إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

دراسات دولية

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • دراسات دولية

    دراسات دولية

    - المحامي د.عصام جميل العسلي -

    دراسة - من منشورات اتحاد الكتاب العرب 1998

    مقدمة‏

    الفصل الأول حقوق الدول وواجباتها(1) ‏

    الفرع الأول القانون الدولي العام وحقوق الدول وواجباتها.‏

    الفرع الثاني- القانون الدولي العام الإسلامي وحقوق الدول وواجباتها‏

    الفصل الثاني الدولة والمسؤولية الدولية للدولة‏

    الفرع الثاني الشروط الموضوعية لترتيب المسؤولية الدولية للدولة تمهيد:‏

    الفصل الثالث التسوية السلمية للمنازعات الدولية Pacific settlement of International Disputes‏

    الفرع الأول الحلول السياسية الودية‏

    الفرع الثاني‏

    الملاحق‏

    2-النظام الأساسي لمحكمة العدل الإسلامية الدولية‏

    2-مشروع النظام الأساسي‏

    الهامش‏
    إذا الشعب يوما أراد الحياة
    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

  • #2
    رد: دراسات دولية

    مقدمة

    تحاول سلطات الاحتلال الإسرائيلية أن تستغل رغبة القطر العربي السوري الصادقة في إقامة سلام دائم وعادل وشامل في المنطقة العربية، وإصراره على استرجاع الأراضي العربية المحتلة، بما في ذلك الجولان السوري والبقاع الغربي والجنوب اللبناني لإملاء شروط تعجيزية تعتبرها من مستلزمات السلام، متجاهلة أن القطر العربي السوري دولة مستقلة ذات سيادة، ومن الدول التي دعيت إلى "مؤتمر سان فرنسيسكو" بتاريخ الخامس من شهر آذار (مارس) 1945 للمساهمة في وضع "ميثاق الأمم المتحدة" ثم للتوقيع عليه بتاريخ 26 حزيران (يونيو) 1945، وبالتالي فإن تلكم المطالب التعجيزية لا تقع ضمن واجبات والتزامات القطر العربي السوري -كدولة مستقلة ذات سيادة- المعددة في هذه الدراسة.‏

    فمن المعروف أن الدولة شخص من أشخاص القانون الدولي ذو أهلية، له حقوق وعليه واجبات أو التزامات دولية، ويملك القدرة على المحافظة على حقوق بإثارة مطالبات دولية.‏

    والالتزامات الدوليه واجبة التنفيذ سواء أكان مصدرها اتفاقياً أم عرفياً أم حكماً قررته المبادئ العامة للقانون في النظم القانونية المختلفة، فإذا تخلّف أحد أشخاص القانون الدولي عن الوفاء بالتزام دولي ما، ترتب على تخلفه هذا تحمله للمسؤولية الدولية.‏

    ونتيجة لذلك، تقع المنازعات بين الدول كما تقع بين الأفراد. وقد اصطلح فقهاء القانون الدولي على تصنيف المنازعات في نوعين رئيسيين: منازعات سياسية ومنازعات قانونية، كما اصطلحوا على تقسيم حلول المنازعات الدولية إلى نوعين حلول ودية وحلول غير ودية، وقسموا الحلول الودية بدورها إلى حلول سياسية وحلول قانونية.‏

    وعلى هذا، ستحاول هذه الدراسة إلقاء الضوء على المواضيع التالية:‏

    *حقوق الدول وواجباتها‏

    * المسؤولية الدولية للدولة‏

    *التسوية السلمية للمنازعات الدولية.‏

    والله من وراء القصد.‏
    إذا الشعب يوما أراد الحياة
    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

    تعليق


    • #3
      رد: دراسات دولية

      مقدمة

      تحاول سلطات الاحتلال الإسرائيلية أن تستغل رغبة القطر العربي السوري الصادقة في إقامة سلام دائم وعادل وشامل في المنطقة العربية، وإصراره على استرجاع الأراضي العربية المحتلة، بما في ذلك الجولان السوري والبقاع الغربي والجنوب اللبناني لإملاء شروط تعجيزية تعتبرها من مستلزمات السلام، متجاهلة أن القطر العربي السوري دولة مستقلة ذات سيادة، ومن الدول التي دعيت إلى "مؤتمر سان فرنسيسكو" بتاريخ الخامس من شهر آذار (مارس) 1945 للمساهمة في وضع "ميثاق الأمم المتحدة" ثم للتوقيع عليه بتاريخ 26 حزيران (يونيو) 1945، وبالتالي فإن تلكم المطالب التعجيزية لا تقع ضمن واجبات والتزامات القطر العربي السوري -كدولة مستقلة ذات سيادة- المعددة في هذه الدراسة.‏

      فمن المعروف أن الدولة شخص من أشخاص القانون الدولي ذو أهلية، له حقوق وعليه واجبات أو التزامات دولية، ويملك القدرة على المحافظة على حقوق بإثارة مطالبات دولية.‏

      والالتزامات الدوليه واجبة التنفيذ سواء أكان مصدرها اتفاقياً أم عرفياً أم حكماً قررته المبادئ العامة للقانون في النظم القانونية المختلفة، فإذا تخلّف أحد أشخاص القانون الدولي عن الوفاء بالتزام دولي ما، ترتب على تخلفه هذا تحمله للمسؤولية الدولية.‏

      ونتيجة لذلك، تقع المنازعات بين الدول كما تقع بين الأفراد. وقد اصطلح فقهاء القانون الدولي على تصنيف المنازعات في نوعين رئيسيين: منازعات سياسية ومنازعات قانونية، كما اصطلحوا على تقسيم حلول المنازعات الدولية إلى نوعين حلول ودية وحلول غير ودية، وقسموا الحلول الودية بدورها إلى حلول سياسية وحلول قانونية.‏

      وعلى هذا، ستحاول هذه الدراسة إلقاء الضوء على المواضيع التالية:‏

      *حقوق الدول وواجباتها‏

      * المسؤولية الدولية للدولة‏

      *التسوية السلمية للمنازعات الدولية.‏

      والله من وراء القصد.‏
      إذا الشعب يوما أراد الحياة
      فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
      و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
      و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

      تعليق


      • #4
        رد: دراسات دولية

        الفصل الأول حقوق الدول وواجباتها(1) rights and duties of states (1)

        تمهيد‏

        من المعروف أن الدولة شخص من أشخاص القانون الدولي ذو أهلية، له حقوق وعليه واجبات دولية، ويملك القدرة على المحافظة على حقوقه بإثارة مطالبات دولية.‏

        ولقد كان تحديد حقوق الدول وواجباتها محل اهتمام رجال القانون الدولي منذ عهد بعيد، كذلك قامت الهيئات العلمية الدولية بتناول نفس الموضوع واتخاذ قرارات بشأنه. ورد ذكر صريح لحقوق الدول وواجباتها في مواثيق دولية متعددة وأهمها:* )‏

        -مشروع الإعلان الصادر عن" الجمعية العامة للأمم المتحدة" رقم 375 (4) لعام 1949 بشأن حقوق الدول وواجباتها وهو يتألف من /14/ مادة تتضمن أربعة حقوق وعشرة واجبات.‏

        -فحقوق الدول التي نص عليها هذا المشروع هي: الاستقلال، السيادة، المساواة في القانون، والدفاع المشروع عن النفس.‏

        -أما واجباتها فهي: عدم التدخل، عدم إثارة الحروب الأهلية واحترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية، وعدم تهديد السلم ، وتسوية المنازعات الدولية بالطرق السلمية، وعدم اللجوء إلى الحرب، وعدم مساعدة الدول المعتدية، وعدم الاعتراف بالاحتلال الحربي، وتنفيذ المعاهدات، والتقيد بالقانون الدولي.(1)‏

        ويتفق الفقهاء عند الكلام عن حقوق الدول وواجباتها أن يُفَرَّقْ فيها بين نوعين:‏

        -حقوق طبيعية أساسية تثبت للدولة بحكم وجودها ذاته.‏

        -وحقوق مكتسبة ثانوية تكتسبها الدولة عن طريق الاتفاق أو العرف.‏

        وسوف نتناول بالبحث الحقوق الطبيعية الأساسية فقط، لأنها ثابتة وواحدة بالنسبة لجميع الدول، أما الحقوق المكتسبة الثانوية فتتعلق دراستها بالمواضيع المختلفة التي تتصل بها، وتخضع في حكمها للمعاهدات أو العرف الدولي، وهي تخرج عن غرض هذا البحث، وتتناول بعد ذلك بالبحث الواجبات التي تترتب على الدول مقابل تمتعها بتلك الحقوق، ويتم ذلك كله وفق المخطط التالي:‏

        تمهيد:‏

        الفرع الأول: القانون الدولي العام وحقوق الدول وواجباتها.‏

        المبحث الأول: الحقوق الطبيعية الأساسية للدول.‏

        المطلب الأول: حق البقاء‏

        المطلب الثاني: حق الحرية الاستقلال)‏

        المطلب الثالث: حق المساواة.‏

        المطلب الرابع: حق الاحترام المتبادل.‏

        المبحث الثاني: واجبات الدول.‏

        المطلب الأول: واجب عدم التدخل‏

        المطلب الثاني: واجبات أخرى للدول.‏

        أولاً- واجب الامتناع عن إثارة الاضطرابات الداخلية.‏

        ثانياً- واجب عدم تهديد السلم والنظام الدوليين والاقليميين.‏

        ثالثاً- واجب تسوية المنازعات الدولية بالطرق السلمية.‏

        رابعاً- واجب الامتناع عن اللجوء إلى الحرب.‏

        خامساً- واجب الامتناع عن مساعدة الدولة المعتدية والتعاون مع الأمم المتحدة في نظام الأمن الجماعي.‏

        سادساً- واجب الامتناع عن الاعتراف بالتوسع الاقليمي.‏

        سابعاً- واجب تنفيذ الالتزامات الدولية بحسن نية.‏

        ثامناً- واجب التقيد بالقانون الدولي.‏

        تاسعاً- واجب الحيلولة دون التلوث.‏

        عاشراً - واجب منع التزييف.‏

        حادي عشر- واجب احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية.‏

        الفرع الثاني- القانون الدولي العام الإسلامي وحقوق الدول وواجباتها:‏

        تمهيد:‏

        المبحث الأول -الحقوق الطبيعية الأساسية للدولة الإسلامية.‏

        المطلب الأول: حق الدولة في البقاء.‏

        المطلب الثاني: حق الدولة في الحرية الاستقلال).‏

        المطلب الثالث: حق الدولة في المساواة.‏

        المطلب الرابع: حق الدولة في الاحترام المتبادل.‏

        المبحث الثاني -واجبات الدولة الإسلامية.‏

        المطلب الأول: واجب مراعاة دعائم العلاقات الإنسانية المستمدة من القرآن والسنة.‏

        أولاً- مبدأ التعاون الإنساني.‏

        ثانياً- مبدأ الكرامة.‏

        ثالثاً- مبدأ التسامح.‏

        رابعاً- مبدأ الفضيلة.‏

        خامساً- مبدأ العدالة.‏

        سادساً- مبدأ المعاملة بالمثل.‏

        سابعاً- مبدأ المودّة.‏

        المطلب الثاني: واجب الوفاء بالعهد.‏

        المطلب الثالث: واجب احترام العرف الصحيح في نطاق العلاقات الدولية.‏

        * : منها على سبيل المثال :‏

        - معاهدات لاهاي لعام /1899/م.‏

        -" بيان حقوق الدول وواجباتها" الصادر عن " المعهد الأمريكي للقانون الدولي" في جلسته المنعقدة بواشنطن بتاريخ السادس من كانون الثاني يناير ) 1916م‏

        -" بيان حقوق الدول وواجباتها " الصادر عن" اتحاد القانون الدولي" بتاريخ الحادي عشر من تشرين الثاني نوفمبر) 1919م‏

        - صك عصبة الأمم‏

        -" اتفاقية حقوق الدول وواجباتها " التي أبرمتها الدول الأمريكية في " مؤتمر مونتفيديو" لعام /1933/. وقد تم التشديد على أهم بنود هذه الاتفاقية في " مؤتمر بونيس آيرس" لعام /1936/م . ثم في مؤتمر " ليما" لعام / 1938/م.‏

        - ميثاق الأمم المتحدة.‏

        (1) -تكرم بمراجعة الملحق رقم 1) من هذا الكتاب.‏
        إذا الشعب يوما أراد الحياة
        فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
        و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
        و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

        تعليق


        • #5
          رد: دراسات دولية

          الفصل الأول حقوق الدول وواجباتها(1) rights and duties of states (1)

          تمهيد‏

          من المعروف أن الدولة شخص من أشخاص القانون الدولي ذو أهلية، له حقوق وعليه واجبات دولية، ويملك القدرة على المحافظة على حقوقه بإثارة مطالبات دولية.‏

          ولقد كان تحديد حقوق الدول وواجباتها محل اهتمام رجال القانون الدولي منذ عهد بعيد، كذلك قامت الهيئات العلمية الدولية بتناول نفس الموضوع واتخاذ قرارات بشأنه. ورد ذكر صريح لحقوق الدول وواجباتها في مواثيق دولية متعددة وأهمها:* )‏

          -مشروع الإعلان الصادر عن" الجمعية العامة للأمم المتحدة" رقم 375 (4) لعام 1949 بشأن حقوق الدول وواجباتها وهو يتألف من /14/ مادة تتضمن أربعة حقوق وعشرة واجبات.‏

          -فحقوق الدول التي نص عليها هذا المشروع هي: الاستقلال، السيادة، المساواة في القانون، والدفاع المشروع عن النفس.‏

          -أما واجباتها فهي: عدم التدخل، عدم إثارة الحروب الأهلية واحترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية، وعدم تهديد السلم ، وتسوية المنازعات الدولية بالطرق السلمية، وعدم اللجوء إلى الحرب، وعدم مساعدة الدول المعتدية، وعدم الاعتراف بالاحتلال الحربي، وتنفيذ المعاهدات، والتقيد بالقانون الدولي.(1)‏

          ويتفق الفقهاء عند الكلام عن حقوق الدول وواجباتها أن يُفَرَّقْ فيها بين نوعين:‏

          -حقوق طبيعية أساسية تثبت للدولة بحكم وجودها ذاته.‏

          -وحقوق مكتسبة ثانوية تكتسبها الدولة عن طريق الاتفاق أو العرف.‏

          وسوف نتناول بالبحث الحقوق الطبيعية الأساسية فقط، لأنها ثابتة وواحدة بالنسبة لجميع الدول، أما الحقوق المكتسبة الثانوية فتتعلق دراستها بالمواضيع المختلفة التي تتصل بها، وتخضع في حكمها للمعاهدات أو العرف الدولي، وهي تخرج عن غرض هذا البحث، وتتناول بعد ذلك بالبحث الواجبات التي تترتب على الدول مقابل تمتعها بتلك الحقوق، ويتم ذلك كله وفق المخطط التالي:‏

          تمهيد:‏

          الفرع الأول: القانون الدولي العام وحقوق الدول وواجباتها.‏

          المبحث الأول: الحقوق الطبيعية الأساسية للدول.‏

          المطلب الأول: حق البقاء‏

          المطلب الثاني: حق الحرية الاستقلال)‏

          المطلب الثالث: حق المساواة.‏

          المطلب الرابع: حق الاحترام المتبادل.‏

          المبحث الثاني: واجبات الدول.‏

          المطلب الأول: واجب عدم التدخل‏

          المطلب الثاني: واجبات أخرى للدول.‏

          أولاً- واجب الامتناع عن إثارة الاضطرابات الداخلية.‏

          ثانياً- واجب عدم تهديد السلم والنظام الدوليين والاقليميين.‏

          ثالثاً- واجب تسوية المنازعات الدولية بالطرق السلمية.‏

          رابعاً- واجب الامتناع عن اللجوء إلى الحرب.‏

          خامساً- واجب الامتناع عن مساعدة الدولة المعتدية والتعاون مع الأمم المتحدة في نظام الأمن الجماعي.‏

          سادساً- واجب الامتناع عن الاعتراف بالتوسع الاقليمي.‏

          سابعاً- واجب تنفيذ الالتزامات الدولية بحسن نية.‏

          ثامناً- واجب التقيد بالقانون الدولي.‏

          تاسعاً- واجب الحيلولة دون التلوث.‏

          عاشراً - واجب منع التزييف.‏

          حادي عشر- واجب احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية.‏

          الفرع الثاني- القانون الدولي العام الإسلامي وحقوق الدول وواجباتها:‏

          تمهيد:‏

          المبحث الأول -الحقوق الطبيعية الأساسية للدولة الإسلامية.‏

          المطلب الأول: حق الدولة في البقاء.‏

          المطلب الثاني: حق الدولة في الحرية الاستقلال).‏

          المطلب الثالث: حق الدولة في المساواة.‏

          المطلب الرابع: حق الدولة في الاحترام المتبادل.‏

          المبحث الثاني -واجبات الدولة الإسلامية.‏

          المطلب الأول: واجب مراعاة دعائم العلاقات الإنسانية المستمدة من القرآن والسنة.‏

          أولاً- مبدأ التعاون الإنساني.‏

          ثانياً- مبدأ الكرامة.‏

          ثالثاً- مبدأ التسامح.‏

          رابعاً- مبدأ الفضيلة.‏

          خامساً- مبدأ العدالة.‏

          سادساً- مبدأ المعاملة بالمثل.‏

          سابعاً- مبدأ المودّة.‏

          المطلب الثاني: واجب الوفاء بالعهد.‏

          المطلب الثالث: واجب احترام العرف الصحيح في نطاق العلاقات الدولية.‏

          * : منها على سبيل المثال :‏

          - معاهدات لاهاي لعام /1899/م.‏

          -" بيان حقوق الدول وواجباتها" الصادر عن " المعهد الأمريكي للقانون الدولي" في جلسته المنعقدة بواشنطن بتاريخ السادس من كانون الثاني يناير ) 1916م‏

          -" بيان حقوق الدول وواجباتها " الصادر عن" اتحاد القانون الدولي" بتاريخ الحادي عشر من تشرين الثاني نوفمبر) 1919م‏

          - صك عصبة الأمم‏

          -" اتفاقية حقوق الدول وواجباتها " التي أبرمتها الدول الأمريكية في " مؤتمر مونتفيديو" لعام /1933/. وقد تم التشديد على أهم بنود هذه الاتفاقية في " مؤتمر بونيس آيرس" لعام /1936/م . ثم في مؤتمر " ليما" لعام / 1938/م.‏

          - ميثاق الأمم المتحدة.‏

          (1) -تكرم بمراجعة الملحق رقم 1) من هذا الكتاب.‏
          إذا الشعب يوما أراد الحياة
          فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
          و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
          و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

          تعليق


          • #6
            رد: دراسات دولية

            الفرع الأول القانون الدولي العام وحقوق الدول وواجباتها.

            المبحث الأول -الحقوق الطبيعية الأساسية للدول:‏

            اعتبر "حق البقاء" الشرط الأساسي لجميع الحقوق الأخرى التي تثبت للدولة، لأن عدم القدرة على الاستمرار في وجودها سيؤدي إلى زوال الشخصية القانونية الدولية لأية دولة عضوة في الأسرة الدولية. وتتبع هذا الحق حقوق أخرى هي في الواقع نتيجة له، ومتصل بعضها ببعض، كحق الحرية وحق المساواة وحق الاحترام المتبادل.‏

            وتجدر الإشارة هنا إلى أن جميع الحقوق التي يقرها القانون الدولي العام للدول هي حقوق نسبية. فالدول مقيدة في ممارسة حقوقها بواجب احترام حقوق الدول الأخرى، ويحد من حقوق كل دولة ما للدول الأخرى من حقوق.‏

            المطلب الأول- حق البقاء:‏

            أولاً- مضمون حق البقاء:‏

            إن ما ينطوي عليه "حق البقاء"، من وجهة نظر عملية، هو الحق في بقاء مستمر، أي المحافظة على سلامة شخصية الدولة من خلال ممارسة حق الدفاع المشروع عن النفس أو أية آلية أخرى. ويشير هذا المفهوم في الحال عدداً من المسائل المهمة، ويمكن القول، بصورة أولية، أنه يقع على عاتق الدول واجب احترام حق الدول الأخرى جميعاً في البقاء. غير أنه إذا قصد من هذه القاعدة أن تكون غير مرنة، وإذا قصد منها أن تعتبر حقاً مطلقاً، فإنه سيكون من واجب جميع الدول حينئذ أن تسمح بأي انتهاك ترتكبه احداها -للمحافظة على بقائها- ضد الأخرى وأن تتحمله. وفي الحقيقة لا يمكن الزام أية دولة بقبول هذا المعنى، وإنما تستطيع بدلاً من ذلك الدفاع عن نفسها، ويمكنها اللجوء إلى هذه الوسيلة بصورة مشروعة في حالة الضرورة الحقة غير أنه لا يمكن ترك أمر تحديد مسألة الضرورة هذه لكل دولة تبت فيها بمفردها، وذلك بالنظر إلى حقيقة معروفة تماماً هي أن بعض الدول ترتكب العدوان ضد دول أخرى بحجة ضرورة الدفاع عن النفس وتحت قناعها.‏

            ولقد أدى ظهور شبكة من المعاهدات معاهدة حلف شمال الأطلسي، ومعاهدة ريو، وحلف وارسو الخ...)، خلال العقود الأربعة الماضية إلى تغيير طفيف في النواحي العملية لحق البقاء. وكما أشار أحد الفقهاء،(1) فإنه بالرغم من أن هذه المعاهدات كان الدافع إليها اعتبارات سياسية في الأساس، إلا أنها تمثل ضمانات للدول المتعاقدة ضد اعتداءات الدول الأخرى. ومن هنا نشأ للدول، على ما يبدو، حق محدود في البقاء، وغير مطلق، قانوني وسياسي على السواء.‏

            ويقضي حق البقاء بأن تعمل الدولة كل ما من شأنه أن يكفل بقاءها واستمرارها، وأن تتخذ من التدابير ما يلزم لدفع ما يهدد وجودها من أخطار داخلية وخارجية على السواء(2) ، وبالنظر إلى أن للدولة وجوداً، فلها أن تتخذ في أراضيها جميع التدابير الضرورية لسلامتها وتقدمها، ومن ذلك:‏

            -القضاء على كل ما يمكن أن يهدد أمنها أو سلامتها، وذلك بالعمل على احترام دستورها وتطبيق قوانينها، وبالعمل على استتباب الأمن، بما في ذلك قمع الثورات والقضاء على الفتن، وعلى كل ما يمكن أن يزعزع الاستقرار الداخلي فيها.‏

            -منع أو تقييد دخول الأجانب غير المرغوب فيهم إلى أقليمها، فرادى وجماعات، وإبعاد من يشكل وجوده منهم خطراً على الأمن.(3)‏

            -تنمية الموارد البشرية بزيادة عدد السكان عن طريق تشجيع النسل ورفع المستوى الصحي.‏

            -تنمية الموارد الاقتصادية بوضع خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية الهادفة إلى زيادة الانتاج الزراعي والصناعي.‏

            -رفع مستوى التربية والتعليم والثقافة.‏

            كذلك يحق للدولة حماية نفسها ضد أي اعتداء محتمل عليها من الخارج، ومن ذلك:‏

            -إنشاء جيش قوي قادر على الذود عن حياض الوطن إذا ما دعت الحاجة إلى ذلك، وتجهيزه بالمعدات والأسلحة اللازمة لتحقيق هذا الغرض.‏

            -إنشاء الحصون والاستحكامات وتهيئة كل ما يلزم من وسائل الدفاع.‏

            -حظر الإتجار في المرافئ العسكرية أو تحليق الطائرات فوق الأماكن المحصنة والتشدد في معاقبة التجسس.‏

            -عقد معاهدات تحالف أو دفاع مع الدول الأخرى.‏

            -الاشتراك في منظمة إقليمية أو دولية تحميها وتنصرها إذا ما وقع اعتداء عليها أو كان مثل هذا الاعتداء على وشك الوقوع.(4)‏

            ثانياً- الحقوق المتفرعة عن حق البقاء:‏

            1-حق الدفاع المشروع عن النفس:‏

            آ-مضمونه: مما لا شك فيه أن جميع الأنظمة القانونية في العالم تعترف بحق الدفاع عن النفس وتؤيده، ولكن المشكلة تكمن في الظروف التي يمكن في ظلها اللجوء إلى استعمال هذا الحق، وفي الوسائل التي يجب استخدامها في ممارسة هذا الحق، وقد أكد عدد من الفقهاء بأن لجوء إحدى الدول إلى استعمال القوة له ما يبرره، حتى وإن لم يشن هجوم مسلح عليها في سياق نزاعها مع دولة أخرى.(5)‏

            ب-القيود المفروضة على حق الدفاع عن النفس:‏

            ويبدو من ناحية أخرى أن هناك قيوداً، حديثة العهد نسبياً ومسلماً بها، على استعمال حق الدفاع عن النفس، فالقوة المستخدمة للدفاع عن دولة ما يجب أن تتناسب بصورة معقولة مع الخطر الذي يجب تفاديه، وهناك في الوقت ذاته وجهة نظر واسعة الانتشار ترى أن مسألة تقدير ما إذا كانت التدابير الدفاعية المتخذة من قبل دولة ما ضرورية بالفعل، أو ما إذا كان من الواجب اعتبارها مفرطة وزائدة عن الحد، يجب ترك البت فيها إلى قضاة مستقلين لا علاقة لهم بالنزاع، كمحكمة دولية أو هيئة تحكيم دولية أو حتى هيئة سياسية دولية كمجلس الأمن مثلاً) تعمل كوكالة قضائية، ومن الواضع طبعاً أن الأحكام الصادرة بالنتيجة تكون ذات أثر رجعي، بالنظر إلى ما تنطوي عليه من عنصر الوقت، فالخطر المباشر الذي يهدد الدولة بالفناء نتيجة للاعتداء المسلح عليها، أو الأنشطة الناجحة للطابور الخامس، لا تسمح باللجوء إلى أجراء التحقيقات القضائية اللازمة لتحديد الوسائل التي يجب استخدامها لدرء الخطر قبل اتخاذ الخطوات المرغوب فيها.(6)‏

            ميثاق الأمم المتحدة وحق الدفاع عن النفس‏

            ح- نصوص ميثاق الأمم المتحدة المتعلقة بحق الدفاع عن النفس:‏

            يبحث ميثاق الأمم المتحدة في مشكلة الدفاع عن النفس في نصين رئيسيين:‏

            *فالمادة الثانية من الميثاق تنص في فقرتها الرابعة على مايلي:‏

            "يمتنع أعضاء المنظمة جميعاً في علاقاتهم الدولية عن التهديد باستخدام القوة أو استخدامها ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأية دولة، أو على أي وجه آخر لا يتفق ومقاصد الأمم المتحدة".‏

            *كما جاء في النصوص الرئيسية من المادة الحادية والخمسين مايلي:‏

            "ليس في هذا الميثاق ما يضعف أو ينتقص من الحق الطبيعي للدول، فرادى وجماعات، في الدفاع عن أنفسها في حالة الاعتداء المسلح على دولة عضو في الأمم المتحدة، وذلك إلى أن يتخذ مجلس الأمن التدابير اللازمة لحفظ السلم والأمن الدوليين".‏

            ومما يجدر ذكره أنه إذا استعمل حق النقض الفيتو)، من قبل إحدى الدول التي تتمتع بمثل هذا الحق، وذلك لمنع مجلس الأمن من اتخاذ التدابير الملمح إليها، فإنه يجوز للجمعية العامة ممارسة سلطة الحكم والرقابة بمقتضى قرار "الاتحاد من أجل السلام" لعام/ 1950/.(7)‏

            ووفقاً للقانون الدولي العام، كانت الدولة دوماً الحكم الوحيد بالنسبة إلى وجود حالة طارئة تبرز استخدام القوة دفاعاً عن النفس. والمادة الحادية والخمسون، من الناحية النظرية على الأقل، تفرض قيداً: فالدولة التي تتصرف على أساس تقديرها وحدها، إنما تفعل ذلك على مسؤوليتها الخاصة، كما أن تدابيرها تخضع، من الناحية النظرية أيضاً، إلى تمحيص من قبل مجلس الأمن.‏

            ولذلك فإنه ليس أمراً مفاجئاً أن يكون مضمون نصوص الميثاق المتعلقة بحق الدفاع عن النفس موضع جدل كبير.‏

            فترى قلّة من المعلّقين أن أي تهديد باستخدام القوة أو استخدامها على نحو لا يتفق والدفاع عن النفس ضد هجوم مسلح، يكون بصورة آلية من ضمن المحظورات الواردة في الفقرة الرابعة من المادة الثانية المذكورة أعلاه.‏

            بينما يؤكد عدد أكبر من الفقهاء، من ناحية ثانية، أن استعمال كلمة "الطبيعي" في المادة الحادية والخمسين يثبت للدول حقاً طبيعياً وقائماً في استخدام القوة دفاعاً عن النفس، وأن المادة الحادية والخمسين لا تتضمن ما يضعف ذلك الحق إلى أن يتخذ "مجلس الأمن" أو "الجمعية العامة" التدابير اللازمة لحفظ السلم والأمن الدوليين. ومثل وجهة النظر هذه ترى أن حق الدفاع عن النفس لا يستند مطلقاً إلى "الميثاق"، وإنما هو حق طبيعي للدول بموجب أحكام القانون الدولي. وترى وجهة النظر هذه أن ما تفعله المادة الحادية والخمسين هو مجرد فرض قيود على ممارسة هذا الحق.‏

            ويمكن القول أن هناك اتفاقاً عاماً حول موضوع الدفاع عن النفس ضد هجوم مسلح يقوم على اعتبارين:‏

            أولهما: أن اللجوء إلى استخدام القوة دفاعاً عن النفس يكون مشروعاً في حالة الضرورة القصوى الآنية.(8) .‏

            وثانيهما: أن التدابير المتخذة دفاعاً عن النفس يجب أن تكون مقصورة على الدفاع نفسه، ويجب ألا تتحول إلى أعمال انتقامية أو إلى عقوبات تأديبية.(9)‏

            نخلص مما تقدم إلى أن حق الدفاع المشروع عن النفس يثبت للدول كنتيجة لحقها في البقاء. وللدولة، بموجب هذا الحق، الدفاع عن نفسها إذا اعتُديَ عليها لرد هذا العدوان.(10) . ودفع الخطر الناتج عنه، إلا أنه يشترط لاستعمال الدولة هذا الحق أن يكون الاعتداء حالاّ والخطر واقعاً أو وشيك الوقوع. بل وتشترط المادة الحادية والخمسون من "ميثاق الأمم المتحدة" وقوع الاعتداء فعلاً، وعندها تعلم الدولة المعتدى عليها "مجلس الأمن" بالتدابير التي اتخذتها لهذه الغاية.(11)‏

            فإن لم يكن الاعتداء حالاً.، والخطر واقعاً أو وشيك الوقوع فلا محل للدفاع: فليس للدولة مثلاً أن تبدأ بمهاجمة جارة لها بحجة الدفاع عن نفسها لأن الدولة الثانية بلغت في تسليحها حداً يخشى منه على الدولة الأولى، وأن التسلح كان القصد منه الاعتداء على هذه الدولة، إنما لها أن تتخذ عدتها لرد هذا الاعتداء إن وقع أو أصبح وشيك الوقوع، كأن تكون الدولة الثانية قد حشدت جيوشها بالفعل على حدود الدولة الأولى بقصد مهاجمتها وشرعت فعلاً في الأعمال المؤدية لهذا الهجوم.(12)‏

            2-حق منع التوسع العدواني:‏

            يحق للدول أن تتدخل بكافة الوسائل، بما في ذلك استخدام القوة، للحيلولة دون توسع دولة ما على حساب جيرانها، وقد سارت السياسة الدولية في أوروبا بالفعل على نحو يتفق مع هذا القول، مستندة في ذلك إلى فكرة التوازن الدولي، فعلى أساس هذه الفكرة اشتركت بريطانيا وفرنسا وحلفائهما في الحرب العالمية الأولى لوقف توسع امبراطوريتي المانيا والنمسا، وعلى أساسهما أعلنت بريطانيا وفرنسا الحرب على المانيا ثانية عام /1939/ بعد اعتداء المانيا على النمسا وتشيكوسلوفاكيا وبولونيا تباعاً، ذلك أن حق الدولة في البقاء مقيد بما لغيرها من الدول المحيطة بها من حق في البقاء أيضاً.(13)‏

            المطلب الثاني -حق الحرية الاستقلال)‏

            يقصد بهذا الحق حرية عمل الدولة داخلياً وخارجياً دون أن يخضع في ذلك لإرادة أو سيطرة دولة أخرى ويُعَبَّر عن المركز السياسي للدولة التي تنفرد في ممارسة سيادتها بكلمة" الاستقلال " ولكن حرية الدولة محدودة بحرية الدول الأخرى. كما أنها تنطوي على الخضوع لقيود القانون الدولي العام، تلك القيود التي تقبلها جميع الدول باعتبارها ملزمة لها. وبالإضافة إلى ذلك فإن الالتزامات الواردة في معاهدة معينة، والتي أخذتها الدولة على عاتقها، تمثل قيوداً على استقلال الدولة الداخلي والخارجي شريطة أن تكون هذه المعاهدة قانونية.‏

            أولاً- الاستقلال الداخلي:‏

            يرى أوبنهايم(14) ، وهو على حق في ذلك، أن استقلال دولة ما وسيادتها الاقليمية والشخصية أي سلطتها العليا داخل اقليمها، وسلطتها على مواطنيها في الداخل والخارج) ليست بالمرّة مجرد حقوق، وإنما هي صفات محمية ومعترف بها أو هي ميزات للدول كأشخاص دولية.(15)‏

            ويقضي الاستقلال الداخلي بأن تكون للدولة حرية العمل السياسي والتشريعي والقضائي ضمن حدود اقليمها، وتفصيل ذلك كما يلي:‏

            1-حرية العمل السياسي:‏

            للدولة أن تختار نظام الحكم الذي تريده، ملكياً كان أم جمهورياً نيابياً أم رئاسياً، الخ... شريطة أن يكون في مقدور هذا النظام تحقيق الاستقرار السياسي في الداخل. وطبقاً للمادة الرابعة من "ميثاق الأمم المتحدة"، فإن للمنظمة رفض قبول الدولة غير المستقرة سياسياً في عضويتها، إذ اشترطت المادة المذكورة قدرة الدولة على تنفيذ الالتزامات الواردة فيه. كما أن المؤتمر المنعقد في مدينة "كان" في السادس من كانون الثاني عام /1922/ أقر تدبيراً آخر إزاء حالة عدم الاستقرار السياسي في الداخل يتمثل في رفض استثمار المال الأجنبي في الدولة التي أصبحت مسرحاً له.(16)‏

            2-الاستقلال التشريعي:‏

            ويقضي هذا الحق بأن تكون الدولة حرّة في أن تضع دستوراً يتفق وحاجاتها، وأن تسن القوانين الناظمة لحقوق الملكية وللحقوق الشخصية لمواطنيها ورعاياها، وأن تحدد الشروط التي يمكن للأجانب بمقتضاها دخول أقليمها الخ... وليس للدول الأجنبية أن تتدخل بداعي حماية بعض الأقليات العنصرية والمذهبية من بعض التشريعات الخاصة، لأن المادة الأولى من "ميثاق الأمم المتحدة" كفتها مؤونة القيام بمثل هذا العمل، إذ نصت في فقرتها الثالثة أن من أهدافً المنظمةً:‏

            "تعزيز وتشجيع احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للناس جميعاً، من غير تمييز بسبب العرق أو الجنس أو اللغة أو الدين"‏

            3-الاستقلال القضائي:‏

            وهو يعني اخضاع "سكان" الدولة للمحاكم الوطنية التي تصدر أحكامها بحق جميع السكان مهما كانت جنسيتهم، وتعمل على تنفيذ الأحكام النهائية الصادرة عنها وفق الأصول. ويتمتع الأجانب بحق حماية أشخاصهم وأموالهم طبقاً لقانون الدولة التي يقيمون ضمن إقليمها، مع مراعاة مستوى الحد الأدنى في معاملة الأجانب المقرر في القانون الدولي، كما يخضعون للسلطة القضائية لتلك الدولة، ولا يتمتعون بحق اللجوء إلى محاكم الدولة التي يتمتعون بجنسيتها إلا ضمن الحدود المنصوصة في القانون الداخلي للدولة التي يقيمون في أقليمها.‏

            ويقف الاستقلال القضائي عند حدود اقليم الدولة، فإذا اجتاز الشخص الموجه إليه اتهام من الجهات المختصة أو المحكوم عليه من إحدى الهيئات القضائية هذه الحدود، تمكن من الإفلات من الملاحقة القضائية أو تنفيذ الحكم بحقه، ما لم تكن بين الدولتين اتفاقية للتعاون القضائي تنص على استرداد المجرمين العاديين والملاحقين قضائياً بجرائم عادية.(17)‏

            ثانياً- الاستقلال الخارجي:‏

            وهو الوجه الآخر للاستقلال، ويتصل بحق دولة ما في إدارة علاقاتها الخارجية على قدر استطاعتها بالطريقة التي ترغب فيها، وبدون سيطرة إشرافية عليها من قبل دول أخرى، وأن انعدام مثل هذه السيطرة ضروري إذا أريد لدولة معينة أن تتصرف كوكيل حر، وأن يكون في مقدورها الوفاء بالالتزامات الدولية التي تضطلع بها في تعاملها مع دول أخرى. ويعتبر هذا الاستقلال الخارجي اختباراً أساسياً لقبول أعضاء جدد في المجتمع الدولي، لأن الدول التي تفتقر إلى هذه الخصيصة لا تتمتع بأهلية القبول.(18)‏

            وعلى هذا فإن الدولة حرة في إدارة علاقاتها الدبلوماسية كما تشاء وفي التعاقد مع الدول بموجب اتفاقيات ومعاهدات دولية كما تريد، وفي إظهار تعلقها ببعض الدول وإهمالها البعض الآخر كما تهوى، مستوحية في ذلك كله مصالحها الخاصة. ومن الطبيعي أن الدولة تقيد نفسها عندما تقدم على التعاقد مع غيرها من الدول، وهي عندما تفعل ذلك إنما تمارس عملاً مستمداً من سيادتها واستقلالها، ولكنها تصبح مقيدة به بعد ذلك، كما يقيد الفرد نفسه بعقد بعد أن يقدم على توقيعه بملء اختياره.(19)‏

            وينطوي أحد الأوجه الأكثر أهمية في هذا "الحق" الثابت لكل دولة، على احترام الدولة ذات السيادة لاستقلال كل دولة أخرى ذات سيادة. ونتيجة لهذا الاحترام، فإن محاكم دولة ما لا تنعقد لتصدر أحكاماً على أعمال حكومة دولة أخرى قامت بها ضمن ولايتها الاقليمية. وما لم تعترف الهيئات القضائية الأجنبية بالأعمال السيادية للدولة مذهب العمل السيادي)(20) ، فإن حق الاستقلال سيبدو وكأنه عديم المعنى.(21) فالدولة، في جميع تصرفاتها، تعمل لصالح المواطنين عامة، ولذلك فإن مقاضاتها أمام محكمة دولة ثانية أمر يرفضه المنطق، وإذا فرضنا جدلاً أن مثل هذه المحكمة أصدرت حكمها، فإن تنفيذ مثل هذا الحكم بحق الدولة الأجنبية أمر مستحيل لأنه يصطدم بمفهوم استقلالها.(22)‏

            ثالثاً- الخط الفاصل بين المجال المخصص للمسائل الداخلية البحتة وبين المجال المخصص للمسائل الخاضعة للقانون الدولي العام:‏

            وهناك مشكلة لم يتم حلّها بعد على نحو مرض وهي: أين يكمن الخط الفاصل بين المجال المخصص للمسائل الداخلية البحتة وبين مجال العمل الذي يخضع لقواعد القانون الدولي العام؟ ذلك أن كل حكومة تصر عادة على أن تكون أنشطة معينة خاضعة لولايتها بالكامل وغير خاضعة لأية سلطة خارجية بالمرة. على أنه يمكن القول، وهذا القول له ما يبرره نوعاً ما، بأن حقيقة وجود مثل هذه المجالات التي تحتفظ بها الدولة لنفسها، يدل على أن ثمة قاعدة في القانون الدولي العام تقضي بأن المجالات الموضوعة في البحث تخضع في الحقيقة تماماً للولاية الوطنية ولا تخضع للقانون الدولي العام، ويزخر تاريخ العلاقات الدولية بالأمثلة على هذه "المسائل الداخلية" وللاستشهاد بقليل من هذه الأمثلة نقول بأن من المسلم به عموماً أن تنظيم الهجرة ودخول وإقامة وخروج الأجانب يمثل مجالاً يخضع للسيطرة الوطنية حصراً، وأن نمط ومحتويات الدستور الوطني لا تخضع لأية سلطة خارجية، كما أن هناك مجالات واسعة وغير محددة، وخصوصاً ما يعتبر منها متعلقاً بـ "مصالح وطنية حيوية" كالدفاع والأمن الداخلي لا تخضع بالكامل لأية قيود(23) ، اللهم إلا الالتزامات الدولية المقررة في اتفاقية أو عرف دوليين.‏

            ويتضمن ميثاق الأمم المتحدة اعترافاً واضحاً بمفهوم المجال المخصص للمسائل الداخلية التي لا يجوز التدخل فيها حتى من قبل منظمة سياسية عالمية كالامم المتحدة. إذ تنص الفقرة السابعة من المادة الثانية من "الميثاق" في قسم منها، مايلي:‏

            -ليس في هذا الميثاق ما يجيز للامم المتحدة أن تتدخل في الشؤون التي تكون من صميم الولاية الداخلية لأية دولة، وليس فيها ما يحمل الاعضاء على عرض شؤون من هذا النوع للتسوية المنصوصة في هذا الميثاق.‏

            المطلب الثالث- حق المساواة‏

            يعتبر حق المساواة من أقدم الحقوق التي تتمتع الدول بها، وتتمتع الدول بحق المساواة أمام القانون نتيجة لاستقلالها وسيادتها. فللدول جميعاً نفس الحقوق، وعليها جميعاً نفس الواجبات. وقد خلط بعض المؤلفين بين "المركز القانوني" الذي هو واحد لجميع الدول الأعضاء في المجتمع الدولي، وبين "المركز المادي" الذي قد يختلف من دولة إلى أخرى من حيث المساهمة وعدد السكان والموارد والقوة العسكرية وغيرها من العوامل التي ينطوي عليها مفهوم القوة الوطنية وسياسة القوة، وقد فرقت "محكمة العدل الدولية الدائمة" في عام /1935/ بين "المساواة في القانون" و"المساواة في الواقع" وذلك في رأيها الاستشارى بقضية مدارس الاقلية في البانيا حين قالت:‏

            "قد يكون من غير السهل تحديد الفرق بين مفهوم المساواة في الواقع ومفهوم المساواة في القانون، ومع ذلك فإنه يمكن القول بأن المفهوم الأول يستبعد فكرة مجرد المساواة الشكلية... فالمساواة في القانون تمنع أي تمييز مهما كان نوعه، في حين أن المساواة في الواقع قد تنطوي على ضرورة المعاملة المختلفة بغية الوصول إلى نتيجة تقيم توازناً بين وضعين مختلفين"(24)‏

            ومن الغريب حقاً، أن المادة الثانية من "ميثاق الأمم المتحدة" تتضمن، بين مبادئ أخرى، "مفهوم المساواة في السيادة بين أعضائها"، في حين أن المادة الثالثة والعشرين من الميثاق ذاته تخرق هذا المفهوم بمنحها الدول الخمس الكبرى مقاعد دائمة في مجلس الأمن، بينما ينتخب الأعضاء العشرة الآخرون في المجلس لمدة سنتين فقط، كما يعاني الأعضاء العشرة غير الدائمين في مجلس الأمن من انتقاص آخر من مفهوم "المساواة في السيادة" من خلال نصوص المادة السابعة والعشرين من "الميثاق" المتعلقة بإجراءات التصويت في مجلس الأمن، بما في ذلك حق النقض "الفيتو" الذي يتمتع به الأعضاء الخمسة الدائمون. ولكن يمكن، من ناحية أخرى، أن تؤخذ المادة الثالثة والعشرون على أنها تمثل تقديراً للدور التقليدي الذي تلعبه الدول الكبرى في العلاقات الدولية(25)‏

            ويترتب على حق المساواة القانونية بين الدول عدد من النتائج أهمها:‏

            أولاً- ليس لدولة أن تملي إرادتها على دولة أخرى تامة السيادة، فيما يتعلق بأي شأن من شؤونها الخاصة. ولكل دولة أن ترفض أي طلب مقدم من دولة أجنبية لا تفرضه عليها التزاماتها الخاصة وواجباتها الدولية العامة.‏

            ثانياً- لكل دولة حق التصويت في المؤتمرات والهيئات الدولية التي تشترك فيها، وليس لها غير صوت واحد أياً كانت قوتها ونفوذها. ولا تكون القرارات التي تتخذ ملزمة إلا إذا اتخذت باجماع الدول الممثلة في المؤتمر. وقد يكتفى أحياناً بالأغلبية لاصدار قرارات معينة في الهيئات الدولية، وذلك بنتيجة اتفاق اجماعي سابق بين الدول التي أقرت ميثاق الهيئة.‏

            ثالثاً- لا تخضع أية دولة في تصرفاتها لقضاء دولة أجنبية، إلا في الحالات الاستثنائية التالية:‏

            1-إذا قبلت الدولة اختصاص القضاء الاجنبي صراحة كأن رفعت هي الدعوى أمامه أو كانت مرتبطة بعقد نُصَّ فيه صراحة على قبولها باختصاص قضاء دولة أجنبية فيما يتعلق بتنفيذ هذا العقد، أو قبلت هذا الاختصاص ضمناً كأن ترفع عليها الدعوى أمامه مثلاً فيحضر مندوبها ولا يدفع بعدم الاختصاص ويبحث في موضوع الدعوى.‏

