إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

انهيار مزاعم العولمة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • انهيار مزاعم العولمة

    انهيار مزاعم العولمة

    قراءة في تواصل الحضارات وصراعها

    - د.عزَّت السَّيـِّد أَحمد -

    دراسة

    - من منشورات اتحاد الكتَّاب العربدمشق ـ عام 2000م.
    توطئــة
    يجب أن تُعْرَفَ الحقيقةُ بموضوعها لا بالطَّريقة التي تستخدم للحصول عليها (1) .‏
    د. بديع الكسم‏
    ماذا نريد من العولمة ، وماذا تريدُ العولمةُ منَّا ؟‏
    أَليس هذا هو السُّؤالُ الأَهمُّ الَّذي نفرضه على أَنفسنا لدى وقوفنا أَمام أَيِّ موضوعٍ من هذا النَّوع ؟!‏
    حتَّى نجيب عن ذلك ينبغي علينا أَوَّلاً، بالأَسبقيَّة المنطقيَّة، أَن نعرف من نحنُ، وما العولمة Globalization. وثانياً بالأَولويَّة المنهجيَّة، أَن نلج إلى الموضوع ولوجاً سليماً، ونقصدُ بذلك عدم تقديم الموقف على الفهم؛ أَي إنَّنا لن نهاجم العولمة أَو نعاديها، ولن ندافع عنها أَو نناصرها؛ إنَّنا نقدِّمُ مسعًى، مع المساعي، لفهم العولمة، ومن ثمَّ نتَّخذُ ما نشاءُ من مواقف وتدابير.‏
    ولن نستبق الأمور بدءاً من هذه التَوطئة، وسنحاول ألاَّ نصادر على المطلوب فيما سيلي من الفصول، ولن نَّدعي أنَّ ما سنقوله هو القول الحسم أو النهائي في الموضوع، ولكننا نزعم أنَّ ما نقدِّمه إنَّما هو حقائق بالنسِّبة لنا أوَّلاً، وهذه الحقائق مبرهنة عندنا على الأقل، وهذه البراهين على درجة من الاتِّساق المنطقي والمنهجي كافيه لمنحها جواز السفر للدخول إلى ساحة الموضوعيَّة وامتلاك القدرة على الدِّفاع عن نفسها.‏
    هذا الكلام يوحي بأنَّ الكتاب يضطرم بالقضايا الإشكاليَّة والخلافيَّة والطُّروحات الجديدة، وهنا أجدني مضطرًّا للإنطلاق من حقيقة فلسفيَّة راسخة ترى أنَّ كلَّ قضيَّةٍ إشكاليَّةٌ، وكل إشكاليَّة تثير الخلاف. ولكن هل كل ما يثير الخلاف يفرز أطروحات جديدة ؟ هذه القضية خلافيَّة أيضاً، ولكنَّنا نظلم أنفسنا ونكذب عليها إن لم نظنَّ أنَّنا قدَّمنا شيئاً جديداً، وإن علمنا ذلك وتجاهلناه فإنَّنا نكذب على الآخرين ونخدعهم، أي إن نحن ملأنا سطور هذا الكتاب اجتراراً وعلمنا أنَّه اجترارٌ وصمتنا عنه فإنَّنا نمارس عمليَّة تضليليَّة خداعيَّة غير مأمونة النَّتائج والعواقب. هذا بالإضافة إلى أنَّنا لو لم نظنَّ أنَّ ثمة شيئاً جديداً نقوله لما قمنا بهذا العمل أصلاً... أقول بالظَّن لتعذُّر اليقين في هذه المسائل.‏
    وهنا لا بد من التَّنويه بأنَّ الذي دعانا إلى هذا التَّقديم هو الكمُّ الهائل من الكتابات الذي سال على صفحات الصُّحف والمجلات والكتب في هذا الموضوع، ولا عجب في ذلك فهو موضوع السَّاعة لا بوصفه أدروجة فكرية بل لأنَّه همُّ المستقبل. وهمُّ المستقبل عندما يصبح هاجساً فإنَّه يسيطر على الأذهان، وهذا ما فعلته العولمة عندما فرضت ذاتها على الواقع الرَّاهن بوصفها خيمة المستقبل التي سيستظلها كلُّ البشر على الرُّغم من أنوفهم. ولذلك فإنَّ انشغالنا بهذا الموضوع لم يتأخَّر ولم يأت متأخِّراً فهو في الأصل محاضرة ألقيت في "مهرجان قادش" السَّنوي الخامس في أيلول عام 1997م. واستمرار الانشغال بالموضوع نمَّى المشروع شيئاً فشيئاً إلى مساهمات في بعض المجلات والصحف حتَّى تكامل وانتهى إلى ما هو عليه الآن.‏
    ومما لا بدَّ من الإشارة إليه هنا هو أنَّ عنوان الكتاب؛ انهيار مزاعم العولمة، ينطوي بحدِّ ذاته، كما يبدو، على مصادرة على المطلوب، ونحن لن ننكر ذلك ولن نتنكَّر له، ولكن الذي ينبغي توضيحه هو أن مفردات العنوان لا تتضمَّن أبداً أي بعد دلالي على انهيار العولمة أو سقوطها أو نهايتها أو عدم حقيقتها؛ إنَّها حقيقة لا شكَّ فيها، ووجودها واقع لا يمكن التَّنكُّر له أو غضَّ النَّظر عنه، وفاعل مثل ذلك لا يفترق أبداً عمَّن يحاول إنكار إشراق الشَّمس لمجرد أنَّه مغمض العينين. وهذه هي الحقيقة الأولى التي انطلقنا منها في تعاملنا مع العولمة؛ حقيقة وجودها وفعلها وفاعليتها وآثارها. ولكن الذي قلنا بانهياره هو المزاعم التي تُدسُّ بين حقائق العولمة وتروَّج على أنَّها حقائق لا مفرَّ منها، وهذا مما هو أخطر من آثار العولمة ونتائجها الخطيرة في جانب منها والإيجابيَّة في الجانب الآخر. وللكشف عن هذه المزاعم وتأكيد حقيقة أنَّها مزاعم، وتبيان أبعادها وأسبابها، والقيام من ثمَّ بدحضها، رأينا أنَّ الأفضل هو التَّمهيد في الفصول الأولى ببسط معنى العولمة والكشف عن أبعادها وصلاتها ونشأتها وأبعاد هذه النَّشأة وحقيقتها. لننتقل من ثمَّ إلى استنباط هذه المزاعم والكشف عن عوارها ودواعي انهيارها.‏
    ولنختم الكتاب بباب عنوانه حكمة عربيَّة شهيرة هي: "الأمور بخواتيمها"، تحدَّثنا فيه عن أمرين في فصلين أولهما يكثف العولمة في سبع مقولات رئيسة تعبِّر عمَّا لها وعمَّا عليها وعمَّا يراد لها ومنها. وثانيهما للعرب والعولمة.‏
    ماذا تريد العولمة من العرب ؟ وماذا يريد العرب من العولمة ؟ وماذا يمكن أن يفعل العرب في تعاملهم مع العولمة ؟‏
    لا نحيد عن الحقُّ أبداً إذا قلنا إنَّ كلَّ ما بذلنا من جهد ووقت إنَّما كان من أجل الإجابة عن هذه الأسئلة لأنَّها أكثر ما يهمنا من العولمة، بل كلُّ ما يهمنا منها، فلولا انعكاسها علينا بأبعادها وآثارها انعكاساً خطيراً لما افترق اهتمامنا بها عن اهتمامنا بهاملت بطل إحدى مسرحيَّات شكسبير. ولذلك لا هجنة في أنَّ كلَّ كلامنا، في كلِّ الفصول، إنَّما كان يدور على نحو يخدم إجابتنا عن موقع العرب من العولمة وماذا يمكن أن يفعلوا لمواجهة أخطارها ومزاعم أصحابها، وللاستفادة منها أفضل استفادة ممكنة، ونحن أحوج ما نكون إلى اغتنام الفرص؛ كلِّ الفرص: المتاحة وغير المتاحة، من أجل النَّهوض مما نحن فيه من بعد شاسع عن الحضارة العالميَّة التي نعيش في خضمِّها أشباه غرباء؛ نستهلك ولا ننتج، نشاهد ولا نشارك. وعلى هذا الأساس فإنَّ حديثنا في تعريف العولمة، وفي نشأتها، وتاريخيَّتها وصلتها بالمعلوماتيَّة... إنَّما كان يتطلع إلى بسط المعطيات بما يفتح ما أمكن من فرص التَّحرُّك والانطلاق أمام العالم العربي للانعتاق من القيود والحجب التي تسمِّرنا في أماكننا وتزيد من بعدنا عن الرَّكب الحضاري العالمي.‏
    دمشق 1999م.‏
    (1) ـ د. بديع الكسم: البرهان في الفلسفة ترجمة؛ جورج صدقني ـ وزارة الثقافة دمشق 1994م ـ ص67.‏


  • #2
    رد: انهيار مزاعم العولمة

    الباب الأوَّل: البعد المفهومي والتَّاريخي
    الفصل الأوَّل في التَّعريف والمفهـوم‏
    العولمة هي الظَّاهرة التَّاريخيَّة لنهاية القرن العشرين أَو لبداية القرن الواحد والعشرين، مثلما كانت القوميَّة في الاقتصاد والسِّياسة الثَّقافة هي الظَّاهرة لنهاية القرن التَّاسع عشر وبداية القرن العشرين.‏
    جورج طرابيشي(1)
    فرقٌ كبيرٌ بين أَن يحار المرءُ في كيفيَّة الوصول إلى مدخلٍ لكلامه عن مشكلةٍ أَو أَمرٍ ما، وبين أَن يكون منبعُ الحيرة كثرةُ المداخل. وموضوع العولمة أَحد هذه الموضوعات الَّتي تثيرُ في النَّفس هذا النَّوعَ الأَخير من الحيرة؛ حيرة المداخل الكثيرة الَّتي يفرضُ كلٌّ منها إيقاعه وأَهمِّـيَّته؛ فهل نبدأُ من مدى مصداقيَّة هذا الاصطلاح ؟ أَم من ضرورة ظهوره ؟ أَم من مبرِّراته ودواعيه، ومن ثمَّ هل العولمة عَرَضٌ أَم جوهرٌ أَم ظاهرة ؟ أَم ترانا نستهلُّ بجذوره، وهي بحدِّ ذاتها إشكاليَّةٌ قد تستعصي على الحلِّ لشديدِ تباينُ وجهات النَّظر فيها، وانشعاب الآراء المفسِّرة لذلك.‏
    سنتركُ ذلك كلَّه ونبدأُ بالدَّلالة اللغويَّة بوصف اللغة مفتاح الفهم على عمومه، والرََّصيد الدَّلاليَّ لأَيِّ مفردةٍ؛ أَكانت اصطلاحاً أَم مفهوماً، ومهما كان الميدان الَّذي تدور في فلكه. فما العولمة ؟‏
    العولمة، لغةً، ومثلها القوننة والرَّودنة(2) والحوقلة(3) والقوقعة والهوجلةُ(4) ، على وزن فوعلة؛ من المصادر(5) القياسيَّة في اللغة العربيَّة، وبالتَّالي فهي مصطلحٌ سليمٌ من النَّحت والتَّركيب. والمصادر في اللغة العربيَّة، وفي كثيرٍ من اللغات غيرها، تختصُّ دون سواها من المفردات باتِّساع اتِّجاهاتها الدَّلاليَّة من حيث إمكان اتِّجاهها أَكثر من وجهةٍ، وربَّما في الآن أَو السِّياق المستخدمِ ذاته؛ فهي قد تنوب مناب الفعل فيكون معناها أَداء الفعل الَّذي مادَّتُهُ الجذر اللغويُّ الَّذي هو العالم هنا. وبذلك يكون معنى العولمة: جعل الشَّيء مادَّةِ العولمةِ عالميًّا أَو على مستوى العالم. وقد يكون المصدر مفعولاً مطلقاً فيكون بذلك مؤكِّداً لفعله ...والمصدر في الأَصل: اسمٌ دالٌّ على حَدَثٍ جارٍ على فعله.‏
    وأَيـًّا كان الأَمرُ فإنَّ الدَّلالة اللغويَّة للعولمة لن تنأى عن كون الجذر والمصدر منه، وهي الإشارةُ إلى إسباغ صفة العالميَّة على موضوعٍ ما هو موضوع فعل العولمة. وبهذا المعنى تماماً قدَّمتها موسوعة الإدارة والأَعمال على أَنَّها "عمليَّة زيادة الالتحام في الحضارة العالميَّة"(6) . ولذلك عينه تعدَّدت الأَلفاظ الدَّالَّة على العولمة أَو الحالـَّة محلَّها مثل: الكوننة، والكونيَّة، والعالم القريَّة ....‏
    والعولمة، بوصفها اصطلاحاً، لصيقةُ النَّشأةِ بالجانب أَو النَّشاط الاقتصاديِّ، بل لقد "استخدمَ هذا المصطلحُ أَساساً لوصف بعض الأَوجه الرَّئيسة للتَّحوُّل الحديث في النَّشاط الاقتصادي العالمي"(7) . وجلُّ الَّذين تحدَّثوا فيها لم يكونوا ليجدوا لها ميداناً آخر غير هذا الميدان. ولكنَّ هذا الاصطلاح، كمعظم غيره من الاصطلاحات يولدُ رخواً، هشَّ البنية، ليس له إلاَّ مهده، حتَّى إذا شبَّ ونما كَبُرَ على مهده وقرع كثيراً من الأَبواب، ودخل كثيراً من السَّاحات.‏
    انطلاقاً من ذلك لا عجب في أَلاَّ يبتعد الاقتصاد عن مجمل تعريفات العولمة، فهي تشمل عند الجابري "مجال المال والتَّسويق والاتِّصال، كما أَنَّها من إفرازات المعلوماتيَّة"(8) . ويقدِّمها مصطفى حمدي على أَنَّها "حرُّيـَّةُ حركة السِّلع والخدمات والأَيدي العاملة ورأس المال والمعلومات عبر الحدود الوطنيَّة والإقليميَّة"(9) . حتَّى ألفين توفلر ـ Alvin Toffler الَّذي انفرد بمصلح خاصٍّ به للدَّلالة على العولمة هو: الموجة الثَّالثة فإنَّه جعل من أَهمَّ سمات هذه الموجة " المعرفة الَّتي تعمل على توفير الوقت والمكان؛ سواء في أَماكن التَّخزين أَو وسائل النَّقل، وفي سرعة التَّوزيع، والاتِّصال بين المنتج والمستهلك"(10) . وموسوعة الإدارة والأَعمال الَّتي عرَّفتها بأَنَّها "عمليَّة زيادة الالتحام في الحضارة العالميَّة" لم تجد تفسيراً لهذا الالتحام إلاَّ في زيادة الاعتماد الاقتصاديِّ المتبادل بين الدُّول واضمحلال دور المركزيَّة الاقتصاديَّة(11) .‏
    ولكنَّ حرِّيـَّة الحركة الاقتصاديَّة هذه ليست بالأَمر الجديد أَو المستحدث فهي محور أَهداف منظَّمة التِّجارة العالميَّة الموسومة بـ الجات ـGATT وهي بدورها "مرتبطةٌ بوثيق الصِّلات وأَوشجها مع الجذر الفلسفي للمدرستين: التِّجاريَّةـ؛ الَّتي ظهرت مع بداية القرن الخامس عشر، واهتمَّت بكيفيِّة رفع الفائض في الميزان التِّجاريِّ. والطَّبيعيَّة ـ؛ الَّتي ظهرت في فرنسا في منتصف القرن الثَّامن عشر، وأَكَّدت على ترك النَّشاط الاقتصاديِّ حرًّا من كلِّ قيد وتدخُّل"(12) . على أَنَّه لا يمكننا إغفال أَنَّه "عندما باشرت الجات عملها فإنَّها جعلت البيئة التَّجاريَّة أَكثر انفتاحاً(13) ؛ لقد أَحدثت ثورةً في أُجور الشَّحن من خلال الحاويات ـ Containers، والتِّقنيات الجديدة الَّتي جعلت الاقتصاديَّات ممكنة على قواعد جغرافيَّة أَكثر اتِّساعاً"(14) . ولذلك كان من الحقِّ بمكان أَنَّ "موجة الحماية إلى جانب الحربين العالميتين وبطئ النَّقل البحري والاتِّصالات سبباً في تأخير بدء موجة العولمة إلى السِّتينات"(15) .‏
    الحقُّ أَنَّ حرِّيـَّة الحركة الاقتصاديَّة؛ الرَّساميل والسِّلع والعمالة ... ليست هي كلُّ المبتغى الَّذي تشرئب إليه العولمة(16) ، ولذلك ذهب سمير أَمين في مطلع كتابه: إمبراطوريَّة الفوضى)) إلى أَنَّ العولمة مجرَّد تكثيفٍ للعلاقات الرَّأسماليَّة، إذ إنَّها "اجتازت عتبةً جديدةً، خلال السَّنوات الأَربعين المنصرمة، بكثافة المبادلات والمواصلات المتنوِّعة وبالقدرة الشَّاملة لوسائل التَّدمير"(17) . ولكنَّه تكثيفٌ نوعيٌّ يضعُ أَمامه وفي اعتباره أَنَّ النُّظم الاقتصاديَّة التَّقليديَّة؛ نظم الإنتاج والتَّسويق والتَّوظيف ... لم تعد تفي بغرض المرحلة القادمة، وانطلاقاً من هذا المعنى يذهب إلى أنَّه "يتوالد اليوم عهدٌ جديدٌ هو عهد السُّوق ـ Market الذي سيغدو محاولة جديدة لتوحيد العالم؛ أي العولمة"(18) . ومن هنا كان تعريف صادق جلال العظم للعولمة بأَنَّها " إعادةُ صياغة مجتمع الأَطراف وتشكيلها على صيغة المركز؛ بمعنى نقل الثِّقل من المركز إلى جميع الأَطراف في مسألة التَّبادل والتَّوزيع"(19) . ومن هذه الوجهة يصحُّ قول جورج طرابيشي بأَنَّ العولمة هي " الظَّاهرة التَّاريخيَّة لنهاية القرن العشرين أَو لبداية القرن الواحد والعشرين، مثلما كانت القوميَّة في الاقتصاد والسِّياسة الثَّقافة هي الظَّاهرة لنهاية القرن التَّاسع عشر وبداية القرن العشرين"(20) . وبهذا المعنى تقريباً ذهب علي حرب إلى أنَّ العولمة: "ليست شيئاً بسيطاً يمكن تعيينه ووصفه بدقَّة، بقدر ما هي جملة عمليَّات تاريخيَّة متداخلة تتجسَّد في تحريك المعلومات والأفكار والأموال والأشياء، وحتَّى الأشخاص، بصورة لا سابق لها من السُّهولة والآنيَّة والشُّموليَّة والدَّيمومة. إنَّها قفزة حضاريَّة تتمثَّلُ في تعميم التَّبادلات الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والثَّقافيَّة، على نحوٍ يجعل العالم سوقاً للتَّبادل أو مجالاً للتَّداول أو أفقاً للتواصل"(21) . وليرى من ثم ـ من خلال هذا المعنى للعولمة ـ أنَّنا "نجد أنفسنا اليوم إزاء حدث كونيٍّ ندخل معه في العصر الكوكبيِّ بآفاقه ومجالاته، بثوراته وتحولاته. وهذا العصر تختصره أربعة عناوين كبرى لفتوحات وابتكارات وقدرات وتكتُّلات تؤثِّر في حياة البشر وتهيمن على مقدَّراتهم ومصائرهم هي: الاقتصاد الإلكتروني، والمجتمع الإعلامي، والمجال التلفزيوني أو البصري، والفضاء السبراني الذي يعني القدرة على السَّمع والرُّؤية و اللمس والمراقبة والتَّحكُّم من على بُعد"(22) . وبهذا المعنى الأخير كان قد ذهب برهان غليون إلى أنَّ العولمة "حركيَّة ـ Dynamics جديدة تبرز داخل دائرة العلاقات الدُّوليَّة من خلال تحقيق درجة عالية من الكثافة والسُّرعة في عمليَّة انتشار المعلومات والمكتسبات التِّقنيَّة والعلميَّة للحضارة"(23) .‏
    وبهذا المعنى نستطيع الآن فهم توجُّهات كينشي أُوماي ـ Kenichi Ohmae رئيس ماك كينـزي ـ Mc Kinsey في طوكيو المسمَّى في الغرب بنبيِّ العولمة الَّذي أَلَّف كتاب "ثالوث القوَّة" عام 1985م وبيَّن فيه أَنَّه يجبُ على الشِّركات "أَن تبتني وجودها في مناطق التِّجارة الرَّئيسة في العالم وهي: أوربا وشمال أَمريكا واليابان، والمجازفة هي أَن تسير الشَّركات عكس هذا التِّـيَّار"(24) . ويعود في عام 1990م ليؤكِّد نظريَّته هذه في كتابه "عالم بلا حدود ـ Borderless World" ويقدِّم أنموذجاً حيًّا كمفتاحٍ لرسالته "من خلال النَّجاح العالمي الياباني لشركة هوندا ـ Honda الَّتي عاملت كلَّ زبائنها؛ سواء وراء البحار أو المحلِّيين بالأَهميَّة نفسها، والفعاليَّة ذاتها"(25) .‏
    والحقُّ أنَّ فكرة عنوان كتاب أوماي "عالم بلا حدود" هي التي استطاعت أن تفرض ذاتها أخيراً على جلِّ المفكِّرين الذين استلهموا منها أهمَّ تعريف معبِّرٍ وبليغ وكثيف للعولمة التي أصبحت تعني من غير ما جدل " نهاية الجغرافية ". ولا غرو في ذلك إذ إنَّ هذا الاصطلاح: نهاية الجغرافية، قادر على احتواء مختلف التَّعريفات السَّابقة للعولمة، فنهاية الجغرافية هي العالم بلا حدود، هي انعدام كلِّ الحواجز؛ الاقتصاديَّة والسِّياسيَّة والعرقيَّة والثَّقافيَّة والعلميَّة والمعرفيَّة ... والجغرافيَّة.‏
    ولكنَّ السُّؤال الذي يطرح ذاته بجدارة تامَّةٍ هو: ما مدى مصداقيَّة كلِّ هذه التَّعريفات؟ ومن ثمَّ إلام تشير ؟ أهي تعبِّر عن واقع أم عن متطلَّبات ؟‏
    لا بدَّ من الإشارة هنا إلى أنَّ كلَّ التَّعريفات مرتبطة بجذور عقائديَّة وتعبِّر عن مناخات منفعيَّة تفوح منها رائحة هذه العقائديَّات المنبثقة منها بمعنى من المعاني ذلك أنَّ الجغرافيا لم تنته والتَّاريخ لم ينته ولن ينتهي، وبذلك فإنَّ هذه التَّعريفات لا تعبِّر عن واقعٍ أبداً وإنَّما تعبِّر عن مطالب ومتطلَّبات وتَحقُّق ذلك على أرض الواقع مرتهن بجملة معقَّدة من الشُّروط والمعايير والمقاييس والظُّروف لا يوجد ما يحول دون تحقُّقها عقليًّا ولكنَّ منطقيَّة الواقع من جهة وراهنيَّته من جهة ثانية لن تحتمل ذلك أبداً بالمعاني المرادة من العولمة والمطروحة فيها. وانطلاقاً من مثل هذا الأساس ذهب محمد عابد الجابري إلى تأكيد أنَّ العولمة ليست مجرَّد آليَّة من آليَّات التَّطوُّر الرَّأسمالي، بل هي أيضاً، وبالدَّرجة الأولى، [عقائديَّة] تعكس إرادة الهيمنة على العالم، والعولمة التي يجري الحديث عليها الآن نظام أو نسق ذو أبعاد تتجاوز دائرة الاقتصاد. إنَّها نظامٌ عالميٌّ، أو يراد لها أن تكون كذلك، يشمل مجال المال والتَّسويق والمبادلات والاتِّصال الخ ... كما يشمل أيضاً مجال السِّياسة والفكر و[العقائديَّة] ... فالعولمة إلى جانب أنَّها تعكس مظهراً أساسيًّا من مظاهر التَّطوُّر الحضاري الذي يشهده عصرنا، هي أيضاً [عقائديَّة] تعبِّرُ بصورة مباشرة عن إرادة الهيمنة على العالم وأمركته(26) . وقد حددت الولايات المتَّحدة خصوصاً والعالم الغربي على العموم، الوسائل التي ستقوم من خلالها بتحقيق أغراضها في ذلك، ومن أهمها الضَّغط بالاقتصاد والإعلام لتفتيت القوميَّات الجامحة وخلخلة التَّوازنات الدولية بما يخدم مصالحها والتَّركيز على الحرب النَّفسيَّة من خلال الغزو الثَّقافي والإعلامي والتِّقاني لكسر أطواق الحدود القوميَّة وفتحها أمام الصَّولة الغربيَّة عموماً والأمريكيَّة خصوصاً.‏
    (1) ـ نقلاً عن: علي حميدان: الخليج وتحدِّيات العولمة ـ ضمن صحيفة؛ الاتِّحاد ـ أَبو ظبي ـ عدد 24/4/ 1997م ـ ص23.‏
    (2) ـ الرَّودنة: التَّعب.‏
    (3) ـ الحوقلةُ: سرعةُ المشي ومقاربةُ الخطو. وهي عند اللحياني: الإعياء والضَّعف. وفي الصِّحاح: حَوْقَلَ حَوْقَلَةً وحِيْقَالاً إذا كَبِرَ وفَتَرَ عن الجماع، وهذا الفعل غير المشتهر بمعنى قول: لا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله.‏
    (4) ـ الهوجلة: النَّوم الخفيف.‏
    (5) ـ المصدر عند الكوفيِّين مصدرٌ لصدوره عن الفعل، فيما هو عند البصريِّين أَصل المشتقَّات لصدور الأَفعال عنه. انظر في ذلك: أَبو البركات الأَنباري: الإنصاف في مسائل الخلاف ـ المسألة 28.‏
    (6) - The International Encyclopadia of Business & Management. 1996. Vol. 1. P.1649.‏
    (7) ـ لجنة "إدارة شؤون المجتمع الدُّولي": جيران في عالم واحد ـ ترجمة؛ مجموعة من المترجمين ـ المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب؛ سلسلة عالم المعرفة) ـ الكويت ـ العدد 201 ـ 1995م. ـ ص 30.‏
    (8) ـ محمد عابد الجابري: عشر أطروحات حول العولمة والهويَّة الثقافيَّة ـ ضمن صحيفة: السَّفير ـ بيروت ـ عدد 24 / 12 / 1998م.‏
    (9) ـ مصطفى حمدي: العولمة؛ آثارها ومتطلَّباتها ـ ضمن كتاب: العولمة؛ الفرص والتَّحدِّيات ـ إدارة البحوث والدراسات ـ أَبو ظبي ـ 1997م. وانظر ذلك أَيضاً في: نايف علي عبيد: العولمة ... والعرب ـ ضمن مجلَّة؛ المستقبل العربي ـ مركز دراسات الوحدة العربيَّة ـ بيروت ـ ص 28.‏
    (10) ـ عبد الحكيم محمد بدران: عرض لكتاب: بناء حضارة جديدة ـ تأليف: ألفين وهايدي توفلر ـ ترجمة؛ سعد زهران ـ ضمن مجلَّة؛ العربي ـ وزارة الإعلام ـ الكويت ـ العدد 466 ـ أَيلول/ سبتمبر 1997م ـ ص 194.‏
    (11) - The International Encyclopadia of Business & Management. Vol. 1. P.1649.‏
    (12) ـ عزَّت السَّيد أَحمد: النِّظام الاقتصادي العالمي الجديد؛ من حرب الأَعصاب إلى حرب الاقتصاد ـ مكتبة دار الفتح ـ دمشق ـ 1993م ـ ص 83.‏
    (13) ـ لا بدَّ أَن نشير هنا إلى أَنَّ مصداقيَّة هذا الكلام وأَبعاده المضمونيَّة تنطبق على الدُّول العظمى والشَّركات الكبرى أَكثر من انطباقها على الدُّول الصُّغرى والنَّامية الَّتي لم تكن إلا ضحيَّة.‏
    (14) - Carol Kennedy: Managing with the Gurus. Century Business Books. London. 1994. P. 250.‏
    (15) - Ibid.‏
    (16) ـ سنناقش هذه الفكرة لدى حديثنا عن العولمة والحاضنة الاقتصاديَّة.‏
    (17) ـ د. سمير أَمين: امبراطوريَّة الفوضى ـ ترجمة؛ سناء أَبو شقرا ـ دار الفارابي ـ بيروت ـ 1991م ـ ص5.‏
    (18) ـ سيَّار الجميل: العولمة: اختراق الغرب للقوميَّات الآسيويَّة ـ ضمن مجلة؛ المستقبل العربي ـ مركز دراسات الوحدة العربية ـ بيروت ـ العدد 217 ـ آذار 1997م ـ ص53.‏
    (19) ـ د. صادق جلال العظم: ما هي العولمة ؟ ـ محاضرةٌ أُلقيت في إطار الأُسبوع الثَّقافي الفلسفي الرَّابع في كليَّة الآداب بجامعة دمشق يوم الاثنين الواقع في 7 ذو الحجَّة 1417هـ الموافق لـ 14 نيسان 1997م.‏
    (20) ـ علي حميدان: الخليج وتحدِّيات العولمة ـ ضمن صحيفة؛ الاتِّحاد ـ أَبو ظبي ـ عدد 24/4/ 1997م ـ ص23.‏
    (21) ـ علي حرب: صدمة العولمة في خطاب النُّخبة ـ جريدة السَّفير ـ العدد 8012 ـ السَّبت 6 حزيران 1998م.‏
    (22) ـ علي حرب: صدمة العولمة في خطاب النُّخبة.‏
    (23) ـ نايف علي عبيد: العولمة والعرب ـ ص 28. عن: برهان غليون: العرب وتحدِّيات العولمة الثَّقافيَّة: مقدِّمات في عصر التَّشرُّد الرُّوحي ـ محاضرةٌ أُلقيت في المجمع الثَّقافي ـ أَبو ظبي ـ في 10 نيسان/ أبريل 1997م.‏
    (24) - Carol Kennedy: Managing with the Gurus. P. 251.‏
    (25) - Ibid.‏
    (26) ـ محمد عابد الجابري: عشر أطروحات حول العولمة والهوية الثَّقافية .‏

