إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #31
    رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

    المناورات الجديدة للحليف الشريك
    الإدارة الأميركية والحكومة الإسرائيلية اللتان يجمعهما تحالف استراتيجي تاريخي، وشراكة في مفاوضات السلام، وتوحُّد في المصالح والمصير والعمل الاستعماري، تخوضان، بتنسيق مع بعض الجهات العربية، معترك سياسة مرحلية بـ "تكتيك" متقدم، بهدف مواجهة الاستحقاقات القادمة في الوطن العربي عامة وفي هذه المنطقة -بلاد الشام- منه خاصة، والمؤشرات ذات الدلالة البعيدة الأكيدة التي تمت حتى الآن، تظهر بعض ملامح قمة جبل الجليد الذي تغمره تلك الأطراف في المياه السياسية الضحلة التي تفتح بغزارة في مسارب العمل العربي خاصة.‏
    فعلى الصعيد الفلسطيني -يبدو هناك رغبة في إقامة توازن رعب بين التنظيمات الفلسطينية في الداخل، وزرع فتن في الخارج على أرضية إنعاش دور المنظمة وفصائل فتح في الداخل على حساب حماس والجهاد الإسلامي والجهات الرافضة لاستئناف المفاوضات، وقد ضغطت واشنطن على السعودية لتقديم أموال للمنظمة، وعملت مع " إسرائيل " على عودة ثلاثين من المبعدين القدامى ونسقت مع مصر لإعلاء شأن مثل هذا الاختيار لأنه يؤدي إلى إيقاف مد التيار الإسلامي، الذي لم تعد ترضى واشنطن عن دوره لا سيما في فلسطين المحتلة. لأنه حسب آخر تعريفاتها المصاحبة لتصنيف "حماس" كمنظمة إرهابية، يريد أن يقيم دولة إسلامية في فلسطين المحتلة على حساب "دولة إسرائيل".‏
    ويبدو أنه من مصلحة عرب كثيرين أن يتم تقييد عمل وانتشار وشعارات كل الجهات والتيارات والفئات التي تنادي بعروبة فلسطين، كل فلسطين، وبتحريرها، وفي هذا السياق، سياق تنشيط المفاوض الفلسطيني وترجيح كفة فلسطينية على أخرى، يأتي التلويح بالجزرة أمام الفلسطيني السغب الذي طالما أضناه الإحباط والأسى. وربما اليأس. وها هي اقتراحات أو قل إغراءات تقدم له يراها "تنازلات" من (إسرائيل) وأموراً مشجعة له، وما هي في الواقع إلا فخاخ ومكائد تنصب إمَّا على طريق العمل الفلسطيني - الفلسطيني وإمَّا على طريق العمل العربي -العربي.‏
    والسؤال الذي يبرز بصيغتين متوازيتين حول هذا التحرك الأميركي -" الإسرائيلي " المنسق مع بعض الجهات العربية يمكن تركيزه في الكلمات الآتية:‏
    1-هل تعطي "إسرائيل" للمفاوض الفلسطيني حلولاً شاملة لقضية متكاملة؟ أو أن تقسيط الحل وتجزيء القضية يهدف إلى وضع الأرض المحتلة من جهة، وفلسطينيي الخارج من جهة أخرى على حافة الفتنة الداخلية فيما بينهم، حتى إذا أتى الحكم الذاتي، أو الانسحاب الجزئي، أو رفع الحصار، اشتعلت نار الفتنة فيما بينهم، وسال دمهم، وتضخمت مأساتهم إلى الحد الذي يرى فيه العالم، وبعض العرب، وبعض الفلسطينيين، أن الاحتلال أرحم من الاستقلال!‏
    إن "إسرائيل" لا تحرص على الدم الفلسطيني بل على العمالة الفلسطينية الرخيصة من جهة -في ظل الأمن- وعلى سوق الاستهلاك الفلسطينية التي ستكون مدخلها لسوق الاستهلاك العربية مستقبلاً في ظل (السلام) المنتظر من جهة أخرى. وحين تقوم حالة حصار فلسطيني -فلسطيني، وعربي- فلسطيني؛ فإن تبعية الفلسطيني للإسرائيلي من وجهة نظر "إسرائيل" تكون شبه مضمونة.‏
    2-هل تعطي "إسرائيل" -للمفاوض العربي حلاً شاملاً لقضية متكاملة؟! أم أنها تدفع المفاوضات مع طرف من الأطراف العربية لتؤثر على بقية الأطراف وتجبرها:‏
    -إما على مزيد من التنازل والركض وراء القطار الذي تصور أنه قد تحرك إلى الأمام.‏
    -وإما على تحطيم تنسيق المفاوضين العرب وجعلهم يتحركون فرادى بعيداً عن الالتزام بالحل الشامل والتنسيق التام فيما بينهم. حيث يتلمس كل منهم رأسه ويبحث عن خلاصه الخاص!!.‏
    إن التلميحات الإيجابية بدأت في فترة من الفترات في المسار الأردني. ثم انتقلت إلى المسار السوري، ثم إلى المسار الفلسطيني. و"إسرائيل" مع شريكها الأميركي المخلص لها تبحث عن نقطة الضعف في حلقة المفاوضين والسياسيين العرب. وحين يتسنى لها النفاذ من ثغرة ما فإنها تضخ المياه الضحلة منها لتغرق كل المفاوضين وتدفعهم إلى عملية الاحتطاب بليل، حيث يلغ بعضهم في دم بعض، ويزداد حجم الشك فيما بينهم؛ فينحنون لقوة الضغط الغربي- الصهيوني وللقوة العربية التي تشارك في عملية الضغط تلك. فيأخذون أقل "المكاسب" من المفاوضات ويقدمون كل التنازلات.. وفي مقدمتها الاعتراف بـ " إسرائيل " دولة من دول هذه المنطقة.‏
    إن الأميركي الذي يلعب دور "الراعي النزيه" هو حليف "لإسرائيل" وشريك لها في عملية ترمي إلى تعزيز مصالحه ومصالحها بالدرجة الأولى، وإلى تأمين مناخ أفضل للمرتبطين به تاريخياً بالدرجة الثانية. وهو يرمي إلى الحفاظ على حالة سياسية- اقتصادية- اجتماعية في الوطن العربي تمكنه من إحكام سيطرته ونفوذه إلى أبعد مدى ممكن، وباطمئنان تام إلى عدم وجود خروق مستقبلية في مجال القبضة التي يفرضها.‏
    ومن أجل هذا يقيم حالة من الغزَل الباهت بينه وبين القيادات الفلسطينية التي كان يرفضها، ويجعل تلك القيادات تطمئن إلى الجلد " الإسرائيلي " النتن وترفع يديها لتتبارك به، ويقيم من بعض العرب عرافين ورؤوس جسور بين "إسرائيل" والعرب، ليضرب عصفورين بحجر واحد: صيد العرب بالعرب، ورفع صيادين عرب إلى مرتبة الزعامة القومية من طريق جعل الوفاق والمكاسب والتنازلات" الإسرائيلية تأتي على أيديهم.‏
    وهو يقوم بذلك بحنكة ومن دون خسارة من أي نوع، إذ أنه حتى عندما يتوجب عليه دفع بعض المال فإنه يوعز إلى عرب آخرين بالدفع، تحقيقاً لصف ثان أو ثالث من المصالح والغايات.‏
    إن سياسة أميركية- إسرائيلية ذات ذيل عربي عريض ترمي إلى خلق أربع مناطق على الأقل في الوطن العربي ذات خصوصية سياسية- اقتصادية وحتى ثقافية إن أمكن، وتتمتع بمتانة سياج لا يرشح ولا يشف باتجاه المناطق الأخرى، ولا يجعل الثدي القومي يدرّ الحليب أو سواه، تحت تأثير أية عاطفة قومية. وهذه المناطق هي:‏
    -منطقة بلاد الشام التي ستقودها "إسرائيل" على أرضية السلام المنتظر.‏
    -منطقة الخليج العربي التي أخذت منذ زمن قصير تنادي بخصوصية تامة حتى بخصوصية الثقافة على أرضية الغنى والثروة البترولية.‏
    -منطقة المغرب العربي.‏
    -منطقة مصر والسودان، بعد "معالجة أمر السودان" الذي لا يعجبها رأسه الآن.‏
    وكل من هذه المناطق التي تسعى أميركا والصهيونية إلى خلقها بتنسيق مع حلفائها والمقربين إليها. ستكون مرتبطة على نحو ما بالمصالح الأميركية- والغربية عموماً، ومحتاجة إلى الحماية، وتخشى العربي والمسلم أكثر مما تخشى الأميركي و" الإسرائيلي "، وقد أخذت بعضها تعلن عن تلك "القرابة المصلحية تحت ستار الحضارة والمتغيرات الدولية" بينها وبين "إسرائيل".‏
    حتى أن عرباً من العرب يشاركون هذا الأسبوع في المعرض الزراعي -التكنولوجي الذي يقام في تل أبيب. ولا غرابة في ذلك فالإسراع في كسر جدار المحذور عند البعض هو هجوم إيجابي على الأخ العربي، الذي يقاوم من أجل حق في الحياة، لا يستحقه من وجهة نظر البعض.‏
    إن الوضع الذي يسيل بالمرارة، يكتنز في الوقت ذاته حلاوة في الأعماق. فهل نسلم بأن السياسة الأميركية -الإسرائيلية ذات الذيل العربي العريض سوف تكنس كل المخلصين العرب من طريقها وسوف تجد أرضاً لا مقاومة فيها؟‍ وهل يكون العرب، بعد كل هذا التاريخ من النضال، لقمة أميركية -إسرائيلية سائغة؟‍! وهل يقف الوعي العربي /سياسياً وثقافياً/ يتفرج على الأمة وهي تُسْلَم وتستسلم للأعداء؟!‏
    إنني لا أظن ذلك ولا أجزم بوقوعه. فإنني أرى عبر الرماد العربي ولادة عملاقة الرؤية والأداء والنتائج. وإن غداً لناظره لقريب.‏

    الأسبوع الأدبي/ع361//6/أيار/1993‏

    إذا الشعب يوما أراد الحياة
    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

    تعليق


    • #32
      رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

      نحو الصبح القريب
      نحن الذين نرفض أن تنهزم أرواحنا وأعماقنا، ونصر على ألا نخسر مواقفنا وأخلاقنا وضمائرنا، فنتعلق بالحلم والأمل والطموح، وحتى بالوهم، ليبقى لنا وجود تحت شمس الحاضر، ونعلق على صدورنا " تمائم " من بقايا شعارات الماضي القريب، ونذيب في كؤوسنا كِسرَ الرؤى المنعشة، ونسبح عكس التيار في حالات وحالات، هل نحن خارج الوقت وخارج التاريخ؟! وهل نحن مصابون بمرض البصائر والأبصار، نعاني من تشوه الرؤى وضعف القامة والمقومات؟! وهل نحن لحن نشاز على نحو ما في ترنيمة العصر التي تعزفها القوة والمصلحة ولا تجد إلا مترنمين ومتهجدين ومسبحين بحمد القوي الفتَّاك؟!‏
      حين نرسل الفكر على موج الوقائع والأحداث في مظاهرها وظواهرها، ونتأمل مسارات العمل والإنجاز ونوع الأداء، ونقارن بين ما ننجز وما ينجز سوانا من أعداء وأصدقاء ومحايدين.. يمطرنا الأسى ألماً فيغرق الرؤى والإحداق ونقول: يا ضيعة الحاضر والآتي، ويا سواد ليل يقبل على أمة تعيش على حرف بين هاويتين كل منهما مظلم واديها فوق ظلام أخيه .‏
      ولكن حين يرتد إلينا البصر ولو حسيراً، وحين نعود إلى معاقل ذواتنا وجذور كياننا ومقومات وجودنا، ونتفحص ذلك على ضوئين: ضوء الإيمان وضوء التاريخ؛ فإننا نجد أن للأمل في حياتنا موضعاً، ولرفض الانهزام والتسليم موضعاً، وللحلم موضعاً، وللاستبشار بالخير في كل مجال من مجالات حياتنا موضعاً؛ وأنه ليس لنا أن نكسر السُّرج ونقبع في زوايا المكان ننتظر التلَف أو الطوفان.‏
      ونشعر بأننا أقوياء ويحق لنا أن نرفض الهزيمة واليأس، وأن نقيم في النفوس متاريس الصمود قبل أن نقيمها في الجبهات والثغور وعلى امتداد الحدود، فلسنا الفئة الباغية الضالة المضِلة، ولا الجانية الآثمة، ولا تلك التي تحللت من قيم الإنسان ومقوماته فغدت مع الوحوش في سباق على الفرائس بل إنها ما زالت تلجأ إلى معايير وقوانين وأصول تحكم العلاقات بين الأمم والشعوب، في حياة يقيمها حرص الجميع على مقوماتها وأسباب سلامتها؛ وهي حق مقدس لكل فرد من أفراد أية أمة أو مجموعة من الناس على أرض البشر. نحن أمة ذات حق لا يقيمه ولا يصونه ولا يعيده إلا قوة تستند إلى الإيمان والعدل والعلم، وذات تاريخ عريق في فهم الحق وفي استرداده والمحافظة عليه، ونحن أمة تميل إلى الاعتدال والسلام والعاطفة الإنسانية الطيبة، ولكنها مؤهلة لأن تصرخ عند الضرورة بأعلى الصوت :‏

      ............................‏

      فنجهل فوق جهل الجاهلينا‏

      ونحن أمة لها في صنع التاريخ تاريخ، ولها في مقاومة أسباب الانحلال والتفسخ والذوبان في رسم المحتل وصفاته، مهما اشتد بأسه وامتد وقته، ولها تاريخ يعز نظيره في التاريخ، فهل يجوز لها بعد هذا أن تقبل ما لا يليق بها وبتاريخها؟! وهل يجوز لنا أن نسوّغ لأجيالها الاستكانة والمهانة والرضا بضياع الحق والكرامة؟! .‏
      من الطبيعي أن يكون الجواب على السؤال: لا.. ناضجة وطازجة وملء الفم، ومن الطبيعي أن يطلب إلينا الكثيرون تسويغ وتبرير هذه الـ "لا" في ظل معطيات الواقع الذي نعيشه ومتغيرات العالم الذي يحيط بنا ويؤثر فينا.‏
      وعلى عتبة ذلك نقول بكل بساطة ووضوح واقتناع: نحن أقوياء، ونملك مقومات القوة والبقاء. نحن أقوياء في صراعنا مع الصهيونية على الرغم من انهزامنا في معارك خضناها معها، وأحد أهم مصادر قوتنا في هذا الصراع بالذات هو استمراره على أسسه وثوابته وأهدافه الرئيسة بوصفه صراع وجود. وذلك الاستمرار يتضمن رفضنا المستمر لقبول " إسرائيل " في النسيج السكاني والجغرافي والاقتصادي والأمني لوطننا العربي، كما يتضمن رفضنا لأي حق تاريخي لليهود في فلسطين، سوى حق التجاء الضعيف لحمى القوي العادل في نطاق دولته وضمن قوام ثقافته وحضارته وسيادته التامة على وطنه. وحتى لو بقي هذا الرفض منتصباً في فضاء الوطن تلفحه الريح فإنه مصدر قوة لنا ومصدر قلق وضعف وفناء لعدونا. فهو الباب المفتوح أمام الأجيال العربية القادمة التي سوف تعبره مختارة طريق التحرير، وهو قوس النصر الروحي الذي يرفعه المؤمنون بحقهم في زمن ضعفوا فيه عن حماية حقهم؛ ليأتي نسل لهم يعرف ذلك الحق ويستعيده ويحميه، ويخلص الأمة من عار يلحق بها إذا ما أسلمت ذلك الحق إلى النسيان وتجاوزت القضية التي يتصل بها.‏
      ورفضنا ذاك سوف يكون نصلاً في قلب الاستعمار الغربي عموماً والإمبريالية خصوصاً، تلك التي تريد أن تغرس " إسرائيل " في قلب الرضا العربي، بعدما فرضتها بالقوة على دول العرب وقررت أن تحميها بالقوة منهم، وسيكون ذلك الرفض سيفاً مشرعاً في وجه " إسرائيل " التي تجلب مواطنين إلى فلسطين المحتلة على أرضية ذلك الاعتراف بها وبحكم اطمئنان اليهود إلى مستقبلهم بين العرب.‏
      ولا ينبغي أن يكون الرفض الذي يعتمل في نفوسنا هو وحده السلاح، لأنه سيغدو رفضاً مجانياً غير ذي معنى، إن ما نرمي إليه هو رفض واع لأهدافه ووسائله وغايته، رفض يترجم إلى عمل منظم يوظف الطاقات والإمكانات والمعطيات البشرية والمادية والمعنوية لخدمة استراتيجية التقدم والتحرير على أرضية المنظور القومي ـ الوحدوي الذي يتكامل بتلازم العروبة والإسلام ليكونا للأمة جسداً وروحاً لا فصل بينهما مع بقاء الحياة والحيوية.‏
      إننا نملك القوة البشرية التي تحتاج إلى مزيد من الوعي والتنظيم ورفع وتأثر الأداء بإبداع على أساس من العلم والإيمان وصدق الانتماء والاقتناع، ولكنها تحتاج أولاً ومن أجل ذلك كله إلى مصداقية في القول والعمل معاً، وإلى نظافة في التعامل ليكون لها في ذلك قدوة حسنة، ونحن نملك الطاقات والثروات الفريدة في النوع والكم، وعلينا أن نرفض استمرار هدرها أو نهبها أو تغييب مفعولها ومردودها على الناس والقضايا المصيرية، سواء أتمَّ ذلك بأيدينا أم بأيدي أعداء أمتنا. ونحن نملك البعد الاستراتيجي في كل مجال من مجالات الجغرافية والاقتصاد والتجمع البشري والقوة العسكرية من نواحٍ وفي المجال الثقافي، ولكن علينا أن نجنب أنفسنا حالة ازدواجية الولاء، وحالة الوجه والقناع التي تمثل نفاقاً، وتفتت الانتماء للأمة؛ ذاك الذي يسحقنا ويضع قوانا بمواجهة بعضها بعضاً.‏
      نحن الآن ربع مليار عربي تقريباً، منا التابع للقاهر والرافض للتبعية، ومنا الضائع والرافض للضياع، والمهزوم في أعماقه والرافض للهزيمة بأي ثمن ومقياس؛ وفينا من يقاوم احتراق كبده ويطفئ ناره بالارتماء في حضن الأمل والصراخ على أمل أن ... وفينا، بين هذا وذاك، ما يشكل مساحات وهوامش فسيحة؛ ونحن في بداية القرن القادم ثلاثمئة مليون من البشر على طريق العلم والعمل والحياة. فهل يمكن أن ينهزم ذاك الجمع ومن معه من المسلمين الذين يلتفون حول نواة صلبة يمكن أن يكونوها، أمام يهود قد يصلون إلى الملايين الخمسة، ومن يناصرهم في امتداد جغرافيا المصلحة، إذا ما طبق العهد بمواجهة العدو على أرضية الحزم والحسم بصدق وإيمان على كل مستوى وصعيد من صعد المواجهة ومستوياتها في وطن الأمة الواحدة؟! قد أكون واهماً ولكن ليس إلى الحد الذي أرفض فيه استقراء التاريخ وقوة الإيمان بالحق في أمة عرفت معنى الحق في تاريخها .‏
      نحن أصحاب الطاقة التي يحتاج إليها العالم لعقود مديدة من الزمن، ولن يستمر أصحاب المصلحة في الحصول على الطاقة بالاعتماد على الحصان " الإسرائيلي " لتأمين مصالحهم إذا ما اكتشفوا عجزه، وتكاليفه الضخمة، ومستقبله الحالك، الذي يمكن أن نصنعه نحن بأيدينا. وإذا ما اكتشفوا أيضاً قوتنا التي تجعلهم يتعاملون معنا تعامل الند الواثق والمطمئن إلى مستقبله مع نده. إن تبادل المصالح بين الشعوب يحتاج إلى أرضية من الثقة والاحترام، وإلى معرفة بأساليب التواصل، وإلى التلويح بإحراق السفن عند الضرورة، فلنتقن ذلك الفن بعض الشيء ولكن ككتلة واحدة متماسكة تماماً .‏
      نحن أصحاب الشخصية الثقافية ذات الهوية الواضحة الثابتة، وأهل العقيدة الراسخة، ولن يهزمنا أولئك الذين يصدرون إلينا بضائعهم الثقافية مباشرة أو عن طريق من انهزموا من الداخل واخذوا يروجون بيننا الانهزام من أبناء هذه الأمة ومثقفيها، أقول لن يهزمنا إذا ما استعدنا الرؤية الشاملة لذواتنا بوعي معرفي عميق، وأحسنا الالتفات إلى صنائعهم، الذين يخرجون ثقافتنا من الداخل ويروجون بضائعهم، ما صلح منها وما فسد، لنكون عالة على الآخرين، منخورين من الداخل، يطال التخريب قيمنا ومقومات وجودنا وذوقنا وركائز هويتنا وشخصيتنا ومكونات خصوصيتنا وضمائرنا ذاتها. ومن الذي يمنعنا من الالتفات إلى ما يجدر بنا الالتفات إليه من أمور وقضايا هي في الصميم من وجودنا وتكويننا؟!‏
      نحن أقوياء.. ولكن عوامل الضعيف التي ما انفكت تفتك بنا هي عوامل من صنع أيدينا أولاً ومن صنع أعدائنا ثانياً؛ وأياً كان مصدرها فهي تؤثر على كل أشكال مواجهاتنا وعلى مستويات تلك المواجهات ونتائجها النهائية .‏
      نحن ندرك اليوم أننا في فخ من صنع أعدائنا وأنصارهم، ومن صنع من تواطأ معهم من أيناء أمتنا، ومن ساهم بذلك منا عن تقصير أو جهل أو سوء تصرف منهم؛ ولكنا في الفخ. ونحن بحاجة إلى الحكمة والقوة والتضامن لنخرج منه، وندرك أن خلاصنا مما نحن فيه لن يكون من دون ثمن، وأن قد يكون الثمن فادحاً؛ ولكن يتوجب علينا ونحن نخوض معركتنا هذه، ضمن شباك الفخ الذي نحن فيه، أن ننشر الوعي والثقة والأمل والإيمان بقدرتنا على التخلص، ونشيع الاطمئنان إلى المستقبل الذي ينتظرنا وينتظر أجيالنا ؛ ذاك الذي لا بد أن يكون كريماً ومحققاً لمقومات النجاح والكرامة والأمان في آن معاً .‏
      نحن أقوياء بما فيه الكفاية لنرفض هزائم الأعماق، ولنغرس الثقة والأمل في الحاضر والمستقبل، لنا وللآتين بعدنا، بحكم ما نملك من مقومات وقدرات وثروات، وبحكم تجربتنا الطويلة المرة، وماضينا وضغط الواقع علينا؛ ذاك الذي يقدم بمجمله معطيات لا يستهان بها، ويستنبط من الماضي عبراً ودروساً واستخلاصات لا يستهان بها أيضاً.‏
      فقد كنا مغيبين في الجهل والتبعية والجوع والعبودية حين قاومنا الاستعمار المباشر: الفرنسي والبريطاني والإيطالي، ولم نكن نملك السلاح المتطور الذي نرد به على المستعمر الذي يطور السلاح ويملكه. وقاوم شعبنا ولم يستسلم للاستعمار ولا لمخططاته التي كانت ترمي إلى إلحاق شق من الوطن العربي بوطن المستعمر ثقافياً وجغرافياً. قاومنا ودفعنا الثمن، الذي كان فادحاً بشكل لا يطاق، لا سيما في الجزائر وفي ليبيا، ولكن الوطن تحرر وتقدم على الرغم من الزرع البغيض الذي زرعه الاستعمار وما يزال يرعاه ويتعهده بالنمو .‏
      ولقد ازدادت مؤسسات العلم والإنجاز في وطننا وانتشر التعليم وما زال يكافح الجهل وأسبابه وظروف استمراره.. وقد زاحمت عقولُنا وإرادتنا ومعارفنا على أبواب العصر، وما زلنا نُقْصَى بالقوة المسلحة عن امتلاك التَّقَانَة العالية والقوة العسكرية والعلم المتقدم؛ ولكن هل سيستمر ذلك إلى ما لا نهاية؟! وهل نتوقف عن قرع باب التقدم العلمي والحرية الاجتماعية والفكرية؟! إن ذلك لن يكون أبداً، لأنه لا يتفق مع منطق الحياة والتاريخ، كما أنه لا يتفق مع تاريخ هذه الأمة التي طالما نهضت من رمادها واستأنفت جهادها بحرص على العدل والحق والإنسان.‏
      إن ذلك لن يكون.. وهذا هو بالذات ما يقلق عدونا ويرعبه، وما يجعل أنصاره والطامعين بثرواتنا من ذوي المصالح والتكوين العنصري في الغرب يصرون على أمرين في آن معاً :‏