            2-إذا كانت للدولة أموال عقارية في أقليم أجنبي فإن هذه الأموال تخضع في كل ما يقوم بشأنها من منازعات لقضاء الدولة التي توجد في اقليمها، وأن تملّك دولة لعقارات في غير اقليمها يفترض قبولها الولاية الاقليمية للقضاء بالنسبة لهذه العقارات.‏

            3-تجوز مقاضاة الدولة أمام محاكم دولة أخرى عن الأعمال ذات الصفة التجارية التي تقوم بها في اقليم أجنبي، لأن مثل هذه الأعمال ليست من أعمال السيادة أو السلطة العامة، والبحث فيها من قبل القضاء الأجنبي لا يمس سيادة الدولة أو استقلالها، ولأن مقاضاة الدولة في هذه الحالة يكون بصفتها شخصاً معنوياً خاصاً لا شخصاً من أشخاص القانون الدولي.(26)‏

            المطلب الرابع -حق الاحترام المتبادل‏

            لكل دولة أن تطلب من الدول الأخرى، كنتيجة لحقها في المساواة أمام القانون، احترام كيانها المادي ومركزها السياسي ومراعاة مركزها الأدبي.‏

            ويكون احترام كيان الدولة المادي باحترام حدودها الاقليمية، والامتناع فيما بين الدول المتجاورة عن التعدي على حدود بعضها بعضاً، وعدم الوقوف في سبيل تقدمها ونموها الاقتصادي.‏

            ويكون احترام مركز الدولة السياسي باحترام نظمها السياسية والادارية والاقتصادية والاجتماعية وعقائدها الدينية وكل ما يتعلق بسير الشؤون العامة فيها.‏

            وتكون مراعاة مركز الدولة الأدبي بأن تقدم كل دولة لرؤوساء الدول الأجنبية ومبعوثيهم الاحترام المتصل بصفتهم والمراسيم التي جرى بها العرف الدولي والعادات المرعية، وأن تتخذ التدابير اللازمة لمعاقبة كل من يقدم علي فعل فيه تعدّ على كرامة أو اعتبار أحد هؤلاء. ولكل دولة الحق في أن تراعي الدول الأخرى الشكل والاسم الذي تتخذه لنفسها والألقاب التي يتخذها رئيسها طالما أنه ليس في هذا الشكل وهذه الأسماء والألقاب مساس بالحقوق الشرعية لدول أخرى. ولكل دولة الحق أيضاً في احترام شاراتها الرسمية وعلمها وما يتبع ذلك من واجب الدول الأخرى في الامتناع عن تقليد تلك الشعارات وذلك العلم.(27) .‏

            المبحث الثاني -واجبات الدول‏

            إن حقوق الدول إما أنها تعكس خصائص هذه الكيانات المسماة بالدول، أو أنها تمثل في حالات معينة واجباتها أو التزاماتها، وسواء اعترف المرء أم لم يعترف بوجود قانون يحكم العلاقات الدولية، فإن ثمة حقيقة قائمة هي أن رجال السياسة- سواء أكانوا من النوع الميكافيلي*) أم من النوع الآخر- متفقون على وجود نوع من القانون يحكم العلاقات الدولية. فالدولة حين تعقد معاهدة مع غيرها من الدول تتوقع من الطرف الآخر في المعاهدة مراعاة أحكامها. وكل دولة تنتهك حرمة المعاهدة إما أن تعمد إلى نفي هذا الانتهاك، أو إلى الدفاع عنه بحجج منمقة، يقصد منها الظهور بأنها محقة في عملها من الناحية الأدبية أو من الناحية القانونية. ولذلك فإنه بات من الضروري معرفة ما يدخل في عداد واجبات الدول في علاقاتها المتبادلة. وبتعبير آخر، فإن كل حق يقابله واجب، ولكن الدول -شأنها في ذلك شأن الأفراد- تفكر دوماً بحقوقها وترغب في ممارستها كاملة غير منقوصة، وقلما تفكر جدياً بما يترتب عليها من واجبات.(28)‏

            ويمكن القول بأن الواجبات القانونية للدول تتلخص في التزامها بما يلي:‏

            1-احترام الحقوق الأساسية المقررة لكل منها.‏

            2-مراعاة قواعد القانون الدولي العام والسير على مقتضاها.‏

            3-احترام العهود التي ارتبطت بها وتنفيذ تعهداتها الدولية بحسن نية.‏

            وقد أشرنا في المبحث الأول المتعلق بحقوق الدول إلى ما يتفرع عن الالتزام الأول من واجبات. أما مؤدى الالتزامين الثاني والثالث فواضح لا يحتاج إلى تعليق خاص. ومع ذلك فإننا سنعطي فكرة موجزة عن بعض واجبات الدول ذات الأهمية الخاصة.(29)‏

            المطلب الأول -واجب عدم التدخل‏

            أولاً- التدخل المحظور:‏

            إن الالتزام الأساسي للدول بالامتناع عن التدخل في الشؤون الداخلية والخارجية لاية دولة أخرى، أو في العلاقات بين الدول الأخرى، يعتبر واحداً من أقدم واجبات الدول التي تضمّنها كلا القانون الدولي العرفي والعديد من الاتفاقيات الدولية المتعددة الأطراف. ومما لا شك فيه أن مثل هذا التدخل محظور قاعدة في القانون الدولي، لأن هذا القانون إنما وجد، جزئياً على الأقل، لحماية الشخصية الدولية لكل دولة من دول العالم، وفي التدخل افتئات على حق الدول في الحرية والاستقلال والسيادة. والمقصود بعدم التدخل عدم اتيان الدولة أي عمل قسري في الشؤون الداخلية أو الخارجية للدول الأخرى، فهو يتراوح بين شن الحرب الإذاعية والحرب النفسية والحرب الاقتصادية وإثارة الحروب الأهلية وبين الحرب الفعلية.(30)‏

            ثانياً- التدخل المشروع:‏

            وحقيقة أن بعض الحقوقيين البارزين يبرر أنواعاً معينة من التدخل تعكس القلق المتزايد لدى فقهاء القانون الدولي الذين يرغبون في ديمومة نظرية منع التدخل على الاطلاق، مع ميلهم إلى الموافقة على شكل ما من التدخل لأنهم يرون أنه مرغوب فيه لاعتبارات إنسانية أو من وجهة نظر سياسية، أو لأن المنطق يبدو في بعض الأحيان وكأنه يُملي صواب اللجوء إلى التدخل، على الرغم من بقاء المنع القانوني الشامل. وقد ينشأ حق التدخل -والذي تحدد شرعيته الظروف المحيطة بالتدخل- بواحد من عدة طرق:‏

            1-قد تُمنح دولة حامية حق التدخل في دولة محمية بموجب معاهدة.‏

            2-حينما تكون العلاقات الخارجية لدولة ما تمثل في الوقت ذاته شؤوناً خارجية لدولة أخرى، فإنه يجوز لهذه الأخيرة أن تتدخل بصورة مشروعة إذا انفردت الدولة الأولى في تصرفاتها، ويصح هذا القول في حالة الدولتين التابعة والمتبوعة مثلاً.‏

            3-حينما تفرض معاهدة ما قيوداً على دولة معينة فيما يتعلق بسيادتها الاقليمية أو استقلالها الخارجي، وتخرق هذه الدولة القيود المفروضة، فإن للطرف أو الأطراف الأخرى في المعاهدة الحق في التدخل بصورة مشروعة.‏

            4-حينما تعمد دولة ما إلى خرق القواعد المسلم بها في القانون الدولي العرفي أو الاتفاقي، فإن للدول الأخرى الحق في التدخل، وعلى سبيل المثال، إذا عمدت دولة محاربة إلى انتهاك حقوق دولة أو دول محايدة خلال نزاع ما، فإن من حق الدول المحايدة أن تتدخل ضد الدولة المحاربة التي أقدمت على الانتهاك.‏

            5-يحدث التدخل المشروع في حالة الإجراء الجماعي الذي يتخذه جهاز دولي بالنيابة عن المجتمع الدولي، أو بغية تنفيذ مبادئ وقواعد القانون الدولي، ويصدق هذا القول بدون شك فيما يتعلق بالتدابير الوقائية أو العلاجية التي تتخذها وكالات تابعة لهيئات كالأمم المتحدة، أو نيابة عنها.‏

            6-يعتبر التدخل مشروعاً حين يحدث بناء على طلب صريح من الحكومة الشرعية لدولة من الدول. وهذا التدخل، شأنه شأن كل تدخل آخر، إنما تحدد شرعيته الظروف المحيطة بالتدخل. فالولايات المتحدة رأت في التدخل السوفياتي في المجر عام/ 1956 تدخلاً غير مشروع لأن حكومة "كادار" التي طلبت المساعدة السوفياتية بموجب شروط "حلف وارسو" لم تكن تمثل حكومة شرعية في المجر، وإنما كانت حكومة صورية أقامتها الدولة ذاتها التي طلب منها تقديم المساعدة العسكرية والتدخل.(31)‏

            وخلاصة القول أنه مهما بدت مبررات التدخل العسكري في حالات معينة على أنها مبررات أدبية أو مرغوب فيها أو معقولة، فإن هناك حقيقة ثابتة مفادها أن التدخل في حد ذاته يشكل انتهاكاً لحقوق يجب ألا تنتهك كما أنه يمثل عملاً عدائياً، ويمكن اعتباره "عملاً لم يكن ليحدث لولا التفوق العسكري للدولة المتدخلة"(32)‏

            ويعني واجب الامتناع عن التدخل المسلح بوضوح -في جملة ما يعني- أنه لا يجوز لأية دولة أن تسمح باستعمال أراضيها لشن حملة معادية على دولة أخرى.‏

            ثانياً- التدخل غير المسلح أو التدخل الهدام:‏

            لقد تركز البحث في التدخل حتى الآن على التدخل التقليدي في الشؤون الداخلية لدولة أخرى بواسطة القوة المسلحة. ومن الواضح أن هذا لا يمثل الشكل الوحيد الممكن للتدخل. فهنالك التدخل الهدام الذي يتم من قبل الدول أو من قبل جماعات خاصة.‏

            1-التدخل الهدام من قبل الدول:‏

            يعتبر التدخل الهدام من قبل الدول من أكثر المشكلات صعوبة في هذا المجال. ففي عالم يمزقه عدد من الأيديولوجيات المتنافسة، وتسيطر فيه أنظمة حكم ديكتاتورية أو فاشستية في عدة دول وبشروط لا تتفق مع أبسط متطلبات الكرامة الإنسانية، أجل في مثل هذا العالم، يواجه الباحث في مسائل القانون الدولي بمعضلة ذات أبعاد ليست بالصغيرة.‏

            آ-الالتزام القانوني بالامتناع عن التدخل:‏

            يوجد التزام قانوني على كل دولة لا شك فيه، تكرر في "ميثاق الأمم المتحدة"، بالامتناع عن التدخل واحترام السلامة الاقليمية والاستقلال السياسي لجميع الدول الأخرى. ويوجد في الوقت ذاته واجب أو التزام قانوني مماثل على كل دولة بالامتناع عن كل تدخل هدام، أي الامتناع عن القيام بدعاية أو بإصدار بيانات رسمية أو تشريعات من أي نوع كان بقصد إثارة تمرد، أو فتنة، أو خيانة، ضد حكومة دولة أخرى.‏

            وبتاريخ الثالث من تشرين الثاني نوفمبر) عام 1947م اتخذت "الجمعية العامة للأمم المتحدة" قراراً بالاجماع بشأن إدانة جميع أشكال الدعاية التي تثير الفتن، ولكنها اقتصرت في ذلك على الدعاية التي قد تثير تهديدات للسلام أو عملاً عدوانياً. وبتاريخ الأول من كانون الأول ديسمبر) 1949، حثت "الجمعية العامة" جميع الدول على الامتناع، ضمن أمور أخرى، عن أية تهديدات أو أعمال تهدف إلى إثارة حرب أهلية أو تقويض إرادة الشعب في أية دولة أخرى، وهو طلب تكرر بلهجة تعبّر عن قلق أعمق بتاريخ السابع عشر من تشرين الثاني نوفمبر) 1950م.‏

            كانت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي في طليعة الدول التي دانت التدخل الهدام.(33) ومما لا شك فيه أن العالم سيكون مكاناً أكثر سلماً وأمناً للجميع إذا تلاشت المهاترات المتبادلة ومحاولات إفساد سكان دول أخرى. وقد قال الرئيس الأمريكي السابق "إيزنهاور" بتاريخ السادس عشر من نيسان ابريل) 1953في هذا الصدد ما يلي:‏

            "إن حق أية دولة في اختيار شكل حكومتها ونظامها الاقتصادي هو حق ثابت. وأن محاولة أية دولة لفرض شكل حكومتها على دولة أخرى أمر لا يمكن تبريره أو الدفاع عنه"(34)‏

            ب-مشكلات التدخل الهدام:‏

            وبالطبع فإن المشكلة هي أنه بالرغم من أن ولاية أية دولة هي ولاية اقليمية تنحصر داخل أراضيها، فإن لدول كثيرة مصالح في الخارج، أو أنها تنتهج سياسة خارجية تؤثر على دول أخرى، وغالباً ما يكون هذا التأثير في الصميم إلى أبعد حد. وحينما يبدو بأن مثل هذه السياسة الخارجية أو مثل هذه المصالح في الخارج تستدعي الحاجة إلى حكومة أكثر وداً، أو أسهل انقياداً، أو أكثر تطرفاً، أو أكثر محافظة في دولة أخرى لخدمة مصالح الدولة الأولى على نحو أفضل، فإن الإغراء سيكون كبيراً، في الواقع، للقيام بمحاولة تخريب الدولة الأخرى بطريقة يمكن معها تحقيق النتائج المرغوبة. وأن مشكلة مواجهة مثل هذا التدخل الهدام تزداد تعقيداً إلى حد لا يصدق بسبب اعتبارات تتعلق بحرية التعبير عن الرأي التي يمكن أن تكون سائدة في دولة معينة، وبالمشكلات الفنية التي ينطوي عليها وقف الدعاية عبر الحدود الوطنية.‏

            ج-التسلل من جانب حكومات أجنبية:‏

            عُرفت أنواع معينة من التدخل الهدام منذ وقت طويل وحُظرت بموجب أحكام القانون الدولي العام العرفي أو الاتفاقي، ولكن التقدير يصبح أصعب بكثير في حالة قيام منظمة حكومية أجنبية بالتسلل، وذلك لأن العادة جرت على أن تستغل الدولة القائمة بالتدخل مواطني الدولة التي تجري الأعمال الهدامة فيها، وغالباً ما يكون من الصعب تحديد مدى اعتماد هؤلاء المواطنين على تلك المنظمة. غير أنه إذا أصبح في الإمكان إقامة الدليل على أن المتسللين هم عملاء دولة أجنبية، فإن البينة على التدخل غير المشروع تصبح متوفرة، شريطة ألا تسمح قوانين الدولة التي تكتشف التدخل بمثل هذا المدى الذي وصل إليه التدخل. ومن الواضح أن أي عمل مكشوف أو دعاية مكشوفة من جانب دولة ما بقصد تحريض شعبها على ارتكاب عدوان ضد دولة أخرى، أو تحريض دولة ثالثة على ارتكاب مثل هذا العدوان، يعتبر عملاً غير مشروع. والمقياس المعياري الواجب تطبيقه على أية ممارسة لتحديد صلتها بالتدخل، يجب أن يكون وجود أو عدم وجود "خطر حالّ وواضح".(35)‏

            2-التدخل الهدام من قبل جماعات خاصة:‏

            آ-مضمونه:‏

            لقد عالج البحث حتى الآن أعمال الحكومات التي تروّج لشكل ما من أشكال التدخل الهدام. وحينما تصدر مثل هذه الأعمال عن أفراد أو جماعات خاصة، فإن الحكومات ترفض عادة قبول المسؤولية عنها. ومن الواضح أن الدولة التي تتأثر سلباً بالدعاية المنطلقة من مصادر خاصة في دولة مجاورة، لا تكتفي بالاحتجاج على هذا العمل فقط، وإنما تحاول أيضاً منع وصول الدعاية الهدامة إلى مواطنيها عن طريق الرقابة الصحفية، والتشويش على البث الإذاعي وعلى البث التلفزيوني الخ... ومن الانصاف القول، أن مثل هذه التدابير الدفاعية، مهما تكن طبيعتها، هي من حق أية حكومة، ولا يمكن اعتبارها تدابير غير مشروعة، ومع ذلك، ألاّ تشجع دولة ما الأعمال الهدامة، وبالتالي تروج لنوع من أنواع التدخل، حينما تسمح لمواطنيها بالقيام بالدعاية ضد دولة أخرى عبر الحدود؟ وألا تعتبر الدولة، حين تواصل جهودها لمنع الدعاية التي تتخذ من الاقليم المجاور منطلقاً لها، بأنها تمارس حق الدفاع عن النفس؟‏

            ب-القذف العلني والافتراء على حكومات أجنبية:‏

            هناك وجه آخر لهذه المشكلة يتعلق بالقذف العلني والافتراء على الحكومات الأجنبية. فإذا تلفظ الأفراد العاديون بتعابير تتضمن قذفاً علنياً على حكومة أجنبية، فإن المسؤولية عن ذلك العمل لا تنتقل إلى حكوماتهم. ومع ذلك فإن هناك عدداً من الدول الديموقراطية التي تبدي استعدادها لمحاكمة مواطنيها بتهمة القذف العلني بحق حكومات أجنبية أو رؤساء هذه الحكومات، شريطة المعاملة بالمثل في هذا الشأن، أي أن تنزل الدولة موضوع القذف العلني عقوبات مماثلة بحق مواطنيها إذا هم أقدموا على ارتكاب أعمال مماثلة.‏

            غير أنه إذا اشترك موظف حكومي في مثل هذه الأعمال فإن من واجب حكومته منعه، أو تأنيبه، أو حتى معاقبته، إذا أريد الابقاء على علاقات ودية مع الحكومة التي يدعي بأنها كانت موضع افتراء أو قذف علني، ومن جهة ثانية، فإن الملاحظات التي يُدّعي بأنها تنطوي على افتراء والصادرة عن موظف محلي غير مرتبط بالحكومة الوطنية لا تثير أية مسؤولية وطنية، إلا إذا تطلبت اعتبارات سياسية بالطبع تقديم اعتذار رسمي إلى حكومة الدولة أو رئيس الدولة موضوع الافتراء.‏

            كذلك يجب ألا يعتبر البث الإذاعي الخاص أو البث التلفزيوني الخاص اللذين يهاجمان أو يقذفان بحق الحكومات الأجنبية على أنهما يستتبعان المسؤولية الدولية للدولة، إلا إذا صدرت البيانات الهجومية من محطة أو شبكة تملكها الحكومة أو تخضع لسيطرتها.‏

            ج-مشكلات الرقابة:‏

            تعتبر مشكلة فرض رقابة معقولة على أنشطة الدعاية الدولية من الخطورة بحيث يبدو أنه من المرغوب فيه جداً إجراء المزيد من البحث الذي يسفر عن القيام بعمل ما في هذا الشأن من خلال عقد اتفاقيات متعددة الأطراف. غير أن الصعوبات الواضحة التي تعترض سبيل مثل هذه الرقابة يعتقد أنها من طبيعة تجعل أية هيئة دولية مترددة في أن تبدأ ولو ببداية متواضعة، في القيام بهذه المهمة، وعلى الرغم من كثرة ما كتب حول هذا الموضوع فإنه لم يتحقق إلا القليل على الصعيد العملي. ومع أنه تم عقد اتفاقات كثيرة، إلا أنه لم ينتج عنها حتى ما يقترب من قانون اقليمي. وما دامت الخلافات العقائدية تقسم دول العالم إلى جماعات متناحرة، فإن ثمة أملاً ضعيفاً في التوصل إلى نظام عملي ومعقول للرقابة، ولعل أكثر ما يستطيع المرء أن يأمل فيه في الوقت الحاضر هو التمكن من التوصل إلى التزام متبادل برقابة، أو حتى منع، الدعاية الهدامة التي تستهدف الدول المعنية، ويكون هذا الالتزام مقبولاً منها.‏

            المطلب الثاني -واجبات أخرى للدول‏

            أولاً- واجب الامتناع عن إثارة الاضطرابات الداخلية:‏

            هنالك واجب مفروض على الدول مسلم به نظرياً بصورة عامة، ولكنه كثيراً ما يتعرض للانتهاك عملياً هو واجب الامتناع عن إثارة الاضطرابات الداخلية في إقليم دولة أخرى، والحيلولة دون تنظيم أنشطة في اقليمها تهدف إلى إثارة مثل هذه الاضطرابات الداخلية. ولقد تمت معالجة هذا الواجب عند البحث في واجب الامتناع عن التدخل، على الرغم من أن مشروع إعلان حقوق وواجبات الدول الذي أعدته "لجنة القانون الدولي التابعة للامم المتحدة" المذكور في بداية البحث يدرجه في بند مستقل.‏

            ثانياً- واجب عدم تهديد السلام والنظام الدوليين والاقليميين‏

            يقع على عاتق كل دولة واجب التأكد من أن الأحوال السائدة ففي أقليمها لا تؤدي إلى تهديد السلام والنظام الدوليين والاقليميين ويعتبر هذا الواجب نتيجة طبيعية معقولة لمفهوم السيادة الوطنية، حيث يفترض في كل دولة تنفرد وحدها بالسلطة في اقليمها أن تستخدم مثل هذه السلطة بطريقة فعالة للحيلولة دون وقوع خطر يهدد الدول المجاورة.‏

            وحينما تخفق دولة ما في المحافظة على درجة كافية من السيطرة للحيلولة دون وقوع مثل هذا الخطر على جاراتها، فإنها ستكون ملزمة بتحمل المسؤولية عن النتائج المترتبة على إخفاقها كحكومة دولة ذات سيادة.(36)‏

            ثالثاً- واجب تسوية المنازعات الدولية بالطرق السلمية:‏

            يقع على عاتق كل دولة واجب الالتزام بتسوية المنازعات الدولية بالطرق السلمية التي حددها الفصل السادس من "ميثاق الأمم المتحدة" فقد نصت الفقرة الثالثة من المادة الثانية من "الميثاق" ما يلي:‏

            - يقوم أعضاء المنظمة بتسوية منازعاتهم الدولية بالوسائل السلمية على وجه من شأنه ألا يعّرض السلام والأمن الدوليين والعدل للخطر".‏

            كما نصت المادة /33/ من "الميثاق" ما يلي:‏

            1-يجب على أطراف أي نزاع من شأن استمراره أن يعرض حفظ السلام والأمن الدوليين للخطر أن يلتمسوا حلّه، بادئ ذي بدء، بطريق المفاوضة، أو التحقيق، أو الوساطة، أو التوفيق، أو التحكيم، أو التسوية القضائية، أو اللجوء إلى الوكالات أو التنظيمات الاقليمية، أو غيرها من الوسائل السلمية التي يقع اختيارهم عليها.‏

            2-ويدعو مجلس الأمن أطراف النزاع إلى أن يسووا ما بينهم من النزاع بتلك الوسائل إذا رأى ضرورة لذلك.‏

            وقد ذهب "الميثاق" إلى حد فرض عقوبات اقتصادية وسياسية وعسكرية على الدولة المعتدية، ولكن بالطبع، ضمن الشروط التي تأتلف مع مبدأ سيادة الدول، ومنذ توقيع الميثاق، ظهر للوجود عدد كبير من الاتفاقات الثنائية والجماعية، وكلها تنص على واجب الدول بتسوية منازعاتها بالطرق السلمية وعدم اللجوء إلى الحرب إلا في حالة الدفاع المشروع. لهذا يمكن القول بأن هذا الالتزام أصبح واحداً من الواجبات الرئيسية للدولة في عصرنا هذا، رغم عدم تقيد عدد من الدول الأعضاء في المنظمة به حين تندفع وراء مطامعها السياسية أو الاقتصادية متناسية بذلك واجبها القانوني هذا.(37)‏

            رابعاً -واجب الامتناع عن اللجوء إلى الحرب:‏

            يقع على عاتق كل دولة واجب الامتناع عن الالتجاء إلى الحرب كأداة لسياستها الوطنية، والامتناع عن كل تهديد باستخدام القوة أو استخدامها سواء ضد السلامة الاقليمية أم الاستقلال السياسي لدولة أخرى، أو على وجه آخر يتعارض مع القانون والنظام الدوليين. فقد تضمن "ميثاق الأمم المتحدة" قيداً هاماً على مبدأ السيادة المطلقة في مظهره الخارجي. فالأصل أن من الحقوق التي تتفرع على السيادة حق كل دولة في إعلان الحرب أو اتخاذ موقف الحياد في حرب قائمة بين غيرها من الدول. غير أن "ميثاق الأمم المتحدة" قضى على ذلك، لأنه قام على فكرة نبذ الحروب والامتناع عنها، ووجوب استتباب السلم والأمن الدوليين، وقد تضمن "الميثاق" أحكاماً صريحة في هذا الخصوص ومن ذلك:‏

            -ديباجة الميثاق، والتي جاء فيها ما يلي:‏

            "نحن شعوب الأمم المتحدة، وقد آلينا على أنفسنا:‏

            أن ننقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب التي في خلال جيل واحد جلبت على الإنسانية مرتين أحزاناً يعجز عنها الوصف... وفي سبيل هذه الغايات اعتزمنا:‏

            * أن نأخذ أنفسنا بالتسامح، وأن نعيش معاً في سلام وحسن جوار.‏

            *وأن نضم قوانا كي نحتفظ بالسلم والأمن الدوليين.‏

            *وأن نكفل، بقبولنا المبادئ وبوضعنا الأساليب، عدم استخدام القوة المسلحة، إلا في سبيل المصلحة المشتركة.‏

            المادة الأولى من "الميثاق" والتي جاء فيها:‏

            "إن مقاصد الأمم المتحدة هي:‏

            1-حفظ السلام والأمن الدوليين، وتحقيقاً لهذه الغاية تتخذ الهيئة التدابير المشتركة الفعالة لمنع الأسباب التي تهدد السلم ولازالتها، وتقمع أعمال العدوان وغيرها من وجوه الإخلال بالسلم."‏

            -الفقرتان الثالثة والرابعة من المادة الثانية.‏

            -الفصلان السادس والسابع من الميثاق.‏

            ومما لا شك فيه أن الأحكام الواردة في "الميثاق" تعتبر التزامات صريحة في عدم التجاء الدول إلى إعلان الحرب أو الاشتراك فيها، وهي بذلك تنفي حق الدولة في الاستناد إلى السيادة في هذا النطاق. على أن "الميثاق" استثنى من ذلك حالة واحدة، هي حالة الدفاع المشروع عن النفس.(38) وكنا قد أشرنا إلى ذلك في المبحث الأول عند معالجة حق الدفاع المشروع عن النفس. وتجدر الإشارة هنا إلى أن واجب الامتناع عن اللجوء إلى الحرب يعتبر جزءاً لا يتجزأ من واجب عدم التدخل، إلا أن "مشروع إعلان حقوق وواجبات الدول" الملمح إليه آنفاً، والمذكور في بداية هذا البحث، يدرجه في بند مستقل.‏

            خامساً- واجب الامتناع عن مساعدة الدولة المعتدية والتعاون مع الأمم المتحدة في نظام الأمن الجماعي:‏

            إن أساس التنظيم الدولي الذي نعيشه اليوم متمثلاً في "هيئة الأمم المتحدة" والمنظمات الاقليمية هو فكرة الأمن الجماعي التي تعني بايجاز التصدي الجماعي للمعتدي ونجدة المعتدى عليه ضماناً للسلم والأمن الدوليين.‏

            وعلى هذا نجد أن الفقرة الخامسة من المادة الثانية من "الميثاق" تنص على مايلي:‏

            "يقدم جميع الأعضاء كل ما في وسعهم من مساعدة إلى الأمم المتحدة) في أي عمل تتخذه وفق هذا الميثاق، كما يمتنعون عن مساعدة أية دولة تتخذ الأمم المتحدة) إزاءها عملاً من أعمال المنع أو القمع".‏

            وهكذا فإن هذا الواجب يتفرع إلى واجبين:‏

            أحدهما: سلبي يتمثل في عدم الانحياز إلى جانب الدولة التي تؤدبها الأمم المتحدة).‏

            وثانيهما: إيجابي يتمثل في ضرورة وضع الدولة كل إمكانياتها تحت تصرف الأمم المتحدة) في إعمال الفصل السابع من الميثاق.(39)‏

            سادساً- واجب الامتناع عن الاعتراف بالتوسع الاقليمي:‏

            يقع على عاتق كل دولة واجب الامتناع عن الاعتراف بأي مكسب اقليمي تناله دولة أخرى اخلالاً بنصوص "الميثاق" وخاصة الفقرة الرابعة من المادة الثانية منه والمتعلقة بالامتناع عن التهديد باستخدام القوة أو استخدامها. ومما يؤسف له إن هذا الواجب لم يكن موضع احترام دائم من قبل الدول الأعضاء في المنظمة، ومن ذلك احتلال الأراضي العربية، وما نتج عنه من استعمال الشعب في هذه الأراضي حقه المشروع في المقاومة.‏

            سابعاً- واجب تنفيذ الالتزامات الدولية بحسن نية:‏

            يقع على عاتق كل دولة واجب تنفيذ الالتزامات الناشئة عن المعاهدات الدولية وغيرها من مصادر القانون الدولي بحسن نية، ولا يجوز لأية دولة أن تستند إلى نصوص دستورها أو قوانيها كعذر لاخفاقها في أداء هذا الواجب.‏

            ويعتبر مبدأ "العقد شريعة المتعاقدين" من أقدم مبادئ القانون الدولي، حتى وإن كانت هناك خلافات في الرأي فيما يتعلق بالطبيعة المطلقة لهذا المبدأ، وكذلك فيما يتعلق بالظروف التي يمكن في ظلها اهمال هذا المبدأ بصورة قانونية. ويمثل واجب تنفيذ الالتزامات بحسن نية شرطاً جوهرياً وأساسياً لأي نظام قانوني، على الرغم من أن نطاق هذا الواجب يمكن أن يكون موضوعاً لتفسيرات مختلفة.‏

            ثامناً- واجب التقيد بالقانون الدولي:‏

            يقع على عاتق كل دولة واجب التقيد في علاقاتها مع الدول الأخرى بأحكام القانون الدولي، ويمثل هذا الواجب، كالواجب السابق، شرطاً أساسياً لوجود نظام قانوني، وعلى الرغم من أنه لا يمكن توقع الانصياع لأحكام القانون الدولي -على غرار أي قانون آخر- في كل حالة، فإن الواجب الأساسي لا يمكن انكاره، وهو واجب ملزم لكل دولة.‏

            تاسعاً -واجب الحيلولة دون التلوث:‏

            يقع على عاتق كل دولة واجب حديث العهد تماماً هو اتخاذ التدابير اللازمة للحيلولة دون القيام بأي عمل داخل أراضيها يلوث بأي شكل من الأشكال مياه دولة مجاورة أو أجواءها. ولا يوجد حتى الآن قانون اتفاقي حول هذا الموضوع. ولكن "المبادئ العامة للعدالة" تشير إلى وجود مثل هذا الواجب على ما يبدو، وأخص بالذكر مبدأ التعسف في استعمال الحق. وتجدر الإشارة بهذا الصدد إلى القرار الذي أصدرته محكمة التحكيم في "قضية مصنع صهر المعادن" في شهر آذار من عام/ 1941 بشأن الضرر اللاحق بولاية واشنطن الولايات المتحدة) جراء الأبخرة المتصاعدة من مصنع لصهر المعادن في كولومبيا البريطانية كندا) فقد أكدت المحكمة في قرارها أنه:‏

            "بمقتضى مبادئ القانون الدولي، لا يحق لأية دولة أن تستعمل اقليمها أو تسمح باستعماله بطريقة تتسبب، نتيجة للأبخرة، في الحاق الضرر باقليم دولة أخرى، أو بالممتلكات، أو بالأشخاص في هذه الدولة، كما يعتبر دومينيون كندا مسؤولاً أيضاً بمقتضى القانون الدولي عن إدارة مصنع صهر المعادن"(40) .‏

            كما ينادي البعض باعتبار الدولة التي تستعمل اقليمها بقصد إجراء تجارب ذرية مسؤولة عن الأضرار التي تنتج عن الإشعاعات الذرية وعن الغبار الذي يصل إلى أقاليم الدول الأخرى.‏

            عاشراً- واجب منع التزييف:‏

            يقع على عاتق كل دولة واجب منع تزييف النقد والعملات وطوابع البريد والسندات المالية العائدة لدولة أخرى، ولقد اعتبرت بعض الدول نفسها ملزمة بمنع التزييف وذلك بسنّها التشريع الداخلي المناسب، حتى ولو لم تكن منضمة إلى اتفاقيات دولية تقضي بمنع مثل هذه الممارسات.‏

            ومهما يكن من أمر، فإن حلول حالة حرب يلغي الواجب الموضوع في البحث تجاه الدول العدوّة، تماماً كما هو الحال بالنسبة إلى جميع الواجبات الأخرى للدول عملياً. ففي الحرب العالمية الثانية زيفت المانيا ورقة النقد البريطانية من فئة الخمسة جنيهات، بينما زيفت بريطانيا طوابع البريد الألمانية بغية الإسراع في إرسال بطاقات دعاية عن طريق البريد معنونة بأسماء عينات عشوائية من المواطنين الألمان في المدن التي تعرضت للقصف من قبل السلاح الجوي الملكي. فقد ألقيت من الطائرات حقائب -هي تقليد متقن للحقائب البريدية الألمانية الرسمية- مليئة بالبطاقات المعنونة والتي ألصقت عليها الطوابع على النحو المذكور، على أمل أن المواطنين الألمان، اعتقاداً منهم بأنهم سقطت من سيارات البريد خلال الفوضى الملازمة للقصف الجوي، سيقومون بنقلها إلى أقرب مركز للبريد لتوزيتعها على المرسل إليهم.‏

            حادي عشر- واجب احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية:‏

            شددت "لجنة القانون الدولي" على أنه يقع على عاتق كل دولة واجب معاملة جميع الأشخاص الخاضعين لسيادة الدولة على أساس المساواة واحترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية لهم دون تمييز بسبب العرق أو الجنس أو اللون أو الدين. وهذا الواجب منصوص في المادة السادسة من "مشروع إعلان حقوق وواجبات الدول". ومع ذلك، فإنه لا يمكن الإقرار بأن هذا الواجب موجود كقاعدة عامة، مهما كان جديراً بالإعجاب من وجهة نظر أخلاقية، وأن مدى التدخل الشديد، الذي لا شك فيه، في الشؤون الداخلية للدول ذات العلاقة بتطبيق هذا الواجب، يثير الشكوك حول وجود هذا الواجب ذاته. وقد يأتي يوم في المستقبل تقبل فيه غالبية الدول الأعضاء في المجتمع الدولي بهذا الواجب بمقتضى تشريع داخلي مناسب تسنه لهذا الغرض، وفي هذه الحالة يجب أن تكون الروح الإيجابية هي رائد الدولة عند تطبيقه قبل الإدعاء جدياً بأن هذا الواجب قائم ومنتج لمفاعيله.‏

            (1) - See, Gerhard von Glahn, Low Among Natians, Second edition, London, Macmillan, 1970, p.126.‏

            (2) -انظر، د. محمد عزيز شكري، مدخل إلى القانون الدولي العام، مطبعة جامعة دمشق، دمشق 1406-1407) -1986-1987م)- ص145-146.‏

            (3) -انظر، د. فؤاد شباط، الحقوق الدولية العامة، مطبعة الجامعة السورية، دمشق، 1375هـ 1956م ص145.‏

            (4) -انظر، د. علي صادق أبو هيف، القانون الدولي العام: منشأة المعارف، الاسكندرية، الطبعة السادسة، 1962-ص208.‏

            (5) - see, von Glahn, op. Cit, p.13/.‏

            (6) - see, von Glahn, op. Cit, p.131/.‏

            (7) - see, von Glahn, op. Cit, p.132/.‏

            (8) - "...in the event of instant and overwhelming necessity‏

            - ويقصد بحالة الضرورة القصوى الآنية الضرورة القصوى العاجلة التي لا يمكن تأجيلها.‏

            (9) - see, von Glahn, op. Cit, p.133/.‏

            (10) -انظر تعريف العدوان في د. شكري، المرجع السابق ص/505/‏

            (11) -انظر، د. شكري، المرجع السابق، ص/146/‏

            (12) -انظر، د. علي صادق أبو هيف، المرجع السابق، ص/209/.‏

            (13) -انظر، د.أبو هيف، المرجع السابق، ص209.‏

            (14) -وهو من كبار أساتذة القانون الدولي : Oppenheim‏

            (15) - see, von Glahn, op. Cit, p.126/.‏

            (16) -انظر، د. شباط، المرجع السابق، ص/149/‏

            (17) -انظر، على سبيل المثال، اتفاقية الرياض للتعاون القضائي القسم الجزائي: مادة 38 وما بعدها) الموقعة بمدينة الرياض من قبل الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية بتاريخي 23/ جمادى الثاني عام 1403هـ الموافق السادس من شهر إبريل نسيان) 1983م. والصادرة في الجمهورية العربية السورية بالقانون رقم /14/ وتاريخ 27/10/1983م.‏

            (18) - see, von Glahn, op. Cit, p.126/.‏

            (19) -انظر. د. شباط، المرجع السابق/ ص152/‏

            (20) - Act of state Doctrine‏

            (21) - see, von Glahn, op. Ci.p127.‏

            (22) -انظر، د. شباط، المرجع السابق ص153.‏

            (23) - see, von Glahn, op. Cit,p127.‏

            (24) -see,uinority school in albania Advisory opinion, permanent court of international Justice, 1435, ser. A/B, No. 64.‏

            (25) - see, von Glahn, op. Cit p.,128-4‏

            (26) -انظر د. أبو هيف، المرجع السابق، ص242.‏

            (27) -انظر، د. أبو هيف، المرجع السابق ص247.‏

            *)- الميكافيلية مذهب سياسي نادى به السياسي الايطالي مكيافيلي في كتابه "الأمير" ومؤداه أن السياسة لا علاقة لها بالأخلاق -وأن الغاية تبرر الوسيلة.‏

            (28) -انظر، د. شباط، المرجع السابق، ص،157.‏

            (29) -انظر، د.أبو هيف، المرجع السابق ص251.‏

            (30) -انظر، د. شكري، المرجع السابق، ص153.‏

            (31) - see, von Glahn, op. Cit., P.164.‏

            (32) - see, von Glahn, op. Cit.,p171.‏

            (33) - see, von Glahn, op. Cit., P.174.‏

            (34) - see, von Glahn, op. Cit, p.174‏

            (35) - see, von Glahn, op. Cit., P.175‏

            (36) - see, von Glahn, op. Cit., P.177.‏

            (37) -انظر، د. شكري، المرجع السابق، ص156.‏

            (38) -انظر، د.حامد سلطان، القانون الدولي العام في وقت السلم، دار النهضة العربية، القاهرة، 1962،ص/777.‏

            (39) -انظر، د. شكري، المرجع السابق، ص158.‏

            (40) - see, von Glahn, op. Cit., P.174‏
            إذا الشعب يوما أراد الحياة
            فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
            و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
            و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

            تعليق


            • #7
              رد: دراسات دولية

              الفرع الأول القانون الدولي العام وحقوق الدول وواجباتها.