    تعليق


    • #3
      رد: انهيار مزاعم العولمة

      الفصل الثَّاني : في النَّشأة والبعد التَّاريخي
      العولمة هي التَّعبير المعاصر عن سلوك الأَقوى، عن هيمنته وفرضه نفوذه على الأَطراف الأُخرى من أَجل تحقيق مصالحه وضمان استمرار سطوته ونفوذه بما يتوافق مع منطق العصر من اللباقة والأَناقة والرَّشاقة.‏
      العولمة، شأنُها شأنُ معظم الاصطلاحات النَّاشئة خارج الوطن العربي، لم تصل إلى ساحاتنا الفكريَّة إلاَّ بعدما حظيت بما حظيت من الدَّرس والبحث والتَّمحيص في الكواليس الغربيَّةi)، ففي حين أَنَّه قد مضى عليها " أَكثر من عشر سنوات من الاهتمام الغربي؛ حيث عقدت النَّدوات وصدرت البحوث والدِّراسات في هذا الموضوع"ii). فإنَّ التفاتنا إليها لم يمض عليه أَكثر من عامين. وبالتَّالي فإنَّ تعاملنا مع هذا الاصطلاح لن يعدو التَّلقِّي إلاَّ بتفاوت أَساليب التَّلقِّي ومستوياتها، أَمَّا المشاركة أَو الإضافة، فأَغلب الظَّنِّ أَنَّها مسألةُ بعيدةُ المنال، الآن، إن لم تكن من قبيل المحالiii)، والَّذين يعتقدون أَنَّهم يشاركون في صنع هذه الموضوعات وديمومتها مشكوك، إلى حدٍّ بعيدٍ، في مصداقيَّاتهم مع ذواتهمiv).‏
      إنَّ مسألة الاصطلاحات والأَبعاد الدَّلاليَّة لها مشكلةٌ كبيرةٌ، ذلك أَنَّ ظهور الاصطلاح رهينُ جملة الشُّروط والظُّروف التَّاريخيَّة الَّتي لا تتحقَّقُ إلاَّ في إطار معرفيٍّ وثقافيٍّ وعلميٍّ ... قادرٍ على احتضان هذا المعطى الجديد؛ فمصطلح العقائديَّة ـ Ideology، مثلاً، "ظهر لأَوِّل مرَّة على قلم الفيلسوف الفرنسي دستوت دوتراسي في القرن الثَّامن عشر"v) ولكنَّ العقائدية موجودة في كلِّ ما سبق ظهورها من فلسفات وأَفكار، وكذلك شأن الغالبيَّة العظمى من المصطلحات الَّتي يضيق المجال عن سردها؛ تظهر في وقتٍ ما ولكنَّ التَّنقيب في الماضي يكشف لنا عن ظواهر وأَفكار وآراء تندُّ عن الحصر ولكنَّنا نكاد لا نجدُ ما يدلُّ عليها إلاَّ هذه الاصطلاحات المحدثة. والعولمة غير بعيدةٍ عن هذا الحكم، ولعلَّ في قول هارون الرَّشيد؛ الخليفة العباسيُّ المشهور، لغيمةٍ سابحةٍ في عنان السَّماء: " أَمطري أَينما شئت فَخَرَاجُكِ عائدٌ إليَّ" خير ما يؤكِّدُ ذلك، أَفليس هذا ضرباً من العولمة ؟! بلى وبكلِّ تأكيد، فهذه سنَّة سيرورة الحضارة والتَّاريخ؛ الأَقوى هو الَّذي يُعَوْلِمُ العالم كما يشاء وكما تقتضي مصالحه، " الأَقوى يبدأ الكلام وينهيه، يأخذُ الأَفضل، يحصل على الأَكثر، يحصدُ الأَكثر إثماراً ..."vi). وبهذا المعنى وجدنا إلى جانب العولمة العامَّة عولماتٍ جزئيَّة هي عولمات الدُّول العظمى مثل العولمة الأَمريكيَّة ـ والعولمة اليابانيَّة، والعولمة الصِّينيَّة، ومحاولة على طريق العولمة الآسيويَّة : على النَّحو المطروح ماليزيًّا ويابانيًّا وصينيًّا ....‏
      وبذلك فإنَّ العولمة هي صيغة الوجه الأخر للنِّظام العالمي الجديد، والَّذي هو بدوره امتدادٌ لفكرة المركزيَّة أَو"التَّاريخ الكوني أَو الشُّمولي ـ الَّذي انطلقت فكرته ـ في القرنين الماضيين من الأَدبيَّات الأُوروبيَّة، ثمَّ شكَّلت الولايات المتَّحدة البديل المباشر للمركزيَّة الأُوروبيَّة في المنتصف الثَّاني من القرن العشرين نتيجة لحفاظها على طاقاتها البشريَّة ومواردها الاقتصاديَّة بعد أَن أَنهكت الحربان الكونيتان؛ الأُولى والثَّانية"vii).‏
      إذن إنَّ " العولمة بوصفها استراتيجيا عملٍ ليست شيئاً جديداً، وعلى الرُّغمِ من أَنَّها قد أُشير إليها في أَدبيَّات الإدارة في أًواخر الثَّمانينات، من خلال تعاون الشَّركات عابرة القوميَّة، فإنَّ الشَّكل المبكِّر من الإدارة قد تمَّ تطبيقه في السَّنوات الأُولى من هذا القرن من قبل سنجر ـ Singer الَّذي بنى مصنع إنتاج كمِّيَّات هائلة في اسكتلندا ليُخدِّم الأَسواق الأُوربيَّة ويصدِّر آلات الخياطة إلى كلِّ آسيا"viii).‏
      وعلى صعيد آخر كانت هناك تجربة هنري فورد ـ H. Ford الَّذي "فرض على السُّوق العالميَّة سيَّارات أَقلَّ سعراً من خلال تصديرها من مصنعٍ مركزيٍّ عالي التِّقنيَّة في منطقة هاي لاند بارك ـ Highland Park في ولاية ديترويت الأَمريكيَّة؛ هذه الاستراتيجيَّة التَّصديريَّة من قاعدة عالية التِّقنيَّة قد تمَّ تبنِّيها بنجاح من قبل الشِّركات اليابانيَّة لخمسين سنةً تاليةً فيما بعد"ix).‏
      ضمن هذا الإطار نستطيع القول: إنَّ العولمة، بوصفها ظاهرة، ليست حديثة النَّشأة، وإنَّما الحديث فيها صوغها اصطلاحا للتَّعبير عن جملةٍ من التَّطورات النَّاشئة، فقد "عزَّز إلغاء القيود التَّنظيميَّة، والتَّفاعلُ مع التَّغيُّرات المتسارعة في تقانة ـ Technologcal الاتِّصالات والحواسب، التَّحرُّك نحو سوق عالميَّة متكاملةٍ، كذلك أَسفرت الأَنماط المتغيِّرة للنُّموِّ الاقتصاديِّ خلال العقود الماضية عن أَقطاب جديدة للدِّيناميَّة، فقد أَزاحت أَلمانيا واليابان، اللتان هُزمتا في الحرب العالميَّة الثَّانية، كلاًّ من المملكة المتَّحدة وفرنسا من زمرة النُّخبة الاقتصاديَّة، ويباري الاتِّحادُ الأُوروبيُّ الولايات المتَّحدة كقوَّة اقتصاديَّة. وأَخذت مناطق جديدة للتَّذبذب الاقتصادي تظهر في أَمريكا اللاتينيَّة. كما يعملُ الأَداءُ الاقتصاديُّ الباهر لـ النُّمور) الأَسيويَّة الأَربعة، والصِّين، مع وجود بلدان مثل الهند وأَندونيسيا لا تتخلَّف كثيراً عنها، على نقل مركز الجاذبيَّة الاقتصاديَّة في العالم"x).‏
      وعلى هذا الأَساس عدَّت موسوعة الإدارة والأَعمال أَنَّ تعريف العولمة "تجسيدٌ للمدى الَّذي تابعته على مدار عدَّة عقود"xi). بينما ذهب سمير أمين إلى أنَّ هذه "الحالة الجديدة هي بداية مرحلة تاريخيَّة انطلقت خلال الأعوام 1989 ـ 1991م من خلال الإخفاق التَّام المزدوج لطموحات أنظمة [الشَّرق وبلدانه] المسماة بالاشتراكيَّة ، وأنظمة [الجنوب وبلدانه] المسمَّاة بالاستقلاليَّة الوطنيَّة، مختتمة عهد الحياد الإيجابي الذي عاش ثلاثين عاماً، أي جيلاً كاملاً، للفترة 1955 ـ 1985م. ويتوالد اليوم عهدٌ جديدٌ هو عهد السُّوق ـ Market الذي سيغدو محاولة جديدة لتوحيد العالم"،xii) وهذا ما يلزم عنه بشكل منطقي معطيات ومفاهيم جديدة، ولم يغب هذا عن ذهن سمير أمين فهو يؤكِّد أنَّ المرحلة القادمة ستشهد "ولادة مفاهيم ومضامين وأفكار وأنساق جديدة على حساب انتهاء وانتفاء ظواهر وحالات ومضامين ومصطلحات ومفاهيم عدَّة، مثل: "شرق ـ غرب"، "شمال ـ جنوب"، "العالم الثالث"، "الشِّيوعيَّة"، "البلدان الاشتراكيَّة"، "الحياد الإيجابي"، "عدم الانحياز"، "التَّأميم" ... إلخ، وسيمضي زمنٌ ليس بطويلٍ تعيش فيه مفاهيم القرن العشرين في حالة اغتراب حقيقي، أو سيقضى عليها نهائيًّا، لتصبح تاريخاً [عقائدياً] عفا عليه الزَّمن، إذ ستنبثق مفاهيم ومصطلحات ومضامين جديدة تتخذ لها صوراً وأشكالاً مختلفة، كونها ستعبِّر عن واقع سياسي / أو [عقائدي] مختلف، وربَّما لا تحكم الأطراف ـ كالعادة ـ التَّعبير عنه، بل ستعتمد [بوصفها] مكوِّنات أطراف لمركز استقطاب النِّظام الدُّولي، أي العولمة الجديدة"xiii). أمَّا برهان غليون فقد رأى " أَنَّ هذه الظَّاهرة هي التَّطوُّر الطَّبيعيُّ للحضارة منذ أَقدم الحقب التَّاريخيَّة، حيث انتقلت تقنيَّات الثَّورة التِّقنيَّة الأُولى المسمَّاة بالعصر الحجري، ثمَّ التِّقنيَّات المرتبطة بالعصر الحديدي ... فالزِّراعي والَّتي بدأَت منذ) عدَّة آلاف السَّنوات قبل الميلاد ... وهكذا. أَي يضعُ غليون هذه الظَّاهرة ضمن سياقها التَّاريخي، ولكنَّ ما يميِّزُها الآن هو:‏
      ـ كثافة المبادلات بين البلدان والمناطق.‏
      ـ سرعة الانتشار.‏
      ـ قطاع التَّمويل والعمليَّات الماليَّة، وكذلك الأَسواق.‏
      ـ العمليَّات المعلوماتيَّة والثَّقافيَّة "xiv).‏
      فالعولمة إذن هي التَّعبير المعاصر عن سلوك الأَقوى، عن هيمنته وفرضه نفوذه على الأَطراف الأُخرى من أَجل تحقيق مصالحه وضمان استمرار سطوته ونفوذه. ولأَنَّ منطق العصر يفترض نوعاً من اللباقة في التَّخاطب الدُّولي، وأَن يتضمَّنُ أَلفاظاً أَنيقة تنمُّ عن احترام الإنسان في خضمِّ أَعاصير خطابات الحريَّة والدِّيمقراطيَّة وحقوق الشُّعوب في تقرير مصائرها، أَصبح من الضَّرورة المُلّحفة بمكان أَن تخفَّ حدَّة نظرات التَّهديد والوعيد، وأَن تضمحلَّ نبرة المدافع وتتلاشى. وبهذا المعنى جاءت العولمة اسماً لمرحلة "مابعد الاستعمار، وتوحيد الاستهلاك"xv) كما يرى محمد عابد الجابري. وعَدَّها صادق جلال العظم "حقبة التَّحوُّل العميق لدول العالم الرَّأسماليَّة في مرحلة النِّظام العالميِّ الجديد"xvi). بل إنَّ كينشي أُوماي ـ K. Ohmae يعتقد أَنَّ "المسألة على الأَغلب هي مسألة بقاء، لأَنَّ التَّنافس يزاد عالميًّا في معظم مناطق التِّجارة والعمل، ويمكن للزَّبائن أَن يختاروا المنتجات والخدمات من عدَّة مصادر"xvii).‏
      ونظراً لتعقُّد العلاقات وتشابكها في المرحلة الرَّاهنة، ونظراً للظُّروف والشُّروط والمعطيات المرافقة؛ العلميَّة والإعلاميَّة ...فقد أَوجد سمير أَمين لنفسه من المبرِّرات ما خوَّله وصف العولمة بأَنَّها إمبراطوريَّة الفوضى، ورأَى في الصَّفحة الأُولى من كتابه الَّذي يحمل العنوان ذاته أَنَّ: "تكثيفٍ العلاقات الرَّأسماليَّة، وانتشار أَسلحة الدَّمار الشَّامل هما الصِّفتان الجوهريَّتان للعولمة"xviii).‏
      ولكنَّ الغريب الذي يدعو إلى التَّوقُّف عنده هنا أنَّ كلَّ العصور سمِّيت ودرست بعد انتهائها؛ العصر الحجري، العصر الحديدي، عصر النَّهضة، عصر التَّنوير، عصر التَّحليل... أمَّا عصر العولمة فقد حمل اسمه قبل بدئه، والدِّراسات والتَّنظيرات التي سبقته قد لا تقل عمَّا كتب عن أي عصرٍ من العصور من بعد انتهائه وحتَّى الآن. أليس في ذلك ما يسترعي التَّوقُّف عنده أوَّلاً، ويثير الكثير من التّساؤلات ثانياً ؟‏
      والأكثر غرابة، بل إدهاشاً هو أنَّ العولمة وضعتنا أمام مشكلة حقيقيَّة، بما أثارته أو فضحته سيَّان، وتكمن هذه المشكلة في انقلاب الفكر على ذاته والمفكِّر على فكره بشكلٍ لا نزعم أنَّه مفاجئٌ زمانيًّا، ولكنَّه مثير للدَّهشة من النَّاحية المنطقيَّة، وإن كان كلُّ ذلك الابن غير الشَّرعيَّ للتَّغيُّرات الشَّرعيَّة، وحتَّى غير الشَّرعيَّة، التي هزَّت العالم منذ مطالع العقد الأخير من القرن العشرين، أو ما سمَّيناه "عصر الزَّلازل السِّياسيَّة"xix)، "فالمناضلون الذين قضوا أعمارهم الطَّويلة في النِّضال من أجل تغيير واقع المجتمعات والعقليَّات يقفون الآن بفكرهم الأحادي وعقولهم المغلقة ضدَّ المتغيِّرات بقدر ما تصدمهم الإنجازات والتَّحوُّلات. والثَّوريُّون الذين سعوا إلى تفكيك الدُّول بوصفها مؤسَّسات بيروقراطيَّة تحتكر الشَّأن العام والحقَّ العام، وتقوم بتطبيع الأفراد وتطويع الجماعات، بل تدمير الكائنات، على ما كانوا يقولون، يتباكون اليوم على الدَّولة ويطالبون بحمايتها من قوى العولمة المنتهكة لحقوق الدُّول وسيادتها. والأمميون الذين رموا القوميَّات بتهم التَّعصب والعنصريَّة الفاشيَّة، وحمَّلوها وزر الحروب العالميَّة الطَّاحنة، يخشون الآن عليها من الضَّعف والتَّفتُّت بسبب عمليَّات العولمة التي تكسر النَّرجسيَّة الثَّقافيَّة بقدر ما تفتح آفاقاً جديدة للتَّواصل بين البشر. والوحديون الذين أنتجوا التَّمزُّق والفرقة، بأطيافهم الوحدويَّة، يلعنون السُّوق التي تخلق أمام العمل الوحدوي فرصاً تقضي عليها العقائد والأدلوجات. واليساريُّون الذين كانوا من قبل ضدَّ العالميَّة بوصفها شكلاً من أشكال الهيمنة تمارسها الدُّول الصِّناعيَّة المتقدِّمة على بقيَّة الدُّول والأمم، يطالبون اليوم بتدمير العولمة لمصلحة العالميَّة..."xx).‏
      الحقُّ أنَّ هذا الذي سمَّيناه ابنا غير شرعيٍّ لجملة التَّغيرات الشَّرعيَّة، أو حتَّى غير الشَّرعيَّة التي عصفت بالعالم منذ سنين هو النَّتيجة الحتميَّة للانقلابات السِّياسيَّة العنيفة والعسكريَّة التي زلزلت العقول ولكنَّها انقلابات نوعيَّة غير متوقَّعة في المنظومات الفكريَّة والعقائديَّة؛ الفرديَّة والجمعيَّة، وهي لا تعدو في حقيقة الأمر ردود الأفعال اللاشعوريَّة التي تقود إليها آليَّات النَّفس الدِّفاعيَّة الرامية إلى التَّخلص من إثم الإخفاق وما يخلِّفه في النَّفس من عقد نقصٍ وقصور، ولذلك انعكست هذه النَّتائج على الواقع الرَّاهن بغضِّ النَّظر عمَّا انطوى عليه هذا الواقع سيَّان تمثَّل بالعولمة أم بغيرها، ولا أعتقد أنَّ هذه النَّتيجة ستتغيَّر أبداً فيما لو كان هذا الواقع غير واقع العولمة. والدَّليل على ذلك ما سبق وفصَّلناه في هذا الفصل من أنَّ العولمة غير جديدة، بمعنى من المعاني، إلا في الاسم من جهة وخصوصيَّات المرحلة الحضاريَّة الرَّاهنة من جهة ثانية.‏
      * * *‏
      i) ـ لقد باتت مسألة تأخُّر وصول الاصطلاحات الجديدة إلى مياديننا الفكريَّة والعمليَّة سمَّة مميِّزة لنا دون كثيرٍ من الأُمم، فلا نسمع بالاصطلاح الجديد أَو التَّيَّار المحدث ... إلاَّ بعد فوات الأَوان ونفاد الفرص، والأَمثلة على ذلك أَكثر من أَن تحصى ويكفينا للتَّيقُّن من ذلك أَن نتتبَّع الفرق الزَّمني بين ظهور أَي اصطلاحٍ أَو تيَّار فكريٍّ أَو أَدبيٍّ ... في الغرب والشَّرق،؛ كالوجوديَّة والماركسيَّة والبنيويَّة والتَّفكيكيَّة ... وغير ذلك كثير.‏
      ii) ـ علي حميدان: الخليج وتحدِّيات العولمة ـ ص23.‏
      iii) ـ للمشاركة في صنع القرار أَو المسار شروطٌ بانتفائها تنعدم صحَّة المشاركة ومصداقيَّتها، وهذه الشُّروط غير متحقِّقةٌ بيننا وبين الغرب الآن. هذا من جهة، ومن جهةٍ أُخرى فإن التَّشكيك في مشاركتنا ليس طعناً في إمكاناتنا وقدراتنا، وإن كانت موضع تساؤلات جمَّةٍ، وإنَّما هو تشكيكٌ في أَن يكون قد أُبقي لنا ما نضيفه بما يتوافق مع مصالحنا على الأَقلِّ.‏
      iv) ـ دفعا ليعض اللبس: المشاركة في صنع الاصطلاح أَو المفهوم أَو الاتِّجاه ... وتطوُّره شيءٌ، والإسهام في شرحه وعرضه ونقده شيء آخر.‏
      v) ـ عزَّت السَّيد أَحمد: الأَيديولوجيا والعلم ـ ضمن مجلَّة المعرفة ـ وزارة الثَّقافة ـ دمشق ـ العدد 349 ـ تشرين الأَول/ أكتوبر 1992م ـ ص9.‏
      vi) ـ عزَّت السَّيد أَحمد: انهيار أُسطورة السَّلام؛ مصير السَّلام العربي الإسرائيلي ـ مكتبة دار الفتح ـ دمشق ـ 1995م ـ ص 15.‏
      vii) ـ مسعود ضاهر: صدام الحضارات كمقولة أَيديولوجيَّة لعصر العولمة الأَمريكيَّة ـ ضمن صحيفة: الاتِّحاد ـ أَبو ظبي ـ عدد 21/4/1997م ـ ص 23.‏
      viii) - Carol Kennedy: Managing with the Gurus. P. 250.‏
      ix) - Carol Kennedy: Managing with the Gurus. P. 250.‏
      x) ـ لجنة "إدارة شؤون المجتمع الدُّولي": جيران في عالم واحد ـ ص 30.‏
      xi) - The International Encyclopadia of Business & Management. Vol. 1. P.1649.‏
      xii) ـ سيَّار الجميل: العولمة: اختراق الغرب للقوميات الأسيويَّة ـ ص 52.‏
      xiii) ـ م.س ـ ذاته.‏
      xiv) ـ نايف علي عبيد: العولمة والعرب ـ ص 29. عن: برهان غليون: العرب وتحدِّيات العولمة الثَّقافيَّة.‏
      xv) ـ د. صادق جلال العظم: ما هي العولمة ؟‏
      xvi) ـ د. صادق جلال العظم: ما هي العولمة ؟‏
      xvii) - Carol Kennedy: Managing with the Gurus. P. 251.‏
      xviii) ـ د. سمير أَمين: إمبراطوريَّة الفوضى ـ ص5.‏
      xix) ـ انظر في ذلك كتابنا: الأمم المتَّحدة بين الاستقلال والاستقالة والتَّرميم ـ دار الفتح ـ دمشق ـ 1993م ـ ص11 ـ 17.‏
      xx) ـ علي حرب: صدمة العولمة في خطاب النَّخبة ـ م.س.‏

      تعليق


      • #4
        رد: انهيار مزاعم العولمة

        الفصل الثَّالث العـولمة والمعلــوماتيَّة
        العولمة هي الدُّخول، بسبب تطوُّر الثَّورة المعلوماتيَّة والتِّقنيَّة والاقتصاديَّة معاً في طورٍ من التَّطوُّر الحضاري يصبحُ فيه مصيرُ الإنسانيَّة موحَّداً أَو نازعاً للتَّوحُّد.‏
        برهان غليون‏
        أَيُّهما الَّذي قاد إلى الآخر؟ العولمة أَم المعلوماتيَّة؟‏
        لقد تغيَّرت معالم الحياة ومعطياتها، وستتغيَّر كثيراً جدًّا جدًّا عمَّا هي عليه الآن، وأَبسط ما يمكن الحديث فيه الآن هو أَنَّ مقولة: العالم قريةٌ صغيرةٌ الَّذي قيل منذ زمن بعيدٍ باتت باهتةً إذا ما قارنا زمن قولها بالحاضر والمستقبل، ولعلَّنا لا نفي العصر حقَّه إذا قلنا الآن: العالم بين كفِّيك، فأَنت تستطيع أَن تقف على ما يدور في أَي بقعةٍ من العالم في لحظته مع التَّحليلات المختلفة من كلِّ أَماكن العالم ولغاته. تستطيع أَن تعرف حركة الطَّائرات والقطارات والحافلات، والملغى من الرَّحلات، والَّتي يمكنك الحجز فيها، والَّتي لا تستطيع السَّفر فيها، وطاقم الرِّحلة، والرُّكَّاب فيها، دون أَن تغيِّر كيفيَّة قعودك. تستطيع أَن تعرف أَسماء رفقاء ابنك في المدرسة، ووضعه وعلاماته وسلوكه بضغط أَزرار قليلة. وإذا أَردت أَن تقايض أَو تشتري؛ بيتاً، سيَّارةً، محلاًّ، حاسباً، تذكرة سفرٍ أَو مسرحٍ ... أَو أَيَّ شيءٍ، ففي امكانك معرفة المناسب والممكن دون أَدنى عناء، بل يمكنك أَن تخوِّل الحاسب بعقد الصَّفقة عنك. وبذلك تكون قد حُلَّت إحدى أَهمِّ المشكلات الاقتصاديَّة وهي العلاقة بين المنتج والمستهلك على النَّحو الذَّي طرحه آدم سميث ـ A. Smeth إذ إنَّه "لو علم كلُّ مشترٍ أَسعار البائع، ولو عرف كلُّ بائعٍ المبلغ الَّذي يستطيع أَن يدفعه المشتري للسِّلعة، فإنَّ كلا الطَّرفين سيكون قادراً على اتِّخاذ قرار يستندُ إلى المعلومات الَّتي حصل عليها. ولكن حتَّى الآن ليست للبائعين أَو المشترين معلومات عن بعضهم البعض"i).‏
        ويتحدَّثُ بيل جيتس ـ Bill Gates: عن المستقبل فيقول: "سيكون هناك الفيديو عند الطَّلب؛ الَّذي سيكون تطبيقاً من تطبيقات الطَّريق السَّريع. كما سيرتبط التِّلفزيون بالحاسب الآلي ويقدِّم تسهيلات كثيرةً مثل البريد الإلكتروني والأَلعاب وأَعمال المصارف. ولن يكون للتِّلفزيون لوحة مفاتيح مثل الحاسب، ولكنَّ الإلكترونيَّات الدَّاخليَّة أَو المرتبطة به سوف تجعله من النَّاحية الهندسية جاهزاً ليصبح حاسباً مثل الحاسب الشَّخصي. وإذا كنت تحمل مفاتيح وبطاقة شخصيَّة ومبلغاً من المال وساعة وبطاقات ائتمان أَو [أَوامر صرف سياحيَّة ـ Travel Cheques] ودفتر [هواتف] و[آلة تصوير] وجهاز تسجيل وهاتفاً محمولاً وبوصلة وآلة حاسبة و[بطاقة] ممغنطة لاستخدامها في عمل مكالمات هاتفيَّة وصفَّارة إنذار. ففي المستقبل سوف يجمع كلُّ ذلك في تطبيق واحدٍ يُسمَّى الحافظة الشَّخصيَّة، وهي بحجم حافظة النُّقود، وتقوم بإرسال الرَّسائل والمواعيد، وتمكِّنك من إرسال البريد الإلكتروني والنَّاسوخ ـ الفاكس، وتحيطك علماً بأَخبار البورصة والطَّقس وتقوم بأَداء الأَلعاب المعقَّدة، ويمكنك أَن تسجِّلَ عليها ملاحظاتك في الاجتماعات، وتراجع ارتباطاتك، وتستدعي المعلومات الَّتي قمت بتخزينها، وتختار أَيَّ صورةٍ لأَحد أَبنائك، وقد تساعد على التَّحقُّق من زيف أَيَّة ورقة نقديَّة لديكii)، وهناك الكثير من التَّطبيقات الأُخرى المتاحة"iii).‏
        انطلاقاً من المعطيات السَّابقة خلص الجابري إلى الحكم بأَنَّ " العولمة من إفرازات المعلوماتيَّة"iv). بينما ذهب ميشيل إدَّه إلى أَنَّه " لا يمكن تصوُّر العولمة بمعزلٍ عن هذه الثَّورة [التِّقانيَّة]، أَي المعلوماتيَّة الَّتي تتجلَّى خاصَّةً بما يسمَّى الاتِّصاليَّة"v). وذهب برهان غليون إلى أَنَّ العلاقة بين العولمة والمعلوماتيَّة متداخلة بحيث قاد كلٌّ منهما إلى الآخر، فالمقصود بالعولمة، عنده، هو "الدُّخول، بسبب تطوُّر الثَّورة المعـلوماتيَّة والتِّقنيَّة والاقتصاديَّة معاً في طورٍ من التَّطوُّر الحضاري يصبحُ فيه مصيرُ الإنسانيَّة موحَّداً أَو نازعاً للتَّوحُّد"vi)، وليعطي العولمة بذلك معنًى وبعداً شموليًّا يطوي تحت جناحيه: الاقتصاد والتِّقانة والمعلوماتيَّة بآن معاً. وبهذا المعنى، تقريباً، يتأطَّرُ الخطاب الغربيُّ لمنظِّري العولمة الَّذين يحاولون إلباسها ثوبا شفيفاً من الرِّقـَّة والوداعة والنـزوع الإنسانيِّ الطَّامح إلى الوحدة الإنسانيَّة والتَّآلف بين مختلف الأُمم على نحوٍ مشابهٍ، إلى حدٍّ ما، للنـزعة الأُمميَّة الَّتي كانت تنادي بها الشَّيوعيَّة في غابر أَيَّامها.‏
        ولا يبتعد أَلفين توفلر عن هذا الفهم فهو يرى أَنَّ: " أَهمُّ سمات الموجة الثَّالثة: بناءُ مجتمعات تفتيت الكتل، وإنشاء نظامٍ متقدِّمٍ للمعلومات يعتمدُ أَساساً على التَّطُّور الهائل في الحاسب الآلي وأَنظمة الاتِّصالات، والمواد الجديدة، والتَّطوُّر في إنتاج الطَّاقة، والدِّراية الفنِّيـَّة المتقدِّمة، والمعرفة الَّتي تعمل على توفير الوقت، والمكان؛ سواء في أَماكن التَّخزين أَو وسائل النَّقل، وفي سرعة التَّوزيع، والاتِّصال بين المنتج والمستهلك، هذه المعرفة الَّتي تقودها العقول البشريَّة، وهكذا يحلُّ رأس المال البشريِّ محلَّ رأس المال [المصرفيِّ]"vii).‏
        ومهما يكن من أَمر فإنَّ الحقيقة النَّاصعة أَمامنا، وهي ليست بالحقيقة الجديدة، وإنَّما الجديد فيما نمطها وبنيتها؛ تتجسَّد في أَنَّ المعلومات تلعب دوراً مهمًّا وحاسما في بقاء أَيِّ شركة واستمرارها وتطوُّرها، بل إنَّ مدى امتلاك المعلومات هو الَّذي سيحدِّد مكانة الشَّركة ومستواها، وفي ذلك يقول ألفين توفلر: "بناءً على كثافة المعلومات الَّتي تملكها الشَّركة يمكن تقسيم الشَّركات إلى ما يمكن أَن نطلق عليه: حاجباً مرتفعاً، وحاجباً متوسِّطاً، وحاجباً منخفضاً"viii). وانطلاقا من هذه الحقيقة فَهِمَ بيل جيتس ـ Bill Gates: حلمَ آدم سميث في مثاليَّة اقتصاد السُّوق على نحو معاصرٍ تمثَّل بوجوب " وجود حاسب على كلِّ مكتب وفي كلِّ بيت لتغيير مجرى حياة الأَفراد"ix). وهذا ما تتجلَّى آثاره بشكلٍ واضحٍ صارخٍ على أَرض الواقع، وبخطى مطَّرِّدة، بل بوثبات يتزايدُ بون ابتعادها عن بعضها اتِّساعاً، الأَمر الَّذي يجعلنا غير قادرين على إنكار حقيقة أَنَّ العولمة أصبحت واقعاً لا مفرَّ منه، وأَنَّ "واحداً أَساسيًّا من العناصر الَّتي تضفي على العولمة طابعاً موضوعيًّا من الاستمراريَّة والشُّموليَّة يستحيلُ إبطاله أَو إلغاؤه برغبةٍ ذاتيَّةٍ، كونها نتاج التَّقدُّم العلميِّ و[التِّقانيِّ] العاصفِ، المذهل، لقدرته ووتائر سرعته"x).‏


        * * *‏
        i) ـ جلال الرَّشيدي: عرض لكتاب؛ الطَّريق إلى المستقبل ـ ص15.‏
        ii) ـ الأَرجح أَن التَّعامل بالنَّقد بصورة مباشرة سيؤول إلى الزَّوال لتحلَّ محلَّة البطاقات النَّقديَّة الشَّخصيَّة الَّتي يمكن التَّعامل بها في أَي مكان من العالم على الأَكثر، أَو في دول محدَّدة، ولن يكون من الصَّعب تدويل التَّعامل بها.‏
        iii) ـ جلال الرَّشيدي: عرض لكتاب؛ الطَّريق إلى المستقبل ـ ص15.‏
        iv) ـ د. صادق جلال العظم: ما هي العولمة ؟‏
        v) ـ ميشيل إدَّه: مستقبلنا العربي وتحدِّيات العولمة ـ ضمن مجلة؛ المعرفة ـ وزارة الثَّقافة ـ دمشق ـ العدد 410 ـ تشرين الثَّاني/نوفمبر 1997م ـ ص 7.‏
        vi) ـ نايف علي عبيد: العولمة والعرب ـ ص 28. عن: برهان غليون: العرب وتحدِّيات العولمة الثَّقافيَّة. على أَنَّ برهان غليون كما يرى الباحث يستدرك في معنى الوحدة فلا يذهب بها إلى معنى التَّجانس والتَّساوي بين جميع أَجزاء العالم والمجتمع البشري، ولكنَّها تعني درجةً عاليةً من التَّفاعلِ بين مجتمعات = = بشريَّةٍ مختلفةٍ ومتباينة، وبالتَّالي ازدياد درجة التَّأثير والتَّأثُّر المتبادلين، ولذلك ارتبط مفهوم العولمة بمفهوم الاعتماد المتبادل ـ Interdependence. انظر المصدر المذكور نفسه.‏
        vii) ـ عبد الحكيم محمد بدران: عرض لكتاب: بناء حضارة جديدة ـ ص 194.‏
        viii) ـ عبد الحكيم محمد بدران: عرض لكتاب: بناء حضارة جديدة ـ ص 195.‏
        ix) ـ جلال الرَّشيدي: عرض لكتاب؛ الطَّريق إلى المستقبل ـ ص15.‏
        x) ـ ميشيل إدَّه: مستقبلنا العربي وتحدِّيات العولمة ـ ص 7.‏