      ـ فرض وجود العدو على أرضية الرضا الظاهر والقهر الباطن المستمر بالتفوق والحماية والرعاية.‏
      ـ فرض الحصار على الغرب في مجالات العلم والقوة، واستلاب الإرادة، وسلب الثروات والسيطرة على مقومات التحرير والتحرر، ليبقى عنق الأمة في قبضة عدوها وصاحب المصلحة الملحة في أرضها. فهل ترانا نبقى مستسلمين لإرادة العدو وظهيره الذي يدفعه ويحميه؟! أم ترانا نستيقظ ولو في قلب ليل المأساة لنبدأ مسيرتنا نحو الصبح، والصبح لناظره قريب؟!‏
      إنه السؤال الذي لا يقبل من المؤمنين بأمتهم وبحقهم في الحياة إلا جواباً وحيداً : سوف نرفض الهزيمة، ونتابع سيرنا في ليل المأساة نحو الصبح القريب.‏

      الأسبوع الأدبي/ع362//13/أيار/1993‏

      إذا الشعب يوما أراد الحياة
      فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
      و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
      و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

      تعليق


      • #33
        رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

        الأمل والخداع
        ما أسرع ما ينكشف الكذب ويتبدّى الخداع مقيتاً ومفزعاً ووقحاً !! وما أسرع ما ينسى العالم تلك الصورة البشعة التي تطالعه، ويعود إلى تصديق الكَذَبَة وابتلاع ما يقدمونه من صور الخداع وألوانه؟!‏
        مدمن عالمنا على الخديعة، لكأنما فطر على الافتتان بشخصية الشيطان والانجرار نحو الغواية، ولكأنه، حين يوقظه احتراق أصابعه بنار الفتنة، يفتح عينيه بين سباتين طويلين لدقائق معدودة، ثم يعود إلى الافتنان والغواية وإدمان الخداع؟!‏
        لقد سجل التاريخ بمداد من ألم ودم كثيراً من صور الخداع والكذب على أنها بطولات ومفاخر ومآثر، حتى لكأن العالم يكتب وهو نائم، وحين يكتشف في صحوة من صحواته فداحة الخطأ يصحح بعض الوقائع، ولكنها تدخل التاريخ على استحياء لتقاوم الخداع الذي احتل المكانة الأولى وتمكَّن من الدفاع عن وجوده الكبير.‏
        كذبة وراء كذبة تقطر في حلق العالم المسجَّى بين ذراعي شيطان يبتلع ويبتلع ويبتلع، ويرتعد أحياناً وهو يبتلع، ولكنه لا يكف عن إدمان الخداع والانجرار نحو الفتنة؟!‏
        يتحدثون عن خلاص ومخلِّص وعالم قادم يتراجع فيه الشيطان والافتتان، ولكنهم، ويا للأسف، يربطون ذلك بسيطرة الشيطان واستيلائه على أرض الناس ومقدسا تهم وعقولهم، ليقوم من رماد ذلك خلاص ومخلِّص؟! ويا حبذا خلاص يكون بالإنسان من شر الإنسان؟! ويا حبذا خلاص يتحقق لأولئك الذين يدفعون أعمارهم على مدى قرون وأجيال من أجل انبلاج فجر الخلاص بحق؟!‏
        بائسة صور الرسالات تقدمها ألسنة الدجالين، وبائسة كلمات الحق تلوكها أشداق يقطر منها دم الأبرياء، وبائسة ملامح العالم وهو يُطحن بين أرجحية الخداع والكذب، ولكن عملقة البؤس تتجلى حين ندرك كل ذلك ونستسلم له ونئن بين يديه ونشكو منه إليه؟!‏
        العنصرية ـ الصهيونية على أرضية التلمود وأخلاق شايلوك وممارسات الإرهابيين النازيين، من بيغن إلى رابين مروراً بالأساتذة العنصريين الأوائل، تتحالف مع الإمبريالية الأميركية والغرب المتواطئ معها، في " شراكة استراتيجية " مؤسسة على تأمين مصالح أطرافها على حساب العرب، قائمة على إباحة استخدام الإبادة القذرة بقفازات مخملية أو حديدية لا فرق، متجلببة بالديمقراطية وحقوق الإنسان وعدالة تستند إلى " شرعية دولية " هم سادتها ومفسروها وشارحوها ومطبقوها وأصحاب قرار الجرح والتعديل فيها. ويجرُّون وراءهم عالماً لاهثاً وراء الخلاص يجعلونه " صهيونياً " باسم البراءة والمحبة والخلاص، والصهيونية ما كانت يوماً محبة ولا براءة ولا خلاصاً، وإنما نتن التاريخ في الاعتقاد والممارسة والتعامل مع القيم والإنسان.‏
        * * *‏
        " الإفلاس الخُلُقي للغرب " قد يكون عنواناً براقاً للعقد الأخير من القرن العشرين، ولا فتة ملائمة تعبر عن نظام أميركا الجديد الذي تبشر به وتقول إنها تصوغ في ضوء " نظامه الجديد " علاقات الدول والشعوب وتقيمها على أساس من الأخلاق !؟! وتجبهك الكلمة الكبيرة حتى لتكاد تزلزلك، ويتفصد العرق من جسمك كله وأنت تركز النظر في تاريخ طويل من علاقات الغرب والصهيونية بالآخرين، فلا تجد إلا الإفلاس الخُلُقي تاريخياً على كل مستوى وصعيد، ولا تجد سوى المنفعة والمصلحة القذرة محركاً ومَحْركَاً للفعل الغربي؟!‏
        " فاقد الشيء لا يعطيه " والإفلاس الخُلُقي المزمن لا يمكن أن تطفر منه الأخلاق الصحيحة السليمة فجأة، والغرب المتصهين يسير على خطا الصهيونية العنصرية في تعامله مع فقراء العالم، ومع شعبنا العربي، وامتداد المسلمين في الأرض.‏
        ومن الطبيعي والبديهي و " الخُلُقي " ـ حسب مفهوم الغرب للأخلاق في إطار السياسة والتعامل مع الشرق والعرب على الخصوص ـ من الطبيعي أن يغير الغربي موقفه من أية قضية لا تخدم مصالحه المباشرة وأحقاده التاريخية، ولا تنعكس إيجابياً، مادياً ومعنوياً، عليه بشكل مباشر، ولا يهمه على الإطلاق أن ينقض أقواله، ويلحس توقيعه على الاتفاقيات، ويفتعل مواقف وتفسيرات ومبررات لأفعاله المنافية للأخلاق.‏
        فالثوابت الخُلُقيَّة لا تحرك سياسة الغرب، مهما ادعى وتبجح وكذب، إن ما يحرك تلك السياسة مصالح سوداء، تلون الأخلاق باللون الذي تريد، وتصنّع المبررات وتصدرها حسب الهوى والمصلحة والحاجة.‏
        لقد كان تدمير كل من العراق وإيران في حرب استمرت ثماني سنوات عملاً " خُلُقياً " من وجهة نظر المصالح الغربية والمصلحة الإسرائيلية، فكان أن لعبت أميركا وحليفاتها، وحتى الاتحاد السوفييتي المنهار أيضا، لعبة " توازن القوى " بشرط استمرار الحرب. وركبت أحصنة عنيدة من أجل ذلك وكانت تتغاضى عن الأخلاق، حتى في ممارسات من تدعمهم. وكان ذلك مسوَّغاً لأنه يستنزف القوى الموجودة في الخليج العربي كلها، ويقدم المال والنفط والثقة للغرب، وكان حلفاء أميركا من أطراف النزاع فوق الشبهات الخُلُقيَّة .‏
        ولكن تغيَّرت المصلحة اليوم لأن العراق وإيران قرأا الدرس، بعد فوات الأوان بكثير، فقررت إدارة كلنتون أن تعلن عداءها للبلدين، كما قررت رفض سياسة " توازن القوى "، فتلك سياسة قديمة على حد تعبير مارتن فاندايك مساعد الرئيس لشؤون الأمن القومي. هناك الآن سياسة جديدة قوامها " الخُلُقي " حسب تعبير فاندايك ـ وهو صهيوني كان يدير مؤسسة واشنطن للشرق الأوسط وهي مؤسسة في خدمة " إسرائيل" ـ قوامها: " إن إيران والعراق بلدان معاديان للمصالح الأميركية. ولهذا فإنها ـ أي أميركا ـ ستعمل على احتوائهما ضمن سياسة عزل وعقوبات دولية، وستمنعهما من امتلاك أي سلاح يمكنهما من تهديد مصالحها. "، وواضح أن حماية أي بلد لمصالحه التي تطمع بها أميركا هو تهديد لمصالحها، ويحق لها أن تدمره قبل أن يتمكن من حماية نفسه. فالحرب " الوقائية " على الطريقة الإسرائيلية هي اختيار أميركي الآن. ولا يهتم فاندايك بالأطفال الذين يموتون ولا بمستقبل أجيال وشعوب، ولا يعنيه في شيء أن يخالف شرعة حقوق الإنسان والشرعية الدولية، فكل ذلك وجد أصلاً ليخدم مصالح الغرب والصهيونية، وليشكل ذرائع " خُلُقيَّة " للتدخل في شؤون الغير؛ وهو يتحول أحياناً إلى أدوات تجميل ومساحيق توضع على وجه " الهَوْلَة " عندما تخرج من مذبحة بشعة.‏
        لقد كان لخطة " فانس ـ أوين " موقع في السياسة الأميركية يوماً ما، وقام وارن كرستوفر بزيارات لأوربا للاتفاق على تنفيذها وفرضها بالقوة على العنصريين الصرب؛ ولكن عندما أعلن المجرمون الصرب " موت خطة " فانس ـ أوين " سارع الأميركيون إلى دفنها من دون بكاء، بواقعية ـ مصلحية ـ " خُلُقيَّة ": باردة وبائسة وغربية تماماً .‏
        ونادوا بمشروع آخر، مشروع يتفق مع ما آل إليه وضع البقية الباقية من البوسنيين المسلمين، الذين يحتاجون ـ من وجهة نظر الغرب والصرب ـ إلى ملاذ آمن وليس إلى دولة وحقوق وحياة، وذلك " الملاذ الآمن " يتولى مسؤولية إقامته والحفاظ عليه زعيم الذئاب التي تكر على فرائسها كلما تشهَّت اللحم والدم، حتى لا يبقى ظل لمسلم في البوسنة والهرسك. وأصبح العمل من أجل " ملا ذات آمنة " بديلاً لحق دولة في الوجود، وحق شعب في الأمن والسيادة، وبديلاً لكل قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بردع عدوان الصرب العنصري البغيض على المسلمين .‏
        وقد تجلت العدالة الغربية بإعطاء فرصة للكروات بذبح المسلمين وانتزاع بعض أرضهم، وتوّج المنطق المصلحي الغربي ذلك كله بالقول: إن كل الأطراف يخترقون القانون (؟!) ولكن أي قانون خُلُقي ذلك الذي ينتهكه مسلمو البوسنة والهرسك؟! لا أحد يعرف إلاّ سادة الأخلاق في الغرب والصهاينة الذين يدعمون الصرب بالسلاح والمدربين لتنفيذ المذابح الجماعية وإبادة الجنس.‏
        إن مجرد السماح للمسلمين في البوسنة والهرسك بامتلاك السلاح الذي يدافعون به عن أنفسهم ضد المذابح المستمرة منذ أشهر أمر ممنوع، ولا يتخذ الغرب " المتمدن " قراراً على الإطلاق برفع الحظر عن تزويد المسلمين بالسلاح .‏
        بينما يقدم الغرب وتقدم روسيا و " إسرائيل " أسلحة ومتطوعين ودعماً مالياً ومعنوياً للصرب الذين ينفذون برنامج الإبادة البشرية في ظلال " الحضارة والأخلاق الغربية " هناك في أوربا التي عجزت عن حل مشكلة إنسانية في ضوء المبادئ والأخلاق، بعيداً عن المصالح والمنافع والتحالفات السياسية والعسكرية ضد الآخرين.‏
        لقد ظهر النمر الأميركي الذي كان يتسلل عبر الصحراء العربية ببراعة وشجاعة على أرضية " خُلُقيَّة " ظهر الآن وكأنه قط أليف لا يقوى حتى على المواء، ويختار ما اختاره " العدو " الذي أدانه في وقت سابق باسم العدل والأخلاق والشرعية الدولية، ويبتلع أظفاره وأنيابه وزئيره، أنه ببساطة: لا مصلحة مادية ولا منفعة له بإنقاذ المسلمين، وليس هناك استعداد عند أحد من حلفائه للتضحية برجل واحد من أجل انقاد شعب البوسنة والهرسك.‏
        " إنها أخلاق مفسدي القيم والأخلاق في عالم يُقْلَى في مطبخ الإمبريالية الأميركية والصهيونية العنصرية والغرب المتهالك على المنافع "، ولو أنهم خففوا قليلاً من الادعاءات الخُلُقيَّة لكان ذلك أستر لهم وأرحم لضمائر سواهم.. ولكن ...؟!‏
        لقد قدمت أميركا تعهدات في حرب الخليج الثانية، وقبيل مؤتمر مدريد، وفي أثنائه، وفي جولات المفاوضات، لا سيما الجولة التاسعة من تلك الجولات.. وحددت مرجعية مؤتمر السلام مع العرب بقرارات مجلس الأمن (242)، (338)، (425) ولكنها بعد أن جددت تحالفاتها وراجعت سياساتها، واستفادت من الزمن وقدمت لـ " إسرائيل " كل ما تحتاج إليه من وقت ومال وسلاح ومهاجرين ونفوذ وسمعة دولية وانتشار في العلاقات مع الدول، على أرضية الابتزاز باسم السلام القادم، عادت لتتنكر لكل شيء تقريباً مما وعدت به العرب، وذلك عن طريق التملص الوديع باللجوء إلى التفسير الرقيع للقرارات والالتزامات والمواقف والأخلاقيات !؟.‏
        وهي تؤكد أنها تريد حلاً، وأنها جادة في التوصل إلى حل، ونحن نؤكد ذلك ونضيف أنه من مصلحتها إيجاد حل في المنطقة يجعلها تتمكن فيها أكثر وتطمئن إلى مصالحها أكثر. ولكن الحل الذي تريده هو الحل الذي تفرضه " إسرائيل" وترضاه وتريده، ومهمة أميركا أن تُلبس العرب ثوباً تفصله " إسرائيل"؟! هكذا كان الشأن دائماً وهكذا سيبقى. ولا نريد أن نتحدث هنا عن كيفية انتهاك أميركا الفظ للقرار (799) وإبعادها للهيئة الدولية المعنية ـ مجلس الأمن ـ كلياً عن ساحة الفعل عندما نادت بتطبيقه، وتدخلها الوقح لتفرض صفقتها التي هي مطلب " إسرائيل" أولاً وأخيراً .‏
        - إن أميركا ترتب، باسم المصلحة وتحت ستار الأمن والأخلاق، ترتب تحالفات وصراعات وحروباً جديدة في هذه المنطقة من العالم، وتريد أن تكسب الوقت لترتب لعبتها كما تحب؛ وسوف تزج مصر قريباً بمواجهة إيران على أرض الخليج، وتدفع المواجهة بين الإسلاميين والسلطات إلى المدى الذي يدير عجلة الفتنة الداخلية في معظم الأقطار العربية، كما تدفع المواجهة بين بلدان عربية وأخرى إسلامية، وبين بلدان إسلامية ـ وإسلامية إلى حدود الفتنة، على أرضية العداء والفتن والصراعات الإقليمية والدينية والسياسية؛ لتحصد من كل ذلك بشراً قد " يهددون مصالحها " بمحافظتهم على حياتهم ومصالحهم وعقولهم؟! ولتكسب مالاً ثمناً للسلاح، ولتفتح سوق تجارة الدم على مصراعيه .‏
        إن السياسة الغربية ـ الصهيونية مقبرة للأخلاق تحركها المصالح والأحقاد، وتراهن على تعلق الشعوب بشطارة الشيطان وبهلوانيته وعلى افتتان الشعوب بالخداع والكذب اللذين يقوم بهما القوي الشرير، الذي يحسن استخدام الأقنعة، ويمتلك مهارة في الإيقاع بالآخرين. ولأن كل فقير يشرب الكأس يشمت به فقير آخر، فإن لعبة الشيطان تستفيد من ذلك، ليشمت كل من شرب بمن سيشرب، ويبقى الشيطان دائراً بكأسه على الجميع، سادراً في غيه إلى أن يصحو شعب، وتتفتح عيون، وتدرك عقول، وتتلفت إلى مصالحها أمم؟! ولكن السؤال هو: متى سيأتي ذلك الوقت وذلك الحدث؟! وهل ستطول مدة الصحو، وتتسع سلامة الرؤية إلى المدى الذي يتحقق معها نصر على الشيطان، وخلاص حق بمخلِّص حق، غير ذلك الذي يصوّره لنا دجال ويروج له دجالون؟!‏
        إن الأمل هو سر العالم، وسر الإنسان، وبلسم المضطهدين والمظلومين والمحرومين، وهو الذي يجعلنا نجر صلباننا في طريق الخلاص ونلهث فوق جمر الدروب، ونتعلق بالأخلاق والمثل وبالصبح القريب.‏
        ألا فلتكبر أيها الأمل، ولتتألق في فضاء أرواحنا حتى نتجرع كؤوس المرارة، ونتحمل أعباء العيش، وتبقى لنا أرجل تنغرس في طين الأرض، وأيدٍ ترتفع مع العيون إلى السماء لتلامس النجوم، وتراود عشقها الجميل.. العدل والخلاص وحرية الناس !! ألا فلتكبر أيها الأمل ولتتألق في فضاء أرواحنا حتى نشعر بعد كل انقشاع لظلمة ظلم،وانكشاف لسيل كذب وخداع، إننا ما زلنا قادرين على الاحتمال ومواصلة الكفاح من أجل الوصول إلى أهدافنا المشروعة والعادلة.‏

        الأسبوع الأدبي/ع364//27/أيار/1993‏

        إذا الشعب يوما أراد الحياة
        فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
        و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
        و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