              المبحث الأول -الحقوق الطبيعية الأساسية للدول:‏

              اعتبر "حق البقاء" الشرط الأساسي لجميع الحقوق الأخرى التي تثبت للدولة، لأن عدم القدرة على الاستمرار في وجودها سيؤدي إلى زوال الشخصية القانونية الدولية لأية دولة عضوة في الأسرة الدولية. وتتبع هذا الحق حقوق أخرى هي في الواقع نتيجة له، ومتصل بعضها ببعض، كحق الحرية وحق المساواة وحق الاحترام المتبادل.‏

              وتجدر الإشارة هنا إلى أن جميع الحقوق التي يقرها القانون الدولي العام للدول هي حقوق نسبية. فالدول مقيدة في ممارسة حقوقها بواجب احترام حقوق الدول الأخرى، ويحد من حقوق كل دولة ما للدول الأخرى من حقوق.‏

              المطلب الأول- حق البقاء:‏

              أولاً- مضمون حق البقاء:‏

              إن ما ينطوي عليه "حق البقاء"، من وجهة نظر عملية، هو الحق في بقاء مستمر، أي المحافظة على سلامة شخصية الدولة من خلال ممارسة حق الدفاع المشروع عن النفس أو أية آلية أخرى. ويشير هذا المفهوم في الحال عدداً من المسائل المهمة، ويمكن القول، بصورة أولية، أنه يقع على عاتق الدول واجب احترام حق الدول الأخرى جميعاً في البقاء. غير أنه إذا قصد من هذه القاعدة أن تكون غير مرنة، وإذا قصد منها أن تعتبر حقاً مطلقاً، فإنه سيكون من واجب جميع الدول حينئذ أن تسمح بأي انتهاك ترتكبه احداها -للمحافظة على بقائها- ضد الأخرى وأن تتحمله. وفي الحقيقة لا يمكن الزام أية دولة بقبول هذا المعنى، وإنما تستطيع بدلاً من ذلك الدفاع عن نفسها، ويمكنها اللجوء إلى هذه الوسيلة بصورة مشروعة في حالة الضرورة الحقة غير أنه لا يمكن ترك أمر تحديد مسألة الضرورة هذه لكل دولة تبت فيها بمفردها، وذلك بالنظر إلى حقيقة معروفة تماماً هي أن بعض الدول ترتكب العدوان ضد دول أخرى بحجة ضرورة الدفاع عن النفس وتحت قناعها.‏

              ولقد أدى ظهور شبكة من المعاهدات معاهدة حلف شمال الأطلسي، ومعاهدة ريو، وحلف وارسو الخ...)، خلال العقود الأربعة الماضية إلى تغيير طفيف في النواحي العملية لحق البقاء. وكما أشار أحد الفقهاء،(1) فإنه بالرغم من أن هذه المعاهدات كان الدافع إليها اعتبارات سياسية في الأساس، إلا أنها تمثل ضمانات للدول المتعاقدة ضد اعتداءات الدول الأخرى. ومن هنا نشأ للدول، على ما يبدو، حق محدود في البقاء، وغير مطلق، قانوني وسياسي على السواء.‏

              ويقضي حق البقاء بأن تعمل الدولة كل ما من شأنه أن يكفل بقاءها واستمرارها، وأن تتخذ من التدابير ما يلزم لدفع ما يهدد وجودها من أخطار داخلية وخارجية على السواء(2) ، وبالنظر إلى أن للدولة وجوداً، فلها أن تتخذ في أراضيها جميع التدابير الضرورية لسلامتها وتقدمها، ومن ذلك:‏

              -القضاء على كل ما يمكن أن يهدد أمنها أو سلامتها، وذلك بالعمل على احترام دستورها وتطبيق قوانينها، وبالعمل على استتباب الأمن، بما في ذلك قمع الثورات والقضاء على الفتن، وعلى كل ما يمكن أن يزعزع الاستقرار الداخلي فيها.‏

              -منع أو تقييد دخول الأجانب غير المرغوب فيهم إلى أقليمها، فرادى وجماعات، وإبعاد من يشكل وجوده منهم خطراً على الأمن.(3)‏

              -تنمية الموارد البشرية بزيادة عدد السكان عن طريق تشجيع النسل ورفع المستوى الصحي.‏

              -تنمية الموارد الاقتصادية بوضع خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية الهادفة إلى زيادة الانتاج الزراعي والصناعي.‏

              -رفع مستوى التربية والتعليم والثقافة.‏

              كذلك يحق للدولة حماية نفسها ضد أي اعتداء محتمل عليها من الخارج، ومن ذلك:‏

              -إنشاء جيش قوي قادر على الذود عن حياض الوطن إذا ما دعت الحاجة إلى ذلك، وتجهيزه بالمعدات والأسلحة اللازمة لتحقيق هذا الغرض.‏

              -إنشاء الحصون والاستحكامات وتهيئة كل ما يلزم من وسائل الدفاع.‏

              -حظر الإتجار في المرافئ العسكرية أو تحليق الطائرات فوق الأماكن المحصنة والتشدد في معاقبة التجسس.‏

              -عقد معاهدات تحالف أو دفاع مع الدول الأخرى.‏

              -الاشتراك في منظمة إقليمية أو دولية تحميها وتنصرها إذا ما وقع اعتداء عليها أو كان مثل هذا الاعتداء على وشك الوقوع.(4)‏

              ثانياً- الحقوق المتفرعة عن حق البقاء:‏

              1-حق الدفاع المشروع عن النفس:‏

              آ-مضمونه: مما لا شك فيه أن جميع الأنظمة القانونية في العالم تعترف بحق الدفاع عن النفس وتؤيده، ولكن المشكلة تكمن في الظروف التي يمكن في ظلها اللجوء إلى استعمال هذا الحق، وفي الوسائل التي يجب استخدامها في ممارسة هذا الحق، وقد أكد عدد من الفقهاء بأن لجوء إحدى الدول إلى استعمال القوة له ما يبرره، حتى وإن لم يشن هجوم مسلح عليها في سياق نزاعها مع دولة أخرى.(5)‏

              ب-القيود المفروضة على حق الدفاع عن النفس:‏

              ويبدو من ناحية أخرى أن هناك قيوداً، حديثة العهد نسبياً ومسلماً بها، على استعمال حق الدفاع عن النفس، فالقوة المستخدمة للدفاع عن دولة ما يجب أن تتناسب بصورة معقولة مع الخطر الذي يجب تفاديه، وهناك في الوقت ذاته وجهة نظر واسعة الانتشار ترى أن مسألة تقدير ما إذا كانت التدابير الدفاعية المتخذة من قبل دولة ما ضرورية بالفعل، أو ما إذا كان من الواجب اعتبارها مفرطة وزائدة عن الحد، يجب ترك البت فيها إلى قضاة مستقلين لا علاقة لهم بالنزاع، كمحكمة دولية أو هيئة تحكيم دولية أو حتى هيئة سياسية دولية كمجلس الأمن مثلاً) تعمل كوكالة قضائية، ومن الواضع طبعاً أن الأحكام الصادرة بالنتيجة تكون ذات أثر رجعي، بالنظر إلى ما تنطوي عليه من عنصر الوقت، فالخطر المباشر الذي يهدد الدولة بالفناء نتيجة للاعتداء المسلح عليها، أو الأنشطة الناجحة للطابور الخامس، لا تسمح باللجوء إلى أجراء التحقيقات القضائية اللازمة لتحديد الوسائل التي يجب استخدامها لدرء الخطر قبل اتخاذ الخطوات المرغوب فيها.(6)‏

              ميثاق الأمم المتحدة وحق الدفاع عن النفس‏

              ح- نصوص ميثاق الأمم المتحدة المتعلقة بحق الدفاع عن النفس:‏

              يبحث ميثاق الأمم المتحدة في مشكلة الدفاع عن النفس في نصين رئيسيين:‏

              *فالمادة الثانية من الميثاق تنص في فقرتها الرابعة على مايلي:‏

              "يمتنع أعضاء المنظمة جميعاً في علاقاتهم الدولية عن التهديد باستخدام القوة أو استخدامها ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأية دولة، أو على أي وجه آخر لا يتفق ومقاصد الأمم المتحدة".‏

              *كما جاء في النصوص الرئيسية من المادة الحادية والخمسين مايلي:‏

              "ليس في هذا الميثاق ما يضعف أو ينتقص من الحق الطبيعي للدول، فرادى وجماعات، في الدفاع عن أنفسها في حالة الاعتداء المسلح على دولة عضو في الأمم المتحدة، وذلك إلى أن يتخذ مجلس الأمن التدابير اللازمة لحفظ السلم والأمن الدوليين".‏

              ومما يجدر ذكره أنه إذا استعمل حق النقض الفيتو)، من قبل إحدى الدول التي تتمتع بمثل هذا الحق، وذلك لمنع مجلس الأمن من اتخاذ التدابير الملمح إليها، فإنه يجوز للجمعية العامة ممارسة سلطة الحكم والرقابة بمقتضى قرار "الاتحاد من أجل السلام" لعام/ 1950/.(7)‏

              ووفقاً للقانون الدولي العام، كانت الدولة دوماً الحكم الوحيد بالنسبة إلى وجود حالة طارئة تبرز استخدام القوة دفاعاً عن النفس. والمادة الحادية والخمسون، من الناحية النظرية على الأقل، تفرض قيداً: فالدولة التي تتصرف على أساس تقديرها وحدها، إنما تفعل ذلك على مسؤوليتها الخاصة، كما أن تدابيرها تخضع، من الناحية النظرية أيضاً، إلى تمحيص من قبل مجلس الأمن.‏

              ولذلك فإنه ليس أمراً مفاجئاً أن يكون مضمون نصوص الميثاق المتعلقة بحق الدفاع عن النفس موضع جدل كبير.‏

              فترى قلّة من المعلّقين أن أي تهديد باستخدام القوة أو استخدامها على نحو لا يتفق والدفاع عن النفس ضد هجوم مسلح، يكون بصورة آلية من ضمن المحظورات الواردة في الفقرة الرابعة من المادة الثانية المذكورة أعلاه.‏

              بينما يؤكد عدد أكبر من الفقهاء، من ناحية ثانية، أن استعمال كلمة "الطبيعي" في المادة الحادية والخمسين يثبت للدول حقاً طبيعياً وقائماً في استخدام القوة دفاعاً عن النفس، وأن المادة الحادية والخمسين لا تتضمن ما يضعف ذلك الحق إلى أن يتخذ "مجلس الأمن" أو "الجمعية العامة" التدابير اللازمة لحفظ السلم والأمن الدوليين. ومثل وجهة النظر هذه ترى أن حق الدفاع عن النفس لا يستند مطلقاً إلى "الميثاق"، وإنما هو حق طبيعي للدول بموجب أحكام القانون الدولي. وترى وجهة النظر هذه أن ما تفعله المادة الحادية والخمسين هو مجرد فرض قيود على ممارسة هذا الحق.‏

              ويمكن القول أن هناك اتفاقاً عاماً حول موضوع الدفاع عن النفس ضد هجوم مسلح يقوم على اعتبارين:‏

              أولهما: أن اللجوء إلى استخدام القوة دفاعاً عن النفس يكون مشروعاً في حالة الضرورة القصوى الآنية.(8) .‏

              وثانيهما: أن التدابير المتخذة دفاعاً عن النفس يجب أن تكون مقصورة على الدفاع نفسه، ويجب ألا تتحول إلى أعمال انتقامية أو إلى عقوبات تأديبية.(9)‏

              نخلص مما تقدم إلى أن حق الدفاع المشروع عن النفس يثبت للدول كنتيجة لحقها في البقاء. وللدولة، بموجب هذا الحق، الدفاع عن نفسها إذا اعتُديَ عليها لرد هذا العدوان.(10) . ودفع الخطر الناتج عنه، إلا أنه يشترط لاستعمال الدولة هذا الحق أن يكون الاعتداء حالاّ والخطر واقعاً أو وشيك الوقوع. بل وتشترط المادة الحادية والخمسون من "ميثاق الأمم المتحدة" وقوع الاعتداء فعلاً، وعندها تعلم الدولة المعتدى عليها "مجلس الأمن" بالتدابير التي اتخذتها لهذه الغاية.(11)‏

              فإن لم يكن الاعتداء حالاً.، والخطر واقعاً أو وشيك الوقوع فلا محل للدفاع: فليس للدولة مثلاً أن تبدأ بمهاجمة جارة لها بحجة الدفاع عن نفسها لأن الدولة الثانية بلغت في تسليحها حداً يخشى منه على الدولة الأولى، وأن التسلح كان القصد منه الاعتداء على هذه الدولة، إنما لها أن تتخذ عدتها لرد هذا الاعتداء إن وقع أو أصبح وشيك الوقوع، كأن تكون الدولة الثانية قد حشدت جيوشها بالفعل على حدود الدولة الأولى بقصد مهاجمتها وشرعت فعلاً في الأعمال المؤدية لهذا الهجوم.(12)‏

              2-حق منع التوسع العدواني:‏

              يحق للدول أن تتدخل بكافة الوسائل، بما في ذلك استخدام القوة، للحيلولة دون توسع دولة ما على حساب جيرانها، وقد سارت السياسة الدولية في أوروبا بالفعل على نحو يتفق مع هذا القول، مستندة في ذلك إلى فكرة التوازن الدولي، فعلى أساس هذه الفكرة اشتركت بريطانيا وفرنسا وحلفائهما في الحرب العالمية الأولى لوقف توسع امبراطوريتي المانيا والنمسا، وعلى أساسهما أعلنت بريطانيا وفرنسا الحرب على المانيا ثانية عام /1939/ بعد اعتداء المانيا على النمسا وتشيكوسلوفاكيا وبولونيا تباعاً، ذلك أن حق الدولة في البقاء مقيد بما لغيرها من الدول المحيطة بها من حق في البقاء أيضاً.(13)‏

              المطلب الثاني -حق الحرية الاستقلال)‏

              يقصد بهذا الحق حرية عمل الدولة داخلياً وخارجياً دون أن يخضع في ذلك لإرادة أو سيطرة دولة أخرى ويُعَبَّر عن المركز السياسي للدولة التي تنفرد في ممارسة سيادتها بكلمة" الاستقلال " ولكن حرية الدولة محدودة بحرية الدول الأخرى. كما أنها تنطوي على الخضوع لقيود القانون الدولي العام، تلك القيود التي تقبلها جميع الدول باعتبارها ملزمة لها. وبالإضافة إلى ذلك فإن الالتزامات الواردة في معاهدة معينة، والتي أخذتها الدولة على عاتقها، تمثل قيوداً على استقلال الدولة الداخلي والخارجي شريطة أن تكون هذه المعاهدة قانونية.‏

              أولاً- الاستقلال الداخلي:‏

              يرى أوبنهايم(14) ، وهو على حق في ذلك، أن استقلال دولة ما وسيادتها الاقليمية والشخصية أي سلطتها العليا داخل اقليمها، وسلطتها على مواطنيها في الداخل والخارج) ليست بالمرّة مجرد حقوق، وإنما هي صفات محمية ومعترف بها أو هي ميزات للدول كأشخاص دولية.(15)‏

              ويقضي الاستقلال الداخلي بأن تكون للدولة حرية العمل السياسي والتشريعي والقضائي ضمن حدود اقليمها، وتفصيل ذلك كما يلي:‏

              1-حرية العمل السياسي:‏

              للدولة أن تختار نظام الحكم الذي تريده، ملكياً كان أم جمهورياً نيابياً أم رئاسياً، الخ... شريطة أن يكون في مقدور هذا النظام تحقيق الاستقرار السياسي في الداخل. وطبقاً للمادة الرابعة من "ميثاق الأمم المتحدة"، فإن للمنظمة رفض قبول الدولة غير المستقرة سياسياً في عضويتها، إذ اشترطت المادة المذكورة قدرة الدولة على تنفيذ الالتزامات الواردة فيه. كما أن المؤتمر المنعقد في مدينة "كان" في السادس من كانون الثاني عام /1922/ أقر تدبيراً آخر إزاء حالة عدم الاستقرار السياسي في الداخل يتمثل في رفض استثمار المال الأجنبي في الدولة التي أصبحت مسرحاً له.(16)‏

              2-الاستقلال التشريعي:‏

              ويقضي هذا الحق بأن تكون الدولة حرّة في أن تضع دستوراً يتفق وحاجاتها، وأن تسن القوانين الناظمة لحقوق الملكية وللحقوق الشخصية لمواطنيها ورعاياها، وأن تحدد الشروط التي يمكن للأجانب بمقتضاها دخول أقليمها الخ... وليس للدول الأجنبية أن تتدخل بداعي حماية بعض الأقليات العنصرية والمذهبية من بعض التشريعات الخاصة، لأن المادة الأولى من "ميثاق الأمم المتحدة" كفتها مؤونة القيام بمثل هذا العمل، إذ نصت في فقرتها الثالثة أن من أهدافً المنظمةً:‏

              "تعزيز وتشجيع احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للناس جميعاً، من غير تمييز بسبب العرق أو الجنس أو اللغة أو الدين"‏

              3-الاستقلال القضائي:‏

              وهو يعني اخضاع "سكان" الدولة للمحاكم الوطنية التي تصدر أحكامها بحق جميع السكان مهما كانت جنسيتهم، وتعمل على تنفيذ الأحكام النهائية الصادرة عنها وفق الأصول. ويتمتع الأجانب بحق حماية أشخاصهم وأموالهم طبقاً لقانون الدولة التي يقيمون ضمن إقليمها، مع مراعاة مستوى الحد الأدنى في معاملة الأجانب المقرر في القانون الدولي، كما يخضعون للسلطة القضائية لتلك الدولة، ولا يتمتعون بحق اللجوء إلى محاكم الدولة التي يتمتعون بجنسيتها إلا ضمن الحدود المنصوصة في القانون الداخلي للدولة التي يقيمون في أقليمها.‏

              ويقف الاستقلال القضائي عند حدود اقليم الدولة، فإذا اجتاز الشخص الموجه إليه اتهام من الجهات المختصة أو المحكوم عليه من إحدى الهيئات القضائية هذه الحدود، تمكن من الإفلات من الملاحقة القضائية أو تنفيذ الحكم بحقه، ما لم تكن بين الدولتين اتفاقية للتعاون القضائي تنص على استرداد المجرمين العاديين والملاحقين قضائياً بجرائم عادية.(17)‏

              ثانياً- الاستقلال الخارجي:‏

              وهو الوجه الآخر للاستقلال، ويتصل بحق دولة ما في إدارة علاقاتها الخارجية على قدر استطاعتها بالطريقة التي ترغب فيها، وبدون سيطرة إشرافية عليها من قبل دول أخرى، وأن انعدام مثل هذه السيطرة ضروري إذا أريد لدولة معينة أن تتصرف كوكيل حر، وأن يكون في مقدورها الوفاء بالالتزامات الدولية التي تضطلع بها في تعاملها مع دول أخرى. ويعتبر هذا الاستقلال الخارجي اختباراً أساسياً لقبول أعضاء جدد في المجتمع الدولي، لأن الدول التي تفتقر إلى هذه الخصيصة لا تتمتع بأهلية القبول.(18)‏

              وعلى هذا فإن الدولة حرة في إدارة علاقاتها الدبلوماسية كما تشاء وفي التعاقد مع الدول بموجب اتفاقيات ومعاهدات دولية كما تريد، وفي إظهار تعلقها ببعض الدول وإهمالها البعض الآخر كما تهوى، مستوحية في ذلك كله مصالحها الخاصة. ومن الطبيعي أن الدولة تقيد نفسها عندما تقدم على التعاقد مع غيرها من الدول، وهي عندما تفعل ذلك إنما تمارس عملاً مستمداً من سيادتها واستقلالها، ولكنها تصبح مقيدة به بعد ذلك، كما يقيد الفرد نفسه بعقد بعد أن يقدم على توقيعه بملء اختياره.(19)‏

              وينطوي أحد الأوجه الأكثر أهمية في هذا "الحق" الثابت لكل دولة، على احترام الدولة ذات السيادة لاستقلال كل دولة أخرى ذات سيادة. ونتيجة لهذا الاحترام، فإن محاكم دولة ما لا تنعقد لتصدر أحكاماً على أعمال حكومة دولة أخرى قامت بها ضمن ولايتها الاقليمية. وما لم تعترف الهيئات القضائية الأجنبية بالأعمال السيادية للدولة مذهب العمل السيادي)(20) ، فإن حق الاستقلال سيبدو وكأنه عديم المعنى.(21) فالدولة، في جميع تصرفاتها، تعمل لصالح المواطنين عامة، ولذلك فإن مقاضاتها أمام محكمة دولة ثانية أمر يرفضه المنطق، وإذا فرضنا جدلاً أن مثل هذه المحكمة أصدرت حكمها، فإن تنفيذ مثل هذا الحكم بحق الدولة الأجنبية أمر مستحيل لأنه يصطدم بمفهوم استقلالها.(22)‏

              ثالثاً- الخط الفاصل بين المجال المخصص للمسائل الداخلية البحتة وبين المجال المخصص للمسائل الخاضعة للقانون الدولي العام:‏

              وهناك مشكلة لم يتم حلّها بعد على نحو مرض وهي: أين يكمن الخط الفاصل بين المجال المخصص للمسائل الداخلية البحتة وبين مجال العمل الذي يخضع لقواعد القانون الدولي العام؟ ذلك أن كل حكومة تصر عادة على أن تكون أنشطة معينة خاضعة لولايتها بالكامل وغير خاضعة لأية سلطة خارجية بالمرة. على أنه يمكن القول، وهذا القول له ما يبرره نوعاً ما، بأن حقيقة وجود مثل هذه المجالات التي تحتفظ بها الدولة لنفسها، يدل على أن ثمة قاعدة في القانون الدولي العام تقضي بأن المجالات الموضوعة في البحث تخضع في الحقيقة تماماً للولاية الوطنية ولا تخضع للقانون الدولي العام، ويزخر تاريخ العلاقات الدولية بالأمثلة على هذه "المسائل الداخلية" وللاستشهاد بقليل من هذه الأمثلة نقول بأن من المسلم به عموماً أن تنظيم الهجرة ودخول وإقامة وخروج الأجانب يمثل مجالاً يخضع للسيطرة الوطنية حصراً، وأن نمط ومحتويات الدستور الوطني لا تخضع لأية سلطة خارجية، كما أن هناك مجالات واسعة وغير محددة، وخصوصاً ما يعتبر منها متعلقاً بـ "مصالح وطنية حيوية" كالدفاع والأمن الداخلي لا تخضع بالكامل لأية قيود(23) ، اللهم إلا الالتزامات الدولية المقررة في اتفاقية أو عرف دوليين.‏

              ويتضمن ميثاق الأمم المتحدة اعترافاً واضحاً بمفهوم المجال المخصص للمسائل الداخلية التي لا يجوز التدخل فيها حتى من قبل منظمة سياسية عالمية كالامم المتحدة. إذ تنص الفقرة السابعة من المادة الثانية من "الميثاق" في قسم منها، مايلي:‏

              -ليس في هذا الميثاق ما يجيز للامم المتحدة أن تتدخل في الشؤون التي تكون من صميم الولاية الداخلية لأية دولة، وليس فيها ما يحمل الاعضاء على عرض شؤون من هذا النوع للتسوية المنصوصة في هذا الميثاق.‏

              المطلب الثالث- حق المساواة‏

              يعتبر حق المساواة من أقدم الحقوق التي تتمتع الدول بها، وتتمتع الدول بحق المساواة أمام القانون نتيجة لاستقلالها وسيادتها. فللدول جميعاً نفس الحقوق، وعليها جميعاً نفس الواجبات. وقد خلط بعض المؤلفين بين "المركز القانوني" الذي هو واحد لجميع الدول الأعضاء في المجتمع الدولي، وبين "المركز المادي" الذي قد يختلف من دولة إلى أخرى من حيث المساهمة وعدد السكان والموارد والقوة العسكرية وغيرها من العوامل التي ينطوي عليها مفهوم القوة الوطنية وسياسة القوة، وقد فرقت "محكمة العدل الدولية الدائمة" في عام /1935/ بين "المساواة في القانون" و"المساواة في الواقع" وذلك في رأيها الاستشارى بقضية مدارس الاقلية في البانيا حين قالت:‏

              "قد يكون من غير السهل تحديد الفرق بين مفهوم المساواة في الواقع ومفهوم المساواة في القانون، ومع ذلك فإنه يمكن القول بأن المفهوم الأول يستبعد فكرة مجرد المساواة الشكلية... فالمساواة في القانون تمنع أي تمييز مهما كان نوعه، في حين أن المساواة في الواقع قد تنطوي على ضرورة المعاملة المختلفة بغية الوصول إلى نتيجة تقيم توازناً بين وضعين مختلفين"(24)‏

              ومن الغريب حقاً، أن المادة الثانية من "ميثاق الأمم المتحدة" تتضمن، بين مبادئ أخرى، "مفهوم المساواة في السيادة بين أعضائها"، في حين أن المادة الثالثة والعشرين من الميثاق ذاته تخرق هذا المفهوم بمنحها الدول الخمس الكبرى مقاعد دائمة في مجلس الأمن، بينما ينتخب الأعضاء العشرة الآخرون في المجلس لمدة سنتين فقط، كما يعاني الأعضاء العشرة غير الدائمين في مجلس الأمن من انتقاص آخر من مفهوم "المساواة في السيادة" من خلال نصوص المادة السابعة والعشرين من "الميثاق" المتعلقة بإجراءات التصويت في مجلس الأمن، بما في ذلك حق النقض "الفيتو" الذي يتمتع به الأعضاء الخمسة الدائمون. ولكن يمكن، من ناحية أخرى، أن تؤخذ المادة الثالثة والعشرون على أنها تمثل تقديراً للدور التقليدي الذي تلعبه الدول الكبرى في العلاقات الدولية(25)‏

              ويترتب على حق المساواة القانونية بين الدول عدد من النتائج أهمها:‏

              أولاً- ليس لدولة أن تملي إرادتها على دولة أخرى تامة السيادة، فيما يتعلق بأي شأن من شؤونها الخاصة. ولكل دولة أن ترفض أي طلب مقدم من دولة أجنبية لا تفرضه عليها التزاماتها الخاصة وواجباتها الدولية العامة.‏

              ثانياً- لكل دولة حق التصويت في المؤتمرات والهيئات الدولية التي تشترك فيها، وليس لها غير صوت واحد أياً كانت قوتها ونفوذها. ولا تكون القرارات التي تتخذ ملزمة إلا إذا اتخذت باجماع الدول الممثلة في المؤتمر. وقد يكتفى أحياناً بالأغلبية لاصدار قرارات معينة في الهيئات الدولية، وذلك بنتيجة اتفاق اجماعي سابق بين الدول التي أقرت ميثاق الهيئة.‏

              ثالثاً- لا تخضع أية دولة في تصرفاتها لقضاء دولة أجنبية، إلا في الحالات الاستثنائية التالية:‏

              1-إذا قبلت الدولة اختصاص القضاء الاجنبي صراحة كأن رفعت هي الدعوى أمامه أو كانت مرتبطة بعقد نُصَّ فيه صراحة على قبولها باختصاص قضاء دولة أجنبية فيما يتعلق بتنفيذ هذا العقد، أو قبلت هذا الاختصاص ضمناً كأن ترفع عليها الدعوى أمامه مثلاً فيحضر مندوبها ولا يدفع بعدم الاختصاص ويبحث في موضوع الدعوى.‏

              2-إذا كانت للدولة أموال عقارية في أقليم أجنبي فإن هذه الأموال تخضع في كل ما يقوم بشأنها من منازعات لقضاء الدولة التي توجد في اقليمها، وأن تملّك دولة لعقارات في غير اقليمها يفترض قبولها الولاية الاقليمية للقضاء بالنسبة لهذه العقارات.‏

              3-تجوز مقاضاة الدولة أمام محاكم دولة أخرى عن الأعمال ذات الصفة التجارية التي تقوم بها في اقليم أجنبي، لأن مثل هذه الأعمال ليست من أعمال السيادة أو السلطة العامة، والبحث فيها من قبل القضاء الأجنبي لا يمس سيادة الدولة أو استقلالها، ولأن مقاضاة الدولة في هذه الحالة يكون بصفتها شخصاً معنوياً خاصاً لا شخصاً من أشخاص القانون الدولي.(26)‏

              المطلب الرابع -حق الاحترام المتبادل‏

              لكل دولة أن تطلب من الدول الأخرى، كنتيجة لحقها في المساواة أمام القانون، احترام كيانها المادي ومركزها السياسي ومراعاة مركزها الأدبي.‏

              ويكون احترام كيان الدولة المادي باحترام حدودها الاقليمية، والامتناع فيما بين الدول المتجاورة عن التعدي على حدود بعضها بعضاً، وعدم الوقوف في سبيل تقدمها ونموها الاقتصادي.‏

              ويكون احترام مركز الدولة السياسي باحترام نظمها السياسية والادارية والاقتصادية والاجتماعية وعقائدها الدينية وكل ما يتعلق بسير الشؤون العامة فيها.‏

              وتكون مراعاة مركز الدولة الأدبي بأن تقدم كل دولة لرؤوساء الدول الأجنبية ومبعوثيهم الاحترام المتصل بصفتهم والمراسيم التي جرى بها العرف الدولي والعادات المرعية، وأن تتخذ التدابير اللازمة لمعاقبة كل من يقدم علي فعل فيه تعدّ على كرامة أو اعتبار أحد هؤلاء. ولكل دولة الحق في أن تراعي الدول الأخرى الشكل والاسم الذي تتخذه لنفسها والألقاب التي يتخذها رئيسها طالما أنه ليس في هذا الشكل وهذه الأسماء والألقاب مساس بالحقوق الشرعية لدول أخرى. ولكل دولة الحق أيضاً في احترام شاراتها الرسمية وعلمها وما يتبع ذلك من واجب الدول الأخرى في الامتناع عن تقليد تلك الشعارات وذلك العلم.(27) .‏

              المبحث الثاني -واجبات الدول‏

              إن حقوق الدول إما أنها تعكس خصائص هذه الكيانات المسماة بالدول، أو أنها تمثل في حالات معينة واجباتها أو التزاماتها، وسواء اعترف المرء أم لم يعترف بوجود قانون يحكم العلاقات الدولية، فإن ثمة حقيقة قائمة هي أن رجال السياسة- سواء أكانوا من النوع الميكافيلي*) أم من النوع الآخر- متفقون على وجود نوع من القانون يحكم العلاقات الدولية. فالدولة حين تعقد معاهدة مع غيرها من الدول تتوقع من الطرف الآخر في المعاهدة مراعاة أحكامها. وكل دولة تنتهك حرمة المعاهدة إما أن تعمد إلى نفي هذا الانتهاك، أو إلى الدفاع عنه بحجج منمقة، يقصد منها الظهور بأنها محقة في عملها من الناحية الأدبية أو من الناحية القانونية. ولذلك فإنه بات من الضروري معرفة ما يدخل في عداد واجبات الدول في علاقاتها المتبادلة. وبتعبير آخر، فإن كل حق يقابله واجب، ولكن الدول -شأنها في ذلك شأن الأفراد- تفكر دوماً بحقوقها وترغب في ممارستها كاملة غير منقوصة، وقلما تفكر جدياً بما يترتب عليها من واجبات.(28)‏

              ويمكن القول بأن الواجبات القانونية للدول تتلخص في التزامها بما يلي:‏

              1-احترام الحقوق الأساسية المقررة لكل منها.‏

              2-مراعاة قواعد القانون الدولي العام والسير على مقتضاها.‏

              3-احترام العهود التي ارتبطت بها وتنفيذ تعهداتها الدولية بحسن نية.‏

              وقد أشرنا في المبحث الأول المتعلق بحقوق الدول إلى ما يتفرع عن الالتزام الأول من واجبات. أما مؤدى الالتزامين الثاني والثالث فواضح لا يحتاج إلى تعليق خاص. ومع ذلك فإننا سنعطي فكرة موجزة عن بعض واجبات الدول ذات الأهمية الخاصة.(29)‏

              المطلب الأول -واجب عدم التدخل‏

              أولاً- التدخل المحظور:‏

              إن الالتزام الأساسي للدول بالامتناع عن التدخل في الشؤون الداخلية والخارجية لاية دولة أخرى، أو في العلاقات بين الدول الأخرى، يعتبر واحداً من أقدم واجبات الدول التي تضمّنها كلا القانون الدولي العرفي والعديد من الاتفاقيات الدولية المتعددة الأطراف. ومما لا شك فيه أن مثل هذا التدخل محظور قاعدة في القانون الدولي، لأن هذا القانون إنما وجد، جزئياً على الأقل، لحماية الشخصية الدولية لكل دولة من دول العالم، وفي التدخل افتئات على حق الدول في الحرية والاستقلال والسيادة. والمقصود بعدم التدخل عدم اتيان الدولة أي عمل قسري في الشؤون الداخلية أو الخارجية للدول الأخرى، فهو يتراوح بين شن الحرب الإذاعية والحرب النفسية والحرب الاقتصادية وإثارة الحروب الأهلية وبين الحرب الفعلية.(30)‏

              ثانياً- التدخل المشروع:‏

              وحقيقة أن بعض الحقوقيين البارزين يبرر أنواعاً معينة من التدخل تعكس القلق المتزايد لدى فقهاء القانون الدولي الذين يرغبون في ديمومة نظرية منع التدخل على الاطلاق، مع ميلهم إلى الموافقة على شكل ما من التدخل لأنهم يرون أنه مرغوب فيه لاعتبارات إنسانية أو من وجهة نظر سياسية، أو لأن المنطق يبدو في بعض الأحيان وكأنه يُملي صواب اللجوء إلى التدخل، على الرغم من بقاء المنع القانوني الشامل. وقد ينشأ حق التدخل -والذي تحدد شرعيته الظروف المحيطة بالتدخل- بواحد من عدة طرق:‏

              1-قد تُمنح دولة حامية حق التدخل في دولة محمية بموجب معاهدة.‏

              2-حينما تكون العلاقات الخارجية لدولة ما تمثل في الوقت ذاته شؤوناً خارجية لدولة أخرى، فإنه يجوز لهذه الأخيرة أن تتدخل بصورة مشروعة إذا انفردت الدولة الأولى في تصرفاتها، ويصح هذا القول في حالة الدولتين التابعة والمتبوعة مثلاً.‏

              3-حينما تفرض معاهدة ما قيوداً على دولة معينة فيما يتعلق بسيادتها الاقليمية أو استقلالها الخارجي، وتخرق هذه الدولة القيود المفروضة، فإن للطرف أو الأطراف الأخرى في المعاهدة الحق في التدخل بصورة مشروعة.‏

              4-حينما تعمد دولة ما إلى خرق القواعد المسلم بها في القانون الدولي العرفي أو الاتفاقي، فإن للدول الأخرى الحق في التدخل، وعلى سبيل المثال، إذا عمدت دولة محاربة إلى انتهاك حقوق دولة أو دول محايدة خلال نزاع ما، فإن من حق الدول المحايدة أن تتدخل ضد الدولة المحاربة التي أقدمت على الانتهاك.‏

              5-يحدث التدخل المشروع في حالة الإجراء الجماعي الذي يتخذه جهاز دولي بالنيابة عن المجتمع الدولي، أو بغية تنفيذ مبادئ وقواعد القانون الدولي، ويصدق هذا القول بدون شك فيما يتعلق بالتدابير الوقائية أو العلاجية التي تتخذها وكالات تابعة لهيئات كالأمم المتحدة، أو نيابة عنها.‏

              6-يعتبر التدخل مشروعاً حين يحدث بناء على طلب صريح من الحكومة الشرعية لدولة من الدول. وهذا التدخل، شأنه شأن كل تدخل آخر، إنما تحدد شرعيته الظروف المحيطة بالتدخل. فالولايات المتحدة رأت في التدخل السوفياتي في المجر عام/ 1956 تدخلاً غير مشروع لأن حكومة "كادار" التي طلبت المساعدة السوفياتية بموجب شروط "حلف وارسو" لم تكن تمثل حكومة شرعية في المجر، وإنما كانت حكومة صورية أقامتها الدولة ذاتها التي طلب منها تقديم المساعدة العسكرية والتدخل.(31)‏

              وخلاصة القول أنه مهما بدت مبررات التدخل العسكري في حالات معينة على أنها مبررات أدبية أو مرغوب فيها أو معقولة، فإن هناك حقيقة ثابتة مفادها أن التدخل في حد ذاته يشكل انتهاكاً لحقوق يجب ألا تنتهك كما أنه يمثل عملاً عدائياً، ويمكن اعتباره "عملاً لم يكن ليحدث لولا التفوق العسكري للدولة المتدخلة"(32)‏

              ويعني واجب الامتناع عن التدخل المسلح بوضوح -في جملة ما يعني- أنه لا يجوز لأية دولة أن تسمح باستعمال أراضيها لشن حملة معادية على دولة أخرى.‏

              ثانياً- التدخل غير المسلح أو التدخل الهدام:‏

              لقد تركز البحث في التدخل حتى الآن على التدخل التقليدي في الشؤون الداخلية لدولة أخرى بواسطة القوة المسلحة. ومن الواضح أن هذا لا يمثل الشكل الوحيد الممكن للتدخل. فهنالك التدخل الهدام الذي يتم من قبل الدول أو من قبل جماعات خاصة.‏

              1-التدخل الهدام من قبل الدول:‏

              يعتبر التدخل الهدام من قبل الدول من أكثر المشكلات صعوبة في هذا المجال. ففي عالم يمزقه عدد من الأيديولوجيات المتنافسة، وتسيطر فيه أنظمة حكم ديكتاتورية أو فاشستية في عدة دول وبشروط لا تتفق مع أبسط متطلبات الكرامة الإنسانية، أجل في مثل هذا العالم، يواجه الباحث في مسائل القانون الدولي بمعضلة ذات أبعاد ليست بالصغيرة.‏

              آ-الالتزام القانوني بالامتناع عن التدخل:‏

              يوجد التزام قانوني على كل دولة لا شك فيه، تكرر في "ميثاق الأمم المتحدة"، بالامتناع عن التدخل واحترام السلامة الاقليمية والاستقلال السياسي لجميع الدول الأخرى. ويوجد في الوقت ذاته واجب أو التزام قانوني مماثل على كل دولة بالامتناع عن كل تدخل هدام، أي الامتناع عن القيام بدعاية أو بإصدار بيانات رسمية أو تشريعات من أي نوع كان بقصد إثارة تمرد، أو فتنة، أو خيانة، ضد حكومة دولة أخرى.‏

              وبتاريخ الثالث من تشرين الثاني نوفمبر) عام 1947م اتخذت "الجمعية العامة للأمم المتحدة" قراراً بالاجماع بشأن إدانة جميع أشكال الدعاية التي تثير الفتن، ولكنها اقتصرت في ذلك على الدعاية التي قد تثير تهديدات للسلام أو عملاً عدوانياً. وبتاريخ الأول من كانون الأول ديسمبر) 1949، حثت "الجمعية العامة" جميع الدول على الامتناع، ضمن أمور أخرى، عن أية تهديدات أو أعمال تهدف إلى إثارة حرب أهلية أو تقويض إرادة الشعب في أية دولة أخرى، وهو طلب تكرر بلهجة تعبّر عن قلق أعمق بتاريخ السابع عشر من تشرين الثاني نوفمبر) 1950م.‏

              كانت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي في طليعة الدول التي دانت التدخل الهدام.(33) ومما لا شك فيه أن العالم سيكون مكاناً أكثر سلماً وأمناً للجميع إذا تلاشت المهاترات المتبادلة ومحاولات إفساد سكان دول أخرى. وقد قال الرئيس الأمريكي السابق "إيزنهاور" بتاريخ السادس عشر من نيسان ابريل) 1953في هذا الصدد ما يلي:‏

              "إن حق أية دولة في اختيار شكل حكومتها ونظامها الاقتصادي هو حق ثابت. وأن محاولة أية دولة لفرض شكل حكومتها على دولة أخرى أمر لا يمكن تبريره أو الدفاع عنه"(34)‏

              ب-مشكلات التدخل الهدام:‏

              وبالطبع فإن المشكلة هي أنه بالرغم من أن ولاية أية دولة هي ولاية اقليمية تنحصر داخل أراضيها، فإن لدول كثيرة مصالح في الخارج، أو أنها تنتهج سياسة خارجية تؤثر على دول أخرى، وغالباً ما يكون هذا التأثير في الصميم إلى أبعد حد. وحينما يبدو بأن مثل هذه السياسة الخارجية أو مثل هذه المصالح في الخارج تستدعي الحاجة إلى حكومة أكثر وداً، أو أسهل انقياداً، أو أكثر تطرفاً، أو أكثر محافظة في دولة أخرى لخدمة مصالح الدولة الأولى على نحو أفضل، فإن الإغراء سيكون كبيراً، في الواقع، للقيام بمحاولة تخريب الدولة الأخرى بطريقة يمكن معها تحقيق النتائج المرغوبة. وأن مشكلة مواجهة مثل هذا التدخل الهدام تزداد تعقيداً إلى حد لا يصدق بسبب اعتبارات تتعلق بحرية التعبير عن الرأي التي يمكن أن تكون سائدة في دولة معينة، وبالمشكلات الفنية التي ينطوي عليها وقف الدعاية عبر الحدود الوطنية.‏

              ج-التسلل من جانب حكومات أجنبية:‏

              عُرفت أنواع معينة من التدخل الهدام منذ وقت طويل وحُظرت بموجب أحكام القانون الدولي العام العرفي أو الاتفاقي، ولكن التقدير يصبح أصعب بكثير في حالة قيام منظمة حكومية أجنبية بالتسلل، وذلك لأن العادة جرت على أن تستغل الدولة القائمة بالتدخل مواطني الدولة التي تجري الأعمال الهدامة فيها، وغالباً ما يكون من الصعب تحديد مدى اعتماد هؤلاء المواطنين على تلك المنظمة. غير أنه إذا أصبح في الإمكان إقامة الدليل على أن المتسللين هم عملاء دولة أجنبية، فإن البينة على التدخل غير المشروع تصبح متوفرة، شريطة ألا تسمح قوانين الدولة التي تكتشف التدخل بمثل هذا المدى الذي وصل إليه التدخل. ومن الواضح أن أي عمل مكشوف أو دعاية مكشوفة من جانب دولة ما بقصد تحريض شعبها على ارتكاب عدوان ضد دولة أخرى، أو تحريض دولة ثالثة على ارتكاب مثل هذا العدوان، يعتبر عملاً غير مشروع. والمقياس المعياري الواجب تطبيقه على أية ممارسة لتحديد صلتها بالتدخل، يجب أن يكون وجود أو عدم وجود "خطر حالّ وواضح".(35)‏

              2-التدخل الهدام من قبل جماعات خاصة:‏

              آ-مضمونه:‏

              لقد عالج البحث حتى الآن أعمال الحكومات التي تروّج لشكل ما من أشكال التدخل الهدام. وحينما تصدر مثل هذه الأعمال عن أفراد أو جماعات خاصة، فإن الحكومات ترفض عادة قبول المسؤولية عنها. ومن الواضح أن الدولة التي تتأثر سلباً بالدعاية المنطلقة من مصادر خاصة في دولة مجاورة، لا تكتفي بالاحتجاج على هذا العمل فقط، وإنما تحاول أيضاً منع وصول الدعاية الهدامة إلى مواطنيها عن طريق الرقابة الصحفية، والتشويش على البث الإذاعي وعلى البث التلفزيوني الخ... ومن الانصاف القول، أن مثل هذه التدابير الدفاعية، مهما تكن طبيعتها، هي من حق أية حكومة، ولا يمكن اعتبارها تدابير غير مشروعة، ومع ذلك، ألاّ تشجع دولة ما الأعمال الهدامة، وبالتالي تروج لنوع من أنواع التدخل، حينما تسمح لمواطنيها بالقيام بالدعاية ضد دولة أخرى عبر الحدود؟ وألا تعتبر الدولة، حين تواصل جهودها لمنع الدعاية التي تتخذ من الاقليم المجاور منطلقاً لها، بأنها تمارس حق الدفاع عن النفس؟‏

              ب-القذف العلني والافتراء على حكومات أجنبية:‏

              هناك وجه آخر لهذه المشكلة يتعلق بالقذف العلني والافتراء على الحكومات الأجنبية. فإذا تلفظ الأفراد العاديون بتعابير تتضمن قذفاً علنياً على حكومة أجنبية، فإن المسؤولية عن ذلك العمل لا تنتقل إلى حكوماتهم. ومع ذلك فإن هناك عدداً من الدول الديموقراطية التي تبدي استعدادها لمحاكمة مواطنيها بتهمة القذف العلني بحق حكومات أجنبية أو رؤساء هذه الحكومات، شريطة المعاملة بالمثل في هذا الشأن، أي أن تنزل الدولة موضوع القذف العلني عقوبات مماثلة بحق مواطنيها إذا هم أقدموا على ارتكاب أعمال مماثلة.‏

              غير أنه إذا اشترك موظف حكومي في مثل هذه الأعمال فإن من واجب حكومته منعه، أو تأنيبه، أو حتى معاقبته، إذا أريد الابقاء على علاقات ودية مع الحكومة التي يدعي بأنها كانت موضع افتراء أو قذف علني، ومن جهة ثانية، فإن الملاحظات التي يُدّعي بأنها تنطوي على افتراء والصادرة عن موظف محلي غير مرتبط بالحكومة الوطنية لا تثير أية مسؤولية وطنية، إلا إذا تطلبت اعتبارات سياسية بالطبع تقديم اعتذار رسمي إلى حكومة الدولة أو رئيس الدولة موضوع الافتراء.‏

              كذلك يجب ألا يعتبر البث الإذاعي الخاص أو البث التلفزيوني الخاص اللذين يهاجمان أو يقذفان بحق الحكومات الأجنبية على أنهما يستتبعان المسؤولية الدولية للدولة، إلا إذا صدرت البيانات الهجومية من محطة أو شبكة تملكها الحكومة أو تخضع لسيطرتها.‏

              ج-مشكلات الرقابة:‏

              تعتبر مشكلة فرض رقابة معقولة على أنشطة الدعاية الدولية من الخطورة بحيث يبدو أنه من المرغوب فيه جداً إجراء المزيد من البحث الذي يسفر عن القيام بعمل ما في هذا الشأن من خلال عقد اتفاقيات متعددة الأطراف. غير أن الصعوبات الواضحة التي تعترض سبيل مثل هذه الرقابة يعتقد أنها من طبيعة تجعل أية هيئة دولية مترددة في أن تبدأ ولو ببداية متواضعة، في القيام بهذه المهمة، وعلى الرغم من كثرة ما كتب حول هذا الموضوع فإنه لم يتحقق إلا القليل على الصعيد العملي. ومع أنه تم عقد اتفاقات كثيرة، إلا أنه لم ينتج عنها حتى ما يقترب من قانون اقليمي. وما دامت الخلافات العقائدية تقسم دول العالم إلى جماعات متناحرة، فإن ثمة أملاً ضعيفاً في التوصل إلى نظام عملي ومعقول للرقابة، ولعل أكثر ما يستطيع المرء أن يأمل فيه في الوقت الحاضر هو التمكن من التوصل إلى التزام متبادل برقابة، أو حتى منع، الدعاية الهدامة التي تستهدف الدول المعنية، ويكون هذا الالتزام مقبولاً منها.‏

              المطلب الثاني -واجبات أخرى للدول‏

              أولاً- واجب الامتناع عن إثارة الاضطرابات الداخلية:‏

              هنالك واجب مفروض على الدول مسلم به نظرياً بصورة عامة، ولكنه كثيراً ما يتعرض للانتهاك عملياً هو واجب الامتناع عن إثارة الاضطرابات الداخلية في إقليم دولة أخرى، والحيلولة دون تنظيم أنشطة في اقليمها تهدف إلى إثارة مثل هذه الاضطرابات الداخلية. ولقد تمت معالجة هذا الواجب عند البحث في واجب الامتناع عن التدخل، على الرغم من أن مشروع إعلان حقوق وواجبات الدول الذي أعدته "لجنة القانون الدولي التابعة للامم المتحدة" المذكور في بداية البحث يدرجه في بند مستقل.‏

              ثانياً- واجب عدم تهديد السلام والنظام الدوليين والاقليميين‏

              يقع على عاتق كل دولة واجب التأكد من أن الأحوال السائدة ففي أقليمها لا تؤدي إلى تهديد السلام والنظام الدوليين والاقليميين ويعتبر هذا الواجب نتيجة طبيعية معقولة لمفهوم السيادة الوطنية، حيث يفترض في كل دولة تنفرد وحدها بالسلطة في اقليمها أن تستخدم مثل هذه السلطة بطريقة فعالة للحيلولة دون وقوع خطر يهدد الدول المجاورة.‏

              وحينما تخفق دولة ما في المحافظة على درجة كافية من السيطرة للحيلولة دون وقوع مثل هذا الخطر على جاراتها، فإنها ستكون ملزمة بتحمل المسؤولية عن النتائج المترتبة على إخفاقها كحكومة دولة ذات سيادة.(36)‏

              ثالثاً- واجب تسوية المنازعات الدولية بالطرق السلمية:‏

              يقع على عاتق كل دولة واجب الالتزام بتسوية المنازعات الدولية بالطرق السلمية التي حددها الفصل السادس من "ميثاق الأمم المتحدة" فقد نصت الفقرة الثالثة من المادة الثانية من "الميثاق" ما يلي:‏

              - يقوم أعضاء المنظمة بتسوية منازعاتهم الدولية بالوسائل السلمية على وجه من شأنه ألا يعّرض السلام والأمن الدوليين والعدل للخطر".‏

              كما نصت المادة /33/ من "الميثاق" ما يلي:‏

              1-يجب على أطراف أي نزاع من شأن استمراره أن يعرض حفظ السلام والأمن الدوليين للخطر أن يلتمسوا حلّه، بادئ ذي بدء، بطريق المفاوضة، أو التحقيق، أو الوساطة، أو التوفيق، أو التحكيم، أو التسوية القضائية، أو اللجوء إلى الوكالات أو التنظيمات الاقليمية، أو غيرها من الوسائل السلمية التي يقع اختيارهم عليها.‏

              2-ويدعو مجلس الأمن أطراف النزاع إلى أن يسووا ما بينهم من النزاع بتلك الوسائل إذا رأى ضرورة لذلك.‏

              وقد ذهب "الميثاق" إلى حد فرض عقوبات اقتصادية وسياسية وعسكرية على الدولة المعتدية، ولكن بالطبع، ضمن الشروط التي تأتلف مع مبدأ سيادة الدول، ومنذ توقيع الميثاق، ظهر للوجود عدد كبير من الاتفاقات الثنائية والجماعية، وكلها تنص على واجب الدول بتسوية منازعاتها بالطرق السلمية وعدم اللجوء إلى الحرب إلا في حالة الدفاع المشروع. لهذا يمكن القول بأن هذا الالتزام أصبح واحداً من الواجبات الرئيسية للدولة في عصرنا هذا، رغم عدم تقيد عدد من الدول الأعضاء في المنظمة به حين تندفع وراء مطامعها السياسية أو الاقتصادية متناسية بذلك واجبها القانوني هذا.(37)‏

              رابعاً -واجب الامتناع عن اللجوء إلى الحرب:‏

              يقع على عاتق كل دولة واجب الامتناع عن الالتجاء إلى الحرب كأداة لسياستها الوطنية، والامتناع عن كل تهديد باستخدام القوة أو استخدامها سواء ضد السلامة الاقليمية أم الاستقلال السياسي لدولة أخرى، أو على وجه آخر يتعارض مع القانون والنظام الدوليين. فقد تضمن "ميثاق الأمم المتحدة" قيداً هاماً على مبدأ السيادة المطلقة في مظهره الخارجي. فالأصل أن من الحقوق التي تتفرع على السيادة حق كل دولة في إعلان الحرب أو اتخاذ موقف الحياد في حرب قائمة بين غيرها من الدول. غير أن "ميثاق الأمم المتحدة" قضى على ذلك، لأنه قام على فكرة نبذ الحروب والامتناع عنها، ووجوب استتباب السلم والأمن الدوليين، وقد تضمن "الميثاق" أحكاماً صريحة في هذا الخصوص ومن ذلك:‏

              -ديباجة الميثاق، والتي جاء فيها ما يلي:‏

              "نحن شعوب الأمم المتحدة، وقد آلينا على أنفسنا:‏

              أن ننقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب التي في خلال جيل واحد جلبت على الإنسانية مرتين أحزاناً يعجز عنها الوصف... وفي سبيل هذه الغايات اعتزمنا:‏

              * أن نأخذ أنفسنا بالتسامح، وأن نعيش معاً في سلام وحسن جوار.‏

              *وأن نضم قوانا كي نحتفظ بالسلم والأمن الدوليين.‏

              *وأن نكفل، بقبولنا المبادئ وبوضعنا الأساليب، عدم استخدام القوة المسلحة، إلا في سبيل المصلحة المشتركة.‏