        تعليق


        • #5
          رد: انهيار مزاعم العولمة

          الباب الثَّاني البعـــــد الاقتصـــــادي : الفصل الأوَّل: العولمة والحاضنة الاقتصاديَّة
          ترجع الفاعليَّةُ الحقيقيَّة في العمليَّة الإنتاجيَّة بجملتها إلى المنتِج وحده لأَنَّ فاعليَّة المستهلك لا تتعدَّى الاستهلاك، ولكنَّه يظلُّ العنصر المحور في هذه العمليَّة من حيث تنافس المنتجين ... وفي فلك هذا الإطار كانت تتصاعد وتائر العمليَّة الإنتاجيَّة وتولد نظريَّاتها، وآخر هذه الرُّؤى وتطبيقاتها هي العولمة التي تدَّعي الانتقال من حرب الاقتصاد إلى الاقتصاد الشَّامل.‏
          نعم، العولمة بنت الاقتصاد بصورة مباشرة، ولكنَّها أُمُّه في الوقت ذاته. أَليس هذا مفارقة صارخة؟ بلى، ولكنَّ حلَّها بسيط.‏
          إنَّ أَهمَّ فكرةٍ جاء بها كارل ماركس ـ K. Marx، ولم تكن من اختراع قريحته، فقد سبقه إليها كثيرٌ من سابقيه من الاقتصاديين، هي تركيزه على أهمِّيـَّة الاقتصاد في السَّيرورة التَّاريخيَّة حتَّى صار الاقتصاد، على مبالغته في ذلك، هو المحرِّك الأَساسُ للحضارة والتَّاريخ عبر صراع الطَّبقات والشُّروط الماديَّة المرافقة(1) ، أَو بمعنى آخر تنازع أصحاب رؤوس الأَموال وصراعهم.‏
          لقد برز دور العامل الاقتصادي مع الإقطاعيات الأوربيَّة المتحوِّلة بتأثير الفعل الاقتصادي إلى برجوازيَّات تنامت شيئاً فشيئاً حتَّى ضاقت بها الحدود المحليَّة فصارت تتواثب على أَسوار الحدود ليولد الاستعمار وتولد الرَّأسماليَّة التي تغيَّرت طبائعها بدورها أيضاً من رأسماليَّات محليَّة إلى رأسماليَّات عابرةٍ للقوميَّات، وهذه الرَّأسماليَّات أَو الشَّركات العابرة للقوميَّات هي ذاتها نواة العولمة بالمعنى الاصطلاحيِّ المعاصر، إذ لم يعد للاستعمار بالمعنى التَّقليديِّ مكانٌ أَو دورٌ في واقع أَو عالم مفعمٍ بالرُّوح الثَّوريَّة والحركات التَّحرريَّة والتَّقدميَّة فنشأ نوعٌ جديدٌ من التَّفكير يبحث عن إيقاعاتٍ جديدة لا للسَّيطرة على الشُّعوب الأُخرى بالمعنى الضَّيـِّق وإنَّما لوضع اليد على موارد شرايين الحياة؛ حياة المستعمِرين ليؤمِّنوا ذاتهم أَوَّلاً، وحياة المستعمَرين ليظلُّوا تحت اليد والنَّظر ثانياً. وهذا ما عبَّر عنه روي كالن ـ Roy Calne بلفظه المهذَّب اللطيف إذ قال: "لم تعد عمليَّات غزو الأُمم الأُخرى تسليةً محبوبةً بين أَكثر الدُّول قوَّةً وثراءً، حيث استُبدِل هذا الغزو بشكلٍ جديدٍ من أَشكال السَّيطرة؛ من خلال القوَّة الاقتصاديَّة"(2) . وفي البحث عن أُطر مناسبة لهذه السَّيطرة الاقتصاديَّة بعيداً عن الاستعمار المباشر ولدت الشَّركات عابرة القوميَّة، وولدت منها العولمة، على الرُّغم ممَّا يحاوله الكثيرون لإقناعنا بحسن نوايا العولمة متمثِّلةً بأعلامها.‏
          قد تكون نقطة بداية دائرة العمليَّة الإنتاجيَّة مسألة خلافيَّةً يختصم فيها المنظِّرون، ولكنَّها في حقيقة الأَمر غير معقَّدة فأَنَّى وضعت إصبعك على منحني دائرة الدَّورة الإنتاجيَّة أَمكنك عدَّها نقطة البداية التي قد تكون المستهلك أَو المنتِج أَو المنتَج أَو المادَّة الخام ... ولكنَّ الذي يستحقُّ الإشارة إليه هنا أَنَّ النقطة المرادة بدايةً لهذه الدَّورة مرتبطةٌ بالخلفيَّة العقائديَّة لمن يختارها حتَّى وإن كانت ذاتها.‏
          بغضِّ النَّظر عن حسن النَّوايا أَو سوءها فإنَّ المنطق يقول: إنَّ غاية المنتِج هي تحقيق الرِّبح أَو أَكبر قدرٍ من الرِّبح، سيَّان كان هذا المنتِجُ فرداً أَو مجموعةً، ولا فرق إن المجموعة قطاعاً عامًّا أَو خاصًّا، لأَنَّ استمرار العمليَّة الإنتاجيَّة متوا شجٌ مع الرَّيعيَّة، ولا يمكن للمنتج أَن يبقى في السُّوق من دون ربح، لأَنَّ هذا الرِّبح ليس محض نتيجة للجشع وإنَّما هو أَيضاً نتيجةٌ للمنافسة وتطوير العمليَّة الإنتاجيَّة برمَّتها بدءًا من مادَّتها الخام وصولاً إلى العلاقة مع المستهلك بمختلف أَبعادها. ولذلك لم يخطئ آدم سميث ـ Adam Smith عندما ذهب إلى أَنَّ إحدى أَهمِّ المشكلات الاقتصاديَّة هي العلاقة بين المنتج والمستهلك من باب أَنَّه "لو عَلِمَ كلُّ مشترٍ أَسعار البائع، ولو عرف كلُّ بائعٍ المبلغ الَّذي يستطيع أَن يدفعه المشتري للسِّلعة، فإنَّ كلا الطَّرفين سيكون قادراً على اتِّخاذ قرار يستندُ إلى المعلومات الَّتي حصل عليها. ولكن حتَّى الآن ليست للبائعين أَو المشترين معلومات عن بعضهم [بعضاً]"(3) .‏
          إنَّ الفاعليَّة الحقيقيَّة في العمليَّة الإنتاجيَّة بجملتها عائدة إلى المنتِج وحده لأَنَّ فاعليَّة المستهلك لا تتعدَّى الاستهلاك، وعلى الرُّغم من كونه مضطرًّا للاستهلاك شاء أم أَبى فإنَّه يظلُّ العنصر المحور في العمليَّة الإنتاجيَّة من حيث تنافس منتجي السِّلع المتماثلة على إغرائه وكسب رضاه ... وفي فلك هذا الإطار كانت تتصاعد وتائر العمليَّة الإنتاجيَّة منذ مطالع النِّصف الثَّاني من القرن العشرين على نحو الخصوص(4) فنمت شركات وكبرت واستأسدت وتلاشت شركات غيرها واندثرت، وفي أَثناء ذلك كانت تتوالد الرُّؤى للتَّنظير لكلِّ خطوة ومرحلة، وآخر هذه الرُّؤى وتطبيقاتها هي العولمة التي تحاول أو تدَّعي الانتقال من حرب الاقتصاد إلى الاقتصاد الشَّامل.‏
          إنَّ الاقتصاد الشَّامل هنا لا ينفي الحرب الاقتصاديَّة ولا يحلُّ مكانها لأَنَّ للشُّموليَّة معنى آخر لا علاقة له بالاحتواء بالمعنى السِّياسي، إنَّه الامتداد الأخطبوطي فوق الحدود وبين القوميَّات، ذلك أَنَّ حيويَّة الحركة والنَّقل والانتقال والإنتاج والتَّوزيع تتطلَّب الوجود في كلِّ مكان؛ الوجود الكامل لا الوجود بوساطة المندوبين كما كان سائداً في النُّظم القديمة الَّتي ما زالت منتشرةً حتَّى الآن.‏
          ولكنَّ ذلك لا يتمُّ بهذه السُّهولة واليسر فهو يحتاج إلى إعادة هيكلة الشِّركات ذاتها من جهة وإعادة هيكلة الاقتصاد العالمي كلَّه، وهو الأَمر الذي بدأته الرَّأسماليَّات الكبرى منذ زمن بعيد يرجع بمعنى من المعاني إلى العهود الاستعماريَّة، وهذا القسم الثَّاني هو ما سنأتي عليه في فصل لاحقٍ يحمل العنوان ذاته.‏
          إذن فقد أَصبح من اللازب الملحف أَن تعيد الشَّركات إعادة هيكلتها التِّقنيَّة ونظمها الإداريَّة والمعلوماتيَّة بما يتوافق مع المرحلة الجديدة حتَّى تستطيع البقاء على أَقلِّ تقدير، وقد وضع آل توفلر جملة من الشُّروط والأُسس الَّتي ينبغي أَن يكون التَّغييرُ على أَساسها وهي:‏
          ـ " أَيُّ مؤسَّسةٍ جديدةٍ يجب أَلاَّ تقامَ على غرار المصانع القديمة شكلاً وتنظيماً وإدارةً.‏
          ـ يجب أَلاَّ تزيد أَيَّةُ مؤسَّسةٍ من تكتيل المجتمع.‏
          ـ يجب عدم تركيز السُّلطة عند القمَّة، بل يجب دفع عمليَّة اتِّخاذ القرار من القمَّة إلى الحواف، وإعطاء السُّلطة للموظَّفين، لأَنَّ القمَّة محرومة من المعلومات الَّتي يمكن أَن تنتشر عند القاعدة.‏
          ـ بدلاً من أَن يتكوَّن النِّظام رأسيًّا، اعتماداً على تطوير النِّظام الهرمي في الشَّركة، وزيادة فعَّاليـَّته عن طريق الاتِّصال أُفقيًّا بالخبرات الموزَّعة في الأَسواق المحلِّيـَّة، وعلى سبيل المثال تتعاقد شركات الموجة الثَّالثة مع شركات أَصغر، ولكنَّها أَكثر تخصُّصاً، ومتقدِّمة تقنيًّا، وتتخلَّصُ من الأَعداد الكبيرة من الموظَّفين، وتُجري أَنشطتها في أَماكن متوزِّعة.‏
          ـ تقوية الأُسرة، وإعادة النَّظر في الأَعمال الَّتي يمكن أَن تقوم بها، واليوم هناك ثلاثون مليون أَمريكي يقومون بجزءٍ من أَعمالهم في البيت؛ يستخدمون الحاسب الآلي، والفاكس، وتقنيَّات الموجة الثَّالثة الأُخرى. وسوف يأتي التَّغيُّر الحقيقي حينما يخترق التِّلفاز المتَّصلُ بالحاسب الآلي المنـزلَي، ويدخل في إطار العمليَّة التَّعليميَّة، ويقوم بوظائف طبيَّة كثيرة بالمنـزل: فحص ضغط الدَّم، واختبار الحمل ..."(5) .‏
          ولكنَّ طموحات الاقتصاديِّين لم تتوقَّف عند هذه الحدود الضَّيقة فقد أَصبحوا هم الَّذين يخطِّطون ويرسمون، لا معالم مستقبلهم الاقتصاديَّ وحسب، بل معالم مستقبل البشريَّة والكيفيَّات الَّتي ستكون عليها حياة البشر بمختلف أُطرها: الاقتصاديَّة والسِّياسيَّة والعلميَّة والتَّعليميَّة والتَّربويَّة والاجتماعيَّة، ومن ذلك ما نراه في محاولة بيل جيتس ـ Bill Gates؛ صاحب أَكبر شركة حاسبات آليَّة في العالم، في كتابه الطَّريق إلى المستقبل ـ Road The Ahead الَّذي يوضِّحُ رؤيته "للميادين والمجالات الَّتي لم يتم ارتيادها بعد ـ على طرق المعلومات السِّري ... فهو يضع لنا دليلاً عمليًّا واضحاً، محدَّد المعالم لطريق هذه الرِّحلة إلى المستقبل، وكيف ستتغيَّر طريقة البيع والشِّراء من خلال الإنترنت، وطريقة التَّعليم والعمل والاتِّصال مع بعضنا"(6) .‏
          ولا ننسى المحاولة السَّابقة للاقتصادي الياباني المعروف إكيو موريتا صاحب شركة ميتسوبيشي العالميَّة الشَّهيرة، مع الكاتب الياباني اللامع سينشاروا إيشهارا في كتابهما: اليابان تستطيع أَن تقول لا؛ الَّذي أَثار ضجَّةً عالميَّة، ولا سيَّما في أَمريكا، أَجبرت موريتا على سحب اسمه عن الطَّبعة الإنجليزيَّة وأَلزمت إيشهارا بمراجعة هذه الطَّبعة وتنقيحها قبل صدورها(7) .‏
          لقد استاء الاقتصاديُّ اليابانيُّ من الهيمنة الأَمريكيَّة على اليابان على الرُّغم من أَنَّ موازين القوى الاقتصاديَّة كما بيَّن وبرهن في صالح اليابان ولذلك شنَّ، مع صديقه الكاتب، هجوماُ عنيفاً على حكَّام اليابان الَّذين رضخوا للسِّياسة العنصريَّة الأَمريكيَّة تجاه اليابان وارتضوا أَن تكون بلادهم قزماً سياسيًّا، فهما يؤكِّدان أَنَّ اليابان تستطيع أَن تقول لا، ولذلك يجب على الحكومات اليابانيَّة أَلاَّ تنحني للرَّغبات والضُّغوط الأَمريكيَّة حتَّى في مجال تطوير الأَسلحة.‏
          * * *‏
          (1) ـ انظر تفصيل نظريَّته في كتابيه: رأس المال، ونقد الاقتصاد السِّياسي.‏
          (2) ـ روي كالن: عالم يفيض بسكانه؛ عرض لأَسباب المشكلة وحل جذري لها ـ ترجمة؛ ليلى الجبالي ـ المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب؛ سلسلة عالم المعرفة) ـ الكويت ـ العدد 213 ـ 1996م. ـ ص 158.‏
          (3) ـ جلال الرَّشيدي: عرض لكتاب؛ الطَّريق إلى المستقبل / The Road Ahead ـ تأَليف: بيل جيتس ـ Bill Gates وآخرون ـ ضمن صحيفة؛ البيان؛ الملف السِّياسي ـ العدد 329 ـ الجمعة 5 أَيلول/ سبتمبر 1997م ـ ص15.‏
          (4) ـ خصصنا النِّصف الثَّاني من القرن العشرين بهذا المنحى التَّنافسيِّ لتجلِّيه فيه بوضوح من جهة ولأَنَّه محور تسارع وتصاعد وتائر السِّيرورة الاقتصاديَّة من جهة ثانية، دون أَن يعني ذلك انتفاء التَّنافس هذا في العمليَّة الإنتاجيَّة منذ القديم.‏
          (5) ـ عبد الحكيم محمد بدران: عرض لكتاب: بناء حضارة جديدة ـ ص 198.‏
          (6) ـ جلال الرَّشيدي: عرض لكتاب؛ الطَّريق إلى المستقبل ـ ص15.‏
          (7) ـ انظر تفاسيل ذلك عند: عزَّت السَّيد أَحمد: النِّظام الإقتصادي العالمي الجديد ـ ص 33ـ 39. وكذلك: عزَّت السَّيد أَحمد: كيف ستواجه أَمريكا العالم؟: الهيمنة الأَمريكيَّة والنِّظام العالميِّ الجديد ـ دار السَّلام للطِّباعة ـ دمشق ـ 1992م ـ ص 35 ـ 40.‏