        تعليق


        • #34
          رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

          الأمل والخداع بين شايلوك وراعي البقر
          بكل الوضوح والدقة أعلنت إدارة كلنتون على لسان مارتن انديك (أن نهجنا حيال المفاوضات سيتناول العمل مع " إسرائيل" وليس ضدها، فنحن ملتزمون بتمتين شراكتنا الاستراتيجية مع " إسرائيل" سعياً وراء السلام والأمن، إن أولئك الذين يسعون لتحقيق سلام شامل وحقيقي يدركون أن هذا لا يمكن أن يتحقق دون أن تقوم "إسرائيل" بالانسحاب من أراضٍ، الأمر الذي ينطوي على أخطار حقيقية لأمنها؛ أولئك الذين يسعون إلى تحقيق تقدم حقيقي، يجب أن يفهموا أنه لن يتحقق " التقدم " بدون هذا النوع من العلاقة الخاصة بين الولايات المتحدة و " إسرائيل ".‏
          ويضيف الأميركيون إلى ذلك تأكيد التزامهم " بالحفاظ على تفوق " إسرائيل" النوعي " وإقامة " شراكة تطوير إنتاج معدات التكنولوجيا المتقدمة " معها. ويقولون صراحة ": يتعيَّن على السوريين أن يكونوا راغبين في الالتزام بسلام حقيقي مع " إسرائيل " بكل ما يعنيه ذلك من إنهاء النزاع، وتطبيع العلاقات، وفتح الحدود، وتبادل السفارات، وإقامة علاقات تجارية ".‏
          وقد قدَّم اسحق رابين، على أرضية هذا الإعلان الأميركي المستمر والواضح بتصريح له يقول فيه: إنه سينسحب من بعض الجولان ولكنه لن ينسحب منه كله حتى لو وافقت سورية على مفهومه هو للسلام، وهو الذي تحدده المواصفات الأميركية التي سبقت الإشارة إليها.‏
          وفي ضوء هذا قد تتحدد تماماً نتائج الجولة العاشرة من مفاوضات واشنطن، في المسار السوري على الأقل، وتوجهات الضغط في تلك الجولة .‏
          إن الشراكة الأميركية ـ الإسرائيلية سوف تضغط باتجاه كسر الحلقة العربية بعد أن جسَّت طويلاً مناطق الضعف والقوة فيها. ونتائج تلك الجولة تبدو غير مشجعة على الإطلاق في بعض المسارات الهامة، وإذا كنا نعقد آمالاً من أي نوع، على أرضية تفعيل الدور الأميركي في المفاوضات، فإن ذلك لن يقدم لنا إلاَّ الإحباط والمزيد من الصدمات، فالولايات المتحدة الأميركية تعلن أنها ستعمل مع " إسرائيل" وليس ضدها " وهي تعرف منذ البداية ماذا تريد. ولكنها تتبع سياسة الجزرة والمخرز، لتغري العربي باستمرار التقدم نحو المنزلق، الذي يحصره فيما بعد داخل ممر ضيق محاط بصخور شاهقات، فلا يمكنه التحرك إلاَّ على المسار الذي ترسمه له " إسرائيل " من خلال الولايات المتحدة الأميركية.‏
          إن الذي يجري الآن على أرضية استمرار المفاوضات وإنعاشها، هو كسب للوقت وللعالم من قبل "إسرائيل"، وحصار للعرب وتوسيع لدائرة التآكل فيما بينهم. ومن يلاحظ انتشار " إسرائيل " الديبلوماسي وما تحققه من اتفاقات، والزيارات التي تتم لمسؤولين من مختلف بلدان العالم لها، وسعيها الدائب لتحقيق مكاسب لها، وفرض حصار على العلاقات العربية مع الآخرين، باسم السلام القادم، والمفاوضات التي تتم في واشنطن، وبضغوط السياسة الأميركية؛ من يتابع ذلك يدرك أن الوقت الآن يعمل لصالح " إسرائيل" داخلياً ودولياً وليس لصالح العرب.‏
          ذلك أن العرب يقطِّعون الوقت بالشكوى من استمرار المذابح ضد المدنيين في الأرض المحتلة، ومن عدم تحقق تقدم في المفاوضات، ومن السير البطيء لها، فهم يريدون الإسراع في المسارات التي تؤدي ـ في نهاية المطاف ـ إلى الاعتراف بـ " إسرائيل " ومنحها وجوداً على حساب الحق العربي والشعب العربي، دون أن يأخذوا جراء ذلك سوى بعض أرضهم، بمقابل منح كل الفرص لليهود على أرضية السلام والاطمئنان والأمن والتفوق القهار، ليؤسسوا لمستقبلهم ويحلوا مشاكلهم، ويكملوا استيطانهم، وجلب مستوطنيهم، وإقامة كل ما من شأنه أن يوفر الفرص والإمكانات لتحقيق مرحلة قادمة من مشروع " إسرائيل" التوراتية .‏
          إن شايلوك يهيئ صكوكه وصناديق أمواله، وسكاكينه الرهيفة وينتظر انطلاقته الشيطانية نحو " الوطن "، نحو الوطن العربي، ليرابي ويتاجر ويهيمن ويكبل الناس بقيوده، ويغرقهم في خضم الاستهلاك، ويحولهم إلى عبيد القوة والحاجة، ويفتك بهم بعد ذلك كما يريد !!.‏
          فهل يتمكن من ذلك؟! وهل نمكنه من رقابنا يا ترى؟! أم أن هناك بدائل نفكر بها، ونعمل على تحقيقها لنستثمر قدراتنا وطاقاتنا والزمن الذي يتسرب من بين أصابعنا ؟!. يبدو لي أن تحركنا مازال بطيئاً جداً على مسارات بديلة، ويبدو لي أننا لا نفكر جدياً بالبحث عن بدائل على الإطلاق، مادمنا قد اخترنا هذا المسار وحوصرنا فيه، وسلمنا بأن قوة قاهرة فرضته علينا .‏
          إن الخلد الأعمى في باطن الأرض لا يكلّ عن البحث والحفر والتسرب في شعاب الأرض، يؤدي حالة حياة وحيوية يعيشها وينفق عمره فيها؛ وأضعف الحشرات تحافظ على مقومات الحياة. وكل من آمن بحقه في الحياة، يعمل من أجل الحفاظ على مستوى فيها، وعلى سوية في التعامل مع أحداثها وقواها ومقوماتها، ليكون له حضور وبقاء وكرامة في أثناء الوجود والبقاء. فما لنا نركن إلى ما ينبغي ألاَّ نركن إليه، وندع الفرص تضيع والزمن يضيع؟!‏
          لقد أخذ العرب يتلفتون، بأشكال مختلفة، من كل ما يلزِمهم بشيء حيال القضية الفلسطينية، ومن كل ما يحملهم مسؤولية من أي نوع حيال الصراع العربي ـ الصهيوني؛ وأخذوا يتهافتون على " إسرائيل " بشكل مباشر أو غير مباشر، بأشكال التهافت وألوانه، وأخذ الاستسلام للأمر الواقع يدب في كياناتهم ويفتك بوجدان كل منهم، فهل هانت عليهم حقوقهم إلى هذا الحد؟! أم هانت عليهم صلاتهم بقضاياهم وببعضهم بعضاً إلى هذا الحد الذي يستوي معه العدو والصديق والأخ، وتستوي معه التجارة والشطارة والتآمر والتملص الجبان من المسؤولية التاريخية حيال الأمة وقضاياها ؟!!.‏
          إن أميركا تعبث بنا، وتتمادى بالعبث، وتشجع " إسرائيل" على الاستهتار والعبث والتعنت، ومداخل ذلك أو بعض مداخله تأتي من :‏
          ـ ضعف العرب وتآكلهم بالدرجة الأولى .‏
          ـ تماسك الموقف والتحالف الأميركي ـ " الإسرائيلي " .‏
          ـ ترامي العرب على العدو وحلفائه بأشكال مختلفة وعلى حساب القضية الأم والمصلحة القومية، والعلاقات الثنائية العربية.‏
          فهل إلى تغيير أسلوب المواجهة والتعامل مع القضايا العربية المصيرية من سبيل ؟!!. وهل يمكن استعادة التضامن العربي بشكل جيد وفعال، ليساهم ذلك إيجابياً في مواجهة العرب لما يُفرض عليهم من أوضاع وحلول ومواقف، لا سيما بالنسبة لصراعهم مع العدو الصهيوني ؟!!.‏
          وهل هناك أمل في أن نوقف زحف الاستعمار المباشر وغير المباشر على أرضنا وقرارنا السياسي واقتصادنا وروح العزة والكرامة في شعبنا، بعد أن دفعنا أفدح الأثمان لتحرير أنفسنا نسبياً من أشكال الاستعمار؟!! .‏
          وهل هناك أمل ترتفع وتائره في النفوس إلى الحد الذي نرفض معه هيمنة وغطرسة عدو رفضناه بحق طوال عقود، ودفعنا على طريق تحرير أرضنا منه عشرات آلاف الشهداء، ومئات مليارات الدولارات، وما لا يحصى من الآمال والمعاناة والمقاساة والوجع القومي ؟!. إن الأمل في نفوسنا أكبر بكثير من اليأس ومن الهزيمة، وإذا لم يتمكن عرب اليوم من رد الهجمة التي تجتاح ما تبقى من حقوقهم وكرامتهم، فإننا على ثقة بأن الأمة العربية لن تموت وسوف نتوجه إلى الأجيال القادمة بكثير من الثقة والأمل؛ ولكن يبقى مراً في حلوقنا أن يسجل هذا الجيل على نفسه عاراً في التاريخ وأمام أجيال الأمة، وأمام الأمم، بأنه لم يستطع حتى أن يتماسك في المحنة، ولا أن " يتهافت بكرامة " ـ هذا إذا كان في التهافت أصلاً كرامة ـ أمام عدو تاريخه هو تاريخ الجبن والنذالة والحقد العنصري البغيض ...‏
          ألا إن الأمل في نفوسنا أقوى من شايلوك وسكاكينه وعقوده وصناديق أمواله، وأقوى من (الكاوبوي) الذي يسرح في بعض أراضينا وأنشوطته في كفه.‏
          فهذه الأرض ما استسلمت أبداً للقراصنة والطغاة والظلمة، وإن كان الناس فيها قد ترنحوا من آن لآخر، فإن ترنحهم إلى وقوف، فثبات، فصمود. وسنعرف كيف نتملص من أنشوطة راعي البقر ومن سكاكين شايلوك اليهودي العنصري البغيض.‏

          الأسبوع الأدبي/ع366//17/حزيران/1993‏

          إذا الشعب يوما أراد الحياة
          فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
          و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
          و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

          تعليق


          • #35
            رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

            في قوتنا وضعف العدو
            الكلام على قوة " إسرائيل " العسكرية، وقدرتها على التأثير في صنع القرار الأميركي، ودخولها مرحلة المد الدبلوماسي والانتشار السياسي في قارات الأرض، وامتلاكها قاعدة صناعات عسكرية، على الخصوص، تمكنها من تطوير أسلحة، ومن أن تصبح مصدراً رئيساً للأسلحة، كل ذلك ينبغي ألا يحجب عنا الضعف الكامن في ذلك البناء، والمنافذ التي يؤتى منها العدو، كما أنه ينبغي ألا يمنعنا من البحث عن مصدر القوة لدينا، تلك التي تمكننا من الصمود وصولاً إلى المواجهة والحسم الناجحين. قد يبدو الكلام على صمود ومواجهة وحسم، من بضائع زمن فات، ومما هو خارج دائرة الزمن العربي أصلاً، ولكنني ممن يتشبثون بالعزف على مزمار عريق في الصحراء، إيماناً مني بأن روح الرمل سوف يتوثب عاصفة ويستعيد الحياة والكرامة والحياء، وممن لا يقتنعون بضرورة طي السجل الماضي للقضية واعتبار كل ما كان كأن لم يكن؛ وممن يقوم بينهم وبين فكرة " دولة يهود " معترف بها في فلسطين، جدار من دم الشهداء، ومدى لا يُحدّ من معاناة أجيال ممن شردوا ولجؤوا ونزحوا واقتُلِعوا من جذورهم. وأجيال عربية انعكست عليها القضية والمعاناة بأشكال مختلفة، ولذلك أراني منسجماً مع نفسي في أحلامها وتطلعاتها و "أوهامها " وهي تدعوني لأن أخرمش بأظفاري سطح حصن العصور القادمة الذي يسوّى بعناية وعلى أحدث طراز، ويُصقل ويُلمّع، ويحاط بآسية من الأحلام والأوهام.‏
            إن الضعف الذي قلت إنه كامن في بناء كيان العدو المزروع في فلسطين المحتلة، يمكن التماسه في الآتي :‏
            ـ الاعتماد على المساعدات الأميركية والابتزاز والجباية اليهودية لتغطية الاحتياجات والعجز والضعف الاقتصادي، واحتياجات التوسع والاستيطان واستيعاب المستوطنين، وقد لا تكفي مبيعات الأسلحة الإسرائيلية وعمولات مبيع الأسلحة الأميركية مستقبلاً لتغطية الموارد الضرورية للخزانة، ولن تتمكن الولايات المتحدة الأميركية إلى ما لا نهاية من تقديم المساعدات وحل المشكلات والضائقات المختلفة، لاسيما وهي تعاني من أزمة اقتصادية ومن بطالة مزمنة وضائقات كثيرة جرَّاء التزامات دولية وداخلية. وإذا ما حدث وقصرت ـ لسبب أو لأخر ـ في شد بعض العرب لدفع أتاوات غير مباشرة لـ "إسرائيل"، فإن الأخيرة لن تعوض ببساطة ما يأتيها من مساعدات وإعانات، ولن تتمكن من تعويض ذلك عن طريق الاستثمارات الزراعية نظراً لضيق المساحة والكثافة السكانية والاستثمارات السابقة العالية المستوى حتى الآن، في فلسطين المحتلة. ولذلك يتم التركيز الآن ـ وفي إطار التسوية العامة للصراع العربي ـ الصهيوني، يتم التركيز على :‏
            ـ فتح أسواق الاستهلاك، على مصراعيها بإقامة المناطق الحرة، والعمل على فتح الحدود " للتجارة الدولية " التي تعني توجهاً للبضائع في اتجاه واحد، تستفيد منه " إسرائيل "، بوصفها منتجاً لبعض السلع، وسمساراً مروجاً لبضائع الغرب في أسواق العرب، حيث تصبح الوكيل المعتمد الذي يمول المنطقة بكل ما تريد .‏
            وإذا ما ربطت هذه الأسواق بمصالح جزئية لبعض العرب فأنها ستجد من يدافع عنها من أبناء المنطقة العربية ذاتها، حيث يصبح عيش أولئك مرتبطاً بالوكيل الأكبر " إسرائيل " .‏
            وإذا ما قاطع العرب " رسمياً وشعبياً " شايلوك اليهودي الجشع، ورفضوا تطبيع العلاقات معه، وتماسكت مصالحهم وبقيت على الخط النقيض مع مصالحه، فإنه لن يستطيع أن يجد الموارد اللازمة لحل ضائقاته الاقتصادية، ولا تلك الضرورية للاستيطان وجلب ملايين اليهود وتوطينهم في فلسطين والأرض العربية التي سيسعى لاحتلالها على أرضية مشروعه الاستيطاني ـ التوسعي ـ التوراتي .‏
            ـ كون المجتمع اليهودي في فلسطين المحتلة مؤلفاً من قوميات وأعراق وأبناء دول وثقافات ومجتمعات عديدة، مختلفة العادات والتقاليد والأعراف، ولا يجمعها إلا رابط قوي واحد هو " التلمود " والأوهام أو لأحلام التي بنيت على أرضية الدعوة الصهيونية القائمة أصلاً في جزء كبير منها على تعليماته. فهل تصمد هذه البنية الاجتماعية لخلافات كبيرة قد تنشأ بين الفئات المختلفة، على أرضية سياسية أو عرقية أو على أرضية التفريق الاجتماعي والسياسي والثقافي بين " الأشكنازيم " اليهود الغربيين و" السفاراديم " اليهود الشرقيين؟ وهل تصمد هذه التركيبة الملفقة أمام خطر حقيقي قد يهددها؟!‏
            وهل يمكن أن تقوم خلافات تؤدي إلى حرب أهلية بين اليهود المجلوبين إلى الأرض العربية المحتلة بسبب الانسحاب لصالح مشروع السلام، أو بسبب إقامة دولة فلسطينية؟! إن كل ذلك احتمالات واردة ولها أساس مكين في أرض الواقع ولكن الاعتماد على ذلك وحده يقود إلى ما يشبه الوهم، لأن ما يطرحه اسحق رابين الآن، كان المقبور موشيه دايان قد طرحه سابقاً أمام ملك المغرب بموافقة رؤسائه آنذاك، ولأن ما بين أحزاب اليهود من خلافات ومشكلات يبقى تحت سقف خدمة الأهداف الصهيونية الاستيطانية، محكوماً بالمصلحة الاستعمارية الصهيونية والتلمود، ولكن هذا ليس نهائياً على الإطلاق، فالخلافات التي وقعت بين العلمانيين والمتدينين، وما يمكن أن نسميه باختصار " أزمة شالوميت آلوني " وكذلك ما يقوم في الشارع الاجتماعي هناك من تنافر وفساد وفضائح آخرها فضيحة وزير الداخلية " درعي " وما يتوزع عليه اليهود من مشارب ثقافية بعدد البلدان التي أتوا منها، وما يصيب أحلامهم وتطلعاتهم من إحاطات وما ينتج عن ذلك. كل هذا يوضح بجلاء أن كل الإمكانات والاحتمالات قائمة ومفتوحة إذا ما وجد من يستثمرها بجدية واقتدار ووعي لتحقيق أهداف استراتيجيات قائمة، ذات برامج مدروسة وصارمة، تعمل على تحقيقها عناصر مدربة مسؤولة مؤمنة بحقها، قادرة على المبادرة، وعلى استخدام أوراقها بشكل ممتاز في هذا المعترك.‏
            ـ إن العصب الحيوي الذي تحتاج إليه " إسرائيل " لتقدمها واستمرارها، ليس بيدها، وهو النفط والماء، ولما كان النفط يأتيها من العرب، لاسيما بعد كامب ديفيد، والماء تأخذه من المياه العربية في الأراضي التي تحتلها الآن وسوف تعيدها على أرضية " السلام " فان العرب قادرون على التأثير الجدي على العدو إذا ما اتفقوا على استراتيجية عمل موحدة فيما يتعلق بالطاقة والمياه.‏
            ولكن هل يتفق العرب؟! وإلى أي مدى يمضون في اتفاقهم؟!‏
            وهذه النقطة بالذات تقودنا إلى الدخول في الشق الثاني من الموضوع المؤثر وهو مصادر القوة التي لدينا نحن العرب. وقبل أن أشير إلى أي منها لا بد من التأكيد على أن كل ما سأذكره لا قيمة له إذا لم يوجد القرار السياسي العربي الذي يأخذ بمبدأ التحرير والمضي في الصراع العربي ـ الصهيوني إلى مداه، حسب ثوابته وأهدافه الرئيسة. لأن داء الأدواء في هذا الموضوع يكمن في القرار السياسي العربي على الخصوص، وفي قومية القضية والقرار.‏
            إن مصادر القوة العربية كثيرة وكبيرة، وتشكل عامل تأثير على العدو وعلى أميركا التي تدعمه، ولا نريد أن نتكلم الآن على النفط والقوة العسكرية، والأعداد البشرية، والقدرة المالية، بل على قوة الرفض العربي الشامل للاعتراف بالعدو وتطبيع العلاقات معه، في أهمية إغلاق أسواق الاستهلاك العربية أمام البضائع الإسرائيلية وتلك القادمة من الغرب عن طريق الوكيل اليهودي في المنطقة، في مدى تأثير الموقف العربي الثابت من أحكام المقاطعة العربية، والقرارات التي سارت على هذا المسار منذ بدأ الصراع العربي ـ الصهيوني وتطور .‏
            إن مقومات القوة العربية باتت في هذه المرحلة معنوية ثم مادية، فهل نتطلع إلى صلابة تامة في الموقف العربي الرسمي والشعبي تقوم على رفض الجسم الغريب الذي يسمى " إسرائيل " في الجسد العربي؟! أو أننا نمهد الطريق نفسياً واجتماعياً بالوسائل المتاحة أمام قبول هذا الجسم؟!. إن تطورات الأحدث وتوجهات الرأي تشير إلى سلبية الموقف العربي حيال حالة العداء، ويظهر ذلك جلياً في أكثر السياسات العربية وفي بعض الحالات الاجتماعية التي تبرز في أكثر من بلد عربي. فلم يعد اليهودي ـ الصهيوني مرفوضاً وعدواً يشكل وجوده خطراً على وجودنا، بل أصبح عند تلك السياسات والشرائح الاجتماعية والفئات، أصبح تعنته وصلفه هو المرفوض، وأصبح المطلوب منه أن يقبل بجزء من حقنا لنقبل بحق له في الوجود بيننا (؟!) ولم يعد الكيان الصهيوني كياناً معترضا عليه ككل، ومرفوضا وجوده كدولة في المنطقة، بل أخذ الاعتراف به ينمو منذ قمة فاس إلى أن أصبح مدوياً في السياسة العربية الرسمية هذه الأيام من أيام الناس، وصار المكروه المرفوض المزعج، هو تسويفه ومماطلته ورغبته في الحصول على الأرض والسلام معاً، ولو انه يعيد الأرض لربح السلام والاعتراف معاً، وربما تعاملاً إيجابياً ونوعياً من الدرجة الأولى من العرب الذين كانوا لا يقرون له بأي حق من أي نوع في هذه الأرض.‏
            إن كل المقولات والمحرمات السابقة سقطت، ولا أدخل الآن في كيفية سقوطها ومبررات ذلك السقوط وأسبابه وفي كون ذلك مقبولاً ومستساغاً ومسوّغاً بالدرجة المرضية أم لا، وإنما إلى ما يمكن أن يسمى " واقع الحياة السياسية العربية اليوم ". والمتتبع لبعض المصطلحات الحديثة العهد، يصاب بدوار أعتى من دوار البحر لمن يتأثر به، ذاك هو دوار البر السياسي العربي الراهن، فبعض دول الخليج العربي أوقفت المقاطعة العربية للشركات التي تتعامل مع العدو وهي تذهب إلى المدى الذي تعلن معه أنها تطمئن إلى تعاون مع " إسرائيل " أكثر من اطمئنانها لبعض العرب، ولو أن هذا الكلام قيل قبل اجتياح العراق للكويت لما كان الكفر أشد منه استنكاراً عند أبناء الخليج العربي أنفسهم.‏
            وفي المغرب العربي الكبير تبعت تونس خطا المغرب ورضيت باستضافة إحدى لجان المفاوضة المتعددة الأطراف، وكأنما العرب الوسطاء يكثرون ويكثرون لإقناع العرب الذين تحتل أرضهم، أو الذين مازال رفض العدو يتدفق ناراً في دماء عروقهم، لإقناعهم بالقبول والإقبال على الفرصة السانحة .‏
            وفيه أيضاً قام حجيج جماهيري بزيارة للقدس مروراً من مخفر إسرائيلي وتحت علم صهيوني، وقام " أبي ناتان " الصهيوني الذي يعمل لوجود " إسرائيل " ودعم كيانها بطريقة مغايرة لطريقة إسحق شامير واسحق رابين بزيارة إلى الجماهيرية ليجتمع بقيادات فيها، وقد وسع هذا اليهودي دائرة عمله التي كانت تنحصر بالقيادات الفلسطينية .‏
            وفي فلسطين " التشرد والثورة " تقوم لقاءات بين وفود لكتاب فلسطينيين وآخرين يهود في الدول الاسكندنافية وغيرها، دون أن يثور حول ذلك ضجيج؛ ويجتمع وفد من شبيبة حزب العمل الصهيوني مع وفد من اتحاد طلاب فلسطين في الدول الاسكندنافية أيضاً، ويصدرون بياناً مشتركاً، من دون أن يسبب ذلك جرحاً أو هزة للوجدان الفلسطيني خصوصاً والعربي عموماً !؟.‏
            وتجري هنا وهناك خطوات ولقاءات ومبادرات الغاية منها تسويق العدو وترويجه نفسياً واجتماعياً وثقافياً واقتصادياً بعد أن تم تسويقه سياسياً، وما على الغاضبين إلا أن يضربوا رؤوسهم بالجدار حتى تنفلق فهذا هو ما يفرضه العصر الأميرو ـ إسرائيلي وما يفرضه " منطق الواقعية السياسية " الآن.‏
            وكم من كلمة حق أريد بها باطل في التاريخ ولكنها غيرت وجه التاريخ، وها نحن، عرب اليوم، نخوض في ماء عكر قوامه " حق يراد به باطل "، و " باطل استقوى حتى صار حقاً ؟!؟ ربما مشت القافلة بعيداً وخلّفت وراءها صراخ جرحى أو مصابين ميؤوس منهم ومن شفائهم، ولكن ما الذي يفعله المجروح سوى أن يتألم ويوقد نبضه ناراً يستدفئ بها، ويستمطر شآبيب الرحمة على وضعه ووضع سواه؟! ومن يدري لعلّ في ذلك خيراً ولعلّ فيه فائدة .‏
            إن لدى العرب ما يدافعون عنه، وما يدافعون به، وتنقصهم الإرادة، وينقصهم القرار، وينقصهم أن يكونوا على قلب واحد، فهل تراهم يكونون؟! .‏
            إنني لا أشك بأمتي، ولا بقدرتها، ولا بحيويتها وإمكانية انتصارها على نفسها وعلى عدوها في قادمات الأيام، وربما من أجل ذلك وبسببه لا أكفّ عن العزف على ناي الرمل، ناي الحي العريق الذي لا يطربني سواه.‏

            الأسبوع الأدبي/ع368//1/تموز/1993‏

            إذا الشعب يوما أراد الحياة
            فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
            و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
            و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

