إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

للشاعر صالح أحمد «مدن المواجع» - بقلم فراس حج محمد

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • للشاعر صالح أحمد «مدن المواجع» - بقلم فراس حج محمد

    قراءة في ديوان
    «مدن المواجع» للشاعر صالح أحمد


    بقلم فراس حج محمد



    صدر للشاعر الفلسطيني صالح أحمد ديوان شعر بعنوان «مدن المواجع» عن دار معين حاطوم للنشر، عام 2011، ويقع الديوان في (120) صفحة من الحجم الوسط، ويتكون الديوان من إحدى وثلاثين قصيدة، لم يكن فيها أي قصيدة على النمط التقليدي لموزون الشعر العربي، ويصرّ الشاعر الذي كتب مقدمة للديوان على أن مجموعته الشعرية هذه، هي خواطر شعرية، «تحمل روحه وفكره وحسه»، عدا ذلك يقدم الشاعر وجهة نظره حول الشعر في تلك المقدمة القصيرة، فيقول: «فليس كل موزون يرقى إلى مقام الشعر، وليس خلو الكلمات من الوزن ما ينأى بها عن آفاق الشعر، ولكن تبقى روح الكلمات والتعابير والصور هي الميزان.»/الديوان(3) وقبل التجول في عوالم مدن الوجع، أقف وقفة قصيرة للتعريف بالشاعر، إذ إنه ولد عام 1961 في قرية عرابة البطوف قضاء مدينة عكا، أنهى دراسته الثانوية في مدينة عكا، وحصل على شهادة الماجستير في الأدب العربي من جامعة بارإيلان- تل أبيب، يعمل محررا للزاوية الأدبية (عالم الأدب) في صحيفة صوت الحق والحرية التي تصدر كل يوم جمعة في مدينة أم الفحم في المثلث.
    أصدر الشاعر حتى الآن عدا مدن المواجع مجموعة من الدواوين الشعرية، منها: أحلى نداء (1985)، سبع عجاف (1991)، مدارات الروح (2001)، الخماسين (2002)، بالإضافة لذلك فقد أصدر الشاعر عام (1987) مسرحية بعنوان الصرخة، ودراسة أدبية بعنوان «المذهبية في الأدب العربي من الجاهلية وحتى أواخر العصر العباسي»، ينشط الشاعر في العديد من المواقع الأدبية الإلكترونية، بالإضافة إلى أنه ينشر بشكل منتظم تقريبا خواطره الشعرية والنثرية على صفحات صحيفة صوت الحق والحرية.
    يتميز الشاعر صالح أحمد بأنه أحد الأصوات الخاصة، فلم يلجأ إلى تقليد أحد من الشعراء، فلم يكن ظلا لغيره لا في الصورة الشعرية ولا في طريقة تركيب العبارة، لينثر إحساساته بلحن خاص في مدن مواجعه لتكون صوتا مميزا معبرا عن تجربة ثرية لها بعدها المعجون بالنسغ الديني، حيث لا تطغى الأيدولوجيا ومقولاتها على الفن وشروطه، ولم ينزلق إلى ما انزلق إليه غيره من تحول القصيدة إلى مجموعة من الشعارات الدينية أو الوطنية.
    تسيطر على الديوان ميزتان سيكون حديثي حولهما، وهما: النَفَس الحزين واللغة التراثية، أما النفس الشجي الحزين، فقد سيطر على الديوان بكل قصائده، عدا القصائد الخمسة الأخيرة، أجواء من الحزن والإحساس بالهزيمة، معتمدا في إظهار ذلك الوجع بتوظيف المفارقة في رسم مشهد متناقض غير بعيد عن منطق الناس الذين لم يعترفوا بهزيمتهم بعد: فانتصرنا!!
    حين صار الحب أغنية الرحيلِ
    وراية المشتاق من مزق الحكاية
    وانتصرنا!!
    حين صارت غرف النوم مواطننا ورائحة المواجع!!
    مدني تغرق....
    فانتظرنا يا حادي الركب لأخلعها عباءة!!/ الديوان (6)
    إن هذا الإحساس لدى الشاعر بالمرارة الطافحة تخرج نفثات شعرية هامسة غير مجلجلة، وكأن هذا المتألم من شدة الوجع لديه المقدرة على ضبط ما ألم به، فمن شدة وجعه يكاد يكون صامتا، يخرج آهاته شجنا عذبا، تتسلل تلكم النفثات إلى النفس فتمتلئ حزنا، كيف لا والشاعر ممتلئ بالتلاشي:
    صورة
    هي كل ما أصبحته
    حينما رسمت يداي مدينتي صمتا
    وأحلامي مدينة./ الديوان (10)
    إن شاعرا يمر بمثل تلك الحالة من الوجع المميت، لا بد أن يطارده الهباء، وتصبح كل الأشياء بلا معنى، فما هو سوى شبح لا أرض له ولا سماء ولا زمان:
    الأرض كروية، مسطحة، ملفوفة، مبسوطة
    لم يعدْ للأمر معنى
    فليس للأشباح أرض، أو سماء، أو زمان./ الديوان (18).
    ومن الملاحظ في هذا الديوان كثرة الأسئلة التي يصوغها الشاعر، ويطرحها في فضاء ممتد في جسد القصيدة، في أولها وثناياها، وفي خاتمتها أحيانا كثيرة، وجل تلك الأسئلة تحمل عدم اليقين أو الرضا من أي شيء، وكأن الشاعر الموجوع لا تعجبه لغة التقرير، فيهرب من صدمة الواقع إلى آفاق السؤال باحثا ربما عن دليل، أو إجابة، أو لأنه لا يتوقع إجابة لتلك الأسئلة، فيصوغها متحديا من يجيب عليها، ولنقرأ معا هذا المقطع:
    وَجَعُ المسافاتَ يَستَمطِرُني وَعدًا ...
    ثم يُنبِتُني ضَياعًا ...
    أينَ مِن أفُقِ الحَقيقَةِ يَسكُنُ الحَدُّ ما بَيني وبَينَ رُؤايَ؟!!
    أَصَحيحٌ أنَّني مازِلتُ أنتَظِرُ انقِشاعَ الغَيمَةِ؟
    أَم دونَ وَعيٍ صِرتُ جُزءاً مِن خَلاياها...
    وشتَّتَني جُنونُ الرّيحِ مِن هَولِ انبِهاري؟!!!/ الديوان (41).
    إنها صورة شعرية قاتمة جدا، فكيف صار الشاعر جزءا من الغيمة التي ينتظر انقشاعها، فشتته الريح في المجهول؟؟
    وهكذا تظل اللغة الشعرية تسح بوجع الأسئلة فتحاصره لتكون خاتمة لكثير من قصائده، ولا يتخلص الشاعر من ذلك الوجع إلا في نهاية الديوان، فيقرر الشاعر أن أسئلته كانت لغياب الوضوح، ففي قصيدة "أوتاد لخيام الشمس" وما بعدها، تغيب الأسئلة، وهذا يدل على الوعي باستخدام هذا الأسلوب التعبيري، فتتفتح القصيدة وتبتعد عن الوجع لترسم اللغة عالما جديدا تزينه أقمار التفاؤل بفرح غامر تمتد نسوغه نحو الروح مشبعة بصوفية عالية، يستقيها الشاعر من يقينه الديني، إذ يظهر ذلك في اللغة التي استقاها من مَعين القرآن الكريم، فتتجلى في اندغامها في بهجة وحبور دائم فينسى الشاعر أشجانه ومدن مواجعه:
    وفي تَجَلّي الرُّؤى تَختَفي الأسئِلَةُ
    والرّوحُ في مِعراجِها تُعانِقُ الخَبَرَ
    أُفقُ الرَّحمَةِ يَفتَحُ الذِّراعَينِ../ الديوان (101)
    هذا ما كان من أمر الحزن والوجع أما ماذا عن المحور الثاني لهذه القراءة، وأقصد بذلك اللغة التراثية التي متح الشاعر من قاموسها، وهذا ما سأستعرضه سريعا فيما يأتي. تنهل ألفاظ هذا الديوان التراثية بشكل عام من مصدرين في الأعم الأغلب، يتجه الأول نحو الموروث الأدبي، فتحيل اللغة الشعرية إلى مجموعة من النصوص الأدبية، وخاصة الشعرية الممتدة عبر عصورها المختلفة، وكلها كانت موظفة بوعي وتناسق مع الموضوع العام للديوان حيث الوجد والمشاعر الذاتية واضحة في النص الأصلي، فوجد النص الحديث ضالته في الاتكاء عليها، تعميقا للوجع الإنساني المشترك بين الناس جميعا بغض النظر عن زمانهم ومكانهم. ومن النصوص التي استحضرها الشاعر في مدن مواجعه قول أحد الشعراء القدماء:
    وأَشَدُّ مَا لاقَيْتُ مِنْ أَلَمِ الجَوَى
    قُرْبُ الحَبِيبِ وَمَا إِلَيهِ وُصُـولُ
    كَالعِيسِ فِي الْبَيْدَاءِ يَقْتُلُهَا الظَّمَا
    وَالْمَاءُ فَوقَ ظُهُورِهَا مَحْـمُولُ
    يقول الشاعر صالح أحمد:
    وصَحرائي تحِنُّ إلى مَواجِعِها ...