          تعليق


          • #6
            رد: انهيار مزاعم العولمة

            الفصل الثَّاني : التـَّـنافـــس الاقتصـــــادي في ظلِّ العولمة
            لا مكان للضُّعفاء أَبداً في ميدان التَّنافس؛ أيِّ تنافس. وإذا كان ثمَّة نوافذ صغرى أَو كبرى مفتوحة فيما مضى فإنَّها الآن غير موجودةٍ أَبداً.‏
            إنَّ التَّنافس والصِّراع بين الشَّركات أَمرٌ غير جديدٍ ولكنَّه شأنه شأن غيره من ظواهر الحياة بمختلف جوانبها تنعكس فيه الظُّروف الموضوعيَّة وتُقَوْلِبُهُ بما يتوافق معها، ويكفي لتبيُّن ذلك أَن نرجع مثلاً إلى علاقات الدُّول مع بعضها بعضاً أَو إلى أَسباب نشوء الاستعمار والصِّراع على المستعمرات إذ كان كلُّه محكوماً إلى درجةٍ كبيرةٍ بالمنافسة الاقتصاديَّة ومصالح الدُّول المستعمِرَة والمتصارعة النَّابعة من مصالح شركاتها الَّتي تمدُّ شرايينها بدفق الحياة. إلاَّ أَنَّ طبيعة المرحلة الرَّاهنة؛ مرحلة العولمة قد فرضت إيقاعاً جديدا من المنافسة لم يختلف في جوهره عمَّا مضى ولكنَّه يلبس أَثواباً جديدةً تتَّفق مع معطيات العولمة وخصوصيَّاتها إذ صارت الشَّركات مرغمة على اللَّعب على أَحدِ حبلي المنافسة والصِّراع الجديدين المتمثِّلين إمَّا باستمرار المواجهة وفق الظُّروف المعاصرة أَو بالمواجهة من الدَّاخل وأَعني بذلك؛ إمَّا إعادة هيكلة الشَّركات على أَنحاءٍ متطوِّرة تتيحُ لأَصحابها القدرة على المواجهة والتَّحدِّي أَو الاندماج مع الشَّركات المماثلة.‏
            1 ـ إعادة الهيكلة‏
            تسعى العولمة إلى تحطيم الحدود والحواجز إنْ لم تحطِّمها فعلاً، وتشرئب إلى جعل العالم كلَّه سوقاً واحدةً، وهي جادَّةٌ في ذلك من غير أَيِّ نقاشٍ أَو جدال، عبر الاتِّفاقات الدُّوليَّة والقوانين الَّتي تفرضها على دول العالم فرضاً؛ ترغيباً وترهيباً كما حدث على سبيل المثال عندما حدَّدت منظَّمة الجات ـ GATT مدَّة سبع سنين حدًّا أَقصى للدُّول غير المنضمَّة إليها من أَجل الانضمام وإلاَّ فإنَّها ستُقاطَع تجاريًّا، ولذلك نجدنا متَّفقين مع أَلفين توفلر في وصفه للمرحلة الرَّاهنة بأَنَّها عاصفةٌ يمرُّ بها الاقتصاد تفرض على الاقتصاديين شروطاً وترتيباتٍ جديدةً من التَّعامل وذلك في قوله:‏
            "في العاصفة الَّتي يمرُّ بها اقتصاد الموجة الثَّالثة تعادل العولمة) فإنَّه يأخذ شكلاً جديداً يوصف بأَنَّه الحاجب المرتفع(1) ، أَكثر تنوُّعاً، وأَسرع في التَّنفيذ، وأَكثر تعقيداً من اقتصاد الماضي القديم، وتحتاجُ مستويات هذه الوثبة إلى مستويات أَعلى لتشغيل المعرفة"(2) .‏
            ومن ذلك نجد، كما كان دائماً، أَنَّه لا مكان للضُّعفاء أَبداً في ميدان التَّنافس، وإن كان ثمَّة نوافذ صغرى أَو كبرى مفتوحة فيما مضى فإنَّها الآن غير موجودةٍ أَبداً، وبهذا المعنى تقريباً قال أُورين هاتش(3) :‏
            "تستطيع مايكروسوفت سحق أَيَّ منتجٍ منافسٍ لمنتجاتها، بإدماجه في الإصدارات التَّالية من ويندوز"(4) .‏
            وعلى هذا الأَساس "يعتقد أُوماي ـ Ohmae أَنَّ مسألة الإستراتيجية العالميَّة الآن هي على الأَغلب مسألة بقاء ـ Matter of Survival لأَنَّ التَّنافس يزداد عالميًّا في معظم مناطق التِّجارة والعمل، والزَّبائن يمكن أَن يختاروا المنتجات والخدمات من عدَّة مصادر"(5) . وهذه الفكرة ذاتها هي التي جعلت الرَّئيس الفرنسي الرَّاحل فرانسوا ميتران يعلن تمرُّده على فكرة السوق الشَّاملة لقيامها على تنافسٍ يسحق القيم الإنسـانيَّة تحت أقدامه، فهو يقول: "هل يجب أن نسمح بتحوُّل العالم إلى تلك السُّوق الشَّاملة الواحدة التي يمكن أن يعمل فيها فقط قانـون الأقوى بهدفٍ وحيدٍ ألا وهو كيف يمكن الحصول على أكبر ربحٍ في أقصـر وقت، ذلك العالم الذي [يمكن فيه للمضاربة خلال عدَّة سـاعات] تحديد عمل ملايين النساء والرِّجال؟ هل يجب علينا إعطاء مستقبل الجيل لقوى المضاربة العمياء؟"(6) .‏
            وعلى أيِّ حالٍ فإنَّ أُوماي يرى أَنَّه من الممكن أَن تستمرَّ أَيُّ شركة في السُّوق وتفرض ذاتها كغيرها من الشَّركات شريطة أَن تعيد بناء ذاتها بما يتوافق مع المعطيات الجديدة، بمعنى إعادة هيكلة هذه الشَّركات من جديد، ولذلك تراه "يجادلُ في أَنَّ العولمة ليست فقط من أَجل تعاون أَكبر، ولكنَّ أَيَّ شركة ذات سوقٍ محليَّةٍ قويَّةٍ وتصـديرٍ قويٍّ يمكن أَن تتابع عمليَّة العولمة.‏
            وهذا ما يمكن أَن يتمَّ وفق آرائه في خمس مراحل هي:‏
            1 ـ شركة تصدير بمنتج قوي.‏
            2 ـ فروع في ما وراء البحار تنشئ لتسليم المبيعات والتَّسويق المحلي.‏
            3 ـ إعادة موضعة التَّصنيع والإنتاج في السُّوق المحليَّة.‏
            4 ـ الاطلاع الدَّاخلي، وهذا يعني أَنَّه عندما يتمُّ تطوير المرحلة الثَّالثة فإنَّ الشَّركة الأُمَّ في السُّوق الرَّئيسة تكمِّل، من خلال بحثها وتطويرها، إعادة هندسة الشَّركة ككل مع وظائف أُخرى ... وهذا يمكِّن المنتج من أَن يكون لائقاً للسُّوق المحليَّة(7) ويبني إدارةً محليَّةً قويَّةً.‏
            5 ـ إنَّ الشَّركة العالميَّة الكاملة، والَّتي فيها بعض الوظائف الجوهريَّة كالبحث والتَّصميم وإدارة اسم المنتج أَو العلامة المحليَّة ربَّما تُعكس إلى المركز لبناء قيم مشتركة، بينما تستمرُّ أَو تحافظ على العمليَّات المحليَّة"(8) .‏
            2 ـ سياسات الاندماج‏
            إنَّ "زوال الحدود ينطوي في الاقتصاد على السَّير المطَّردِ باتِّجاه سوقٍ واحدةٍ؛ إنتاجاً وتبادلاً وتداولاً، فالعولمة الاقتصاديَّةُ وتوسُّعها المستمرُّ تتجاوزُ، بأَبعادها ومدلولاتها ونتائجها، ظاهرةَ تدويل النَّشاط الاقتصاديِّ الَّذي عهدناه من قبل. فإنَّ تحرير تدفُّقات الرَّساميل المترافقة مع حرِّيَّة تنقُّل البضائع والأَفراد والتِّجارة والخدمات و[التِّقانة] بفضل التَّكتلات الاقتصاديَّة الكبرى والشَّركات العالميَّة المتعددة الجنسيَّات، واتِّفاقات منظمة التِّجارة الدُّوليَّة الَّتي نشأت قبل بضع سنوات، كلُّ ذلك قد أَدَّى إلى أَنماطٍ متكاملةٍ من الإنتاج والخدمات العابرة للحدود الوطنيَّة أَو المحليَّة المعهودة"(9) . الأَمر الَّذي فرض على النَّشاط الاقتصادي العالمي حراكاً جديداً يسير بمقتضاه وهو ما يسمِّيه أَنصار العولمة بالتَّعاون أَو المشاركة ويتجلَّى على أَرض الواقع في أَنماط من الاندماج انطلاقاً ممَّا "يراه الاقتصاديُّون اليوم من أَنَّ الشَّركات الَّتي لديها سيطرة على السُّوق هي وحدها الَّتي سوف تنجو على المدى البعيد"(10) . وانطلاقاً من الفكرة ذاتها عبَّر لورانس هيورث مدير قسم الأسواق النَّاشئة في بنك الاستثمار البريطـاني عن مخاوف الشَّركات متعددة الجنسيَّات بقوله: "هناك شعور قويٌّ بالمخـاطر وسط الشَّركات متعددة الجنسيَّات بأنَّها قد تفقد الفرصة في الاستثمار للأبد إذا لم تنتهزها الآن"(11) .‏
            ولذلك نشطت حركات الاندماجات بمختلف أطرها وأشكالها في مختلف بقاع العالم وإن تباين مدى هذه الاندماجات وقوَّتها من مكان إلى مكان تبعاً لقوة الحركة الاقتصادية وجدواها الربحيَّة والاستراتيجيَّة فقد شكَّلت أمريكا اللاتينيَّة على سبيل المثال أكثر الأسواق جاذبيَّة لصفقات الاندماج والاسـتحواذ خـلال العامين الأخيرين(12) إذ بلغت نحو 46 صفقة بقيمة 16 مليار دولار، وسجَّلت آسيا نحو 45 صفقة بقيمة 11 مليار دولار، فيما نالت شرق أوروبا والشـرق الأوسط وأفريقيا 28 صفقة بقيمة 2.9 مليار دولار. وكما تباين مدى حضـور فاعليَّة الاندماجات بين الأمكنة فقـد تباين كذلك نصيب القطاعات الاقتصـاديَّة في ذلك فقد سـيطر القطاع المالي على صدر القائمة إذ بلغت قيمة صفـقاته نحو 7.5 مليار دولار، وجاء بعده في التَّرتيب قطاعا الاتصـالات والطَّيران بقيمة 5.4 مليار دولار، ثمَّ قطاع الخدمات بقيمة 2.9 مليار دولار.‏
            من الرَّاسخ في أَذهان أَرباب الاقتصاد؛ صنَّاعاً وتجَّاراً، ما يعدُّ حقيقة متوارثةً منذ عهودٍ مديدةٍ هي "أَنَّ ضمَّ شركةٍ من ضمن المجال الصِّناعيِّ نفسه يعطي الفرصة الأَكبر للنَّجاح، فأُولئك الَّذين يسعون لامتداد التَّوزيع جغرافيًّا يزيدون مشاركة أَو اندماجات السُّوق، ويتخلَّصون من المنافسين، وتتاح لهم الفرصة للدُّخول إلى تقنيَّةٍ جديدة أَو يضيفون ناتجاً إلى نظام التَّوزيع الحالي أَو الموجود"(13) . وانبثاقاً من روح هذه الفكرة وصل بعض المفكِّرين إلى أَنَّ هناك نظريَّتين لتفسير نغمة الاندماج الرَّائجة في هذه الأَيَّام؛ "تقول الأُولى بأَنَّ خِيارات الشَّركات في الشَّراكة ما هي هبَّات، لظنون أَصحابها أَنَّه من الأَفضل أَن تشاركَ منافسك من أَن تتنافس معه. وتقول الثَّانية بأَنَّ ضمَّ القوى إلى قوى شركةٍ أُخرى سيخلق شركةً أَقوى بكثير"(14) .‏
            تسير الاندماجات حسب رأينا ضمن سياقين هما الاندماج الإرادي والاندماج القسري، ولكلٍّ منهما أَكثر من شكل وأَكثر من تصنيف، أَمَّا الاندماج الإرادي فهو أَن ما يتمُّ بالقناعة والتَّراضي بين شركتين أَو أَكثر انطلاقاً من بعض الظُّروف أَو الشُّروط المعطاة أَو المفروضة عليهم أَو على بعضهم وانطلاقاً من هذا الباب يرى نزار الخطيب أَنَّ "الاندماج يأخذُ ثلاثة أَشكال هي اندماجٌ خدميٌّ واندماجٌ فُرصيٌّ واندماج شراكة"(15) . أَمَّا جيمس بوتكنز ـ James Botkins فيقدِّم ضرباً آخر من التَّقسيم لما أَسميناه الاندماج الإرادي عندما يرى بأَنَّ "هناك ثلاثة أَنواعٍ من الاندماجات: اندماجات صغيرة صغيرة، واندماجات صغيرة كبيرة، واندماجات كبيرة كبيرة"(16) . والنَّوع الأَخير هو ما يعدُّه المؤلِّف الاندماج الاستراتيجي. ولكنَّ التَّقسيمين كليهما قد أَغفلا نوعاً اندماجيًّا مهمًّا يندرج تحت الاندماج الإراديِّ ويمكن أَن ينطوي تحت الاندماج القسريِّ، وهو اندماج شراء الاسم أَو العلامة التِّجاريَّة أَو ما يسمَّى الامتياز وليس ثمَّة مشكلة في ذلك لأَنَّ هذا النَّوع من الاندماج يمكن أَن يكون من ضمن أَيٍّ من الاندماجات السَّابقة، وإن كان يستحقُّ أَن يفردَ في نوعٍ خاصٍّ مثلما كان شأن الاندماج الخدميِّ.‏
            ولكنَّنا نجدُ أنَّ من الممكن والأكثر صواباً تقسيم الاندماج الإرادي، حسب رأينا، إلى ثلاثة أنواع هي: اندماج الشَّراكة، والاندماج الفرصي، واندماج الامتياز. أي إنَّنا أغفلنا الاندماج الخدمي، واندماجات بوتكنز كلَّها، ذلك أنَّ تصنيف بوتكنز مطلق من التَّحديد والتَّقييد، ولا يقدِّمُ توضيحاً شافياً لكيفيَّة الاندماج ونوعه ومداه. أمَّا الاندماج الخدميُّ الذي يختصُّ بتقديم الخدمات للزَّبائن أَو المستهلكين من مثل بعض القطاع السِّياحي والاتِّصالات ووسائط النَّقل كشركات الطَّيران وغيرها. فإنَّه يندرج ضمن أَيٍّ من الاندماجات التَّالية تبعاً لشروط الاندماج. وعلى ذلك يمكننا تصنيف هذه الاندماجات على النَّحو التَّالي:‏
            1 ـ اندماج الشَّراكة: اندماج الشَّراكة هو الاندماج التَّداخلي والتَّكاملي الَّذي تلتحم فيها شركتان أَو أَكثر التحاماً كليًّا بغضِّ النَّظر عن تقسيم العمل أَو عدم تقسيمه، فقد تقومان بإنتاج كامل السِّلعة معاً بشكلٍ متكامل أَو كلٌّ على حدةٍ والأمثلة على ذلك جدُّ كثيرة لأنَّ هذا النَّوع من الاندماج يُشكَّل الإمكانيَّة الأكبر انطواءً على فرص النَّجاح للشركات، ومن نماذج هذا الاندماج اندماج خطوط الطَّيران الإنجليزيَّة والأَمريكيَّة الذي يخطَّط له منذ زمن ليس بالقريب.‏
            والحقُّ أنَّ هذا النَّوع من الاندماج على درجة من الأهمِّـيَّة والخطورة في آن معاً، أمَّا الأهمِّـيَّة، وهي بمعنى الضَّرورة هنا، فتكمن فيما يمكن أن ينطوي عليه هذا النَّوع من الاندماج من فوائد اقتصاديَّة سنأتي عليها في نهاية هذا الفصل، وأمَّا الخطورة فتتمثَّل في كون هذا الاندماج في الدَّرجة الأولى ضرباً من الاحـتكار والهـيمنة بما تقدَّمه طبيعة الاندماج وتتيحه من إمكانات السـيطرة والاحتكار، وأيًّا كان الأمر فإنَّ الضَّرورة والخطورة ترتبطان بطبيعة الاندماج بحد ذاته وغايته، فاندماج شركة بريتيش بتروليوم مع شركة آموكو قيمة 53 مليار دولار "لن يشكِّل فقط قوَّة جديدة ثالثة تقف إلى جانب شركة اكسون ومجموعة شل وحسب، بل ينذر بعمليَّة إعادة تنظيم في الصِّناعة النَّفطيَّة... ويقول المحللون إنَّ أرباح الاندماج التي تصل إلى 6.4 مليار دولار ستضع هذا الكيان الجديد في موقع يأتي مباشرة بعد شركتي إكسون وشل، بينما سيساعد احتياطي النِّفط والغاز الذي يملكه الاندماج بأن يحتلَّ الموقع الثاني بعد شركة شل، وسيصبح لدى الاندماج نحو 18 ألف محطة وقود في العالم ... وعبِّر براون مدير الاندماج عن أمله في أن ينافس الائتلاف الشركات الأخرى وأن يحتلَّ الصدارة بحيث تكون له السَّيطرة على مصيره بدلاً من الاكتفاء بأسهم صغيرة في مشاريع مشتركة"(17) .‏
            وفي إطار المنحى ذاته أعلنت، في السَّابع من أيار 1998م شركة ديملر بنز المنتجة لسيارات مرسيدس أنَّها "تجري محادثات هدفها الاندماج مع شركة كرايسلر الأمريكيَّة للسيارات فيما قد يصبح أكبر اندماج صناعي على الإطلاق ... ويتطلع العاملون لزيادة دخل المجموعة الصِّناعيَّة بفضل تخفيض التَّكلفة وإمكان النَّفاذ إلى أكبر أسواق السيارات في العالم ... إلى جانب الأرباح الهائلة التي سيحقِّقها ديملر"(18) .‏
            ولكن ثمَّة اندماجات شراكة تفرضها دوافع الدفاع عن مصالح الأمَّة أو القوميَّة أو الإقليميَّة ضدَّ الاختراقات الخارجيَّة ومن أمثلة ذلك عزم المصرفين الرَّئيسين في كوريا الجنوبيَّة؛ هانيل بنك وكوميرشال بنك أوف كوريا على الاندماج ليصبحان أكبر مصرف في البلاد. وقال لي كوان وو حاكم هانيل بنك: لقد قررنا دمج المصرفين لإنشاء مصرف رائد قادر على المنافسة الدُّوليَّة وتخطِّي الأزمة الاقتصاديَّة في البلاد... وهذه الخطوة هي الأولى في سلسلة اندماجات مخطَّطة تهدف إلى إعادة تنظيم القطاع المصرفي المتضرِّر من الأزمة الماليَّة التي ضربت آسيا في العام الماضي"(19) . وتلا ذلك في كوريا أيضاً ما أعلنته مجموعة شركات كبيرة في كوريا الجنوبيَّة عن عدَّة اتِّفاقات اندماج في الثالث من شهر أيلول 1998م في صناعات أشباه الموصلات والبتروكيماويات وتكرير النِّفط والسيارات. وقد "صرَّح سون بيونج نائب الرَّئيس التَّنفيذي لاتِّحاد الصِّناعات الكوريَّة في مؤتمر صحفي بأنَّ مختلف الصَّفقات ستوفِّر 20 تريليون وون في صورة استثمارات متداخلة خلال السَّنوات الخمس المقبلة. وقال إنَّ أسعار الصَّادرات سترتفع بنسبة عشرة بالمئة سنويًّا بسبب انخفاض المنافسة بين الشركات، وستوفِّر عشرة بالمئة أخرى سنويًّا في تكاليف الانتاج"(20) . والحقَّ أنَّ النماذج المشابهة لصنفي هذا النَّوع من الاندماج كثيرة منها محاولة اندماج مصرفي يونيون بنك أوف سويتزلند مع مصرف سويس بنك أوف كورب ليصبح ثاني أكبر مصرف في العالم بعد مصرف طوكيو ميتسوبيشي الياباني(21) ، وكذلك المساعي الدائرة لدمج شركات الليندال موتود إنشورنس وأكركورايث موتود وبرويتش موتود إنشورنس لتصبح واحدة من الشركات العملاقة في مجال التَّأمين(22) وكذلك محاولة اندماج اثنين من أكبر المصارف الكنديَّة هما رويال بنك كندا وبنك مونتريال هذه المحاولة التي قابلتها الحكومة الكنديَّة بالمعارضة فوراً(23) ... وغير ذلك كثير.‏
            2 ـ الاندماج الفرصي: الاندماج الفرصي هو الاندماج المرحلي أَو المؤقَّت الَّذي فرضته بعض الظُّروف الرَّاهنة كصفقة مشتركة أَو إنتاج مشترك لمرحلةٍ محدَّدة أَو زبون أَو مستهلك مشترك. وعلى سبيل المثال تعرض، في هذه الآونة "خمس عشرة شركة أمريكيَّة كبيرة في مجال الاتِّصالات، بما في ذلك شركات عملاقة مثل موتورلا ـ Motorola ولورال سبيس آند كوميونيكيشنز ـ Loral Space and Communications وتيليديسك ـ Teleaesic وهي مشروع مشترك بين شركتي ميكروسوفت ـ Microsoft المملوكة لبيل جيتس وجريج مكاو رائد الهواتف المحمولة) مشاريع تنافسيَّة ستؤدِّي إلى تطويق الأرض بكوكبة من الأقمار الصِّناعيَّة، وإلى تمكين أيِّ فرد في أيِّ مكان من الاتِّصال الفوري بأيِّ شخصٍ أينما كان من دون حاجة إلى إنشاء أيَّة بنية أساسيَّة للاتِّصالات على الأرض بالقرب من المرسل أو المستقبل. قدَّرت شركة لورال تكلفة تلك المكالمة بثلاثة دولارات للدَّقيقة الواحدة)"(24) . ومن أمثلة ذلك أيضاً مساعي وزراء من القارتين الأمريكيتين إلى دمج قطاعات الطَّاقة في بلدانهم(25) ، وكذلك عزم "تحالف أمريكيٍّ يضمُّ ثلاث مؤسسات مالية كبرى على إطلاق مجموعة من الصَّناديق الاستثماريَّة التي تلتزم قواعد العمل المصرفي الإسلامي، ويشارك في تمويلها مستثمرون أغلبهم من منطقة الخليج ومصر ..."(26) .‏
            3 ـ الاندماج عن طريق الامتياز أَو شراء الجهد: هنا نجد أَنَّ بعض الشَّركات راغبة في إنتاج سلعةٍ ما وهي غير عاجزة عن منافسة غيرها في ذلك وقد لا تكون عاجزة عن الاختصاص بمواصفات معيَّنةٍ لهذه السِّلعة، ولكنَّها تجد أنَّه من غير المناسب لها أن تقوم بفتح فرع أو قسم لإنتاج ضرب معيَّن من السِّلع؛ كلِّها أو بعضها، لأسباب فنِّـيَّة أو ربحيَّة أو جغرافيَّة أو حتَّى سياسيَّة...أو لأنَّ شركة معيَّنة تختصُّ وتتميَّز بإنتاج قسم معيَّن من بعض أنواع السِّلع مع عجز غيرها عن إنتاج البديل أو المكافئ جودة، فتقوم لذلك بعض الشَّركات بشراء حقِّ استخدام الاسم التِّجاري لشركة أخرى أو بتكليف شركة أخرى قد تكون أكبر منها وأقوى أو أصغر وأضعف، بإنتاج جزئيَّات معيَّنة متمِّمة لسلعها. ومثل هذا ما نجده في صناعات السَّيارات والطَّـيَّارات والحواسب وكثير من الصِّناعات الإلكترونيَّة. ومن أمثلة هذا الاندماج العقد الذي تمَّ توقيعه "بين شركتي نوكيا Nokia وكوربوريشن ديجيتيل Corporation Digitel لتوريد شبكة GSM-900 في فنزويلا ... وسوف تقدم نوكيا لشـركة ديجيتيل شبكة GSM-900 كاملة بما في ذلك مراكز التَّحكُّم المتنقلة وغيرها من الملحقات ..."(27) .‏
            أَمَّا الاندماج القسري الَّذي يستحقُّ اسم الدَّمج لا الاندماج فلا تختلف أَسبابه عن الأَسباب العامَّة للاندماج، ويمكن تقسيمه إلى أَربعة أَنواع هي:‏
            1 ـ الاندماج عن طريق الابتلاع: وهنا تقوم شركةٌ كبيرةٌ بابتلاع شركة أُخرى منافسة لها؛ كبيرة أَو صغيرة، إمَّا ضمًّا أَو شراءً، من أَجل إزاحتها من السُّوق. ومن أمثلة هذا النَّوع من الاندماج مثالنا السابق عن شراء شركة B.M.W شركة رولزرويس للسيارات. وكذلك تخطيط شركة فولكسفاكن التي أخفقت في شراء رولزرويس من أجل شراء شركة سكانيا السُّويديَّة(28) . وكذلك أيضاً إعلان "شركة بيل أتلانتك كورب Bell Atlantic Corp التي [تعدُّ] أكبر الشركات الأمريكيَّة في مجال الهواتف، أنَّها وافقت على شراء شركة جي.تي.أي كورب Gte Corp مقابل 52.8 بليون دولار"(29) ، وسينشئ هذا الاندماج شركة اتِّصالات عملاقة تسيطر على أكثر من ثلث سوق الهواتف المحليَّة الأمريكيَّة(30) . ما أعلنته "أنفستكورب: المجموعة الاستثماريَّة العالميَّة، التي توجد لديها مكاتب في لندن ونيويورك والبحرين، أنَّه بالتَّعاون مع إدارة لايكا جيوسيستمز سوف تستملك شركة لايكاجيوسيستمز من لانسيت أنفستمنتس بي في الهولنديَّةفي صفقة ماليَّة تقدِّر قيمتها بنحو 450 مليون فرنك فرنسي نحو313 مليون دولار أمريكي)"(31) . وفي الإطار ذاته أعلنت شركة التَّأمين وإعادة التَّأمين القابضة بيركشاير هاثواي Berkshire Hathway عن خطط لشراء كامل شركة جنرال ري كوربوريشن General Recorporation وهي شركة قابضة مختصَّة في التَّأمين وإعادة التَّأمين وإدارة المخاطر على المستوى العالمي. وكذلك الأمر تخطَّط شركة الأيد سيغنال لشراء كامل شركة إيه.ام.بي AMP INC لتصنيع الإلكترونيات وأجهزة التَّوصيلات الكهربائيَّة والبصريَّة(32) .‏
            2 ـ الاندماج عن طريق الانضمام: هنا تفلسُ بعض الشَّركات، ولا سيَّما الصُّغرى، إمَّا من القدرة على منافسة غيرها من الشَّركات الكبرى القويَّة أَو مادِّيـًّا بفعل المنافسة والصِّراع على المستهلك، فلا تجدُ بدًّا من الانضمام إلى شركةٍ أُخرى كبرى تحتمي تحت ظلِّها من الاضمحلال والزَّوال. ومن أمثلة ذلك ما أعلنته "شركة‏
            Felcor Suite Itotels Inc عن استكمال خطوات اندماجها بشركة عقارات Bristol Hotel تحت الاسم الجديد Felcor Lodgig Trust Inc، وهذا الاندماج الذي أعلن عنه من حيث المبدأ في الرَّابع والعشرين من آذار 1998، جعل من الشركة واحدة من أكبر شركات الاستثمار في مجال العقارات والخدمات في الولايات المتحدة"(33) . ومن الأمثلة أيضاً ما أعلنته "شركة بيرغ ألكترونيكس Berg Electronics لتصنيع الموصلات والكابلات الكهربائيَّة في سانت لويس بالولايات المتحدة من أنَّها وافقت على صفقة تؤول الشَّركة بموجبها لشركة فراماتوم كونكترز إنترناشيونال Framatome Connectors International الفرنسيَّة مقابل 1.85 بليون دولار بما في ذلك المطالبة بديون شركة Berg"(34) .‏
            3 ـ الاندماج عن طريق السَّحق: في زحمة المنافسة قد لا تجد بعضُ الشَّركات الفرصة للاندماج مع غيرها أَو الانطواء تحت ظلِّها، وهي في الوقت ذاته عاجزة عن الاستمرار في المنافسة، فلا تجدُ نفسها إلا وقد سُحِقَت تحت عجلات المنافسة والصِّراع وتلاشت آثارها من السُّوق. ومن أمثلة ذلك عرض شركة إيرلانكا السيرالانكيَّة للطيران بيع جزء كبير من أسهمها من أجل "تسديد مديونيَّتها إلى زبائنها خصوصاً شركات صناعة الطائرات"(35) . وكذلك ما شهدته أمريكا اللاتينيَّة من عمليات التخصيص التي تمَّ بموجبها طرح البرازيل أكبر شركة اتِّصالات في أمريكا اللاتينيَّة للبيع في صفقة جذبت المستثمرين من أنحاء العالم(36) . وكذلك إعلان البنك المركزي الكوري أنَّه سوف يعلن عروض العطاءات الخاصَّة ببيع شركة كيا الكوريَّة الجنوبيَّة لإنتاج السَّيارات(37) . ومن أهمِّ الأمثلة على ذلك شركة رولزرويس الشَّهيرة التي تعرَّضت لمجموعة من الأزمات والصعوبات المتتالية التي ألزمتها أخيراً بعرض نفسها للبيع، وفازت أخيراً شركة B.M.W بشرائها بعد منافسة لها مع شركة فولكسفاكن(38) .‏
            4 ـ الاندماج عن طريق الامتياز أَو شراء حقوق الاسم التِّجاري: هنا نجد أَنَّ بعض الشَّركات راغبة في إنتاج سلعةٍ ما وهي عاجزة إمَّا عن منافسة غيرها في ذلك أَو غير قادرة على الاختصاص بمواصفات معيَّنةٍ لهذه السِّلعة، فلا تجد مناصاً من الانطواء تحت لواء شركة كبرى بشراء حقِّ استخدام اسمها التِّجاري وخصائص منتجها. ومن أمثلة ذلك ما أعلنته شركة فيكرز البريطانيَّة للمعدَّات الثَّقيلة من أنَّها توصَّلت في 12/7/1998م إلى "اتَّفاق لبيع كوزورث التَّابعة لها والمتخصِّصة في صناعة [المحرَّكات وتقانة] القطارات إلى شركة أودي، إحدى شركات مجموعة فولكسفاكن، لقاء 117 مليون جنيه استرليني نحو 191 مليون دولار)، واتَّفقت الشركتان أن تتلقَّى فيكرز مبلغ 107 ملايين جنيه من قيمة الصَّفقة نقداً فيما تحصل على القيمة المتبقية من طريق موجودات في حوزة كوزورث ..."(39) . ومن أمثلة هذا النَّوع الاندماجيِّ أيضاً الامتيازات التي تمنحها الكوكاكولا والماكدونالد والويندز التي افتتحت فرعها عن طريق الامتياز "في 34 بلداً في العالم، حيث تتضمَّن سلسلتها 4400 مطعماً"(40) .‏
            تشترك هذه الأَنواع كلُّها، ضمن ضربي تقسيمها ببعض نتائجها الإيجابيَّة، بالنِّسبة للشَّركات على الأَقلِّ وبالنِّسبة للمستهلك من بعض النَّواحي، ومن ذلك مثلاً ما ذكره برنارد بارنز ـ Bernard Bures من " أَنَّ المحاسن الرَّئيسة النَّاجمة عن الاندمـاج الفرصي هي تعزيز الكفاءة ونقل التِّقنيَّة وكسب السُّوق"(41) ، وهذا ما ينطبق أَيضاً على الاندماج الخدمي واندماج الشَّراكة. أَمَّا جيمس بوتكنز فيرى المحاسن والامتيازات متجلِّية في الاندماج الاستراتيجي أَي اندماج الشَّركات الكبيرة مع الكبيرة، "وهي:‏
            1 ـ اكتساب امتيازات وتقنيات أَكثر.‏
            2 ـ تطوير علاقة استراتيجيَّة مع المستهلك.‏
            3 ـ اكتساب سوق جديدة"(42) .‏
            وعلى العموم يمكننا إعادة صياغة المحاسن وفق رأينا فيما يلي، آخذين بعين الحسبان أَن تكون على أَوسع مدى ممكنٍ من الأصعدة والأُطر، بمعنى أَنَّ هذه المحاسن منسوبة إلى المنتج والمستهلك والدُّول المنتجة والدُّول المستهلكة:‏
            1 ـ إغناء تجارب الشَّركات وتوسيع خبراتها التِّقانيَّة والعمليَّة؛ التِّقانيَّة للارتقاء الكيفي والتَّكليفي للمنتجات، والعمليَّة لتحسين سبل التَّعاون مع المستهلك ومعرفة حاجاته على نحو أَفضل.‏
            2 ـ سرعة الوصول إلى الأَسواق.‏
            3 ـ تقليص نفقات النَّقل والإنتاج.‏
            4 ـ فتح أَسواق جديدة.‏
            5 ـ كسب أَسواق جديدة.‏
            6 ـ فتح بعض الكوى أَمام بعض الأُمم الرَّاغبة بالاستفادة من الخبرات الخارجيَّة.‏
            إنَّ ذكر المحاسن لا ينفي وجود المساوئ، ومن غريب المفارقات أَن نجد أَنَّ بعض المحاسن هي نفسها من المساوئ، أَو أَنَّها تتناقض مع بعضها بعضاً، وهذا أَمرٌ واردٌ غير مستبعدٍ لارتباط كلٍّ منهما بوجهة نظر صاحبها ما بين المستفيد والمتضرِّر. وأَهمُّ ما يمكن أَن نجده من المساوئ هو:‏
            1 ـ القضاء على المنتجين الصِّغار، وبالتَّالي السَّير التَّدرجي بوتائر مختلفة السُّرعة نحو القضاء على الطَّبقة الوسطى. والقضاء على الإنتاج السِّلعي الصَّغير الَّذي ينطوي على خصائص كثيرةٍ يفتقر إليها الإنتاج السِّلعي الكبير.‏
            2 ـ زيادة نسبة البطالة واتِّساع مدى انتشارها في مختلف دول العالم، ولا سيَّما دول العالم الثَّالث الَّذي سيتحوُّل إلى محض مستهلك.‏
            3 ـ سدُّ الطُّرق أَمام اجتهادات المنتجين الجدد، وأَمام صعود أَو نشوء منتجين جدد.‏
            4 ـ القضاء على فرص نهوض الدُّول الضَّعيفة والمتخلِّفة وتحويلها إلى دول مستهلكة، وهي ليست بعيدةً عن ذلك الآن، ولكنَّها ستصبح مستهلكةً إلى الحدِّ الَّذي يجعلها عالة على الدُّول المتقدِّمة، وعقبةً أَمام استمرار نموِّها لأَنَّها تعتمد عليها اعتماداً كبيراً في تصريف منتجاتها من جهة ولعدم وجود الفوائض الماليَّة الكافية لاستكمال حلقة الدَّورة الاقتصاديَّة.‏
            5 ـ تصعيد فكرة السَّيطرة على الأَسواق من خلال الاحتكار أَو غيره بما ينعكس سلباً على المستهلك وربَّما على المنتج أَيضاً لأَنَّ المستهلك سيكون مضطراً للاقتصار على ضروريَّات الحياة دون سواها.‏
            6 ـ انعدام الخيارات، في بعض الأَحيان، أَمام المستهلك.‏
            * * *‏
            (1) ـ انظر المقصود بالحاجب المرتفع في فصل: العولمة والمعلوماتيَّة.‏
            (2) ـ عبد الحكيم محمد بدران: عرض لكتاب: بناء حضارة جديدة ـ ص 195.‏
            (3) ـ أُورين هاتش: رئيس اللجنة القضائيَّة في الكونجرس الأَمريكي.‏
            (4) ـ هذا القول من تعليقه على المعركة القضائيَّة الدَّائرة في ممارسات مايكروسوفت التَّسويقيَّة. انظر ذلك في: PC Magazine؛ الطَّبعة العربيَّة ـ العدد الأَوَّل ـ السَّنة الرَّابعة ـ 1998م ـ ص 17.‏
            (5) - Carol Kennedy: Managing with the Gurus. P. 251.‏
            (6) ـ ف. يرلوف: نهاية التَّاريخ أم البحث عن طريق جديد ـ ترجمة: أشرف الصَّباغ ـ ضمن مجلة؛ الثَّقافة العالميَّة ـ العدد 85 ـ 1997م ـ ص 17.‏
            (7) ـ لا شكَّ في أَنَّ قصد أُوماي من أَن يكون المنتج لائقاً بالسُّوق المحليَّة هو أَنَّ قدرته على فرض نفسه بديلاً عن المنتج الوافد من حيث الجودة والسِّعر، لا مجرَّد سدِّ ثغرة الحاجة كما هو معمول به في كثير من الدُّول المحميَّة جمركيًّاً، لأَنَّ ذلك سيؤدي إلى إرباكات اقتصاديَّة كثيرة إن لم تظهر سريعاً فلن تتأخر كثيراً في الظُّهور، ولعلَّ ما حدث في الاتِّحاد السُّوفياتي المنهار خير دليل وبرهان، فمنتجاته كانت تسدُّ ثغور الحاجة، ولكن هل كانت تفي بالغرض ؟!‏
            (8) - Carol Kennedy: Managing with the Gurus. P. 251.‏
            (9) ـ ميشيل إدَّه: مستقبلنا العربي وتحدِّيات العولمة ـ ص9.‏
            (10) - Nizar Al-Khatib: British Airways and American Airlines Strategic Alliance. MA in Business and Management. East London Business School. 1997. P 61.‏
            (11) ـ صحيفة الاتِّحاد ـ أبو ظبي ـ عدد 15/8/ 1998م. نقلاً عن الفاينانشل تايمز.‏
            (12) ـ أخذنا المعطيات الرَّقمية لهذه الفقرة عن صحيفة الاتحاد ـ أبو ظبي ـ عدد 15 / 8 /‏
            1998م.‏
            (13) - Eamsti and Young: Merger and Acquition, Back to - Bbasis Techniques for the 1990s. 2ed . Wiley & Sons. Inc. New York. 1994.‏
            (14) - Management. Oct 02, 1995. In: Nizar Al-Khatib: British Airways and American Airlines Strategic Alliance. P 61.‏
            (15) - Nizar Al-Khatib: British Airways and American Airlines Strategic Alliance. P 60.‏
            (16) - James W. Botkins, Jana B. Matthews: Winning Combinations. John Wiley & Sons, Inc. New York. 1993. P 73.‏
            (17) ـ صحيفة: الاتِّحاد ـ أبو ظبي ـ عدد 23 / 8 / 1998م.‏
            (18) ـ صحيفة: الأهرام ـ القاهرة ـ عدد 8 / 5/ 1998م.‏
            (19) ـ صحيفة: الديار ـ عدد 1 / 8 / 1998م.‏
            (20) ـ صحيفة: القبس ـ الكويت ـ عدد 4 / 9 / 1998م.‏
            (21) ـ صحيفة: الحياة ـ لندن ـ عدد 5 / 2 / 1998م.‏
            (22) ـ صحيفة: القبس ـ الكويت ـ عدد 29 / 8/ 1998م.‏
            (23) ـ صحيفة: الديار ـ بيروت ـ عدد 25 / 1 / 1998م.‏
            (24) ـ دافيد روثكوبف: في مديح الإمبرياليَّة الثقافيَّة ـ ترجمة؛ أحمد خضر ـ ضمن مجلة؛ الثَّقافة العالمية ـ المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ـ الكويت ـ العدد 85 ـ 1997م ـ ص 29.‏
            (25) ـ صحيفة : الحياة ـ لندن ـ عدد 15 / 1 / 1998م.‏
            (26) ـ صحيفة : الحياة ـ لندن ـ عدد 14 / 1 / 1998م.‏
            (27) ـ صحيفة : القبس ـ الكويت ـ عدد 4 / 9/ 1998م.‏
            (28) ـ صحيفة: الأهرام ـ القاهرة ـ عدد 1 / 5 / 1998م.‏
            (29) ـ صحيفة: القبس ـ الكويت ـ عدد 29 /8 /1998م.‏
            (30) ـ صحيفة: الديار ـ بيروت ـ عدد 30 / 8/ 1998م.‏
            (31) ـ صحيفة: القبس ـ الكويت ـ عدد 4 / 9/ 1998م.‏
            (32) ـ صحيفة: القبس ـ عدد 4 / 9 / 1998م.‏
            (33) ـ صحيفة: القبس ـ الكويت ـ عدد 29 / 8 / 1998م.‏
            (34) ـ صحيفة: القبس ـ الكويت ـ عدد 31 / 8 / 1998م.‏
            (35) ـ صحيفة: الحياة ـ لندن ـ عدد 4 / 2 / 1998م.‏
            (36) ـ صحيفة: الديار ـ بيروت ـ عدد 28 / 7 / 1998م.‏
            (37) ـ صحيفة: الاتِّحاد ـ أبو ظبي ـ عدد 7 / 6 / 1998م.‏
            (38) ـ صحيفة: الأهرام ـ القاهرة ـ عدد 1 / 5 / 1998م.‏
            (39) ـ صحيفة: الحياة ـ لندن ـ عدد 13 /7/ 1998م.‏
            (40) ـ صحيفة: البيان ـ دبي ـ عدد 30 / 5 / 1998م.‏
            (41) - Burnard Burnes: Manging Change. Pitman Publishing. London. 1992. P 65.‏
            (42) - James W. Botkins, Jana B. Matthews: Winning Combinations. P 73.‏