            تعليق


            • #36
              رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

              دعوة إلـى عمل مغاير
              لم يعد هناك مجال لتضييع الوقت في المماحكات الكلامية حول ما هو عادل وشرعي ومنطقي وأخلاقي، مع الغرب المتصهين والصهيونية العنصرية المنتشرة ظلاماً في فلسطين المحتلة، ولم يعد مجدياً ولا مفهوماً ولا سليماً، بأي حال من الأحوال، التغافل أو الغفلة والدخول على أرضية ذلك أو سواه، في حوار الطرشان مع عدو يرسم استراتيجية لقتلك واستعبادك واستلابك ويسارع في تنفيذها بكل الوسائل، تحت كل الذرائع، ويجعلك تجري ليلهيك عن نفسك، خلف منطقه وافتعالاته ومفاهيمه المشوهة، وتسويغاته للأفعال والتدخلات والممارسات التي أصبحت تزري بالعقل والحق والإنسان، ولم يعد مقبولاً الاستمرار في ثقافاتها وعقائدها وأخلاقها وخصوصياتها، وتسخر المنظمة الدولية وهيئاتها للأغراض الاستعمارية، وتشوه قرارات دولية وتمحوها بالتسويف، وتفرض قرارات دولية وتبيد بها إرادات وشعوباً ومعنويات دول، بالتنفيذ التعسفي والقهر الفتاك.‏
              لم يعد ذلك مجدياً ولا مفيداً ولا مقبولاً بأي مقياس، بل أصبح الاستمرار فيه ينطوي على نوع من الاستهانة بالوجود القومي والإهانة للذات، والمهانة للتاريخ، وعلى إزراء بالحقوق والقيم والمقدرات.‏
              في الوقائع التي يقدمها لا واقع الراهن أو يشير إليها، نحن أمة تفصّل لها المشكلات فتلبسها وتتباهى بها، ويرشح منها الوهن فتتغافل عن حالها، ويزيّن لها الافتتان بفتنة القتل فتذهب في ذلك إلى المدى الذي يرضي العدو، ويقرع لها طبل فترقص على إيقاعه حتى يكتفي الطبال، وترفع عليها مقرعة فيتفرق جمعها شذر مذر، كلٌّ يفرح بأن الضربة لم تطل رأسه بعد، وإن كانت ألقت أخاه أرضاً يتفحص بدمه.‏
              وحين يركَّز أمر الفتك علينا، وفينا بأيدي الأعداء وأيدينا، فإنما يؤسس على ذلك فتك بكل من يرتبط بنا ونرتبط به، حضارياً وعقائدياً ومصلحياً، حتى الأخوة الذين باعدت بينهم ظروف الحياة وصروف المحن، من أبناء أمتنا، ينال كل منهم جرعة من كأس الصاب، وهو في مكانه من أرض البشر، ليرى الناس، كل الناس، كم هو عاجز ابن تلك الأمة، وكم هي أمته أعجز منه، وأقل قدرة على استنقاذه، فيكون في ذلك كله عبرة ومهانة ودفع نحو مزيد من السحق والمحق، ليزداد أمرنا في الناس خفة وهزالاً، ولتحقق على أرضية ذلك خططٌ أُعلنت، ثم غُطي الإعلان عنها بالاستخفاف المقيت، الذي يشكل جزءاً من مخطط تنفيذها.‏
              وإذا كان ما نصرخ ونموت بسببه لا يزول إلا بفعل منقذ، فعل قوة واقتدار، وعلم، يجلو الغم ويزيل الهم، ويحرر الأذرع والإرادات والقرارات والأعماق، قبل تحرير الأرض من الاحتلال والأيدي من القيود، والعقول من استفحال الجهل، فإن توجهنا نحو ذلك الفعل لم تظهر ملامحه بعد، ورؤيتنا لمشروعنا البديل لم تنضج في الأماكن التي ينبغي أن تنضج فيها.‏
              في الواقع الذي تشير إلى بعض ملامحه الوقائع، نحن مكبلون بأصفاد وأغلال مزدوجة، منها ما يرميه علينا الأعداء ومنها ما هو من فعل أنفسنا وأخوتنا وأبناء جلدتنا.‏
              - من يفاوض منا من أجل "سلام" على أرضية حرب الخليج الثانية والمتغيرات الدولية وما أصاب العرب من انهزام، يفاوض وهو يسند ظهره إلى وهم أو توهم عربي كبير يكبر كل يوم، ويمتد ويشتد كل يوم.‏
              وحين تضيق دائرة الخناق على الواقف في تلك الساحة ويتوجه بصوته ويديه وعينيه لأمته، لا يجد إلا أذرعاً تغرقه في الدوامة، ولا يسمع حتى أصداء صوته، ويخال أنه يسمع صارخاً يصرخ به: أنت اخترت طريقك فاحمل صليبك فيها، إنّا نحمل صليبنا في طريق أخرى.‏
              - ومن يواجه عدواناً وتفتيتاً لمقومات الحياة في كل ما يشكل قوام الحياة، لدى الوطن والناس، في بلده، لا يلقى إلا انصرافاً من أخوته عن مشكلة شعبه، وتشديداً على محنة ذلك الشعب.‏
              - ومن يكتوي بنار الفتنة ويخوض دوامة القتل والاقتتال الداخليين، يجد في كل من حوله عدواً ومصدر فتنة وناراً تسعى إليه، فيزداد شكاً وتشكيكاً، ويوغل في طريق الدم، فاتحاً طريق الندم القادم، ولات حين مناص.‏
              - ومن يدير ظهره لأمسه ولأمته يجد نفسه يغرق شيئاً فشيئاً في الغربة ويدخل شدق التنين، أو دوامة مغرقة، ويصبح، وقد قطع منتصف الطريق إلى ما يظنه شاطئ الأمان، وقطع حباله وأبحر في مركب الآخرين، يصبح مندفعاً بالمكابرة، مدفوعاً بصدمة الأمس القريب التي أخرجته من جلده وأذهلته عن نفسه وأهله، ولا يجد من يذهب في تنبيهه إلى خطورة ما يدرج فيه من إغواء وإغراء عاقبتهما وخيمة، لا يجد من يذهب في ذلك إلى حدود إمساكه من تلابيبه بدافع من حرص، وتحذيره بوعي وحكمة وإخلاص، إلى أن يعود إلى أهله وداره وتاريخه ومصدر العزة في قراره.‏
              - ومن يجوع ويعاني ويخوض بحر المرارة لا يجد من أمته مسعفاً ولا منقذاً، بل يجد من يزيّن له الارتماء في حضن الموت الأمرِّ، حضن العدو الذي يحمل رغيفاً بيد وموتاً زؤاماً بأخرى؛ ما لم تهُدْ معه إلى ما يريد من تقدير وتدبير وتبشير.‏
              إن وطننا يتناوشه اليأس، ومواطننا يغرق في سطحية وانحلال، ويستبدل الطموح العالي بتطلعات قصيرة النظر. ويكتفي الناس -تحت وطأة تراكم الإحباط- بأقل مما تكتفي به بعض ذوات التطلعات والطموح من الكائنات الحية.‏
              فكيف بنا نبقي وكأننا معلقين بين السماء والأرض، في أعناقنا أنشوطة العدو، وأرجلنا تلوح على بعد أمتار من أرض تثبّت فيها الأقدام؟! شاخصة أبصارُنا إلى حلول يرسمها العدو ويفرضها وكيله أو شريكه الذي يرتدي مسوح الوسطاء، ويقرعنا بصواريخه وقنابله كلما رأى ضرورة لذلك، ونحن لا نملك إلا أن نسترحمه بنظرات تغرقها الدموع؟!.‏
              كل شيء مستهدف، ومبرمج على خرائط المحق والإبادة والإلحاق والإضعاف، كل شيء فينا وفي أوطاننا مستهدف وما تلميحات المجاملة والاعتراف بالأهمية، إلا استدراج لكسب الوقت وتهيئة المناخ وإحكام القبضة حول العنق، ومن يرتاح إلى ضآلة قمة جبل الجليد الطافية سوف يصاب بالغرق والروع حين يبصر ويتبصر ويكتشف حجم ذلك الجبل وثقله واتجاهاته.‏
              فهل ترانا نبادر إلى خلق مناخ يمكّننا من استعادة التضامن العربي ولو في حدوده الدنيا، ليقوم على أرضيّة حضور عربي يدعم توجهاً عربياً واحداً خلف موقف وقرار؟!.‏
              هل من أمل بتحرك عربي يضع حداً لحالة الانهيار والتمزق، ويجعل أولئك الذين "يفلتون" على أمتنا وقضايانا شتماً وتهزيئاً يتوقفون عند حدود، يفرضها المصير المشترك والفهم المشترك، لا الرجاء ولا التودد والشراء!!.‏
              هل يجوز لنا، بعد كل ما وصلنا إليه، أن نتطلع إلى مبادرات سياسية عربية تلزم العرب، أو أولئك الذين لم يرموا قفازهم من العرب بعد، في وجه أمتهم وأخوتهم، تلزمهم بشيء أخلاقي وواقعي، ومصلحي لهم أولاً، حيال أمتهم وأخوتهم ووطنهم وقضاياهم؟!.‏
              هل يتاح لنا، والعالم الصناعي يتوجه إلى فرض تصور وقرار وخطط، من أجل رفع المقاطعة العربية عن المتعاملين مع"إسرائيل"، أن ندعم موقفاً عربياً إيجابياً مؤيداً لاستمرار المقاطعة ولو في حدودها الحالية الدنيا؟!.‏
              إن أصوات مشوهة ترتفع في فضاء الصحافة والثقافة عربياً تنادي بالذهاب إلى أبعد من رفع المقاطعة، وتقول بضرورة الذهاب مباشرة إلى التعاون مع"إسرائيل" حتى قبل أن يرفع الفلسطينيون قتلاهم من شوارع المدن والقرى المحتلة، وقبل أن يقول يهودي مجرد كلمة إيجابية بعودة الجولان والأرض المحتلة من لبنان؟! وهذا الذي يجرح ويفضح يعبّر عن سياسة وتدفعه سياسة، أو هو رأس رمح للأجنبي يتوجه إلى قلب المحرمات العربية والمقدسات العربية في آن معاً. فهل ترانا نستطيع الالتفات إلى عمل مجدٍ على أرض الواقع يساهم في بناء موقف قومي نظيف يمكننا من الوقوف بوجه الاجتياح السلبي العام الذي يجتاح أرواحنا وأقطارنا وقراراتنا.‏
              إننا بحاجة إلى شيءٍ عملي، على أرض الواقع، وبحاجة إلى سياسة عربية تبقي شيئاً من التماسك القومي والروحي والأخلاقي في الوجود العربي، ونحن بحاجة، قبل ذلك كله، وبعد ذلك كله، إلى مزيد من التعمق في تدارس أوضاعنا وما آلت إليه قضايانا المصيرية، وموقعنا في العالم، ومقومات وجودنا وقوتنا ودفاعنا عن ذلك الوجود وتلك المقومات.‏
              فهل نسرع إلى فعل شيء في هذا الاتجاه ونكف عن المماحكات العقيمة مع عدو وأنصار عدو، صمموا على إذلالنا وإعادة استعمار بلادنا، ونفينا من ساحة الحضور والحضارة؟!.‏
              إننا بحاجة إلى عمل مغاير، ينبثق من منظور وشعور مغاير لما هو في الساحة، وإننا قادرون على فعل شيء، ولكن لا بد من أن تقوم الإرادة ليقوم الفعل وينتشر ويكون مجدياً. فهل نحن مقدمون على ذلك في زمن المقت والضيق هذا؟!.‏
              إنني لشديد الأمل بأمتي وعظيم التفاؤل بمستقبلها .‏

              الأسبوع الأدبي/ع369//8/تموز/1993‏

              إذا الشعب يوما أراد الحياة
              فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
              و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
              و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

              تعليق


              • #37
                رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                الوجه الأميركي الجديد
                في إحدى الجولات الدعائية ـ الانتخابية التي سبقت الانتخابات الأمريكية الأخيرة قال جورج بوش عن كلنتون ونائبه أل غور: " إن كلبتي تفهم في السياسة أكثر من هذين المهرِّجين ".‏
                وقد فاز " المهرجان " في الانتخابات وسقط بوش والكلبة المسيَّسة، وقيل الكثير عن أسباب ذلك، والكثير أيضاً عن نتائجه وانعكاساته على أميركا وحلفائها وأعدائها وعلى المجتمع الدولي الذي تمارس دوراً بارزاً فيه .وما يعنينا من تلك الانعكاسات هو ما يقع علينا وعلى قضايانا ومنطقتنا. وتلمُّس ذلك يصح من مدخل بسؤال يقول:‏
                هل تغير الموقف الأمريكي من قضايانا؟!‏
                وفي أي اتجاه كان ذلك التغير؟!‏
                يمكن التماس الإجابة على ذلك في ملامسة سريعة لأبرز القضايا الموضوعة على النار وأولها:‏
                1- المفاوضات الجارية في واشنطن بين العرب و" إسرائيل" على أرضية مؤتمر مدريد، ومرجعيَّته .‏
                ففي الجولتين الأخيرتين: التاسعة والعاشرة اللتين تمَّتا بإشراف إدارة كلنتون لم يحدث تقدم يذكر على صعيد الواقع. وإن كانت دخلت تعابير نظرية ما زالت تبحث عن ترجمة عملية لها: مثل الشريك الكامل، والوسيط النزيه .‏
                وإذا نظرنا إلى ذلك الدور وجدناه شراكة كاملة للعدو الصهيوني ضد العرب الذين أخذت مرجعيات مؤتمر مدريد تهتز تحت أقدام مفاوضيهم؛ ووجدنا أن الحركة الصهيونية الأمريكية هي التي تحتل بشكل شبه تام موقع الأميركي الراعي للمفاوضات والمشرف عليها، والشريك فيها و " الوسيط النزيه " أيضاً. فقد انتزعت الأوساط الصهيونية في أميركا هذا الدور وسيطرت على هذا القرار في السياسة الأميركية وعلينا أن نتذكر أن الوفد الأميركي الذي زار المنطقة مؤخراً ليدفع المفاوضات إلى الأمام ويبقيها على نار ساخنة هو وفد صهيوني ـ أميركي تام في معظمه: فدينس روس، ومارتن انديك وأهارون ميلر يهود صهاينة، كل منهم كان وما زال يعمل في مؤسسات صهيونية أو تخدم الصهيونية. ومارتن انديك هو الذي قدم في بيانه أمام " ايباك " مؤخراً في واشنطن سياسة الرئيس كلينتون التي بينت بما لا يقبل أدنى لبس أو شك بأنها منحازة إلى مفهوم السلام " الإسرائيلي "، ولا يمكن أن تقبل إلا كل ما فيه " أمن " إسرائيل" وتفوقها النوعي على العرب مجتمعين، وخير شعبها " .‏
                وإذا كان ديجرجيان قد التحق بالوفد في سورية فلخبرة سابقة توضع في خدمة قيادة الوفد، وسوف تحدد رؤية مجموعة العمل هذه تحركات وارن كريستوفر وزير الخارجية الأميركية، وترسم أفقها .‏
                وحين يزور كريستوفر، في الأسبوع القادم، هذه المنطقة العربية التي يصرون على تسميتها " الشرق الأوسط " بهدف فصلها وفصل القضية الفلسطينية عن الجسم العربي والذاكرة العربية، حين يفعل ذلك ستكون قد سبقته الحلول التي تفرضها " إسرائيل "، وشاع المناخ الذي تحول فرضه أيضاً.‏
                إن هذا الذي " نلثغ " به سياسياً معروف في الأوساط السياسية، وربما كان مرفوضاً وممجوجاً، ولكن ماذا تفعل أمة أو سياسة فقدت السيطرة على مقومات القوة، أو غفلت عن تنمية قوتها وتوظيف طاقتها إلى الحد الذي تشعر معه بالعجز أو بالإحباط، وبأن الزمن لا يعمل لصالحها، وعليها أن تلهث وراء الممكن لا العادل، ووراء المعروض عليها ولو كان مرفوضاً منها؛ ولم تعد ترى طرقاً سالكة غير التي تضيئها لها تحالفات الأعداء؟!‏
                2- موقف الإدارة الأمريكية من العرب خاصة والمسلمين عامة وفي هذا المجال علينا أن نقسم العرب إلى عربين ـ كما هي الحال دائماً، منذ العرب العاربة والمستعربة حتى يوم الناس هذا ـ عرب يمنحون أميركا الولاء فتمنحهم الحماية بعد أن تسلب أموالهم وروح القرار في بلدانهم، وتلغي إرادتهم القومية أو تشوهها، وتلحقهم بها إلى الحد الذي لا يجدون معه لهم مخرجاً مما هم فيه إلا بالمزيد من التبعية والإخلاص للسيد الأميركي. وعرب تشك أميركا بهم وبولائهم، وهم عندها قسمان :‏
                ـ قسم تحت الامتحان والتطويع، أمّا بالضغط أو بالترويع، أو بالنبذ أو التجويع، ومن أولئك من هو في دائرة الإرهاب والتآمر على مصالح السيد الأميركي، ومتهم بالعمل على تعكير خواطر "الأميرو ـ إسرائيليين" أمّا بالسعي لامتلاك السلاح أو امتلاك أسرار تصنيعه وتطويره. وتعد العدة لكل فريق من هؤلاء أمّا لإلحاقه بركب السيد الآمر، أو لإلحاق الأذى والبطش به وبمصالحه.‏
                ـ وقسم تحت المطرقة، يعاني من الحصار والعدوان والعزل، إلى أن يستعيد موقعه الذي كان له في دائرة الولاء والرعاية، أو ليقترب من تلك الدائرة، دائرة الموالين، إذا لم يكن منهم في السابق.‏
                ولا يخرج المسلمون عموماً عن مثل ذلك من دوائر التصنيف التي للعرب. فهناك من هم أحصنة ميدان في إطار التحالف الأمريكي، والغربي بوجه عام، وهناك تبع يطلبون الرضا ويقدمون الامتنان، وهناك من هم في طور التطويع بوسائله وأساليبه المختلفة، وهناك من ينزل بهم غضب الفتك الغربي ـ العنصري ـ ولا يلقون من سيد " النظام العالمي الجديد " (؟!؟) إلاّ التواطؤ وتهيئة المناخ الدولي الملائم لاستمرار إبادتهم، وهو يبارك القاتل، ويغضي عن ألم الضحية. والبوسنة والهرسك، أفضل مثال يعرّي " النظام العالمي الجديد " كله. ويكشف زيف الأخلاق والقيم " والسلوك الحضاري " الغربي كله والأميركي منه على وجه التحديد، حيث تتم هناك الإبادة التامة والعلنية للجنس البشري، وتتراجع أميركا عن كل قرار تتخذه في هذا الموضوع قبل أن يجف حبره، لأنه لا يعجب الصرب العنصريين، ولا يرضي "إسرائيل" التي تحالفهم، ولا يتلاءم مع انتماءات الأميركيين ورغباتهم الدفينة.‏
                وحيث نجد مجلس الأمن الدولي عاجزاً حتى عن حماية قواته في بعض الحالات ـ بعكس وضعه في الصومال حيث يفتك بالسكان لأن هذه هي رغبة السيد الأميركي الذي يسيطر على المجلس ـ ونجده أيضاً عاجزاً عن اتخاذ قرار ما وتنفيذه، وهو في حقيقة الأمر معطل لهدف قذر يتمثل في حرمان المسلمين من كل وسيلة أو فرصة تمكنهم من البقاء أحياء، ومن دفع مخطط الإبادة عن أنفسهم. ويتجلى ذلك في عدم السماح لهم بالتسلح وتوريد السلاح للصرب والكروات بكل الوسائل .‏
                ولا نتكلم هنا عن حقوق الإنسان، ولاعن مكانة المجتمع الدولي، ولا عن المدنية والثقافة الغربية والتحضر وما إلى هنالك من ادعاء فارغ يشن الغرب باسمه، وتحت مظلته الحروب على الآخرين، وما هو في حقيقته الخُلُقيَّة ـ والسلوكية ـ حيال الآخرين ـ سوى كذبة مفضوحة لا أكبر ولا أوضح، كذبة بشعة تشكل عاراً لا يجد في هذا العالم التعس من ينظر إليه جيداً ويعرّيه جيداً ويحتقره جيداً .‏
                وإذا ألقينا نظرة أشمل على العالم من حولنا وجدنا أن الإدارة الأميركية الجديدة تتوسع في إقامة تمييز مزدهر على أساس القوة ـ بشمول الكلمة ـ والعرق والدين وحتى اللون وهذا كله يفضح جميع الادعاءات المتصلة بالأخلاق والحضارة والحرية وحقوق الإنسان والمجتمع المتقدم القائم على احترام الآخر وصيانة قيم الحق والعدل والأخلاق.‏
                وإذا كان هذا الأنموذج من العمل والتعامل مع الآخرين هو الذي يسود مستنداً إلى ثوابت ومبادئ سياسية وخُلُقية تعتمدها الإدارة الأميركية الجديدة، وإذا كانت تلك معاييرها وقيمها وأساليبها، فإنها إنما تؤكد فعلاً ما ذهب إليه جورج بوش في حملته الانتخابية ليس لأن الإدارة السابقة أكثر خُلُقيَّة وأرفع قيمة حضارية في تعاملها مع الآخرين لا سيما العرب، بل لأن تلك الإدارة كانت أمهر في الأداء السياسي، الذي يؤدي إلى النتائج "الأميركية " ذاتها من السلوك مع الآخرين والتعامل معهم، ولأن الإدارة الحالية لا تعرف كيف تخفي جلدها الأجرب بملابس حريرية، وربما هذا هو ما سمَّاه بوش معرفة سياسية أو فهم سياسي للعالم يؤدي إلى خدمة المصالح الأميركية وسيادة الأنموذج الثقافي والسلوكي الأميركي .‏
                إن إدارة كلينتون تباشر سياسة مكشوفة منحازة دون أقنعة، وتعلن أنها سوف تفرضها بكل الأساليب الممكنة، وإلاّ فإنها " ستتخلى " لتفتح الطريق أمام الصراع في المنطقة من جديد؛ ومعنى الصراع في المنطقة من جديد تكاتف أميركا و" إسرائيل" ومن يتحالف معهما من غرب وعرب ضد من لا يرضى بسلام على الطريقة الإسرائيلية، وبمفهوم للسلام يرعاه ويفسره ويفرضه صهاينة الإدارة الأميركية، الذين يمثلون وجهة نظر " إسرائيل " أكثر من رابين ذاته.‏
                وحيال هذا الوضع العالمي المزري، والوضع العربي المحزن، علينا أن نعمل دون كلل للتقليل من الخسائر وللتماسك في وجه العدوان المقبل علينا بكل صوره الوقحة، ابتداء من الاعتداء القريب على لبنان. وإننا نقدر على فعل شيء جيد بالوعي والعزم والتضامن العربي في حدوده الدنيا ... الدنيا؛ فهل إلى ذلك من سبيل يا تُرى ؟!.‏

                الأسبوع الأدبي/ع370//15/تموز/1993‏

                إذا الشعب يوما أراد الحياة
                فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                تعليق