    وأنا وَكُلُّ العيسِ يَقتُلُنا الظَّما .../الديوان (7-8)
    ويعود إلى الواجهة صراع الشاعر امرؤ القيس مع الليل، فقد صوره في معلقته المشهورة بصورة قاتمة، إلى حد أن ذلك الليل الذي كان يراقبه لم يكن يرى فيه خلاصا أو انزياحا، فتتجلى تلك الصورة في قول صالح أحمد:
    كُنتُ أَتَكَلَّمُ إِلى لَيلِي الَّذي "ناءَ بِكَلكَلٍ"،
    وأَشُدُّ أَمراسي إِلى صُمِّ جَندَلٍ في تُخومِ بَلادَتي،
    في محاولَةٍ مِنّي لِسَحبِ رَصيدي مِنَ التَّثاقُلِ؛ ِ
    لأَمضي...إِذا ما تَسَنّى لي أَخيرًا أَن أمضي .../ الديوان (11)
    وأما أبو تمام الذي عبر عن حبه وحنيته لأول حبيب وأول منزل في بيتيه المشهورين:
    نقل فؤادك حيث شئت من الهوى
    ما الحب إلا للحبيب الأول
    كم منزل في الأرض يألفه الفتى
    وحنينه أبدا لأول مـنزل
    فترى صدى هذا الشعور في قول صاحب مدن المواجع:
    والآن
    سأُطِلُّ مِن نافِذَةِ العُمرِ إلى زَمَني المتَّكِئِ على أمنِيَةٍ مِن رَملٍ ...
    أنا الحبيبُ الأوَّلُ.../ الديوان (80)
    ومن الشخصيات التراثية فتحضر ليلى العامريةُ من بستان الحب العذري، وزرقاء اليمامة من مدارج اليقين والتبصر والتعقل؛ لتوظفها اللغة الشعرية في جمل تتناسب والمعنى الأصلي، فلا تكاد ترى انزياحا أو تطويرا لتك الرموز أو تلك الإشارات.
    وفي المجمل فقد غص الديوان بالكثير من المفردات والقوالب اللفظية الجاهزة التي تحيلك إلى تلك اللغة التراثية بأبعادها المختلفة، فتجد كثيرا من ألفاظ: العيس، وحادي الركب، والقافلة والقبيلة والظعينة والعير والنخيل والعشيرة، والحبل على الغارب....، وغيرها
    أما المصدر الثاني للغة الشاعر فقد كان القرآن الكريم مَعينها، فقد استعار الشاعر من اللغة القرآنية كثيرا من العبارات والألفاظ، بدءا من أسماء بعض القصائد، كقصيدتي قاب قوسين أو أدنى (1-2)، إلى توظيف قصة السيدة مريم عليها السلام، وهي تهز بجذع النخلة، إلى قصة أصحاب الكهف "وكلبهم دائما بالوصيد"، ويعبر الشاعر عن ضيق الأفق وقصر النظر مستفيدا من التعبير القرآني في سورة الملك "يرتدّ البصر قصيرا حسيرا"، ومن سورة النجم يوظف الشاعر "ما زاغَ... ما طَغى... دَنى.. وتَدَنّى...".
    وقد وردت كذلك أسماء لبعض سور القرآن: الحمد والفاتحة والإسراء، وغير ذلك الكثير من تعابير القرآن الكريم التي تناثرت في جنبات النص، لتعطي النص أبعادا أخرى تشف عن مدى استفادة الشاعر من اللغة القرآنية، فاندمجت تلك الألفاظ في المعمار الفني، وأصبحت عضوا ملتحما فيه، تزيده بهاء، وتمنحه الرؤيا وتوضح رسالة الشاعر التي أراد أن ينقلها إلى القارئ بشفافية بعيدا عن التقرير، وهذا ما اتضح في قصيدته الأخيرة "همسات روح"، حيث كانت أشبه بترنيمة وجد صوفيه، لا تدور لغتها إلا بفلك اللغة الدينية، وتتسربل بشفافيتها حيث الانسيابية والإنسانية تتجليان في نص واحد:
    روحِيَ تطلبُ مِعراجَها
    شَوقًا.. وَرَبّي أدرى بها
    أنْ تَقنَعَ النَّفسُ دونَ العُلا
    ذاكَ الهوى بَعضُ أهوالِها./ الديوان (117)
    وهكذا، انتهت رحلة ممتعة مع هذا الديوان، الذي منحني شرف التعليق عليه وقراءته صديقي الشاعر صالح أحمد، وأخيرا أقول له: كل إصدار وأنت الشاعر الجميل، بعيدا عن مدن المواجع، ولتكن يا صديقي آفاق الفرح مشرعة، "فنحن نحبُّ الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا".
يعمل...
X