            تعليق


            • #7
              رد: انهيار مزاعم العولمة

              الفصل الثَّالث : العــــولمة وإعادة هيكلة الاقتصاد العالمي
              إنَّ المشروعات المتعدِّدة الجنسيَّة ليست مشروعات عابرة للقوميَّة، فهي تعود في الحساب النِّهائي على المصالح القوميَّة، من غير أن تقيم نمطاً من التَّراتبيَّة الفعليَّة ... والرأي الشَّائعٍ أنَّ اتِّحادات الأعمال الكبرى تمثِّلُ قومياتها الأصليَّة، حتَّى لو كان لها غطاء متعدِّد الجنسيَّة.‏
              لاوسي‏
              ليست إعادة هيكلة الاقتصاد العالمي بالمسألة الجديدة أَو الطَّارئة فهي لصيقة بالنَّشاط الاقتصادي ونظريَّاته المختلفة، ولكن لكلِّ مرحلة طبائعها وخصوصيَّاتها المتباينة بتباين شروط المرحلة وظروفها، وفي المرحلة الرَّاهنة؛ مرحلة العولمة نجدنا أَمام نوعين من إعادة هيكلة الاقتصاد يمثِّلُ أَوَّلهما الاستـمراريَّة التَّاريخيَّة للسِّياسـة الرَّأسـماليَّة الغربيَّة انطـلاقاً من مصالحها، وثانيهما هو الصِّيغة الَّتي فرضتها العولمة بوصفها أَحد مفرزاتها ويتجلَّى في إعادة هيكلة البنى الاقتصاديَّة للشَّركات والقطاعات الإنتاجيَّة.‏
              وعلى هذا الأَساس يمكننا الحديث في إعادة هيكلة الاقتصاد العالمي متمثَّلاً في عدَّة نقاط أَبرزها التَّنافس الأَمريكي الأَوربي الياباني، والتَّنافس بين الشَّركات، وإعادة هيكلة الاقتصاد العالمي.‏
              أَوَّلاً: التَّنافس الأَمريكي الأَوربي الياباني‏
              مع تداعي المنظومة الاشتراكيَّة وانهيار الاتِّحاد السُّوفياتي بدأت أَبعاد القطبيَّة العالميَّة؛ الاقتصاديِّة والسِّياسيَّة خصوصاً، بالتَّحدُّد من جديد انطلاقاً من توازنات القوى الجديدة وتغيُّر نوعيَّة الصِّراع من صراع الأَعصاب الباردة إلى صراع الاقتصاد، وقد تجلَّى ذلك واضحاً في تبلور الموقف الأوربي الموحَّد بقيادة عملاقي أوربا؛ ألمانيا وفرنسا، ضدَّ الهيمنة الأَمريكيَّة واتِّجاه أوربا إلى الوحدة للخروج من رِبقَةِ هذه الهيمنة، وكذلك في الموقف الياباني السِّري والعلني من الدُّور الهامشي الَّذي تعيش في ظلِّه اليابان على ما تمتلكه من مقوِّمات القوَّة الَّتي تفوق أَمريكا ذاتها في كثير من أَهمَّ الجوانب التِّقانيَّة.‏
              وعلى الرُّغم من أَنَّ الصِّراع الاقتصادي العالمي يدور حول ثلاثة محاور رئيسة هي الولايات المتَّحدة واليابان والاتِّحاد الأوربي؛ نواة الوحدة الأوربيَّة، إلاَّ أَنَّ ثمَّة قوى كبرى جانبيَّة قد لا تقلُّ في المستقبل القريب أَهمِّـيَّة وخطورة عن هذه المحاور الثَّلاثة وهي الصِّين ونمور آسيا الأربعة ثمَّ السَّبعة(1) ، دون نسيان التَّجمعات الاقتصاديَّة في أَكثر من بقعة من العالم. فكلٌّ منها يبحث عن موضع قدم على ساحة الصِّراع العالميَّة وهذا حقٌّ طبيعيٌّ لا مكتسبٌ ذلك أَنَّه لا شكَّ أَبداً، كما يقول ستانفيلد تيرنر(2) ، في أَنَّ "القوَّة الاقتصاديَّة عنصرٌ أَساسيٌّ في الأَمن القومي، على قدم المساواة مع القوَّة العسكريَّة"(3) ، ولذلك تراه يطالب بتغيير نوعيَّة التَّجسُّس من طلب المعلومات العسكريَّة إلى تصيُّد الأَسرار الاقتصاديَّة "من أَجل أَن تكون دوائر الأَعمال الأمريكيَّة أَكثر قدرةً على المنافسة في السُّوق العالميَّة"(4) . كي تضمن بقاءها ونفوذها العالمي لأَنَّ البَّقاء للأَقوى فقط، والأَقوى هو الَّذي يستمرُّ في ميدان المنافسة. وانطلاقاً من هذا النَّاظم الأساسي للعلاقة بين قوَّة الأمَّة وقوَّة اقتصادها من جهة، وارتباط الشَّركات بجذورها القوميَّة مهما تنوعت فروعها وامتدت، يؤكِّد لاو سي " أنَّ المشروعات المتعدِّدة الجنسيَّة ليست مشروعات عابرة للقوميَّة، فهي تعود في الحساب النِّهائي على المصالح القوميَّة، من غير أن تقيم نمطاً من التَّراتبيَّة الفعليَّة، فالمشروعات تتبع الحكومة وتؤثِّر فيها بالتَّالي. وبحسب رأي شائعٍ في آسيا فإنَّ اتِّحادات الأعمال الكبرى تمثِّلُ قومياتها الأصليَّة، حتَّى لو كان لها غطاء متعدِّد الجنسيَّة، على منوال شركة الهند البريطانيَّة الغابرة، أو بعض المشروعات في أمريكا اللاتينيَّة منذ عدَّة عقود، والتي كانت في الظَّاهر عابرة للقوميَّة، لكنَّها كانت في الواقع أمريكيَّة"(5) .‏
              على أَنَّ ما تجدر الإشارة إليه هنا أَنَّه مهما يكن من أَمر فإنَّ هذا التَّنافس بين الدُّول الرَّأسماليَّة "لا يتعدَّى كثيراً التَّنافس الحادث داخل الدَّولة الرَّأسماليَّة الواحدة بين الاحتكارات العملاقة. وذلك أَمرٌ طبيعيٌّ في المجتمعات الرَّأسماليَّة ولا يصلُ أَبداً إلى مستوى الصِّدام والعراك ومواجهة الحياة أَو الموت الَّتي تولَّدت بين الليبراليَّة والفاشيَّة، وبين الرَّأسماليَّة والشِّيوعيَّة، فحقيقة الأَمر أَنَّ الرَّوابط والتَّعاون بين هذه الأَقطاب المزعومة أَكثر بكثير ممَّا يفرِّقُ بينها، و هي تنظِّمُ تنافسها بأَدواتٍ متنوِّعةٍ من خلال اللقاءات الثُّنائيَّة والمشاورات المكثَّفة، والأَهمُّ من خلال المؤسَّسات مثل الاجتماعات السَّنويَّة لقمَّة الدُّول الصِّناعيَّة السَّبع(6) ... وأَخيراً فإنَّ هذه الأَقطاب تربطها جميعاً رابطة الليبراليَّة السِّياسيَّة والرَّأسماليَّة الاقتصاديَّة برباطٍ عقائدي ـ Ideological واحدٍ، ويجعل لها رسالةً عالميَّة موحَّدة في سيادة النَّموذج الغربي على العالم"(7) .‏
              ولكنَّ الحريَّ بالتَّنويه به هنا هو أَنَّ الفصل بين تنافس الشَّركات، على عالميَّتها وتجاوزها الحدود القوميَّة، وبين تنافس الاقتصاديات القوميَّة أَمرٌ عسير وغير واردٍ أَصلاً لأَنَّ قوَّة الاقتصاد كما هو ثابتٌ أَحدُ أَهمِّ مقوِّمات قوَّة الأُمَّة، فاليابانيُّون، مثلاً، على حدِّ تعبير لستر ثاروا ـ Lester Thurow يرون أًنَّ "الإمبراطوريَّات لا تقوم لأَنَّ هناك أَفراداً عظاماً يفرضون قيادتهم على الأَتباع، بل تقوم لأَنَّ الأَفراد يريدون أَن يكونوا جزءاً من فريق، ويريدون أَن يتحقَّق لهم الأَمن الَّذي لا يوجد إلاَّ إذا كانوا جزءاً من فريق، ... ويريدون مكاناً يتيحُ لهم البناء والقيادة، حتَّى لو لم يكن الواحدُ منهم هو الباني الأَكبر أَو القائد الأَعلى الَّذي سيذكره التَّاريخ"(8) .ولا عجب لذلك أَن نجد واحداً مثل ستانفيلد تيرنر يدعو الحكومة الأَمريكيَّة إلى توفير المعلومات الاقتصاديَّة لشركات أَمريكيَّة بعينها من دون غيرها من الشَّركات متعددة الجنسيَّات أَو غير الأَمريكيَّة الموجودة في الولايات المتَّحدة، ولا يتوَّرع عن الدَّعوة لبسط يد المخابرات وسلطتها لتحقيق هذا الغرض، ومؤدَّى ذلك أَنَّه في عصر الاهتمام المتزايد بالقوَّة الاقتصاديَّة ـ والانتقال من حرب الأَعصاب إلى حرب الاقتصاد، وثمَّ إلى الاقتصاد الشَّامل ـ لا بدَّ أَن تكون هناك علاقة تكاملٍ أَقوى بين عالمي المخابرات والأَعمال(9) .‏
              ثانياً: إعادة هيكلة الاقتصاد العالمي‏
              ليست إعادة ترتيب أَوضاع البيت الاقتصادي العالمي بالأَمر الجديد أَو الطَّارئ، كما أَشرنا، وإنَّما هي آليَّةٌ جدليَّةٌ متواشجة الصِّلات مع المعطيات التَّاريخيَّة المرافقة، ففي كلِّ مرحلة يقوم الأَقوى بإعادة ترتيب الهيكليَّة الاقتصاديَّة العالميَّة بما يتوافق مع مصالحه ويخدمها ويعزِّزُ مواقعه ودوره القيادي؛ الجغراسيِّ(10) ـ Geopolitics والجغراتيجيِّ(11) ـ Geostrategy في عالمه النِّسبيِّ، ذلك أَنَّ نسغ حياة القويِّ مستمدٌّ من الأَطراف أَو التَّوابع أَو الضُّعفاء، واستناداً إلى هذه الحقيقة يقول الدُّكتور إبراهيم سعد الدِّين: "إنَّ نموَّ البلدان الاستعماريَّة وتخلُّف التَّوابع ليسا بعمليَّتين منفصلتين، وإنَّما هما وجهان لعملةٍ واحدةٍ، وكلَّما زادت قوَّة العلاقات فيما بينهما قلَّت فرص نموِّ التَّوابع، وعلى العكس من ذلك فإنَّ الفترات الَّتي ضعفت فيها الصِّلات بين المراكز(12) والتَّوابع كنتيجةٍ للصِّراعات الدُّوليَّة، شهدت التَّوابعُ فيها أَعلى درجات التَّصنيع والتَّطوُّر"(13) . وعلى هذا الأساس فإنَّ تهويل باربر في أنَّ "كلَّ الأسواق الوطنيَّة هي الآن عرضة للاختراق من قبل أسواق كبرى وذات طابع انتقالي"(14) غير مسوَّغٍ تماماً لأنَّ الأسواق الاستهلاكيَّة عرضة دائماً للاختراق من قبل المنتجين، وهذه مسألة ليست بحاجة إلى برهان أبداً لأنَّ المنتج والمستهلك غير المنتج يبحثان دائماً عن بعضهما ووجود كليهما مرتبطٌ بالآخر، ولذلك لا بدَّ أن يتمَّ الاختراق مهما كانت الآليَّات التَّحصينيَّة المضادة. ومن ذلك أيضاً فإنَّ المنتج الأقوى ينتهك المنتج الأضعف ويخترق سوقه.‏
              وهنا يمكننا أَن نتساءل: كيف سيعيدُ الأَقوياء بناء الهيكليَّة الاقتصاديَّة العالميَّة ؟‏
              يخطئُ الكثيرون الَّذين يعتقدون أَنَّ الدُّول الصِّناعيَّة الكبرى تكافحُ كلَّ تطوُّرٍ علمي في البلدان النَّامية ويخطئُ من يحسب أَنَّ تشجيعها على اكتساب التِّقنيَّة واتِّجاهها لتنشيط البحث العلمي ينطلق من غايةٍ نبيلة أَو نظيفة تشرئب إلى مجرَّد إنهاض الدُّول النَّامية، كلُّ المسألة أَن المصالح الاقتصاديَّة والسِّياسيَّة لهذه الدُّول هي الَّتي تقود كلَّ هذه التَّوجُّهات وتحدِّدُ مساراتها الَّتي يمكننا إجمالها على النَّحو التَّالي في هذه اللَّوحة المصوِّرة لكيفيَّة إعادة بناء الهيكليَّة الاقتصاديَّة العالميَّة(15) :‏
              1 ـ رفع سويَّة استخدام التِّقانة في البلدان النَّامية لكي توازي في استهلاكها المنتجات الصِّناعيَّة والتِّقانيَّة المتطورة في البلدان الصِّناعيَّة بحيث تظلَّ سوقاً مستمرًّا لكلِّ منتج جديد.‏
              2 ـ انطلاقاً من العنصر السَّابق: لا تصدِّرُ الشَّركات الأَجنبيَّةُ إلاَّ التِّقانة ذاتَ النَّفع الكبير لها، أَو ذات التَّأثيرات البيئيَّة الضَّارة.‏
              3 ـ وكذلك فإنَّها تشجِّعُ على نقل التِّقانة المفيدة في تطوير استخراج المواد الأَوَّليَّة؛ كالنِّفط واليورانيوم... وتحتكر في الوقت نفسه سوق تصنيع هذه المواد وتسويقها.‏
              4 ـ وبهذا المعنى نستطيع أن نفهم ماذا يعني توجُّه الدُّول الصِّناعيَّة الكبرى والشَّركات العملاقة نحو تصنيع الدُّول النَّامية أَو تشجيع الصِّناعة فيها.‏
              5 ـ تشجيع الأَنشطة والميادين الصِّناعية الاستهلاكيَّة والبسيطة الَّتي ترفد الدُّول الصِّناعية بالمواد والمنتجات الَّتي تأنف هي من انتاجها أَو لا تتواضع لمثلها مثل: صناعات الأَحذية والأَلبسة وتعليب الأَطعمة .... فيما تختصُّ هي بمصانع هذه الأَشياء أَو الأَجزاء الدَّقيقة من هذه المصانع.‏
              6 ـ من الباب ذاته تتَّجه الدُّول الصِّناعيَّة الكبرى إلى تنشيط الزِّراعة فيها لكي تحكم سيطرتها على أَقوات الشُّعوب الأُخرى وهذا ما يتجلَّى واضحاً في السِّياسة الأَمريكيَّة لدى تعاملها مع أَيِّ مشكلة مع أَيِّ دولة حتَّى مع الدُّول الكبرى مثل الصِّين وروسيا وغيرها. ولكنَّها في الوقت ذاته توجِّه الأَنشطة الزِّراعيَّة في البلدان النَّامية نحو نوع واحدٍ من الزِّراعة لكي تظلَّ تحت قبضة تحكُّمها واحتكارها.‏
              7 ـ وفي الوقت ذاته أَيضاً تعيق الشَّركات الأَجنبيَّة عمداً عمليَّة البحث والتَّطوير في بلدان العالم الثَّالث ولا سيَّما الدُّول العربيَّة.‏
              8 ـ تشترط الشَّركات الأَجنبيَّة على الأَقطار العربيَّة وسائر البلدان النَّامية شراء المواد الأَوَّليَّة أَو البسيطة، أَو الأَدوات الاحتياطيَّة للتِّقانة الَّتي تصدِّرها إلى كل الأَقطار والبلدان من هذه الشَّركات نفسها.‏
              9 ـ تضع الدُّول الصِّناعيَّة والشَّـركات قيوداً على تصدير منتجات الأَقطار العربيَّة وأَشباهها من البلدان النَّامية إلى الأَسواق الخارجيَّة كما حدث ويحدث في شأن الضَّرائب المفروضة على استيراد المواد البتروليَّة.‏
              10 ـ تبيع هذه الشَّركاتُ التِّقانةَ ذاتها بأَسعار مختلفة وباهظة إلى أَقطار عربيَّة ونامية ومتخلِّفة.‏
              استناداً إلى المعطيات السَّابقة تحديداً يمكننا فهم قول بنيامين باربر وتقبلَّه إذ يذهب إلى أَنَّ ما "تحمله إلينا فورة قوى الاقتصاد والبيئة الإيكولوجيا) التي تطالب بالتَّكامل والنَّمطيَّة الواحدة والتي تسمِّر العالم عبر الموسيقى السَّريعة و[الحواسيب] والأطعمة السَّريعة ... أقنية البثِّ التِّلفزيوني مثل ألـ"MTV"، وحواسيب الماكنتوش وعالم ماكدونالد ... كلُّها تدفع الأمم والشُّعوب صوب شبكة اقتصاديَّة عالميَّة متجانسة، كأنَّها مشروع لتحويل الأرض إلى "عالم الماك" على اسم ماركة [الحاسوب] الشَّهيرة)"(16) . لأنَّ وجود مثل هذه الشَّبكة الاقتصاديَّة العالميَّة المتجانسة تخدم أكثر ما تخدم الشَّركات العالميَّة الكبرى التي تهيمن على الاقتصاد العالمي وحركة التِّجارة العالميَّة وتعزِّز هيمنتها وأخطبوطيَّتها المرتبطة أوثق الارتباط وأوشجه مع الأمم المنتمية إليها، أمَّا الدُّول النَّامية وشعوبها فهي الخاسر الأكبر دائماً. وكلَّما حاولت أن تسعى للتَّقدم واللحاق بالدُّول المتقدِّمة صرخت هذه الدُّول قائلة: "العالم لا يحتمل حداثتكم، فما قمنا به قبلاً اعتصر قدرات الأرض فعلاً"(17) .‏
              وليس ثمَّة أيُّ مفارقة في هذا السُّلوك لأنَّ الأقوى هو الذي يفرض إيقاعات الحياة بمختلف وتائرها دائماً. وبالتَّالي فليس ذنب القويِّ والمتفوِّق أنَّه كذلك وإنَّما هو ذنب الكسول المتقاعس الخانع الذي يرتضي العيش على الهامش وهو قادرٌ على اختراق المتن واحتلال مكان متصدِّر فيه، ولا أحسب أنَّ أمَّة في الأرض ينطبق عليها هذا الحكم أكثر ممَّا ينطبق على أمَّة العرب. ولكنَّ الذي لا بدَّ من الإشارة إليه هنا هو أنَّ المفارقة القائمة تمثل في الازدواجيَّة المشينة والوضيعة التي تمارسها دول العالم المتقدِّم تجاه دول العالم النَّامي، والانتهاكات اللا إنسانيَّة لحقوق هذه الشُّعوب استناداً إلى ما تحتلًّه من مواقع قوَّة، وانطلاقاً من أنانيَّة مفرطةً إلى أبعد الحدود تغرض إلى المحافظة على ما هي عليه من مكاسب التَّرف والرَّفاهيَّة، وهو سلوك لم تمارسه أمّة تصدَّرت سدَّة الحضارة من قبل قطُّ اللهمَّ إلا أجداد هؤلاء الأخلاف.‏
              * * *‏
              (1) ـ النُّمور السَّبعة هي: هونج كونج وأندونيسيا وماليزيا وكوريا الجنوبية وسنجافورة وتايوان وتايلند.‏
              (2) ـ ستانفيلد تيرنر: مدير الاستخبارات المركزيَّة الأَمريكيَّة منذ عام 1977م وحتَّى عام 1981م.‏
              (3) ـ ستانفيلد تيرنر: المخابرات في ظلِّ نظام عالمي جديد ـ مركز الدِّراسات الاستراتيجيَّة والبحوث والتَّوثيق ـ سلسلة المقالات المعرَّبة 5 ـ ص 10.‏
              (4) ـ م.س ـ ص 10.‏
              (5) ـ لاو سي: نعم للعولمة ... لا للغربنة ـ ضمن مجلة؛ الثَّقافة العالميَّة ـ العدد 85 ـ 1997م ـ ص 61.‏
              (6) ـ الدُّول الصِّناعيَّة السَّبع هي : الولايات المتَّحدة وأَلمانيا واليابان وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وكندا.‏
              (7) ـ عبد المنعم سعيد: اللعب على الحبال الخمسة ـ جريدة؛ الحياة ـ لندن ـ العدد 11121 ـ الاثنين 26 تموز/يوليو 1993م.‏
              (8) ـ لستر ثارو: الصِّراع على القمَّة؛ مستقبل المنافسة الاقتصاديَّة بين أَمريكا واليابان ـ ترجمة؛ أحمد فؤاد بليع ـ المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب؛ سلسلة عالم المعرفة ـ الكويت ـ العدد 204 ـ 1995م ـ ص141.‏
              (9) ـ انظر تفصيل ذلك في: ستانفيلد تيرنر: المخابرات في ظلِّ نظام عالمي جديد ـ ص 10. وكذلك عند: عزَّت السَّيد أَحمد: النِّظام الاقتصادي العالمي الجديد ـ ص 73ـ 79.‏
              (10) ـ الجغراسيا: كلمة منحوتة من جغرافيا وسياسة كما هي كذلك في الأَصل اللاتيني.‏
              (11) ـ الجغراتيجيا: كلمة منحوتة من جغرافيا واستراتيجيا كما هي كذلك في الأَصل اللاتيني.‏
              (12) ـ يرجع الفضل في ابتداع مصطلحي المراكز ـ Centers والأَطراف أَو التَّوابع ـ Peripheries إلى الاقتصادي الأَرجنتيني راؤول بريبيش ـ Raul Prebisch ثم الاقتصادي الأَمريكي أندريه جوندر فرانك ـ Andre Gunder Frank متَّخذاً لذلك أَلفاظاً أُخرى: المراكز الرَّأسماليَّة ـ Metropole والأَطراف أَو التَّوابع ـ Satellite . على أَنَّ اقتصاديَّنا الكبير سمير أَمين هو الَّذي أَشاع هذين الاصطلاحين وأَفاض في معالجتهما عزت).‏
              (13) ـ د. إبراهيم سعد الدين عبد الله: حول مقولة التَّبعيَّة والتَّنمية الاقتصاديَّة ـ مجلَّة؛ المستقبل العربي ـ مركز دراسات الوحدة العربيَّة ـ بيروت ـ العدد 7/8 ـ 1980م ـ ص9.‏
              (14) ـ بنيامين باربر: عندما تأكل العولمة الدَّولة الوطنيَّة من فوق ـ م.س.‏
              (15) ـ أخذنا بعضاً من هذه العناصر عن: عفيف ضاهر: التِّكنولوجيا العربيَّة العاجزة بين التَّبعيَّة للخارج والتَّقصير في الدَّاخل ـ ضمن مجلَّة؛ الوحدة ـ العدد 55 نيسان/إبريل 1980 ـ ص 67. وبعضها موجودٌ أَيضاً في كتابنا: كيف ستواجه أمريكا العالم؟؛ الهيمنة الأَمريكيَّة والنِّظام العالمي الجديد ـ ص 57 ـ 58.‏
              (16) ـ بنيامين باربر: عندما تأكل العولمة الدَّولة الوطنيَّة من فوق ـ ترجمة؛ أحمد مغربي ـ ضمن جريدة: السَّفير ـ العدد 8064 ـ الخميس 6/8/1998م.‏
              (17) ـ بنيامين باربر: عندما تأكل العولمة الدَّولة الوطنيَّة من فوق ـ م.س.‏

              تعليق


              • #8
                رد: انهيار مزاعم العولمة

                الباب الثَّالث غاية مزاعم العولميين : الفصل الأوَّل: العولمة ومفهـــوم القوَّة
                نظريَّة العولمة ليست سوى الوجه الآخر للهيمنة الإمبرياليَّة على العالم تحت الزَّعامة المنفردة للولايات المتَّحدة الأَمريكيَّة.‏
                مسعود ضاهر‏
                يتَّضحُ من خلال مفهوم العولمة أَنَّها وشيجة الآصرة مع القوَّة، حتَّى إنَّه يعسر الفصل بينهما بحالٍ من الأَحوال، ذلك أَنَّه "مثلما تحكَّم الأَقوياء في الماضي، أَو بالأَحرى مثلما) صنعَ الأَقوياء التَّاريخ بما فيه من تقدُّمٍ علميٍّ وتقنيٍّ، فَسَادَتْ ثَقَافَتُهُم السِّياسيَّة ومفاهيمهم الاقتصاديَّة والعقائديَّة ـ Ideological)، يتحكَّمُ اليوم الأَقوياءُ بسيادة هذه القيم والأَفكار والسُّلوكيَّات. وإذا كان التَّاريخ في الماضي، في فترةٍ ما، صنعته دولةٌ أَو إمبراطوريَّةٌ، فإنَّ التَّاريخ اليوم، وسيادة مفاهيمه، تصنعها أَكثر من دولةٍ بنسبٍ مختلفةٍ يتوازى وما تملكه كلُّ دولةٍ من هذه الدُّول من قدراتٍ ومؤسَّسات متنوِّعةٍ؛ اقتصاديَّة وماليَّة وعسكريَّة وإعلاميَّة وثقافيَّة وغيرها ... وليس العالم بأَجمعه كما يوحي به مصطلح العولمة"(1) . ولذلك من الطَّبيعيِّ أَن يرى سمير أَمين أَنَّ "انتشار أَسلحة الدَّمار الشَّامل " مضافاً إلى "تكثيفٍ العلاقات الرَّأسماليَّة، الصِّفتان الجوهريَّتان للعولمة"(2) .‏
                ولكن ما القوَّة ؟‏
                لا بدَّ أَن نجد من يجادل في أَنَّ للقوَّة أَشكالاً وأَنواعاً كثيرةً يصعُب المفاضلة بينها، بدءاً من القوَّة العسكريَّة، مروراً بالقوَّة الاقتصاديَّة، فالعلميَّة، فقوَّة الإرادة، ثمَّ الكامنة، وربَّما قوَّة الحقِّ ... وغير ذلك ممَّا قد يكون كثيراً، ولكنَّنا لن نعترف، في إطار ما نحنُ فيه، إلاَّ بقوَّة الحسم العسكريِّ، على الرَّغم ممَّا قد يثارُ حولنا من شبهات النُّزوع العدواني وما يتشعبُ عنه من ميولٍ وأَهواءٍ ... ولن ننبري للذَّود عن أَنفسنا تبرئةً لها من هذه التُّهمة لأَنَّ منطق الواقع ذاته يدافع عنَّا وينقِّي ساحتنا من مثل هذه الشَّائبة الشَّائنة، وحسبنا أَن نرجع النَّظر إلى ما مضى من التَّاريخ وأَن ننظر إلى الواقع المعاش فكلُّ ذلك يكشف بجلاء عن حقيقة جوهريَّة لا تحتمل الشَّك أَو التَّكذيب، وهي، على عمومها، وفي كلِّ الميادين، تمثل في أَنَّه بإمكانك أَن "تطالب بما تستطيعُ تحصيله بالقوَّة؛ تقبل وترفض بقدر قوَّاتك على القبول والرَّفض، تتكلَّم بما تتيحه لك قوَّتك، ويطول كلامك ويقصر بقدر قوَّتك، وحتَّى دورك في الكلام يكون بحسب ترتب قوى المتكلِّمين، فإن كنت على الهامش فإنَّ دورك على الهامش، وحقوقك على الهامش، ومطالبك على الهامش، بل ليس عليك إلاَّ أَن تهزَّ رأسك للمتكلِّمين وتصفِّق لهم حتَّى لو صفعوك بكلامهم وقراراتهم"(3) ، كلُّ ذلك استناداً إلى "مبدأ أَنَّ عنصرَ القوَّة هو صاحبُ فيصل الحسم في ساحة المعركة"(4) ، أَي لن تحصِّل باللسان إلاَّ ما تستطيع تحصيله في الميدان. وبهذا المعنى يرى مسعود ضاهر أَنَّ: "نظريَّة العولمة ليست سوى الوجه الآخر للهيمنة الإمبرياليَّة على العالم تحت الزَّعامة المنفردة للولايات المتَّحدة الأَمريكيَّة"(5) .‏
                ولكنَّ المرحلة الرَّاهنة؛ مرحلة العولمة، وضعتنا أَمام معطيات جديدةٍ، لن تفرض علينا التَّراجع عن رأَينا في أَنَّ القوَّة هي القوَّة العسكريَّة، ولكنَّها تجعلنا نعيد النَّظر قليلاً في مفهوم هذه القوَّة، ذلك أَنَّ الامتداد الأُخطبوطيَّ لأَرباب الاقتصاد بشركاتهم عبر العالم، وهو ما يمثِّل جوهر العولمة، وقدرة الاقتصاديِّين على فرض إراداتهم على الدُّول يضعنا أَمام مفترقات جديدةٍ للنَّظر في الموضوع، وقبل أَن نعرض لأَيِّ شيءٍ من ذلك لا بدَّ لنا من إيضاح بضع نقاطٍ على قدرٍ من الأَهمِّـيَّة لا يمكن إغفاله:‏
                أَوَّلاً: ستظلُّ القوَّة العسكريَّة هي الأُسُّ والأَساس في الغلبة والتَّفوُّق وفرض الهيمنة والنُّفوذ، ذلك أَنَّ الأُمَّة بهذه القوَّة تستطيع فرض ذاتها على الأُمم الأُخرى لتدعيم مختلف جوانب أَو عناصر قوَّتها المختلفة ولو كان ذلك بالتَّرقيع المؤقَّت وهذا ما سيبدو لنا واضحا في الفقرة التَّالية، بينما مهما كانت قوَّة الأُمَّة في مختلف العناصر الأُخرى غير الجانب العسكري لن تستطيع أَن تكون صاحبة كلمة أَو قرار حتَّى في شؤونها الدَّاخليَّة وليس في ذلك أَدنى مبالغة والأَدلَّة على ذلك أَكثر من أَن تحصى منها الحكم العثماني للأُمَّة العربيَّة والإسلاميَّة أَربعة قرون؛ لقد انتصر السَّلاح على الحضارة والعلم ... وكذلك غزو المغول والتَّتار والغزو الصَّليبي؛ أَلم يكن السِّلاح وحده هو الحاسم ؟! وكذلك الآن شأن اليابان وأَلمانيا؛ إنَّهما على مجد قوَّتهما الاقتصاديَّة والعلميَّة والحضاريَّة لا يملكان من القرار السِّياسي العالمي أَكثر ممَّا تملك أَيُّ دولة نامية وربَّما متخلِّفة إن كان القرار أو الأَمر يمسُّ مصالح صاحبة الجلالة؛ الإمبراطوريَّة الأَمريكيَّة الَّتي تستطيع التَّدخل حتى في الشُّؤون الدَّاخليَّة لهذين البلدين إن اقتضى الأَمر في ذلك؛ أَليست الولايات المتَّحدة حصراً، وحلفاؤها في الحرب العلمية الثانية، هي الَّتي صاغت دساتير أَلمانيا واليابان إثر انهزامهما في الحرب العالميَّة الثَّانية (6) ؟!‏
                ثانياً: ثمَّة علاقةٌ جدليَّة غير مُنفصمةٍ بين مختلف عناصر القوَّة؛ العسكريَّة والاقتصاديَّة والسِّياسيَّة والتِّقانيَّة ... يرفد كلٌّ منها الآخر ويستمدُّ منه مقوِّماته بحيث يمكن عدُّ كلٍّ منها محصِّلة لنتاج مجموع العناصر الأُخرى وغايةً لمجموع جهود هذه العناصر في آنٍ واحدٍ؛ إنَّ ازدهار الاقتصاد هو غاية الجهود العلميَّة والمساعي التِّقانيَّة والمنعة العسكريَّة... وهو، في الوقت ذاته، المحصِّلة المنطقيَّة لكلِّ ذلك. وكذلك شأن القوَّة السِّياسيَّة والعلميَّة والتِّقنيَّة ... ولكنَّ الَّذي لا جدال فيه هو أَنَّ القوَّة العسكريَّة هي الدِّرع الَّذي تحتمي به كلُّ العناصر الأُخرى وتتعزَّزُ به، وخير دليل وشاهدٍ على ذلك هو تواريخ انهيار الإمبراطوريَّات الكبرى كالإمبراطوريَّة الفارسيَّة والإمبراطوريَّة اليونانيَّة والإمبراطوريَّة الرُّومانيَّة والإمبراطوريَّة العربيَّة والإمبراطوريَّة العثمانيَّة والإمبراطوريَّة الإسبانيَّة والإمبراطوريَّة البريطانيَّة ومثلها الوضع الرَّاهن للإمبراطوريَّة الأًمريكيَّة؛ لقد نخر الوهن والضَّعف والانحطاط ... في كلِّ هذه الحضارات قبل انهيارها التَّامِّ بعشرات السِّنين ولكنَّ القوَّة العسكريَّة لكلٍّ منها هي الَّتي كانت مصدر استمرار سطوتها ونفوذها وهيمنتها بعد ترهُّلها لسنين طويلة قد تصل إلى المئة، فبريطانيا على سبيل المثال "بدأت تفقدُ موقعها على الصَّعيد الاقتصادي منذ الثَّمانينات من القرن التَّاسع عشر، في حين أَنَّ بحريَّتها كانت لا تزال قويَّةً جدًّا عام 1914م. وكذلك شأنُ إسبانيا الَّتي بدأت بالانحطاط الاقتصادي عام 1560م ولم يبدأ انحطاطها العسكري إلاَّ في عام 1640م"(7) .‏
                ثالثاً: إنَّ القوَّة العسكريَّة بالمعنى المومى إليه في كلِّ ما سبق ليس أمراً متاحاً للجميع على حدٍّ سوءٍ أَبداً، وإنَّما هو ملك أُمَّة أَو اثنتين على الأَكثر في كلِّ طورٍ حضاريٍّ؛ فمثال الأُمُّة الواحدةٍ هو حال الولايات المتَّحدة الأَمريكيَّة الآن ومثلها الإمبراطوريَّة العثمانيَّة لردحٍ من الزَّمن وكذلك الإمبراطوريَّة العربيَّة الإسلاميَّة. والأُمَّتان مثل الإنجليزيَّة والفرنسيَّة، الفارسيَّة والرُّومانيَّة ...‏
                رابعاً: لا شكَّ في أَنَّ قوَّة أَيِّ مؤسَّسةٍ أَو شركةٍ هي قدرتها التَّنافسيَّة، وهذه القدرة ماثلة في الرَّصيد الماليِّ. ولكن، وفي محصِّلة الأَمر، لا يمكننا إلاَّ الإقرار بأَن المؤسَّسات الاقتصاديَّة تستمدُّ جانباً كبيراً من قوَّتها من جانب قوَّة أُمَّتها، بل إنَّ مصدر كينونتها منبثق من قوَّة أُمَّتها انطلاقا من الجدليَّة الَّتي أَسلفناها، ذلك أَنَّ ازدهار النَّشاط الاقتصاديِّ والحركة الاقتصاديَّة والقوَّة الاقتصاديَّة مرتهن بعناصر القوَّة الأُخرى إلى درجة قد يستحيل معها الفصل بينها. ولكن بالنَّظر إلى ظروف المرحلة الرَّاهنة ومعطياتها الَّتي أَفرزت الاصطلاح موضع الدِّراسة؛ العولمة فإنَّ طبائع قوى الشِّركات والمؤسَّسات الاقتصاديَّة بدأت تأخذُ مناحٍ أُخرى لا تختلف أَبداً، من حيث المبدأ عن المراحل السَّابقة، ولكنَّها تختلف اختلافا جذريًّا من حيث الشَّكل حتَّى لتبدو وكأَنـَّها جديدة كلَّ الجدَّة.‏
                هنا نستطيع أَن نتساءل:‏
                ـ هل سيتغيَّر مفهوم القوَّة في هذه المرحلة المسمَّاة بعصر العولمة ؟‏
                ـ ما طبيعة استخدام القوَّة في عصر العولمة ؟‏
                انطلاقاً من مفهوم القوَّة ودورها وعلاقتها، الجدليَّة الآنفة الذِّكر، مع عناصر القوَّة الأُخرى فإنَّ مفهوم القوَّة غير قابل للتَّغيُّر، على الأَقلِّ في الأُفق المرئيِّ؛ ستظلُّ قوَّة السِّلاح هي قوَّة الرَّدع الأَشدُّ تأثيراً وفاعليَّة وحسماً. وستظلُّ العامل الأَهمَّ في فضِّ النِّزاعات، وتحديد الصَّلاحيَّات ومداها، وإحقاق الحقوق ومعناها، وإيجاب الواجبات وجدواها ... واستناداً إلى ذلك، وربَّما فقط بالاستناد إليه، نستطيع أَن نفهم جملة أَحداث المرحلة الرَّاهنة ونفسِّرها، وكذلك ما سبق من أَحداث التَّاريخ. فإذا توقَّفنا في يوغسلافيا أَوَّلاً، مثلاً، عرفنا: لماذا سُحقَ مسلمو البوسنة والهرسك، ولماذا كانت حقوقهم في أَرضهم أَقلَّ من نصفها، ولماذا لم تتدخَّل الدُّول العظمى إلاَّ بعد الموافقة على لائحة الحقوق المفروضة، على بطلها المنطقي(8) . ولولا إدراك الشِّيشان أَنَّ قوَّتهم، على بسالتها واستماتتها، عاجزة عن تحصيل الحقِّ لما قبلوا بالأَدنى عوضاً عن الأَسمى. وكذلك الأَمر في أَفغانستان، وبنما، وفوكلاند، والصُّومال، واليمن، ولبنان .... ولذلك لا عجب في أَن تظلَّ الولايات المتَّحدة ساعيةً في تعزيز قوَّتها العسكريَّة على الرَّغم من تفرُّدها العسكريَّ في العالم. ولا عجب في أَن تسعى كثيرٌ من الدُّول في مناكب العلم والتِّقنيَّة ... من أَجل الارتقاء بقوَّتها العسكريَّة؛ خِفيةً أَو جهاراً نهاراً.‏
                ولكن هل ستتغيَّرُ أَساليب استخدام القوَّة مع معطيات المرحلة الجديدة وآفاقها ؟ أَو لنستحضر السُّؤال المطروح آنفاً، وهو: ما طبيعة استخدام القوَّة في عصر العولمة ؟‏
                بدايةً، لا نشكُّ في أَنَّ تغيُّر الظُّروف والشُّروط يجرُّ وراءه تعديلاً وتنويعاً في أَنماط السُّلوك التَّعامل. وهذا يعني، في إطار ما نحن فيه، ما يلي:‏
                هناك من يذهب إلى أَنَّ استخدام القوَّة بصورة مباشرة أَمرٌ لم يعدُ وارداً في ظلِّ المناخ الدُّولي الجديد بمعطياته وشروطه وظروفه ومفرزاته، وهذه فرضيَّةٌ حتَّى الآن لم تثبت صحَّتها، ولكنَّ الإطار العامَّ لهذا المناخِ الدُّولي الجديد يوحي تماماً بأَنَّ أَصحاب هذا الزَّعم الافتراضيِّ صائبون فيما يذهبون إليه. ولعلَّ أَكثر ما يخدعُ في هذا المنحى هو: مفاوضات نزع التَّسلُّح، وحظر السِّلاح النَّووي، وتخفيض القواعد العسكريَّة الأَمريكيَّة خصوصاً، وانهيار الاتِّحاد السُّوفياتي وتفكُّكه، والمساعي المختلفة إلى الفضِّ السِّلميِّ للنِّزاعات الدُّوليَّة، ومؤتمرات المصالحة للمشكلات المعلَّقة منذ سنين طويلة ...‏
                ولكن، هل يعني هذا انتفاء أَهمِّـيَّة القوَّة العسكرية ودورها، أَو عدم جدواها الآن؟‏
                إنَّ الاتِّجاه السَّائد الآن، والَّذي يقول بعدم إمكان استخدام القوَّة العسكريَّة بصورةٍ مباشرة، لا ينفي أَيَّة أَهمِّيـَّة لهذه القوَّة، لأَنَّ فاعليَّتها لن تتغيَّر وستظلُّ هي هي، كلُّ ما في الأَمر أَنَّ السِّياسة الجديدة لاستخدام القوَّة ستتمثَّل باستراتيجية التَّلويح بالقوَّة لا باستخدامها، وهذا اعتقادٌ خاضعٌ للنِّقاش والمحاورة:‏
                إنَّ الوقائع الدُّوليَّة الرَّاهنة، معظمها، تشير إلى أَنَّه لم يزل لاستخدام القوَّة بصورةٍ مباشرةٍ الدَّور الأَوَّل والأَولى في حسم النِّزاعات وإحقاق الحقوق وتحصيلها ...؛ حتَّى وإن كانت من باب حقوق الأَقوياء الَّتي لا تُعدُّ حقوقاً إلاَّ بنظرهم فقط، والأَدلَّة على ذلك أَكثر من أَن تعدَّ أَو تحصى؛ فالنِّزاع الأَفغانيُّ ما زال قائماً لتكافؤ القوى العسكريَّة المتنازعة من جهة، ولعدم استخدام القوَّة الرَّادعة من جهةٍ ثانية، ونزاع الاتِّحاد اليوغسلافيِّ، على امتداد مساحته وأَبعاده، لم يحسم إلاَّ بالقوَّة العسكريَّة، وكذلك شأن اليمن، واستخدام القوَّة في ردع العراق أَيضاً. أَمَّا انسحاب الجيش الأَمريكي من الصُّومال فلم يكن لعجز القوَّة الأَمريكيَّة كما لاح لكثيرين، ولا من أَجل إفساح المجال للحوار اللسانيِّ إيماناً بانقضاء عهد استخدام القوَّة، وإنَّما لعدم وجودٍ مصالحٍ للولايات المتَّحدة الأَمريكيَّة لا في التَّدخُّل العسكريِّ ولا في هذه المنطقة في ظلِّ الظُّروف الْمُعَاشة.‏
                وتتَّضحُ مصداقيَّة اتِّجاهنا هذا أكثر إذا ما علمنا أنَّه على الرُّغم من تزايد الحديث عن انتهاء حرب الأعصاب الباردة، وأفول شبح المواجهة العسـكريَّة فإنَّ كثيرين ممن يكثرون الحـديث عن ذلك في الولايات المتَّحدة "يواصـلون الإلحاح على زيادة القدرة العسـكريَّة للولايات المتَّحدة الأمريكيَّة، ويحقِّقون نجاحاً في ذلك. والمشهد الجدير بالاعتبار مرتبطٌ بإنتاج (20) قاذفة أمريكيَّة من نوع ب ـ 2 ستيلس) إلى العشرين الموجودة فعليًّا، والتي بلغت تكاليف الواحدة منها 2,2) مليار دولار.‏
                وفي رسالة موجَّهةٍ من سبعةٍ من وزراء الدِّفاع السَّابقين إلى الرَّئيس كلينتون في يناير 1995م، علَّلوا اقتراحهم بضرورة امتلاك (20) طائرة إضافيَّة من نوع ب ـ 2 ستيلس) كالآتي:‏
                إنَّ انتهاء الحرب الباردة لا [يعدُّ] نهاية التَّاريخ، وليس نهاية الخطر ... ونتيجةً لذلك اعتمد الكونجرس تمويلاً كاملاً لإنتاج هذه القاذفات"(9) .‏
                طبعاً، كلُّ ذلك، لا يعني مطلقاً، أَنَّنا ننفي جدوى الأَلسن في التَّفاوض وحلِّ الخلافات ... ولا حاجة للتَّدليل بالأَمثلة لانتفاء الضَّرورة إليها. ولكن الَّذي يجب أَلاَّ يغيب عن الأَذهان هو ما يتجسَّد في السُّؤال التَّالي وجوابه، وهو:" لماذا تحارب الشُّعوب بعضها بعضاً؟ أَمن أَجل مجرَّد التَّدمير والنَّهب والخراب؟!! أَبداً، ليس ذلك كلُّه وسواه إلاَّ ملحقاتٍ لأَصلٍ هو نشدان الأَمن والسَّلام.‏
                نعم من أَجل السَّلام تقوم الحروب وما يلزم عنها من كوارث وفواجع ... فهذه الغاية هي الَّتي تتمحور حولها الأَغراض الظَّاهرة كلها، فلكي تشعر بالأَمن والسَّلام ينبغي أَن يهابك الآخرون، ولا يهابك الآخرون إلاَّ إذا كنت قويَّاً، ولا تظهر قوتُّك إلاَّ إذا اعتديت على غيرك؛ بحقٍّ أَو بغير حق، وإلاَّ إذا أَظهرت لهم أَنَّك منيعٌ لا تُنْـتَهك حقوقك وحرماتك بسهولةٍ أَبداً، وإذا كانت حدودك مسيَّجة بهالة الرُّعب هذه شعرتَ بالارتياح والطُّمأنينة ونعمت بالأَمن والسَّلام، ومن أَجل هذا السَّلام قامت الحروب، ولا يكون لهذا السَّلام طعمٌ ولا معنى إذا كان محفوفاً بالفقر، بل شبه المستحيل أَن يكون، لعدم إمكان اجتماع عناصر القوَّة دون الغنى المادي، ولذلك يكون النَّهب مشروعاً بالنِّسبة للقوي وللأَسباب التي يراها هو؛ ضريبة، أَتاوة، خراج، تجارة، استثمار ... أَيـَّاً كانت التَّسمية فهي مسوَّغة تماماً عند مُوجِدِها الَّذي يتقبَّلها بعين قريرة وضميرٍ جدِّ مرتاحٍ ... لأَنَّها حق، والحق يعلو ولا يعلى عليه. وإذا أَردت أَن تتأَكَّد من ذلك حاول أَن تقنع أَمريكيَّاً أَو أَوربيَّاً بأَنَّ النِّفط العربي للعرب، وأَنَّ من حقِّهم أَن يتحكَّموا به كيفما شاؤوا، قد يقتنع بأَنَّ نفط العرب للعرب، ولكنَّك لن تتمكَّن من إقناعه بأَنَّ من حقِّهم أَن يمنعوا نفطهم عمَّن يشاؤون حتَّى ولو قلبتَ له العصا ثعباناً، أَو جئت له من العجب ما يُحيل التُّراب إلى ذهب، بل حتىَّ ولو فلقت رأسه نصفين"(10) . ولا عجب إذ ذاك أَن يتنطَّعَ مفكِّرٌ كبيرٌ مثل كارل بوبر ـ Karl Popper ليعلن في أَواخر حياته في لقاء أَجرته معه مجلَّة Der Spiegel الأَلمانيَّة(11) أَنَّه مع الحرب من أَجل السِّلم، ومع الهيمنة الأَمريكيَّة على العالم من أَجل السِّلم، ومع القضاء على أَيَّة قوَّة ناشئة وتدميرها ... يجب أَلاَّ يكون هناك غير الولايات المتَّحدة دولة قويَّة في الميدان !!(12) ولا يُلام كارل بوبر وأَمثاله على مثل هذه النَّظرة على ما فيها من حيف وتجنٍ على الشُّعوب الأُخرى "فسكَّان أوربا الَّذين يساوون 20 بالمئة من سكَّان العالم يستهلكون 80 بالمئة من موارده ولو سمحوا لبقيَّة البشر أَن يعيشوا مثلهم لوقعوا في مشكلة لأَنَّ الموارد محدودة"(13) ، وبالتَّالي فإنَّ ذلك سيكون على حساب رفاهيَّتهم، ولذلك لا يمكن أَبداً للعقليَّة الغربيَّة النفعيَّة والذَّرائعيَّة أَن تسمح بوجود أَيِّ قوَّة تحدُّ من هيمنتهم على العالم وعلى موارد هذا العالم، ويتجلَّى هذا واضحاً في أَفكارهم وسلوكاتهم بدءًا من أَعلى المستويات الفكريَّة والسُّلطويَّة حتَّى الفئات الشَّعبيَّة المختلفة.‏
                * * *‏
                (1) ـ نايف علي عبيد: العولمة والعرب ـ ص 29.‏
                (2) ـ د. سمير أَمين: إمبراطوريَّة الفوضى ـ ص5.‏
                (3) ـ عزَّت السَّيد أَحمد: انهيار أُسطورة السَّلام ـ ص 14.‏
                (4) ـ م.س ـ ص 15.‏
                (5) ـ مسعود ضاهر: صدام الحضارات كمقولة أَيديولوجيَّة لعصر العولمة الأَمريكيَّة ـ ص23.‏
                (6) ـ انظر في بعض تفاصيل مثل هذه الأُمور في كتابينا: كيف ستواجه أَمريكا العالم ؟ والنِّظام الاقتصادي العالمي الجديد ـ صفحات متعدِّدة.‏
                (7) ـ هذا التَّحليل من لقاء مع بول كينيدي أجرته معه مجلة؛ L'Express في العدد 2080 في 28 أيار/ مايو 1991م. انظر تفصيل ذلك في كتابنا: كيف ستواجه أَمريكا العالم ـ ص 80ـ83.‏
                (8) ـ انظر تفصيلاً لذلك لدى: عزَّت السَّيد أَحمد: الأُمم المتَّحدة بين الاستقلال والاستقالة والتَّرميم؛ مأزق الأُمم المتَّحدة في النِّظام العالميِّ الجديد ـ مكتبة دار الفتح ـ دمشق ـ 1993م ـ ص55ـ61. وصفحات أُخرى متعدِّدة في الفكرة ذاتها.‏
                (9) ـ ف. يرلوف: نهاية التَّاريخ أم البحث عن طريق جديد ـ ترجمة؛ أشرف الصَّباغ ـ ضمن مجلة؛ الثَّقافة العالمية ـ المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ـ الكويت ـ العدد 85 ـ 1997م ـ ص 18.‏
                (10) ـ عزَّت السَّيد أَحمد: انهيار أُسطور السَّلام ـ ص 65-66.‏
                (11) - Karl Popper: Kriege führen für den Frrieden. im Der Spiegel. N.13. 5.4.1992. P.202-211.‏
                (12) - Karl Popper: Kriege führen für den Frrieden. P.202.‏
                وانظر في ذلك أَيضاً كتابنا: كيف ستواجه أَمريكا العالم؟ ـ ص 71ـ 78.‏
                (13) ـ التَّمرُّد على قبَّعة العم سام ؛ حوار مع الدُّكتور عبد الوهاب المسيري أَجراه؛ محمد همام ـ ملحق جريدة الاتَّحاد ؛ الاتحاد الاقتصادي ـ أَبو ظبي ـ عدد الاثنين 29 شعبان 1418هـ الموافق لـ 29 كانون الأَوَّل/ ديسمبر 1997م.‏