                • #38
                  رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                  إفلاس خُلُقي للغرب
                  الغرب الحديث يحتضر خُلُقياً في البوسنة والهرسك، ويشكل احتضاره ذاك إحدى أبرز العلامات الفارقة لما يسميه"النظام العالمي الجديد"؛ كما يشكل بداية النهاية لعصر من الخداع والكذب طال وامتد موجه وغمر حقائق كثيرة وسحب في تياره الكثيرين.‏
                  وإذا كان قد قدّر لدماء المسلمين أن تسيل وتسيل في تلك المنطقة من العالم، على أيدي الهمجية- العنصرية الصربية، فإنها تسجل تاريخ ذاك الانهيار ووثائقه، وتمغّر وجوه الغربيين وغررهم بلون يميز المجرمين من سواهم، كما تسجل بداية الوعي بحقيقة الغرب"المتحضر" وماهية تفكيره السياسي- الاجتماعي نحو الآخرين.‏
                  فلم يعد تواطؤ الغرب مع الصرب والكروات ضد المسلمين المحاصرين بكل أنواع الحصار وأشكاله، لم يعد خافياً على أحد، ولم تعد مباركة الغرب لمذابح"التطهير" العرْقي التي تتم هناك، وعلى أساس ديني محض، بحاجة إلى دليل أو برهان.‏
                  - فالغرب، منذ أكثر من عام، يعطي الفرص تلو الفرص للصربيين لكي ينهوا مهمتهم وهي إبادة المسلمين، ويقوم بكل ما من شأنه تحقيق ذلك، ولا يتردد أبداً في التكشير عن أنيابه وإظهار قوته واستعراض تلك القوة، ضد العرب والمسلمين خاصة كلما ارتفع إحساسهم بالمأساة التي تتم هناك، وكلما فكروا برفع أصواتهم من أجل وقف المذابح.‏
                  لقد ظهر ذلك في رد الفعل على قرارات مؤتمر القمة الإسلامي سابقاً، ويظهر اليوم على عرض بعض الدول الإسلامية، لا سيما إيران وباكستان وتركيا، بإرسال بعض القوات لتنضم إلى قوات الأمم المتحدة هناك في ساحة المذبحة، وتعمل بإمرة المنظمة الدولية، وهو يفعل ذلك لأنه لا يريد شهوداً يرون ويسمعون ويحدثون أخوتهم عما يجري هناك من فظائع، ولا يريد أن يدخل أوربا أحد من"العالم المتخلف" الذي يسميه"خارج أوربا" ليقوم بفرض سلام لم تفرضه أوربا، أو حماية " ملاذا ت آمنة " أو بتسجيل وقائع الإبادة الأوربية للجنس التي تتم منذ سنة ونيف دون أن تلقى ردعاً من أي نوع، ودون أن تجد من يتدخل ليضع لها حداً.‏
                  إنه زمن الإفلاس الخُلُقي والروحي والاجتماعي في الغرب، وهو لن يتوقف عند حدود إبادة مسلمي البوسنة والهرسك، وقتل الشعوب في مذابح صغيرة هنا وهناك، وشن حروب التجويع والترويج، بل سيمتد ويمتد ليشمل مدى أوسع مما نتصور، وفي مدة أسرع مما نتصور أيضاً، ثم يحرق المفلس ذاته، وطالما فعلت أوربا"المتحضرة" ذلك بنفسها وبالغير.‏
                  ألم يكن الغرب هو الذي أشعل في هذا القرن فقط نار حربين عالميتين كلفتا البشرية عشرات ملايين القتلى والجرحى والمشوهين، ودمرت من العمران ما يفوق الوصف والحصر والتصور؟!.‏
                  ألم يكن الغرب"المتحضر" ذاته وراء حروب فتكت بشعوب وبلدان في هذا القرن، وأرهقتها إلى حدود الانهيار وعدم الاحتمال، سواء كانت تلك الحروب للتخلص من الغرب المستعمر، أو للقيام بحروب بالوكالة عن الغرب الذي يتاجر ويتناحر ويستغل الآخرين، ويريد أن يمضي في استعماره واستغلاله واستثماره للآخرين، وفي تناحره أيضاً إلى المدى الذي لا يتوقف امتداده.؟!‏
                  ألم يكن الغرب وراء الحرب الباردة بتكاليفها- والغرب أوربا وأميركا المتكافلة معها أو المتناحرة معها- ووراء حروب الخليج وحروب"إسرائيل" وحروب وحروب وحروب؟!‏
                  وهل"الحضارة" هي حرب على الإنسان ونهب له، وإزدراء لعقله وضميره وحرياته إذا لم يكن أوربياً، أو لم يكن على دين الأوربي وهواه؟!.‏
                  هل"الحضارة" هي فتك بالذي لا يملك القوة لأن"المتحضر" يملك القوة وبالتالي يملك كل المبررات والمسوغات التي تجعله حراً في تصريف الأمور والأقدار حسب رغباته وحسب ما توحي به مصالحه وما تمكنه منه قوته؟!‏
                  إن الغرب يتفرج الآن على مذابح الصرب والكروات في البوسنة، ويتفرج على مئات المعوقين والرضع يذبحون أو يعيشون في ظروف مروعة، حيث ينشفون هكذا من قلة الماء والغذاء، ويبقون قيد الإبادة والموت صبراً وقهراً وحرقاً، في ظلال الحصار"الحضاري" لأوربيين من طينة أخرى"غير طينة البشر"؟!.‏
                  وحتى الأمم المتحدة تتفرج، ولا تملك أن تفعل شيئاً، فأنياب الأمم المتحدة تظهر وتختفي كما تريد أميركا ودول الغرب الدائمة العضوية في مجلس الأمن، فنحن نراها تقتل الصوماليين حسب رغبة أميركا، بحجة أنها تدافع عن قراراتها وعن "نفسها"، وتتفرج على من ينتهكون قراراتها ويقتلون قواتها في البوسنة والهرسك، لأن أميركا أيضاً تريد ذلك، أو لأنها تواطأت مع روسيا"يلتسين" وإنكلترا "ميجر" على ذلك.‏
                  والنتيجة المباشرة: إبادة تامة للمسلمين في البوسنة والهرسك، وفتك بكل من يعادي المخطط الأميركي- الغربي حتى لو كان ذلك المخطط يدمره ويدمر وطنه ومستقبل شعبه.‏
                  والنتيجة النهائية: إفلاس أخلاقي وحضاري للغرب عامة، وانهيار لستار الوهم الذي يبنيه الغرب حول العقول. وانهيار الغرب الخُلُقي هذا وإفلاسه لن يكونا مجرد فتك بالآخرين يستمر إلى مالا نهاية، فالحقد يأكل الحقد كما يولده، والحسد عادل حيث يقضي على صاحبه، والانهيار والفساد الخُلُقيان يفتكان بالكيان من الداخل، بعد أن يترامى شررهما وشرهما على الآخرين.‏
                  ولن يكون بعيداً ذلك اليوم الذي نرى فيه اللصوص يتقاتلون على ما سرقوه من الآخرين، والمجرمين يشهرون أسلحتهم على بعضهم بعضاً إذا ما استيقظت الفتنة فيما بينهم أو حصحص الحق من حولهم، وسأل بعضهم بعضاً، أو سألهم الناس عمن فعل ذلك؟ أو لماذا فعله؟! وبأي حق؟!.‏
                  إننا لن ننسى دماء الأبرياء الذين يبادون بوحشية عنصرية تتضاءل أمامها النازية ولا تفوقها إلا الصهيونية. لن ننسى دماء الأبرياء لا في البوسنة والهرسك، ولا في فلسطين المحتلة، ولا في لبنان ولا في أي مكان من الوطن العربي والعالم، وسنكتب شهاداتنا عن عصر الهمجية- العنصرية الذي يقوده الغرب أو يسكت عليه، سنكتب تلك الشهادات في أدبنا وكتبنا وعلى جدران قلوبنا وفي آفاق أرواحنا، وستتعلمه الأجيال ليتغلغل في تكوينها، لا لترث الحقد أو تحمله، ولكن لتوقف الجريمة والمجرمين عند حدود احترام الإنسان وحقوقه وحرياته وعقيدته الدينية ونظافة قلبه وإيمانه. ولا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.‏
                  فهل على اسم الرب يذبح الخلق لأنهم لا يؤمنون كما يؤمن"الجزار" الذي يحمل السكين؟! وإذا ما تبودلت الأدوار يوماً وحملت الضحايا سكاكين، فهل يبقى الناس يتساقون الثأر والعار إلى ما لا نهاية؟! أم أن هناك حدوداً للإفلاس الروحي والخُلُقي، الذي يسبب ذلك، تصنعه الحضارة ويصنعه الإيمان، ويصنعه الاعتراف بحقوق الآخر وحرياته، تضع لهذا الفتك البشري المتبادل حداً؟!‏
                  "إن القانون الخُلُقي الغربي" الاستعماري يحمّلنا اليوم رهَقاً، وحين يستند إلى شرعة"عدل" ذات مكاييل لكل حالة على حدة ولا يخجل من فعله ذاك، بل يلجأ إلى فرضه قانوناً"حضارياً" بقوة السلاح وبلغة القهر، فإنه يجبرنا على أن نحفر في ذاكرتنا وفي متون قلوبنا فعله ذاك ليكون شاهداً علينا يدفعنا لامتلاك القوة التي تحقق العدل، ولنكون شهداء على الناس لكي يعدلوا لا لكي يتساقوا كؤوس المحن باسم"الله" والإنسان والأوطان... الخ.‏
                  إن البشرية كلها تتلقى الإهانة وتحتَقر إلى حد الابتذال حينما يتعرض الأطفال والأبرياء والنساء والشيوخ إلى الإبادة، وحينما تتعرض الحقوق والحريات والعلاقات الإنسانية وكل مفاهيم الضمير الحي وقيمه إلى الابتذال والمهانة والإبادة... وهو ما يحدث اليوم في البوسنة والهرسك، على مسمع ومرأى من الغرب"المتحضر"، الذي يفقد بذلك كل مبرر للحديث عن الحضارة والحرية وحقوق الإنسان والتعلق بتعاليم الأنبياء والأديان؛ ويسجل بالدماء البريئة إفلاسه الخُلُقي التام.‏

                  الأسبوع الأدبي/ع371//22/تموز/1993‏

                  إذا الشعب يوما أراد الحياة
                  فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                  و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                  و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                  تعليق


                  • #39
                    رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                    الاجتياح " الإسرائيلي " الثاني
                    اتخذ مجلس الوزراء " الإسرائيلي " المصغر قراره بشن هجوم على جنوب لبنان يوم الجمعة 23/7/1993 وبدأ تنفيذ هذا الهجوم يوم الأحد، وما زال مستمراً على مناطق وأهداف محددة شملت الأراضي اللبنانية.‏
                    وقد وضع العدو في سلة أهدافه لهذه العملية كلاً من:‏
                    -حزب الله، والمقاومة الوطنية اللبنانية إجمالاً.‏
                    -الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وسائر المنظمات وأشكال المقاومة الفلسطينية للاحتلال من لبنان.‏
                    -الجيش اللبناني والحكومة اللبنانية ووحدة لبنان.‏
                    -سورية واتفاقاتها مع لبنان ووجودها فيه، ودورها في عملية السلام.‏
                    -إيران وما تمثله بالنسبة لحزب الله ولرفض الاحتلال الإسرائيلي.‏
                    -والمرحلة الجديدة من مفاوضات السلام التي مهد لها وفد أميركي -صهيوني، وسوف يتابعها وارن كريستوفر وزير الخارجية الأميركية في مطلع آب القادم.‏
                    وبعيداً عن تفاصيل العمليات العسكرية ومجرياتها، تلك التي يتم تنفيذها في ضوء استفادة العدو من دروس اجتياحه للبنان عام 1982 وما تلا ذلك من مقاومة.‏
                    وبعيداً عن الدخول في تفاصيل ما تحدثه من خسائر بشرية، وفتك مادي ومعنوي بالناس الأبرياء، وبعمران بلد ما زال يلملم جراحه بعد حرب طويلة ضروس، وبصرف النظر عما قد تلحقه هذه العملية من ضعف وضرر بالمقاومة الباسلة للعدو، مما اعتدنا على احتماله والسكوت عليه، وعدم الاستفادة من دروسه، فإنني أرى ضرورة التوقف قليلاً عند هذه الظاهرة التي تتكرر منذ عقدين من الزمن دون أن يتغير وضعنا حيالها، وموقفنا فيها، وردنا عليها، بما يذكر ويفيد.‏
                    وهي ظاهرة العربدة الإسرائيلية المعززة أميركياً، في وطننا العربي عامة، وفي جنوب لبنان، وفلسطين "الانتفاضة" خاصة. حيث تقوم "إسرائيل" كلما أرادت -تحقيقاً لهدف ما، عسكري أو سياسي أو اقتصادي أو استيطاني، أو حتى دعائي، نفسي اجتماعي تقوم بهجوم على المواقع التي تريد، دون ما رادع يردعها، ودون أن تحسب حساباً لقوة تضعها عند حد.‏
                    وعربدة "إسرائيل" اليوم تمتد وتشتد في ظل صمت عربي مفزع محزن ذي أشواك ومدلولات، لا تريح نفساً ولا تضيء درباً ولا تطمئن قلباً؛ والخشية كل الخشية أصبحت على روح الشعب العربي وقوامه وروح الثقة والجدوى والمقاومة لديه. وهي في تقديري، مستهدفة بدرجة كبيرة، وأهم ما ستحققه "إسرائيل" من أهداف؛ إذ تقول لكل المقاومين والرافضين والمعاندين: هاتوا من يحميكم أو يسندكم أو يبعد عنكم غضبنا، ويخفف وطأة "قدرنا"؟! وإذا لم تستطيعوا فعل شيء من ذلك فهيا إلى موت في شكل نفي، أو صمت في شكل موت، يجعلكم أحياء بلا حيوية وحياة وجدوى !؟.‏
                    "إسرائيل" تعربد عربدة مدروسة متفقاً على متونها وهوامشها مع واشنطن، وقد قالت إذاعة "إسرائيل" مساء الأحد 25/7/1993 إن دجرجيان مساعد وزير الخارجية الأميركي ودنيس روس المفوض بالإشراف على مفاوضات السلام من الجانب الأميركي أبدياً -باسم الإدارة الأميركية- تفهماً تاماً لقيام "إسرائيل" بعمليتها هذه التي تسميها "رد الحساب" والذين يقولون: "إن العملية ترمي إلى تعطيل مفاوضات السلام وإبطال مفعول جولة كريستوفر التي تحمل فرصة للضغط من أجل التوصل إلى إيجابيات في المفاوضات"؛ يذهبون إلى ما اعتادت عليه "إسرائيل" من فعل كلما واجهها استحقاق ما، حيث تمضي إلى الأمام بعيداً فيصبح الاستحقاق الأهم هو أن تعود إلى حيث كانت قبل مطالبتها بتنفيذ آخر استحقاق. ولكنَّ لعربدة اليوم- بتقديري- هدفاً يضاف إلى طبيعة "إسرائيل" ويتصل بشيء منسق مع أميركا، وهو تقديم الطرف الغليظ من العصا، وسوط الناس به، من دون أن يجدوا شفيعاً ولا مخرجاً. وعندما يأتي كريستوفر حاملاً مقترحات صهيونية إسرائيلية مباركة أميركياً، ويطلب من العرب قبولها على أنها مقترحات أميركية "نزيهة ومحايدة وتعبر عن تحرك تام للشريك الكامل الشراكة في المفاوضات الذي لن يفرض على الأطراف حلاً بالقوة ولا يمكنه أن يستمر في الوساطة- الشراكة- الرعاية" إذا لم يكن للأطراف المعنية رغبة حقيقية في السلام؛ ولذا فإنه إذا رُفضت اقتراحاته فسوف ينقل اهتماماته لقضايا أخرى، داخلية وعالمية، وسوف يتركهم في هذه المنطقة يصفون حساباتهم بالطريقة التي يرونها ملائمة. من دون أن ينسى التأكيد على أن التزامات أميركا حيال "إسرائيل" لن تتغير، وهي التزامات معروفة جيداً لدى العرب، ومفهومة من قبلهم بشكل ممتاز.‏
                    ومعنى هذا أن تستمر "إسرائيل" في بطشها وعربدتها أو أن يقبل العرب "بالسلام" الذي تقدمه "إسرائيل" وأن يوافقوا على ما سبق أن عُرض عليهم ورفضوه. ولا أظن أن العرب سيجدون صعوبة في تسويغهم لقبول المقترح الأميركي- " الإسرائيلي " المر. فليسوا في وضع يمكنهم من الرفض في وقت تعربد فيه "إسرائيل" طولاً وعرضاً من دون أن يتمكن أحد منهم من أن يقول لها لا.‏
                    فقد نسينا حتى طعم بيانات الناطق العسكري، التي كانت تعبر عن معنوية الروح وتقاوم باللحم والإرادة، وآل أمرنا إلى تلقي الضربات والتطلع في فجاج الأرض وفجوات السماء بحثاً عن فرج.‏
                    إن الوقائع التي تقدم نفسها إلينا الآن من خلال العربدة الإسرائيلية المهلكة، والتواطؤ الأميركي المسموم، ينبغي أن تحفزنا للتفكير في المستقبل الذي سيبقى كالحاً إذا ما بقينا على ما نحن عليه عربياً من ضعف وتهالك وسلبية حيال العدوان وتصرفات العدو.‏
                    إن الروح المعنوية العامة لشعبنا تتآكل ضربة بعد ضربة، وبلعة من الذل بعد بلعة. وروح المقاومة يضمحل، والتسليم باقتدار العدو يتأصل في نفوس البسطاء، وسوف نحتاج إلى كثير من الجهد والوقت والإمكانات والامتحانات الصعبة لكي نعيد إلى ذلك الروح المقاوم الثقة والانتعاش والمبادرة، حينما نحتاج إلى ذلك.‏
                    إن الضربة التي لا يقابلها ضربة معاكسة فورية، تغرس في وجدان الناس إحباطاً ينمو مع الأيام، وتبذر هزيمة في الجدران الرقيقة للقلوب، العين بالعين، والدم بالدم، والقتل بالقتل، ينمي في بعض الحالات والمواقف، شخصية لا بد من تسميتها، لا سيما في أوضاع الاحتلال والإحباط وتصدي المقاومة والجور والعسف.‏

                    وأعتقد أننا -عربياً- سنحتاج إلى الثقة والقوة وروح المقاومة، لأننا مستهدفون بأشكال مختلفة، ولأن أرضنا محتلة، وعدونا يقوى.. ويقوى، والطامعون بنا، يزدادون، بضعفنا، طمعاً بنا.‏
                    ومن يعتقد أن "السلام" بمفهومه الإسرائيلي- الأميركي المطروح- فيما إذا قبلناه- سوف يضع حداً لعربدة " إسرائيل " وتطلعاتها الاستيطانية- التوسعية، فإنه إنما يعيش وهماً، ذلك لأن مشاريع " إسرائيل - الصهيونية" ثابتة، وأشكال تحقيقها ومراحل ذلك التحقق وبرامجه تتغير، والإعلان عن ذلك يتلون بلون الزمان والمناخ؛ بينما نحن نتحول عن أهدافنا وثوابتنا على أرضية شعاراتية قد ترفع الثوابت ولا تعمل بها ولا تؤكدها وتحميها؛ والثوابت هي التي تقيم قوامنا على الأرض وبين الأمم.‏
                    فمنذ كامب ديفيد و"إسرائيل" ماضية، مع حلفائها في إطاره، لتغيير الواقع على أرضية ثوابتها الاستراتيجية وسياساتها المرحلية، ومنذ "كامب ديفيد" أيضاً ونحن نتحول ونتلون لنأخذ شكل الإناء ولونه، حسبما يُشكّل لنا ونعبأ فيه، ولكن على أرضية الرفض الذي لا يعززه فعل، حتى غدا معنى "لا" عندنا يساوي "نعم"، ومعنى "نعم" يساوي الارتخاء المديد على طريقها.‏
                    إن "إسرائيل" تعد نفسها "للسلام" بكل أنواع القوة، ونحن نعد أنفسنا "للسلام" بكل أنواع الضعف، وإذا أردنا أن نمتحن صدقية ذلك القول فلننظر إلى الوضع العربي منذ انعقاد مؤتمر مدريد حتى اليوم، ولنتلمس وجهاً واحداً من وجوه التضامن أو القوة- عربياً- أين هو، وكيف هو؟!‏
                    ولنبحث في الحياة السياسية العربية ومشاريعها المشتركة أو مواقفها المشتركة، عن فعل أو مشروع أو موقف، يعزز العمل العربي والموقف العربي، في مسار القضية المركزية للنضال العربي، تلك الموضوعة على نار حامية منذ حرب الخليج الثانية؛ فهل نجد في تلك الحياة فعلاً يعبر عن إرادة قومية إيجابية تقف موقفاً ثابتاً من مطلبية قومية تتصل بثوابت عربية مشتركة؟! أم أننا نجد تراخياً وتراجعاً وانهيارات، على صعيد الأقطار والجبهات، ونجد بلداناً عربية تضغط مع العدو أو مع حليفه على من يريد أن يتشبث بحقه ويتشدد في مطالبته بذلك الحق؟! الحق هو بلغة العصر- وربما بلغة كل عصر- قوة، بالمفهوم الشامل للقوة، والقوة اقتدار بوعي، وامتلاك لمقومات، على أرضية التضامن أو الاتحاد أو الوحدة، وقوفاً خلف حق وعدل، وحماية لروح أمة ووجدانها من الفساد والسقوط.‏
                    فهل نتمسك بذلك، ونفعل ما يقيم له قواماً أم ترانا نبقى عرضة للعربدة ولنزوات المعربدين؟!‏
                    إن السؤال مطروح علينا باسم الماضي والحاضر والمستقبل، وباسم أولادنا وأحفادنا الذين لا بد أن نضمن لهم الحد الأدنى من الحياة والأمن والكرامة.‏

                    الأسبوع الأدبي/ع372//29/تموز/1993‏

                    إذا الشعب يوما أراد الحياة
                    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                    تعليق


                    • #40
                      رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                      فلنواجه الاحتمالات كلها
                      كريستوفر عاد إلى واشنطن رابحاً، متشجعاً مطمئناً إلى أن الحياة قد عادت إلى مفاوضات السلام، وإلى أن العرب ما زال عندهم استعداد كبير للصفح ولاستيعاب نتائج سباعيات " إسرائيلية " أخرى - عند الضرورة - تدمِّر قرى وتهجِّر مدنيين وتقتل أبرياء. وقد لا يكون مهماً أن نتابع ما سيفعله هو وفريقه الصهيوني - الأمريكي في واشنطن فالأمور أصبحت واضحة بدرجة شديدة؛ فـ " عمق السلام يساوى عمق الانسحاب، والعكس صحيح ". وهذه معادلة يمكن أن يترجَّح على طرفيها المتفاوضون طويلاً، لأنه لا بد من ربط شديد بين شمول السلام لكل الجبهات، وشمول الانسحاب لكل الجبهات؟! ولكنها معادلة لا بد أن تجد حلاً، لأن الأطراف عزمت على أن تحلها .‏
                      ما هو على درجة من الأهمية حسب ما أرى: أن تستمر الحياة والحيوية في مدارين هامين: الذاكرة الشعبية والوجدان القومي، حتى نرسخ في كل منهما الحق والمسار المستقبلي والاستعداد لأداء يحقق الأهداف النهائية للصراع، الذي لا بد أن يستمر حسب ثوابته، بين العدو الصهيوني والأمة العربية. من الجانب الصهيوني، الصراع مستمر، ولكن حجم الخداع الأميركي - " الإسرائيلي " - مضلل تماماً؛ وربما كان من الواقعية السياسية الآن، في ظل الوضعين العربي والدولي، أن " نقبل الخداع " متغافلين، مدركين كونه خداعاً؛ لا أن نبتلع سمومه غافلين وغير واعين لمفعولها في جسدنا العربي، وفي ذاكرتنا ووجداننا. وإذا ما فعلنا ذلك بوعي وتخطيط وحسب منهج مدروس، وأبقينا على إرادة التحرير، وعملنا على إعداد العدة له، ولو في وقت طويل، فإننا عندها نحافظ على خط التقدم، وخطوط الرجعة؛ ونتحاشى الوقوع فيما أوقعنا فيه الاستعمار الغربي من خداع منذ مطلع القرن وحتى اليوم.‏
                      لقد عزز وزير الخارجية الإسرائيلية يوم الجمعة السادس من آب 1993 اقتناع الكثيرين من العرب، إلاّ أولئك الذين كانوا معه قلباً وقالباً، مثل نائب رئيس تحرير روز اليوسف الصديق الشخصي له ول" إسرائيل "، عزز الاقتناع في حديثه ولقائه المفتوح عبر إذاعة العدو بأن " إسرائيل " ستعمل على توطين جميع يهود العالم في فلسطين المحتلة (فهذا هو وطن اليهود الوحيد) كما يقول؛ ومن (الحق والواجب) أن يعودوا إليه وان يستوطنوا فيه. أمَّا العرب الذين طُرِدوا منه منذ عام: / 1948 /، والذين سيُطردون منه لاحقاً ليفسحوا مكاناً لليهود المجلوبين إلى فلسطين، فأمامهم /24/ دولة عربية، كما قال الوزير - والرقم على عهدته - ويمكنهم أن يذهبوا إلى دولهم.‏
                      إن الإرهابي (بيريس) يعلن موقفاً وخطة واستراتيجية تقتضي تأملاً وتفكيراً وتدبُّراً وتدبيراً، وهو لا يلقي الكلام على عواهنه؛ فمسلسل الطرد سوف يستمر لأن مسلسل التوطين سوف يستمر؛ وعلى العرب أن يكونوا عرباً فيستوعبوا مواطنيهم؟!! وهنا نجد أن " بيريس " يعيد القضية الفلسطينية قضية عربية ويحرص على إلغاء الشعب الفلسطيني (وخصوصيته). وفي هذا ما يشبه السخرية المرة من توجه (فلسطيني) كان ينادي بفلسطينية القضية حصراً واستقلالية القرار الفلسطيني ووحدانية ذلك الشعب، الذي يعاني من:‏
                      (حصار من أمته )؟!!‏
                      يا للعجب كيف يقلب الزمان الأحوال فيجعل (شمعون بيريس) اليوم لا يحرص فقط على عروبة الفلسطينيين، بل على (فدرالية لهم مع الأردن) حتى لا يبقى شبحٌ لشعب فلسطيني وقضية فلسطينية، وملايين تطلب العودة، وتنادي بتطبيق القرار / 194/ وبما هو أبعد منه؟!‏
                      لقد أكد (بيريس) توجهاً ثانياً في رده على فتاة من القدس المحتلة سألته: ما ذنب الأطفال من سن خمس وست سنوات حتى يطلق الجنود الصهاينة عليهم النار ؟؟ هؤلاء الأطفال لا يشكلون خطورة على الجنود المسلحين؟! قال (بيريس)، وهو يذرف دموع التماسيح: " من يرشق الحجارة يتلقى الرصاص". وعلينا أن نقرأ في هذا الرد من وزير خارجية يتكلم وكريستوفر في دمشق، ودم الجنوبيين ما زال يسيل، وأفواج مهجَّريهم تسلك طرقات العودة بتوجس؛ علينا أن نقرأ في هذا نوعَ التصرف اليهودي مستقبلاً، ونوعَ المشروع الذي ستعمل " إسرائيل" على تحقيقه، والوسائل التي ستتبعها من أجل الوصول إلى ذلك.‏
                      إن " إسرائيل " تميل إلى " السلام " حسب مفهومها الحالي " للسلام " لأنها تريد الاعتراف الثمين من قبل العرب بحقها في الوجود كدولة من دول المنطقة؛ وهو بالنسبة لها أساس بناء " " إسرائيل " التوراتية ". والزمن لا يلح عليها الآن لكي تسير بسرعة في المشروع، إنها تريد أن تتبع سياسة مرحلية مختلفة على طريق تحقيق أهدافها النهائية، وتريد أن تُشْهِد العالم على أن العرب، كل العرب، اعترفوا لها (( بالحق التاريخي )) في فلسطين، وبأن تكون: " حقاً وشرعاً، واقعياً وتاريخياً اقتصادياً وثقافياً، اجتماعياً وسياسياً " من نسيج المنطقة التي تغيَّر اسمها ليلائم السكان الجدد، والنظام العالمي الجديد، فأصبحت (الشرق الأوسط) بدلاً من بلاد العرب أو بلاد الشام أو سورية الطبيعية !!‏
                      إننا على عتبة حدث كبير، هو الاعتراف: بـ " إسرائيل " دولة في المنطقة؛ ربما يكون ذلك في مدى شهور أو سنوات تكثر أو تقل، ولكنه حدث يطرق أبواب العصر الراهن والقرن القادم بقوة واضحة. وعلينا أن نستعد لذلك الاستعداد اللائق. وكلٌ له طريق وأسلوب في الاستعداد لقبول هكذا حدث، وعلينا أن نهيئ أنفسنا لاحتمالات شتى، ولمفاجآت شتى؛ ولقد قرع علي الباب شخص من مواطني بحديث عن ذلك الحدث مثير، فقد أشعرني بضرورة إعداد الذات لكل الاحتمالات، على الرغم مما نقوله لأنفسنا دائماً عن ذلك ؛ قال ذلك الشخص: " يكفيكم شوفينية، نحن قد عزمنا على التآخي، ووحدنا الصفوف مع اليهود"، (هكذا !؟؟ )، استعدت الكلام فأعاده، ورددته على نفسي فسوَّغه؛ وحين استعدت ذاتي من هول لطمته - هو العربي السوري ـ وجدتني على مشارف الثورة: أفي وطني يعيش هذا القول، ودم الشهداء لمَّا يجف بعد، والجولان تحت الاحتلال، والأطفال يُقتلون في فلسطين، وأهلُ الجنوب أشلاء على مدى انتثار الشظايا والدمار في ديارهم !!؟ ولم أستطع أن ألغيَ حضورَه من حولي، ولا انفعالي مما قال، ولا الغضب يتأكَّلني، ولا محاولة هذا الفريق اقتحام النفوس والمؤسسات وشرائح المجتمع، ولو بصورة بدائية أولية، تهدف إلى إنهاء مرحلة إحداث الصدمة، تلك التي لا بد منها.‏
                      إن تحصين المجتمع بالوعي، واستنهاض ذكرى الشهداء وذكرى الوطن، واستعادة حيوية الوجدان، مما نحتاج إلى الاهتمام به أو الاحتماء به؛ حتى نردَّ على من يسمينا " إرهابيين " بأننا مقاومة مشروعة ضد الاحتلال تمجدها وتقرها كل الشعوب، وعلى من يسمينا مخربين بأننا طلائع الشعب الذي يريد أن يبني بيوته ووطنه وأمنه وحضارته، بعد أن يستعيدها من الذين خربوها، وعلى من يسمينا شوفينيين بأننا قومية مضطهدة تناضل من أجل حقوقها ووجودها ووطنها، وبأننا لم نعرف التعصب الشوفيني يوماً، فهو صناعة غربية، ونحن عرب شرقيون ليس هذا ديدننا ولا هو ديننا، ما كان ولن يكون، ولن ترهبنا التهم، كما لن يرهبنا الجبناء والعملاء والعنصريون ومزيفو الحقائق والتاريخ.‏
                      فهل نحن فاعلون ذلك وبسرعة؟! إن كل شيء من حولنا ينادينا، وإن الزمن لا يتوقف بانتظارنا، وإن الأعداء يتحركون ويستفيدون من كل لحظة.‏