              المادة الأولى من "الميثاق" والتي جاء فيها:‏

              "إن مقاصد الأمم المتحدة هي:‏

              1-حفظ السلام والأمن الدوليين، وتحقيقاً لهذه الغاية تتخذ الهيئة التدابير المشتركة الفعالة لمنع الأسباب التي تهدد السلم ولازالتها، وتقمع أعمال العدوان وغيرها من وجوه الإخلال بالسلم."‏

              -الفقرتان الثالثة والرابعة من المادة الثانية.‏

              -الفصلان السادس والسابع من الميثاق.‏

              ومما لا شك فيه أن الأحكام الواردة في "الميثاق" تعتبر التزامات صريحة في عدم التجاء الدول إلى إعلان الحرب أو الاشتراك فيها، وهي بذلك تنفي حق الدولة في الاستناد إلى السيادة في هذا النطاق. على أن "الميثاق" استثنى من ذلك حالة واحدة، هي حالة الدفاع المشروع عن النفس.(38) وكنا قد أشرنا إلى ذلك في المبحث الأول عند معالجة حق الدفاع المشروع عن النفس. وتجدر الإشارة هنا إلى أن واجب الامتناع عن اللجوء إلى الحرب يعتبر جزءاً لا يتجزأ من واجب عدم التدخل، إلا أن "مشروع إعلان حقوق وواجبات الدول" الملمح إليه آنفاً، والمذكور في بداية هذا البحث، يدرجه في بند مستقل.‏

              خامساً- واجب الامتناع عن مساعدة الدولة المعتدية والتعاون مع الأمم المتحدة في نظام الأمن الجماعي:‏

              إن أساس التنظيم الدولي الذي نعيشه اليوم متمثلاً في "هيئة الأمم المتحدة" والمنظمات الاقليمية هو فكرة الأمن الجماعي التي تعني بايجاز التصدي الجماعي للمعتدي ونجدة المعتدى عليه ضماناً للسلم والأمن الدوليين.‏

              وعلى هذا نجد أن الفقرة الخامسة من المادة الثانية من "الميثاق" تنص على مايلي:‏

              "يقدم جميع الأعضاء كل ما في وسعهم من مساعدة إلى الأمم المتحدة) في أي عمل تتخذه وفق هذا الميثاق، كما يمتنعون عن مساعدة أية دولة تتخذ الأمم المتحدة) إزاءها عملاً من أعمال المنع أو القمع".‏

              وهكذا فإن هذا الواجب يتفرع إلى واجبين:‏

              أحدهما: سلبي يتمثل في عدم الانحياز إلى جانب الدولة التي تؤدبها الأمم المتحدة).‏

              وثانيهما: إيجابي يتمثل في ضرورة وضع الدولة كل إمكانياتها تحت تصرف الأمم المتحدة) في إعمال الفصل السابع من الميثاق.(39)‏

              سادساً- واجب الامتناع عن الاعتراف بالتوسع الاقليمي:‏

              يقع على عاتق كل دولة واجب الامتناع عن الاعتراف بأي مكسب اقليمي تناله دولة أخرى اخلالاً بنصوص "الميثاق" وخاصة الفقرة الرابعة من المادة الثانية منه والمتعلقة بالامتناع عن التهديد باستخدام القوة أو استخدامها. ومما يؤسف له إن هذا الواجب لم يكن موضع احترام دائم من قبل الدول الأعضاء في المنظمة، ومن ذلك احتلال الأراضي العربية، وما نتج عنه من استعمال الشعب في هذه الأراضي حقه المشروع في المقاومة.‏

              سابعاً- واجب تنفيذ الالتزامات الدولية بحسن نية:‏

              يقع على عاتق كل دولة واجب تنفيذ الالتزامات الناشئة عن المعاهدات الدولية وغيرها من مصادر القانون الدولي بحسن نية، ولا يجوز لأية دولة أن تستند إلى نصوص دستورها أو قوانيها كعذر لاخفاقها في أداء هذا الواجب.‏

              ويعتبر مبدأ "العقد شريعة المتعاقدين" من أقدم مبادئ القانون الدولي، حتى وإن كانت هناك خلافات في الرأي فيما يتعلق بالطبيعة المطلقة لهذا المبدأ، وكذلك فيما يتعلق بالظروف التي يمكن في ظلها اهمال هذا المبدأ بصورة قانونية. ويمثل واجب تنفيذ الالتزامات بحسن نية شرطاً جوهرياً وأساسياً لأي نظام قانوني، على الرغم من أن نطاق هذا الواجب يمكن أن يكون موضوعاً لتفسيرات مختلفة.‏

              ثامناً- واجب التقيد بالقانون الدولي:‏

              يقع على عاتق كل دولة واجب التقيد في علاقاتها مع الدول الأخرى بأحكام القانون الدولي، ويمثل هذا الواجب، كالواجب السابق، شرطاً أساسياً لوجود نظام قانوني، وعلى الرغم من أنه لا يمكن توقع الانصياع لأحكام القانون الدولي -على غرار أي قانون آخر- في كل حالة، فإن الواجب الأساسي لا يمكن انكاره، وهو واجب ملزم لكل دولة.‏

              تاسعاً -واجب الحيلولة دون التلوث:‏

              يقع على عاتق كل دولة واجب حديث العهد تماماً هو اتخاذ التدابير اللازمة للحيلولة دون القيام بأي عمل داخل أراضيها يلوث بأي شكل من الأشكال مياه دولة مجاورة أو أجواءها. ولا يوجد حتى الآن قانون اتفاقي حول هذا الموضوع. ولكن "المبادئ العامة للعدالة" تشير إلى وجود مثل هذا الواجب على ما يبدو، وأخص بالذكر مبدأ التعسف في استعمال الحق. وتجدر الإشارة بهذا الصدد إلى القرار الذي أصدرته محكمة التحكيم في "قضية مصنع صهر المعادن" في شهر آذار من عام/ 1941 بشأن الضرر اللاحق بولاية واشنطن الولايات المتحدة) جراء الأبخرة المتصاعدة من مصنع لصهر المعادن في كولومبيا البريطانية كندا) فقد أكدت المحكمة في قرارها أنه:‏

              "بمقتضى مبادئ القانون الدولي، لا يحق لأية دولة أن تستعمل اقليمها أو تسمح باستعماله بطريقة تتسبب، نتيجة للأبخرة، في الحاق الضرر باقليم دولة أخرى، أو بالممتلكات، أو بالأشخاص في هذه الدولة، كما يعتبر دومينيون كندا مسؤولاً أيضاً بمقتضى القانون الدولي عن إدارة مصنع صهر المعادن"(40) .‏

              كما ينادي البعض باعتبار الدولة التي تستعمل اقليمها بقصد إجراء تجارب ذرية مسؤولة عن الأضرار التي تنتج عن الإشعاعات الذرية وعن الغبار الذي يصل إلى أقاليم الدول الأخرى.‏

              عاشراً- واجب منع التزييف:‏

              يقع على عاتق كل دولة واجب منع تزييف النقد والعملات وطوابع البريد والسندات المالية العائدة لدولة أخرى، ولقد اعتبرت بعض الدول نفسها ملزمة بمنع التزييف وذلك بسنّها التشريع الداخلي المناسب، حتى ولو لم تكن منضمة إلى اتفاقيات دولية تقضي بمنع مثل هذه الممارسات.‏

              ومهما يكن من أمر، فإن حلول حالة حرب يلغي الواجب الموضوع في البحث تجاه الدول العدوّة، تماماً كما هو الحال بالنسبة إلى جميع الواجبات الأخرى للدول عملياً. ففي الحرب العالمية الثانية زيفت المانيا ورقة النقد البريطانية من فئة الخمسة جنيهات، بينما زيفت بريطانيا طوابع البريد الألمانية بغية الإسراع في إرسال بطاقات دعاية عن طريق البريد معنونة بأسماء عينات عشوائية من المواطنين الألمان في المدن التي تعرضت للقصف من قبل السلاح الجوي الملكي. فقد ألقيت من الطائرات حقائب -هي تقليد متقن للحقائب البريدية الألمانية الرسمية- مليئة بالبطاقات المعنونة والتي ألصقت عليها الطوابع على النحو المذكور، على أمل أن المواطنين الألمان، اعتقاداً منهم بأنهم سقطت من سيارات البريد خلال الفوضى الملازمة للقصف الجوي، سيقومون بنقلها إلى أقرب مركز للبريد لتوزيتعها على المرسل إليهم.‏

              حادي عشر- واجب احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية:‏

              شددت "لجنة القانون الدولي" على أنه يقع على عاتق كل دولة واجب معاملة جميع الأشخاص الخاضعين لسيادة الدولة على أساس المساواة واحترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية لهم دون تمييز بسبب العرق أو الجنس أو اللون أو الدين. وهذا الواجب منصوص في المادة السادسة من "مشروع إعلان حقوق وواجبات الدول". ومع ذلك، فإنه لا يمكن الإقرار بأن هذا الواجب موجود كقاعدة عامة، مهما كان جديراً بالإعجاب من وجهة نظر أخلاقية، وأن مدى التدخل الشديد، الذي لا شك فيه، في الشؤون الداخلية للدول ذات العلاقة بتطبيق هذا الواجب، يثير الشكوك حول وجود هذا الواجب ذاته. وقد يأتي يوم في المستقبل تقبل فيه غالبية الدول الأعضاء في المجتمع الدولي بهذا الواجب بمقتضى تشريع داخلي مناسب تسنه لهذا الغرض، وفي هذه الحالة يجب أن تكون الروح الإيجابية هي رائد الدولة عند تطبيقه قبل الإدعاء جدياً بأن هذا الواجب قائم ومنتج لمفاعيله.‏

              (1) - See, Gerhard von Glahn, Low Among Natians, Second edition, London, Macmillan, 1970, p.126.‏

              (2) -انظر، د. محمد عزيز شكري، مدخل إلى القانون الدولي العام، مطبعة جامعة دمشق، دمشق 1406-1407) -1986-1987م)- ص145-146.‏

              (3) -انظر، د. فؤاد شباط، الحقوق الدولية العامة، مطبعة الجامعة السورية، دمشق، 1375هـ 1956م ص145.‏

              (4) -انظر، د. علي صادق أبو هيف، القانون الدولي العام: منشأة المعارف، الاسكندرية، الطبعة السادسة، 1962-ص208.‏

              (5) - see, von Glahn, op. Cit, p.13/.‏

              (6) - see, von Glahn, op. Cit, p.131/.‏

              (7) - see, von Glahn, op. Cit, p.132/.‏

              (8) - "...in the event of instant and overwhelming necessity‏

              - ويقصد بحالة الضرورة القصوى الآنية الضرورة القصوى العاجلة التي لا يمكن تأجيلها.‏

              (9) - see, von Glahn, op. Cit, p.133/.‏

              (10) -انظر تعريف العدوان في د. شكري، المرجع السابق ص/505/‏

              (11) -انظر، د. شكري، المرجع السابق، ص/146/‏

              (12) -انظر، د. علي صادق أبو هيف، المرجع السابق، ص/209/.‏

              (13) -انظر، د.أبو هيف، المرجع السابق، ص209.‏

              (14) -وهو من كبار أساتذة القانون الدولي : Oppenheim‏

              (15) - see, von Glahn, op. Cit, p.126/.‏

              (16) -انظر، د. شباط، المرجع السابق، ص/149/‏

              (17) -انظر، على سبيل المثال، اتفاقية الرياض للتعاون القضائي القسم الجزائي: مادة 38 وما بعدها) الموقعة بمدينة الرياض من قبل الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية بتاريخي 23/ جمادى الثاني عام 1403هـ الموافق السادس من شهر إبريل نسيان) 1983م. والصادرة في الجمهورية العربية السورية بالقانون رقم /14/ وتاريخ 27/10/1983م.‏

              (18) - see, von Glahn, op. Cit, p.126/.‏

              (19) -انظر. د. شباط، المرجع السابق/ ص152/‏

              (20) - Act of state Doctrine‏

              (21) - see, von Glahn, op. Ci.p127.‏

              (22) -انظر، د. شباط، المرجع السابق ص153.‏

              (23) - see, von Glahn, op. Cit,p127.‏

              (24) -see,uinority school in albania Advisory opinion, permanent court of international Justice, 1435, ser. A/B, No. 64.‏

              (25) - see, von Glahn, op. Cit p.,128-4‏

              (26) -انظر د. أبو هيف، المرجع السابق، ص242.‏

              (27) -انظر، د. أبو هيف، المرجع السابق ص247.‏

              *)- الميكافيلية مذهب سياسي نادى به السياسي الايطالي مكيافيلي في كتابه "الأمير" ومؤداه أن السياسة لا علاقة لها بالأخلاق -وأن الغاية تبرر الوسيلة.‏

              (28) -انظر، د. شباط، المرجع السابق، ص،157.‏

              (29) -انظر، د.أبو هيف، المرجع السابق ص251.‏

              (30) -انظر، د. شكري، المرجع السابق، ص153.‏

              (31) - see, von Glahn, op. Cit., P.164.‏

              (32) - see, von Glahn, op. Cit.,p171.‏

              (33) - see, von Glahn, op. Cit., P.174.‏

              (34) - see, von Glahn, op. Cit, p.174‏

              (35) - see, von Glahn, op. Cit., P.175‏

              (36) - see, von Glahn, op. Cit., P.177.‏

              (37) -انظر، د. شكري، المرجع السابق، ص156.‏

              (38) -انظر، د.حامد سلطان، القانون الدولي العام في وقت السلم، دار النهضة العربية، القاهرة، 1962،ص/777.‏

              (39) -انظر، د. شكري، المرجع السابق، ص158.‏

              (40) - see, von Glahn, op. Cit., P.174‏
              إذا الشعب يوما أراد الحياة
              فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
              و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
              و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

              تعليق


              • #8
                رد: دراسات دولية

                الفرع الثاني- القانون الدولي العام الإسلامي وحقوق الدول وواجباتها

                تمهيد:‏

                لقد أناط التشريع الإسلامي تحقيق المصالح العامة بالدولة، وسلطاتها، ومؤسساتها، ممثلة في جهاز الحكومة وموظفيها على اختلاف مراتبهم وتنوع اختصاصاتهم، وكفاءاتهم، إقامة، وتنمية، وحفظاً.‏

                وهناك مصالح ضرورية، أو مقاصد عامة أساسية، تعتبر "مفاهيم دستورية" ومباني تشريعية تتفرع عنها أحكام تفصيلية، نصاً أو دلالة، تنزل بتلك المفاهيم الكلية من أفقها التجريدي إلى مواقع الوجود عملاً، وهي راجعة إلى مصالح الأمة، أفراداً وجماعات، بحيث تغطي كافة حاجاتهم ومطالبهم الأسياسية. وهذه المقاصد العامة الأساسية هي: الدين، والنفس، والمال، والعقل والنسل، ونوجزها فيما يلي:‏

                1-المحافظة على الدين:‏

                ويتم ذلك بأن تحمى الحقائق الدينية ممن يتعرض لها بالطعن، وقد روى البخاري وأبو داوود أن النبي ص) قال: من بدّل دينه فاقتلوه)، كما روى الجماعة أن النبي ص) قال: لا يحل دم امرئ مسلم إلا باحدى ثلاث: الثيّب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) وهو متفق عليه. ويتبع المحافظة على الدين المحافظة على حرية التدين، وحماية الشعائر الدينية، وألا يتطاول أهل دين على دين آخر بالأذى. وكما منع الإسلام الاعتداء على الذين لا يدينون به من رعايا الدول الإسلامية فإنه يمنع أيضاً أولئك الذين يعتدون على حرية التدين الإسلامي للذين يقيمون في دولة غير إسلامية.‏

                والمقصود هو المحافظة على الدين الإسلامي على أصوله المستقرة، لأنه قوام مُثُل المسلمين العليا، وفضائلهم الخلقية التي يمتازون بها إنسانياً وحضارياً، ويستهدفها سعيهم في حياتهم الدنيا، تلبية لحاجة روحية فطرية في الإنسان، وهي "فطرة التدين" وتحقيقاً لأصالتهم في وجودهم المعنوي داخلياً وعلى الصعيد الدولي، كأمة ذات خصائص ومقومات، فالدين والمثل العليا، من مستلزمات الوجود الإنساني أو مقوماته على الأصح(1) . وقد جهد الإسلام في تشريعه أن يحقق الوجود المعنوي للفرد، والأمة، والدولة على السواء، إذ هو المقصود من الوجود المادي، وقوام الوجود المعنوي للفرد والأمة يتمثل في العزّة والكرامة الإنسانية والحرية الإنسانية.‏

                2-المحافظة على الحق في الحياة وعصمة النفس:‏

                قال تعالى: "من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس" أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً سورة المائدة: الآية 32) وقال تعالى: "وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص، فمن تصدق به فهو كفارة له، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون" سورة المائدة: الآية 45).‏

                وقال تعالى: "يا أيها الذين آمنو كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والانثى بالأنثى" سورة البقرة: الآية 178)‏

                وقال تعالى: "ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق" سورة الأنعام: الآية 151)‏

                وقال تعالى: "ولا تقربوا الزنى أنه كان فاحشة وساء سبيلا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق" سورة الإسراء: الآية 32، 33)‏

                وقال تعالى: "والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون". سورة الفرقان: الآية 68).‏

                ويتبع المحافظة على النفس، المحافظة على الكرامة، وعلى الحرية وغيرها من مقومات الشخصية الإنسانية، وذلك أداء لأمانة التكليف، وعمارة الدنيا والاصلاح في الأرض. قال تعالى:‏

                "الذين إن مكناهم في الأرض، أقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر" وهذا تجنيد للأمة كلها للقيام بمهمة الاصلاح في الأرض بجميع وجوهه مادياً ومعنوياً، وهو أساس الحضارة الإنسانية.‏

                وفي الحقيقة، فإن حق الحياة في الإسلام مقدس وهو حق وواجب معاً.‏

                3-المحافظة على المال:‏

                قال تعالى: "والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا" سورة المائدة: الآية 38)‏

                وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت كان رسول الله ص) يقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً) رواه الجماعة إلا ابن ماجة.‏

                وعن عائشة رضي الله عنها: إن قريشاً أهمتهم المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا من يكلم فيها رسول الله ص)، ومن يجترئ عليه إلا أسامة حب رسول اللهص)، فكلم رسول الله ص) فقال: أتشفع في حد من حدود الله؟ ثم قام فخطب فقال: يا أيها الناس، إنما ضلّ من كان قبلكم، إنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها.(2)‏

                وهذا النوع من المحافظة يعم رعايا المسلمين ورعايا غيرهم، فاتلافه لا يجوز في الأرض الإسلامية وغيرها، لأن إفساد خيرات الأرض يتجافى عن خلافة الإنسان في هذه الأرض. كما أنه يتوجب استثمار هذه الأموال وتيسير السبل إلى ذلك بالطرق المشروعة، والتصرف فيها حسبما سنّ الشارع ورسم خشية أن تفنى أو لا تفي.‏

                4-المحافظة على العقل:‏

                قال تعالى: "إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه" سورة المائدة الآية 90).‏

                فعقول المسلمين جوهر فطرتهم الباطنية، وأساس إنسانيتهم ومناط التكليف والمسؤولية، وسبب التقدم الإنساني والحضاري، ثقافة وعلماً، وإبداعاً، وتدبيراً سياسياً بوجه خاص.‏

                ويكون حفظ العقول بتحصينها من كل ما يشل طاقاتها الفكرية المتجددة، وغير المحدودة، وذلك بتحريم ومنع السكر والمخدر من جهة، ويمنع التضليل الفكري بالنسبة للمستويات العقلية المحدودة عن طريق المجلات والكتب الوافدة الخ... بما تحمل من تيارات فكرية مضللة من جهة أخرى.‏

                5-المحافظة على النسل:‏

                والنسل مطلب تقتضيه الفطرة الإنسانية السليمة، من الأبوة والأمومة، ولذلك حرم الإسلام الزنى، وعمل على منع إشاعة الفاحشة، وأن هذا النوع من الحماية يكون على رعايا الدولة الإسلامية من مسلمين وغير مسلمين.(3)‏

                وإذا عدنا إلى الآيات القرآنية التي استشهدنا بها تحت عنوان المحافظة على الحق في الحياة على النحو المذكور أعلاه نجد أن كثيراً منها يقرن النهي عن قتل النفس بالنهي عن الزنى، ذلك أن بين الزنى وقتل النفس جهة جامعة، لان في الزنى قتلاً للنسل، وفي جريمة القتل قتل نفس واحدة، فإذا كانت جريمة القتل اعتداء على شخص واحد، فجريمة الزنى اعتداء على أنفس كثيرة، كانت تريد حياة كريمة فلم تنل الحياة، أو نالتها ذليلة مهينه.‏

                هذه هي خلاصة المقاصد العامة الأساسية التي أناط التشريع الإسلامي تحقيقها بالدولة الإسلامية، سواء على النطاق الداخلي أم على النطاق الدولي.‏

                وفي الحقيقة، فإن قواعد وأحكام القانون الدولي العام الإسلامي لا تخرج عن هذه المقاصد، سواء فيما تتمتع به الدولة الإسلامية من حقوق أم فيما يترتب عليها من واجبات في علاقاتها مع الدول الأخرى.‏

                وسوف نكتفي هنا ببحث الحقوق الطبيعية الأساسية للدولة الإسلامية دون الحقوق المكتسبة الثانوية التي تخضع في حكمها للمعاهدات أو العرف، لننتقل بعدها إلى بحث واجبات الدولة الإسلامية.‏



                المبحث الأول -الحقوق الطبيعية الأساسية للدولة الإسلامية‏

                المطلب الأول: حق الدولة في البقاء:‏

                يكون للدولة الإسلامية بل عليها أن تدفع ما يقع عليها من اعتداء عملاً بقوله تعالى:‏

                "أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير".‏

                سورة الحج/ 39/)‏



                ولكن رد الاعتداء محدود بقدره التزاماً بقوله تعالى:‏

                "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم".‏

                سورة البقرة /149/).‏

                والدولة الإسلامية لا تدع مجالاً للقول بنظرية المجال الحيوي التي نادى بها الفقهاء الألمان لتبرير توسيع دولتهم على حساب جيرانها بزعم أن الدول المتقدمة يتعذر عليها الاستمرار في التقدم والاستفادة من حيويتها إذا ظلت حبيسة حدودها ومقيدة تجاه جيرانها بقيود قانونية تحول دون انطلاقها خارج اقليمها، تنمية لنشاطها الاقتصادي وبحثاً عن المواد الأولية. وواضح أن الإسلام يرفض الأساس النظري لهذه النظرية لأنها تقوم على العدوان، كما أنه لا يترك لها مبرراً من الوجهة العملية لما يدعو إليه من حرية التجارة وتبادل المنافع والانتفاع بالموارد العامة.(4)‏

                المطلب الثاني: حق الدولة في الحرية الاستقلال):‏

                وهو حق أصيل للدولة الإسلامية، ولكن ترد عليه قيود من طبيعة الشريعة الإسلامية التي تحكمها، وللاستقلال مظهران في الفكر الإسلامي استقلال داخلي واستقلال خارجي.‏

                أولاً- الاستقلال الداخلي:‏

                يقتضي الاستقلال الداخلي هنا أيضاً، أن تكون للدولة الإسلامية حرية العمل السياسي والتشريعي والقضائي ضمن حدود اقليمها، وتفصيل ذلك كما يلي:‏

                1-حرية العمل السياسي:‏

                الدولة الإسلامية حرّة في اختيار نظامها السياسي، إلا أن تلك الحرية مقيدة بعدم خروج هذا النظام على الأسس العامة للتنظيم السياسي التي ورد بها نص قرآن أو سنة. وهي التي تملك وحدها تحدد علاقتها بشعبها فلا يجوز لغيرها التدخل في ذلك. وهي تحديد هذه العلاقة وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية التي تتيح ترك الحرية لغير المسلمين من الشعب إلى ما يدينون في شأن أحوالهم الشخصية، غير أن ذلك رخصة لا امتياز، فإذا انقلب إلى هذه الصورة على نحو ينتقص من سيادة الدولة كان لها الغاء هذه الرخصة.(5)‏

                وعلى ذلك فإن للدولة الهيمنة التامة ضمن حدود الشرع ويخضع الحاكم لرقابة الأمة ضمن أوامر الشرع، قال الله تعالى:‏

                "يا أيها الذين أمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم".‏

                سورة النساء /59)‏

                وقال النبي صلى الله عليه وسلم):‏

                "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، إنما الطاعة في المعروف" وطاعة الحاكم إذاً ضمن حدود الشرع، لا لشخصه، وإنما لما يتمثل فيه من تطبيق أحكام الشريعة، واحترام قواعدها، وتنفيذ حدودها وتحقيق أهدافها، لأن المعوّل عليه في الإسلام هو سيادة الشريعة الالهية المستمدة من الوحي الالهي المتمثل في القرآن الكريم والسنة، وما يؤول إليها من إجماع الفقهاء أولي الحل والعقد، واجتهاداتهم وفق مبادئ الشرع وقواعده وروحه التشريعية العامة.(6)‏

                2-الاستقلال التشريعي:‏

                والدولة الاسلامية هي وحدها التي تملك التشريع على اقليمها ليسري على كافة رعاياها مسلمين وذميين ومستأمنين، غير أنها مقيدة في ذلك بالتزام الأسس العامة التي ورد بها قرآن أو سنة، وذلك لأن الدولة الإسلامية تقوم أساساً كدولة تحمل فكرة ورسالة يلتزم المسلمون باعتناقها وتطبيقها وتبليغها.(7) التزاماً لقوله عز وجل:‏

                "وإن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله، ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون".‏

                سورة الأنعام/ 153/).‏

                "إن الحكم إلاّ لله" سورة يوسف/ 40/و/67)‏

                "إن الأمر كله لله" سورة آل عمران/172/)‏

                "فالحكم لله العلي الكبير" سورة غافر/ 12/)‏

                "وهو خير الحاكمين" سورة الأعراف /87/، سورة يوسف /80/‏

                سورة يونس /109/)‏

                "وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب، ومهيمناً عليه، فاحكم بينهم بما أنزل الله، ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق" سورة المائدة /48/)‏

                "أفحكم الجاهلية يبغون، ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون" سورة المائدة /50/)‏

                "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون" أو "الكافرون"أو "الفاسقون" سورة المائدة /44/و45/و47/)‏

                "وأن احكم بينهم بما أنزل الله لا تتبع أهواءهم"‏

                سورة المائدة /49/)‏

                وكما تحرص الدولة الإسلامية على سيادتها في مجال التشريع، فإنها لا تعتدي على سيادة الدول الأخرى في هذا المجال فيذهب أبو حنيفة وأبو يوسف ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل جميعاً إلى أن الشريعة الإسلامية لا تطبق على غير المسلم من مواطني الدولة غير الإسلامية في الوقائع التي تحدث خارج الدولة الإسلامية فلا تمتد ولاية التشريع الإسلامي إلى هذا الأجنبي حتى ولو دخل الدولة الإسلامية مستأمناً، بل يذهب أبو حنيفة ملتزماً حرفية نظرية اقليمية التشريع إلى أن التشريع الإسلامي لا يتناول رعايا الدولة الإسلامية فيما يرتكبون خارج الدولة الإسلامية.(8)‏

                3-الاستقلال القضائي:‏

                كذلك تنفرد الدولة الإسلامية بسلطة القضاء فلا يجوز أن يتولى القضاء إلا من توليه ذلك ويلاحظ أن ما أباحه الفكر الإسلامي للذميين من الترافع إلى محاكم خاصة من بينهم في شأن الأحوال الشخصية لا ينتقص من سيادتها. إذ فضلاً عن أن ذلك لا يعدو الرخصة، فإن هذه المحاكم إنما تستند في قضائها إلى سيادة الدولة الإسلامية التي مكنتها بإرادتها وحدها من تولي القضاء، كما تقوم بسلطاتها على تنفيذه، ومن ثم فهي تملك العدول عنه إذا ما خيف أن ينقلب إلى امتياز تحميه دول أجنبية بما ينتقص من السيادة.(9)‏

                ثانياً- الاستقلال الخارجي:‏

                يتضح مظهر الاستقلال الخارجي بما يقره القرآن الكريم من مبدأ توفير العزة والاستقلال للدولة الإسلامية، دون السماح لأية سلطة أخرى بانتقاص هذا الاستقلال أو محاولة التسلط على الدولة الإسلامية، قال الله تعالى:‏

                "ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا"‏

                سورة النساء /141/)‏

                "ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين"المنافقون /8/)‏

                والعزة تقتضي الاستقلال والمنعة والقوة في مواجهة الدول الأخرى فليس لأي دولة أخرى الحق في التدخل في شؤون الدولة الإسلامية، وبالمقابل فإن الدولة الإسلامية لا تمس سيادة الدول الأخرى إلا بمسوّغٍ كوجود حرب مشروعة لصد العدوان.(10)‏

                المطلب الثالث- حق الدولة في المساواة:‏

                جاء القرآن يعلن مساواة جميع الشعوب في قوله تعالى:‏

                "يا أيها الناس أنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا أن أكرمكم عند الله أتقاكم"‏

                سورة الحجرات/13/)‏

                "ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم"‏

                سورة فصلت/34/)‏

                ويقول النبي عليه الصلاة والسلام:‏

                "ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية"‏

                وبذلك حطم الإسلام كل دوافع الإخلال بالمساواة، ولقد شهد بعض الكتاب غير المسلمين بهذا ومنهم "المسترجب" في كتابه" حينما يكون الإسلام" والذي جاء فيه:‏

                "الإسلام ما زال في قدرته أن يقدم للإنسانية خدمة سامية جليلة، فليس هناك أية هيئة سواه يمكن أن تنجح نجاحاً باهراً في تأليف الأجناس البشرية المتنافرة في جبهة واحدة أساسها المساواة"(11) .‏

                وهكذا يمكن القول بأن القانون الدولي العام الإسلامي يقبل الوحدات السياسية المختلفة ضمن جماعة دولية تقوم على أساس الإقرار لها بحق المساواة"(12) .‏

                المطلب الرابع - حق الاحترام المتبادل:‏

                العلاقات الدولية في الإسلام، الأصل فيها "السلم" على الأصح، بل البر والإقساط والتعاون والرحمة، بالنسبة للأمم الأخرى، لقوله تعالى:‏

                "يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين" سورة البقرة /208/)‏

                والأصل أيضاً في العلاقات الدولية في الإسلام تحريم البغي والعدوان، أو التعاون والتحالف على العمل على ارتكابه، لأنه تعاون على الإثم، وهذا محرم بالنص، لقوله تعالى:‏

                "ولا تعاونوا على الإثم والعدوان" سورة المائدة /2/)‏

                "ولا تعتدوا إنه لا يحب المعتدين" سورة البقرة /190/)‏

                هذا ومن مقتضى كون الأصل في العلاقات الدولية -في الإسلام- هو السلم، أن التضامن الدولي واجب، وهو ما أشار إليه القرآن الكريم بالتعارف خطاباً موجهاً للناس كافة، لا إلى المسلمين فحسب، بدليل صدر الآية الكريمة:‏

                "يا أيها الناس أنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، أن أكرمكم عند الله أتقاكم" سورة الحجرات /13/)‏

                هذا بقطع النظر عن اختلاف الأصل أو الدين، وليس المقصود بالتعارف إلا التعاون، وهذا هو التواصل الحضاري الذي يؤكد تحقيق مبدأ السلم العالمي عملاً لقوله تعالى:‏

                "وتعاونوا على البر والتقوى" سورة المائدة /2/)‏

                والبر كلمة جامعة يندرج في مفهومها الكلي، كافة ضروب "التعاون" في سبيل الخير الإنساني العام، وفي مقدمتها المواثيق والمعاهدات والاتفاقيات بين الدول، في جميع مجالات الحياة، السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية والثقافية والعلمية، شريطة ألا تصادم أمراً قاطعاً أو تمس العقيدة أو المقاصد الأساسية لهذا التشريع.(13)‏

                يتبين مما تقدم أن الدولة الإسلامية تحترم الكيان المادي والمركز السياسي للدول الأخرى، كما وتحترم مركزها الأدبي، وبالمقابل فإن من حقها أن تطالب الدول الأخرى بمثل هذا الاحترام.‏



                المبحث الثاني -واجبات الدولة الإسلامية:‏

                يمكن القول هنا أيضاً بأن الواجبات القانونية للدولة الإسلامية تتلخص في:‏

                1-احترام الحقوق الأساسية المقررة للدول الأخرى.‏

                2-مراعاة دعائم العلاقات الإنسانية المستمدة من النصوص القرآنية والسنة النبوية.‏

                3-احترام العهود التي ارتبطت بها وتنفيذ تعهداتها بحسن نية.‏

                4-احترام العرف الصحيح في نطاق العلاقات الدولية.‏

                وقد أشرنا في المبحث الأول المتعلق بالحقوق الطبيعية الأساسية للدولة الإسلامية إلى ما يتفرع عن الالتزام الأول من واجبات، وسنعطي فكرة موجزة عن مؤدى بقية الالتزامات.‏

                المطلب الأول -واجب مراعاة دعائم العلاقات الإنسانية المستمدة من القرآن والسنة:‏

                اعتبر الإسلام الناس جميعاً امة واحدة، تجمعها الإنسانية، وإذا كانت الإنسانية واحدة، واختلافها من اختلاف رغبات الناس بحكم الغرائز، والاستجابة لها، فإن الإسلام ينظم العلاقات على أساس من وحدتها الجامعة، لا من مظاهرها المفرقة، وعلى هذا الأساس، قامت النظم الدولية في الإسلام: فلا تفرقة بالعنصرية، ولا بالغنى والفقر، ولا بالعلم والجهل، بل على أساس الحكم العادل بين الناس على سواء، وكل تفرقة بغير الحق تكون باطلة، ولا تصلح لقيام علاقة إنسانية صالحة للبقاء، وإنما يصلح للبقاء ما يكون نابعاً من الوحدة الإنسانية، فهي أساس العلاقات الدولية في الإسلام، قال تعالى:‏

                "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا"‏

                هذا النص القرآني الكريم هو أساس العلاقات الدولية كما نظمها القرآن وبينتها السنة، وقام عليها عمل النبي صلى الله عليه وسلم) وصحابته رضي الله عنهم) من بعده في الحرب والسلم على السواء. وهذا النص يقيم العلاقة على التعاون، وينفي أن يكون اختلاف العرق أو اللون دالاً على التباين في الحكم، فهم أن اختلفوا، فإن الأصل واحد، والحقوق والواجبات توجب التعاون والتلاقي عندها، ولا يتحقق هذا التعاون إلا بتحقيق ما بينه الإسلام من مبادئ نسلط عليها بعض الضوء فيما يلي:(14)‏

                أولاً- مبدأ التعاون الإنساني:‏

                التعاون في الإسلام مبدأ عام في كل الجماعات الإنسانية كما قرره القرآن، قال الله تعالى:‏

                "وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان" سورة المائدة /2/)‏

                وإن التعاون قوام الاسرة وقوام الأمة، وقد جاءت النصوص الدينية الإسلامية بتعميم التعاون في داخل الاقليم الواحد وفي نطاق الإنسانية.‏

                ويعلن النبي صلى الله عليه وسلم) إن الله يمد بالقوة كل من يعاون أخاه الإنسان في أي اقليم وفي أي موطن، فيقول عليه السلام:‏

                "الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه"‏

                ثانياً- مبدأ الكرامة:‏

                خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان ومعه الكرامة، بأصل الفطرة، ولا يمكن أن يتحقق التعارف الذي دعا إليه القرآن الكريم إلا إذا كان كلا المتعارفين كريماً غير مهين، وعزيزاً غير ذليل. ولقد أمر الله بتكريم الإنسان في أصل الخلق والتكوين، ولذلك أمر الله الملائكة أن يسجدوا لآدم أبي الخليقة الإنسانية. قال تعالى:‏

                "وإذ قلنا للملائكة اسجدوا ولآدم فسجدوا إلا ابليس أبى واستكبر وكان من الكافرين". سورة البقرة /33/)‏

                "ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا" سورة الإسراء /70/)‏

                وإن هذه الكرامة يستحقها الإنسان لأنه إنسان، بقطع النظر عن أي اعتبار آخر.‏

                ثالثاً- مبدأ التسامح:‏

                دعا الإسلام إلى التسامح غير الذليل، فهو يبني العلاقات الإنسانية سواء أكانت بين الآحاد أم كانت بين الجماعات، على التسامح من غير استسلام للشر أو تمكين للأشرار، قال تعالى:‏

                "ادفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم" سورة فصلت /34/)‏

                "فأفصح الصفح جميل" سورة الحِجْر /85/)‏

                والصفح الجميل أبرز ما يكون عند هزيمة الأعداء، فما كانت الحرب للثأر والانتقام بل لاعلاء كلمة الحق ودفع عدوان الباطل.‏

                رابعاً- مبدأ الفضيلة:‏

                التمسك بالفضيلة من أساس العلاقات الإنسانية في الإسلام، سواء أكانت بين الآحاد أم كانت بين الجماعات، وسواء أكانت العلاقة في حال الحرب أم في حال السلم، لأن قانون الأخلاق قانون عام والفضيلة حق لكل إنسان يستحقها بمقتضى إنسانيته، وقد تقرر ذلك في المبادئ الإسلامية التي تطبق على جميع أهل الأرض.‏

                قال الله تعالى:‏

                "إن أكرمكم عند الله أتقاكم" سورة الحجرات /13/)‏

                وأشد ما كان يدعو إليه القرآن في الأمر بالفضيلة هو ما يقترن بالجهاد خشية أن تندفع النفوس في حال احتدام القتال إلى ما يخالف ذلك المبدأ العام، قال عز وجل:‏

                "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين" سورة البقرة /194/)‏

                وإذا كان هذا النص القرآني قد اقرّ رد الاعتداء بمثله، إلا أنه أمر بالتقوى، وهي أن يجعل المؤمن بينه وبين غضب الله وقاية. فإذا انتهك العدو حرمات الفضيلة فإن المؤمن لا ينتهك. وبعبارة عامة لا يصح للمسلم أن يجاري الأعداء في مآثمهم، وما يرتكبونه في الحروب ضد الفضيلة الإنسانية العامة.‏

                خامساً- مبدأ العدالة:‏

                قامت كل علاقة إنسانية في الإسلام على العدالة فهي الميزان المستقيم الذي يحدد العلاقات بين الناس في حال السلم، وحال الحرب على السواء ففي السلم يكون حسن الجوار قائماً على العدل، وفي الحرب يكون الباعث عليها هو العدل، والعدالة حق للأعداء كما هي حق للأولياء، قال الله تعالى:‏

                "ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى" سورة المائدة /8/)‏

                واعتبر النبي صلى الله عليه وسلم) من يعاون الظالم على ظلمه خارجاً من الإسلام، فقد قال عليه السلام:‏

                "من مشى مع الظالم فقد خرج من الإسلام".‏

                سادساً-مبدأ المعاملة بالمثل:‏

                وهذا المبدأ شعبة من شعب العدالة، قال تعالى:‏

                "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم"‏

                سورة البقرة /194/)‏

                وقال عليه السلام:‏

                "عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به"‏

                وهذا المبدأ ينطبق على الدول كما ينطبق على الآحاد، وقد يقول قائل، إن المعاملة بالمثل تعارض التسامح والعفو، والجواب هو أن العفو حيث لا يمس العدالة، و.غمط حقوق الناس، أو رضاء بالعدوان.‏

                وموضوع العفو يكون بعد أن يتمكن صاحب الحق من حقه، فيعفو أو يأخذ.‏

                وإن العدالة لا تنافي الرحمة، بل إنها تلازمها، فحيث كانت العدالة كانت الرحمة، وهذا يفسر لنا قوله عليه السلام:‏

                "أنا نبي المرحمة، وأنا نبي الملحمة"‏

                وأن الملحمة، وهي القتال، لا تكون في الإسلام إلا ببواعث من العدالة والرحمة بالناس.‏

                سابعاً- مبدأ المودة:‏

                يعتبر الإسلام الناس جميعاً أمة واحدة، ومن هنا فإن الأخوة الإنسانية ثابتة يجب وصلها، ولا يصح قطعها، وقد أمر الله تعالى بأن توصل القلوب بالمودة، وإن الإسلام لا ينهي عن برّ كل من لا يعتدي على المسلمين. فالبر ثابت للمسلم وغير المسلم. قال الله تعالى:‏

                "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين"‏

                سورة الممتحنة/8/)‏

                وإن المودة الموصلة لا يقطعها الحرب، ولا الاختلاف ففي أثناء الحرب تنقطع العلاقات بين المسلمين والمحاربين بالفعل وحكامهم، أما رعايا الأعداء الذين لا يشتركون في القتال فإن مودتهم لا تنقطع، وكان النبي عليه السلام لا يقطع البر حتى عند الإختلاف، وفي الحرب، وعند الهدنة.‏

                المطلب الثاني -واجب الوفاء بالعهد:‏

                يعتبر الوفاء بالعهود أساس التلاقي بين الآحاد والجماعات على بصيرة وهداية وتعاون وثقة متبادلة، ولا تعارف إلا مع الثقة. ويجب تحقق الثقة بين الجماعات كالثقة بين الآحاد على سواء، ولذلك شدد الإسلام في وجوب الوفاء بالعهد، وعده من أسباب القوة لأنه من أسباب الثقة وقوة التعارف، قال الله تعالى:‏

                "وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم، ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها، وقد جعلتم الله عليكم كفيلا، إن الله يعلم ما تفعلون ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة انكاثاً تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به، وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون".‏

                سورة النحل /91/ و/92/)‏

                "يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود" سورة المائدة/1/)‏

                "وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا" سورة الإسراء /34/)‏

                "فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم" سورة التوبة/4/)‏

                "فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم" سورة التوبة /7/)‏

                "الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق" سورة الرعد /20/)‏

                "والموفون بعهدهم إذا عاهدوا" سورة البقرة /177/)‏

                وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم) على الوفاء بالعهود عامة، وعلى الوفاء بالعهود التي يعقدها رؤوساء الأمم في تنظيم العلاقات الدولية خاصة، قال عليه السلام.‏

                "لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له".‏

                وقد كان بينه وبين المشركين عهد، فوفى به، فذكر له بعض المسلمين أنهم على نية الغدر به، فقال عليه السلام:‏

                "وفوا لهم، ونستعين بالله عليهم"‏

                وكان ينهى عن الغدر بمقدار حثه على الوفاء، وكان يعتبر أعظم الغدر غدر الحكام، يقول عليه الصلاة والسلام:‏

                "لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدرته، ألا ولا غادر أعظم من أمير عامة".‏

                رواه أحمد ومسلم عن علي رضي الله عنه "نيل الأوطار /8/27/)‏

                وإذا كانت المعاهدات لا تستمد قوتها من نصوصها، بل من عزيمة عاقديها على الوفاء، فإن الإسلام حث على الوفاء، واعتبر الوفاء بالعهد والميثاق قوة، والنكث فيه أخذاً في أسباب الضعف.‏

                وهكذا يكون الإسلام قد وثق أصول القانون الدولي العام الإسلامي أحكم توثيق، وبناها على الوجدان الديني للدولة الإسلامية حيث لا يكون الوفاء للأقوياء، فقط، بل يكون هذا الوفاء للأقوياء والضعفاء على السواء.‏

                ولا نعلم ديناً ولا تشريعاً، قد رفع من شأن "العهد" إلى هذا المستوى من القداسة، وقد كان لقاعدة "حرمة المعاهدات وقدسيتها في السلم والحرب" أثرها في العمل على استقرار السلم والأمن الدوليين، من جهة، وعلى تأصيل روح الثقة فيمن يتعامل سياسياً مع الدولة الإسلامية، على الصعيد الدولي من جهة أخرى، مما يعتبر بحق من أهم خصائص سياسة الإسلام الخارجية العادلة.(15)‏

                المطلب الثالث -واجب احترام العرف الصحيح في نطاق العلاقات الدولية:‏

                يعرَّف "العرف" بأنه:‏

                "عادة جمهور قوم في قول أو عمل"‏

                والعرف مصدر تبعي من مصادر الأحكام، ويقوم على أساس الفقه أحكام متشعبة من شتى الأبواب والفصول الفقهية، لا يحصى عددها، ولا ينقضي تجددها، لأن الأحكام التي تخضعها الشريعة الإسلامية للعرف تتبدل بتبدله، فهي في تجدد مستمر، وهذا من أعظم عوامل القابلية للخلود في مباني الشريعة وفقهها.‏

                ويعد العرف في نظر الشريعة الإسلامية مستنداً عظيم الشأن لكثير من الأحكام العملية بين الناس في شتى شعب الفقه وأبوابه، وله سلطان واسع المدى في توليد الأحكام وتحديدها، وتعديلها وتجديدها، وإطلاقها وتقييدها، فهو وليد الحاجات المتجددة المتطورة.‏

                وفي اعتبار العرف تسهيل كبير يغني عن كثير من النصوص التفصيلية في الأحكام التشريعية وفي عقود المعاملات، اعتماداً على ما هو معروف ومألوف في شتى الوقائع المحتملة، والعرف لا تغني عنه نصوص التشريع والتقنين، لأنها لا يمكن أن تستوعب جميع التفصيلات والاحتمالات، كما أن الكثير من أحكامها الآمرة نفسها مبني على العرف، ويتبدل الحكم فيه بتبدل العرف.‏

                والاعتبار الشرعي للعرف مشروط بشرائط يجب توافرها في العرف لكي يعترف له بهذا السلطان.‏

                وتلك الشرائط التي يذكرها الفقهاء والأصوليون في مناسباتها المختلفة تتلخص بأربع:‏

                1-أن يكون العرف مطرداً أو غالباً.‏

                2-أن يكون العرف المراد تحكيمه في التصرف قائماً عند إنشائها.‏

                3-أن لا يعارض العرف تصريح بخلافة.‏

                4-أن لا يعارض العرف نص تشريعي، فإذا عارضه ففي اعتبار العرف تفصيل.(16)‏

                وقد راعى الفقهاء المسلمون العرف في علاقاتهم مع الدول غير الإسلامية، مما يمكن القول معه إن مراعاة العرف من قواعد القانون الدولي الإسلامي فمن أقوالهم في هذا الباب ما ذكره الإمام ابن قدامة الحنبلي في المغني:‏

