر و الغلبة ليحملهم على دفع مضاربهم )) ( 12 ) ، على كل حال يبقى ابن خلدون قامة سامقة في فضاء العلم التاريخي و العلم الاجتماعي و كان من سوء حظه أنّه جاء في فترة انحلال الحضارة العربية الإسلامية و انحطاطها ، فكان أشبه بالشهاب البارق الذي لمع و خبا دون أن يلتفت إليه أحد ، إلا أن البحوث الحديثة في الشرق و الغرب بدأت برد الاعتبار إلى هذا العلّامة و أقرّت بفضله الكبير على العلم التاريخي و العلم الاجتماعي ، وظهر من الباحثين الغربيين من يعتبر ابن خلدون المؤسس الحقيقي لعلم الاجتماع .


يعمل...
X