                تعليق


                • #9
                  رد: انهيار مزاعم العولمة

                  الفصل الثَّاني : العولمة والغــزو الثقافي
                  إنَّ الأمَّة العاجزة عن المحافظة على جوهر كينونتها وروحها الحضاري والدِّفاع عن خصوصيَّتها ... أي القابلة للذَّوبان في أيِّ محلول حضاريٍّ غريب عنها، ليست جديرة بالبقاء، ولن تجد من يأسف عليها.‏
                  لا شكَّ في انطواء العولمة، من حيث المبدأ، على إمكاناتٍ خصبةٍ وتطبيقاتٍ ثرَّةٍ للحوار الحضاري وتمازج الثَّقافات وانفتاحها على بعضها بعضاً، وبهذا المعنى فقط يمكننا أن نقبل قول ديفيد روثكوبف ـ‏
                  David Rothkopf (1) إنَّ "العولمة تشجِّع التَّكامل وتزيل ليس فقط الحواجز الثَّقافيَّة، وإنَّما أيضاً العديد من الأبعاد السَّلبيَّة للثَّقافة"(2) .‏
                  ولكن واقع الأَمر وحقيقته أَنَّ الَّذي يدور في الكواليس مختلفٌ كلَّ الاختلاف، فالحقيقة غير الخافية، والَّتي ينبغي أَلاَّ تخفى على أَحدٍ أَنَّ العولمة ما هي إلاَّ امتدادٌ لسياساتٍ وتخطيطاتٍ غائرة المدى، على الرُّغم من كونها مفرزاً تلقائيًّا للتَّطور التَّقاني على مختلف الأصعدة والأُطر، فاستُغلَّت لتعزيز هذه السِّياسات وتكريس نتائج التَّخطيطات استناداً إلى الفكرة البريئة القائلة بتلاقح الثَّقافات والحضارات وحوارها، هذا الأمر المحبَّب والمنشود، ولكن شريطة وجود البدائل والأنداد بما يتيح إمكان الحوار والتَّلاقح، ولكن الأمر الآن غير متوازنٍ أبداً لأَنَّ الولايات المتَّحدة، على حدِّ ما يزعمون، " تهيمن على حركة المرور الكونيَّة في مجال المعلومات والأفكار. فالموسيقى الأمريكيَّة، والأفلام الأمريكيَّة، والبرامج التَّلفزيونيَّة الأمريكيَّة، وبرامج [الحاسوب] الأمريكيَّة أصبحت شديدة الهيمنة ورائجة جدًّا ومشاهدة جدًّا حتَّى إنَّها [توجد] اليوم في كلِّ مكان على الأرض بالمعنى الحرفي للكلمة. وهي ثؤثِّر فعليًّا في أذواق كلِّ الأمم وحياتها وتطلُّعاتها ..."(3) .‏
                  مقدِّمات‏
                  انطلاقاً من ذلك أُريد من العولمة وخُطِّط لها بحيث "تتغلَّب فيها نوازع الاستئثار والهيمنة، لتكون) نتيجتها تدمير الثَّقافة والثَّقافات، ما دام الهدف إلغاء الآخر بفرضِ التَّجانس عليه، فمنتجات الثَّقافة وإنتاجاتها تحوَّل إلى سلعةٍ تتحكَّم فيها قوانين السُّوق الَّتي لا تروِّج ولا تبتغي غير الجوانب الماديَّة الَّتي تضمن لها الرِّبح. وتنتهي العولمة، من جهة ملازمة أُخرى، إلى ممارسة ما يشبه العدوان الممنهجَ على ثقافات الشُّعوب وقيمها، وخصوصيَّاتها، وإبداعات تراثاتها. فيكون على البلدان جميعها أَن ترتدي الثَّوب أَو اللَّون الواحد، وأَن تأكل الصَّحن الواحد، وأَن تقرأ الكتاب الواحد، وأَن يصاغ لها طموحات واحدة، وأَذواقٍ واحدة، وأَفكارٍ واحدة، ونمط حياة واحدٍ. وتغسل الأَدمغة، فتتماثل وتتجانس بما يفصَّلُ لها، بعدما أُفقِدَت كلَّ عناصر المناعة والفكر النَّقديِّ من خلال تدمير المعرفة والذَّاكرة"(4) .‏
                  ومن أجل تحقيق هذه الأغراض وتكريسها، إلى جانب أسباب أخرى قد لا تخلو من الجوانب الإيجابية، "يقوم موجِّهو عمليَّة العولمة المتسارعة اليوم بتحسين وسائل وأنظمة النَّقل الدُّوليَّة، ويبتكرون [تقانات] وخدمات ثوريَّة جديدة في مجال المعلومات، ويهيمنون على السُّوق الدُّولي للأفكار والخدمات. وهو ما يؤثِّر في أسلوب الحياة، والمعتقدات، واللُّغة، وكل مكوِّنات الثَّقافة الأخرى"(5) .‏
                  مزاعم الثـَّقافة الخارقة‏
                  وبالنَّظر إلى الواقع العالمي الرَّاهن، وموقع الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة منه وفيه على مختلف الأصعدة والمستويات، ولا سيَّما العسكرية ثمَّ الاقتصاديَّة، من دون نسيان عنصر العُنجهيَّة الأمريكيَّة على وجه الخصوص، ليس من المستغرب أبداً أن يكون الأمريكيُّون هم الأكثر تبشيراً ـ تهويلاُ ـ تهديداً) بسيادة عاداتهم وتقاليدهم وأعرافهم ... على العالم، وبمعنى أكثر شمولاً سيادة نموذجهم الحضاريِّ؛ الثقافي والأخلاقي والاجتماعي والاقتصادي والسِّياسي والتَّقاني ... ومن كوكبة المروِّجين لذلك رجلٌ طلع علينا حديثاً هو: ديفيد روثكوبف ـ الذي كتب مقالاً صارخاً في مديح الإمبرياليَّة الثَّقافيَّة، واستبسل فيه في التَّرويج للثَّقافة الأمريكيَّة وتمجيدها كي تحلو في عيون الأمريكيين وغيرهم من أمم الأرض. فهو يفترضُ أوَّلاً أنَّه "من المحتَّمِ أن تقودَ الولايات المتَّحدة التَّحوُّل؛ فهي الأُمَّةُ الأساسيَّة في إدارة الشُّؤون الكونيَّة، والمنتج الرَّئيسي لمنتجات [المعلوماتيَّة وخدماتها] في السَّنوات الأولى لعصر المعلومات"(6) ، وهو يبني ذلك على ما يدَّعيه ويزعمه لقومه من خصائص وصفات تؤهِّلها لتبوء هذا الدَّور، وفي ذلك يقول: "إنَّ الثَّقافة الأمريكيَّة تختلف جوهريًّا عن الثَّقافات [التي هي بنات بيئاتها] في العديد من المجتمعات الأخرى. فالثَّقافة الأمريكيَّة هي مزيجٌ من المؤثِّرات والمناهج من مختلف أنحاء العالم. وقد انصهرت ـ عن وعي في حالات عديدة ـ في وسط اجتماعي يسمح بازدهار الحرِّيَّات الشَّخصيَّة والثَّقافات. وإذ يدرك الأمريكيون ذلك، فإنَّهم يجب ألاَّ يخجلوا من القيام بما هو في مصلحتهم الاقتصاديَّة والسِّياسيَّة والأمنيَّة ـ وبالتَّالي بما هو في مصلحة العالم ككل. ويتعيَّن على الولايات المتَّحدة ألاَّ تتردَّد في التَّرويج لقيمها. وفي سعيهم لأن يكونوا مهذَّبين أو سياسيين"(7) .‏
                  وعلى الرُّغم من كلِّ الممارسات الأمريكيَّة البشعة وازدواجيتها وعنجهيَّتها وعدوانيتها التي لم يسجِّل التَّاريخ مثلها ... نجده يصور الأمريكيين وكأنَّهم على درجة من التَّواضع والحياء بحيث يأكل القطُّ عشاءهم وهم ينظرون إليه بمنتهى الوداعة والخجل، يقول: "ينبغي على الأمريكيين ألاَّ ينكروا حقيقة أنَّه بين كلِّ الأمم التي عرفها تاريخ العالم، فإنَّ أُمَّتهم هي الأكثر عدلاً، والأكثر تسامحاً، والأكثر حرصاً على إعادة [تقويم] الذَّات وتحسينها، وهي النَّموذج الأفضل للمستقبل"(8) . والحقُّ أنَّ هذا الخطاب الموجَّه إلى الأمريكيين ظاهريًّا إنَّما هو تسويق مفضوحٌ للسِّياسة والثَّقافة الأمريكيتين.‏
                  ويعزِّز روثكوبف هذا التَّسويق بضرب من الإيحاء النَّفسي عندما يحاول إظهار أنَّ الولايات المتَّحدة لا تفعل شيئاً من أجل تعزيز هيمنتها وإنَّما الظُّروف التي تخدمها كونها هي الرَّائدة في كلِّ المجالات ولذلك من مصلحتها " أن تشجِّع تطوير عالم يتمُّ فيه تجاوز حدود الصُّدوع التي تفصل العالم عبر المصالح المشتركة. ومن المصلحة الاقتصاديَّة السِّياسيَّة للولايات المتَّحدة أنَّ العالم إذا كان يتحرَّك باتِّجاه لغة مشتركة، فإنَّ هذه اللغة ستكون هي الإنجليزيَّة، وأنَّ العالم إذا كان يتحرَّك باتِّجاه معايير مشتركة في مجالات الاتِّصالات ـ Telecommunications والأمان ـ Safety والنَّوعيَّة ـ Quality فستكون هذه المعايير معايير أمريكيَّة، وأنَّ العالم إذا كان سيصبح مترابطاً من خلال الإذاعة والتِّلفزيون والموسيقى فإنَّ البرامج ستكون أمريكيَّة، وإذا كان يجري تطوير قيم مشتركة فإنَّها ستكون قيماً يرتاح لها الأمريكيُّون"(9) .‏
                  وحرصاً من روثكوبف على حسن سير أمور البشر على الأرض، كما يبدي سـياق الكلام، فإنَّه يرى أنَّه الهـدف المحوريَّ بالنِّسبة للولايات المتَّحـدة فيما يتعلَّق بالسِّياسة الخارجيَّة على وجه الخصوص، في عصـر المعلومات هذا، "لا بدَّ وأن يتمثَّل في تحـقيق النَّصر في معركة تدفَّق المعلومات في العالم، والهيمنة على موجات الأثير، تماماً كما كانت بريطانيا العظمى تهيمن يوماً على البحار"(10) . ظنًّا منه أنَّ تدفُّق المعلومات يصنع المعجزات، فيجعل العصـا ثعباناً، والحجر ذهباً. وإن كنَّا لا نختلف معه من حيث المبدأ؛ مبدأ خطورة تدفق المعلومات وأهمِّـيَّة الهيمنة الإعلاميَّة.‏
                  ولذلك نجده يحاول تعزيز أهمِّـيَّة دعواه في ضرورة الهيمنة الإعلاميَّة وخطورة الغزو الثَّقافي استناداً إلى أنَّ أقمار البثِّ التلفزيوني الاصطناعيَّة تمكِّنُ النَّاس في أقطاب الأرض "من التَّعرُّف بانتظام من المحفِّزات الثَّقافيَّة، فالمشاهدون الرُّوس يتعلَّقون بالتَّمثيليَّات التِّلفزيونيَّة الأمريكيَّة، وقادة الشَّرق الأوسط [يعدُّون] محطَّة الـ سي.إن.إن) مصدراً رئيساً للمعلومات المحليَّة. وأصبحت شبكة الإنترنت ظاهرة كونيَّة على نحو متزايد في ظلِّ تطوُّرٍ فعَّال في كلِّ القارَّات"(11) . ولينقلنا بالتفاتةٍ واضحةٍ منه إلى أهمِّـيَّة الثَّقافة الأمريكيَّة وقدرتها على اختراق المتلقي والهيمنة عليه أينما كان. ولكنَّ الأهمَّ بالنِّسبة له أن تصل إلى المتلقِّي.‏
                  وهو على الرُّغم مما يدَّعيه من عدل الأمريكيين وتسامحهم وتمازجهم الثَّقافي والحضاري ... فإنَّه يحذِّر الأمريكيين من الوقوع تحت تأثير أيِّ فكرٍ آخر أو حتَّى الحوار معه مهما انطوى عليه من أطروحات، بل إنَّه يصادر على الآخرين حقَّ أن يمتلكوا أو يحافظوا على خصائصهم الشَّخصيَّة والحضاريَّة، ومن ذلك قوله:‏
                  "وفي الوقت نفسه، يجب على الأمريكيين ألا يخضعوا لتأثير أفكار مثل تلك التي يطرحها لي كوان يوي رئيس وزراء سنغافورة، أو مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا، اللذان يزعمان أنَّ هناك "طريقاً أسيويًّا"، وأنَّ هذا الطَّريق لا يحقُّ لغير الآسيويين أن يحكموا عليه، وأنَّه يتعيَّن السَّماح له بأن يملي سياق الأحداث على كلِّ من يعمل في ذلك الرُّكن من العالم. وهو زعمٌ يمكن [عدَّه] رطانةً سياسيَّة تحرِّكها المصالح الشَّخصيَّة"(12) .‏
                  انهيار المزاعم‏
                  وهنا لا بدَّ لنا أن نتساءل مع ميشيل إدَّه ومع كثير غيره من المتسائلين:‏
                  "أَلا تسوِّغُ لنا هذه الوقائع، الَّتي تنظم كذلك بلداناً من الشَّمال المتقدِّمِ، أَن نأخذَ بعين الاعتبار الجدِّي الخطير إمكان بل تسارع الانتقال من نهاية الجغرافية إلى ما يشبه تدمير الثَّقافة والذَّاكرة والتَّاريخ نفسه بالنِّسبة للبلدان والشُّعوب ؟"(13) .‏
                  الحقُّ أنَّ المسألة، على خطورتها وفداحة هولها من النَّاحية النَّظريَّة وما يمكن تلمُّسه من آثار واقعيَّة، ليست بالمعضلة المستعصية على الحل، كما أنَّ أبعادها ليست على النَّحو المدلَّل عليه في مخططات الغزو الثَّقافي الذي يمارس على الشُّعوب بنوع من الحرب النَّفسيَّة الخفيَّة التي تعتمد الإيحاء وسيلةً أساسيَّةً لها كما بدا لنا في أسلوب روثكوبف الذي أشرنا إليه قبل قليل، وكذلك باربر وغيرهما كثير.‏
                  إنَّهم يضعون العربة دائماً أمَّام الحصان، وينظرون إلى الأمر بعين واحدة ومن جانب واحد متناسين كلَّ الجوانب الأخرى وارتباطاتها، فهم يؤسِّسون على افتراضات والتَّأسيس على الافتراض يشيد عوالم لا تخطر ببال بشر قطُّ ولكنَّها غير موجودة، فبنيامين باربر مثلاً يقول: "الأسواق المشتركة تتطلَّب لغة مشتركة، ونقداً مشتركاً، وتفضي إلى سلوكيَّات متشابهة من النَّوع الذي ينميه نمط العيش المدني ـ [الكوني] في كلِّ مكان. ذلك نمطٌ في الحياة كأنَّما يهمُّ به نسلٌ من رجال ونساء لا تعنيهم شؤون الدِّين والثَّقافة والوطنيَّة، إلاَّ في الحدود الدُّنيا والهامشيَّة. هذا النَّسل قوامه مبرمجو [الحاسوب]، روَّاد التَّجارة ـ مديرو [المصارف] الدُّوليَّة، أخصَّائيو الإعلام، المتعاملون بالنِّفط، نخب التَّرفيه والإمتاع، خبراء [البيئة]، أخصَّائيو الإحصائيَّات السُّكانيَّة، المحاسبون، الأساتذة، الأكاديميون، الرِّياضيون ..."(14) . يبدو جليًّا ما في هذا القول من رؤية أحاديَّة وبناءٍ على الافتراضات، ذلك أنَّه يريد من جهة أولى أن يؤسس للسُّوق الجديدة بناءً على متطلَّبات هذه السُّوق بل بالمعنى الأكثر دقَّة متطلبات المنتج وتناسى تماماً متطلبات المستهلك التي تستطيع أن تفرض ذاتها عل المنتج أيضاً وبدرجة من القوَّة لا يجوز أن يستهان بها. وهو يفترض من جهة ثانية أنَّ الجيل القادم غير مبالٍ بالدين ولا الثَّقافة ... وهذا محض زعم وادِّعاء لا يعوزه البرهان وحسب بل التَّسويغ المنطقي لطرحه. ومن جهة ثالثة فإنَّ الذين يخطِّطون لمستقبل هذا السُّوق كلُّهم أصحاب رؤوس أموال صناعيَّة وتجاريَّة ... وهؤلاء يخطِّطون دائماً لتطويع السُّوق بما يتوافق مع مصالحهم، وليس لهم أن ينجحوا بالضَّرورة.‏
                  نعم، إنَّنا نتَّفق تماماً مع بول فيريليو الذي يقول: "إنَّنا نشهدُ الآن نهاية الجغرافيا، وذلك من حيث لا مكان منعزل، ولا وطن مستقل، ولا ثقافة محصَّنة"(15) . ولكنَّ عدم انعزاليَّة المكان، وعدم وجود ثقافة محصَّنة، وحتَّى عدم وجود الوطن المستقلِّ، أفكار بل وقائع ليست بالجديدة أبداً، ذلك أنَّ السَّيرورة التَّاريخيَّة للحضارة البشريَّة منذ أقدم العصور وحتَّى الآن منتبجةً بالنَّماذج المؤكِّدة لهذه الحقيقة، فكلُّ ثقافة، وبما تقوم به بوصفها ثقافة أي بوصفها الحامل والمحمول الحضاري للأمَّة، فإنَّها بطبيعة الحال أو بطبيعتها معرَّضة للانتهاك والاختراق حتَّى وإن كانت ثقافة أمَّة رائدة أو غازية أي ثقافة أمَّة يفترض أنَّها قويَّة محصَّنة ضدَّ الاختراق والانتهاك، ذلك أنَّ اختراق أيِّ ثقافة لثقافة أخرى ليس يعني دائماً التَّأثير السَّلبي أو الضَّار أو المفسد لها فقد يكون إيجابيًّا وفاعلاً أيضاً، ولا توجد ثقافة بمعزل عن التَّأثُّر بغيرها من الثَّقافات إيجابيًّا أو سلبيًّا لأنَّ تحصين ثقافة الأمَّة أو انغلاقها يعني تقوقعها وتشرنقها بحيث تغزل نسيجها من ذاتها لذاتها فتغدو كالمياه الرَّاكدة الآسنة أي إنَّها تنبت بذور فنائها بذاتها لأنَّ الثَّقافة الحيَّة أو التي تريد أن تظلَّ حيَّةً هي التي تظلُّ متواصلة متلاقحةً مع كلِّ الثَّقافات كيما تتجدَّد أنساغها بما يمكِّنها من مواكبة المرحلة التي هي فيها. وبالأسلوب ذاته يمكننا أن نفسِّر سبب عدم وجود مكان منعزل ولا وطن مستقلٍّ، وبالتَّالي ليست العولمة هي التي تقود إلى تدمير الثَّقافة أو انمحائها، وليست هي التي ستقضي على الحدود وتكشف الأغطية عن الأمكنة، كلُّ ما في الأمر أنَّها تلعب دوراً ما في تسريع وتائر مثل هذه الخطى من دون أن تكون القشَّة التي تقصم ظهر البعير. وبهذا المعنى فقط يمكننا أن نفهم كيفيَّات اختراق المجتمعات والثَّقافات ومستوياتها بفعل العولمة، غير منكرين أنَّ لعصر العولمة خصوصيَّة التَّاثير المخطَّط والأوسع مدى، لقيامها أصلاً على مستويات من التَّعقيد والتَّداخل لم تكن متوافرة فيما خلا من المراحل التَّاريخيِّة، تتركَّز كلُّها، برأينا، في المستوى الأعلى من المستويات التي تحدَّث عنها علي حرب وهو المستوى المتمثِّل "في تدفُّق المعلومات والصُّور والقيم والنَّماذج عبر وسائط الإعلام المتعدِّدة التي تحوِّل العالم إلى نظام كوني واحد للاتصال الدَّائم"(16) ، أمَّا المستويان المتوسط والأدنى المتمثِّلان في "توحيد الأسواق الماليَّة عبر التِّجارة الإلكترونيَّة على يد مجموعات الإنتاج وأصحاب الشَّركات ذات الجنسيَّات المتعدِّدة، والمستوى الأدنى المتمثِّل في حركة الأشخاص العابرين للحدود بين الدُّول والقارات، بفعل اتِّساع السِّياحة وتزايد الهجرات"(17) ، فإنَّهما غير جديدين وجوداً وفعلاً بحال من الأحوال.‏
                  ولكن السُّؤال الذي يطرح ذاته بإلحاحٍ هنا هو كما يقدِّمه هنتنجتون: "هل يتعيَّنُ على المجتمـعات غير الغربيَّة، إذا أرادت أن تتحدَّث، أن تتخلَّى عن ثقافاتها الخاصَّة وتتبنَّى عناصر الثَّقافة الغربيَّة الجوهريَّة ؟"(18) .‏
                  إنَّ الإجابة عن هذا السُّؤال تُشرعُ أمامنا ثلاثيَّةً جدليَّةً من الأبواب تشبه الثلاثيَّات الهيجيليَّة، وهي على كونها في اعتقادنا مسلَّمات، إلاَّ أنَّها تطُرح دائماً بوصفها فرضيَّات تبحث عن براهينها أو تنتظر هذه البراهين؛ أوَّل هذه الأبواب هو النَّظرة الاستشرافيَّة الأعلويَّة، وثانيها النَّظرة الأدنويَّة، وثالثها خصوصيَّات الثَّقافات.‏
                  أوَّلاً : النَّظرة الاستشرافيَّة الأعلويَّة‏
                  ألمحنا غير مرَّة، وفي أكثر من مكان، إلى أنَّ الأمَّة التي تتصدَّر سدَّة الحضارة والقوَّة لا ترى إلى الأطراف والهوامش إلا بوصفها توابع وملحقات لها حتَّى ولو لم تكن تحت سيطرتها المباشرة، وبالتَّالي فإنَّ تطبُّع هؤلاء الآخرين ـ الأدنى ـ بطبائعها هو الأصل وغير ذلك هو الاستثناء، وأن تقوم هذه الأمَّة بإملاء شروطها وأوامرها وتعليماتها هو الأصل وغير ذلك هو الاستثناء. وأن يقتفي الآخرون خطاها هو الأصل وغير ذلك هو الاستثناء، حتَّى وهي ـ الأمَّة الرَّائدة ـ تنهل من معين الثَّقافات الأخرى فإنَّها تفعل ذلك من موقع الفعل لا الانفعال.‏
                  إنَّ الأمثلة على ذلك جدُّ كثيرة وتملأ بطون كتب التَّاريخ حتَّى ليتعذَّر سردها أو جمعها، ومن ذلك على سبيل المثال رسالة هارون الرَّشيد إلى ملك الرُّوم التي جاء فيها: من هارون الرَّشيد ملك العرب إلى نقفور كلب الرُّوم؛ الجواب ما ترى لا ما تسمع. ومثل ذلك أيضاً قصَّة أسامة بن منقذ عندما أسرَه الصَّليبيون وعُرِضَ عليه أن يتجوَّل في المدن الإيطاليَّة ويختار ما يشاء ليسكن فيها، فقال: وماذا أفعل عندكم وأنتم قوم متخلِّفون، بعيدون عن التَّحضُّر. ولكنَّ الازدراء الغربي للشَّرق الآن قد لا يقاس بمقياس.‏
                  أمَّا فيما يخصُّ التَّلاقح الثَّقافيَّ بالاسـتناد إلى هـذه الآليَّة التَّفاعليَّة التي تتمُّ على النَّحوين الشُّعوري واللاشـعوري فإنَّ أعلام الاستشراق والاسـتغراب؛ قديماً وحديثاً، أكثر من أن يعدُّوا، ولكن الذي ينبغي الانتباه إليه هنا هـو الآليَّة التي تتمُّ بها عمـليَّة التَّلاقح الثَّقافي؛ إنَّها عمليَّة استشرافيَّة تتمُّ من الأعلى إلى الأدنى عندما يطلع القوي على ثقافة الأضعف وينهل منها على طريقته وبما يخدم مصالحه، وربَّما يعيد تكوينها على طريقته مثلما يفعل المستـشرقون الآن بالتُّراث العربي وبالثَّقافة العربيَّة الرَّاهنة أمـثال أرنست رينان وهاملتون جب وهارولد بوون وماك دونالد وبرنارد لويس والسير توماس أرنولد وفرانس روزنتال ولوي ماسنيون وشارل بللا وماك بيرجيه وكولان وليفي بروفنسال وغيرهم كثيرون. ومن أمثالهم في العصور السَّابقة نجد طاليس الذي ذهب إلى مصر وتعلَّم فيها علم المسـاحة(19) ، وفيثاغورث الذي طوَّف في أنحاء الشَّرق وتلقى من علومها(20) ، وأفلاطون الذي زار مصر غير مرَّة، واتَّصل بمدرستها الكهنوتيَّة، وأخذ بنصيب من علم الفلك والدِّين والحكمة والأخلاق والتَّقاليد ... التي يظهر بعضها جليًّا في كتاباته(21) . وفي الحضارة العربيَّة نجد حنين بن إسحاق ومتى بن يونس القنَّائي وبشر بن متَّى وابن البطريق وابن ناعمة وابن قرَّة ... وغيرهم كثيرون أيضاً.‏
                  والحقُّ، على كلِّ حال، أنَّ هذه النَّظرة الاستشرافيَّة الاستعلائيَّة من المنتصر أو الأقوى حقٌّ طبيعيٌّ مضمرٌ بالقوَّة ومكتسب بالفعل. وهو يمارس هذا الحقَّ بصورة قد تكون شعوريَّة أو لا شعوريَّة، وفي كلتا الحالتين يمكن أن تنطوي على الرِّفق والرَّأفة ... ويمكن أن تلتحف بالعُنجهيَّة والعجرفة، فإذا كانت الحالة الأولى قال المنصفون مثلاً: "ما عرف التَّاريخ فاتحاً أرحم من العرب"، على الرُّغم من أنَّ أسلافهم هم الذين فتح العرب بلادهم، وإذا كانت الحالة الثَّانية؛ حالة العنجهيَّة والعجرفة قال المنصفون في ذلك مثلما قال هنتنجتون ـ Huntington: كثيرون، في الغرب، يعتقدون أَنَّ العالم يسير نحو ثقافةٍ عالميَّةٍ موحَّدةٍ هي ثقافةٌ غربيَّةٌ أَساساً، ومثل هذا الاعتقاد متغطرسٌ، زائفٌ، خطرٌ؛ فانتشارُ السِّلع الاستهلاكيَّة الغربيَّةِ لا يعني انتشار الثَّقافة الغربيَّة، فشرب الكوكا كولا لا يؤدِّي إلى أنَّ الرُّوس يفكِّرون مثل الأمريكان، كما أَنَّ تناول طبق الشُّوشي الياباني) لا يجعل الأَمريكيين يفكِّرون مثل اليابانيين(22) . هذا على الرُّغم من أنَّ أهليه وذويه، وغيره كذلك، هم الذين يمارسون هذه الغطرسة والعنجهيَّة.‏
                  وعلى ذلك فإنَّ الأمَّة المتقدِّمة بل المتصدرة سدَّة الحضارة والتَّقدُّم؛ شرقيَّة أو غربيَّة، هي التي تفرض نمطيَّتها الحضاريَّة؛ الفكريَّة، العلميَّة، السياسية، الاقتصاديَّة، الاجتماعيَّة، الأخلاقيَّة ... على الأمم الأخرى على النَّحوين؛ المباشر وغير المباشر. وهذا ما يمكن أن نلمس آثاره أيضاً في مفردات الأمَّة الرَّائدة ومعطياتها التي تفرض ذاتها على الأمم التَّابعة أو الخلفيَّة.‏
                  ثانياً : النَّظرة الأدنويَّة‏
                  أمَّا النَّظرة الأدنويَّة فهي ما يدرس في علم النَّفس تحت عنوان التَّقليد، وقد كثَّفها لنا ابن خلدون في عنوان فصل من فصول مقدِّمته هو: في أنَّ المغلوب مولعٌ أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيِّه ونحلته وسائر أحواله وعوائده. ورأى أنَّ "السَّبب في ذلك أنَّ النَّفس أبداً تعتقد الكمال في من غلبها وانقادت إليه إمَّا لنظره بالكمال بما وفر عندها من تعظيمه أو لما تغالط به من أنَّ انقيادها ليس لغلبٍ طبيعيٍّ إنَّما هو لكمال الغالب"(23) . وهذه حقيقةٌ تاريخيَّة مصانة من النَّقد والطَّعن، ولعلَّ هذا التَّحليل وما تلاه من أبدع ما جاء به ابن خـلدون، ذلك أنَّه يفسِّر آليَّة التَّقليد تفسـيراً دقيقاً برؤية حدسيَّة تتجاوز ضروب الاستدلال والاستنتاج والقياس والبرهان.‏
                  والتَّقليد، بوصفه آليَّة لا شعوريَّة، ذو وظيفة تبريريَّة تختلقها الذَّات لتدرء جملة من المخاطر النَّفسيَّة التي تعصف فيها على النَّحو الذي ساقه صاحب المقدِّمة. وفي الإطار الذي نحن بصدده فإنَّ هذه الآليَّة الدِّفاعيَّة تتَّخذ منحيين؛ منحى التَّقليد أو المحاكاة، ومنحى الاحتواء أو الانتماء. أمَّا منحى التَّقليد فإمَّا أن يكون تقليداً أعمًى أو يكون تقليداً بحكم عادة المغلوب في اقتفاء خطى الغالب، وأمَّا الاحتواء فإمَّا أن يكون اندماجاً أو تدامجاً.‏
                  آ ـ التَّقليد الأعمى: في هذا النَّوع من التَّقليد ينساق الضعيف أو المغلوب ... انسياقاً تامًّا وراء القويِّ أو الغالب ... من دون أي تفكيرٍ لأنَّه ينطلق في تقليده من تمام تسليمه بكماليَّة الغالب أو القوي وعصمته، ولذلك يقع هذا المقلِّد فريسة سهلة للأخطاء القاتلة والمهاوي المشينة المعيبة، ومن أمثلة الأخطاء القاتلة أنَّ "بطرس الأكبر ومصطفى كمال أتاتورك كانا عازمين على تحديث بلديهما ومقتنعين بأنَّ ذلك كان يعني تبنِّي الثَّقافة الغربيَّة، حتَّى إلى درجة استبدال غطاء الرَّأس التَّقليدي ببديل غربي. ولكنَّهما لم يقوما، باعتمادهما لمثل هذه العمليَّة، إلاَّ بخلق بلدين ممزَّقين غير واثقين بهويتيهما الثَّقافيتين"(24) . ومن أمثلة المهاوي المشينة ما أورده يحيى حقِّي في "تعال معي إلى الكونسرت" إذ قال: "من القفشات) التي يتندَّر بها الغرب على الشَّرق رواية تزعم أنَّ شاه إيران ـ من أسرة كاشفار إبَّان انهيارها ـ حين سمع تجربة الآلات الموسيقيَّة صُعِقَ طرباً. ظنَّ أنَّهم يعزفون لحناً جميلاً، طلب استعادته، وعبثاً حاولوا إفهامه أنَّ اللحن قادم وأنَّ الذي سمعه هو النَّشاز بعينه".‏
                  ب ـ التَّقليد بحكم العادة: هنا يمارس التَّقليد أيضاً بصورة لا شعوريَّة نابعة من التَّسليم بتفوق الغالب ولكن ليس بكماليَّته، ولذلك يأتي التَّقليد معقلناً إلى حدٍّ يكبر ويصغر تبعاً للميدان والظرف، وهو غالباً ما يكثر في الأمور الشَّكليَّة والسَّهلة التَّقليد، ويقلُّ في الأمور الجوهريَّة والتي تحتاج إلى جهد وتعب وكلفة عالية. ومن أمثلة النَّوع الأول نجد الأدروجات والصَّرعات الفكريَّة والأدبية والفنيَّة، والألبسة، والأطعمة مثل: ظواهر الكوكاكولا والهامبرجر والماك دونالد ... وبعض العادات الاجتماعيَّة. ومن أمثلة الثَّاني تقمُّص روح الحضارة وأخلاقها، دقَّة التَّخطيط وسلامته واستراتيجيَّته، وحريَّة الرَّأي والفكر، والحوار والانفتاح على الآخر، والعدالة والديمقراطيَّة ...‏