                      الأسبوع الأدبي/ع374//12/آب/1993‏

                      إذا الشعب يوما أراد الحياة
                      فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                      و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                      و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                      تعليق


                      • #41
                        رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                        قوتا العمل والأمل
                        عندما خرج يوسف العظمة إلى بطاح ميسلون عام 1920 تنفيذاً لقرار حكومة هاشم الأتاسي، ليواجه الجيش الفرنسي الزاحف إلى دمشق بقيادة"غوابيه" كان يعرف هو، بصفته وزيراً للحربية، أكثر من سواه، ويعرف أعضاء الحكومة، والمسؤولون في مملكة فيصل الوليدة، وأفراد أسرته الذين أرادوا ثنيه عن عزمه فأخرجهم من مجلسه ؛ كانوا يعرفون جميعاً أنهم لا يستطيعون مقاومة الجيش الفرنسي المكون من مئة ألف مقاتل مزودين بأحدث الأسلحة، وخارجين منتصرين من الحرب العالمية الأولى.‏
                        ولكنه خرج وقاتل واستشهد، وانتشرت بعد ظهر ذلك اليوم من أيام تموز مساحات من الدماء على بِطاح ميسلون، من أجساد يوسف وزملائه من الشهداء؛ كانت هي بذر الاستقلال الذي بدأ ينمو وحبر التاريخ الذي سجل حقيقة أن المحتل الفرنسي دخل على أجساد المقاومين المدافعين عن دمشق، وإن الدفاع عنها يستمر في كل مكان من أرض الوطن. وكانت مساحات الدم أيضاً صورة الإرادة الشعبية والتعلق بالحرية والتحرير.‏
                        وعندما نذكر اليوم يوسف العظمة وميسلون والمقاومة في الوقت الذي نسير فيه على مساريْ المواجهة والمفاوضات، فإننا نستعيد تلك الدروس لنستخلص عبرها.‏
                        لم نكن بقوة الفرنسيين، ولم يكن لدينا جيش، فقد سُرِّح الجيشُ تنفيذاً لإنذار غورو، ولم يكن لدينا أسلحة، ولا دولة بالمعنى التام للكلمة؛ وكانت قدرات البلاد ضئيلة، بعد أن كانت ساحة حرب، وموضوع نهب الحلفاء وسواهم. وفي ذلك الوقت ارتفعت إرادة السوريين عالياً في فضاء الوطن والأمة، بأنهم يريدون الاستقلال ويمهرونه بالدم... وهكذا كان إلى أن تحقق الاستقلال بعد ربع قرن من يوم ميسلون، الذي لم يكن إلا نضالاً وانطلاقة مفتوحة للنضال .‏
                        في النصف الأول من هذا القرن لم يكن السلاح الذي نملكه، أو ذاك الذي يمكن أن نحصل عليه، من الكثرة والجودة حيث يحقق النصر الحاسم أو التوازن العسكري مع فرنسا، أو حتى إقناع المقاتل بوجود قوة لديه يستطيع أن يحقق بواسطتها حماية لنفسه.‏
                        (فالعصملية ـ أي البارودة العثمانلية ـ) والفرس والخنجر، وبعض الرشاشات، كانت تواجه الدبابة والمدفع والطائرة وسائر الأسلحة الأخرى التي كانت بيد الفرنسيين، ولم يفتّ العجز عضد أحد واستمر النضال. ولم تكن سورية وحدها على هذه الصورة من صور المواجهة بين أقطار الوطن العربي.... فالليبيون واجهوا الإيطاليين المحتلين بهذه الفروق بين تسليحهم وتسليح العدو، وفقدوا ألوف الشهداء، ولكنهم تابعوا المقاومة حتى الاستقلال.‏
                        والسودانيون الذين كانوا يقاوموا جيش الاحتلال الإنكليزي بقيادة غوردون أو سواه، حصدت منهم الرشاشات الإنكليزية عشرة آلاف مقاتل في معركة جبل كرار وحدها على مشارف الخرطوم؛ ولكنهم استمروا وقتلوا غوردون في النهاية واستقل السودان. والجزائريون قدموا مليوناً ونصف المليون من الشهداء واستقلوا.‏
                        وقس على هذا نضال شعبنا في كل أقطاره. فلو أنه انتظر إلى أن تتحقق الحسابات العلمية الدقيقة في التوازن لما استطاع أن يتحرك خطوة على طريق التحرير والاستقلال. لقد كان يملك دائماً الإرادة والإيمان الروحي العميق بالحق والحرية، وهما اللذان كانا يضعانه على الطريق الصحيحة، طريق العمل من أجل التحرير ومقاومة العدو بكل أشكال المقاومة.‏
                        إن المعارك التي تنهزم فيها أمم وشعوب لا تكون معارك وهزائم نهائية إلا إذا انهزمت إرادة القتال وانهزمت الروح من الداخل وتفتت الإيمان بالحق والوطن لدى تلك الشعوب.إنها تلك الأجزاء من المعارك، التي تطال الأعماق والمقومات والثقافة، وتصل إلى مدى التشتت النهائي للرأي والرؤية. أما المعارك التي يتغلب فيها رجال على رجال بالسلاح أو لأسباب أخرى، فإنها معارك تستأنف بقرار من الإرادة الشخصية والشعبية اللتين ترفضان الهزيمة وتعملان على استئناف القتال بصورة ملائمة وبالأسلحة الملائمة بعد الاستفادة من الخبرة ودراسة الظروف. وحين نخوض حرب المواجهة على جبهتي الجنوب: جنوب لبنان وجنوب السودان، وهناك أيضاً حيث حروب عدو الثقافة العربية والوحدة الوطنية وآمال الشعب العربي بالاستقرار والتنمية والعيش بأمان؛ التي يشنها حلفاء الغرب وعملاؤه في الداخل ؛ أقول حين نخوض حرب المواجهة بسلاح المقاومة الشاملة وأدواتها، لا نغفل عن إعداد النفس إعداداً تاماً للمعركة الأشمل تلك التي نراها قادمة مع العدو الصهيوني، الذي لا يمكن أن يكون من هذه المنطقة مستقراً آمناً فيها، بعد أن دخلها على أجساد شهداء الأمة العربية في فلسطين، كما دخل الفرنسي دمشق على أجساد من استشهدوا في ميسلون من أبنائها .‏
                        إن إرادة القتال لم تنهزم وأعماقنا الروحية بخير وهذه هي منابت الأمل. وحين نسعى للحصول على السلاح فلأننا نشعر بضرورة الإعداد والاستعداد لمعركة مع العدو يستعد لها مثلما نستعد لها، ويريدنا أن نخوضها عُزلاً ومهزومين من الأعماق، بينما نريد نحن أن نخوضها بسلاح ممكن، وبقوة إرادة تزرع الأعماق تصميماً على النصر.‏
                        إن السلاح التي تحرص"إسرائيل" وأميركا على أن تحرمانا منه وتضغطان في كل الاتجاهات حتى لا يصل إلينا، هو الحد الأدنى المطلوب لتحقيق شروط المواجهة في عصرنا، ولا يتناقض سعينا من أجل الحصول على السلاح مع دخولنا معركة المفاوضات، ذلك لأن"السلام" يحتاج إلى إعداد واستعداد، شأنه شأن الحرب، بل إن سلاماً يفرض على ضعفاء من عدو في موقع قوة أشد ضرراً وخطراً في خسارة معركة في حرب، أو من استمرار معارك غير متوازنة مع العدو في تلك الحرب.‏
                        وحين ننظر إلى وضعنا اليوم، ونحن نخوض المسار الثاني، مسار التفاوض على أرضية مؤتمر مدريد، نجد أننا أحوج ما نكون إلى قوة من جهة، وإلى تنمية إرادة التحرير والمواجهة من جهة أخرى. ذلك أن السلام لا يحتاج فقط إلى قوة تعين على التقدم في جبهاته بل يحتاج إلى وعي للمخاطر التي يفرضها غياب القوة من تلك الجبهات في أثناء السير على طريقه. فالعدو يريد أن يمحو منطقتنا وحضورنا وحقنا التاريخي، وإمكانية أن نستعيد المبادرة، ولذلك يفصّل جسمنا على الثوب الذي أعده لنا، وإذا لم نكن قادرين -بامتلاك القوة- على رفض ذلك، فإنه سوف يكبلنا بقيود"الثوب- المعاهدة" أو"المعاهدة- الثوب". ولن يمنحنا قوة محررة إلا وعيٌ وقوة عسكرية واقتصادية مما يجعلنا قادرين على التقدم بثقة ونجاح في مسارات الحرب والسلام معاً. ولكن إذا لم يقدم السلام شيئاً، وإذا كان أحفظ للعدو من الحرب التي قد يوجهها العدو أو أن يواجهنا بها، فإن الإعداد اللازم للقوة يبقى من أضر الضرورات لأنه سيمكن من التصدي عند الضرورة لقوة العدو. تلك التي لا بد من القضاء عليها لنحصل على جوهر الحق العربي، وعلى جوهر السلام لأجيالنا في هذه المنطقة من وطن الأمة.‏
                        وربما كان أهم ما ينبغي أن نحافظ عليه ونعمل على تنميته، في ظل الظروف القائمة والاحتلال الاستيطاني المزروع في أرضنا، هو إرادة التحرير وصمود الأعماق، والمد الروحي الإيجابي الذي يزرع المستقبل بالأمل، ويشد كل القوى والقدرات لإقامة حصن القوة حول جسم الأمة وإرادتها ووعيها وحقها سواء بالسلاح، أم بالوعي الثقافي، أم بالاقتصاد القومي، والتماسك الاجتماعي والوحدة الوطنية، والتضامن العربي.‏
                        إن أي سلام مع"إسرائيل" هو سلام هش منقوض يوماً ما بحكم العدوان أصلاً وبحكم الطبيعة العنصرية التوسعية الاستعمارية للصهيوني، وبحكم المشروع الاستيطاني اليهودي، مشروع" إسرائيل الكبرى"، وبحكم المصلحة الغربية التي تدعم"إسرائيل" لتأمين مصالحها، سواء لاكتساحنا أم لإبقائنا في حالتي الضعف والخوف. ولذلك فإن التركيز على امتلاك القوة وإرادة التحرير يبقى هو الأهم في المواجهة وفي هذه الظروف بالذات، ظروف تحركنا على مساري المواجهة والمفاوضات.‏
                        فلنعمل على أن تبقى إرادة التحرير معافاة، وقوتنا معززة في كل الميادين والجبهات، والأمل بالنصر عزيزاً وعريضاً وشاملاً كل النفوس، ولنا في الشهداء أسوة، وفي المقاتلين بالحجر والسكين والكاتيوشا مثل قريب، لتكبر لدينا قوتا العمل والأمل.‏

                        الأسبوع الأدبي/ع375//19/آب/1993‏

                        إذا الشعب يوما أراد الحياة
                        فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                        و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                        و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                        تعليق


                        • #42
                          رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                          عمليّة شيحين
                          فجر يوم الخميس التاسع عشر من آب 1993 هو توقيت هام بالنسبة لحزب الله، إنه ميلاد جديد له في الإطار السياسي المحض، حيث سيدخل بوثيقة شيحين جدول مفاوضات السلام بين العرب و"إسرائيل" ابتداءً من الدورة الحادية عشرة، وهو ما لم يفكر به ولا يقصد إليه. لن يكون له مفاوض، ولن يؤخذ رأيه مباشرة، ولن يجلب إلى واشنطن، ولكنه سيطرح من قبل الصهاينة، طرفاً في المفاوضات، فالكيان الصهيوني بعد شيحين أخذ يطالب باتفاقيات مع سورية ولبنان وحزب الله، وكأن الجنوب، جمهورية المقاومة المقدسة، تقودها "حكومة" حزب الله، ويراد لتلك "الحكومة" أن تدخل فيما تدخل فيه الحكومات من اتفاقيات، على الرغم من إعلان العدو الصهيوني وأميركا واشياعهما في الوطن العربي بأن كلاً من حزب الله وحماس والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية، وراشقو الحجارة، جبهات تعمل لتخريب "مسيرة السلام"(؟!؟)‏
                          بعد شيحين طالب الليكود ومن يناصره من أحزاب يهودية في فلسطين المحتلة بأن تنسحب "إسرائيل" من مفاوضات السلام، ووجه إسحق شامير ورفائيل إيتان وشارون وغيرهم انتقادات شديدة لجيش الحرب الصهيوني، وحرضوه على عدم الالتزام بأوامر الحكومة وبأن يمارس العدوان حتى يرتوي، ودخل الساسة الإسرائيليون في عراك شديد، ربما كان الأول من نوعه من حيث الرغبة في إقحام الجيش أو محاولة إقحامه في ذلك العراك، حتى قال رابين "إن إسحق شامير لم ينتقد جيش الدفاع وإنما دعاه لعدم الامتثال لأوامر الحكومة، وكأنه رئيس حكومة سابق في دولة إفريقيا نحّي عن موقعه ويريد من الجيش أن يعيده إلى منصبه، ذلك لأنه يحرض الجيش على أن ينظر بسخط إلى رجال السياسة، وتدخل رأس الأفعى الصهيونية "وايزمن" ليوقف حملة الانتقاد إلى الجيش "حتى لا يكون بين نارين" أو أنه أوقف حملة التحريض التي يمارسها ساسة في صفوف الجيش، وقالت حكومة رابين رداً على المطالبة بإيقاف المفاوضات: "إن وقف المفاوضات سيكون الخطأ الأكثر فداحة من قبل إسرائيل".‏
                          ولم يقف تأثير عملية شيحين في العدو عند هذا الحد، بل مضى إلى أبعد من ذلك، فقد أكدت ووضحت جوهر الاتفاق الذي أوقف عدوان الأيام السبعة على الجنوب، وبينت بالفعل على الأرض، أن الاتفاق لم يتضمن على الإطلاق وقفاً للعمليات ضد الاحتلال في الجزء المحتل من الجنوب، ولا أن يقف الجيش اللبناني بشكل مباشر أو غير مباشر حائلاً دون ممارسة المقاومة اللبنانية لدورها المقدس في التحرير ويصبح هو كابحاً وحامياً للاحتلال.‏
                          وأكدت عملية شيحين أن الاتفاق لم يمنح الأمان للجيش الصهيوني في تحركه ولن يمنحه ذلك، وإنما أوقف قصف المستعمرات الصهيونية في شمال فلسطين بالكاتيوشا، مقابل وقف قصف قرى الجنوب اللبناني.‏
                          وللمرة الأولى منذ سنوات يحدث نوع من توازن الرعب يوقف القوات العنصرية الصهيونية عن الفتك بالمدنيين على نطاق واسع بعد عملية ضده وصفها وزير خارجيته للتهويل بأنها "كارثة"، شكلت خسارة بالأرواح وخسارة معنوية أشد، إذ لم يجرؤ الصهاينة على قصف قرى الجنوب حتى لا تقصف المستعمرات بالكاتيوشا- أو ليحافظوا على السلام الذي أنقذ كما يحب بعضهم أن يزعم- ولا هم استطاعوا أن يزيفوا الحقيقة كما فعلوا في عدوان الأيام السبعة حيث زعموا آنذاك بأنهم يقصفون المدنيين في الجنوب ليوقفوا قصف حزب الله لمستوطناتهم، في حين أن حزب الله لم يبدأ بقصف شمال فلسطين بل رد بذلك، والسبب عملية في الجنوب قتل فيها ثلاثة جنود صهاينة.‏
                          لقد تحققت في عملية شيحين عدة أشياء هامة منها:‏
                          1-أن المقاومة للاحتلال مستمرة، وما على "إسرائيل" إلا أن تنسحب من الجنوب اللبناني وتنفذ القرار /425/.‏
                          2-أن إرادة القتال والتحرير عند المقاومة الوطنية اللبنانية ومن يدعمها، لم تتزعزع، وأن مبدأ من مبادئ الأمم المتحدة يتم تأكيده وتجديد حبره بالدم، وهو أن مقاومة المحتل حق مشروع للشعوب.‏
                          3-أن سورية تؤكد مواقفها بوضوح ودقة وأنها لا تسمح بأن تشوَّه صورتُها، أوصورة اتفاقات هي طرف فيها.‏
                          4-أن لبنان لن يعود محمية غربية، وأنه لا عودة مطلقاً لاتفاق /17/ أيار بأية صورة من الصور.‏
                          5-أن "إسرائيل"، التي تدعي حرصها على السلام، عليها أن تبرهن عملياً على ذلك؛ وأنها، وهي التي تفتعل دائماً أزمات ومشكلات وتشن حروباً وتقوم باعتداءات كلما شدد ضغط المفاوضات عليها لتجبر العرب على الانسحاب وتحملهم تبعة ذلك أمام الرأي العام الذي تعده لذلك باستمرار، بدأت تعاني مما يصطرع في أمعائها؛ فمنها يرتفع الصوت علناً بضرورة الانسحاب من المفاوضات.‏
                          ولكن هذا الذي حققته عملية شيحين لا يعني أن "إسرائيل" لن تستثمره على نحو يخدم أهدافها ويحقق برامجها التي تقوم على استراتيجية العدوان والتوسع والتفوق وتشويه صورة الآخر وحقائق التاريخ ووقائع الأمور. ولا يعني أنها لن تتحرك على مستويات أخرى لتحقيق أهدافها وبرامجها.‏
                          -فها هو بيريس في الدول الاسكندنافية يتباكى على السلام ويعلن أن "إسرائيل" ستضحي من أجل "الجميع" ليسود السلام؟! ومتى كانت "إسرائيل" تحب السلام والآخرين وتضحي من أجل ذلك؟! أليست صورة عدوان الأيام السبعة على الأقل ماثلة في أذهان العالم؟! إن الحقيقة هي أن "إسرائيل" تريد أولاً أن تزيل ما لحق بوجهها القبيح جراء ذلك العدوان، وأن تستعيد عطف العالم بما تدعيه من "ضبط النفس" استجابة لطلب أميركا- وسيكون لذلك ثمن- واستجابة "لدواعي السلام"؟!‏
                          -وها هو جاد يعقوبي ممثل "إسرائيل" في الأمم المتحدة يرمي إلى استثمارات أخرى في إطار إثارات بشعة، فقد ربط بين عملية شيحين ومحاولة اغتيال وزير الداخلية المصري اللواء حسن الألفي معاً، وقال إنهما تشكلان "محاولات جديدة للأصوليين تهدف إلى إقامة نظام ترهيب واغتيالات" وأضاف أن "كل شيء يهدف إلى قتل عملية السلام وإقامة إمبراطورية أصولية مسلمة تقودها إيران وتمتد من المحيط الهندي إلى المحيط الهادي" ودعا العالم الحر والأنظمة العربية المعتدلة إلى "العمل معاً وتنسيق الجهود لإحباط هذه الأعمال".‏
                          إن كلام يعقوبي سيلقى صدىً مستحباً عند من يسمعه في الغرب، لأن هناك استعداداً لقبول صورة من هذا النوع عن الإسلام وعن إيران وربما يستطيبه بعض العرب الذين دخلوا دوامة الدم والفتنة ولعبة المعارضة المسلحة ضد السلطة المسلحة؟! ولكن التدقيق في أبعاد ما ترمي السياسة الصهيونية إلى زرعه في النفوس وتركيز جهاز الإعلام الغربي الضخم عليه خطير جداً، لأنه يريد أن يسبغ صورة الإرهاب على التحرير ويربط ذلك بالإسلام وأينما كان العربي المسلم فهو إرهابي بحكم الانتماء وعليه أن يثبت براءته.. أما الأصولية - العنصرية- اليهودية القائمة على التلمود، وبرنامج المسيحية- اليهودية في أميركا الذي يدعم ويبارك كل ما تقول به الصهيونية وكل ما تقوم به "إسرائيل".. فهو ليس إرهاباً بل "دفاع عن النفس بوجه الإرهاب" الذي تحذر العرب المعتدلين منه لأنه سيأخذ مقاعدهم..‏
                          أما الإيحاء بإقامة إمبراطورية إسلامية، بين المحيطين تسيطر عليها إيران، فتلك لعبة الصهيونية القذرة مع الغرب المتواطئ معها منذ عقد من الزمن وقد أصبح التركيز قوياً عليها الآن لكي تسير عجلة العنف الدموي بين عرب ومسلمين- وبين مسلمين ومسلمين على أساس طائفي- بعد أن دارت عجلة العنف الدموي بين عرب وعرب داخل أقطار عربية، وبين أقطار وأخرى، ليثمر ذلك كله ثمراً مراً بالنسبة للعرب والمسلمين على السواء فينهار كيانهم بالتدريج، ويقوم كيان " إسرائيل الكبرى" ومملكة الشر الأميركية أو الغربية بوجه عام.‏
                          إن "إسرائيل" تستثمر جيداً ما تسميه "ضبط النفس"، وهو عندها وحسب مفهومها أنها لم تحرق لبنان كله بعد قتل تسعة من جنودها بعد أن دمرت الجنوب كله بشسوع نعال ثلاثة من أولئك الجنود قبل شهر؛ واكتفت الآن فقط بغارات مكثفة على البقاع وبعلبك أوقعت خسائر لم تقدر بعد!؟ إنها تضبط نفسها جيداً، وتشيد أميركا بذلك، ويترحم أمين عام الأمم المتحدة على قتلاها؛ وينظر بعض العرب بتعاطف معها فيزيد من التنازلات لها والتنسيق معها لقهر خصومة!؟.‏
                          إن "إسرائيل" تستثمر كل شيء وتحاول أن تغطي ما أحدثته عملية شيحين في كيانها الآن، لا سيما في هذا الظرف بالذات وعلى أبواب الجولة الحادية عشرة من المفاوضات، فكيف يمكن لنا نحن أن نستثمر جيداً عملية شيحين؟!‏
                          مما لا شك فيه إن حزب الله وسائر فصائل المقاومة الوطنية اللبنانية، والفلسطينية في لبنان وفي داخل الأراضي المحتلة تستفيد من تجاربها وتستخلص العبر من كل ما تمر به من دروس وأزمات ومشكلات ولكن لا بد من أن يمتد ذلك الصدى إلى أوساط اجتماعية ورسمية أوسع من تلك المنظمات والتنظيمات لكي نعمق خط مقاومة الاحتلال، ونقيم إرادة التحرير ومقاومة "إسرائيل" على مقومات صامدة وقوية تسمح بالاستمرار والتوسع والتصعيد.‏
                          إن رفع الروح المعنوية أمر هام، وإبراز الخلخلة التي حدثت في "إسرائيل" وما خلفته من تناقضات أمر في غاية الأهمية، ولكن من المفيد ونحن نعيد إعمار قرى الجنوب، ونؤسس لأيام أخرى انطلاقاً من جبل عامل أن نأخذ بالاعتبار:‏
                          -بناء قرى أمامية نموذجية يحتمي فيها السكان ويصمدون ويقاومون ولا تحصدهم الطائرات والمدافع وهم دون ملاجئ حصينة.‏
                          -بناء القاعدة الاجتماعية الصلبة التي تحمي المقاومة وتحتضنها وتنميها وتتفهم معنى أن تقوم وتستمر.‏
                          -امتلاك السلاح الذي يردع "إسرائيل" فعلاً إذا ما قصفت قرى الجنوب، حيث يمكن تحديد المحتلين في شمال فلسطين وجعل "إسرائيل" تفكر جيداً وجدياً بالثمن الذي ستدفعه إذا ما قامت بالعدوان على المدنيين.‏
                          -مواجهة الإعلام الصهيوني- الغربي المتنامي على أرضية العمليات ضد "إسرائيل" داخل فلسطين المحتلة وخارجها، ومواجهة المخططات التي تحوكها ضد كل من يدعم المقاومة الوطنية- اللبنانية والفلسطينية- تلك التي يريد أن يسبغ عليها صفة الإرهاب ويسمي كل من يحميها بحماة الإرهاب ويفرض عليهم حصاراً بشعاً أنه الآن يفرض على السودان حصاراً ويضعها في دائرة الإرهاب ضاماً إياها إلى سورية وليبيا والعراق وإيران، لأنها: تسمح للفلسطينيين الذي تطاردهم "إسرائيل" باللجوء إليها ولأنها جادة في المحافظة على وحدة أرض السودان ووحدة شعبه، ولأنها تتمسك بهوية الشعب على أرضية الثقافة العربية الإسلامية، ولا تدخل القفص الأميركي من بابه الكبير، وحين يواجه السودان الآن بذلك فإنه سيستمر في مواجهته لسائر البلدان العربية والإسلامية والتقدمية التي يتهمها بالإرهاب وإذا ما نشأ تفهم لذلك، وتعاون من أجل مواجهته، وعمل عربي جاد لاستعادة التضامن العربي ولو في حدوده الدنيا، وإقامة مصالحات عربية على أرضية الثوابت القومية المقدسة، مع الاستفادة من كل دروس الماضي وعبره، وتم تواصل حقيقي على أساس احترام المصلحة والهوية والمبادئ معاً في رزمة علاقات ثابتة بين الدول العربية والإسلامية، فإنه يمكن إيقاف عجلة العنف والانهيار التي تدور بسرعة، واستئناف مسيرة البناء والثبات والحضور.‏
                          إن الاعتماد على الغرب أمر مجرَّب، والمجرَّب لا يجرَّب، فكم عانينا وكم دفعنا، وكم في القادمات من مصائب وأسرار في جعبة الغرب الذي فقد كل مصداقية وأفلس خُلُقياً حتى نخاع العظم، وما زالت له أطماع يمليها الحقد والتعصب والغطرسة، أطماع لا حدود لها، و"إسرائيل" حربة الغرب في صدورنا، سواء في ظل الصراع الصراح، أو في ظل الصراع الذي يختفي تحت خيمة السلام التي لن تظل إلا خداع العدو ولن تضلل إلا الذين يلدغون من الجحر أكثر من مرة ويعودون إليه.‏
                          إن استثمار عملية شيحين على مستويات أعلى من مجرد كونها عملية ناجحة ألجمت العدو " الإسرائيلي " عن رد من صنف طبيعته هو ما يمكن أن يضعنا على طريق الإرادة الحرة، وعلى طريق الاستفادة من الدروس والتجارب والعبر. فهل نفعل؟!‏