                "وليس لأهل الحرب دخول دار الإسلام بغير أمان لأنه لا يؤمن أن يدخل أحدهم جاسوساً أو متلصصاً، فيضر المسلمين، فإن دخل بغير أمان سئل، فإن قال جئت رسولاً فالقول قوله، فإن كان معه متاع يبيعه قبل قوله أيضاً وحقن دمه لأن العادة جارية بدخول تجارهم إلينا وتجارنا إليهم" "المغني، ج /8/ ص/523/" وبمثل هذا قول الشافعي والمالكية اختلاف الفقهاء للطبري ص/33/ وشرح الخرشي ج3 ص/123) ويمكن أن يقاس على ما ذكره الفقهاء في رعاية العرف الصحيح الجاري بين الدول كل عرف آخر بينهم، وقد قعدوا قواعد مهمة في مجال العرف ووجوب رعايته، مثل:‏

                -المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً.‏

                -والثابت بالعرف كالثابت بالنص.‏

                -والعادة محكمة.‏

                -ولا ينكر تغير الأحكام بتغيير الأزمان أي الأحكام المبنية على العرف).‏

                ويمكن الاستناد إلى هذه القواعد في نطاق العلاقات الدولية، كما نلاحظ ذلك في كتابات الفقيه المشهور محمد بن الحسن الشيباني في كتابه" السير الكبير" وفي شرحه للإمام السرخسي.(17) وإن هناك مجالاً واسعاً للأخذ بقواعد القانون الدولي العام الحاضر القائمة على أساس العرف والمعاهدات، وهذان مصدران واسعان جداً يستقي القانون الدولي العام قواعده وأحكامه منهما، وإن الشريعة الإسلامية تجيز الأخذ بالعرف الصحيح في العلاقات الدولية، كما تجيز عقد المعاهدات مع الدول الأخرى، بشرط ألا تخالف الشريعة وتلزم بالوفاء بمضمونها.(18)‏

                (1) -انظر، د. فتحي الدريني، خصائص التشريع الإسلامي في السياسة والحكم، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1402هـ1982،ص204 الطبعة الأولى.‏

                (2) -البخاري على هامش فتح الباري، حـ12، ص78.‏

                -انظر أيضاً، أ. محمد أبو زهرة، الجريمة والعقوبة في الفقه الإسلامي المجلد الثاني: العقوبة، دار الفكر العربي، القاهرة 1974، ص134-135.‏

                (3) -انظر، أبو زهرة، المرجع السابق، ص44.‏

                (4) -انظر، 1، محمد كمال عبد العزيز، الشريعة الإسلامية والقانون الدولي العام بحث منشور في الجزء الأول من مجموعة القانون والعلوم السياسية، الحلقة الدراسية الثالثة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1392هـ 1972م ص307.‏

                (5) -انظر، محمد أبو زهرة، العلاقات الدولية في الإسلام، الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة /1384هـ-1964م/ ص64.‏

                (6) -انظر، د. وهبة الزحيلي، العلاقات الدولية في الاسلام، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1401هـ- 1981م/ص119.‏

                (7) -انظر، أ. محمد كمال عبد العزيز، المرجع السابق، ص308.‏

                (8) -انظر، 1. محمد كمال عبد العزيز، المرجع السابق ص309.‏

                (9) -انظر، أ. محمد كمال عبد العزيز، المرجع السابق، ص309.‏

                (10) -انظر، د. وهبة الزحيلي، المرجع السابق، ص118.‏

                (11) -انظر، أ. محمد كمال عبد العزيز، المرجع السابق، ص309.‏

                (12) -انظر د. محمد طلعت الغنيمي، الأحكام العامة في قانون الأمم، منشأة المعارف، الاسكندرية، 1970،ص281.‏

                (13) -انظر، د. فتحي الدريني، المرجع السابق ص/219/.‏

                (14) -انظر، أ. محمد أبو زهرة، الشريعة الإسلامية والقانون الدولي، بحث منشور في مجموعة القانون والعلوم السياسية، المرجع السابق. ص 233 ومابعدها.‏

                (15) -انظر، د. فتحي الدريني، المرجع السابق ص366.‏

                (16) -انظر أ. مصطفى أحمد الزرقاء، المدخل الفقهي العام، مطبعة الجامعة السورية، دمشق، 1371هـ-1952، ص579.‏

                (17) -انظر، د. عبد الكريم زيدان، المرجع السابق، ص163.‏

                (18) -انظر، د. عبد الكريم زيدان، المرجع السابق، ص199.‏
                إذا الشعب يوما أراد الحياة
                فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                تعليق


                • #9
                  رد: دراسات دولية

                  الفرع الثاني- القانون الدولي العام الإسلامي وحقوق الدول وواجباتها

                  تمهيد:‏

                  لقد أناط التشريع الإسلامي تحقيق المصالح العامة بالدولة، وسلطاتها، ومؤسساتها، ممثلة في جهاز الحكومة وموظفيها على اختلاف مراتبهم وتنوع اختصاصاتهم، وكفاءاتهم، إقامة، وتنمية، وحفظاً.‏

                  وهناك مصالح ضرورية، أو مقاصد عامة أساسية، تعتبر "مفاهيم دستورية" ومباني تشريعية تتفرع عنها أحكام تفصيلية، نصاً أو دلالة، تنزل بتلك المفاهيم الكلية من أفقها التجريدي إلى مواقع الوجود عملاً، وهي راجعة إلى مصالح الأمة، أفراداً وجماعات، بحيث تغطي كافة حاجاتهم ومطالبهم الأسياسية. وهذه المقاصد العامة الأساسية هي: الدين، والنفس، والمال، والعقل والنسل، ونوجزها فيما يلي:‏

                  1-المحافظة على الدين:‏

                  ويتم ذلك بأن تحمى الحقائق الدينية ممن يتعرض لها بالطعن، وقد روى البخاري وأبو داوود أن النبي ص) قال: من بدّل دينه فاقتلوه)، كما روى الجماعة أن النبي ص) قال: لا يحل دم امرئ مسلم إلا باحدى ثلاث: الثيّب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) وهو متفق عليه. ويتبع المحافظة على الدين المحافظة على حرية التدين، وحماية الشعائر الدينية، وألا يتطاول أهل دين على دين آخر بالأذى. وكما منع الإسلام الاعتداء على الذين لا يدينون به من رعايا الدول الإسلامية فإنه يمنع أيضاً أولئك الذين يعتدون على حرية التدين الإسلامي للذين يقيمون في دولة غير إسلامية.‏

                  والمقصود هو المحافظة على الدين الإسلامي على أصوله المستقرة، لأنه قوام مُثُل المسلمين العليا، وفضائلهم الخلقية التي يمتازون بها إنسانياً وحضارياً، ويستهدفها سعيهم في حياتهم الدنيا، تلبية لحاجة روحية فطرية في الإنسان، وهي "فطرة التدين" وتحقيقاً لأصالتهم في وجودهم المعنوي داخلياً وعلى الصعيد الدولي، كأمة ذات خصائص ومقومات، فالدين والمثل العليا، من مستلزمات الوجود الإنساني أو مقوماته على الأصح(1) . وقد جهد الإسلام في تشريعه أن يحقق الوجود المعنوي للفرد، والأمة، والدولة على السواء، إذ هو المقصود من الوجود المادي، وقوام الوجود المعنوي للفرد والأمة يتمثل في العزّة والكرامة الإنسانية والحرية الإنسانية.‏

                  2-المحافظة على الحق في الحياة وعصمة النفس:‏

                  قال تعالى: "من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس" أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً سورة المائدة: الآية 32) وقال تعالى: "وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص، فمن تصدق به فهو كفارة له، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون" سورة المائدة: الآية 45).‏

                  وقال تعالى: "يا أيها الذين آمنو كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والانثى بالأنثى" سورة البقرة: الآية 178)‏

                  وقال تعالى: "ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق" سورة الأنعام: الآية 151)‏

                  وقال تعالى: "ولا تقربوا الزنى أنه كان فاحشة وساء سبيلا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق" سورة الإسراء: الآية 32، 33)‏

                  وقال تعالى: "والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون". سورة الفرقان: الآية 68).‏

                  ويتبع المحافظة على النفس، المحافظة على الكرامة، وعلى الحرية وغيرها من مقومات الشخصية الإنسانية، وذلك أداء لأمانة التكليف، وعمارة الدنيا والاصلاح في الأرض. قال تعالى:‏

                  "الذين إن مكناهم في الأرض، أقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر" وهذا تجنيد للأمة كلها للقيام بمهمة الاصلاح في الأرض بجميع وجوهه مادياً ومعنوياً، وهو أساس الحضارة الإنسانية.‏

                  وفي الحقيقة، فإن حق الحياة في الإسلام مقدس وهو حق وواجب معاً.‏

                  3-المحافظة على المال:‏

                  قال تعالى: "والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا" سورة المائدة: الآية 38)‏

                  وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت كان رسول الله ص) يقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً) رواه الجماعة إلا ابن ماجة.‏

                  وعن عائشة رضي الله عنها: إن قريشاً أهمتهم المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا من يكلم فيها رسول الله ص)، ومن يجترئ عليه إلا أسامة حب رسول اللهص)، فكلم رسول الله ص) فقال: أتشفع في حد من حدود الله؟ ثم قام فخطب فقال: يا أيها الناس، إنما ضلّ من كان قبلكم، إنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها.(2)‏

                  وهذا النوع من المحافظة يعم رعايا المسلمين ورعايا غيرهم، فاتلافه لا يجوز في الأرض الإسلامية وغيرها، لأن إفساد خيرات الأرض يتجافى عن خلافة الإنسان في هذه الأرض. كما أنه يتوجب استثمار هذه الأموال وتيسير السبل إلى ذلك بالطرق المشروعة، والتصرف فيها حسبما سنّ الشارع ورسم خشية أن تفنى أو لا تفي.‏

                  4-المحافظة على العقل:‏

                  قال تعالى: "إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه" سورة المائدة الآية 90).‏

                  فعقول المسلمين جوهر فطرتهم الباطنية، وأساس إنسانيتهم ومناط التكليف والمسؤولية، وسبب التقدم الإنساني والحضاري، ثقافة وعلماً، وإبداعاً، وتدبيراً سياسياً بوجه خاص.‏

                  ويكون حفظ العقول بتحصينها من كل ما يشل طاقاتها الفكرية المتجددة، وغير المحدودة، وذلك بتحريم ومنع السكر والمخدر من جهة، ويمنع التضليل الفكري بالنسبة للمستويات العقلية المحدودة عن طريق المجلات والكتب الوافدة الخ... بما تحمل من تيارات فكرية مضللة من جهة أخرى.‏

                  5-المحافظة على النسل:‏

                  والنسل مطلب تقتضيه الفطرة الإنسانية السليمة، من الأبوة والأمومة، ولذلك حرم الإسلام الزنى، وعمل على منع إشاعة الفاحشة، وأن هذا النوع من الحماية يكون على رعايا الدولة الإسلامية من مسلمين وغير مسلمين.(3)‏

                  وإذا عدنا إلى الآيات القرآنية التي استشهدنا بها تحت عنوان المحافظة على الحق في الحياة على النحو المذكور أعلاه نجد أن كثيراً منها يقرن النهي عن قتل النفس بالنهي عن الزنى، ذلك أن بين الزنى وقتل النفس جهة جامعة، لان في الزنى قتلاً للنسل، وفي جريمة القتل قتل نفس واحدة، فإذا كانت جريمة القتل اعتداء على شخص واحد، فجريمة الزنى اعتداء على أنفس كثيرة، كانت تريد حياة كريمة فلم تنل الحياة، أو نالتها ذليلة مهينه.‏

                  هذه هي خلاصة المقاصد العامة الأساسية التي أناط التشريع الإسلامي تحقيقها بالدولة الإسلامية، سواء على النطاق الداخلي أم على النطاق الدولي.‏

                  وفي الحقيقة، فإن قواعد وأحكام القانون الدولي العام الإسلامي لا تخرج عن هذه المقاصد، سواء فيما تتمتع به الدولة الإسلامية من حقوق أم فيما يترتب عليها من واجبات في علاقاتها مع الدول الأخرى.‏

                  وسوف نكتفي هنا ببحث الحقوق الطبيعية الأساسية للدولة الإسلامية دون الحقوق المكتسبة الثانوية التي تخضع في حكمها للمعاهدات أو العرف، لننتقل بعدها إلى بحث واجبات الدولة الإسلامية.‏



                  المبحث الأول -الحقوق الطبيعية الأساسية للدولة الإسلامية‏

                  المطلب الأول: حق الدولة في البقاء:‏

                  يكون للدولة الإسلامية بل عليها أن تدفع ما يقع عليها من اعتداء عملاً بقوله تعالى:‏

                  "أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير".‏

                  سورة الحج/ 39/)‏



                  ولكن رد الاعتداء محدود بقدره التزاماً بقوله تعالى:‏

                  "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم".‏

                  سورة البقرة /149/).‏

                  والدولة الإسلامية لا تدع مجالاً للقول بنظرية المجال الحيوي التي نادى بها الفقهاء الألمان لتبرير توسيع دولتهم على حساب جيرانها بزعم أن الدول المتقدمة يتعذر عليها الاستمرار في التقدم والاستفادة من حيويتها إذا ظلت حبيسة حدودها ومقيدة تجاه جيرانها بقيود قانونية تحول دون انطلاقها خارج اقليمها، تنمية لنشاطها الاقتصادي وبحثاً عن المواد الأولية. وواضح أن الإسلام يرفض الأساس النظري لهذه النظرية لأنها تقوم على العدوان، كما أنه لا يترك لها مبرراً من الوجهة العملية لما يدعو إليه من حرية التجارة وتبادل المنافع والانتفاع بالموارد العامة.(4)‏

                  المطلب الثاني: حق الدولة في الحرية الاستقلال):‏

                  وهو حق أصيل للدولة الإسلامية، ولكن ترد عليه قيود من طبيعة الشريعة الإسلامية التي تحكمها، وللاستقلال مظهران في الفكر الإسلامي استقلال داخلي واستقلال خارجي.‏

                  أولاً- الاستقلال الداخلي:‏

                  يقتضي الاستقلال الداخلي هنا أيضاً، أن تكون للدولة الإسلامية حرية العمل السياسي والتشريعي والقضائي ضمن حدود اقليمها، وتفصيل ذلك كما يلي:‏

                  1-حرية العمل السياسي:‏

                  الدولة الإسلامية حرّة في اختيار نظامها السياسي، إلا أن تلك الحرية مقيدة بعدم خروج هذا النظام على الأسس العامة للتنظيم السياسي التي ورد بها نص قرآن أو سنة. وهي التي تملك وحدها تحدد علاقتها بشعبها فلا يجوز لغيرها التدخل في ذلك. وهي تحديد هذه العلاقة وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية التي تتيح ترك الحرية لغير المسلمين من الشعب إلى ما يدينون في شأن أحوالهم الشخصية، غير أن ذلك رخصة لا امتياز، فإذا انقلب إلى هذه الصورة على نحو ينتقص من سيادة الدولة كان لها الغاء هذه الرخصة.(5)‏

                  وعلى ذلك فإن للدولة الهيمنة التامة ضمن حدود الشرع ويخضع الحاكم لرقابة الأمة ضمن أوامر الشرع، قال الله تعالى:‏

                  "يا أيها الذين أمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم".‏

                  سورة النساء /59)‏

                  وقال النبي صلى الله عليه وسلم):‏

                  "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، إنما الطاعة في المعروف" وطاعة الحاكم إذاً ضمن حدود الشرع، لا لشخصه، وإنما لما يتمثل فيه من تطبيق أحكام الشريعة، واحترام قواعدها، وتنفيذ حدودها وتحقيق أهدافها، لأن المعوّل عليه في الإسلام هو سيادة الشريعة الالهية المستمدة من الوحي الالهي المتمثل في القرآن الكريم والسنة، وما يؤول إليها من إجماع الفقهاء أولي الحل والعقد، واجتهاداتهم وفق مبادئ الشرع وقواعده وروحه التشريعية العامة.(6)‏

                  2-الاستقلال التشريعي:‏

                  والدولة الاسلامية هي وحدها التي تملك التشريع على اقليمها ليسري على كافة رعاياها مسلمين وذميين ومستأمنين، غير أنها مقيدة في ذلك بالتزام الأسس العامة التي ورد بها قرآن أو سنة، وذلك لأن الدولة الإسلامية تقوم أساساً كدولة تحمل فكرة ورسالة يلتزم المسلمون باعتناقها وتطبيقها وتبليغها.(7) التزاماً لقوله عز وجل:‏

                  "وإن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله، ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون".‏

                  سورة الأنعام/ 153/).‏

                  "إن الحكم إلاّ لله" سورة يوسف/ 40/و/67)‏

                  "إن الأمر كله لله" سورة آل عمران/172/)‏

                  "فالحكم لله العلي الكبير" سورة غافر/ 12/)‏

                  "وهو خير الحاكمين" سورة الأعراف /87/، سورة يوسف /80/‏

                  سورة يونس /109/)‏

                  "وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب، ومهيمناً عليه، فاحكم بينهم بما أنزل الله، ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق" سورة المائدة /48/)‏

                  "أفحكم الجاهلية يبغون، ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون" سورة المائدة /50/)‏

                  "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون" أو "الكافرون"أو "الفاسقون" سورة المائدة /44/و45/و47/)‏

                  "وأن احكم بينهم بما أنزل الله لا تتبع أهواءهم"‏

                  سورة المائدة /49/)‏

                  وكما تحرص الدولة الإسلامية على سيادتها في مجال التشريع، فإنها لا تعتدي على سيادة الدول الأخرى في هذا المجال فيذهب أبو حنيفة وأبو يوسف ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل جميعاً إلى أن الشريعة الإسلامية لا تطبق على غير المسلم من مواطني الدولة غير الإسلامية في الوقائع التي تحدث خارج الدولة الإسلامية فلا تمتد ولاية التشريع الإسلامي إلى هذا الأجنبي حتى ولو دخل الدولة الإسلامية مستأمناً، بل يذهب أبو حنيفة ملتزماً حرفية نظرية اقليمية التشريع إلى أن التشريع الإسلامي لا يتناول رعايا الدولة الإسلامية فيما يرتكبون خارج الدولة الإسلامية.(8)‏

                  3-الاستقلال القضائي:‏

                  كذلك تنفرد الدولة الإسلامية بسلطة القضاء فلا يجوز أن يتولى القضاء إلا من توليه ذلك ويلاحظ أن ما أباحه الفكر الإسلامي للذميين من الترافع إلى محاكم خاصة من بينهم في شأن الأحوال الشخصية لا ينتقص من سيادتها. إذ فضلاً عن أن ذلك لا يعدو الرخصة، فإن هذه المحاكم إنما تستند في قضائها إلى سيادة الدولة الإسلامية التي مكنتها بإرادتها وحدها من تولي القضاء، كما تقوم بسلطاتها على تنفيذه، ومن ثم فهي تملك العدول عنه إذا ما خيف أن ينقلب إلى امتياز تحميه دول أجنبية بما ينتقص من السيادة.(9)‏

                  ثانياً- الاستقلال الخارجي:‏

                  يتضح مظهر الاستقلال الخارجي بما يقره القرآن الكريم من مبدأ توفير العزة والاستقلال للدولة الإسلامية، دون السماح لأية سلطة أخرى بانتقاص هذا الاستقلال أو محاولة التسلط على الدولة الإسلامية، قال الله تعالى:‏

                  "ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا"‏

                  سورة النساء /141/)‏

                  "ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين"المنافقون /8/)‏

                  والعزة تقتضي الاستقلال والمنعة والقوة في مواجهة الدول الأخرى فليس لأي دولة أخرى الحق في التدخل في شؤون الدولة الإسلامية، وبالمقابل فإن الدولة الإسلامية لا تمس سيادة الدول الأخرى إلا بمسوّغٍ كوجود حرب مشروعة لصد العدوان.(10)‏

                  المطلب الثالث- حق الدولة في المساواة:‏

                  جاء القرآن يعلن مساواة جميع الشعوب في قوله تعالى:‏

                  "يا أيها الناس أنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا أن أكرمكم عند الله أتقاكم"‏

                  سورة الحجرات/13/)‏

                  "ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم"‏

                  سورة فصلت/34/)‏

                  ويقول النبي عليه الصلاة والسلام:‏

                  "ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية"‏

                  وبذلك حطم الإسلام كل دوافع الإخلال بالمساواة، ولقد شهد بعض الكتاب غير المسلمين بهذا ومنهم "المسترجب" في كتابه" حينما يكون الإسلام" والذي جاء فيه:‏

                  "الإسلام ما زال في قدرته أن يقدم للإنسانية خدمة سامية جليلة، فليس هناك أية هيئة سواه يمكن أن تنجح نجاحاً باهراً في تأليف الأجناس البشرية المتنافرة في جبهة واحدة أساسها المساواة"(11) .‏

                  وهكذا يمكن القول بأن القانون الدولي العام الإسلامي يقبل الوحدات السياسية المختلفة ضمن جماعة دولية تقوم على أساس الإقرار لها بحق المساواة"(12) .‏

                  المطلب الرابع - حق الاحترام المتبادل:‏

                  العلاقات الدولية في الإسلام، الأصل فيها "السلم" على الأصح، بل البر والإقساط والتعاون والرحمة، بالنسبة للأمم الأخرى، لقوله تعالى:‏

                  "يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين" سورة البقرة /208/)‏

                  والأصل أيضاً في العلاقات الدولية في الإسلام تحريم البغي والعدوان، أو التعاون والتحالف على العمل على ارتكابه، لأنه تعاون على الإثم، وهذا محرم بالنص، لقوله تعالى:‏

                  "ولا تعاونوا على الإثم والعدوان" سورة المائدة /2/)‏

                  "ولا تعتدوا إنه لا يحب المعتدين" سورة البقرة /190/)‏

                  هذا ومن مقتضى كون الأصل في العلاقات الدولية -في الإسلام- هو السلم، أن التضامن الدولي واجب، وهو ما أشار إليه القرآن الكريم بالتعارف خطاباً موجهاً للناس كافة، لا إلى المسلمين فحسب، بدليل صدر الآية الكريمة:‏

                  "يا أيها الناس أنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، أن أكرمكم عند الله أتقاكم" سورة الحجرات /13/)‏

                  هذا بقطع النظر عن اختلاف الأصل أو الدين، وليس المقصود بالتعارف إلا التعاون، وهذا هو التواصل الحضاري الذي يؤكد تحقيق مبدأ السلم العالمي عملاً لقوله تعالى:‏

                  "وتعاونوا على البر والتقوى" سورة المائدة /2/)‏

                  والبر كلمة جامعة يندرج في مفهومها الكلي، كافة ضروب "التعاون" في سبيل الخير الإنساني العام، وفي مقدمتها المواثيق والمعاهدات والاتفاقيات بين الدول، في جميع مجالات الحياة، السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية والثقافية والعلمية، شريطة ألا تصادم أمراً قاطعاً أو تمس العقيدة أو المقاصد الأساسية لهذا التشريع.(13)‏

                  يتبين مما تقدم أن الدولة الإسلامية تحترم الكيان المادي والمركز السياسي للدول الأخرى، كما وتحترم مركزها الأدبي، وبالمقابل فإن من حقها أن تطالب الدول الأخرى بمثل هذا الاحترام.‏



                  المبحث الثاني -واجبات الدولة الإسلامية:‏

                  يمكن القول هنا أيضاً بأن الواجبات القانونية للدولة الإسلامية تتلخص في:‏

                  1-احترام الحقوق الأساسية المقررة للدول الأخرى.‏

                  2-مراعاة دعائم العلاقات الإنسانية المستمدة من النصوص القرآنية والسنة النبوية.‏

                  3-احترام العهود التي ارتبطت بها وتنفيذ تعهداتها بحسن نية.‏

                  4-احترام العرف الصحيح في نطاق العلاقات الدولية.‏

                  وقد أشرنا في المبحث الأول المتعلق بالحقوق الطبيعية الأساسية للدولة الإسلامية إلى ما يتفرع عن الالتزام الأول من واجبات، وسنعطي فكرة موجزة عن مؤدى بقية الالتزامات.‏

                  المطلب الأول -واجب مراعاة دعائم العلاقات الإنسانية المستمدة من القرآن والسنة:‏

                  اعتبر الإسلام الناس جميعاً امة واحدة، تجمعها الإنسانية، وإذا كانت الإنسانية واحدة، واختلافها من اختلاف رغبات الناس بحكم الغرائز، والاستجابة لها، فإن الإسلام ينظم العلاقات على أساس من وحدتها الجامعة، لا من مظاهرها المفرقة، وعلى هذا الأساس، قامت النظم الدولية في الإسلام: فلا تفرقة بالعنصرية، ولا بالغنى والفقر، ولا بالعلم والجهل، بل على أساس الحكم العادل بين الناس على سواء، وكل تفرقة بغير الحق تكون باطلة، ولا تصلح لقيام علاقة إنسانية صالحة للبقاء، وإنما يصلح للبقاء ما يكون نابعاً من الوحدة الإنسانية، فهي أساس العلاقات الدولية في الإسلام، قال تعالى:‏

                  "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا"‏

                  هذا النص القرآني الكريم هو أساس العلاقات الدولية كما نظمها القرآن وبينتها السنة، وقام عليها عمل النبي صلى الله عليه وسلم) وصحابته رضي الله عنهم) من بعده في الحرب والسلم على السواء. وهذا النص يقيم العلاقة على التعاون، وينفي أن يكون اختلاف العرق أو اللون دالاً على التباين في الحكم، فهم أن اختلفوا، فإن الأصل واحد، والحقوق والواجبات توجب التعاون والتلاقي عندها، ولا يتحقق هذا التعاون إلا بتحقيق ما بينه الإسلام من مبادئ نسلط عليها بعض الضوء فيما يلي:(14)‏

                  أولاً- مبدأ التعاون الإنساني:‏

                  التعاون في الإسلام مبدأ عام في كل الجماعات الإنسانية كما قرره القرآن، قال الله تعالى:‏

                  "وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان" سورة المائدة /2/)‏

                  وإن التعاون قوام الاسرة وقوام الأمة، وقد جاءت النصوص الدينية الإسلامية بتعميم التعاون في داخل الاقليم الواحد وفي نطاق الإنسانية.‏

                  ويعلن النبي صلى الله عليه وسلم) إن الله يمد بالقوة كل من يعاون أخاه الإنسان في أي اقليم وفي أي موطن، فيقول عليه السلام:‏

                  "الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه"‏

                  ثانياً- مبدأ الكرامة:‏

                  خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان ومعه الكرامة، بأصل الفطرة، ولا يمكن أن يتحقق التعارف الذي دعا إليه القرآن الكريم إلا إذا كان كلا المتعارفين كريماً غير مهين، وعزيزاً غير ذليل. ولقد أمر الله بتكريم الإنسان في أصل الخلق والتكوين، ولذلك أمر الله الملائكة أن يسجدوا لآدم أبي الخليقة الإنسانية. قال تعالى:‏

                  "وإذ قلنا للملائكة اسجدوا ولآدم فسجدوا إلا ابليس أبى واستكبر وكان من الكافرين". سورة البقرة /33/)‏

                  "ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا" سورة الإسراء /70/)‏

                  وإن هذه الكرامة يستحقها الإنسان لأنه إنسان، بقطع النظر عن أي اعتبار آخر.‏

                  ثالثاً- مبدأ التسامح:‏

                  دعا الإسلام إلى التسامح غير الذليل، فهو يبني العلاقات الإنسانية سواء أكانت بين الآحاد أم كانت بين الجماعات، على التسامح من غير استسلام للشر أو تمكين للأشرار، قال تعالى:‏

                  "ادفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم" سورة فصلت /34/)‏

                  "فأفصح الصفح جميل" سورة الحِجْر /85/)‏

                  والصفح الجميل أبرز ما يكون عند هزيمة الأعداء، فما كانت الحرب للثأر والانتقام بل لاعلاء كلمة الحق ودفع عدوان الباطل.‏

                  رابعاً- مبدأ الفضيلة:‏

                  التمسك بالفضيلة من أساس العلاقات الإنسانية في الإسلام، سواء أكانت بين الآحاد أم كانت بين الجماعات، وسواء أكانت العلاقة في حال الحرب أم في حال السلم، لأن قانون الأخلاق قانون عام والفضيلة حق لكل إنسان يستحقها بمقتضى إنسانيته، وقد تقرر ذلك في المبادئ الإسلامية التي تطبق على جميع أهل الأرض.‏

                  قال الله تعالى:‏

                  "إن أكرمكم عند الله أتقاكم" سورة الحجرات /13/)‏

                  وأشد ما كان يدعو إليه القرآن في الأمر بالفضيلة هو ما يقترن بالجهاد خشية أن تندفع النفوس في حال احتدام القتال إلى ما يخالف ذلك المبدأ العام، قال عز وجل:‏

                  "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين" سورة البقرة /194/)‏

                  وإذا كان هذا النص القرآني قد اقرّ رد الاعتداء بمثله، إلا أنه أمر بالتقوى، وهي أن يجعل المؤمن بينه وبين غضب الله وقاية. فإذا انتهك العدو حرمات الفضيلة فإن المؤمن لا ينتهك. وبعبارة عامة لا يصح للمسلم أن يجاري الأعداء في مآثمهم، وما يرتكبونه في الحروب ضد الفضيلة الإنسانية العامة.‏

                  خامساً- مبدأ العدالة:‏

                  قامت كل علاقة إنسانية في الإسلام على العدالة فهي الميزان المستقيم الذي يحدد العلاقات بين الناس في حال السلم، وحال الحرب على السواء ففي السلم يكون حسن الجوار قائماً على العدل، وفي الحرب يكون الباعث عليها هو العدل، والعدالة حق للأعداء كما هي حق للأولياء، قال الله تعالى:‏

                  "ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى" سورة المائدة /8/)‏

                  واعتبر النبي صلى الله عليه وسلم) من يعاون الظالم على ظلمه خارجاً من الإسلام، فقد قال عليه السلام:‏

                  "من مشى مع الظالم فقد خرج من الإسلام".‏

                  سادساً-مبدأ المعاملة بالمثل:‏

                  وهذا المبدأ شعبة من شعب العدالة، قال تعالى:‏

                  "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم"‏

                  سورة البقرة /194/)‏

                  وقال عليه السلام:‏

                  "عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به"‏

                  وهذا المبدأ ينطبق على الدول كما ينطبق على الآحاد، وقد يقول قائل، إن المعاملة بالمثل تعارض التسامح والعفو، والجواب هو أن العفو حيث لا يمس العدالة، و.غمط حقوق الناس، أو رضاء بالعدوان.‏

                  وموضوع العفو يكون بعد أن يتمكن صاحب الحق من حقه، فيعفو أو يأخذ.‏

                  وإن العدالة لا تنافي الرحمة، بل إنها تلازمها، فحيث كانت العدالة كانت الرحمة، وهذا يفسر لنا قوله عليه السلام:‏

                  "أنا نبي المرحمة، وأنا نبي الملحمة"‏

                  وأن الملحمة، وهي القتال، لا تكون في الإسلام إلا ببواعث من العدالة والرحمة بالناس.‏

                  سابعاً- مبدأ المودة:‏

                  يعتبر الإسلام الناس جميعاً أمة واحدة، ومن هنا فإن الأخوة الإنسانية ثابتة يجب وصلها، ولا يصح قطعها، وقد أمر الله تعالى بأن توصل القلوب بالمودة، وإن الإسلام لا ينهي عن برّ كل من لا يعتدي على المسلمين. فالبر ثابت للمسلم وغير المسلم. قال الله تعالى:‏

                  "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين"‏

                  سورة الممتحنة/8/)‏

                  وإن المودة الموصلة لا يقطعها الحرب، ولا الاختلاف ففي أثناء الحرب تنقطع العلاقات بين المسلمين والمحاربين بالفعل وحكامهم، أما رعايا الأعداء الذين لا يشتركون في القتال فإن مودتهم لا تنقطع، وكان النبي عليه السلام لا يقطع البر حتى عند الإختلاف، وفي الحرب، وعند الهدنة.‏

                  المطلب الثاني -واجب الوفاء بالعهد:‏

                  يعتبر الوفاء بالعهود أساس التلاقي بين الآحاد والجماعات على بصيرة وهداية وتعاون وثقة متبادلة، ولا تعارف إلا مع الثقة. ويجب تحقق الثقة بين الجماعات كالثقة بين الآحاد على سواء، ولذلك شدد الإسلام في وجوب الوفاء بالعهد، وعده من أسباب القوة لأنه من أسباب الثقة وقوة التعارف، قال الله تعالى:‏

                  "وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم، ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها، وقد جعلتم الله عليكم كفيلا، إن الله يعلم ما تفعلون ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة انكاثاً تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به، وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون".‏

                  سورة النحل /91/ و/92/)‏

                  "يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود" سورة المائدة/1/)‏

                  "وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا" سورة الإسراء /34/)‏

                  "فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم" سورة التوبة/4/)‏

                  "فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم" سورة التوبة /7/)‏

                  "الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق" سورة الرعد /20/)‏

                  "والموفون بعهدهم إذا عاهدوا" سورة البقرة /177/)‏

                  وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم) على الوفاء بالعهود عامة، وعلى الوفاء بالعهود التي يعقدها رؤوساء الأمم في تنظيم العلاقات الدولية خاصة، قال عليه السلام.‏

                  "لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له".‏

                  وقد كان بينه وبين المشركين عهد، فوفى به، فذكر له بعض المسلمين أنهم على نية الغدر به، فقال عليه السلام:‏

                  "وفوا لهم، ونستعين بالله عليهم"‏

                  وكان ينهى عن الغدر بمقدار حثه على الوفاء، وكان يعتبر أعظم الغدر غدر الحكام، يقول عليه الصلاة والسلام:‏

                  "لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدرته، ألا ولا غادر أعظم من أمير عامة".‏

                  رواه أحمد ومسلم عن علي رضي الله عنه "نيل الأوطار /8/27/)‏

                  وإذا كانت المعاهدات لا تستمد قوتها من نصوصها، بل من عزيمة عاقديها على الوفاء، فإن الإسلام حث على الوفاء، واعتبر الوفاء بالعهد والميثاق قوة، والنكث فيه أخذاً في أسباب الضعف.‏

                  وهكذا يكون الإسلام قد وثق أصول القانون الدولي العام الإسلامي أحكم توثيق، وبناها على الوجدان الديني للدولة الإسلامية حيث لا يكون الوفاء للأقوياء، فقط، بل يكون هذا الوفاء للأقوياء والضعفاء على السواء.‏

                  ولا نعلم ديناً ولا تشريعاً، قد رفع من شأن "العهد" إلى هذا المستوى من القداسة، وقد كان لقاعدة "حرمة المعاهدات وقدسيتها في السلم والحرب" أثرها في العمل على استقرار السلم والأمن الدوليين، من جهة، وعلى تأصيل روح الثقة فيمن يتعامل سياسياً مع الدولة الإسلامية، على الصعيد الدولي من جهة أخرى، مما يعتبر بحق من أهم خصائص سياسة الإسلام الخارجية العادلة.(15)‏

                  المطلب الثالث -واجب احترام العرف الصحيح في نطاق العلاقات الدولية:‏

                  يعرَّف "العرف" بأنه:‏

                  "عادة جمهور قوم في قول أو عمل"‏

                  والعرف مصدر تبعي من مصادر الأحكام، ويقوم على أساس الفقه أحكام متشعبة من شتى الأبواب والفصول الفقهية، لا يحصى عددها، ولا ينقضي تجددها، لأن الأحكام التي تخضعها الشريعة الإسلامية للعرف تتبدل بتبدله، فهي في تجدد مستمر، وهذا من أعظم عوامل القابلية للخلود في مباني الشريعة وفقهها.‏

                  ويعد العرف في نظر الشريعة الإسلامية مستنداً عظيم الشأن لكثير من الأحكام العملية بين الناس في شتى شعب الفقه وأبوابه، وله سلطان واسع المدى في توليد الأحكام وتحديدها، وتعديلها وتجديدها، وإطلاقها وتقييدها، فهو وليد الحاجات المتجددة المتطورة.‏

                  وفي اعتبار العرف تسهيل كبير يغني عن كثير من النصوص التفصيلية في الأحكام التشريعية وفي عقود المعاملات، اعتماداً على ما هو معروف ومألوف في شتى الوقائع المحتملة، والعرف لا تغني عنه نصوص التشريع والتقنين، لأنها لا يمكن أن تستوعب جميع التفصيلات والاحتمالات، كما أن الكثير من أحكامها الآمرة نفسها مبني على العرف، ويتبدل الحكم فيه بتبدل العرف.‏

                  والاعتبار الشرعي للعرف مشروط بشرائط يجب توافرها في العرف لكي يعترف له بهذا السلطان.‏

                  وتلك الشرائط التي يذكرها الفقهاء والأصوليون في مناسباتها المختلفة تتلخص بأربع:‏

                  1-أن يكون العرف مطرداً أو غالباً.‏

                  2-أن يكون العرف المراد تحكيمه في التصرف قائماً عند إنشائها.‏

                  3-أن لا يعارض العرف تصريح بخلافة.‏

                  4-أن لا يعارض العرف نص تشريعي، فإذا عارضه ففي اعتبار العرف تفصيل.(16)‏

                  وقد راعى الفقهاء المسلمون العرف في علاقاتهم مع الدول غير الإسلامية، مما يمكن القول معه إن مراعاة العرف من قواعد القانون الدولي الإسلامي فمن أقوالهم في هذا الباب ما ذكره الإمام ابن قدامة الحنبلي في المغني:‏

                  "وليس لأهل الحرب دخول دار الإسلام بغير أمان لأنه لا يؤمن أن يدخل أحدهم جاسوساً أو متلصصاً، فيضر المسلمين، فإن دخل بغير أمان سئل، فإن قال جئت رسولاً فالقول قوله، فإن كان معه متاع يبيعه قبل قوله أيضاً وحقن دمه لأن العادة جارية بدخول تجارهم إلينا وتجارنا إليهم" "المغني، ج /8/ ص/523/" وبمثل هذا قول الشافعي والمالكية اختلاف الفقهاء للطبري ص/33/ وشرح الخرشي ج3 ص/123) ويمكن أن يقاس على ما ذكره الفقهاء في رعاية العرف الصحيح الجاري بين الدول كل عرف آخر بينهم، وقد قعدوا قواعد مهمة في مجال العرف ووجوب رعايته، مثل:‏

                  -المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً.‏

                  -والثابت بالعرف كالثابت بالنص.‏

                  -والعادة محكمة.‏

                  -ولا ينكر تغير الأحكام بتغيير الأزمان أي الأحكام المبنية على العرف).‏

                  ويمكن الاستناد إلى هذه القواعد في نطاق العلاقات الدولية، كما نلاحظ ذلك في كتابات الفقيه المشهور محمد بن الحسن الشيباني في كتابه" السير الكبير" وفي شرحه للإمام السرخسي.(17) وإن هناك مجالاً واسعاً للأخذ بقواعد القانون الدولي العام الحاضر القائمة على أساس العرف والمعاهدات، وهذان مصدران واسعان جداً يستقي القانون الدولي العام قواعده وأحكامه منهما، وإن الشريعة الإسلامية تجيز الأخذ بالعرف الصحيح في العلاقات الدولية، كما تجيز عقد المعاهدات مع الدول الأخرى، بشرط ألا تخالف الشريعة وتلزم بالوفاء بمضمونها.(18)‏

                  (1) -انظر، د. فتحي الدريني، خصائص التشريع الإسلامي في السياسة والحكم، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1402هـ1982،ص204 الطبعة الأولى.‏

                  (2) -البخاري على هامش فتح الباري، حـ12، ص78.‏

                  -انظر أيضاً، أ. محمد أبو زهرة، الجريمة والعقوبة في الفقه الإسلامي المجلد الثاني: العقوبة، دار الفكر العربي، القاهرة 1974، ص134-135.‏

                  (3) -انظر، أبو زهرة، المرجع السابق، ص44.‏

                  (4) -انظر، 1، محمد كمال عبد العزيز، الشريعة الإسلامية والقانون الدولي العام بحث منشور في الجزء الأول من مجموعة القانون والعلوم السياسية، الحلقة الدراسية الثالثة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1392هـ 1972م ص307.‏

                  (5) -انظر، محمد أبو زهرة، العلاقات الدولية في الإسلام، الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة /1384هـ-1964م/ ص64.‏

                  (6) -انظر، د. وهبة الزحيلي، العلاقات الدولية في الاسلام، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1401هـ- 1981م/ص119.‏

                  (7) -انظر، أ. محمد كمال عبد العزيز، المرجع السابق، ص308.‏

                  (8) -انظر، 1. محمد كمال عبد العزيز، المرجع السابق ص309.‏

                  (9) -انظر، أ. محمد كمال عبد العزيز، المرجع السابق، ص309.‏

                  (10) -انظر، د. وهبة الزحيلي، المرجع السابق، ص118.‏

                  (11) -انظر، أ. محمد كمال عبد العزيز، المرجع السابق، ص309.‏

                  (12) -انظر د. محمد طلعت الغنيمي، الأحكام العامة في قانون الأمم، منشأة المعارف، الاسكندرية، 1970،ص281.‏

                  (13) -انظر، د. فتحي الدريني، المرجع السابق ص/219/.‏

                  (14) -انظر، أ. محمد أبو زهرة، الشريعة الإسلامية والقانون الدولي، بحث منشور في مجموعة القانون والعلوم السياسية، المرجع السابق. ص 233 ومابعدها.‏

                  (15) -انظر، د. فتحي الدريني، المرجع السابق ص366.‏

                  (16) -انظر أ. مصطفى أحمد الزرقاء، المدخل الفقهي العام، مطبعة الجامعة السورية، دمشق، 1371هـ-1952، ص579.‏

                  (17) -انظر، د. عبد الكريم زيدان، المرجع السابق، ص163.‏

                  (18) -انظر، د. عبد الكريم زيدان، المرجع السابق، ص199.‏
                  إذا الشعب يوما أراد الحياة
                  فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                  و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                  و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                  تعليق


                  • #10
                    رد: دراسات دولية

                    الفصل الثاني الدولة والمسؤولية الدولية للدولة

                    State and state Responsibility‏

                    1-تمهيد:‏

                    إن النظام القانوني الدولي يرتب لأشخاصه حقوقاً، كما يفرض عليهم التزامات وهذه الالتزامات واجبة التنفيذ سواء أكان مصدرها اتفاقياً أم عرفياً أم حكماً قررته المبادئ العامة للقانون في النظم القانونية المختلفة، فإذا تخلف أحد أشخاص القانون الدولي عن القيام بالتزام دولي ما، ترتب على تخلفه هذا تحمله للمسؤولية الدولية.(1)‏

                    وتثير "المسؤولية الدولية" مسائل عديدة وجدلية، ويمكن رد ذلك إلى اعتبارات عدة. أولها: إن الالتزامات الدولية المترتبة على الدولة غير محددة بدقة سواء في العرف الدولي أو بالإستناد إلى المبادئ العامة للقانون. يضاف إلى ذلك أن مركز الأجانب ما زال موضع خلاف الكثير من فقهاء القانون، وثانيها: حصول كثير من الدول الأسيوية والافريقية، ومن ضمنها الدول العربية، على استقلالها حديثاً ودخولها في المجتمع الدولي كدول مستقلة ذات سيادة، ولقد قامت هذه الدول بالعديد من التدابير الكفيلة بتحريرها على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، مما حدا بالدول الأجنبية التي تأثرت مصالح مواطنيها بتلك التدابير إلى الإدعاء بترتب "المسؤولية الدولية" على عاتق الدولة التي قامت بها، متجاهلة بأن القانون الدولي لا يمكن أن يقف بحال من الأحوال حجر عثرة في طريق التحرر الاقتصادي والاجتماعي للدول التي حققت تحررها السياسي حديثاً، وقضية تأميم شركة قناة السويس وقبلها قضية تأميم شركة الزيت البريطانية في إيران خير دليل على صحة ما نقول. وإذا كان القانون الدولي العام التقليدي، الذي لم تشارك الدول حديثة الاستقلال في وضع قواعده. قد عجز عن فهم هذه الحقيقة، فإنه لا بد من تطوير القانون الدولي العام بحيث يتضمن القواعد القانونية التي تتلاءم مع حاجات العلاقات الدولية المتطورة. وثالثها: أن في المجتمع الدولي أنظمة قانونية مختلفة... ولعل أكثرها اختلافاً هو ما بني على اختلاف عقائدي. ولا بد لتلك الاختلافات من أن تترك أثرها على موقف تلك الأنظمة من "المسؤولية الدولية" ففي الوقت الذي تشكل فيه حماية الملكية الفردية حجر الزاوية في النظام الرأسمالي، نجد أن النظام الشيوعي يقف موقفاً متطرفاً من الملكية الفردية بما في ذلك ملكية الأجانب، ونتيجة لذلك، لا بد من أن ينعكس هذا الخلاف في وجهات النظر على قواعد "المسؤولية الدولية" المترتبة على لحوق الأضرار بالأجانب.‏

                    2-التعريف بالمسؤولية الدولية:‏

                    تترتب المسؤولية الدولية أصلاً عند ارتكاب شخص من أشخاص القانون الدولي عملاً غير مشروع طبقاً لأحكام القانون الدولي نجم عنه لحوق ضرر بأفراد أو أموال شخص من أشخاص القانون الدولي، مما يوجب أداء التعويض للمضرور.‏

                    يتبين من هذا التعريف أنه لا بد لترتيب "المسؤولية الدولية" على شخص من أشخاص القانون الدولي من توافر الشروط الموضوعية اللازمة لنشوء "المسؤولية الدولية"وسنبحث هذه الشروط الموضوعية بشيء من التفصيل في المبحث الثاني، بعد أن نلقي ضوءاً على الشخص الدولي.‏