                  جـ ـ الاندماج: هنا نجدنا أمام الحالة المعاكسة تماماً للاستشراق والاستغراب كلاًّ على حدةٍ، ففيما يتَّجه الاستشراق من أعلى إلى أدنى، أو من فوق إلى تحت، فإنَّ الاندماج استشراقٌ من الأدنى إلى الأعلى، أو استغراب من الأدنى إلى الأعلى، ولا حيف في أن نطلق عليه اصطلاح الاستشراق من تحت أو الاستغراب من تحت.‏
                  يتَّفق الاصطلاح والاصطلاح النَّقيض في أنَّ كليهما فاعليَّة مؤثِّرة في موضوع الذَّات الفاعلة، ويتَّفقان أيضاً في أنَّ كلا الفاعليتين بنَّاءة. أمَّا الاختلاف الجوهريُّ بينهما فيكمن في أنَّ الاستشراق أو الاستغراب بنَّاء للذَّات، وقد يكون هدَّاماً للموضوع، دون أن ننفي إمكانيَّة كون بناء الموضوع غاية أيضاً. ولكن لا بدَّ من الانتباه إلى أنَّ غائيَّة بناء الموضوع أو هدمه منسوبة كلاًّ على حدةٍ إلى الذَّات والموضوع في إطار راهنيتهما الحضاريَّة، ولذلك عندما يتَّجه الاسـتشراق إلى هـدم موضوعه وتشويهه فإنَّه يمارس نوعاً من بناء الذَّات وتحصينها، ويظـلُّ الهدم بالنِّسبة للموضوع، بما هو ذات أيضاً، هدماً. وربَّما يعمل الوعيُ الزَّائفُ، من قبل الموضوع بوصفه ذاتاً، على قلب الهدم إلى بناء، أو تفسـير الهدم الْمُمارس تجاهه على أنَّه بناء.‏
                  أمَّا الاستشراق من تحت أو الاستغراب من تحت فإنَّه بنَّاءٌ للموضوع، بنَّاءٌ للذَّات الفرد أو الأنا، هدَّام للذَّات المقابلة لموضوع الفاعليَّة التي هي هنا الأمَّة التي انسلخ المبدع عنها بإبداعه لينتمي إلى الذَّات المقابلة التي هي هنا الموضوع. إنَّ المبدع هنا، ذا المنبت المتخلِّف حضاريًّا، إذ ينتمي بإبداعه إلى أمَّة متقدِّمة فإنَّه يمارس ثلاثة سلوكات في آن واحد:‏
                  إنَّه يحقِّق ذاته المبدعة أوَّلاً، وهو إنَّما انتمى إلى حضارة أخرى قد تكون معادية لمنبته الحضاري، لأنَّ حاضنته الحضاريَّة إمَّا غير قادرة على احتواء ملكاته وطاقاته الإبداعيَّة أو بسبب ضغوط الوضعيَّة السياسيَّة الاقتصاديَّة الاجتماعيَّة الرَّاهنة في منبته.‏
                  وهو ثانياً يساهم في بناء الحضارة الرَّائدة وتعزيزها وترسيخها، ولا يمكن بحال من الأحوال أن نزعم أنَّ هذه الأمَّة الرَّائدة قادرة على الاستغناء عن جهود هذه الكفاءات المغتربة عن أممها، ولكنَّنا لا نستطيع زعم أنَّها ما كانت لتقوم لولا هذه الكفاءات لأنَّ هذه الكفاءات ما كانت لتتغرَّب إليها لولا أنَّها في المقدِّمة. ولكنَّها إذ اندمجت في هذه الحضارة وصارت جزءاً منها فقد صارت لبنات أساسيَّة منها حتَّى ليشكِّل غيابها فجوةً يصعب سدُّها. ويكفي على سبيل المثال أن نطَّلع على الإحصاءات التي تقدِّمها بعض الهيئات والمنظمات عن الكفاءات العربيَّة الموجودة في أوربا وأمريكا.‏
                  وهو ثالثاً لا يهدم منبته الحضاري ولكنَّه يقبل أن تظلَّ أمَّته رازحة بين براثن التَّخلُّف، اللهمَّ إلاَّ إذا مارس دوراً قصديًّا في هذا الهدم، وباستثناء هذا الأمر لا يمكننا أن نعدَّ هذا المبدع المندمج مع حضارة الأمَّة الرَّائدة خائناً ولا عميلاً لعدَّة أسباب أوَّلها أنَّ هذا الاندماج مع الآخر ليس يعني بالضَّرورة التَّخلِّي عن الانتماء الأصلي. وثانيها أنَّ واقعه الحضاري الذي لم يستطع احتواء طاقاته وقدراته هو الذي دفعه إلى ازدواجيَّة الانتماء من أجل تحقيق ذاته المبدعة. وثالثها أنَّه عندما يحقِّق ذاته في هذا المكان الآخر فإنَّه سيظل يحمل هويَّة أمَّته حتَّى وإن تخلى عن هذه الهويَّة عمليًّا. وإذا ما قيل: كان من الممكن له أن يتدامج بدل أن يندمج. قلنا: نعم، ولكنَّ أنانيَّته الزَّائدة عن اللزوم جعلته يؤثر الذَّات الفرديَّة على الذَّات الجمعيَّة.‏
                  والحقُّ أنَّ الأمثلة المدلِّلة على هذا النَموذج جدُّ كثيرة حتَّى ليتعذَّر حصرها، ومن أمثلتها إبَّان الحضارة اليونانيَّة بدوريها نجد من الأعلام السُّوريين المندمجين بالحضارة اليونانيَّة لوقيانوس المفكِّر السُّوري الكبير الذي كتب باليونانيَّة وقد لخَّص شكسبير رأيه فيه قائلاً: "كلُّ العالم مسرحه، وجميع الرِّجال والنِّساء ممثلون لديه"(25) ، وكذلك مينيب أحد الفلاسفة الكلبيين، كتب باليونانيَّة مجموعة مؤلَّفات، وهو من جدرة أم قيس على اليرموك)(26) ، وكذلك، بناءً على بعض الرِّوايات: فيثاغورث وزينون الرِّواقي وزينون الصُّوري وديوجين وبورفير ويمليخو ولونجينو وغيرهم(27) . وفي الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة نجد: ابن المقفَّع وابن سينا والفارابي وسيبويه ومسكويه وياقوت الرُّومي وغيرهم كثيرون أيضاً(28) .‏
                  د ـ التَّدامج: أمَّا التَّدامج فإنَّه يختلف عن التَّقليد بضربيه، وعن الاستشراق والاستشراق من تحت ونظيرهما الاستغراب، في انطوائه أصلاً على القصديَّة التَّشاركيَّة، ولذلك استخدمنا اصطلاح التَّدامج على وزن التَّفاعل الذي يفيد التَّشارك أو الاعتراف بوجود طرفين يدخلان في علاقة تفاعليَّة، يتفاوت مدى فعل كلٍّ منهما تبعاً لقوَّته وقدرته على الفعل.‏
                  والتَّدامج بهذا المعنى يقوم على الفعل والانفعال في آن واحدٍ، وهو في فعله وانفعاله بنَّاءٌ للذَّات وللموضوع، أي إنَّ الذَّات هنا تبتني ذاتها من خلال مشاركتها في بناء الموضوع، وغالباً ما تكون هذه المشاركة تتلمذيَّة أكثر منها مشاركة في بناء الآخر. وهذه الحالة هي السُّلوك الأكثر إيجابيَّة من قبل الأمَّة المتخلِّفة لأنَّه موضوع لذات قويَّة يحاول أن يتعامل مع هذه الذَّات بوصفه ذاتاً أيضاً، أي إنَّه يدرك موقعه بالنِّسبة للأمَّة الرَّائدة ويعترف بذلك ولكنَّه لا يقرُّ بالعجز والاستكانة والخمول فيحاول الدُّخول في عمليَّة تشاركيَّة تفاعليَّة، بوصفه ذاتاً، مع الذَّات التي ترفض التَّعامل معه إلاَّ بوصفه موضوعاً. على أنَّ ما تجدر الإشارة إليه هنا أنَّنا عندما نستخدم اصطلاح الأمَّة فإنَّنا لا نريد عموم الدَّلالة وإنَّما النُّخب الممثِّلة للأمَّة في هذه المرحلة من مراحلها، وهذا ما ينطبق أيضاً على سلوك الاندماج، ولا سيَّما أنَّه من المؤكد أن نجد أصناف السُّلوك كلِّها في الأمَّة.‏
                  إنَّ المبدع هنا ينطلق من حقيقة واقعية وعلميَّة وهي عدم وجود امتيازات عقليَّة لأمَّة من دون أخرى، وكلُّ ما في الأمر أنَّ الظُّروف تُهيَّأ في كلِّ طور حضاريٍّ لأمَّة دون سواها. ولذلك يجب السَّعي للحوار الحضاري والتَّفاعل من أجل الارتقاء بالواقع المتخلِّف والنُّهوض به من ركام تخلُّفه. وفي هذا إقرار بالواقع المتخلِّف أوَّلاً، واعترافٌ للآخر بتفوِّقه ثانياً، وعدمُ يأسٍ ولا استسلام ثالثاً، وعدمُ تسليمٍ بكماليَّة مطلقة للمتفوق رابعاً، والقبول بالتَّعلم من المتفوِّق والأخذ عنه خامساً. وعدم تسليم بعجز المنبت عن احتواء المبدع وطاقاته مع النِّضال من أجل حمل هذا الواقع المتخلِّف على حمل مبدعيه واحتوائهم سادساً. والأمثلة على ذلك كثيرةٌ أيضاً في كلِّ طورٍ حضاري ففي مرحلة ازدهار الحضارة اليونانيَّة مثلاً نجد لونجينو الذي كان أستاذا متميزاً في اليونان وقد استدعته زنوبيا لتجعله رئيس وزرائها. وفي مرحلة الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة نجد كثيراً جدًّا من الأعلام الذين تتلمذوا عليها، ومنهم مثلاً أعلام الرُّشديَّة المسيحيَّة مثل نيفو، وجيرولامو كردانو، وتشيزاري كريمونيني، وبونبوناتزي ـ Ponponazzi أشهر أساتذة بادوفا في القرن الخامس عشر، وكانت جامعتها أرسطوطاليَّة رشديَّة تتشبَّث بتأويل ابن رشد لأرسطو(29) ، وسيجر دي برابان ـ Sogr de Brabant الذي حورب وحبس وقتل على يد كاتبه أورفيتو ـ Orvitto الذي جُنَّ على ما قيل، وبنهايته انتهى التَّعليم الرُّشدي بباريس(30) . وهناك من غير الرُّشديين أديلارد أوف بث(31) ـ Adelard of Bath ودومنيك جونزالس المدعو جنديسالفي(32) ـ Gondisalvi وميخائيل سكوت(33) ـ Michael Scot وهرمان الألماني(34) ـ Hermann وريمون لول ـ Raymond Lulle الذي تراءى له المسيح أربع مرات وكأنَّه يريده أن يتوافر على خدمته، فمهَّد لمهمَّته بدراسة العربيَّة ... وطاف أنحاء كثيرة من العالم منها معظم البلدان العربيَّة، وكان ضليعاً بالعربيَّة حتَّى نقل عنها وصنَّف فيها(35) وغيرهم كثيرون في كلِّ زمان ومكان، وعصرنا مليءٌ بالنَّماذج المماثلة.‏
                  وبناءً على ذلك لا تلام الأمَّة الرَّائدة، من الوجهة النَّفسيَّة والمنطقيَّة التَّاريخيَّة، على ممارسة سطوتها ونفوذها على الأمم المتخلِّفة، ولكنَّ التَّاريخ يسجِّل أنَّ هذه الأمَّة قد كانت سمحةً وتلك الأمَّة كانت همجيَّة ... . وكذلك الأمر فإنَّ الأمَّة المتخلِّفة لا تلام في اقتفائها أثر الأمَّة الرَّائدة، ولكنَّ التَّاريخ يسجِّل أنَّ هذه الأمَّة كانت متخاذلة بحقِّ نفسها وتلك لم تقصِّر في سعيها ....‏
                  ثالثاً : خصوصيَّات الثـَّقافات‏
                  ولكنَّ السُّؤال الذي يشغل بال الكثيرين، وهو لبُّ السُّؤال المطروح آنفاً: هل ستستطيع العولمة أن تمحو الثَّقافات جميعها لصالح ثقافة عولميَّة واحدة أو ما تسمى الأمركة، أو سواها؟‏
                  يرى هنتنجتون أنَّ "الفروق بين الحضارات ليست فروقاً حقيقيَّة فحسب، بل هي فروق أساسيَّة، فالحضارات تتمايز الواحدةُ عن الأخرى بالتَّاريخ واللغة والثَّقافة والتَّقاليد، والأهم الدين. وللنَّاس في الحضارات المختلفة آراءٌ مختلفة عن العلاقات بين الله والإنسان، والفرد والمجموعة، والمواطن والدَّولة، والآباء والأبناء، والزَّوج والزَّوجة، وآراء مختلفة عن الأهمِّـيَّة النِّسبيَّة للحقوق والمسؤوليَّات والحريَّة والسُّلطة والمساواة والتَّسلسل الهرمي. وهذه الفروق نتاج قرون، ولن تختفي سريعاً. إنَّها فروقٌ أساسيَّة بدرجة أكبر من الاختلافات بين [العقائديَّات] السِّياسيَّة والنُّظم السِّياسيَّة؛ والاختلافات لا تعني النِّزاع بالضَّرورة، والنِّزاع لا يعني العنف بالضَّرورة"(36) .‏
                  ولذلك يخفق الكثيرون عندما يتحدَّثون عن الثَّقافة وانمحائها بتأثير العولمة أو غيرها من العوامل ذلك أنَّ القسم الأكبر من هذه الثَّقافة إنَّما هو مقوِّماتٌ جوهريَّة من العسير العسير تغييرها، هذا إن لم يكن من قبيل المستحيل. سيَّان كان هذا الانمحاء بفعل الصِّراع أم بفعل التَّلاقح الذي تفرزه العولمة.‏
                  فإن كان انمحاء الثَّقافة المزعوم، والذي هو بالمحصِّلة خصوصيَّة الأمَّة وهويَّتها، بسبب الصِّراع أو "الاختلافات السِّياسيَّة كثيراً ما تكرَّس من خلال ارتباطاتها السِّياسيَّة بالجذور الغامضة للثِّقافة، سواء الرُّوحيَّة أو التَّاريخيَّة. ونتيجةً لذلك يصبح تهديد ثقافة المرء تهديداً لدينه أو لأسلافه. وبالتَّالي تهديداً لجوهر هويَّته"(37) . وهنا ستكون النَّتيجة التي يفترض أن تكون في طليعة الاحتمالات، ألا وهي ردَّة الفعل بالارتكاس على الذات والتَّقوقع حولها لحمايتها، وفي هذه الحال يصبح المرء أو الأمَّة بمعنى من المعاني أشدَّ عناداً وتمسَّكا بالهويَّة، بل قد يصل الأمر إلى التَّمسك بالقشور والشَّكليَّات أيضاً من خصوصيات الأمة.‏
                  أمَّا إن كان الانمحاء أو الزَّوال أو الاندماج هذا بفعل التَّلاقح أو الانتخاب الطَّبيعي أو ما يشبه ذلك فإنَّ "العولمة وإن كانت تعمل على توحيد العالم حضاريًّا بفعل التِّقنيَّات الجديدة، فلا يعني ذلك أنَّها ستوحِّد العالم ثقافيًّا أو أنَّها ستقضي على الخصوصيَّات الثَّقافيَّة. فما دام المرء يفكِّر ويتكلَّم أو يرمز ويتخيَّل، فهو يتفرَّد عبر أعماله الإبداعيَّة وابتكاراته الأصيلة. بهذا المعنى لن تصبح الثَّقافة واحدةً حتَّى داخل الولايات المتَّحدة التي تتصدَّر قوى العولمة، بل سيبقى المجال مفتوحاً أمام التَّكوثر المعرفي والتَّباين الدَّلالي والتَّنوع البشري الخلاق"(38) . وعندما تتعرَّض بعض البلدان أو حتَّى كلها، لعمليَّة التَّحديث والسَّعي إلى النُّهوض سيَّان كان ذلك باجتهادٍ ذاتيٍّ أم بتحريض خارجيٍّ فإنَّها "قد تتغرَّب بأشكال سطحيَّة، دون أن تفعل ذلك على صعيد الأبعاد الأكثر أهمِّـيَّة للثَّقافة، أي أصعدة اللغة والدِّين والقيم. وفي الحقيقة فإنَّ البلدان حين تتحدَّث تلوذ بثقافاتها ودياناتها التَّقليديَّة الضَّيقة هرباً من العالم الحديث. ففي مختلف أرجاء الكرة الأرضيَّة يفضي التَّعليم والدِّيمقراطيَّة إلى التَّأصيل. ومع تراجع قوَّة الغرب سيصبح ما عدا الغرب أكثر تأكيداً لذاته"(39) .‏
                  أمَّا فيما يخصُّ اضمحلال بعض الثَّقافات وزوالها فلا يوجد ما يمنعه تاريخيَّا ولا منطقيًّا، وكذلك سهولة سيادة النموذج الآخر على النَّحو الذي يقدِّمه باربر ليدلِّل من خلاله على أثر خطر الغزو الثَّقافي بقوله: "حتَّى في بلدٍ عرف طويلاً بعزلته الثَّقافيَّة كسويسرا، تمَّ اختيار فيلم النَّاهي ـ Terminator كفيلم أوَّل، وكتاب سكارليت كأفضل كتاب وكاسيت لآلئ وماسات برنس [بوصفه] الألبوم الموسيقي الأكثر مبيعاً للعام 1991م. وهذه كلَّها نتاجات أمريكيَّة. لا عجب أن يقبل اليابانيون على شراء استوديوهات هوليود حتَّى بما يفوق نهم الأمريكيين في اقتناء أجهزة التِّلفزيون اليابانيَّة"(40) . فهل يدل هذا فعلاً على خطر حقيقي ؟ كلاَّ، لأنَّ تصدر هذه الأعمال لوائح التَّرتيب والأفضليَّة هو الأمر المنطقي الذي يصعب تسويغ نقيضه لأنَّ الإنتاج المتميز سمة يفترض أن تكون ملازمة للأمَّة الأكثر تقدما حضاريًّا وتقنيًّا فمنتجات الحضارة الإسلاميَّة إبَّان مجدها كانت مدهشة للعالم، وكانت مثالاً يكأد الآخرون في احتذاء حذوه، وكذلك كانت منتجات الحضارات الأخرى كاليونانيَّة والفارسيَّة، ولذلك فإنَّ تصدُّر بعض المنتجات الأمريكيَّة أو اليابانيَّة أو الألمانيَّة لوائح الأفضليَّة ليس يعني بالضَّرورة خطراً ساحقاً ماحقاً. ولكنَّها بالضَّرورة ستؤثِّر في ثقافات غيرها من الأمم، وكلُّ أمَّةٍ تخضعُ لقدر من التَّأثير يتناسب تناسباً عكسيًّا مع درجة حضور الرُّوح الحضاريِّ لهذه الأمَّة ومكانتها في السُّلَّم الحضاري. وعلى كلِّ حال فإنَّ الأمم العاجـزة عن المحافظة على جـوهر كينونتها وروحها الحضاري والدِّفاع عن خصـوصيَّتها، أي القابلة للذَّوبان في أيِّ محلول حضاريٍّ غريب عنها، فإنَّها غير جديرة بالبقاء، ولن تجد من يأسف عليها.‏
                  في مواجهة الغزو‏
                  ولكن، هل فيما سبق؛ بعضه أو كلُّه، ما يسوغ الاستكانة والاستسلام ؟‏
                  ذهب ميشيل كلوغ إلى أنَّ العولمة "لم تعمل على خلق موحَّد، فهي ليست مرادفاً لتعبير "عالم واحد"، بل هي تتجه أكثر فأكثر إلى خلق نظام متشابك لعوالم متَّصلة، أي مترابطة فيما بينها"(41) . ورأى أيضاً أنَّ "العولمة الثَّقافيَّة لا تنتج ثقافة عالميَّة، ولكنَّها تنتج بالأحرى كوكباً تختلط فيه الثَّقافات، وتتعايش، أو تتصارع، ففي كلِّ مكان تقريباً، أينما ذهب المرء، من السَّهل عليه أن يعثر على مطعم صيني، أو مكسيكي، وعلى مطعم هندي، وعلى بائع للسَّمك والبطاطا والهمبرجر الأمريكي، لكنَّنا بعيدون جدًّا عن عالم تقدم فيه المطاعم وجبة واحدة"(42) . والحقُّ أنَّ هذا الكلام بشقِّه الأول صحيحٌ تاريخياً ومنطقياً، ولكنَّ الثَّقافة ليست هي المطعم أو المشرب، إنَّها أشياء أخرى كثيرة يقف الطَّعام في ملحقها.‏
                  ولمثل ذلك ينبِّهنا بنيامين باربر إلى أنَّ "الهيمنة في مجال نظم الأفكار ربَّما ثبت أنَّها أشد أهمِّـيَّة من السَّيطرة على الوسائط والأدوات [التِّقانيَّة]، لأنَّ الثَّقافة تفوق في أهمِّـيَّتها كلَّ أنواع الأسلحة ـ ولعلَّها فكرة جديرة بالاهتمام فعلاً كما يرى باربر ـ فما مدى قدرات البنتاجون إذا ما قورنت مع عالم ديزني ؟ ـ ولكنَّه وقع أيضاً في مزلق الطَّعام عندما تابع قائلاً: هل يستطيع الأسطول السَّادس أن يباري الـ"سي إن إن" ؟ مطاعم الماكدونالد في موسكو وزجاجات الكوكا كولا في الصِّين أنجزت ما لم يستطع الاستعمار المسلَّح إنجازه. ليست السِّلع وحدها وإنَّما أيضاً أسماء الماركات المسجَّلة هي ما يحدث الفوارق. الماركات تحمل معها صوراً لأنماط من العيش مما يغيِّر المدركات والمنظورات ويشكِّلُ تحدِّياً لمعطيات السُّلوك. ذلك هو مسرد الإغواء في الأفكار المشتركة لعالم الماك"(43) ...‏
                  إنَّ المشكلة في حقيقة الأمر أكثر تعقيداً وتشابكاً مما نتصوَّر، لأنَّ مدلول الثَّقافة بالمعنى المطروح هنا يتعدى مدلوله الحرفي إلى عمقه الدَّلالي من حيث صلاته مع مختلف شبكات المجتمع أو الأمَّة، ولذلك كان من المشكلات الثَّقافيَّة "أنَّ العديد من المؤسَّسات في بلدان أوربا الصِّناعيَّة المتقدِّمة كفرنسا وإيطاليا وأَلمانيا والسُّويد مثلاً، بدأت تعاني من صعوباتٍ حقيقيَّةٍ، وتقلقُ بصورةٍ جدِّيـَّةٍ، على حضورها الثّقافي، في مجالات السِّينما والنَّشر والاتِّصال ومنتجات وسائل الإعلام الأُخرى؛ المرئيَّة والمسموعة والمكتوبة. ذلك لأَنَّ قدرتها التَّنافسيَّة تتراجعُ أَكثر فأكثر أَمامَ القُوى والإمكانات الماليَّة الهائلة الَّتي يستحوز عليها العمالقة المتربِّعون في ميادين الإنتاج السِّينمائي والتِّلفزيوني والطِّباعة والنَّشر وأوتوسترادات الاتِّصال، بفعل تحكُّمهم بشبكات التَّسويق والتَّوزيع والانتشار والعرض معاً"(44) .‏
                  ولذلك لا نبالغ إذا قلنا إنَّ الاستكانة والتَّسليم أمرٌ غير مقبول قطعيًّا ولا يجوز أن يسوَّغ أبداً، فمن واجب الأمَّة؛ أي أمَّة أن تحمي ذاتها وتدرأ عنها الأخطار التي تهدَّدها أيًّا كانت، ولا يجوز أن يكون ذلك بالانغلاق والتَّقوقع، كما لا يكون بالانفتاح غير المشروط ولا المدروس، بل لنقل بالتَّفريط. لأنَّ النَّتائج النَّاجمة عن ذلك، وإن لم تهدد وجود الأمة، فإنَّها جدُّ خطيرة على البنية الفكرية والثَّقافيَّة والاجتماعيَّة ... وقد تترك من الآثار السَّلبيَّة ما يحتاج إلى عقودٍ مديدة لمحوها أو تجاوزها، و"على قاعدةٍ من هذا القلقِ الجدِّي، شهدنا منذ سنواتٍ خمس نوعاً من حربٍ حقيقيَّةٍ، كانت الثَّقافة فيها مع منتجاتها، هي موضوع المعركةِ وحلبتها. ولم يكن التَّعبيرُ الأَوحد عن هذه الحرب، خلال المناقشات والسِّجالات(45) المرافقة لمفاوضات الجات) الأَخيرة وإقرار الاتِّفاقات بشأنها، تمسُّك بعض البلدان كفرنسا وكندا مثلاً بما سمِّيَ بـ الاستثناء الثَّقافي ـ Exception Culturelle )"(46) . وكذلك الأمر، كما يحاول روثكوبف أن يصوره بتهكم، فقد "أصدرت كلٌّ من فرنسا وكندا قوانين تحظر نشر ونقل مواد أجنبية ـ أي أمريكيَّة بالطَّبع ـ مأخوذة من الآثار الصِّناعيَّة عبر حدودها إلى بيوت مواطنيها. وليس من الغريب أن تقوم الحكومات المركزيَّة؛ إيران الأصوليَّة، والصِّين الشِّيوعيَّة، وسنغافورة ذات تجربة التَّخطيط النَّاجحة، بالسَّعي بقوَّة لتقييد وصول برامج [الحاسوب] إلى مواطنيها، وهدفها الصَّريح هو إبعاد ما يبثُّه الأمريكيُّون من وجهات نظر سياسيَّة، وعادات، وتلوث أخباري، كما يقال في أنباء عدَّة من الشَّرق الأوسط"(47) .‏
                  إنَّ هذا السلوك القهري على عدم صوابيَّته المطلقة قد يكون ضروريًّا، ومهماً، ولكنَّه ينبغي أن يكون واعياً عندما يمارس، ذلك أنَّ إغلاق الأبواب والمنافذ أشد خطراً من فتحها، وما حدث في المنظومة الاشتراكيَّة عبرة لمن يعتبر.‏
                  إنَّ أهمَّ ما نطلبه هنا هو الوعي، الوعي الحقيقي لا الوعي الزَّائف. فالوعي هو الذي يحقِّق الانتماء.‏
                  * * *‏
                  (1) ـ دافيد روثكوبف: أستاذ العلاقات الدُّوليَّة في جامعة كولومبيا، الذي شغل منصباً مهمًّا في وزارة الخارجيَّة الأمريكيَّة إبَّان الفترة الأولى لإدارة كلينتون.‏
                  (2) ـ دافيد روثكوبف: في مديح الإمبرياليَّة الثقافيَّة ـ ص 27.‏
                  (3) ـ م.س ـ ص 30.‏
                  (4) ـ ميشيل إدَّه: مستقبلنا العربي وتحدِّيات العولمة ـ ص 14ـ15.‏
                  (5) ـ دافيد روثكوبف: في مديح الإمبرياليَّة الثقافيَّة ـ ص 29.‏
                  (6) ـ م.س ـ ص 29.‏
                  (7) ـ م.س ـ ص 35 ـ 36.‏
                  (8) ـ م.س ـ ص 36.‏
                  (9) ـ م.س ـ ص 32.‏
                  (10) ـ م.س ـ ص 27.‏
                  (11) ـ م.س ـ ص 30.‏
                  (12) ـ م.س ـ ص 36.‏
                  (13) ـ ميشيل إدَّه: مستقبلنا العربي وتحدِّيات العولمة ـ ص 16.‏
                  (14) ـ بنيامين باربر: عندما تأكل العولمة الدَّولة الوطنيَّة من فوق ـ ترجمة؛ أحمد مغربي ـ ضمن جريدة: السَّفير ـ العدد 8064 ـ الخميس 6/8/1998م.‏
                  (15) ـ علي حرب: صدمة العولمة في خطاب النَّخبة ـ م.س.‏
                  (16) ـ م.س ـ ذاته.‏
                  (17) ـ م.س ـ ذاته.‏
                  (18) ـ صامويل هانتغتون: الغرب ... إنَّه فريدٌ ولكنَّه ليس كلِّيـًّا جامعاً ـ ص 61.‏
                  (19) ـ يوسف كرم: تاريخ الفلسفة اليونانيَّة ـ دار القلم ـ بيروت ـ د.ت ـ ص12.‏
                  (20) ـ م.س ـ ص 20.‏
                  (21) ـ م.س ـ ص63.‏
                  (22) ـ صامويل هانتغتون: الغرب ... إنَّه فريدٌ ولكنَّه ليس كلِّيـًّا جامعاً ـ ترجمة؛ فاضل جكتر ـ ضمن مجلَّة؛ أوروبا والعرب ـ العدد 166 ـ167 ـ أَيَّار ـ حزيران ـ 1997م ـ ص56.‏
                  (23) ـ ابن خلدون: المقدمة ـ المكتبة التجارية الكبرى ـ القاهرة ـ د.ت ـ ص147.‏
                  (24) ـ صامويل هانتغتون: الغرب ... إنَّه فريدٌ ولكنَّه ليس كلِّيـًّا جامعاً ـ ص 61.‏
                  (25) ـ لوقيانوس السُّميساطي: محاورات لوقيانوس السُّميساطي ـ ترجمة؛ سعد صائب ـ دار طلاس ـ دمشق ـ 1989م ـ والمقبوس في ص 8.‏
                  (26) ـ م.س ـ ص 348.‏
                  (27) ـ انظر ذلك في: يوسف كرم: تاريخ الفلسفة اليونانيَّة. و نواف حردان: صانعو تراثنا ـ دار بيسان ـ بيروت. و زوني إيلي ألفا: موسوعة أعلام الفلسفة ـ دار الكتب العلميَّة ـ بيروت ـ 1992م.‏
                  (28) ـ للمزيد عنهم انظر: الزركلي: الأعلام ـ دار العلم للملايين ـ بيروت.‏
                  (29) ـ يوسف كرم: تاريخ الفلسفة الحديثة ـ ص 14 ـ 15.‏
                  (30) ـ يوسف كرم: تاريخ الأوربيَّة الوسيطة ـ ص 208.‏
                  (31) ـ م.س ـ ص92. وهو إنجليزيٌّ تثقف بباريس واستكمل ثقافته في الأندلس ثم البلاد العربية، وترجم عن العربيَّة.‏
                  (32) ـ م. س ـ ص 94. ساهم بنقل الكثير من الكتب العربيَّة إلى اليونانيَّة بالتَّعاون مع ابن داوود.‏
                  (33) ـ م. س ـ ص128 ـ 129. ترجم عن العربية بعض كتب ابن سينا وابن رشد، وإليه يرجع الفضل الكبير في ولادة الرشدية المسيحيَّة.‏
                  (34) ـ م.س ـ ص129. تعلم العربيَّة بطليطلة ونقل عنها كتباً كثيرة.‏
                  (35) ـ م. س ـ ص 133.‏
                  (36) ـ صامويل هامتنغتون وآخرون: صدام الحضارات ـ ص20.‏
                  (37) ـ دافيد روثكوبف: في مديح الإمبرياليَّة الثقافيَّة ـ ص 27.‏
                  (38) ـ علي حرب: صدمة العولمة في خطاب النَّخبة ـ م.س.‏
                  (39) ـ صامويل هانتغتون: الغرب ... إنَّه فريدٌ ولكنَّه ليس كلِّيـًّا جامعاً ـ ص55 ـ 56.‏
                  (40) ـ بنيامين باربر: عندما تأكل العولمة الدَّولة الوطنيَّة من فوق ـ م.س.‏
                  (41) ـ ميشيل كلوغ: أربع أطروحات حول العولمة ـ ترجمة؛ محمد سيف ـ ضمن مجلة؛ الثقافة العالميَّة ـ ص 56.‏
                  (42) ـ م.س ـ ص 57.‏
                  (43) ـ بنيامين باربر: عندما تأكل العولمة الدَّولة الوطنيَّة من فوق ـ م.س.‏
                  (44) ـ ميشيل إدَّه: مستقبلنا العربي وتحدِّيات العولمة ـ ص 16.‏
                  (45) ـ في الأَصل: السجلات، ولعلَّ الصَّواب ما أَثبتناه.‏
                  (46) ـ ميشيل إدَّه: مستقبلنا العربي وتحدِّيات العولمة ـ ص 16.‏
                  (47) ـ دافيد روثكوبف: في مديح الإمبرياليَّة الثَّقافيَّة ـ ص31.‏