                          الأسبوع الأدبي/ع376//26/آب/1993‏

                          إذا الشعب يوما أراد الحياة
                          فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                          و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                          و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                          تعليق


                          • #43
                            رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                            ... أولاً وكنفدرالية إسرائيلية ـ فلسطينية ..ثانياً
                            كانت "إسرائيل" ـ منذ كامب ديفد ـ تطرح على الفلسطينيين أمّا كونفدرالية مع الأردن أو معها هي، وترفض قيام دولة فلسطينية مستقلة بأي حال من الأحوال. وكانت أميركا لا ترى إلا ما تراه "إسرائيل" وترفض هي الأخرى مجرد الحوار مع المنظمة.‏
                            ويبدو أن "المنظمة " قد اختارت كونفدرالية مع "إسرائيل"، تبدأ المسيرة نحوها بخطوة؛ غزة أريحا. ولن يكون " الحكم الذاتي " الذي سيتم تحت السيادة والسيطرة والحماية الإسرائيلية إلا معبراً دموياً بين الفلسطينيين أنفسهم، وبين بعض فصائلهم وبين العرب ليتم الإعلان في ظل ذلك عن تلك الكونفدرالية التي سيزعم "فلسطينيون " أنها أفضل من كل ما قد تلقوه من العرب خلال قرن من الزمان، نصفه مشتعل ونصفه على أبواب الاشتعال .‏
                            إن بيريس يدور اليوم على عواصم أوربية ليقنعها بتقديم عون مالي للفلسطينيين وبالقيام باستثمارات هناك، وأميركا تعلن أنها سوف تمول مشروع غزة ـ أريحا وتخفف من الضائقة المالية لمنظمة التحرير، ومستشارو الرئيس عرفات يعلنون بأن المنظمة تخلت عن ميثاقها وعن ماضيها "الإرهابي " (كذا..) وأنها ـ أي المنظمة ـ يمكن أن تحل نفسها لأنها ليست غاية فحين يقوم الحكم الذاتي ـ الذي يحملون بأنه سيكون حكومة ـ سيتحول جيش التحرير إلى شرطة، ولن يبقى مبرر للكلام على الكفاح المسلح .‏
                            ولكن ذلك الجيش الذي سيمارس دور الشرطة سيخوض عاجلاً أم آجلاً في دم الفلسطينيين الذين يرفضون المشروع الصهيوني، وسيوجه بنادقهم للعرب الذي لا يعجبهم الخروج الفلسطيني على الإجماع والتنسيق والتضامن العربي. إن ما نقبل عليه اليوم بخطورة كامب ديفيد أو أشد، وهو مخطط توصلت "إسرائيل" إلى الاقتناع به في ضوء استخلاصات لعبر ودروس وحقائق كثيرة. لقد فهم الإسرائيليون جيداً أن المدخل الفلسطيني هو الأساس إلى القضية الفلسطينية ولإنهاء الصراع العربي الصهيوني على نحو ما. ولذلك سارعوا للتركيز على هذا الجزء من الحلقة العربية في مرحلة المفاوضات.‏
                            ـ لقد رغبوا إيقاف الانتفاضة التي أتعبتهم ولم يكن ذلك ممكناً إلا من داخل البيت الفلسطيني ولذا كان أحد الشروط المعلنة بشكل غير مباشر لمشروع غزة ـ أريحا هو إيقاف الانتفاضة تحت أسماء أخرى منها نبذ "الإرهاب " ووقف العنف، وسيتولى التطبيق الفلسطينيون أنفسهم ولاسيما في غزة..‏
                            ـ لقد أدرك الإسرائيليون أن الضغط الاقتصادي والاجتماعي والسياسي المستمر على الفلسطينيين، وهدم البيوت والملاحقة والقتل وظروف المعيشة المأساوية، والحصار كل ذلك يولد ثورة في النفوس، ويجعل العربي المحاصر من كل جانب ينشب أظافره حتى في الجدار ويبحث عن خلاص ويعمل عمل من لا تعلق له بشيء في الحياة. ولذلك بدأت بالتفكير على نحو آخر، نحو يجعل أولئك يرتبطون بمشاريع ومصالح تجعلهم أقرب للخوف على ما يملكون وما يطمعون بالوصول إليه من مصالح وأغراض.‏
                            ـ وجدت "إسرائيل" إن سلخ الفلسطيني عن العربي، لاسيما ذاك الذي يدخل المفاوضات، من الأمور الحيوية جداً بالنسبة لمشروعها التوسعي وخططها المستقبلية ولذلك رأت أن الانسحاب من غزة وأريحا، أو إعادة انتشار القوات فيهما خير من الانسحاب من الجولان كله كما قال اسحق رابين .‏
                            ومن هذه الإشارة البسيطة نستشرف ما ستكون عليه المفاوضات في المسارات الأخرى بعد توقيع الاتفاق الفلسطيني ـ " الإسرائيلي "، وما يمكن أن يتمخض عن ذلك كله من انعكاسات على حقوق الشعب العربي الفلسطيني من جهة، وعلى العرب المعنيين بالموضوع .‏
                            إن "إسرائيل" التي تقبل قيادة منظمة التحرير اليوم، وتتعهد بحماية عرفات شخصياً غيرت سياستها كلياً منذ تصاعد المقاومة اللبنانية والفلسطينية في الداخل والخارج، لاسيما تلك التي تقوم بها فصائل المقاومة الإسلامية، وأعادت النظر بأمور كثيرة إثر قضية المبعدين، وشاركت أطراف عربية وغير عربية في تنظيم جبهة بديلة للمقاومة، مناقضة لها متعارضة معها، فكان السكوت على وضع المبعدين، والتحرك الشامل أميركياً وصهيونياً وحتى عربياً من بعض الأطراف ضد التيار الإسلامي والمقاومة الموجهة "ل" إسرائيل " " من لبنان وفي الأرض المحتلة، وبدأت الألغام تفجر داخل الصف الفلسطيني والعربي، في الوقت الذي بدأت فيه خيارات أخرى تأخذ طريقها إلى الوجود، ومنها اعتماد قيادات عربية معتدلة بدلاً من تلك التي تسمى متطرفة، وعزل من يرى الصهاينة والأميركيون أنهم يسكتون على المقاومة أو يدعمونها بغية إضعاف موقفهم ومحاصرتهم. وكان الخيار قبول شراكة المنظمة واحتوائها وقبول إعلانها بنبذ ميثاقها وماضيها النضالي كله، وتحولها إلى إدارة مدنية محدودة الصلاحيات لجزء من الأرض الفلسطينية بدلاً من مقارعة المقاومة وإبقاء المنظمة خارج حدود الاستيعاب.‏
                            وحيال هذا الوضع الجديد الذي يدافع عنه فلسطينيون ويرفضه فلسطينيون، ويتم خفية، وترحب به أميركا، ويهلل له الغرب، وتجمع من أجله الأموال، لا ندري هل نحن على أبواب " لحد " جديد في شرق فلسطين المحتلة وغربها، أم أننا حيال ما هو أخطر من ذلك بكثير، وهو امتداد اتفاقيات كامب ديفيد القديمة بانطلاقة الطرف العربي الأساسي والقوي فيها ليؤثر في سواه ويسوّق المشروع القديم الجديد عربياً، في ظل " نظام عالمي جديد " تكون فيه المصلحة الأميركية ـ الإسرائيلية هي العليا ويؤخذ فيه بالاعتبار أولاً وأخيراً، تسويق البضائع الأميركية من القمح إلى الطائرات الحربية، والمصلحة الإسرائيلية أمنياً واقتصادياً وانتشاراً توسعياً، حيث لا يجوز لنا في المنطقة العربية ومن جهة نظر مروجي المصلحة الأميركية ـ الإسرائيلية حتى أن ننتج قمحاً، إذا كان ذلك سيؤثر على تسويق القمح الأميركي، كما لا يجوز لنا أن نتكلم عن تحرير إرادة وقرار إذا كان السيد يريد لنا أن نبقى اتباعاً وعبيداً.‏
                            لقد كان لمشروع غزة ـ أريحا وقع الصدمة الشديدة، وكان للتواطؤ الصامت، وللاتصالات السرية من وراء الحكومات العربية المعنية ورفاق المفاوضات في خضم التنسيق المشترك والقائم مرارة كبيرة في الحلوق .‏
                            وسوف نجد أنفسنا، بعد توقيع الاتفاق الفلسطيني " الإسرائيلي "، ندرج يومياً من مشكلة إلى مشكلة، ومن مرارة إلى مرارة، ومن تفريط إلى تفريط. وسوف نترحم على أيام كان فيه التنسيق العربي والتضامن العربي الهشّان موضع انتقاد، وسوف تكبر أو تتضخم أناشيد وشعارات كانت تردد سابقاً من بيروت أو من سواها من العواصم العربية، مثل " يا وحدنا "، " ولقد خدعنا العرب وأضروا بنا " و " سال من دمنا على يد العرب أكثر مما سال من ذلك الدم على أيدي الإسرائيليين " سوف يتضخم ذلك ويملأ الفضاء المحيط بالقيادة التي ستتربع في غزة أو في أريحا وتوزع التهم والشعارات والأزمات بحماية إسرائيلية وبتشجيع ودعم أميركي صهيوني. وعلى العرب أن يواجهوا لحمهم ودمهم والدود الذي ينغل في أمعائهم وقلوبهم هذه المرة .‏
                            ولكنها فترة ستكون كتلك التي تعاون فيها أُمراء عرب مع الاحتلال الصليبي لفلسطين، ولابد أن يتبعها التحرير الشامل إذا ما وعينا الدروس واستخلصنا العبر، وعملنا بجدية وإخلاص من أجل تحقيق أهداف الأمة العربية في فلسطين وعلينا أن نعمل ما بوسعنا الجهد والعمل على ألا يسيل الدم الفلسطيني، والعربي بأيد فلسطينية أو عربية، وعلينا أن نسد الذرائع، ونحرص على تفويت الفرص التي ستفتعل من أجل أن تدور عجلة الدم والعنف تحقيقاً لمشروع "إسرائيل" ومشروع الغرب الذي يطمح إلى انهيار الإرادة العربية والشخصية العربية والإسلامية معاً، وجعل الناس تبعاً في هذه المنطقة من العالم.‏
                            إن التفاؤل مطلوب وموضوعي وإيجابي الأثر، ولكن عندما يقام على أرضية من الكلام والأحلام ينقلب إلى أوهام خطيرة، وعندما يقام على أرضية المنطق والعمل والعلم والإنتاج والإرادة الحرة الواعية، يصبح مدخلاً مشروعاً لتغيير الواقع، وحقيقة نفسية واجتماعية تجعل الحقائق الأخرى بمتناول القادرين على بلوغها.‏

                            الأسبوع الأدبي/ع377//2/أيلول/1993‏

                            إذا الشعب يوما أراد الحياة
                            فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                            و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                            و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                            تعليق