                    الفرع الأول: الشخص الدولي:‏

                    ترتبط فكرة المسؤولية الدولية بفكرة الشخصية الدولية، ذلك أن قيام الشخص الدولي بإنشاء علاقات دولية، هو الأساس الذي تقوم عليه المسؤولية الدولية، وبما أن أشخاص القانون الدولي هم الدول والمنظمات الدولية، فإن المسؤولية الدولية لا تنشأ إلا نتيجة لقيام علاقات دولية فيما بين الدول من جهة، أو فيما بين الدول وبين المنظمات الدولية من جهة ثانية، أو فيما بين المنظمات الدولية بعضها بعضاً.‏

                    وهكذا فإن القواعد الناظمة للمسؤولية الدولية لا تنطبق على علاقات الدولة بالأشخاص الطبيعيين أو الاعتباريين، سواء أكانوا مواطنين أم أجانب، وإنما يخضع هؤلاء في علاقاتهم بالدولة إلى قواعد القانون الداخلي، ويتعين عليهم بالتالي اللجوء إلى طرق المراجعة الداخلية(2) كالقضاء الوطني أو التحكيم التجاري الوطني أو الدولي، لتسوية منازعاتهم معها، والحصول على حقوقهم منها، ولكن ماذا سيكون عليه الوضع فيما لو فشل الشخص الأجنبي في الحصول على حقوقه قِبَلَ الدولة المضيفة والتي هي الخصم والحكم في آن معاً؟‏

                    والجواب على ذلك هو أن من حق دولته التدخل لحمايته بالطرق الدبلوماسية، بعد تبني مطالباته، وبذلك تتحول المنازعة بين الشخص الأجنبي والدولة المضيفة إلى منازعة دولية بين دولتين.‏

                    وتختلف المسؤولية الدولية للدولة بخصوص علاقاتها الدولية مع الدول الأخرى باختلاف أشكالها ذلك أن الدول تأخذ أشكالاً مختلفة، كما هو معروف، سواء من حيث وضعها الدولي أو من حيث تكوينها الدستوري.‏

                    فالدول من حيث وضعها الدولي إما أن تكون ذات سيادة كاملة أو ذات سيادة ناقصة أو ذات سيادة مقيدة.(3) والقاعدة العامة هنا هي "أن الدول كاملة السيادة تُسأل مسؤولية دولية كاملة، أما الدول ناقصة السيادة كالدول الموضوعة تحت الحماية أو تحت الوصاية فلا تمكن مساءلتها، وذلك لأن الدول الحامية أو التي تمارس الوصاية هي التي تدير العلاقات الدولية للأقليم، ومن ثم تنصرف المسؤولية الدولية إلى الدول الحامية أو صاحبة الوصاية، وإذا كانت الدول ناقصة السيادة تملك ممارسة بعض أنواع العلاقات الدولية، فإنه تمكن مساءلتها في حدود المسائل التي تملك حرية التصرف بشأنها.(4) "‏

                    والدول من حيث تكوينها الدستوري إما أن تكون بسيطة Simple States أو أن تكون مركبة Composite states ولا تثير الدولة البسيطة أية مشكلة، فهي تتحمل المسؤولية الدولية كاملة طالما كانت كاملة السيادة، أما بالنسبة للدول المركبة فالوضع مختلف، ولا بد فيه من تفصيل، فالدول الأعضاء في الاتحاد الشخصي personal union والدول الأعضاء في الاجتماع الدولي أو الدولة الكونفدرالية Confederation تحتفظ بسيادتها كاملة، وبالتالي فإنها تتحمل المسؤولية الدولية كاملة، أما الدولة الاتحادية Federation.فإنها تعتبر دولة واحدة، لأن الدول الأعضاء فيها الولايات states) تذوب شخصيتها الدولية في شخصية الاتحاد، وبما أن الدولة الاتحادية تتمتع بالسيادة الكاملة، فإنها تتحمل المسؤولية الدولية عن الأفعال غير المشروعة التي تصدر عنها وعن الولايات المكونة للاتحاد.‏

                    أما فيما يتعلق بالمنظمة الدولية فليس هنالك من شك بأنها شخص من أشخاص القانون الدولي، وتتمتع، بهذا الوصف، بالأهلية القانونية التي يتطلبها قيامها بأعباء وظائفها وتحقيق مقاصدها المادة 104 من ميثاق الأمم المتحدة) ومن ذلك أهليتها لأن تكون مدعية أو مدعى عليها بصدد علاقاتها مع الدول أو المنظمات الأخرى. والمستند الأهم على هذه الحقيقة هو الرأي الاستشاري الصادر عن "محكمة العدل الدولية" بتاريخ 11 نيسان 1949" حول التعويضات عن الأضرار التي يتم تحملها أثناء الخدمة في الأمم المتحدة"، وقد جاء في هذا الرأي الاستشاري الصادر عن المحكمة بأن "الأمم المتحدة"(5) :‏

                    "هي شخص من أشخاص القانون الدولي، يستطيع التمتع بحقوق وواجبات دولية، ويملك القدرة على المحافظة على حقوقه بإثارة مطالب دولية... ولقد أدى تطور الحياة الدولية والإزدياد المطرد في الأنشطة الجماعية للدول، عبر تاريخها الطويل، إلى ازدياد أمثلة العمل على الصعيد الدولي من قبل كيانات معينة ليست دولاً.. وكانت لدى خمسين دولة، تمثل الأغلبية الساحقة لأعضاء الأسرة الدولية، السلطة، طبقاً لأحكام القانون الدولي، لإنشاء كيان يتمتع بالشخصية الدولية الموضوعية، وليس مجرد شخصية معترف بها من قبل هذه الدول وحدها، كما تتمتع بالقدرة على إثارة مطالب دولية"(6)‏

                    (1) -انظر، د. محمد عزيز شكري، المدخل إلى القانون الدولي العام وقت السلم، الطبعة الثانية، دمشق، دار الفكر، 1973، ص148.‏

                    (2) -انظر، د. محمد حافظ غانم، المسؤولية الدولية، القاهرة، مطبعة نهضة مصر، 1962، ص20.‏

                    (3) -انظر د. شكري، المرجع السابق، ص79.‏

                    (4) -انظر د. محمد حافظ غانم، المسؤولية الدولية، القاهرة، مطبعة نهضة مصر، 1962 ص22.‏

                    (5) - I.C.J. Reports, 1949), p.174.‏

                    (6) - "Is a subject of international law and capable of possessing international rights and duties, and that it has capacity to maintain its rights by bringing international claims... Throughout its history, the development of interna- tional life, and the progressive increase in the collective activities of states has already given rise to instances of action upon the international plane by certain entities which are not states ... Fifty states, representing the vast majority of the members of the international community, had the power, in conformity with international law, to bring into being an entity possessing objective international personality, and not personality recognized by them alone, together with capacity to bring international claims".‏

                    -see, von clahn, law Among Nations, London, the Macmillan Company, 1970,p.135.‏
                    إذا الشعب يوما أراد الحياة
                    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                    تعليق


                    • #11
                      رد: دراسات دولية

                      الفصل الثاني الدولة والمسؤولية الدولية للدولة

                      State and state Responsibility‏

                      1-تمهيد:‏

                      إن النظام القانوني الدولي يرتب لأشخاصه حقوقاً، كما يفرض عليهم التزامات وهذه الالتزامات واجبة التنفيذ سواء أكان مصدرها اتفاقياً أم عرفياً أم حكماً قررته المبادئ العامة للقانون في النظم القانونية المختلفة، فإذا تخلف أحد أشخاص القانون الدولي عن القيام بالتزام دولي ما، ترتب على تخلفه هذا تحمله للمسؤولية الدولية.(1)‏

                      وتثير "المسؤولية الدولية" مسائل عديدة وجدلية، ويمكن رد ذلك إلى اعتبارات عدة. أولها: إن الالتزامات الدولية المترتبة على الدولة غير محددة بدقة سواء في العرف الدولي أو بالإستناد إلى المبادئ العامة للقانون. يضاف إلى ذلك أن مركز الأجانب ما زال موضع خلاف الكثير من فقهاء القانون، وثانيها: حصول كثير من الدول الأسيوية والافريقية، ومن ضمنها الدول العربية، على استقلالها حديثاً ودخولها في المجتمع الدولي كدول مستقلة ذات سيادة، ولقد قامت هذه الدول بالعديد من التدابير الكفيلة بتحريرها على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، مما حدا بالدول الأجنبية التي تأثرت مصالح مواطنيها بتلك التدابير إلى الإدعاء بترتب "المسؤولية الدولية" على عاتق الدولة التي قامت بها، متجاهلة بأن القانون الدولي لا يمكن أن يقف بحال من الأحوال حجر عثرة في طريق التحرر الاقتصادي والاجتماعي للدول التي حققت تحررها السياسي حديثاً، وقضية تأميم شركة قناة السويس وقبلها قضية تأميم شركة الزيت البريطانية في إيران خير دليل على صحة ما نقول. وإذا كان القانون الدولي العام التقليدي، الذي لم تشارك الدول حديثة الاستقلال في وضع قواعده. قد عجز عن فهم هذه الحقيقة، فإنه لا بد من تطوير القانون الدولي العام بحيث يتضمن القواعد القانونية التي تتلاءم مع حاجات العلاقات الدولية المتطورة. وثالثها: أن في المجتمع الدولي أنظمة قانونية مختلفة... ولعل أكثرها اختلافاً هو ما بني على اختلاف عقائدي. ولا بد لتلك الاختلافات من أن تترك أثرها على موقف تلك الأنظمة من "المسؤولية الدولية" ففي الوقت الذي تشكل فيه حماية الملكية الفردية حجر الزاوية في النظام الرأسمالي، نجد أن النظام الشيوعي يقف موقفاً متطرفاً من الملكية الفردية بما في ذلك ملكية الأجانب، ونتيجة لذلك، لا بد من أن ينعكس هذا الخلاف في وجهات النظر على قواعد "المسؤولية الدولية" المترتبة على لحوق الأضرار بالأجانب.‏

                      2-التعريف بالمسؤولية الدولية:‏

                      تترتب المسؤولية الدولية أصلاً عند ارتكاب شخص من أشخاص القانون الدولي عملاً غير مشروع طبقاً لأحكام القانون الدولي نجم عنه لحوق ضرر بأفراد أو أموال شخص من أشخاص القانون الدولي، مما يوجب أداء التعويض للمضرور.‏

                      يتبين من هذا التعريف أنه لا بد لترتيب "المسؤولية الدولية" على شخص من أشخاص القانون الدولي من توافر الشروط الموضوعية اللازمة لنشوء "المسؤولية الدولية"وسنبحث هذه الشروط الموضوعية بشيء من التفصيل في المبحث الثاني، بعد أن نلقي ضوءاً على الشخص الدولي.‏

                      الفرع الأول: الشخص الدولي:‏

                      ترتبط فكرة المسؤولية الدولية بفكرة الشخصية الدولية، ذلك أن قيام الشخص الدولي بإنشاء علاقات دولية، هو الأساس الذي تقوم عليه المسؤولية الدولية، وبما أن أشخاص القانون الدولي هم الدول والمنظمات الدولية، فإن المسؤولية الدولية لا تنشأ إلا نتيجة لقيام علاقات دولية فيما بين الدول من جهة، أو فيما بين الدول وبين المنظمات الدولية من جهة ثانية، أو فيما بين المنظمات الدولية بعضها بعضاً.‏

                      وهكذا فإن القواعد الناظمة للمسؤولية الدولية لا تنطبق على علاقات الدولة بالأشخاص الطبيعيين أو الاعتباريين، سواء أكانوا مواطنين أم أجانب، وإنما يخضع هؤلاء في علاقاتهم بالدولة إلى قواعد القانون الداخلي، ويتعين عليهم بالتالي اللجوء إلى طرق المراجعة الداخلية(2) كالقضاء الوطني أو التحكيم التجاري الوطني أو الدولي، لتسوية منازعاتهم معها، والحصول على حقوقهم منها، ولكن ماذا سيكون عليه الوضع فيما لو فشل الشخص الأجنبي في الحصول على حقوقه قِبَلَ الدولة المضيفة والتي هي الخصم والحكم في آن معاً؟‏

                      والجواب على ذلك هو أن من حق دولته التدخل لحمايته بالطرق الدبلوماسية، بعد تبني مطالباته، وبذلك تتحول المنازعة بين الشخص الأجنبي والدولة المضيفة إلى منازعة دولية بين دولتين.‏

                      وتختلف المسؤولية الدولية للدولة بخصوص علاقاتها الدولية مع الدول الأخرى باختلاف أشكالها ذلك أن الدول تأخذ أشكالاً مختلفة، كما هو معروف، سواء من حيث وضعها الدولي أو من حيث تكوينها الدستوري.‏

                      فالدول من حيث وضعها الدولي إما أن تكون ذات سيادة كاملة أو ذات سيادة ناقصة أو ذات سيادة مقيدة.(3) والقاعدة العامة هنا هي "أن الدول كاملة السيادة تُسأل مسؤولية دولية كاملة، أما الدول ناقصة السيادة كالدول الموضوعة تحت الحماية أو تحت الوصاية فلا تمكن مساءلتها، وذلك لأن الدول الحامية أو التي تمارس الوصاية هي التي تدير العلاقات الدولية للأقليم، ومن ثم تنصرف المسؤولية الدولية إلى الدول الحامية أو صاحبة الوصاية، وإذا كانت الدول ناقصة السيادة تملك ممارسة بعض أنواع العلاقات الدولية، فإنه تمكن مساءلتها في حدود المسائل التي تملك حرية التصرف بشأنها.(4) "‏

                      والدول من حيث تكوينها الدستوري إما أن تكون بسيطة Simple States أو أن تكون مركبة Composite states ولا تثير الدولة البسيطة أية مشكلة، فهي تتحمل المسؤولية الدولية كاملة طالما كانت كاملة السيادة، أما بالنسبة للدول المركبة فالوضع مختلف، ولا بد فيه من تفصيل، فالدول الأعضاء في الاتحاد الشخصي personal union والدول الأعضاء في الاجتماع الدولي أو الدولة الكونفدرالية Confederation تحتفظ بسيادتها كاملة، وبالتالي فإنها تتحمل المسؤولية الدولية كاملة، أما الدولة الاتحادية Federation.فإنها تعتبر دولة واحدة، لأن الدول الأعضاء فيها الولايات states) تذوب شخصيتها الدولية في شخصية الاتحاد، وبما أن الدولة الاتحادية تتمتع بالسيادة الكاملة، فإنها تتحمل المسؤولية الدولية عن الأفعال غير المشروعة التي تصدر عنها وعن الولايات المكونة للاتحاد.‏

                      أما فيما يتعلق بالمنظمة الدولية فليس هنالك من شك بأنها شخص من أشخاص القانون الدولي، وتتمتع، بهذا الوصف، بالأهلية القانونية التي يتطلبها قيامها بأعباء وظائفها وتحقيق مقاصدها المادة 104 من ميثاق الأمم المتحدة) ومن ذلك أهليتها لأن تكون مدعية أو مدعى عليها بصدد علاقاتها مع الدول أو المنظمات الأخرى. والمستند الأهم على هذه الحقيقة هو الرأي الاستشاري الصادر عن "محكمة العدل الدولية" بتاريخ 11 نيسان 1949" حول التعويضات عن الأضرار التي يتم تحملها أثناء الخدمة في الأمم المتحدة"، وقد جاء في هذا الرأي الاستشاري الصادر عن المحكمة بأن "الأمم المتحدة"(5) :‏

                      "هي شخص من أشخاص القانون الدولي، يستطيع التمتع بحقوق وواجبات دولية، ويملك القدرة على المحافظة على حقوقه بإثارة مطالب دولية... ولقد أدى تطور الحياة الدولية والإزدياد المطرد في الأنشطة الجماعية للدول، عبر تاريخها الطويل، إلى ازدياد أمثلة العمل على الصعيد الدولي من قبل كيانات معينة ليست دولاً.. وكانت لدى خمسين دولة، تمثل الأغلبية الساحقة لأعضاء الأسرة الدولية، السلطة، طبقاً لأحكام القانون الدولي، لإنشاء كيان يتمتع بالشخصية الدولية الموضوعية، وليس مجرد شخصية معترف بها من قبل هذه الدول وحدها، كما تتمتع بالقدرة على إثارة مطالب دولية"(6)‏

                      (1) -انظر، د. محمد عزيز شكري، المدخل إلى القانون الدولي العام وقت السلم، الطبعة الثانية، دمشق، دار الفكر، 1973، ص148.‏

                      (2) -انظر، د. محمد حافظ غانم، المسؤولية الدولية، القاهرة، مطبعة نهضة مصر، 1962، ص20.‏

                      (3) -انظر د. شكري، المرجع السابق، ص79.‏

                      (4) -انظر د. محمد حافظ غانم، المسؤولية الدولية، القاهرة، مطبعة نهضة مصر، 1962 ص22.‏

                      (5) - I.C.J. Reports, 1949), p.174.‏

                      (6) - "Is a subject of international law and capable of possessing international rights and duties, and that it has capacity to maintain its rights by bringing international claims... Throughout its history, the development of interna- tional life, and the progressive increase in the collective activities of states has already given rise to instances of action upon the international plane by certain entities which are not states ... Fifty states, representing the vast majority of the members of the international community, had the power, in conformity with international law, to bring into being an entity possessing objective international personality, and not personality recognized by them alone, together with capacity to bring international claims".‏

                      -see, von clahn, law Among Nations, London, the Macmillan Company, 1970,p.135.‏
                      إذا الشعب يوما أراد الحياة
                      فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                      و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                      و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                      تعليق


                      • #12
                        رد: دراسات دولية

                        الفرع الثاني الشروط الموضوعية لترتيب المسؤولية الدولية للدولة تمهيد:

                        مفهوم اسناد الفعل غير المشروع إلى الدولة:‏

                        The Concept of Imputability‏

                        تؤكد النظرية التقليدية والتطبيق العملي أن الشخص الدولي وحده هو الذي يمكن أن يتحمل المسؤولية الدولية سواء بصورة مباشرة أو بصورة غير مباشرة. ولم يكن مرتكب الفعل غير المشروع سواء أكان بصورة قيام بعمل أم امتناع عن القيام بعمل) المسؤول عن الضرر اللاحق بالأجنبي في يوم من الأيام مشمولاً في أية مطالبة دولية، لأن الشخص الدولي وحده هو الذي يتحمل مسؤولية التعويض عن الضرر الناجم عن هذا الفعل. ويطلق على هذا المفهوم اسم "الاسناد". وهو يعني أن ينسب فعل معين ارتكبه شخص ما أو مجموعة من الأشخاص الطبيعيين إلى دولة ما أو شخص دولي آخر. بحيث يعتبر الفعل المذكور فيما بعد على أنه فعل تلك الدولة أو ذلك الشخص الدولي وتترتب عليه بالتالي المسؤولية عنه. وهذا المفهوم هو الأساس الذي تقوم عليه فكرة مسؤولية الشخص الدولي، لأن العديد من الأفعال التي ترتب مثل هذه المسؤولية قام بها بادئ ذي بدء شخص أو مجموعة من الأشخاص الطبيعيين.(1)‏

                        وتنشأ المسؤولية الدولية المباشرة عن الأفعال المنسوبة إلى الدولة نفسها بأن تكون صادرة عن سلطاتها المختلفة، أي عن فرد أو هيئة يمنحها القانون الداخلي اختصاصاً، وبالتالي تسأل الدولة عن الضرر الناجم عن هذه الأفعال.‏

                        أما المسؤولية الدولية غير المباشرة للدولة فهي تنشأ عن أفعال صدرت عن أفراد عاديين يحملون جنسيتها أو عن أفراد من الأجانب يقيمون في اقليمها وتلتزم الدولة في هذه الحالة بمعاقبة الفاعلين أو بالزامهم يدفع التعويض إلى الأجنبي المتضرر. ولا تترتب على الدولة هذه المسؤولية غير المباشرة إلا إذا قصرت في الوفاء بهذا الالتزام، لأن تقصيرها في هذه الحالة يعتبر فعلاً غير مشروع.‏

                        نخلص مما تقدم إلى أنه لا بد لترتيب المسؤولية الدولية من توفر شرطين أساسيين:‏

                        أولهما: وجود فعل يمكن اسناده إلى الدولة.‏

                        ثانيهما: عدم مشروعية هذا الفعل طبقاً للقانون الدولي.‏



                        المبحث الأول - وجود فعل يمكن اسناده إلى الدولة‏

                        قد يكون الفعل المسند إلى الدولة صادراً عن سلطاتها التشريعية أو التنفيذية أو القضائية.(2)‏

                        أولاً- مسؤولية الدولة عن أعمال السلطة التشريعية:‏

                        تتمتع الدولة ذات السيادة بحرية وضع الدستور من جهة وسن القوانين اللازمة لتنظيم أمورها ضمن حدود اقليمها من جهة أخرى. ولكن يتعين عليها أن تمارس تلك الحرية بما لا يتعارض مع التزاماتها الدولية، وعلى ذلك فإنه:‏

                        آ-لا يحق للدولة أن تستند إلى دستورها للتملص من التزاماتها الدولية:‏

                        ولقد ورد هذا المبدأ في الرأي الاستشاري الصادر عن "محكمة العدل الدولية الدائمة، "بخصوص "قضية المواطنين البولونيين في مدينة دانزيغ الحرة" بين بولونيا ومدينة دانزيغ، والذي جاء فيه:‏

                        "... مما تجب ملاحظته أن دولة مالا تستطيع أن تتذرع بدستورها للتحلل من التزاماتها المترتبة عليها تجاه دولة أخرى بمقتضى القانون الدولي أو المعاهدات السارية المفعول. وينتج عن تطبيق هذه المبادئ على هذه القضية، أن مسألة معاملة المواطنين البولونيين أو الأشخاص الآخرين الذين هم من أصل بولوني أو ناطقين باللغة البولونية، تجب تسويتها حصراً على أساس قواعد القانون الدولي ونصوص المعاهدة السارية المفعول بين بولونيا ودانزيغ(3) "‏

                        ب-لا يحق للدولة أن تستند إلى قوانينها للتملص من التزاماتها الدولية:‏

                        ويتجلى هذا المبدأ في صورتين:‏

                        1-المسؤولية الدولية الناشئة عن سن قانون يخالف الالتزامات الدولية للدولة:‏

                        ولقد ترسخ هذا المبدأ في الاجتهادات القضائية الصادرة عن محكمة التحكيم الدائمة ومحكمة العدل الدولية الدائمة ومحكمة العدل الدولية. ففي قضية "المناطق الحرة" لاحظت "محكمة العدل الدولية الدائمة":‏

                        "... من المؤكد أن فرنسا لا تستطيع أن تستند إلى تشريعها الوطني لكي تُضيِّق من نطاق التزاماتها الدولية.(4)‏

                        ولقد تكرس هذا المبدأ في المادة /27/ من "اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات لعام 1969" والتي انضمت إليها الجمهورية العربية السورية بموجب المرسوم التشريعي رقم /184/ تاريخ 9/8/1970(5) فقد جاء فيها أنه:‏

                        "لا يجوز لطرف في معاهدة أن يحتج بنصوص قانونه الداخلي كسبب مبرر لاخفاقه في تنفيذ المعاهدة. لا تخل هذه القاعدة بالمادة 46"(6)‏

                        ونصت المادة /46/ ما يلي:‏

                        1-ليس للدولة أن تحتج بأن التعبير عن رضاها الالتزام بالمعاهدة قد تم بالمخالفة لحكم في قانونها الداخلي يتعلق بالاختصاص بعقد المعاهدات كسبب لإبطال هذا الرضا، إلا إذا كانت المخالفة بينة وتعلقت بقاعدة أساسية من قواعد القانون الداخلي.‏

                        2-تعتبر المخالفة بينة إذا كانت واضحة بصورة موضوعية لأية دولة تتصرف في هذا الشأن وفق التعامل المعتاد وبحسن نية".‏

                        2-المسؤولية الدولية الناشئة عن اهمال الدولة سن تشريع تستوجبه التزاماتها الدولية:‏

                        ويتجلى خير تطبيق لهذا المبدأ في قضية "مطالب ألاباما" Alabama Claims التي تشكلت بين الولايات المتحدة وبريطانيا في غضون الحرب الأهلية الأميركية.(7)‏

                        ويمكننا أن نستخلص من كل ما تقدم نتيجة هامة هي أن قواعد القانون الدولي تسمو على قواعد القانون الداخلي حتى ولو كان هذا الأخير قانوناً أساسياً دستوراً) وهذه نتيجة منطقية لحقيقة أن سيادة الدولة غير مطلقة، وإنما ترد عليها قيود تفرضها الالتزامات الدولية المتبادلة بين أشخاص القانون الدولي.‏

                        ثانياً- مسؤولية الدولة عن أعمال السلطة التنفيذية:‏

                        تعتبر الدولة مسؤولة عن القيام بالعمل أو الامتناع عن القيام بالعمل الصادر عن موظفيها أو إداراتها العامة أو مؤسساتها العامة، إذا نتج عنه لحوق ضرر بأشخاص الأجانب أو بأموالهم. ومن المعروف أن صلة المسؤولين بدولتهم تتفاوت إلى حد كبير. فمنهم من له صلة مباشرة بالدولة، وبالتالي تتحمل دولتهم المسؤولية المباشرة عن أعمالهم كرئيس الدولة.‏

                        وينطبق هذا الكلام على كبار رجال الإدارة ولكن على أساس أقل مباشرة. ولذلك يمكن للدولة أن تتنصل من أعمال مديريها مثلاً إذا كان ذلك من صالحها. ورغم أن مثل هذا التنصل لا يعفيها من المسؤولية الدولية، إلا أنه يعفيها من تهمة الحاق الضرر عمداً بالأجانب.‏

                        أما فيما يتعلق بصغار الموظفين، فإن بعدهم النسبي عن سلطة الدولة غالباً ما ينشئ مسؤولية الدولة غير المباشرة. ولا تترتب المسؤولية الحقيقية في هذه الحالة إلا إذا فشلت الدولة في إيقاع العقوبة على الموظف المذنب.‏

                        وقضية Massey claim خير مثال على ذلك. إذ كسبت "الولايات المتحدة" حكماً بمبلغ /15000/ دولار على سبيل التعويض بسبب اخفاق السلطات المكسيكية في اتخاذ الإجراءات المناسبة لمعاقبة قاتل Massey وهو مواطن أميركي يعمل في المكسيك وجاء في رأي المفوض نيلسن: Commissioner Nielson‏

                        "أعتقد أنه مبدأ عام سليم بدون شك، ذلك المبدأ الذي يقضي بأنه، حينما ينجم عن سوء إدارة الأشخاص العاملين في خدمة الدولة إخفاق دولة في الوفاء بالتزاماتها المقررة بمقتضى القانون الدولي، فإنه يتوجب على الدولة أن تتحمل مسؤولية الأفعال غير القانونية المرتكبة من قبل موظفيها مهما كان مركزهم أو مقامهم الخاص بمقتضى القانون المحلي.(8)‏

                        وبغض النظر عن مركز الموظف العام، فقد يصدر عنه فعل بدون إذن من حكومته، ولا بد من التمييز هنا بين حالتين:‏

                        الحالة الأولى: أن يصدر الفعل عنه بصفته الوظيفية وفي معرض ممارسته لها. وتتحمل الدولة في هذه الحالة المسؤولية الدولية الناجمة عن فعل هذا الموظف.(9)‏

                        الحالة الثانية: أن يصدر الفعل عن الموظف بصفته الشخصية وخارج نطاق وظيفته، ويعامل الفعل في هذه الحالة معاملة الأفعال الصادرة عن الأشخاص العاديين.‏

                        ولعل في قضية Caire Claim ما يوضح ذلك. فقد طلب ضابطان مكسيكيان مبلغاً من المال من المدعو Caire وهدداه بالموت إن لم يستجب لطلبهما. وبما أن المبلغ المطلوب لم يكن في متناول يده أمرا بإطلاق النار عليه، وقال رئيس اللجنة التي نظرت في هذه القضية:‏

                        "تتحمل الدولة أيضاً مسؤولية دولية عن جميع الأفعال المرتكبة من قبل موظفيها أو أجهزتها والتي تعتبر تقصيرية طبقاً للقانون الدولي، بغض النظر عما إذا كان الموظف أو الجهاز الحكومي قد تصرف ضمن حدود اختصاصه أو أنه تجاوز تلك الحدود. وعلى كل حال، فلتبرير الأخذ بهذه المسؤولية الموضوعية للدولة عن الأفعال المرتكبة من قبل موظفيها أو جهازها خارج حدود اختصاصه، فإن من الضروري أن يكون قد تصرف، من حيث الظاهر على الأقل، على أنه موظف أو جهاز مفوض في ذلك، أو أنه، في معرض قيامه بالعمل، استعمل صلاحيات وتدابير تتلاءم مع صفته الرسمية.(10)‏

                        هذا وتنطبق قاعدة "الإجازة اللاحقة كالوكالة السابقة" على الفعل الذي يرتكبه موظف عام ضد أجنبي متجاوزاً بذلك حدود صلاحياته، فيرتب الفعل المسؤولية الدولية على الدولة مباشرة، ويعفى الموظف المعني من كامل التبعة إذا أجازت دولته فعله.‏

                        ثالثاً- مسؤولية الدولة عن أعمال السلطة القضائية:‏

                        تترتب المسؤولية الدولية على الدولة جراء الأفعال الصادرة عن سلطتها القضائية، إذا تعارضت مع التزاماتها الدولية ونشأ عنها لحوق ضرر بأجنبي، ولا تستطيع الدولة الدفع بمبدأ فصل السلطات وبما يترتب عليه من استقلال السلطة القضائية، فمثل هذه الأمور تتعلق بالتنظيم الداخلي للدولة ولا تؤثر على التزاماتها الدولية كشخص اعتباري. ويتصل نشاط السلطة القضائية جوهرياً بموضوع "انكار العدالة" الذي سنعالجه بفقرة مستقلة نظراً لأهميته، وعلى كل حال تعتبر الدولة مسؤولة عن مخالفة التزاماتها الدولية من قبل السلطة القضائية، كأن تنظر المحاكم في نزاع يخرج عن اختصاصها بموجب اتفاق دولي، أو تغفل تطبيق القانون الدولي على نزاع يدخل في اختصاصها، أو ترتكب خطأ جسيماً في تطبيق تلك القواعد، أو تطبق قواعد القانون الوطني رغم مخالفتها للقانون الدولي.‏

                        ويضيف ماك نير Mcnair حالات جديدة تتعلق بتطبيق المعاهدات فيقول: "... للدولة الحق في تفويض أجهزتها القضائية بتطبيق وتفسير المعاهدات. وعلى كل حال، إذا ارتكبت المحاكم أخطاء في معرض قيامها بذلك العمل، أو امتنعت عن وضع معاهدة موضع التطبيق، أو كانت غير قادرة على القيام بذلك بسبب عدم ادخال تعديل أو إضافة على القانون الوطني تقضي الضرورة بادخالهما عليه، فإن أحكامها تنطوي على خرق للمعاهدة من قبل الدولة.(11)‏

                        انكار العدالة: Denial of justice - يستخدم اصطلاح "انكار العدالة" من قبل محاكم المطالب الدولية بحيث يمتد امتداد مفهوم المسؤولية الدولية للدولة عن الأذى اللاحق بالأجانب، وهو ينطوي على اخفاق سلطات الدولة المضيفة في توفير الوسيلة المناسبة لانصاف الأجنبي عندما تنتهك حقوقه الموضوعية، أو في مراعاة الأصول القانونية due process of law في ملاحقة ومعاقبة الأجنبي المسيء).‏

                        ويعتبر اصطلاح "انكار العدالة" عموماً بأنه يضم فئة خاصة من النواقص deficiencies الصادرة عن أجهزة الدولة المضيفة، وخصوصاً فيما يتعلق بحسن سير العدالة. وقد وجدت تعريفات متنوعة لاصطلاح "انكار العدالة" ولكنها كلها ذات قيمة محدودة ولعل أفضل دليل لنا في هذا المجال هو المادة التاسعة من مشروع الاتفاقية التي أعدتها "جامعة هارفارد" بصدد "مسؤولية الدول عن الأضرار اللاحقة بأشخاص وأموال والأجانب على اقليمها" ونصها كما يلي:‏

                        "المادة 9: تكون الدولة مسؤولة إذا لحق ضرر بأجنبي ناجم عن انكار العدالة، ويعتبر انكاراً للعدالة ما يقع من المحكمة من تسويف لا مبرر له، أو إذا حيل بين الأجنبي المتضرر وبين الالتجاء إلى القضاء، أو إذا وجد نقص كبير في إجراءات التقاضي، أو إذا لم تتوفر الضمانات التي لا غنى عنها لحسن سير العدالة، أو إذا صدر حكم ينطوي على ظلم واضح. أما الخطأ غير المقصود الذي ترتكبه محكمة وطنية دون أن ينتج عنه ظلم واضح، فإنه لا يعتبر انكار للعدالة.(12)‏

                        ويدعو مفهوم "انكار العدالة" في حقيقته إلى بحث تطبيق مستوى دولي معين على بعض أوجه إدارة شؤون الدولة الداخلية، ولذلك فإن دول أميريكا اللاتينية، حفاظاً منها على سيادتها، تُضَيِّق من معنى "انكار العدالة" بحيث يقتصر على واجب ممارسة الأجهزة القضائية لاختصاصاتها سواء أخذت شكل السماح للأجنبي بالتقدم إلى المحاكم الداخلية، أو أخذت شكل قيام هذه المحاكم بالفصل في دعاوى الأجانب. ولا تسمح هذه الدول بتوسيع مفهوم "انكار العدالة" ليشمل البحث في الكيفية التي يتم بها توفير العدالة من نقص في إجراءات التقاضي أو في ضمانات حسن سير العدالة أو انطواء الحكم على الظلم واضح أو اتسامه بالتمييز ضد الأجانب.‏

                        أما الدول الغربية، فإنها ترى ضرورة وجود مستوى دولي يكفل حداً أدنى من الضمانات الذي يجب أن يتمتع به الأجنبي عند لجوئه إلى المحاكم بغض النظر عن الضمانات التي يمنحها القانون الداخلي. وقد طبق هذا المستوى الدولي بصورة طموحة من قبل المحاكم والكتاب في الدول الغريبة، وثارت نتيجة لذلك بعض الصعوبات. وأولها، أن تطبيق مستوى الحد الأدنى الدولي يمكن أن يشمل قرارات تتعلق بنقاط حساسة جداً من نقاط القانون الداخلي أو بنوعية الأجهزة القضائية الوطنية، وهكذا لا بد من السعي للتمييز بين "الخطأ" و"الظلم الواضح" فيما يتعلق بعمل المحاكم. فلا يعتبر انكاراً للعدالة إذا تضمن الحكم خطأ في الوقائع أو في التقدير أو في تطبيق القانون الداخلي بحسن نية. وثانيها، أن تطبيق مستوى الحد الأدنى الدولي في هذا المجال يبدو وكأنه يناقض المبدأ القائل بأن على الأجنبي، في حدود معينة على الأقل، أن يقبل القانون المحلي واختصاص المحاكم المحلية، وثالثها، أن مفهوم "انكار العدالة" يشتمل على أمثلة كثيرة يكون فيها الأذى اللاحق بالأجنبي مجرد خرق للقانون المحلي، في حين أن "الانكار" هو اخفاق في الوصول إلى مستوى دولي للاختصاص في معالجة خطأ يدخل ضمن الاختصاص الاقليمي، وهكذا فإن مفهوم الدولة الأجنبية التي ارتكب خطأ بحقها في شخص مواطنيها يمتد إلى قضايا يكون الخطأ الرئيسي فيها مجرد خرق للقانون المحلي.(13)‏

                        ولعل من المفيد أن نستشهد بقضية chattin claim كمثال على مفهوم انكار العدالة. و"شاتين" chattin هو مواطن أميركي أدين بتهمة الاختلاس في المكسيك، وحكم عليه من قبل محكمة مكسيكية بعقوبة الحبس لمدة سنتين، ولم يكن هنالك أدنى شك في ارتكاب "شاتين" جرم الاختلاس. فقد ثبت بأنه وعامل مكسيكي آخر مذنبان بالتهمة الموجهة إليهما. ولكن "لجنة المطالب العامة الأميركية المكسيكية"‏

                        "U.S- Mexico General claims Commission" أشارت إلى العيوب المختلفة التي شابت سير المحاكمة.(14) فقد وجدت اللجنة بأن شاتين قد تم توقيفه بصورة قانونية، ولو أن الإجراء الذي اتبع يختلف عما يطبق عادة في الولايات المتحدة. ومن ناحية أخرى، أشارت البينات المقدمة إلى وجود مخالفات قانونية خطيرة في إجراءات المحاكمة، كعدم القيام بالتحقيق المناسب، وعدم مواجهة المتهم بالشهود والبينات بصورة كافية وعدم إطلاع المتهم على جميع التهم الموجهة إليه، والمماطلة التي لا مسوغ لها في البدء بالإجراءات القضائية، وتحويل جلسات المحكمة العلنية إلى مجرد إجراء شكلي، وثبوت تعمد القسوة في الحكم، ولكن لم يتوفر الدليل على أن القاضي يكن العداء لشاتين كما ادعى هذا الأخير"‏



                        المبحث الثاني - عدم مشروعية الفعل المسند إلى الدولة طبقاً للقانون الدولي‏

                        تأخذ المسؤولية الدولية المترتبة على مخالفة قواعد القانون الدولي صوراً تختلف باختلاف مصادر هذا القانون. فقد تشكل الأفعال غير المشروعة انتهاكاً للالتزامات الدولية المقررة في الاتفاقيات الدولية أو في العرف الدولي أو في المبادئ العامة للقانون. وسنبحث ذلك تفصيلاً فيما يلي:‏

                        أولاً- عدم الوفاء بالالتزامات الدولية الاتفاقية:‏

                        تعتبر الاتفاقات الدولية العامة والخاصة المعاهدات) المصدر الأول للقانون الدولي وبالتالي للالتزامات الدولية.‏

                        وتعرف المعاهدة بأنها:‏

                        "اتفاق مكتوب بين شخصين أو أكثر من الأشخاص الدولية من شأنه أن ينشئ حقوقاً والتزامات متبادلة في ظل القانون الدولي.(15) " ولقد أشارت مقدمة "ميثاق الأمم المتحدة" إلى ضرورة إيجاد الشروط "التي يمكن في ظلها تحقيق العدالة واحترام الالتزامات الناشئة عن المعاهدات وغيرها من مصادر القانون الدولي". ومما لا شك فيه أن قاعدة العقد شريعة المتعاقدين: pacta sunt servanda "هي الأساس الذي تقوم عليه الالتزامات القانونية الناشئة عن الاتفاقات الدولية، فإذا أقدم شخص دولي على انتهاكها، فإنه يكون قد ارتكب فعلاً غير مشروع مما يرتب عليه المسؤولية الدولية، والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو هل يعتبر العقد الدولي، وهو اتفاق دولي ذو طابع تجاري أو مدني بحت بمثابة معاهدة؟ للإجابة على هذا السؤال لا بد من التمييز بين تصرفات الدولة بصفتها سلطة عامة تخضع لأحكام القانون العام وبين تصرفاتها المدنية والتجارية من بيع وشراء الخ.. أي بصفتها فرداً عادياً تخضع لأحكام القانون الخاص.‏

                        وبالرجوع إلى تعريف المعاهدة الملمح إليه آنفاً يتبين أن الاتفاق الدولي الذي يعتبر معاهدة هو الذي ينشئ حقوقاً والتزامات متبادلة في ظل القانون الدولي، وهو فرع من القانون العام. أما الاتفاق الدولي الذي يعتبر عقداً دولياً فإنه ينظم علاقات يحكمها القانون الخاص، وتتكفل قواعد القانون الخاص بتحديد القانون الداخلي الواجب التطبيق عليه والمحكمة المختصة بنظر المنازعات الناشئة عنه، وعلى الرغم من أن العقود الدولية لا تعتبر بمثابة معاهدات، إلا أن قاعدة "العقد شريعة المتعاقدين" ذات تطبيق عام على كافة أنواع الاتفاقات التي يبرمها أشخاص القانون العام، وبالتالي فإن عدم تنفيذ الاتفاقات الدولية ذات الطابع التجاري أو المدني البحت يمكن أن يشكل فعلاً غير مشروع يرتب المسؤولية الدولية.‏

                        أما العقد الذي يبرم بين دولة وبين شخص أجنبي سواء أكان شخصاً طبيعياً أم اعتبارياً، فإنه لا يعتبر معاهدة أو عقداً دولياً، وبالتالي فإن المسؤولية الدولية لا تترتب لمجرد مخالفة الدولة لأحكام هذا العقد، وإنما قد تشكل تلك المخالفة انتهاكاً لالتزاماتها الدولية نحو الأجانب المقررة في الاتفاقات الدولية التي هي طرف فيها أو في العرف الدولي... مما يرتب عليها المسؤولية إذا تبنت دولة المضرور مطلبه. ومن ذلك اتخاذها إجراء تمييزياً ضد الأجانب أو مخالفتها لأحكام القانون الداخلي في علاقاتها التعاقدية معهم.‏

                        ويختلف الوضع نوعاً ما في حالة نوع معين من الالتزامات التعاقدية ألا وهو السندات العامة public Bonds فالسند الذي تصدره الدولة هو التزام تجاه الحامل، وهو يصلح لعرضه في السوق ولتحويله بحرية، كما أن دفعات استهلاك الدين والفائدة تدفع لحامل نسخة السند في وقت معين، وغالباً ما يختلف الحامل عن المشتري الأصلي للسند.‏

                        ونتيجة لذلك تبنت الحكومات عموماً موقفاً مفاده أن السند العام يمثل عقداً مرناً وغير شخصي، بخلاف العقود المبرمة مباشرة بين الدولة والأجنبي. وتمتنع الدول عادة عن ممارسة الحماية الديبلوماسية لحث الدولة المدينة على سداد ديونها المتمثلة في السندات العامة انطلاقاً من أن اصدار السندات العامة هو عمل من أعمال السيادة. كما أن القول المأثور القديم "فليحذر المشتري" ينطبق على جميع حاملي السندات العامة، ولكن غالبية الدول تعتبر أن الدولة المدينة تتحمل المسؤولية الدولية إذا دلت الظروف على "الافتقار إلى حسن النية" "lack of good faith" أو على وجود معاملة تمييزية ضد الأجانب بخصوص السندات العامة.‏

                        شرط كالفو: calvo clause‏

                        من الطبيعي أن تشعر الحكومات بعدم الارتياح نحو الطلبات المقدمة من الأجانب إلى حكوماتهم يحثونها فيها على ممارسة حقها في الحماية الديبلوماسية ورفع دعاوى دولية مبنية على مخالفات مزعومة لشروط عقدية. ولذلك بدأ عدد من دول أميريكا اللاتينية بتضمين العقود التي تبرمها هذه الدول مع الأجانب شرطاً يدعى بـ "شرط كالفو"(16) وبمقتضى هذا الشرط يوافق الأجنبي على أن المنازعات الناجمة عن العقد يجب أن تسوى أمام المحاكم الوطنية للدولة المتعاقدة وطبقاً لقانونها الوطني، ويجب ألا تكون تلك المنازعات سبباً في رفع دعوى المسؤولية الدولية على الدولة المتعاقدة من قبل حكومة الدولة التي يتمتع الأجنبي بجنسيتها. ويتضمن "شرط كالفو" في بعض العقود نصاً إضافياً مفاده أن الأجنبي يعتبر لأغراض العقد بمثابة مواطن في الدولة المتعاقدة. ولقد أدى إدراج "شرط كالفو" في العقود التي تبرمها الدولة مع الأجانب إلى احتجاج الدول الأخرى عليه لسببين:‏

                        أولهما: أنه يحاول حرمان الأجنبي من حقه في الاستعانة بحكومته لإزالة الضرر اللاحق به بعد استنفاذه طرق المراجعة الداخلية.‏

                        وثانيهما: أنه يضع مبدأ جديداً هو أن المواطن العادي يستطيع، وعلى مسؤوليته الشخصية، أن يحرم دولته من حق حماية مصالحها في الخارج، وهو حق مقرر للدولة ولا يملك المواطن التنازل عنه بالنيابة عنها.‏

                        ولذلك لم توافق الدول الكبرى، خارج أمريكا اللاتينية، على تقييد حقها، كدولة ذات سيادة، في حماية مواطنيها في الخارج، حتى ولو تخلوا كتابة عن مثل هذه الحماية. وقد اعتبر بعض القرارات الصادرة عن المحاكم الدولية وهيئات التحكيم الدولية، أن "شرط كالفو" منتج لمفاعيله، في حين أن معظم القرارات اعتبره باطلاً.‏

                        والحقيقة هي أن غالبية الدول لا تعتد حالياً بشرط كالفو، ولا تتردد في اتخاذ الخطوات المناسبة لحماية حقوق مواطنيها في الخارج.(17)‏

                        ثانياً- عدم الوفاء بالالتزامات الدولية المقررة في العرف الدولي:‏

                        سنحاول القاء الضوء على هذا الموضوع في الفقرتين التاليتين المتعلقتين بالمركز القانوني للأجانب وبممتلكات الأجانب.‏

                        آ-المركز القانوني للأجانب والمسؤولية الدولية:(18)‏

                        لا يتمتع الأجنبي، في الأحوال العادية، سواء كان من ذوي الإقامة الخاصة أو العادية أو المؤقتة بأية امتيازات خاصة، فهو لا يستطيع المطالبة بحقوق تفوق تلك التي يتمتع بها المواطن العادي. وأكثر من ذلك، فإنه يفتقر إلى الحقوق السياسية والمدنية التي يتمتع بها المواطنون.‏

                        ومن جهة ثانية فإن للأجنبي الحق في اللجوء إلى محاكم البلد المضيف والخضوع لنفس الإجراءات القانونية التي يخضع لها المواطنون، وتحمي قوانين الدولة المضيفة الأجنبي بنفس الطريقة التي تحمي بها مواطني الدولة، ما لم توجد قيود يفرضها القانون على تملك الأجنبي وعلى حقوقه التعاقدية، ولا تترتب المسؤولية الدولية على الدولة جراء هذه القيود. فبمقتضى المادة الأولى من المرسوم التشريعي رقم 189 لعام 1952(19) مثلاً، لا يحق للأجنبي اكتساب الحقوق العينية وكذلك إجراء العقود بالإيجار أو بالاستثمار الزراعي لمدة تزيد على ثلاث سنوات وذلك على جميع أراضي الجمهورية العربية السورية مع بعض الاستثناءات. وعلى ذلك فإن القضاء السوري سيرد الدعوى التي يرفعها الأجنبي لتثبيت عقد شراء عقار خلافاً لأحكام النص المذكور.‏

                        ومن جهة ثالثة، فإن الأجنبي يخضع للضرائب خضوع المواطنين لها، ولا يتمتع بمركز ممتاز في هذا الصدد. ولكن الدولة تعتبر مسؤولة بمقتضى قواعد العرف الدولي إذا فرضت على الأجانب نوعاً من الضرائب التمييزية، ويمكن بالتالي التقدم بإدعاء دولي ضدها. كما أن الأجنبي غير محمي حالياً من امكانية فرض الضرائب عليه بصورة مزدوجة ومن قبل حكومته ومن قبل الحكومة المضيفة، ما لم توجد اتفاقيات تقضي بخلاف ذلك.‏

                        وأخيراً جرى العرف لدى الكثير من الدول على احتفاظها بمهن أو حرف معينة لمواطنيها. ويمكن رد مثل هذا العرف إلى أسباب عديدة. فقد تقضي الاعتبارات الأمنية بأن تشغل مهن معينة من قبل وطنيين يتصفون بالاخلاص والولاء للدولة، كما يسود الاعتقاد بأن بعض الحرف تتطلب تدريباً خاصاً في معاهد الدولة المعنية... الخ. ومن الواضح أن أهدافاً موضوعية تكمن وراء مثل هذه التدابير. ولذلك لا تمكن إثارة أية اعتراضات من قبل الدول الأخرى، طالماً أن هذه التدابير تطبق فقط على الراغبين في دخول تلك المهن والحرف. ومع ذلك فإن هنالك معاهدات دولية تمنع مثل هذه القيود بصورة خاصة، وأن خرق مثل هذه المعاهدات يمكن أن يرتب المسؤولية الدولية.(20)‏

                        ب-ممتلكات الأجانب والمسؤولية الدولية:‏

                        جرى العرف الدولي على أن تخضع ممتلكات الأجانب إلى نفس القوانين والأنظمة التي تطبق على ممتلكات المواطنين. ولا يستبعد هذا المبدأ العام صدور قوانين أو أنظمة تمنع الأجانب من تملك أنواع معينة من العقارات في مناطق جغرافية معينة.‏

                        وهكذا فإن منع الأجنبي من تملك عقار ضمن مسافة معينة من قاعدة حربية يعتبر إجراء قانونياً. وطالما أن جميع الأجانب يخضعون لهذا القيد، فإنه لا يمكن لأية حكومة أن- تعترض على ذلك من الناحية القانونية.‏

                        ثالثاً: عدم مراعاة المبادئ العامة للقانون المعترف بها:‏

                        تشكل المبادئ العامة للقانون المعترف بها المصدر الأصلي الثالث من مصادر القانون الدولي حسب التعداد الوارد في المادة /38/ من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية.‏

                        ورغم اختلاف الفقهاء حول المقصود بتعبير "المبادئ العامة للقانون المعترف بها" إلا أن الرأي السائد عند غالبية الفقهاء بأن المقصود بها "المبادئ العامة للقانون الداخلي التي يمكن تطبيقها على النطاق الدولي عند عدم وجود مصدر قانوني دولي آخر معترف به كالمعاهدة والعرف"(21) ومن الطبيعي أن تتفق المبادئ العامة للقانون مع روح القانون الدولي عندما يراد تطبيقها على العلاقات الدولية القائمة بين أشخاص القانون الدولي لا أن تطبق تطبيقاً حرفياً. فمن المعروف أن القانون العام، والقانون الإداري بوجه خاص أخذ الكثير من مبادئه ومؤسساته عن القانون الخاص، ولكن بعد أن أدخل عليها التعديلات الملائمة لسد حاجاته. والدليل على ذلك هو أن "مبدأ عدم جواز اللجوء لاستخدام القوة" يعتبر من المبادئ العامة في القانون الخاص ويطبق بصورة مطلقة. ورغم أن هذا المبدأ يطبق -كقاعدة عامة- على العلاقات الدولية، إلا أن القانون الدولي العام يجيز اللجوء لاستخدام القوة في أحوال استثنائية. ولعل من المفيد أن نشير بهذه المناسبة إلى الفرق بين المبادئ العامة للقانون والعرف. ذلك أنه لا بد من توافر ثلاثة عناصر في العرف الدولي وهي(22) الاستمرار Duration والتكرار Uniformity وعمومية التطبيق Cenerality of the practice في حين أن المحكمة الدولية قد تطبق مبدأ من المبادئ العامة للقانون على قضية تنظرها للمرة الأولى إذا لم تجد قاعدة قانونية صالحة للتطبيق في اتفاق أو عرف دوليين.‏

                        ولعل من المفيد إلقاء بعض الضوء على اثنين من المبادئ العامة للقانون اللذين يستعان بهما من قبل المحاكم الدولية أحياناً في نطاق المسؤولية الدولية وهما:‏

                        آ- التعسف في استعمال الحق.‏

                        ب-المسؤولية الموضوعية والمطلقة.‏

                        آ-التعسف في استعمال الحق: Abuse of rights‏

                        لقد أخذ النظام القانوني السوري، كما فعل العديد من الأنظمة القانونية الرئيسية الحديثة في العالم.(23) بنظرية التعسف في استعمال الحق. فقد نصت المادة السادسة من القانون المدني السوري ما يلي:‏

                        "يكون استعمال الحق غير مشروع في الأحوال الآتية:‏

                        آ-إذا لم يقصد به سوى الأضرار بالغير.‏

                        ب-إذا كانت المصالح التي يرمي إلى تحقيقها قليلة الأهمية بحيث لا تتناسب البتة مع ما يصيب الغير من ضرر بسببها.‏

                        جـ- إذا كانت المصالح التي يرمي إلى تحقيقها غير مشروعة.‏

                        بل وأخذت بعض الاتفاقيات الدولية الحديثة بهذه النظرية، ومن ذلك "اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لعام 1983(24) " إذا تنص المادة 105 من هذه "الاتفاقية" ما يلي:‏

                        "يجوز لكل دولة في أعالي البحار، أو في أي مكان آخر خارج ولاية أية دولة، أن تضبط أية سفينة أو طائرة قرصنة، أو أية سفينة أو طائرة أخذت بطريق القرصنة وكانت واقعة تحت سيطرة القراصنة، وأن تقبض على من فيها من الأشخاص وتضبط ما فيها من الممتلكات.‏

                        ولمحاكم الدولة التي قامت بعملية الضبط أن تقرر ما يفرض من العقوبات، كما أن لها أن تحدد الإجراء الذي يتخذ بشأن السفن أو الطائرات أو الممتلكات، مع مراعاة حقوق الغير من المتصرفين بحسن نية".‏

                        ولكن المادة 106 من "الاتفاقية" والتي تحمل عنوان "المسؤولية في الضبط دون مبررات كافية "تنص ما يلي:‏

                        "عندما تضبط سفينة أو طائرة بشبهة القرصنة دون مبررات كافية، تتحمل الدولة التي قامت بعملية الضبط، إزاء الدولة التي تحمل السفينة أو الطائرة جنسيتها، مسؤولية أية خسائر أو أضرار يسببها هذا الضبط".‏

                        وهكذا فإن الدولة التي قامت بعملية الضبط تتحمل مسؤولية أعمال تعتبر حقاً مشروعاً أقرته "الاتفاقية" لها.‏

                        كما أن المحاكم الدولية أخذت بنظرية التعسف في استعمال الحق في العديد من أحكامها، ومن ذلك القرار الذي أصدرته محكمة التحكيم في قضية مصنع صهر المعادن.‏

                        The trail Smelter Arbitration‏

                        في شهر آذار من عام 1941 بشأن الضرر اللاحق بولاية واشنطن الولايات المتحدة) من جراء الأبخرة المتصاعدة من مصنع لصهر المعادن في كولومبيا البريطانية كندا) فقد أكدت المحكمة في قرارها أنه:‏

                        "بمقتضى مبادئ القانون الدولي، لا يحق لأية دولة أن تستعمل اقليمها أو تسمح باستعماله بطريقة تتسبب، نتيجة للأبخرة، في الحاق الضرر بأقليم دولة أخرى، أو بالممتلكات أو بالأشخاص في هذه الدولة، كما يعتبر دومينيون كندا مسؤولاً أيضاً بمقتضى القانون الدولي عن إدارة مصنع صهر المعادن"(25)‏

                        وعلى هذا "ليس من غير المعقول أن نعتبر مبدأ التعسف في استعمال الحق كواحد من المبادئ العامة(26) للقانون" كما يقول الأستاذ براون لي.‏

                        ويلاحظ الأستاذ "لوترباخت":‏

                        "إن هذه ما هي إلا بدايات متواضعة لمبدأ مليء بالإمكانيات يضع طاقة معتبرة لا تخلو من صفة تشريعية بين يدي محكمة قضائية"(27)‏

                        ومع ذلك يرى الأستاذ براون لي أن بالإمكان الاستغناء عن نظرية التعسف في استعمال الحق عندما تضاف على القاعدة القانونية الموجودة معايير مثل حسن النية good faith والمعقولية reasonableness والإدارة المعتادة.(28) Normal administrArion إلا أننا نخالفه في رأيه هذا. فنظرية التعسف في استعمال الحق كيان قائم بذاته، وللتعسف في استعمال الحق حالات محددة لا يجوز تخطيها.‏

                        وإذا أخذنا القانون المدني السوري على سبيل المثال نجد أن المادة الخامسة منه أتت بقاعدة عامة هي:‏

                        "من استعمل حقه استعمالاً مشروعاً لا يكون مسؤولاً عما ينشأ عن ذلك من ضرر".‏

                        ثم جاءت المادة السادسة منه لتحدد حالات التعسف في استعمال الحق حصراً وهي ثلاث:‏

                        قصد الأضرار بالغير، ورجحان الضرر على المصلحة رجحاناً كبيراً، وعدم مشروعية المصالح التي يرمي المالك إلى تحقيقها. ومن الواضح أن المعايير التي ذكرها الأستاذ براون لي لا يمكنها أن تسد الفراغ الذي سدته المادة السادسة المذكورة.‏

                        وهكذا فعندما يراد أخذ هذه النظرية من القانون الخاص إلى القانون العام، يجب أن يتم ذلك ضمن هذا المفهوم. فالقاعدة العامة هي عدم مسؤولية الدول عندما تستعمل حقوقها بصورة مشروعة، والمسؤولية بسبب التعسف في استعمال الحق تشكل استثناء من القاعدة. ولذلك لا بد من تحديد الحالات التي تشكل تعسفاً في استعمال الحق، على نحو ما فعل المشرع السوري في المادة السادسة الملمح إليها. وتبقى من مهمة الاتفاقات الدولية والأحكام القضائية والتحكيمية الدولية تحديد الحالات التي تعتبر من قبيل التعسف في استعمال الحق في مجال العلاقات الدولية.‏

                        ب-المسؤولية الموضوعية والمطلقة: Objective responsibility‏

                        لقد أدى التقدم العلمي الكبير واستعمال الآلات الخطرة إلى وقوع عدد من الحوادث نتيجة لاستعمال هذه الآلات نجم عنها لحوق أضرار بالغير دون ارتكاب أي خطأ. ولذلك اتجه الفقهاء إلى إقامة المسؤولية في مثل هذه الحوادث على ركنين فقط وهما:‏

                        1-الضرر.‏

                        2-علاقة السببية بينه وبين الفعل الذي أحدثه، بل إن القانون المدني السوري أخذ بمبدأ المسؤولية بدون خطأ أو المسؤولية الموضوعية والمطلقة فنصت المادة /776/ منه ما يلي:‏

                        1-على المالك ألا يغلو في استعمال حقه إلى حد يضر بملك الجار.‏

                        2-وليس للجار أن يرجع على جاره في مضار الجوار المألوفة التي لا يمكن تجنبها، وإنما له أن يطلب إزالة هذه المضار إذا تجاوزت الحد المألوف"‏

                        كذلك اتجه التشريع والقضاء في العديد من الدول إلى الأخذ بمبدأ المسؤولية بدون خطأ في حالات معينة.‏

                        فقد أخذ المشرع الفرنسي بفكرة المسؤولية المبنية على تحمل تبعة المخاطر: theorie de risque في تشريعات خاصة. كما أخذ بها مجلس الدولة الفرنسي بالاستناد إلى ضرورة مساواة الأفراد أمام الأعباء العامة.‏

                        I´égalité devant les charges pubiques‏

                        ولكن بصفة تكميلية Complémentaire أي في حالات خاصة يكون اشتراط ركن الخطأ فيها متعارضاً مع العدالة بشكل صارخ. ولكن مجلس الدولة الفرنسي اشترط في مقابل ذلك توافر صفتين أساسيتين في الضرر المرتبط بهذا المبدأ وهماً:‏

                        آ-الخصوصية Specialité) بمعنى أن يكون للمتضرر مركز خاص قبل الضرر لا يشاركه فيه غيره من المواطنين.‏

                        ب-الجسامة غير العادية anormalité).‏

                        وعلى الإدارة لكي تتخلص من المسؤولية على هذا الأساس أن تلجأ إلى إثبات القوة القاهرة force majeure) الأمر الذي يؤدي إلى انهيار ركن علاقة السببية بين الضرر والفعل الذي أحدثه.‏

                        ويأخذ القانون الأميركي أيضاً بمبدأ المسؤولية الموضوعية والمطلقة عن النشاط شديد الخطر، كما يقر القضاء الانكليزي مبدأ المسؤولية الموضوعية والمطلقة عن الأشياء الخطرة.(29)‏

                        وهكذا يمكن القول بأن مبدأ المسؤولية بدون خطأ هو من المبادئ العامة للقانون التي أخذت بها الدول المختلفة، ونتيجة لذلك مالت الممارسة الدولية وأحكام القضاء الدولي إلى الأخذ بالمسؤولية الموضوعية والمطلقة... ومن ذلك قضية كير Caire حيث طبق "رئيس لجنة الادعاءات الفرنسية المكسيكية"‏

                        president of the franco- Mexican claims Commission) "‏

                        "مبدأ المسؤولية الموضوعية للدولة، أي، المسؤولية عن تلك الأفعال المرتكبة من قبل موظفيها وأجهزتها، والتي هم ملزمون بأدائها، رغم عدم وجود خطأ من جانبهم...."(30)‏

                        ويعارض بعض فقهاء القانون الدولي الأخذ بمبدأ المسؤولية الموضوعية والمطلقة في مجال العلاقات الدولية، إلا أن عدداً كبيراً من الفقهاء يؤيد هذا المبدأ أما صراحة أو ضمناً.‏

                        وقد أخذت اتفاقية روما لعام 1952 بشأن المسؤولية عن الحوادث التي تسببها الطائرات للغير على سطح الأرض بمبدأ المسؤولية الموضوعية والمطلقة:‏

                        "فمنذ اللحظة التي توجد فيها صلة سببية بين الضرر وواقعة ما، فإن المسبب يلتزم بالتعويض بغض النظر عن أي خطأ من جانبه. وهكذا تحول الأمر من نطاق المسؤولية الشخصية إلى المسؤولية الموضوعية، والمسؤولية بهذه الصفة تستند إلى فكرة الخطر الناتج عن الاستثمار"(31) وبموجب هذه "الاتفاقية" تقوم المسؤولية على أركان ثلاثة هي:‏

                        1-وجود الطائرة بحالة طيران.‏

                        2-صلة السببية بين الطيران والضرر.‏

                        3-وجود ضرر أصاب الأشخاص أو الأموال.‏

                        وفي رأينا من مصلحة الدول النامية التشدد في قواعد المسؤولية الدولية، ومن ذلك تبني مبدأ المسؤولية الموضوعية والمطلقة، وخاصة في مجال الأنشطة الخطرة التي تعتبر وقفاً على الدول المتقدمة كاستخدام الطاقة الذرية في الأغراض السلمية واستعمال الفضاء الخارجي.‏

                        (1) - see, von Clahn, law Among Nations, London, the Macmillan Company, 1970,p222.‏

                        Voir, jean Combacav et serge sur, Droit international public, Montchrestien, paris, 1993,p517-555.‏

                        (2) -انظر د.شكري، المرجع السابق، ص150.‏

                        (3) - It shoud... Be observed that.. A state cannot adduce as against "another State its own constitution with a view to evading obligations incumbent upon it under international law or treaties in force. Applying these principles to the present case, it result that the question of the treatment of polish nationals or other persons of polish origin or speech must be settled exclusively on the basis of the rules of international law and the treaty provisions in force between poland and Danzig"‏

                        -See Brownlie, principles of public International law, oxford, 1973, p37.‏

                        (4) "... It is certain that France cannot rely on her own legisla tion to limit the scope of her international obligations"‏

                        -see Bro wnlie, op. Cit., P37.‏

                        (5) -نشر المرسوم التشريعي رقم /184/ تاريخ 9/8/1970 في الجريدة الرسمية، العدد رقم /34/ الصادر بتاريخ 26/8/1970. في الصحيفة /1888/.‏

                        (6) -وبناء على ذلك فإنه ليس للدولة العبرية أن تستند إلى تشريعاتها لضم الأراضي العربية المحتلة أو أي جزء منها، مما يجعل ضم الجولان أو القدس.. الخ لاغ ولا قيمة قانونية له لمخالفة ذلك التزاماتها الدولية. "انظر يفصَّل ذلك في : د.عصام العسلي، الشرعية الدولية، اتحاد الكتاب العرب دمشق، 1992، من ص343-362‏

                        (7) -"ألاباما" هي سفينة تم بناؤها وتجهيزها في الموانئ البريطانية لصالح الولايات الأميركية الجنوبية، فقامت بإغراق عدد من سفن الولايات الأميركية الشمالية، وتم ذلك في الوقت الذي كانت فيه بريطانيا دولة محايدة. فشكل عملها بالتالي خرقاً للعرف الدولي الخاص بواجبات الدول المحايدة. وقد انعقدت محكمة تحكيم دولية في جنيف للنظر في القضية. فقضت هذه بموجب قرارها الصادر في 14 أيلول 1871 بأن: "عدم وجود تشريع يمنع بناء السفن وتجهيزها في الموانئ البريطانية ويمنع سفرها للانضمام إلى القوى المتحالفة لا يعتبر دفاعاً"‏

                        The absence of legislation to prevent the fitting out of cmmerce raiders in British ports and their journey to join the confederate forces was no defence.‏

                        -see, Brownlie, op. Cit., P.37.‏

                        -انظر أيضاً شارل روسو القانون الدولي العام، تعريب شكر الله خليفة وعبد المحسن سعد، بيروت الأهلية للنشر والتوزيع. 1982، ص121-122.‏

                        (8) - "I believe that it is undoubtedly a sound general principle that, whenever misconduct on the part of persons in state service), whatever may be their particular status or rank under domestic law, results‏

                        in the failure of a nation to perform its obligations under international law, the nation must bear the responsibility for the wrongful acts of its servants.‏

                        -see, Brownlie, op. Cit., P.434.‏

                        (9) تطبيقاً هذا المبدأ فقد اعتمدت "الجمعية العامة للأمم المتحدة" قراراً يطلب من "الأمين العام للأمم المتحدة "تقويم الأضرار التي تسبب بها القصف الإسرائيلي لمعسكر الأمم المتحدة في بلدة "قانا" بجنوب لبنان بتاريخ 18 نيسان 1996 والذي راح ضحيته أكثر من مائة قتيل من المدنيين.‏

                        وقد صوتت "إسرائيل" و"الولايات المتحدة" ضد هذا القرار الذي يطلب من "الأمين العام" أن يضم إلى تقريره المقبل حول قوات الطوارئ الدولية العاملة في جنوب لبنان تقويماً كاملاً للأضرار التي نجمت عن القصف الإسرائيلي لبلدة "قانا".‏

                        وأفاد تحقيق أجرته "الأمم المتحدة" إن قصف "قانا" كان متعمداً، لكن "إسرائيل" و"الولايات المتحدة" رفضتا مضمون هذا التحقيق وكانت "الجمعية العامة" دعت إسرائيل إلى دفع تعويضات للبنان في قرارلها دان قصف "قانا".‏

                        تكرم بمراجعة، صحيفة تشرين، العدد رقم 6540، تاريخ 9/6/1996، ص1.‏

                        (10) - the state also bears an international responsibility for all act, committed. By its officials or its organs which are delictual according to international law, regardless of whether the official or organ has acted within the limits of his competency or has exceeded those limits... However, in order to justify the admission of this objective responsibility of the state for acts committed by its officials or organs outside their competence, it is necessary that they should have acted, at least apparently, as authorized officials or organs, or that in acting, they should have used powers or meaures appropriate to their official character..."‏

                        -see, Brownlie, op. Cit., .p. 437.‏

                        -انظر أيضاً، شارل روسو، المرجع السابق، ص122.‏

                        - (11) "... A State has a right to delegate to its judicial department the application and interpretation of treaties, if, however, the courte, in that task, decline to give effect to the treaty or are unable to do so because the necessary change in or addition to, the national law has not been made, their judgments involve the stste in a breach of tresty". See, Brownlie, op. Cit., P.436.;‏

                        (12) - "Article 9.A state is responsible if an injury to an alien results from a denial of justice Denial of justice exists when there is a denial, unwarranted delay or obstruction of access to courts, gross deficiency in the administration of judicial or remelial process, failure to provide those guarantees which are generally considered indispensable to the proper admiNistra- tion of justice, or a manifestly unjust judgment. An error of a national court which does not produce manifest injustice. Is not a denial of justice".‏

                        -see, Brownlie op. Cit., P.515.‏

                        (13) - see, Brownlie, op. Cit., Pp.514-516.‏

                        (14) - "the Commission found that chattin had been legally arrested, altough the procedure used... "differed from that normally employed in the united States. On the other hand, the evidence produced indicated grave irregularities in the court proceedings, such as lack of proper investigation, insufficient confrontation with witnesses and evidence, failure to acquaint the accused with all the charges brought against him, undue delay in starting judicial procee-dings, rendering the hearings in open court a mere formality, and a proven intentional severity. Of the judgment without, however, proof of unfriendliness on the part of the judge, as Claimed by chattin).‏

                        See, von Glahn, op. Cit., Pp. 231-232.‏

                        -انظر أيضاً، شارل روسو، المرجع السابق، ص123.‏

                        (15) -انظر، د. شكري، المرجع السابق، ص369.‏

                        (16) -وينسب هذا الشرط إلى وزير خارجية "الأرجنتين "كالفو" الذي كان أول من وضعه.‏

                        (17) -انظر، د.شكري، المدخل إلى القانون الدولي العام، دمشق، مطبعة جامعة دمشق، 1986-1987، ص170-171.‏

                        (18) -انظر بشأن الحقوق العامة والخاصة التي يتمتع بها الأجنبي في سورية، كتاب الدكتور فؤاد شباط، المركز القانوني للأجانب في دمشق، دمشق، مطبعة جامعة دمشق، 1965.‏

                        (19) -نشر في العدد /19/ تاريخ 3/4/1952 من الجريدة الرسمية ص1604.‏

                        - (20) See, von Glahn, op, cit., P.223‏

                        (21) -انظر د.شكري، المرجع السابق، ص56.‏

                        (22) - see,Brownlie, op. Cit.. Pp. 6-7.‏

                        (23) -وقد أخذ القانون المدني المكسيكي بهذه النظرية في المادة /1912/ منه. وكذلك الأمر بالنسبة للقانون المدني السويسري المادة الثانية) والقانون المدني السوفيتي المادة الثانية)...‏

                        (24) -لم ينضم القطر العربي السوري إلى هذه "الاتفاقية" حتى الآن.‏

                        (25) - Under the principles of international law no state had the right to use or permit the use of its territory in such a manner as to cause injury by fumes in or to the territory of anather state or the property or persons therein, and also that the Dominion of Canada was responsible in iNternational law for the conduct of the trail Smelter".‏

                        -see, von Glahn, op. Cit., P.179.‏

                        (26) - "It is not unreasonable to regard the principle of abuse of rights as a general principle of law".‏

                        -see, Brownlie, op. Cit., P. 431.‏

                        - (27) these. are but modest beginnings of a doctrine which is full of potentialities and which places a considerable power not devoid of a legislative character, in the hands of a judicial tribunal."‏

                        -see, Brownlie, op, cit. , p.432.‏

                        (28) - see, Brownlie, op, cit., P.432.‏

                        (29) -انظر. محمد حافظ غانم، المرجع السابق، ص96.‏

                        (30) - "... The doctrine of the objective responsibity of the State, that is to say, a responsibility for those acts committed by its officials or its organs, and which they are bound to perform, despite the absence of faute on their part..."‏

                        See, Brownlie, op. Cit., Pp. 423-424.‏

                        (31) -انظر، نهاد السباعي، موسوعة الحقوق التجارية، الجزء السابع الحقوق الجوية)، دمشق، جامعة دمشق، 1963،ص294.‏
                        إذا الشعب يوما أراد الحياة
                        فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                        و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                        و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                        تعليق


                        • #13
                          رد: دراسات دولية

                          الفرع الثاني الشروط الموضوعية لترتيب المسؤولية الدولية للدولة تمهيد:

                          مفهوم اسناد الفعل غير المشروع إلى الدولة:‏

                          The Concept of Imputability‏

                          تؤكد النظرية التقليدية والتطبيق العملي أن الشخص الدولي وحده هو الذي يمكن أن يتحمل المسؤولية الدولية سواء بصورة مباشرة أو بصورة غير مباشرة. ولم يكن مرتكب الفعل غير المشروع سواء أكان بصورة قيام بعمل أم امتناع عن القيام بعمل) المسؤول عن الضرر اللاحق بالأجنبي في يوم من الأيام مشمولاً في أية مطالبة دولية، لأن الشخص الدولي وحده هو الذي يتحمل مسؤولية التعويض عن الضرر الناجم عن هذا الفعل. ويطلق على هذا المفهوم اسم "الاسناد". وهو يعني أن ينسب فعل معين ارتكبه شخص ما أو مجموعة من الأشخاص الطبيعيين إلى دولة ما أو شخص دولي آخر. بحيث يعتبر الفعل المذكور فيما بعد على أنه فعل تلك الدولة أو ذلك الشخص الدولي وتترتب عليه بالتالي المسؤولية عنه. وهذا المفهوم هو الأساس الذي تقوم عليه فكرة مسؤولية الشخص الدولي، لأن العديد من الأفعال التي ترتب مثل هذه المسؤولية قام بها بادئ ذي بدء شخص أو مجموعة من الأشخاص الطبيعيين.(1)‏

                          وتنشأ المسؤولية الدولية المباشرة عن الأفعال المنسوبة إلى الدولة نفسها بأن تكون صادرة عن سلطاتها المختلفة، أي عن فرد أو هيئة يمنحها القانون الداخلي اختصاصاً، وبالتالي تسأل الدولة عن الضرر الناجم عن هذه الأفعال.‏

                          أما المسؤولية الدولية غير المباشرة للدولة فهي تنشأ عن أفعال صدرت عن أفراد عاديين يحملون جنسيتها أو عن أفراد من الأجانب يقيمون في اقليمها وتلتزم الدولة في هذه الحالة بمعاقبة الفاعلين أو بالزامهم يدفع التعويض إلى الأجنبي المتضرر. ولا تترتب على الدولة هذه المسؤولية غير المباشرة إلا إذا قصرت في الوفاء بهذا الالتزام، لأن تقصيرها في هذه الحالة يعتبر فعلاً غير مشروع.‏

                          نخلص مما تقدم إلى أنه لا بد لترتيب المسؤولية الدولية من توفر شرطين أساسيين:‏

                          أولهما: وجود فعل يمكن اسناده إلى الدولة.‏

                          ثانيهما: عدم مشروعية هذا الفعل طبقاً للقانون الدولي.‏



                          المبحث الأول - وجود فعل يمكن اسناده إلى الدولة‏

                          قد يكون الفعل المسند إلى الدولة صادراً عن سلطاتها التشريعية أو التنفيذية أو القضائية.(2)‏

                          أولاً- مسؤولية الدولة عن أعمال السلطة التشريعية:‏

                          تتمتع الدولة ذات السيادة بحرية وضع الدستور من جهة وسن القوانين اللازمة لتنظيم أمورها ضمن حدود اقليمها من جهة أخرى. ولكن يتعين عليها أن تمارس تلك الحرية بما لا يتعارض مع التزاماتها الدولية، وعلى ذلك فإنه:‏

                          آ-لا يحق للدولة أن تستند إلى دستورها للتملص من التزاماتها الدولية:‏

                          ولقد ورد هذا المبدأ في الرأي الاستشاري الصادر عن "محكمة العدل الدولية الدائمة، "بخصوص "قضية المواطنين البولونيين في مدينة دانزيغ الحرة" بين بولونيا ومدينة دانزيغ، والذي جاء فيه:‏

                          "... مما تجب ملاحظته أن دولة مالا تستطيع أن تتذرع بدستورها للتحلل من التزاماتها المترتبة عليها تجاه دولة أخرى بمقتضى القانون الدولي أو المعاهدات السارية المفعول. وينتج عن تطبيق هذه المبادئ على هذه القضية، أن مسألة معاملة المواطنين البولونيين أو الأشخاص الآخرين الذين هم من أصل بولوني أو ناطقين باللغة البولونية، تجب تسويتها حصراً على أساس قواعد القانون الدولي ونصوص المعاهدة السارية المفعول بين بولونيا ودانزيغ(3) "‏

                          ب-لا يحق للدولة أن تستند إلى قوانينها للتملص من التزاماتها الدولية:‏

                          ويتجلى هذا المبدأ في صورتين:‏

                          1-المسؤولية الدولية الناشئة عن سن قانون يخالف الالتزامات الدولية للدولة:‏

                          ولقد ترسخ هذا المبدأ في الاجتهادات القضائية الصادرة عن محكمة التحكيم الدائمة ومحكمة العدل الدولية الدائمة ومحكمة العدل الدولية. ففي قضية "المناطق الحرة" لاحظت "محكمة العدل الدولية الدائمة":‏

                          "... من المؤكد أن فرنسا لا تستطيع أن تستند إلى تشريعها الوطني لكي تُضيِّق من نطاق التزاماتها الدولية.(4)‏

                          ولقد تكرس هذا المبدأ في المادة /27/ من "اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات لعام 1969" والتي انضمت إليها الجمهورية العربية السورية بموجب المرسوم التشريعي رقم /184/ تاريخ 9/8/1970(5) فقد جاء فيها أنه:‏

                          "لا يجوز لطرف في معاهدة أن يحتج بنصوص قانونه الداخلي كسبب مبرر لاخفاقه في تنفيذ المعاهدة. لا تخل هذه القاعدة بالمادة 46"(6)‏

                          ونصت المادة /46/ ما يلي:‏

                          1-ليس للدولة أن تحتج بأن التعبير عن رضاها الالتزام بالمعاهدة قد تم بالمخالفة لحكم في قانونها الداخلي يتعلق بالاختصاص بعقد المعاهدات كسبب لإبطال هذا الرضا، إلا إذا كانت المخالفة بينة وتعلقت بقاعدة أساسية من قواعد القانون الداخلي.‏

                          2-تعتبر المخالفة بينة إذا كانت واضحة بصورة موضوعية لأية دولة تتصرف في هذا الشأن وفق التعامل المعتاد وبحسن نية".‏

                          2-المسؤولية الدولية الناشئة عن اهمال الدولة سن تشريع تستوجبه التزاماتها الدولية:‏

                          ويتجلى خير تطبيق لهذا المبدأ في قضية "مطالب ألاباما" Alabama Claims التي تشكلت بين الولايات المتحدة وبريطانيا في غضون الحرب الأهلية الأميركية.(7)‏

                          ويمكننا أن نستخلص من كل ما تقدم نتيجة هامة هي أن قواعد القانون الدولي تسمو على قواعد القانون الداخلي حتى ولو كان هذا الأخير قانوناً أساسياً دستوراً) وهذه نتيجة منطقية لحقيقة أن سيادة الدولة غير مطلقة، وإنما ترد عليها قيود تفرضها الالتزامات الدولية المتبادلة بين أشخاص القانون الدولي.‏

                          ثانياً- مسؤولية الدولة عن أعمال السلطة التنفيذية:‏

                          تعتبر الدولة مسؤولة عن القيام بالعمل أو الامتناع عن القيام بالعمل الصادر عن موظفيها أو إداراتها العامة أو مؤسساتها العامة، إذا نتج عنه لحوق ضرر بأشخاص الأجانب أو بأموالهم. ومن المعروف أن صلة المسؤولين بدولتهم تتفاوت إلى حد كبير. فمنهم من له صلة مباشرة بالدولة، وبالتالي تتحمل دولتهم المسؤولية المباشرة عن أعمالهم كرئيس الدولة.‏

                          وينطبق هذا الكلام على كبار رجال الإدارة ولكن على أساس أقل مباشرة. ولذلك يمكن للدولة أن تتنصل من أعمال مديريها مثلاً إذا كان ذلك من صالحها. ورغم أن مثل هذا التنصل لا يعفيها من المسؤولية الدولية، إلا أنه يعفيها من تهمة الحاق الضرر عمداً بالأجانب.‏

                          أما فيما يتعلق بصغار الموظفين، فإن بعدهم النسبي عن سلطة الدولة غالباً ما ينشئ مسؤولية الدولة غير المباشرة. ولا تترتب المسؤولية الحقيقية في هذه الحالة إلا إذا فشلت الدولة في إيقاع العقوبة على الموظف المذنب.‏

                          وقضية Massey claim خير مثال على ذلك. إذ كسبت "الولايات المتحدة" حكماً بمبلغ /15000/ دولار على سبيل التعويض بسبب اخفاق السلطات المكسيكية في اتخاذ الإجراءات المناسبة لمعاقبة قاتل Massey وهو مواطن أميركي يعمل في المكسيك وجاء في رأي المفوض نيلسن: Commissioner Nielson‏

                          "أعتقد أنه مبدأ عام سليم بدون شك، ذلك المبدأ الذي يقضي بأنه، حينما ينجم عن سوء إدارة الأشخاص العاملين في خدمة الدولة إخفاق دولة في الوفاء بالتزاماتها المقررة بمقتضى القانون الدولي، فإنه يتوجب على الدولة أن تتحمل مسؤولية الأفعال غير القانونية المرتكبة من قبل موظفيها مهما كان مركزهم أو مقامهم الخاص بمقتضى القانون المحلي.(8)‏

                          وبغض النظر عن مركز الموظف العام، فقد يصدر عنه فعل بدون إذن من حكومته، ولا بد من التمييز هنا بين حالتين:‏

                          الحالة الأولى: أن يصدر الفعل عنه بصفته الوظيفية وفي معرض ممارسته لها. وتتحمل الدولة في هذه الحالة المسؤولية الدولية الناجمة عن فعل هذا الموظف.(9)‏

                          الحالة الثانية: أن يصدر الفعل عن الموظف بصفته الشخصية وخارج نطاق وظيفته، ويعامل الفعل في هذه الحالة معاملة الأفعال الصادرة عن الأشخاص العاديين.‏

                          ولعل في قضية Caire Claim ما يوضح ذلك. فقد طلب ضابطان مكسيكيان مبلغاً من المال من المدعو Caire وهدداه بالموت إن لم يستجب لطلبهما. وبما أن المبلغ المطلوب لم يكن في متناول يده أمرا بإطلاق النار عليه، وقال رئيس اللجنة التي نظرت في هذه القضية:‏

                          "تتحمل الدولة أيضاً مسؤولية دولية عن جميع الأفعال المرتكبة من قبل موظفيها أو أجهزتها والتي تعتبر تقصيرية طبقاً للقانون الدولي، بغض النظر عما إذا كان الموظف أو الجهاز الحكومي قد تصرف ضمن حدود اختصاصه أو أنه تجاوز تلك الحدود. وعلى كل حال، فلتبرير الأخذ بهذه المسؤولية الموضوعية للدولة عن الأفعال المرتكبة من قبل موظفيها أو جهازها خارج حدود اختصاصه، فإن من الضروري أن يكون قد تصرف، من حيث الظاهر على الأقل، على أنه موظف أو جهاز مفوض في ذلك، أو أنه، في معرض قيامه بالعمل، استعمل صلاحيات وتدابير تتلاءم مع صفته الرسمية.(10)‏

                          هذا وتنطبق قاعدة "الإجازة اللاحقة كالوكالة السابقة" على الفعل الذي يرتكبه موظف عام ضد أجنبي متجاوزاً بذلك حدود صلاحياته، فيرتب الفعل المسؤولية الدولية على الدولة مباشرة، ويعفى الموظف المعني من كامل التبعة إذا أجازت دولته فعله.‏

                          ثالثاً- مسؤولية الدولة عن أعمال السلطة القضائية:‏

                          تترتب المسؤولية الدولية على الدولة جراء الأفعال الصادرة عن سلطتها القضائية، إذا تعارضت مع التزاماتها الدولية ونشأ عنها لحوق ضرر بأجنبي، ولا تستطيع الدولة الدفع بمبدأ فصل السلطات وبما يترتب عليه من استقلال السلطة القضائية، فمثل هذه الأمور تتعلق بالتنظيم الداخلي للدولة ولا تؤثر على التزاماتها الدولية كشخص اعتباري. ويتصل نشاط السلطة القضائية جوهرياً بموضوع "انكار العدالة" الذي سنعالجه بفقرة مستقلة نظراً لأهميته، وعلى كل حال تعتبر الدولة مسؤولة عن مخالفة التزاماتها الدولية من قبل السلطة القضائية، كأن تنظر المحاكم في نزاع يخرج عن اختصاصها بموجب اتفاق دولي، أو تغفل تطبيق القانون الدولي على نزاع يدخل في اختصاصها، أو ترتكب خطأ جسيماً في تطبيق تلك القواعد، أو تطبق قواعد القانون الوطني رغم مخالفتها للقانون الدولي.‏

                          ويضيف ماك نير Mcnair حالات جديدة تتعلق بتطبيق المعاهدات فيقول: "... للدولة الحق في تفويض أجهزتها القضائية بتطبيق وتفسير المعاهدات. وعلى كل حال، إذا ارتكبت المحاكم أخطاء في معرض قيامها بذلك العمل، أو امتنعت عن وضع معاهدة موضع التطبيق، أو كانت غير قادرة على القيام بذلك بسبب عدم ادخال تعديل أو إضافة على القانون الوطني تقضي الضرورة بادخالهما عليه، فإن أحكامها تنطوي على خرق للمعاهدة من قبل الدولة.(11)‏

                          انكار العدالة: Denial of justice - يستخدم اصطلاح "انكار العدالة" من قبل محاكم المطالب الدولية بحيث يمتد امتداد مفهوم المسؤولية الدولية للدولة عن الأذى اللاحق بالأجانب، وهو ينطوي على اخفاق سلطات الدولة المضيفة في توفير الوسيلة المناسبة لانصاف الأجنبي عندما تنتهك حقوقه الموضوعية، أو في مراعاة الأصول القانونية due process of law في ملاحقة ومعاقبة الأجنبي المسيء).‏

                          ويعتبر اصطلاح "انكار العدالة" عموماً بأنه يضم فئة خاصة من النواقص deficiencies الصادرة عن أجهزة الدولة المضيفة، وخصوصاً فيما يتعلق بحسن سير العدالة. وقد وجدت تعريفات متنوعة لاصطلاح "انكار العدالة" ولكنها كلها ذات قيمة محدودة ولعل أفضل دليل لنا في هذا المجال هو المادة التاسعة من مشروع الاتفاقية التي أعدتها "جامعة هارفارد" بصدد "مسؤولية الدول عن الأضرار اللاحقة بأشخاص وأموال والأجانب على اقليمها" ونصها كما يلي:‏

                          "المادة 9: تكون الدولة مسؤولة إذا لحق ضرر بأجنبي ناجم عن انكار العدالة، ويعتبر انكاراً للعدالة ما يقع من المحكمة من تسويف لا مبرر له، أو إذا حيل بين الأجنبي المتضرر وبين الالتجاء إلى القضاء، أو إذا وجد نقص كبير في إجراءات التقاضي، أو إذا لم تتوفر الضمانات التي لا غنى عنها لحسن سير العدالة، أو إذا صدر حكم ينطوي على ظلم واضح. أما الخطأ غير المقصود الذي ترتكبه محكمة وطنية دون أن ينتج عنه ظلم واضح، فإنه لا يعتبر انكار للعدالة.(12)‏

                          ويدعو مفهوم "انكار العدالة" في حقيقته إلى بحث تطبيق مستوى دولي معين على بعض أوجه إدارة شؤون الدولة الداخلية، ولذلك فإن دول أميريكا اللاتينية، حفاظاً منها على سيادتها، تُضَيِّق من معنى "انكار العدالة" بحيث يقتصر على واجب ممارسة الأجهزة القضائية لاختصاصاتها سواء أخذت شكل السماح للأجنبي بالتقدم إلى المحاكم الداخلية، أو أخذت شكل قيام هذه المحاكم بالفصل في دعاوى الأجانب. ولا تسمح هذه الدول بتوسيع مفهوم "انكار العدالة" ليشمل البحث في الكيفية التي يتم بها توفير العدالة من نقص في إجراءات التقاضي أو في ضمانات حسن سير العدالة أو انطواء الحكم على الظلم واضح أو اتسامه بالتمييز ضد الأجانب.‏

                          أما الدول الغربية، فإنها ترى ضرورة وجود مستوى دولي يكفل حداً أدنى من الضمانات الذي يجب أن يتمتع به الأجنبي عند لجوئه إلى المحاكم بغض النظر عن الضمانات التي يمنحها القانون الداخلي. وقد طبق هذا المستوى الدولي بصورة طموحة من قبل المحاكم والكتاب في الدول الغريبة، وثارت نتيجة لذلك بعض الصعوبات. وأولها، أن تطبيق مستوى الحد الأدنى الدولي يمكن أن يشمل قرارات تتعلق بنقاط حساسة جداً من نقاط القانون الداخلي أو بنوعية الأجهزة القضائية الوطنية، وهكذا لا بد من السعي للتمييز بين "الخطأ" و"الظلم الواضح" فيما يتعلق بعمل المحاكم. فلا يعتبر انكاراً للعدالة إذا تضمن الحكم خطأ في الوقائع أو في التقدير أو في تطبيق القانون الداخلي بحسن نية. وثانيها، أن تطبيق مستوى الحد الأدنى الدولي في هذا المجال يبدو وكأنه يناقض المبدأ القائل بأن على الأجنبي، في حدود معينة على الأقل، أن يقبل القانون المحلي واختصاص المحاكم المحلية، وثالثها، أن مفهوم "انكار العدالة" يشتمل على أمثلة كثيرة يكون فيها الأذى اللاحق بالأجنبي مجرد خرق للقانون المحلي، في حين أن "الانكار" هو اخفاق في الوصول إلى مستوى دولي للاختصاص في معالجة خطأ يدخل ضمن الاختصاص الاقليمي، وهكذا فإن مفهوم الدولة الأجنبية التي ارتكب خطأ بحقها في شخص مواطنيها يمتد إلى قضايا يكون الخطأ الرئيسي فيها مجرد خرق للقانون المحلي.(13)‏

                          ولعل من المفيد أن نستشهد بقضية chattin claim كمثال على مفهوم انكار العدالة. و"شاتين" chattin هو مواطن أميركي أدين بتهمة الاختلاس في المكسيك، وحكم عليه من قبل محكمة مكسيكية بعقوبة الحبس لمدة سنتين، ولم يكن هنالك أدنى شك في ارتكاب "شاتين" جرم الاختلاس. فقد ثبت بأنه وعامل مكسيكي آخر مذنبان بالتهمة الموجهة إليهما. ولكن "لجنة المطالب العامة الأميركية المكسيكية"‏

                          "U.S- Mexico General claims Commission" أشارت إلى العيوب المختلفة التي شابت سير المحاكمة.(14) فقد وجدت اللجنة بأن شاتين قد تم توقيفه بصورة قانونية، ولو أن الإجراء الذي اتبع يختلف عما يطبق عادة في الولايات المتحدة. ومن ناحية أخرى، أشارت البينات المقدمة إلى وجود مخالفات قانونية خطيرة في إجراءات المحاكمة، كعدم القيام بالتحقيق المناسب، وعدم مواجهة المتهم بالشهود والبينات بصورة كافية وعدم إطلاع المتهم على جميع التهم الموجهة إليه، والمماطلة التي لا مسوغ لها في البدء بالإجراءات القضائية، وتحويل جلسات المحكمة العلنية إلى مجرد إجراء شكلي، وثبوت تعمد القسوة في الحكم، ولكن لم يتوفر الدليل على أن القاضي يكن العداء لشاتين كما ادعى هذا الأخير"‏



                          المبحث الثاني - عدم مشروعية الفعل المسند إلى الدولة طبقاً للقانون الدولي‏

                          تأخذ المسؤولية الدولية المترتبة على مخالفة قواعد القانون الدولي صوراً تختلف باختلاف مصادر هذا القانون. فقد تشكل الأفعال غير المشروعة انتهاكاً للالتزامات الدولية المقررة في الاتفاقيات الدولية أو في العرف الدولي أو في المبادئ العامة للقانون. وسنبحث ذلك تفصيلاً فيما يلي:‏

                          أولاً- عدم الوفاء بالالتزامات الدولية الاتفاقية:‏

                          تعتبر الاتفاقات الدولية العامة والخاصة المعاهدات) المصدر الأول للقانون الدولي وبالتالي للالتزامات الدولية.‏