                            • #44
                              رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                              أيها العربي ارفض (إسرائيل)
                              افتح عينيك جيداً وأنت تقرأ، وافتح أذنيك جيداً وأنت تسمع، وأعد على نفسك ما تقرأ وما تسمع لكي يستقر في وعيك معنى ما تحمله إليك الحواس، وما يجري في كيانك عبر منافذ الإدراك.‏
                              أيها العربي الحزين: الوقت ليل، والحبر ذل أسود، والريشة من جنح غراب، والجبن والغدر والصغار كل ذلك يطفح من القلوب إلى العيون.. ويتراقص في الأحداق، الأيدي التي ستوقع الوثيقة ليست من شمع في لون الجسد البشري، وأصابعها طالما عبثت بقلم كتب مصائر بشر، وقرر نهايات أعمار على طريق أعدل قضية بين يدي أسوأ محامين.‏
                              أيها العربي.. زمنك الراهن ليس رديئاً بل هو الرداءة، وموقفك الآن ليس تخاذلياً بل هو التخاذل، وسكوتك عما يجري ليس جبناً بل هو الإمحاء من ساحة الحضور في الوقت الذي ينبغي أن تكون فيه قمة في الحيوية والحضور.‏
                              أيها العربي.. إنهم ينهون باسمك معنى كرامتك ووجودك ويتنازلون بذلة عن حقك وأرضك، ويعترفون لعدوك بدولة على أرضك، وبوجود في وطنك وبحق في العيش بأمان، بعد أن سرق منك الوطن والكرامة والأمان.‏
                              فاسمع واركع، واقبل واخنع، وإلا سلّت عليك سيوف المستبدلين أريحا بفلسطين، والراكضين ليكونوا حماة للعدو ومحتمين من أنفسهم بالعدو، والساعين وراء عروش وسلطات ومناصب ولو على خوازيق الموت.‏
                              بعض الفلسطينين: أهل الحق والأرض والتاريخ.. أهل الشهداء والفداء، أهل القدس وبيت لحم والناصرة، يعترفون بأن فلسطين، إلا قليلاً منها، هي لليهود، وأن لهم أن يقيموا فيها وطناً ينطلقون منه للسيطرة على ما بقي للعرب من وجود ووطن ويجلبون إليه كل من يرغب في أن يستوطن بأمان واطمئنان في أرض لا يُمنع فيها الاستيطان؛ أرض كانت للعرب وصارت لليهود، وهم فيها اليوم أكثر أمنا واستقراراً من أي وقت مضى من التاريخ كما يقول‏
                              (أبا ايبان).‏
                              أيها العربي.. نفر من أهل القضية يبيعونها بأبخس الأثمان، ويغطون بقشة (غزة- أريحا) اعترافهم "بإسرائيل" وتنازلهم عن كل ما يمت إلى ذلك التاريخ بِصِلَة، بعد أن (ناضلوا) ليصبح قرار القضية، كل قرارها بأيديهم، ليغيب في ظل ذلك بعدُها القومي. وتضيع مسؤوليتها القومية، فيتقزم حضورها القطري مقارنة بقوة العدو وحضوره، وتضيع كلها في زحمة الضعف والامتهان والهوان، والاتهامات والإدعاءات والشعارات والعربدات السياسية، السرية وغير السرية.‏
                              العرب يديرون ظهورهم لتاريخهم ولقضية هي تاريخهم الحديث، بكل ما فيه وما له وما عليه؛ لقد تعبوا منها ومن (محاميها) فأداروا ظهورهم لها. وأرادوا وضع وزرها على كاهل أصحابها، وأصحابها حيالها أنواع في المواقف والمراتب والإمكانيات والصلاحيات والمسؤوليات:‏
                              -منهم من يُحكِم قبضته على المال والسلاح والرجال فيملك القرار، ويتصرف بـ "أملاكه وأقنانه" على هواه، وكأنه مالك الملك، لا يطاول شأنه شأن، ولن يتغير على مدى الأزمان، ثابت في الكون كما الكون، لا يرى إلا ذاته.‏
                              -ومنهم من يشكل قوام القوة ولا يملك الحرية ولا القدرة على التحرك بحرية ليكون له شأن في القرار. يمنعه الخوف من اقتحام جدار الخوف، فيبقى ناراً يستخدمها سواه على هواه.‏
                              -ومنهم من أحبط حتى العظم، جراء التجارة به وبقضيته وبدماء أهله وبسعادة أبنائه، فعاف القضية والثوب الذي يلبَسه. لشدة ما أصابه ولقسوة معاناته من الزيف والمزيفيين والتجار الفاسدين المفسدين، فأصبح منتبذاً منها ومنهم مكاناً قصياً، ولا يريد أن يسمع أو أن يرى؛ ويكتفي من العيش بأن يكون آخر من يدركه خبر الناس عن الناس.‏
                              -ومنهم من يتقدم الصفوف منادياً "باسم الله والحق والوطن" ويندفع ليموت مقدماً لقنديل الثورة دماً حتى يستمر نوره ويزداد اشتعاله. ويرى نفسه حامل أمانة للأجيال عليه ألا يفرط بها، وهي أن تبقى شعلة الثورة مستمرة في الاتقاد.‏
                              -ومنهم من ينتظر أن يحل القضية غيره، ليركب هو ظهره وظهرها، فيرتاح من الهم والغم والعري والعار، ويلقي الشوك والقطران في حضن سواه، ويذهب مزاوداً إلى المدى الأبعد في كل مجال وعلى كل مستوى وصعيد.‏
                              -ومنهم من يلهث وراء الحقيقة والصدق والشعار النبيل، ويركض وراء وطن ولو بوسع الكف أو العقال، لينطلق منه إلى متابعة الكفاح من أجل تحرير وطن بوسع الحياة والزمن. ولا يريد أن يكيله شيء أو يذله اعتراف للعدو بحق، ولكنه في سعيه ذاك ممرور خائف مرهق يبحث عن يقين، ويخشى أن يبيعه السماسرة في السوق. لكثرة ما أرهقه الركض وراء السراب ووراء الوعود، ووراء أولئك الذين يملكونه المجرة ويقبضون منه ثمنها ويبقونه مقيداً في الحفرة التي كان فيها منذ الخروج الأليم من البيت والوطن والحلم.‏
                              -ومنهم من يرى إلى أي درك انحدرت الأمور والمواقف، وانكشف أمامه الغطاء، وأدرك أن التصفية الرخيصة المذلة قد تمت. ويتلفت يمنة ويسرى منتظراً تدفق العرب -ويا طول ما ينتظر - ليمنعوا التفريط ويوقفوا الانفراط.‏
                              وهو غير مصدق ما يسمع من اعترافات، ورافض لأن يكون الرد مجرد حوقلات وانصراف عن الأمر، لأن بعض أهل يريدون أن يستأثروا به. إنه يرى القضية قومية منذ بدأت فكيف تصبح أقل من قطرية، وأضيق من فئوية، بعد كل ما بذل على طريقها من دم وتضحيات؟!؟ وهو في لهفته وخوفه وتلهفه.. يفقد حتى التحكم بأمر نفسه، فيسيل في الطريق.. ولا يبقى منه غير دمع وأسى يختلطان مع تربة الأرض التي تذكره بدم الشهداء في كل لحظة.‏
                              أهل فلسطين في الداخل: فريق تعب، وفريق أنهى العدو وجوده وأحلامه وتعبه بالموت، وفريق في السجن وقيد الإبادة وفريق يرى كل ذلك الألم الذي يتدفق كالقطران في الشوارع والساحات فيرد بأدوات منها اللحم والدم، ليشق عبر الليل طريقاً إلى النور، ويرفض أن تكون النهاية ضغثاً على إبَّالة، وتفريطاً ما بعده تفريط، بالحق والدم والأرض وحتى بالأحلام العذبة التي غدت تطاول الأوهام.‏
                              أيها العربي. لقد قيدوك بخبز يومك، وأغرقوك بدمع أطفالك، وخنقوا صوتك بالخوف والقهر، فما عاد لك صوت ولا رأي ولا موقف ولا رؤية، وصرت ترى ما ترى لك، وتبارك ما يقرر لك وعنك، وتطلب رضا أولي الأمر قبل رضا نفسك ورضا ربك وآل أمرك إلى أن تصبح قطعة لحم تَكْرُج على عجلات القدمين، تطلب حياة فما تحصل إلا على معاناة تزيدها الحياة أسى ومرارة وعناء.‏
                              أيها العربي.. اليوم يعترف بعض قومك وبعض أولي الأمر من قومك "بإسرائيل" دولة على أرض فلسطين، ويتنازلون عن أرض الأجداد، وعن تاريخ الأمجاد، عن المقدسات كلها وعن الحقوق كلها، ويرضيهم أن تعطيهم من الوطن، وبديلاً عن كل ما يحلم به الفلسطيني والعربي، غزة التي يتمنى الإسرائيليون لو يبتلعهم البحر، وأريحا التي يراها تاريخ التعصب العنصري، اليهودي ملعونة بنص التوراة، وملعون من "يبنيها ويسكنها" لأنها ليست من "أرض إسرائيل".‏
                              أيها العربي لقد نسيت نفسك كثيراً فنسيك بعض حكامك، ونسيك التاريخ، ولم يعد لك إلا موقع الأذلين: عِيرُ الحي والوتد. فهل تسمع وترى وتدرك ما أنت فيه، أم أن الوهم قد وصل إلى الحد الذي يجعلك لا تقدر حتى على التمييز بين ما تريد وما يراد لك؟!‏
                              أيها العربي.. إن فلسطين تزول من المصور الجغرافي العربي لتحل محلها "إسرائيل" وستبدأ مراحل أزالتها من الذاكرة والوجدان. لقد وصل الحريق إلى ذاكرتك وقلبك ووجدانك بعد أن تجاوز عتبة بيتك منذ زمن، فهلا سمعت وأبصرت وأدركت؟! وهلا انقلب ذاك الإدراك إلى وعي وقدرة لديك، تجعلك مالكاً لزمام أمرك أو بعض أمرك؟!؟‏
                              لم يعد لك من القوة ما تدفع به العدو عن دارك ودارة قلبك، فالرمح في سويداء القلب.. ولم يعد لك من الأمل ما يغريك باستخدام أدواتك في المناورة والمداورة ودفع كرة النار أمتاراً بانتظار المعجزة. لقد حاصرك الأوصياء بالوقائع والوثائق والمواثيق والأعداء الحماة وبسكاكين الجزارين إن أنت رفضت، ومدوا أمام قلبك المرهف، ومعدتك الجائعة، وعينك الدامعة، بسط الرفاء والنعيم إن أنت أذعنت أكثر، وغبت أكثر، ومت أكثر؛ فما أنت فاعل ليبقى منك شيء يحييك ويحميك، ويدفع الذلة عنك ويعيد شيئاً منك إليك؟!‏
                              إذا قبلت فالأمر أكثر خطورة عليك من كل ما مر عليك، لأن هذه النافذة ستفتح عليك باباً والباب يصبح أبواباً، والمتربصون بك أكثر حقداً مما تتصور. وإذا لم تقبل فما بيدك ما تدفع به عنك إلا انتفاضة المعجزة فيك، أو معجزة تحولت إلى انتفاضة تصنع المعجزة.‏
                              أيها العربي.. إن الرمح في سويداء القلب وقد تموت أنت الذي تباشر رفع الرمح عن قلبك، ولكن قد تحيا أيضاً وتنجح في إبعاد الرمح عن سويداء القلب؛ وأياً كانت النتيجة فإن في محاولتك رفض الموت المذل والتوقيع الأذل، والانصياع لأمر يمليه عليك عدوك والمتواطئ مع عدوك عليك؛ إن في ذلك كرامة لك، وإرادة تمتد فيمن حولك وفي من يخلفك؛ وتبقى تمتد وتكبر إلى أن تصبح إرادة تحرير، وثورة شعب لا يمكن تقزيم ما قد تصل إليه وما تسفر عنه.‏
                              أيها العربي.. قل لا للاعتراف "بإسرائيل" دولة على أرض فلسطين.. قل ذلك الآن والرمح في سويداء القلب، لأن في ذلك حياة للحلم والأمل ولإرادة التحرير وحق العودة، حتى لو متّ أنت.. قل لا.. لأن في ذلك حياة أمة وكرامتها، وحياة الأمم وكرامتها لا تقاس بما يصيب جيلاً أو أجيال منها. قل لا "لإسرائيل" ولمن يعترف "بإسرائيل" لأنك بذلك تؤكد حقك وحريتك وتؤكد معنى الحق والحرية للإنسانية ككل.. لأن "إسرائيل" دولة عدوان عنصري قامت في دارك بقوة العدوان والقهر، ولا يمكن أن يقبل شعب الانصياع للظلم ولقوة العدوان والقهر، وإلا عادت البشرية كلها آلاف السنين إلى الوراء.‏
                              أيها العربي.. أرفض من يضع السكين على عنقك.. وإذا لم تنجح في دفعه عنك.. فسوف ينجح ابنك أو حفيدك أو حفيدُه في الثأر لك، وفي تخليص حقك منه، كما ينجح في زرع مهابته وكرامته فوق ذرا الأرض التي يعيش عليها نسلك.‏
                              أيها العربي.. إن الشهداء.. كل الشهداء ينظرون إليك.. وإن صوتك الضعيف الذي يرفض العدو والاعتراف به.. سوف يدوي ويدوي ويدوي.. ويصبح زلزالاً تحت عروش تقوم على الظلم والعدوان، ولا بد أن يهدمها يوماً فوق رؤوس بناتها.‏
                              أيها العربي المقهور.. أرفض الاعتراف "بإسرائيل".. ارفض ففي ذلك بداية الصحوة، وبداية النهاية للظلم والعدوان والقهر، الذي تمثله "إسرائيل" وتعمل لتوسيع دائرته من حولك.‏
                              أيها العربي.. ارفض وكن أنت. ولا تقبل فتصبح سواك. كن أنت ولا تكن سواك.. كن أنت ولا تكن سواك.‏

                              الأسبوع الأدبي/ع378//9/أيلول/1993‏

                              إذا الشعب يوما أراد الحياة
                              فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                              و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                              و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                              تعليق


                              • #45
                                رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                                أسئلة بحجم التحديات
                                لقد وقع عرفات اعترافا بـ " إسرائيل " واتفاقاً للحكم الذاتي المحدود في غزة وأريحا، ونصب بذلك رئيسا لدولة فلسطين، وفي حين يدعي أنه كذب بذلك التوقيع في البيت الأبيض مزاعم الصهيونية التي قالت بعدم وجود شعب فلسطيني، فإنه اعترف من جانب آخر بأن الشعب الفلسطيني الذي يمثله هو والموجود في الساحة السياسة الدولية وعلى أرض التاريخ والجغرافية التي يحكمها " النظام العالمي الجديد " بقيادة كلنتون، إن هذا الشعب يعترف " بحق تاريخي " لليهود في فلسطين، ويتعرف بدولة "إسرائيل" التي ستجمع يهود العالم في أرض كانت للشعب العربي الفلسطيني وأصبحت لسواه؛ مع احتفاظ "إسرائيل" بنماذج بشرية فلسطينية " قيد الإبادة، وقيد الاستخدام " مثل هنود أميركا الحمر، في فلسطين المحتلة التي لا يطيب لأي يهودي أو مسيحي متصهين، إلا أن يدعوها بـ " أرض إسرائيل" ".‏
                                بعيداً عن الانفعالات نقول :‏
                                إن الاعتراف العرفاتي بـ " إسرائيل "، وصيغة الحكم الذاتي التي قبل بها تشكلان انطلاقة عربية شبه تامة نحو الاعتراف العربي والإسلامي بـ " إسرائيل "، ونحو تطبيع العلاقات معها على كل مستوى وصعيد، ومن ثمة فإن هذه المرحلة من مراحل " كامب ديفيد "، بعد أن تم تعريبه، هي الأخطر من جميع المراحل السابقة واللاحقة.‏
                                وإذا كانت هناك جيوب عربية، على شكل دول أو منظمات أو أحزاب أو شرائح اجتماعية، تقاوم هذا الاعتراف وتلك الصيغة، فإن اتفاق أوسلو الذي تم تعميده في البيت الأبيض يتكفل بالقضاء عليها بأيد عربية مدعمة صهيونياً وأميركياً وعربياً. وينتظر الصهاينة والغربيون جميعاً أن يحقق عرفات وفريقه مصداقية الاتفاق بالقضاء على الانتفاضة والمعارضة والمقاومة من أي مكان أتت، ليستحقوا تصفيقاً حاداً من " المجتمع الدولي " الذي يصاغ ضميره من قبل الشركات والاحتكارات العظمى ووسائل الإعلام المسيطر عليها صهيونياً وأميركياً.‏
                                لقد حقق الأميركيون ـ الصهاينة، أو الصهاينة الأمريكيون أعظم ما بلغت الحركة الصهيونية والغرب الذي شجع على وجودها منذ بداية القرن، وهو الاعتراف بـ " إسرائيل " وبحقها في الوجود والعيش بسلام من قبل العرب أصحاب الأرض والحق، وزادوا على ذلك أن جعلوا "إسرائيل" تقوم بالدور الذي قامت به بريطانية بين الحربين العالميتين، الأولى والثانية، في فلسطين، حيث تولت الوصاية عليها لتنشئ وطناً قوميا لليهود وتقيم لهم مقومات الدولة وتسلمهم فلسطين بعد قمع أهلها وتدجينهم. فـ " إسرائيل " تتولى الوصاية الآن على ما بقي من أرض فلسطين برسم المطالبة الفلسطينية والعربية والدولية؛ وهي الأراضي المحتلة بعد عام 1967، تتولى الوصاية عليها وعلى أهلها من خلال الإشراف على الحكم الذاتي المحدود في غزة وأريحا، لتجعل ذلك الجزء من الأرض مستقبلاً امتداداً لـ " إسرائيل " الكبرى، بجعل الناس يقبلون الاندماج في الكيان " الإسرائيلي " الذي سيتحكم باقتصادهم وأمنهم وبنوع الحياة التي يعيشونها والعلاقات التي يقيمونها مع الآخرين. فهو حسب الاتفاق، هو الذي يحميهم من المخاطر الخارجية؟!؟ ولنا أن نسأل من أين تأتي عرب غزة وأريحا المخاطر الخارجية إن لم يكن ـ حسب منطوق نص الاتفاق وتفسيره ـ من الجوار العربي، الذي يريد اليهود والغربيون أن يقيموا سداً بينه وبين فلسطيني الحكم الذاتي يشرف عليه ويقوده رئيس مخفر أريحا؟!‏
                                لقد أسست الولايات المتحدة لـ " إسرائيل " بهذه الخطوة الهامة من خطوات كامب ديفيد حاضنةً عربية تغذيها اقتصادياً وتنمي وجودها باستقدام المستوطنين على أرضية السلام والأمن والاعتراف بحق " تاريخي " في الوجود والبقاء. وأمَّنت لنفسها السيطرة والنفوذ على موارد " الشرق الأوسط " من النفط والثروات المعدنية، وكذلك المدخل الواسع لترويج البضائع والسلع، والتحكم بالمنافذ الاستراتيجية القائمة.. باختصار شديد حققت، بما توصلت إليه منذ بداية حرب الخليج الثانية وحتى احتفال البيت الأبيض يوم الاثنين‏
                                13/أيلول/1993 دخول هذه المنطقة بكاملها، والوطن العربي كله تقريباً، مجال التبعية المطلقة للعصر الأميركي ـ الصهيوني، بوكالة مباشرة من أمريكا لـ " إسرائيل " بالنفوذ أو الهيمنة والقيادة والانتشار، تحقيقا لمصالح الطرفين .‏
                                وربما كان الأمر الأخطر في هذه المرحلة هو أن ما يتم من اعتراف مباشر بالعدو، وإقامة علاقات واتفاقيات منفردة معه من قبل العرب /اتفاق عرفات رابين ـ واتفاق الأردن ـ "إسرائيل" .../يتم بموافقة عربية ومباركة زاحفة نحو البيت الأبيض وتل أبيب، أو منطلقة منهما نحو العواصم العربية، التي تتهاوى واحدة أثر أخرى في أحضان الاتفاق الكارثة.‏
                                فالجامعة العربية على لسان أمينها العام تقول :" نعتقد أننا نسير في الطريق السليم " و " أننا نستفيد من دروس الاتفاق الثنائي بين مصر و" إسرائيل " ". فالجامعة تبارك هذا الاتفاق ولا تقاومه ولا تعاديه، بل تشجع عليه بالرغم من كونه منفرداً، يتم بين طرف عربي والعدو الصهيوني، من وراء الدول العربية. ويجيء بنتائج أقل مما عُرض في الرسائل التطمينية المتبادلة مع راعيي مؤتمر مدريد قبل انعقاده، ومما كان يُعرض في بدايات المفاوضات الثنائية على الوفد الفلسطيني .‏
                                والدول العربية ترحب بالاتفاق وتعترف ضمنياً بما اعترف به عرفات، وهي بذلك تتنازل عن حق العرب في فلسطين، وعن التزامها حيال القضية بحجة الرضا بما رضي به الفلسطينيون، حتى لو كان الفلسطيني الذي رضي ووقع لا يمثل إلا نفسه .‏
                                ومن هنا تأتي خطورة أشد ليس على القضية الفلسطينية التي أصبحت في خبر كان، ولكن على مستقبل الحلم العربي كله بتضامن أو اتحاد أو وحدة وبأي نوع من التعاون، ذلك لأن الاتفاق والاعتراف نسفا كل ما تبقى من بقايا الثقة بين الأنظمة العربية والأقطار العربية، فأخذ كل نظام يعلن صراحة أنه سيبحث عن مصالحه الخاصة بعيداً عن أي نوع من الالتزام القومي.‏
                                ولأن كل الأقطار العربية وعت درساً وحفظته وأخذت تمارس حسب ما يمليه عليها نصه وواضع ذلك النص، وهو أن تذعن للسيد الأميركي ورغباته، ولما يطرحه باسمه ونيابة عنه العدو الصهيوني، الممثل والمندوب السامي له في المنطقة. ولا يسمح أحد بأي تحرك خارج الخط المرسوم حتى لا يتهم بالخروج على إرادة السيد، حتى لو كانت تلك الإرادة تسحقه سحقاً. لقد استجابت أقطار عربية، تنبذ عرفات ومنظمة التحرير لدورهما في حرب الخليج، استجابت لطلبات بتمويل مشروع غزة أريحا، وأعلنت عن رضاها التام بذلك، على الرغم من مشاعرها وإرادتها، وهللت أقطار عربية وأنظمة كانت خلف الاتفاق لأنها رأت في ذلك نجاح لإرادتها وصحة لاستراتيجية بدأت منها، وقدمت أقطار عربية دعما وتسهيلات وتشجيعا غير محدود للمباحثات السرية في أوسلو، كانت أول من يزورها رابين بعد عودته من واشنطن بعد توقيع الاتفاق، حتى قبل أن يصل إلى تل أبيب. وانفردت أقطار بالغصة والألم، وأخفت بعضها فرحتها المموهة بأقنعة متعددة. ولكن الجميع يقبل أو يسكت على من قبل بالاعتراف والاتفاق المذلَّين. ولنا أن نسأل: ما الذي أصاب العرب، وما الذي أصاب الوجدان الجمعي، والقضايا المصيرية؟! وما الذي جعلنا: حكاماً ومحكومين، من أقصى الوطن إلى أقصاه، نقبل هذا الدور، ونقبل بهذا المصير؟! هل هو الوضع الدولي والعربي الذي تغير إلى درجة لم يبق لنا مع تغيراته قوة ولا اقتدار ولا حيلة فيما يجري علينا فيه؟! أم هو موت الإرادة والإحباط، والرغبة في الانتهاء من مسؤولية قضية أتعبت الجميع، وأظهرت فساد محاميها ومسؤوليها إلى الحد الذي بات أمرهم عبئاً على المنظمة والشعب والعرب والقضايا المصيرية كلها؟!‏
                                هل هو الاقتناع الفعلي بضرورة تغيير السياسات والأساليب وحتى الاستراتيجيات في ضوء المتغيرات الدولية، والتسليم بعدم القدرة على تغيير الواقع؛ والتالي هو الانصياع لمنطق مكروه مفروض؟! هل هو العجز، أو التعب، أم استشعار العجز والتعب الألم؟! كل ذلك مما يمكن أن يلقى على الذات في صورة أسئلة وتساؤلات. ولكن تبقى أسئلة واقعية أكثر مرارة وأقسى وقعاً وتأثيرا على الأمة والأقطار والأنظمة والأحزاب والأشخاص !! أسئلة تتصل بالمعاناة المنتظرة بعد الاعتراف والتطبيع، والانفتاح على العصر الأميركي ـ الصهيوني في هذه المنطقة من العالم. وهي أسئلة جوهرية تتصل بالمصلحتين القومية والقطرية على كل مستوى وصعيد، كما تتصل بالمصالح الأضيق؛ فضلاً عن تلك التي تتصل بالمعاني الكبرى للوجود العربي وأهدافه وما يشرفه ولا يشرفه من موقف.‏
                                فعلى الصعيد الاقتصادي مثلا هل سيوافق العرب ـ من منظور نظري محض ـ على أن تصبح مناطق الحكم الذاتي الفلسطيني، حتى لو شملت الضفة الغربية كلها وقطاع غزة، منافذ للتطبيع الاقتصادي وجسوراً للمصالح الإسرائيلية في الوطن العربي؟! وتلك المناطق خاضعة لشراكة "إسرائيلية" ـ غربية من جهة ـ وشراكة "إسرائيلية" فلسطينية بهيمنة "إسرائيلية" من جهة أخرى؟! هل يقبلون تبعية اقتصادية تلغي حريتهم من الجذور وتلغي قرارهم السياسي المستقل؟! ذلك لأن التبعية الاقتصادية تفرض تبعيات أخرى في مقدمتها تبعية القرار السياسي.‏
                                وعلى الصعيد السياسي والتاريخي والاجتماعي، هل سيقبل العرب حركة متنامية لتغيير تاريخهم وتوجههم السياسي القومي، وقيمهم الاجتماعية ليتوافقوا مع عصر أميركي ـ إسرائيلي يسعى بوضوح لإعادة كتابة تاريخ المنطقة بما يزيف حقائقه ووقائعه ويصدِّرها للأجيال العربية؛ حيث تصبح "إسرائيل" دولة لها حق تاريخي غطى عليه تسجيل العرب للتاريخ، وأعاده‏
                                " النضال الصهيوني" إلى الوجود، واعترف به العرب " العادلون المعتدلون "؟! وهل يقبل العرب بأن يقتل حلمهم القومي كله، ابتداء بقتل قيمهم القومية والنضالية وتطلعاتهم المشروعة، حلمهم بقيام أمة على أساس من الوعي المعرفي والقومي والعالمي تستعيد دورها الحضاري وحضورها الفاعل في التاريخ، وأول ما يكون من دلائل ذلك الحضور سيطرتها على مقدراتها وتحريرها لأرضها وقرارها الاقتصادي والسياسي؟!‏
                                وهل سيقبل العرب العبث بقيمهم الثقافية والعقائدية لتتلاءم تلك القيم مع متطلبات " السلام " مع "إسرائيل"، التي تفرض نوعاً من القيم والمعرفة مبنية على التلمود والخرافة والاستعلاء، وتريد أن تغرسها بقوة التفوق العسكري والتقني وبقوة القهر على العربي المستضعف؟! هل سيقبل العربي بإدانة تاريخه القريب، وهو تاريخ الاستقلال في كل أقطار الوطن العربي، ذلك الذي ارتبط بالنضال من أجل تحرير فلسطين، وارتكز على اعتبار القضية الفلسطينية قضية مركزية فيه، فينظر إلى ذلك التاريخ وذلك النضال على أنهما كانا نوعاً من " التجني " على " اليهود الصهاينة " الذين يعترف لهم اليوم بحق تاريخي، وبحق الوجود والعيش بسلام في فلسطين؟! هل سيدين العرب تاريخهم ذاك بوصفه "إرهابياً " لـ " إسرائيل " ومحاولات بائسة " لتدميرها "، كما يراه الصهاينة والغرب المتصهين، والصليبيون الجدد القادمون بأثواب تلمودية، ومسيحية ـ صهيونية؟!‏
                                هل سيقبل العرب أن يكونوا مجرد أفواه وسواعد تعمل عند الصهيوني ـ والغربي، وتستهلك بضائعه، مقرةً مقولة الملك الحسن الثاني بزواج " العبقرية " اليهودية: العقل والمال الغربي، مع الأيدي العاملة العربية؟! تلك التي تنطوي على إهانة للعقل العربي من جهة، وعلى تشجيع لمشروع استثماري ـ استعماري لمصالح الغرب في الوطن العربي، وتنطوي على نوع من الإهانة والتهمة الخلقية للعربي؟!‏
                                هل سيقبل العرب اتهامات من هذا النوع، وعلاقات بهذا الحجم، واعترافات بهذا الاتساع بعد اليوم الأسود في البيت الأبيض؛ أم تراهم سيرفضون ذلك ويقاومونه؟! وإذا كان الجواب بالرفض والمقاومة، فهل تراهم سيتبعون أساليب فاشلة كتلك التي جعلت من كل (لا) من لاءات الخرطوم "نعماً" صدَّاحة في الفضاء العربي، بسبب الانطلاق في الظلام وإرجاء العمل والتفكير العالمي الجاد !! وكتلك التي جعلت " مقاومة " كامب ديفيد تؤدي إلى تعريب " كامب ديفيد " والالتحاق به والرضا بأقل مما قد وعد به أو حققه في حينه؟!‏
                                إن كل ذلك مطروح على الضمائر والعقول والإرادات والقوى السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية للأمة العربية التي تتعرض الآن لمحنة وامتحان بحجم يفوق ما تعرضت له في 1948، وفي 1967، ذلك لأن إرادة الأمة لم تنهزم في تلك التواريخ والوقائع.. بينما هي تنفذ اليوم بانهزام هو شر انهزام.‏
                                فهل نرفض وننجح ونكبر ونتعلم؟! أم أننا ننساق في المسار الذي رسم لنا مسلمين بعدم أهليتنا، معلنين استعدادنا للخضوع لأنواع من الاستعمار والتبعية، مع الرغبة في تغيير التسميات فقط؟! إنها أسئلة مطروحة وتنتظر إجابات بحجم التحديات.‏

                                الأسبوع الأدبي/ع379//16/أيلول/1993‏

                                إذا الشعب يوما أراد الحياة
                                فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                                و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                                و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                                تعليق

                                يعمل...
                                X