                          وتعرف المعاهدة بأنها:‏

                          "اتفاق مكتوب بين شخصين أو أكثر من الأشخاص الدولية من شأنه أن ينشئ حقوقاً والتزامات متبادلة في ظل القانون الدولي.(15) " ولقد أشارت مقدمة "ميثاق الأمم المتحدة" إلى ضرورة إيجاد الشروط "التي يمكن في ظلها تحقيق العدالة واحترام الالتزامات الناشئة عن المعاهدات وغيرها من مصادر القانون الدولي". ومما لا شك فيه أن قاعدة العقد شريعة المتعاقدين: pacta sunt servanda "هي الأساس الذي تقوم عليه الالتزامات القانونية الناشئة عن الاتفاقات الدولية، فإذا أقدم شخص دولي على انتهاكها، فإنه يكون قد ارتكب فعلاً غير مشروع مما يرتب عليه المسؤولية الدولية، والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو هل يعتبر العقد الدولي، وهو اتفاق دولي ذو طابع تجاري أو مدني بحت بمثابة معاهدة؟ للإجابة على هذا السؤال لا بد من التمييز بين تصرفات الدولة بصفتها سلطة عامة تخضع لأحكام القانون العام وبين تصرفاتها المدنية والتجارية من بيع وشراء الخ.. أي بصفتها فرداً عادياً تخضع لأحكام القانون الخاص.‏

                          وبالرجوع إلى تعريف المعاهدة الملمح إليه آنفاً يتبين أن الاتفاق الدولي الذي يعتبر معاهدة هو الذي ينشئ حقوقاً والتزامات متبادلة في ظل القانون الدولي، وهو فرع من القانون العام. أما الاتفاق الدولي الذي يعتبر عقداً دولياً فإنه ينظم علاقات يحكمها القانون الخاص، وتتكفل قواعد القانون الخاص بتحديد القانون الداخلي الواجب التطبيق عليه والمحكمة المختصة بنظر المنازعات الناشئة عنه، وعلى الرغم من أن العقود الدولية لا تعتبر بمثابة معاهدات، إلا أن قاعدة "العقد شريعة المتعاقدين" ذات تطبيق عام على كافة أنواع الاتفاقات التي يبرمها أشخاص القانون العام، وبالتالي فإن عدم تنفيذ الاتفاقات الدولية ذات الطابع التجاري أو المدني البحت يمكن أن يشكل فعلاً غير مشروع يرتب المسؤولية الدولية.‏

                          أما العقد الذي يبرم بين دولة وبين شخص أجنبي سواء أكان شخصاً طبيعياً أم اعتبارياً، فإنه لا يعتبر معاهدة أو عقداً دولياً، وبالتالي فإن المسؤولية الدولية لا تترتب لمجرد مخالفة الدولة لأحكام هذا العقد، وإنما قد تشكل تلك المخالفة انتهاكاً لالتزاماتها الدولية نحو الأجانب المقررة في الاتفاقات الدولية التي هي طرف فيها أو في العرف الدولي... مما يرتب عليها المسؤولية إذا تبنت دولة المضرور مطلبه. ومن ذلك اتخاذها إجراء تمييزياً ضد الأجانب أو مخالفتها لأحكام القانون الداخلي في علاقاتها التعاقدية معهم.‏

                          ويختلف الوضع نوعاً ما في حالة نوع معين من الالتزامات التعاقدية ألا وهو السندات العامة public Bonds فالسند الذي تصدره الدولة هو التزام تجاه الحامل، وهو يصلح لعرضه في السوق ولتحويله بحرية، كما أن دفعات استهلاك الدين والفائدة تدفع لحامل نسخة السند في وقت معين، وغالباً ما يختلف الحامل عن المشتري الأصلي للسند.‏

                          ونتيجة لذلك تبنت الحكومات عموماً موقفاً مفاده أن السند العام يمثل عقداً مرناً وغير شخصي، بخلاف العقود المبرمة مباشرة بين الدولة والأجنبي. وتمتنع الدول عادة عن ممارسة الحماية الديبلوماسية لحث الدولة المدينة على سداد ديونها المتمثلة في السندات العامة انطلاقاً من أن اصدار السندات العامة هو عمل من أعمال السيادة. كما أن القول المأثور القديم "فليحذر المشتري" ينطبق على جميع حاملي السندات العامة، ولكن غالبية الدول تعتبر أن الدولة المدينة تتحمل المسؤولية الدولية إذا دلت الظروف على "الافتقار إلى حسن النية" "lack of good faith" أو على وجود معاملة تمييزية ضد الأجانب بخصوص السندات العامة.‏

                          شرط كالفو: calvo clause‏

                          من الطبيعي أن تشعر الحكومات بعدم الارتياح نحو الطلبات المقدمة من الأجانب إلى حكوماتهم يحثونها فيها على ممارسة حقها في الحماية الديبلوماسية ورفع دعاوى دولية مبنية على مخالفات مزعومة لشروط عقدية. ولذلك بدأ عدد من دول أميريكا اللاتينية بتضمين العقود التي تبرمها هذه الدول مع الأجانب شرطاً يدعى بـ "شرط كالفو"(16) وبمقتضى هذا الشرط يوافق الأجنبي على أن المنازعات الناجمة عن العقد يجب أن تسوى أمام المحاكم الوطنية للدولة المتعاقدة وطبقاً لقانونها الوطني، ويجب ألا تكون تلك المنازعات سبباً في رفع دعوى المسؤولية الدولية على الدولة المتعاقدة من قبل حكومة الدولة التي يتمتع الأجنبي بجنسيتها. ويتضمن "شرط كالفو" في بعض العقود نصاً إضافياً مفاده أن الأجنبي يعتبر لأغراض العقد بمثابة مواطن في الدولة المتعاقدة. ولقد أدى إدراج "شرط كالفو" في العقود التي تبرمها الدولة مع الأجانب إلى احتجاج الدول الأخرى عليه لسببين:‏

                          أولهما: أنه يحاول حرمان الأجنبي من حقه في الاستعانة بحكومته لإزالة الضرر اللاحق به بعد استنفاذه طرق المراجعة الداخلية.‏

                          وثانيهما: أنه يضع مبدأ جديداً هو أن المواطن العادي يستطيع، وعلى مسؤوليته الشخصية، أن يحرم دولته من حق حماية مصالحها في الخارج، وهو حق مقرر للدولة ولا يملك المواطن التنازل عنه بالنيابة عنها.‏

                          ولذلك لم توافق الدول الكبرى، خارج أمريكا اللاتينية، على تقييد حقها، كدولة ذات سيادة، في حماية مواطنيها في الخارج، حتى ولو تخلوا كتابة عن مثل هذه الحماية. وقد اعتبر بعض القرارات الصادرة عن المحاكم الدولية وهيئات التحكيم الدولية، أن "شرط كالفو" منتج لمفاعيله، في حين أن معظم القرارات اعتبره باطلاً.‏

                          والحقيقة هي أن غالبية الدول لا تعتد حالياً بشرط كالفو، ولا تتردد في اتخاذ الخطوات المناسبة لحماية حقوق مواطنيها في الخارج.(17)‏

                          ثانياً- عدم الوفاء بالالتزامات الدولية المقررة في العرف الدولي:‏

                          سنحاول القاء الضوء على هذا الموضوع في الفقرتين التاليتين المتعلقتين بالمركز القانوني للأجانب وبممتلكات الأجانب.‏

                          آ-المركز القانوني للأجانب والمسؤولية الدولية:(18)‏

                          لا يتمتع الأجنبي، في الأحوال العادية، سواء كان من ذوي الإقامة الخاصة أو العادية أو المؤقتة بأية امتيازات خاصة، فهو لا يستطيع المطالبة بحقوق تفوق تلك التي يتمتع بها المواطن العادي. وأكثر من ذلك، فإنه يفتقر إلى الحقوق السياسية والمدنية التي يتمتع بها المواطنون.‏

                          ومن جهة ثانية فإن للأجنبي الحق في اللجوء إلى محاكم البلد المضيف والخضوع لنفس الإجراءات القانونية التي يخضع لها المواطنون، وتحمي قوانين الدولة المضيفة الأجنبي بنفس الطريقة التي تحمي بها مواطني الدولة، ما لم توجد قيود يفرضها القانون على تملك الأجنبي وعلى حقوقه التعاقدية، ولا تترتب المسؤولية الدولية على الدولة جراء هذه القيود. فبمقتضى المادة الأولى من المرسوم التشريعي رقم 189 لعام 1952(19) مثلاً، لا يحق للأجنبي اكتساب الحقوق العينية وكذلك إجراء العقود بالإيجار أو بالاستثمار الزراعي لمدة تزيد على ثلاث سنوات وذلك على جميع أراضي الجمهورية العربية السورية مع بعض الاستثناءات. وعلى ذلك فإن القضاء السوري سيرد الدعوى التي يرفعها الأجنبي لتثبيت عقد شراء عقار خلافاً لأحكام النص المذكور.‏

                          ومن جهة ثالثة، فإن الأجنبي يخضع للضرائب خضوع المواطنين لها، ولا يتمتع بمركز ممتاز في هذا الصدد. ولكن الدولة تعتبر مسؤولة بمقتضى قواعد العرف الدولي إذا فرضت على الأجانب نوعاً من الضرائب التمييزية، ويمكن بالتالي التقدم بإدعاء دولي ضدها. كما أن الأجنبي غير محمي حالياً من امكانية فرض الضرائب عليه بصورة مزدوجة ومن قبل حكومته ومن قبل الحكومة المضيفة، ما لم توجد اتفاقيات تقضي بخلاف ذلك.‏

                          وأخيراً جرى العرف لدى الكثير من الدول على احتفاظها بمهن أو حرف معينة لمواطنيها. ويمكن رد مثل هذا العرف إلى أسباب عديدة. فقد تقضي الاعتبارات الأمنية بأن تشغل مهن معينة من قبل وطنيين يتصفون بالاخلاص والولاء للدولة، كما يسود الاعتقاد بأن بعض الحرف تتطلب تدريباً خاصاً في معاهد الدولة المعنية... الخ. ومن الواضح أن أهدافاً موضوعية تكمن وراء مثل هذه التدابير. ولذلك لا تمكن إثارة أية اعتراضات من قبل الدول الأخرى، طالماً أن هذه التدابير تطبق فقط على الراغبين في دخول تلك المهن والحرف. ومع ذلك فإن هنالك معاهدات دولية تمنع مثل هذه القيود بصورة خاصة، وأن خرق مثل هذه المعاهدات يمكن أن يرتب المسؤولية الدولية.(20)‏

                          ب-ممتلكات الأجانب والمسؤولية الدولية:‏

                          جرى العرف الدولي على أن تخضع ممتلكات الأجانب إلى نفس القوانين والأنظمة التي تطبق على ممتلكات المواطنين. ولا يستبعد هذا المبدأ العام صدور قوانين أو أنظمة تمنع الأجانب من تملك أنواع معينة من العقارات في مناطق جغرافية معينة.‏

                          وهكذا فإن منع الأجنبي من تملك عقار ضمن مسافة معينة من قاعدة حربية يعتبر إجراء قانونياً. وطالما أن جميع الأجانب يخضعون لهذا القيد، فإنه لا يمكن لأية حكومة أن- تعترض على ذلك من الناحية القانونية.‏

                          ثالثاً: عدم مراعاة المبادئ العامة للقانون المعترف بها:‏

                          تشكل المبادئ العامة للقانون المعترف بها المصدر الأصلي الثالث من مصادر القانون الدولي حسب التعداد الوارد في المادة /38/ من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية.‏

                          ورغم اختلاف الفقهاء حول المقصود بتعبير "المبادئ العامة للقانون المعترف بها" إلا أن الرأي السائد عند غالبية الفقهاء بأن المقصود بها "المبادئ العامة للقانون الداخلي التي يمكن تطبيقها على النطاق الدولي عند عدم وجود مصدر قانوني دولي آخر معترف به كالمعاهدة والعرف"(21) ومن الطبيعي أن تتفق المبادئ العامة للقانون مع روح القانون الدولي عندما يراد تطبيقها على العلاقات الدولية القائمة بين أشخاص القانون الدولي لا أن تطبق تطبيقاً حرفياً. فمن المعروف أن القانون العام، والقانون الإداري بوجه خاص أخذ الكثير من مبادئه ومؤسساته عن القانون الخاص، ولكن بعد أن أدخل عليها التعديلات الملائمة لسد حاجاته. والدليل على ذلك هو أن "مبدأ عدم جواز اللجوء لاستخدام القوة" يعتبر من المبادئ العامة في القانون الخاص ويطبق بصورة مطلقة. ورغم أن هذا المبدأ يطبق -كقاعدة عامة- على العلاقات الدولية، إلا أن القانون الدولي العام يجيز اللجوء لاستخدام القوة في أحوال استثنائية. ولعل من المفيد أن نشير بهذه المناسبة إلى الفرق بين المبادئ العامة للقانون والعرف. ذلك أنه لا بد من توافر ثلاثة عناصر في العرف الدولي وهي(22) الاستمرار Duration والتكرار Uniformity وعمومية التطبيق Cenerality of the practice في حين أن المحكمة الدولية قد تطبق مبدأ من المبادئ العامة للقانون على قضية تنظرها للمرة الأولى إذا لم تجد قاعدة قانونية صالحة للتطبيق في اتفاق أو عرف دوليين.‏

                          ولعل من المفيد إلقاء بعض الضوء على اثنين من المبادئ العامة للقانون اللذين يستعان بهما من قبل المحاكم الدولية أحياناً في نطاق المسؤولية الدولية وهما:‏

                          آ- التعسف في استعمال الحق.‏

                          ب-المسؤولية الموضوعية والمطلقة.‏

                          آ-التعسف في استعمال الحق: Abuse of rights‏

                          لقد أخذ النظام القانوني السوري، كما فعل العديد من الأنظمة القانونية الرئيسية الحديثة في العالم.(23) بنظرية التعسف في استعمال الحق. فقد نصت المادة السادسة من القانون المدني السوري ما يلي:‏

                          "يكون استعمال الحق غير مشروع في الأحوال الآتية:‏

                          آ-إذا لم يقصد به سوى الأضرار بالغير.‏

                          ب-إذا كانت المصالح التي يرمي إلى تحقيقها قليلة الأهمية بحيث لا تتناسب البتة مع ما يصيب الغير من ضرر بسببها.‏

                          جـ- إذا كانت المصالح التي يرمي إلى تحقيقها غير مشروعة.‏

                          بل وأخذت بعض الاتفاقيات الدولية الحديثة بهذه النظرية، ومن ذلك "اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لعام 1983(24) " إذا تنص المادة 105 من هذه "الاتفاقية" ما يلي:‏

                          "يجوز لكل دولة في أعالي البحار، أو في أي مكان آخر خارج ولاية أية دولة، أن تضبط أية سفينة أو طائرة قرصنة، أو أية سفينة أو طائرة أخذت بطريق القرصنة وكانت واقعة تحت سيطرة القراصنة، وأن تقبض على من فيها من الأشخاص وتضبط ما فيها من الممتلكات.‏

                          ولمحاكم الدولة التي قامت بعملية الضبط أن تقرر ما يفرض من العقوبات، كما أن لها أن تحدد الإجراء الذي يتخذ بشأن السفن أو الطائرات أو الممتلكات، مع مراعاة حقوق الغير من المتصرفين بحسن نية".‏

                          ولكن المادة 106 من "الاتفاقية" والتي تحمل عنوان "المسؤولية في الضبط دون مبررات كافية "تنص ما يلي:‏

                          "عندما تضبط سفينة أو طائرة بشبهة القرصنة دون مبررات كافية، تتحمل الدولة التي قامت بعملية الضبط، إزاء الدولة التي تحمل السفينة أو الطائرة جنسيتها، مسؤولية أية خسائر أو أضرار يسببها هذا الضبط".‏

                          وهكذا فإن الدولة التي قامت بعملية الضبط تتحمل مسؤولية أعمال تعتبر حقاً مشروعاً أقرته "الاتفاقية" لها.‏

                          كما أن المحاكم الدولية أخذت بنظرية التعسف في استعمال الحق في العديد من أحكامها، ومن ذلك القرار الذي أصدرته محكمة التحكيم في قضية مصنع صهر المعادن.‏

                          The trail Smelter Arbitration‏

                          في شهر آذار من عام 1941 بشأن الضرر اللاحق بولاية واشنطن الولايات المتحدة) من جراء الأبخرة المتصاعدة من مصنع لصهر المعادن في كولومبيا البريطانية كندا) فقد أكدت المحكمة في قرارها أنه:‏

                          "بمقتضى مبادئ القانون الدولي، لا يحق لأية دولة أن تستعمل اقليمها أو تسمح باستعماله بطريقة تتسبب، نتيجة للأبخرة، في الحاق الضرر بأقليم دولة أخرى، أو بالممتلكات أو بالأشخاص في هذه الدولة، كما يعتبر دومينيون كندا مسؤولاً أيضاً بمقتضى القانون الدولي عن إدارة مصنع صهر المعادن"(25)‏

                          وعلى هذا "ليس من غير المعقول أن نعتبر مبدأ التعسف في استعمال الحق كواحد من المبادئ العامة(26) للقانون" كما يقول الأستاذ براون لي.‏

                          ويلاحظ الأستاذ "لوترباخت":‏

                          "إن هذه ما هي إلا بدايات متواضعة لمبدأ مليء بالإمكانيات يضع طاقة معتبرة لا تخلو من صفة تشريعية بين يدي محكمة قضائية"(27)‏

                          ومع ذلك يرى الأستاذ براون لي أن بالإمكان الاستغناء عن نظرية التعسف في استعمال الحق عندما تضاف على القاعدة القانونية الموجودة معايير مثل حسن النية good faith والمعقولية reasonableness والإدارة المعتادة.(28) Normal administrArion إلا أننا نخالفه في رأيه هذا. فنظرية التعسف في استعمال الحق كيان قائم بذاته، وللتعسف في استعمال الحق حالات محددة لا يجوز تخطيها.‏

                          وإذا أخذنا القانون المدني السوري على سبيل المثال نجد أن المادة الخامسة منه أتت بقاعدة عامة هي:‏

                          "من استعمل حقه استعمالاً مشروعاً لا يكون مسؤولاً عما ينشأ عن ذلك من ضرر".‏

                          ثم جاءت المادة السادسة منه لتحدد حالات التعسف في استعمال الحق حصراً وهي ثلاث:‏

                          قصد الأضرار بالغير، ورجحان الضرر على المصلحة رجحاناً كبيراً، وعدم مشروعية المصالح التي يرمي المالك إلى تحقيقها. ومن الواضح أن المعايير التي ذكرها الأستاذ براون لي لا يمكنها أن تسد الفراغ الذي سدته المادة السادسة المذكورة.‏

                          وهكذا فعندما يراد أخذ هذه النظرية من القانون الخاص إلى القانون العام، يجب أن يتم ذلك ضمن هذا المفهوم. فالقاعدة العامة هي عدم مسؤولية الدول عندما تستعمل حقوقها بصورة مشروعة، والمسؤولية بسبب التعسف في استعمال الحق تشكل استثناء من القاعدة. ولذلك لا بد من تحديد الحالات التي تشكل تعسفاً في استعمال الحق، على نحو ما فعل المشرع السوري في المادة السادسة الملمح إليها. وتبقى من مهمة الاتفاقات الدولية والأحكام القضائية والتحكيمية الدولية تحديد الحالات التي تعتبر من قبيل التعسف في استعمال الحق في مجال العلاقات الدولية.‏

                          ب-المسؤولية الموضوعية والمطلقة: Objective responsibility‏

                          لقد أدى التقدم العلمي الكبير واستعمال الآلات الخطرة إلى وقوع عدد من الحوادث نتيجة لاستعمال هذه الآلات نجم عنها لحوق أضرار بالغير دون ارتكاب أي خطأ. ولذلك اتجه الفقهاء إلى إقامة المسؤولية في مثل هذه الحوادث على ركنين فقط وهما:‏

                          1-الضرر.‏

                          2-علاقة السببية بينه وبين الفعل الذي أحدثه، بل إن القانون المدني السوري أخذ بمبدأ المسؤولية بدون خطأ أو المسؤولية الموضوعية والمطلقة فنصت المادة /776/ منه ما يلي:‏

                          1-على المالك ألا يغلو في استعمال حقه إلى حد يضر بملك الجار.‏

                          2-وليس للجار أن يرجع على جاره في مضار الجوار المألوفة التي لا يمكن تجنبها، وإنما له أن يطلب إزالة هذه المضار إذا تجاوزت الحد المألوف"‏

                          كذلك اتجه التشريع والقضاء في العديد من الدول إلى الأخذ بمبدأ المسؤولية بدون خطأ في حالات معينة.‏

                          فقد أخذ المشرع الفرنسي بفكرة المسؤولية المبنية على تحمل تبعة المخاطر: theorie de risque في تشريعات خاصة. كما أخذ بها مجلس الدولة الفرنسي بالاستناد إلى ضرورة مساواة الأفراد أمام الأعباء العامة.‏

                          I´égalité devant les charges pubiques‏

                          ولكن بصفة تكميلية Complémentaire أي في حالات خاصة يكون اشتراط ركن الخطأ فيها متعارضاً مع العدالة بشكل صارخ. ولكن مجلس الدولة الفرنسي اشترط في مقابل ذلك توافر صفتين أساسيتين في الضرر المرتبط بهذا المبدأ وهماً:‏

                          آ-الخصوصية Specialité) بمعنى أن يكون للمتضرر مركز خاص قبل الضرر لا يشاركه فيه غيره من المواطنين.‏

                          ب-الجسامة غير العادية anormalité).‏

                          وعلى الإدارة لكي تتخلص من المسؤولية على هذا الأساس أن تلجأ إلى إثبات القوة القاهرة force majeure) الأمر الذي يؤدي إلى انهيار ركن علاقة السببية بين الضرر والفعل الذي أحدثه.‏

                          ويأخذ القانون الأميركي أيضاً بمبدأ المسؤولية الموضوعية والمطلقة عن النشاط شديد الخطر، كما يقر القضاء الانكليزي مبدأ المسؤولية الموضوعية والمطلقة عن الأشياء الخطرة.(29)‏

                          وهكذا يمكن القول بأن مبدأ المسؤولية بدون خطأ هو من المبادئ العامة للقانون التي أخذت بها الدول المختلفة، ونتيجة لذلك مالت الممارسة الدولية وأحكام القضاء الدولي إلى الأخذ بالمسؤولية الموضوعية والمطلقة... ومن ذلك قضية كير Caire حيث طبق "رئيس لجنة الادعاءات الفرنسية المكسيكية"‏

                          president of the franco- Mexican claims Commission) "‏

                          "مبدأ المسؤولية الموضوعية للدولة، أي، المسؤولية عن تلك الأفعال المرتكبة من قبل موظفيها وأجهزتها، والتي هم ملزمون بأدائها، رغم عدم وجود خطأ من جانبهم...."(30)‏

                          ويعارض بعض فقهاء القانون الدولي الأخذ بمبدأ المسؤولية الموضوعية والمطلقة في مجال العلاقات الدولية، إلا أن عدداً كبيراً من الفقهاء يؤيد هذا المبدأ أما صراحة أو ضمناً.‏

                          وقد أخذت اتفاقية روما لعام 1952 بشأن المسؤولية عن الحوادث التي تسببها الطائرات للغير على سطح الأرض بمبدأ المسؤولية الموضوعية والمطلقة:‏

                          "فمنذ اللحظة التي توجد فيها صلة سببية بين الضرر وواقعة ما، فإن المسبب يلتزم بالتعويض بغض النظر عن أي خطأ من جانبه. وهكذا تحول الأمر من نطاق المسؤولية الشخصية إلى المسؤولية الموضوعية، والمسؤولية بهذه الصفة تستند إلى فكرة الخطر الناتج عن الاستثمار"(31) وبموجب هذه "الاتفاقية" تقوم المسؤولية على أركان ثلاثة هي:‏

                          1-وجود الطائرة بحالة طيران.‏

                          2-صلة السببية بين الطيران والضرر.‏

                          3-وجود ضرر أصاب الأشخاص أو الأموال.‏

                          وفي رأينا من مصلحة الدول النامية التشدد في قواعد المسؤولية الدولية، ومن ذلك تبني مبدأ المسؤولية الموضوعية والمطلقة، وخاصة في مجال الأنشطة الخطرة التي تعتبر وقفاً على الدول المتقدمة كاستخدام الطاقة الذرية في الأغراض السلمية واستعمال الفضاء الخارجي.‏

                          (1) - see, von Clahn, law Among Nations, London, the Macmillan Company, 1970,p222.‏

                          Voir, jean Combacav et serge sur, Droit international public, Montchrestien, paris, 1993,p517-555.‏

                          (2) -انظر د.شكري، المرجع السابق، ص150.‏

                          (3) - It shoud... Be observed that.. A state cannot adduce as against "another State its own constitution with a view to evading obligations incumbent upon it under international law or treaties in force. Applying these principles to the present case, it result that the question of the treatment of polish nationals or other persons of polish origin or speech must be settled exclusively on the basis of the rules of international law and the treaty provisions in force between poland and Danzig"‏

                          -See Brownlie, principles of public International law, oxford, 1973, p37.‏

                          (4) "... It is certain that France cannot rely on her own legisla tion to limit the scope of her international obligations"‏

                          -see Bro wnlie, op. Cit., P37.‏

                          (5) -نشر المرسوم التشريعي رقم /184/ تاريخ 9/8/1970 في الجريدة الرسمية، العدد رقم /34/ الصادر بتاريخ 26/8/1970. في الصحيفة /1888/.‏

                          (6) -وبناء على ذلك فإنه ليس للدولة العبرية أن تستند إلى تشريعاتها لضم الأراضي العربية المحتلة أو أي جزء منها، مما يجعل ضم الجولان أو القدس.. الخ لاغ ولا قيمة قانونية له لمخالفة ذلك التزاماتها الدولية. "انظر يفصَّل ذلك في : د.عصام العسلي، الشرعية الدولية، اتحاد الكتاب العرب دمشق، 1992، من ص343-362‏

                          (7) -"ألاباما" هي سفينة تم بناؤها وتجهيزها في الموانئ البريطانية لصالح الولايات الأميركية الجنوبية، فقامت بإغراق عدد من سفن الولايات الأميركية الشمالية، وتم ذلك في الوقت الذي كانت فيه بريطانيا دولة محايدة. فشكل عملها بالتالي خرقاً للعرف الدولي الخاص بواجبات الدول المحايدة. وقد انعقدت محكمة تحكيم دولية في جنيف للنظر في القضية. فقضت هذه بموجب قرارها الصادر في 14 أيلول 1871 بأن: "عدم وجود تشريع يمنع بناء السفن وتجهيزها في الموانئ البريطانية ويمنع سفرها للانضمام إلى القوى المتحالفة لا يعتبر دفاعاً"‏

                          The absence of legislation to prevent the fitting out of cmmerce raiders in British ports and their journey to join the confederate forces was no defence.‏

                          -see, Brownlie, op. Cit., P.37.‏

                          -انظر أيضاً شارل روسو القانون الدولي العام، تعريب شكر الله خليفة وعبد المحسن سعد، بيروت الأهلية للنشر والتوزيع. 1982، ص121-122.‏

                          (8) - "I believe that it is undoubtedly a sound general principle that, whenever misconduct on the part of persons in state service), whatever may be their particular status or rank under domestic law, results‏

                          in the failure of a nation to perform its obligations under international law, the nation must bear the responsibility for the wrongful acts of its servants.‏

                          -see, Brownlie, op. Cit., P.434.‏

                          (9) تطبيقاً هذا المبدأ فقد اعتمدت "الجمعية العامة للأمم المتحدة" قراراً يطلب من "الأمين العام للأمم المتحدة "تقويم الأضرار التي تسبب بها القصف الإسرائيلي لمعسكر الأمم المتحدة في بلدة "قانا" بجنوب لبنان بتاريخ 18 نيسان 1996 والذي راح ضحيته أكثر من مائة قتيل من المدنيين.‏

                          وقد صوتت "إسرائيل" و"الولايات المتحدة" ضد هذا القرار الذي يطلب من "الأمين العام" أن يضم إلى تقريره المقبل حول قوات الطوارئ الدولية العاملة في جنوب لبنان تقويماً كاملاً للأضرار التي نجمت عن القصف الإسرائيلي لبلدة "قانا".‏

                          وأفاد تحقيق أجرته "الأمم المتحدة" إن قصف "قانا" كان متعمداً، لكن "إسرائيل" و"الولايات المتحدة" رفضتا مضمون هذا التحقيق وكانت "الجمعية العامة" دعت إسرائيل إلى دفع تعويضات للبنان في قرارلها دان قصف "قانا".‏

                          تكرم بمراجعة، صحيفة تشرين، العدد رقم 6540، تاريخ 9/6/1996، ص1.‏

                          (10) - the state also bears an international responsibility for all act, committed. By its officials or its organs which are delictual according to international law, regardless of whether the official or organ has acted within the limits of his competency or has exceeded those limits... However, in order to justify the admission of this objective responsibility of the state for acts committed by its officials or organs outside their competence, it is necessary that they should have acted, at least apparently, as authorized officials or organs, or that in acting, they should have used powers or meaures appropriate to their official character..."‏

                          -see, Brownlie, op. Cit., .p. 437.‏

                          -انظر أيضاً، شارل روسو، المرجع السابق، ص122.‏

                          - (11) "... A State has a right to delegate to its judicial department the application and interpretation of treaties, if, however, the courte, in that task, decline to give effect to the treaty or are unable to do so because the necessary change in or addition to, the national law has not been made, their judgments involve the stste in a breach of tresty". See, Brownlie, op. Cit., P.436.;‏

                          (12) - "Article 9.A state is responsible if an injury to an alien results from a denial of justice Denial of justice exists when there is a denial, unwarranted delay or obstruction of access to courts, gross deficiency in the administration of judicial or remelial process, failure to provide those guarantees which are generally considered indispensable to the proper admiNistra- tion of justice, or a manifestly unjust judgment. An error of a national court which does not produce manifest injustice. Is not a denial of justice".‏

                          -see, Brownlie op. Cit., P.515.‏

                          (13) - see, Brownlie, op. Cit., Pp.514-516.‏

                          (14) - "the Commission found that chattin had been legally arrested, altough the procedure used... "differed from that normally employed in the united States. On the other hand, the evidence produced indicated grave irregularities in the court proceedings, such as lack of proper investigation, insufficient confrontation with witnesses and evidence, failure to acquaint the accused with all the charges brought against him, undue delay in starting judicial procee-dings, rendering the hearings in open court a mere formality, and a proven intentional severity. Of the judgment without, however, proof of unfriendliness on the part of the judge, as Claimed by chattin).‏

                          See, von Glahn, op. Cit., Pp. 231-232.‏

                          -انظر أيضاً، شارل روسو، المرجع السابق، ص123.‏

                          (15) -انظر، د. شكري، المرجع السابق، ص369.‏

                          (16) -وينسب هذا الشرط إلى وزير خارجية "الأرجنتين "كالفو" الذي كان أول من وضعه.‏

                          (17) -انظر، د.شكري، المدخل إلى القانون الدولي العام، دمشق، مطبعة جامعة دمشق، 1986-1987، ص170-171.‏

                          (18) -انظر بشأن الحقوق العامة والخاصة التي يتمتع بها الأجنبي في سورية، كتاب الدكتور فؤاد شباط، المركز القانوني للأجانب في دمشق، دمشق، مطبعة جامعة دمشق، 1965.‏

                          (19) -نشر في العدد /19/ تاريخ 3/4/1952 من الجريدة الرسمية ص1604.‏

                          - (20) See, von Glahn, op, cit., P.223‏

                          (21) -انظر د.شكري، المرجع السابق، ص56.‏

                          (22) - see,Brownlie, op. Cit.. Pp. 6-7.‏

                          (23) -وقد أخذ القانون المدني المكسيكي بهذه النظرية في المادة /1912/ منه. وكذلك الأمر بالنسبة للقانون المدني السويسري المادة الثانية) والقانون المدني السوفيتي المادة الثانية)...‏

                          (24) -لم ينضم القطر العربي السوري إلى هذه "الاتفاقية" حتى الآن.‏

                          (25) - Under the principles of international law no state had the right to use or permit the use of its territory in such a manner as to cause injury by fumes in or to the territory of anather state or the property or persons therein, and also that the Dominion of Canada was responsible in iNternational law for the conduct of the trail Smelter".‏

                          -see, von Glahn, op. Cit., P.179.‏

                          (26) - "It is not unreasonable to regard the principle of abuse of rights as a general principle of law".‏

                          -see, Brownlie, op. Cit., P. 431.‏

                          - (27) these. are but modest beginnings of a doctrine which is full of potentialities and which places a considerable power not devoid of a legislative character, in the hands of a judicial tribunal."‏

                          -see, Brownlie, op, cit. , p.432.‏

                          (28) - see, Brownlie, op, cit., P.432.‏

                          (29) -انظر. محمد حافظ غانم، المرجع السابق، ص96.‏

                          (30) - "... The doctrine of the objective responsibity of the State, that is to say, a responsibility for those acts committed by its officials or its organs, and which they are bound to perform, despite the absence of faute on their part..."‏

                          See, Brownlie, op. Cit., Pp. 423-424.‏

                          (31) -انظر، نهاد السباعي، موسوعة الحقوق التجارية، الجزء السابع الحقوق الجوية)، دمشق، جامعة دمشق، 1963،ص294.‏
                          إذا الشعب يوما أراد الحياة
                          فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                          و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                          و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                          تعليق


                          • #14
                            رد: دراسات دولية

                            الفصل الثالث التسوية السلمية للمنازعات الدولية Pacific settlement of International Disputes

                            تمهيد:‏

                            تقع المنازعات بين الدول كما تقع بين الأفراد، وهي كانت وما تزال قائمة وستبقى هكذا رغم محاولات الإقلال منها.‏

                            ولقد كان القانون الدولي، عبر تاريخه، معنياً دوماً بحل المنازعات الدولية، وهذا أمر طبيعي ومنطقي، طالما أن معالجة المنازعات هي أحد الأهداف الرئيسية لأي قانون وعلى أي مستوى. ويتبع القانون في ذلك إحدى طريقتين: أما منع وقوعها أصلاً أو تسويتها بعد وقوعها.‏

                            ومع مرور الزمن تبين لرجال السياسة ولفقهاء القانون أن المنازعات تكون على أنواع مختلفة من حيث نشأتها، ولذلك كان لا بد من تطوير إجراءات وحلول تختلف باختلاف أنواع المنازعات، بحيث تحقق أقصى درجة من الفعالية.‏

                            وقد اصطلح فقهاء القانون الدولي على تصنيف المنازعات في نوعين رئيسيين: منازعات سياسية ومنازعات قانونية، وأن كان قد ظهر مؤخراً نوع ثالث هو المنازعات الفنية التي يتجه كل فرع منها إلى التسوية من قبل هيئة متخصصة تكون على إلمام بالمشاكل الفنية التي تنطوي عليها المنازعات.‏

                            وجرت محاولات عدة لرسم الحدود بين المنازعات السياسية والمنازعات القانونية، وكان الأساس في هذا التمييز أن الأولى "لا تصلح لأن تنظر فيها محكمة".‏

                            nonjusticiable). وقصد بذلك المنازعات التي تلعب فيها الاعتبارات السياسية دوراً مهماً كالمصالح الوطنية الحيوية، والمصالح الاقتصادية الخ...) في حين أن الثانية "تصلح لأن تنظر فيها محكمة justiciable) وقصد بذلك ليس فقط المنازعات التي تنطوي على مسألة قانونية.‏

                            a question of law)، وإنما أيضاً تلك المنازعات التي تتصل بالقانون اتصالاً وثيقاً بحيث يمكن اللجوء إليه لتسويتها، وقد أصبح هذا التمييز مقبولاً. وأدخل في بنود عدد من اتفاقيات التحكيم. ومن ذلك ما جاء في "اتفاقية تسوية منازعات الاستثمار بين الدول المضيفة وبين مواطني الدول العربية" والمصدقة بموجب المرسوم التشريعي رقم 108 وتاريخ 25/9/1974(1) حيث نصت المادة الثانية منها ما يلي:‏

                            "تهدف الاتفاقية إلى حل أي نزاع قانوني ينشأ مباشرة عن أحد الاستثمارات بين الدولة العربية المضيفة أو احدى هيئاتها أو مؤسساتها العامة وبين مواطني الدول العربية الأخرى، سواء أكان شخصاً طبيعياً أو معنوياً، بما يضمن إيجاد مناخ ملائم يسهم في تشجيع قيام الاستثمارات العربية بصورة متزايدة داخل الدول العربية"‏

                            ولا بد من الإشارة هنا إلى أنه يصعب عملياً فصل الاعتبارات السياسية عن الاعتبارات القانونية. ولذلك يميل معظم الفقهاء اليوم إلى اعتبار أن هذا التمييز يعتمد على مواقف أطراف النزاع. فإذا كان هؤلاء ينشدون فقط حقوقهم التي يتمتعون بها بموجب أحكام القانون فالنزاع قانوني ولا شك. أما إذا طالب أحد أطراف النزاع أو جميعهم ليس فقط بحقوق قانونية، وإنما أيضاً بتحقيق مصلحة خاصة ما، حتى ولو تطلب ذلك تغييراً في الوضع القانوني القائم، فالنزاع سياسي بلا شك، ومن ذلك قيام دولة أو مجموعة اقتصادية كالمجموعة الاقتصادية الأوربية بفرض قوانين حماية جمركية ضد بعض منتجات دولة أو مجموعة اقتصادية كمجموعة دول مجلس التعاون الخليجي مثلاً تعتبر منافسة لمنتجاتها. والتمييز بين المنازعات السياسية والمنازعات القانونية المبني على مواقف أطراف النزاع، إنما يأخذ بعين الاعتبار حقيقة أن الدول تنظر في المجتمع الدولي الحالي إلى قرار مبني على أحكام القانون على أنه وسيلة مرضية لتسوية المنازعات الدولية في بعض الأحيان، ولو أنها لا تنظر إليه على هذا النحو في أحيان أخرى.‏

                            ولقد اصطلح المؤلفون في القانون الدولي على تقسيم حلول المنازعات الدولية إلى نوعين: حلول ودية وحلول غير ودية، وقسموا الحلول الودية بدورها إلى حلول سياسية وحلول قانونية. أما الحلول غير الودية فهي بطبيعتها حلول سياسية، حيث اصطلح على تسميتها بدبلوماسية العنف وتجدر الإشارة هنا إلى أن الحلول الودية، سياسية كانت أم قانونية، هي المدخل الطبيعي والإيجابي والأكثر فاعلية في استمرار علاقات طبيعية ومتوازنة بين أطراف النزاع. وعلى هذا فسنبحث الحلول الودية للمنازعات الدولية في فرعين أحدهما للحلول السياسية الودية والثاني للحلول القانونية متجاوزين في ذلك الحلول السياسية غير الودية(2) للأسباب المسرودة أعلاه.‏

                            (1) -نشر في العدد (41) من الجريدة الرسمية المؤرخ في 23/10/1974، ص2408.‏

                            (2) -عرفت دول العالم عدداً من هذه الحلول السياسية غير الودية والمسماة بأساليب الاعتماد على النفس الاكراهية، وهي في حقيقتها وسائل فعلية voit de fait وأهمها: قطع العلاقات الدبلوماسية، المعاملة بالمثل، أعمال الانتقام أو الثأر، الحصار السلمي، الحظر البحري، المقاطعة الاقتصادية، الحرب.‏

                            -لمزيد من التفصيل انظر د.شكري، مدخل إلى القانون الدولي العام، دمشق مطبعة جامعة دمشق، 1406-1407هـ. 1987، ص478 وما بعدها.‏
                            إذا الشعب يوما أراد الحياة
                            فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                            و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                            و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                            تعليق


                            • #15
                              رد: دراسات دولية

                              الفصل الثالث التسوية السلمية للمنازعات الدولية Pacific settlement of International Disputes

                              تمهيد:‏

                              تقع المنازعات بين الدول كما تقع بين الأفراد، وهي كانت وما تزال قائمة وستبقى هكذا رغم محاولات الإقلال منها.‏

                              ولقد كان القانون الدولي، عبر تاريخه، معنياً دوماً بحل المنازعات الدولية، وهذا أمر طبيعي ومنطقي، طالما أن معالجة المنازعات هي أحد الأهداف الرئيسية لأي قانون وعلى أي مستوى. ويتبع القانون في ذلك إحدى طريقتين: أما منع وقوعها أصلاً أو تسويتها بعد وقوعها.‏

                              ومع مرور الزمن تبين لرجال السياسة ولفقهاء القانون أن المنازعات تكون على أنواع مختلفة من حيث نشأتها، ولذلك كان لا بد من تطوير إجراءات وحلول تختلف باختلاف أنواع المنازعات، بحيث تحقق أقصى درجة من الفعالية.‏

                              وقد اصطلح فقهاء القانون الدولي على تصنيف المنازعات في نوعين رئيسيين: منازعات سياسية ومنازعات قانونية، وأن كان قد ظهر مؤخراً نوع ثالث هو المنازعات الفنية التي يتجه كل فرع منها إلى التسوية من قبل هيئة متخصصة تكون على إلمام بالمشاكل الفنية التي تنطوي عليها المنازعات.‏

                              وجرت محاولات عدة لرسم الحدود بين المنازعات السياسية والمنازعات القانونية، وكان الأساس في هذا التمييز أن الأولى "لا تصلح لأن تنظر فيها محكمة".‏

                              nonjusticiable). وقصد بذلك المنازعات التي تلعب فيها الاعتبارات السياسية دوراً مهماً كالمصالح الوطنية الحيوية، والمصالح الاقتصادية الخ...) في حين أن الثانية "تصلح لأن تنظر فيها محكمة justiciable) وقصد بذلك ليس فقط المنازعات التي تنطوي على مسألة قانونية.‏

                              a question of law)، وإنما أيضاً تلك المنازعات التي تتصل بالقانون اتصالاً وثيقاً بحيث يمكن اللجوء إليه لتسويتها، وقد أصبح هذا التمييز مقبولاً. وأدخل في بنود عدد من اتفاقيات التحكيم. ومن ذلك ما جاء في "اتفاقية تسوية منازعات الاستثمار بين الدول المضيفة وبين مواطني الدول العربية" والمصدقة بموجب المرسوم التشريعي رقم 108 وتاريخ 25/9/1974(1) حيث نصت المادة الثانية منها ما يلي:‏

                              "تهدف الاتفاقية إلى حل أي نزاع قانوني ينشأ مباشرة عن أحد الاستثمارات بين الدولة العربية المضيفة أو احدى هيئاتها أو مؤسساتها العامة وبين مواطني الدول العربية الأخرى، سواء أكان شخصاً طبيعياً أو معنوياً، بما يضمن إيجاد مناخ ملائم يسهم في تشجيع قيام الاستثمارات العربية بصورة متزايدة داخل الدول العربية"‏

                              ولا بد من الإشارة هنا إلى أنه يصعب عملياً فصل الاعتبارات السياسية عن الاعتبارات القانونية. ولذلك يميل معظم الفقهاء اليوم إلى اعتبار أن هذا التمييز يعتمد على مواقف أطراف النزاع. فإذا كان هؤلاء ينشدون فقط حقوقهم التي يتمتعون بها بموجب أحكام القانون فالنزاع قانوني ولا شك. أما إذا طالب أحد أطراف النزاع أو جميعهم ليس فقط بحقوق قانونية، وإنما أيضاً بتحقيق مصلحة خاصة ما، حتى ولو تطلب ذلك تغييراً في الوضع القانوني القائم، فالنزاع سياسي بلا شك، ومن ذلك قيام دولة أو مجموعة اقتصادية كالمجموعة الاقتصادية الأوربية بفرض قوانين حماية جمركية ضد بعض منتجات دولة أو مجموعة اقتصادية كمجموعة دول مجلس التعاون الخليجي مثلاً تعتبر منافسة لمنتجاتها. والتمييز بين المنازعات السياسية والمنازعات القانونية المبني على مواقف أطراف النزاع، إنما يأخذ بعين الاعتبار حقيقة أن الدول تنظر في المجتمع الدولي الحالي إلى قرار مبني على أحكام القانون على أنه وسيلة مرضية لتسوية المنازعات الدولية في بعض الأحيان، ولو أنها لا تنظر إليه على هذا النحو في أحيان أخرى.‏

                              ولقد اصطلح المؤلفون في القانون الدولي على تقسيم حلول المنازعات الدولية إلى نوعين: حلول ودية وحلول غير ودية، وقسموا الحلول الودية بدورها إلى حلول سياسية وحلول قانونية. أما الحلول غير الودية فهي بطبيعتها حلول سياسية، حيث اصطلح على تسميتها بدبلوماسية العنف وتجدر الإشارة هنا إلى أن الحلول الودية، سياسية كانت أم قانونية، هي المدخل الطبيعي والإيجابي والأكثر فاعلية في استمرار علاقات طبيعية ومتوازنة بين أطراف النزاع. وعلى هذا فسنبحث الحلول الودية للمنازعات الدولية في فرعين أحدهما للحلول السياسية الودية والثاني للحلول القانونية متجاوزين في ذلك الحلول السياسية غير الودية(2) للأسباب المسرودة أعلاه.‏

                              (1) -نشر في العدد (41) من الجريدة الرسمية المؤرخ في 23/10/1974، ص2408.‏

                              (2) -عرفت دول العالم عدداً من هذه الحلول السياسية غير الودية والمسماة بأساليب الاعتماد على النفس الاكراهية، وهي في حقيقتها وسائل فعلية voit de fait وأهمها: قطع العلاقات الدبلوماسية، المعاملة بالمثل، أعمال الانتقام أو الثأر، الحصار السلمي، الحظر البحري، المقاطعة الاقتصادية، الحرب.‏

                              -لمزيد من التفصيل انظر د.شكري، مدخل إلى القانون الدولي العام، دمشق مطبعة جامعة دمشق، 1406-1407هـ. 1987، ص478 وما بعدها.‏
                              إذا الشعب يوما أراد الحياة
                              فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                              و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                              و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                              تعليق

                              يعمل...
                              X