                  تعليق


                  • #10
                    رد: انهيار مزاعم العولمة

                    الفصل الثَّالث : ســــلطة الدَّولة وســــيادتها في ظلِّ العولمة
                    على الرَّغم من أَنَّ عمليَّة العولمة قد ضربت بجذورها في الأَعماق في بعض الميادين، وتخطَّت السِّيادة القوميَّة للدُّول في بعض القطاعات؛ كالمال والإعلام والثَّقافة، إلاَّ أَنَّ الدَّولة القوميَّة مازال لها الكلمة الفصل في مسائل أُخرى.‏
                    فيليب جوميت‏
                    لقد كان سيل العولمة والمعلوماتيَّة يجرفني دائماً إلى ترجيح نعي سلطة الدَّولة وسيادتها، فقد أَصبحت الصُّورة الآن واضحةً كما هو شائعٌ وكما يحاول الكثيرون أن يحشروا ذلك في الأذهان حشراً : النَّوافذُ كلُّها مفتوحةٌ؛ على الدَّاخل من الدَّاخل والخارج، وعلى الخارج من الخارج والدَّاخل. وعمَّا قريب لن يكون هناك للأَسرار آبارٌ دونها الحُجُب، فبفضل وسائل الإعلام وتقنيَّات الاتِّصال، بما وصلا إليه من تطوُّراتٍ عجائبيَّةٍ مذهلةٍ، انشقَّت السَّتائر، وانكشفت الحجب، وأَصبح بمقدور الفرد؛ كلِّ فرد أَن يعرف ما يريد في السَّاعة الَّتي يريد، وفي مكنته الآن، وبكلِّ بساطة، أَن يشارك في عمليَّات صنع القرار بكلِّ مراحله؛ على نحو مباشر أَو غير مباشر. والسُّؤال الذي لا ينفكُّ يطرح ذاته في إثر ذلك:‏
                    "هل تستطيع الدَّولة الحفاظ على مكانتها في ظلِّ هذا المناخ، وخصوصاً ثورة الاتَّصالات الكبرى في العالم، الَّتي نزعت إلى التَّعامل مع الكرة الأَرضيَّة كوحدةٍ اتِّصاليَّةٍ واحدةٍ عَبْرَ الحدود القوميَّة وفوقها، وجعلت في إمكان الإنسان التَّعامل بمفرده مع العالم مباشرةً، وليس من خلال حكومةٍ أَو دولة؛ عَبْرَ شركة السِّياحة أَو طبق الاستقبال التِّلفزيوني وغيرها ؟"(1) . بل لنقل بمعنى آخر: ما الذي ستستطيع الدَّولة أن تفعله في ظلِّ هذا التَّراكم الهائل والتَّقدُّم المعجز للتِّقانه والاقتصاد ؟‏
                    مقدِّمات العلاقة‏
                    إنَّ الخطاب الأكثر رواجاً وانتشاراً الآن عن أثر العولمة في تآكل سلطة الدَّولة وتلاشي سيادتها يتمركز أساساً حول محاور تعيُّنات العولمة على مختلف صعدها؛ المعلوماتيَّة والاقتصاديَّة والثَّقافيَّة ... وما يمكن أن يلزم عن ذلك من نتائج وآثار تنصبُّ في بوتقة سلطة الدَّولة وسـيادتها القوميَّة، فالوقائع تقول إنَّه مهما أَغمضنا أَعيننا عن الحقيقة فإنَّها إن لم تباغتنا باقتحام أَعيننا ستفاجئنا بنثر أَشعَّتها في مخيِّلاتنا وأَذهـاننا. وأَثر المتغيِّرات الجديدة في الدَّولة وسلطة الدَّولة حقيـقة لن تقبل الشَّك؛ اليوم قبل الغد.‏
                    إذا كانت نظريَّة التَّدخُّل الَّتي وضعها جون ماينرد كينـز لتحمي الرَّأسماليَّة أَمام مدَّ الثَّورات العماليَّة ولمواجه سطوة بخور الاشتراكيَّة السِّحريِّ على الأَذهان الحالمة فإنَّ الرَّأسماليَّة الآن هي التي تقود مواكب تمزيق سلطة الدَّولة وسيادتها وتحول لا دون قدرتها على أيِّ تدخل بل دون امتلاكها مقوِّمات البقاء والوجود... ومن ذا الذي يستطيع إنكار أنَّ حكوماتٍ عديدةً " تواجه الآن وضعاً تتوافر لها فيه السِّيادة القانونيَّة دون سيادة فعليَّة على أراضيها ؟ ـ بل دعونا نقول، وبشكل عام ـ: إنَّ النِّظام الويستفالي(2) ـ Westphalian System لسيادة الدَّولة أصبح يبدو أضعف كثيراً قرب نهاية هذا القرن عمَّا كان عليه عند منتصفه"(3) .‏
                    ولذلك لا يتورَّع فيليب جوميت عن إبداء مخاوفه "من ذوبان الدَّولة القوميَّة بحيث تفقد سيادتها المطلقة، وخصوصاً الدُّول الضَّعيفة، علماً بأنَّ العولمة قد بدأت باختراق السِّيادة القوميَّة حتَّى الدُّول الكبيرة، ولكن بنسب متفاوتة، وفي مجالات معيَّنة، بينما ستبقى الدَّولة لا عباً رئيسيًّا بين لاعبين عديدين، ولكنَّها لن تكون ذات سيطرة مطلقة"(4) . بينما يحيلنا سيَّار الجميل بالتفاتةٍ منه، لا تخلو من المبالغة المحاطة بالحذر الذكيِّ، إلى الجغراتيجيَّات المهمَّة التي تزدهر بالمجالات الحيويَّة جغرافيًّا مع مقوِّماتها، والقابلة مع قوميَّاتها للانفتاح أوَّلاً، وللاختراق ثانياً، من قبل الاستقطاب العالمي، وذلك لأنَّها تؤدِّي بشكل لا مندوحة عنه إلى المركزيَّة المزدوجة المزدهرة؛ مركزيَّة السُّوق. على الرُّغم مما سيحدث فيها من تمرُّدات وهزَّات وانتفاضات ودمارات متعدِّدة ومتنوعة: إقليميَّة ومحليَّة وأهليَّة ... دينيَّة وطائفيَّة وعرقيَّة وسلطويَّة ... الخ، أي باختصار طوباويَّة ذات هيمنة عالية ومحكمة على المجالات الحيويَّة في العالم، تقود بالضَّرورة إلى احتدام الصِّراعات بين المراكز والنِّقاط والزَّوايا والمحاور والأطراف كأسلوب يؤدِّي في النَّتيجة إلى التَّفكُّك والتَّفتيت، وستبدو الصُّور سياسيًّا واجتماعيًّا وإناسيًّا ـ Anthropologycal كما لو كان المجال الحيوي ـ Lebensraum؛ أي مجال، مهترئاً في سيادته الوطنيَّة، ومتناقضاً في هويَّته القوميَّة، ومشلولاً في بنيته الجغرافيَّة وتكويناته التَّاريخيَّة لحساب هيمنة النِّظام الدُّولي القادم الذي يعرف بالجديد(5) .‏
                    لا شكَّ في أنَّ لهذا الاستنتاج مقدِّماته الواقعيَّة فلقد " أَدَّى التَّقدُّم التِّقاني ـ Technology إلى جعل الحدود الوطنيَّة مَسَامِيَّةً بدرجةٍ أَكبر. فالدُّول تحتفظُ بسيادتها، ولكنَّ الحكومات عانت من تآكل سلطاتها، فهي الآن، على سبيل المثال، أَقلَّ قدرةً على السَّيطرة على انتقال الأَموال أَو المعلومات عَبْرَ الحدود، وهي تواجه ضغوط العولمة على أَحد المستويات، كما تواجه على مستوى آخر الحركات الجماهيريَّة، وكذا، في بعض الحالات، المطالبة بنقل السُّلطات المركزيَّة إلى الأَقاليم، إن لم يكن الانفصال"(6) . ذلك أنَّه "إذا كان ممكناً أَن يحمل الإنسان بطاقةً بلاستيكيَّةً؛ ماستر كارد، أَو فيزا، أَو غـيرها ) ويستخدمها بالطَّريقة نفسها في عواصـم العـالم كافَّةً، فإنَّ الحاجـة إلى الدَّولة ونفوذها أَصبحت أَقلَّ من ذي قبـل. وإذا كان الفردُ، والهويَّة النَّفسيَّة والعاطفيَّة الَّتي يندرجُ تحتها، يمكنها التَّعامل مـع العالم مباشرةً دون وسـيط، فإنَّه لم يعد مبرَّراً البقاء داخل اتِّحادات مصطنعة لا تُكنُّ الشُّعوب فيها كثيراً من الودِّ لبعضها البعض"(7) ، وكذلك أَمر الشُّعور بالأَمن والأَمان والاستقلال والاستقرار والوجود ... ولهذه الأَسباب كان انشطار اتِّحادات كبرى مثل: الاتِّحاد السُّوفياتي والاتِّحاد اليوغسلافي وإثيوبيا وقريبا المملكة المتَّحدة وغيرها ممَّا سيأتي دوره في حينه. وللأَسباب ذاتها أَيضاً نجد من يطرح مسألة "المواطنيَّة على أُسسٍ جديدةٍ لا تعرف الحدود والجنسيَّات"(8) .‏
                    نظريَّات في تآكل الدَّولة‏
                    الحقُّ أنَّ فكرة تآكل سلطة الدَّولة وانتهاء دورها بسبب سلطة رأس المال وهيمنة الاقتصاد الحر فكرة قديمة تكرَّرت غير مرَّةٍ من مطالع هذا القرن، بغض النَّظر عمَّا جاء به كارل ماركس، ففي عام 1907م "شكا مسؤولٌ بروسيٌّ من أنَّ أصحاب رأس المال المتنقِّل، في العصر الحالي للتِّجارة العالميَّة و[الهاتف] والتِّلغراف، غير مقيَّدين على أيِّ نحوٍ بالإقامة في مناطق محدَّدة، وإذا ما ارتفعت حاجة الدَّولة إلى نشاطهم داخلها ارتفاعاً كبيراً فسوف يقترب أكثر الخطر المتمثِّل في أن يفركوا تراب بروسيا من أقدامهم ويرحلوا. وفي العام 1945م كتب ا.هـ. كار، قبيل انتهاء الحرب العالميَّة الثَّانية، يقول: إنَّ سيادة الدَّولة يجري تقويضها من خلال التَّطوُّرات [التِّقانيَّة] الحديثة التي جعلت الأمَّة في سبيلها للزَّوال [بوصفها] وحدةً للتَّنظيم العسكري والاقتصادي، والتي تركِّزُ على نحوٍ متسارع القرار المؤثِّر والسَّيطرة الفعليَّة في أيدي الوحدات الكبيرة متعدِّدة القوميَّات. وفي العام 1969م قال الاقتصادي البارز تشارلز كندلبرجر إنَّ الدَّولة القوميَّة أوشك دورها على الانتهاء [بوصفها] وحدةً اقتصاديَّة"(9) .‏
                    وقد كثر الحديث مؤخَّراً من كثيرٍ من الكتَّاب والمفكِّرين عن مكانة الدَّولة في ظلِّ عصر العولمة، وأكَّد معظمهم أنَّ سلطة الدَّولة وسيادتها آيلة إلى التَّآكل والسُّقوط تحت ضربات امتداد سلطة رأس المال العابر للقوميات ونفوذه، ومعظم الذين خاضوا هذا الغمار مفكِّرون معروفون أثارت كتبهم ضجَّة عالميَّة، ومن أهمِّهم فرانسيس فوكوياما ـ Francis Fukuyama في كتابه: نهاية التَّاريخ والإنسان الأخيرة)، وهنتنجتون ـ Huntington في كتابه صدام الحضارات)، وكينشي أوماي ـ Kenichi Ohmae في كتابه: نهاية الدَّولة القوميَّة: صعود الاقتصاديَّات الإقليميَّة)، وبنيامين باربر ـ Benjamin Barber في كتابه: الجهاد ضدَّ السُّوق الكونيَّة)، وروبرت كابلان ـ Robert Kaplan في كتابه: نهاية الأرض: رحلة إلى بدايات القرن الحادي والعشرين). وأخيراً، ومن وجهة نظر مختلفة تماماً، نجد ألفين توفلر ـ Alvin Toffler في سلسلة كتبة التي بدأها بـ صدمة المستقبل) وكان آخرها بناء حضارة جديدة).‏
                    أمَّا فرانسيس فوكوياما الذي يصرِّح بأنَّ محاولته إنَّما هي نوعٌ من التَّفسير الماركسي للتَّاريخ فإنَّه ينطلق من العامل المعرفي ودور التَّجانس الثَّقافي على المستوى العالمي في كسر أطواق سيادات الدُّول، إذ تسود ثقافة عالميَّة عابرة للحدود، قياساً على الشَّركات عابرة القوميَّة، "ويصبح لزاماً على الأفراد أن يعيدوا باستمرار تأهيل أنفسهم لمجالات عملٍ جديدة، في مدنٍ جديدة. ويتلاشى الإحساس بالهويَّة الذي توفِّره الإقليميَّة والمحليَّة، ويجد النَّاس أنفسهم ينسحبون من داخل العالم [الصِّغري] لأسرهم والذي يحملونه معهم من مكان لمكان"(10) . وهذا الإحساس الآخذ في التَّنامي في ذوات الأفراد يقود إلى تغيرات جذرية في طرائق التَّفكير وأولويَّات الحياة وأوَّليَّاتها فينمو الشُّعور بالتَّجانس الثَّقافي العالمي وبتماثل العلاقات الاجتماعيَّة عابرة الحدود والقوميَّات بفعل العامل الاقتصادي إذ إنَّ القوى الاقتصاديَّة التي استطاعت أن تساعد في الماضي على "ترسيخ دعائم النَّزعة القوميَّة من خلال إحلال الحواجز القوميَّة محل الحواجز الطَّبقيَّة وخلقت كيانات ممركزة متجانسة لغويًّا في مسار تلك العمليَّة ـ فإنَّ هذه القوى الاقتصاديَّة ذاتها ـ تساعد في الوقت الحاضر على تفكُّك الحواجز القوميَّة[وانحلالها] من خلال إنشاء سوق واحدة، عالميَّة متكاملة"(11) . ليصل من خلال ذلك إلى أنَّ نهاية سيادة الدَّولة القوميَّة أمر واقعٌ لا محالة، إن لم يكن في هذا الجيل ففي الجيل التَّالي وإن لم يكن في التَّالي ففي الذي يليه... إنَّه واقع لا محالة.‏
                    أمَّا صاموئيل هنتنجنون فقد اتَّخذ من العامل الثَّقافيِّ مرتكزاً أساسيًّا له للقول بتآكل سلطة الدَّولة فهو يرى أنَّ "عامَّة النَّاس في البلدان غير الغربيَّة يظلُّون متشبثين بصورة عميقة بثقافة البلاد الأصليَّة، بيد أنَّ هذه العلاقات قد انعكست الآن، إذ يجري نزعٌ للطَّابع الغربيِّ وغرسٌ للطَّابع المحليِّ الأصلي في صفوف الصَّفوة في كثير من البلدان غير الغربيَّة، في الوقت الذي تصبح الثَّقافات والأساليب والعادات الغربيَّة ـ الأمريكيَّة عادة ـ أكثر شعبيَّة بين جماهير النَّاس"(12) . الأمر الذي يعني قابليَّة الجماهير للانفتاح على الثقافة الغربيَّة ـ الأمريكيَّة وانطواءها على إمكانيَّة التَّخلِّي عن الهويَّة الوطنيَّة بما ييسِّر عمليَّة تآكل سلطة الدَّولة وسيادتها القوميَّة، ولا سيَّما إذا ما أخذنا بعين النَّظر تضافر ذلك مع دور الدِّين كما يفهمه هنتنجتون في "التَّوحيد بين الحضارات"(13) ومع "أنَّ عمليَّة التَّحديث الاقتصادي والتَّغيير الاجتماعي في كلِّ أنحاء العالم تفصل الشُّعوب عن الهويَّات المحليَّة القديمة والرَّاسخة، كما تضعف الدَّولة / الأمَّة [بوصفها] مصدراً للهويَّة"(14) .‏
                    أمَّا رؤية كينشي أوماي لتآكل سيادة الدَّولة القوميَّة وانتهاء دورها فإنَّه يقوم على أنَّ " انتشار السُّوق والإيقاع السَّريع للتَّغيُّر [التِّقاني] يضعفان العقد الاجتماعي بين الأفراد والأمم. وتؤدِّي عولمة رأس المال إلى مجانسة الثَّقافات، ومن ثمَّ إزالة الفوارق بين القوميَّات أو الحضارات. ويشير أوماي إلى هذه الظَّاهرة على أنَّها إضفاء الطَّابع الكاليفورني ـ Californiaization لتفضيلات الفرد، أي ذلك التَّوليف للذَّوق الذي يطمس الفوارق بين الدُّول ويمحو العداوات التَّاريخيَّة. جاعلاً الحروب بين الدُّول أمراً أقلَّ احتمالاً، مُلغياً بذلك إحدى وظائف الدَّولة القوميَّة الأساسيَّة. ويؤدِّي انتشار رأس المال العالمي في الوقت ذاته إلى فرض تقييدات اقتصاديَّة جديدة على دور الدَّولة في الشؤون الاقتصاديَّة"(15) .‏
                    وبمعنى مشابه يذهب علي حرب إلى القول: "مع العولمة حيث الزَّمان الفعلي الذي يجري بسرعة الضَّوء يكتسح المكان التَّقليدي بأبعاده الثَّلاثة، بذلك يتعولم المكان وتزول الفروق بين الدَّاخل والخارج، فتتشكَّل طوائف جديدة هويتها السُّوق ووطنها حيث تصل منتجاتها الأثيريَّة، وتتراجع الجغرافيا السِّياسيَّة التي كانت تنظم العلاقات بين الدُّول على أساس الأمداء والمسافات، لصالح علاقات جديدة تقوم على خرق الحدود الوطنيَّة عبر حرب المعلومات الإلكترونيَّة"(16) .والفرق بينهما وبين فوكوياما أنَّ الذي يقود إلى كسر الحدود وتحطيم الحواجز الجغرافيَّة،عندهما،هم أصحاب رأس المال والمصلحة السَّياسيَّة والاقتصاديَّة بينما كان السَّبب عند فوكوياما هو تغير ماهيَّة الثَّقافة وانمحائها لصالح ثقافة عالميَّة عابرة للحدود.‏
                    أمَّا بنيامين باربرـ فهو يرى أنَّ حركيَّة "عالم الماك" تنهض بها أربعة حوافز هي: السُّوق والموارد وتقانة المعلومات والبيئة. وقد قلَّصت هذه الحوافزُ العالمَ وتفَّهت شأن الحدود، وأحرزت انتصاراً مهمًّا على الانقسام والخصوصيَّة، بل بالمعنى [الأكثر دقِّة] دحرت الشَّكل الأكثر تقليديَّة للخصوصيَّة: الدَّولة الوطنيَّة(17) . وهو يقتفي خطى كارل ماركس في طرحه للآليَّة التي تقوم فيها السُّوق الاقتصاديَّة العالميَّة الشَّاملة بتفتيت الدَّولة القوميَّة، "فالعولمة تخلق مصادر جديدة للقوَّة الاقتصاديَّة وثقافة كونيَّة، مجرِّدةً بذلك الدَّولةَ القوميَّة من مبررات وجودها الاقتصاديَّة والسِّياسيَّة"(18) . واستناداً إلى قوله بأنَّ كلَّ قوى العولمة وحركيَّاتها "تدفع الأمم والشُّعوب صوب شبكة اقتصاديَّة عالميَّة متجانسة، كأنَّها مشروع لتحويل الأرض إلى "عالم الماك" على اسم ماركة [الحاسوب] الشَّهيرة)"(19) ، يضع أمامنا تنبؤاً حتميًّا يقول فيه: "إنَّ تنبؤي بأنَّ الجهاد ضدَّ العولمة) سوف ينهزم في النِّهاية إن لم يكن في أيِّ وقت قريبٍ) أمام السُّوق الكونيَّة يستند كلِّـيَّةً تقريباً على القدرة طويلة الأمد للمعلوماتيَّة الكونيَّة وللثَّقافة الكونيَّة على التَّغلُّب على ضيق الأفق الفكري وعلى إدماج أو إزالة الكيانات الصَّغيرة"(20) .‏
                    أمَّا روبرت كابلان فإنَّه يختلف إلى حدٍّ ما عن الآخرين في أنَّه يتحدَّث عن تآكل سلطة الدُّولة من الدَّاخل، أي من النَّاحية الثَّقافيَّة، وبمعنى آخر من حيث اقتحام الدِّيمقراطيَّة أجهزة الدَّولة على الرُّغم منها، ولا سيَّما في العالم الثَّالث، ذلك أنَّ العديد من المناطق التي وصفها، "وبخاصَّة غرب إفريقيا وآسيا الوسطى، لا يبدو أنَّ هناك فارقاً كبيراً اليوم بين الدُّول والجيوش، والجيوش والميليشيات، وعصابات الجريمة المنظَّمة، فالسُّلطة الجبريَّة أصبحت، في العالم النَّامي، سلعة تباع وتشترى. ويعدُّ انهيار احتكار الدُّول للعنف الجبري شاهداً قويًّا على تآكل الدَّولة القوميَّة وتفتُّتها"(21) . ولكنَّ كابلان لا ينفي أثر الاقتصاد والسُّوق الكونيَّة في تآكل سلطة الدَّولة، ولا سيَّما الدُّول التي تقاوم سياسات عدم التَّدخُّل الحكومي، فهو يقول "إنَّ هذه السُّوق تفتِّت، في أغلب الحالات، احتكار الدَّولة للعنف الجبري. ويقوِّض الفسادَ والسَّعيَ إلى نيل الحظوة تماسكُ المؤسَّسات المنوط بها مقاومة توسُّع السُّوق الحرَّة. وينوِّه كابلان هناك [بأنَّ] الحدود وجدت في الأصل من أجل فرض الضَّرائب على الأثرياء ولتوفير الوظائف والدُّخول الإضافيَّة لبيروقراطيي الحكومة"(22) .‏
                    أمَّا توفلر فإنَّه يقترب من كابلان من حيث الفكرة، ويبتعد عنه وعن الآخرين من حيث المبدأ والمراد، فالدِّيمقراطيَّة هي الفكرة المحوريَّة في تفتُّت سلطة الدَّولة القوميَّة سيادتها، ذلك أنَّه ينطلق من مسلَّمة عنه وهي أنَّ المجتمع القادم أميل للتَّفتُّت، بل هو آيل إلى ذلك لا محالة، لأنَّ البقع الفسيفسائيَّة لا بدَّ أن تتمايز عن بعضها بعضاً، "ومع تفتيت المجتمع تتزايدُ الجماعات وتتنوَّع، وتزيدُ الأَقلِّيـَّات الَّتي يجب أَن تعبِّرَ عن نفسها، شريطة أَلاَّ تسيطر أَقليَّةٌ"(23) . على الرُّغم من أنَّه يرى أنَّ "مبدأ 51% لتمثيل الدَّائرة الانتخابيَّة ليس إلاَّ أَداة لتقديرٍ كمِّيٍّ خالص، لا تعطي أَيَّة أَدلَّةٍ عن آراء النَّاخبين"(24) . وهو يعتقد أنَّ هذا "التَّنوُّع [لا يفضي] إلى تعاظم حدَّة التَّوتُّر والصِّراع الاجتماعي، بل إنَّه يمكن أَن يهيئ المناخ المناسب إذا وجدت تنظيمات وترتيبات اجتماعيَّة ملائمة، يتعاون الأَفراد من خلالها"(25) . ولذلك "من الضَّروري أَن يفتح النِّظام منافذ لمزيدٍ من سلطة الأَقلِّيـَّات، وأَن يسمح للمواطنين بأَن يلعبوا دوراً أَكثر مباشرةً في إدارة شؤون الحكم، ويهدف هذا المبدأ الحيويُّ لساسة الغد إلى الخروج من مأزق اختناق القرار، بإشراك مزيدٍ من الأَطراف، وتغيير موقع صناعة القرار وفق ما تتطلَّبه المشكلات"(26) . وعلى الرُّغم من أنَّ ثمَّة مشكلاتٌ جمَّةٌ ومخاطر شتَّى ستنشأ عن اللامركزيَّة فإنَّ توفلر يرى أَنَّه لا بديل للسُّلطة الَّتي تريد تحقيق الرَّشاد والنِّظام والكفاءة الإداريَّة من تقديم " التَّنازل عن قدر محسوسٍ من السُّلطة المركزيَّة"(27) .‏
                    ولكن هل كانت الدِّيمقراطيَّة تنتظر العولمة أو موجة توفلر الثَّالثة كي تتحقَّق؟‏
                    يحاول ف. يرلوف، بأسلوبه الجدليَّ التَّعليقي، برهنة أَنَّ التَّعيُّن الواقعي للديمقراطيَّة محض وهمٍ لم يتحقَّق فقد بدا لنا، كما يقول " أنَّ الدِّيمقراطيَّة سوف تحل بمجرَّد حصولنا على إمكانيَّة التَّعبير عن أفكارنا بحريَّة. وقد حصلنا على ذلك، ولكنَّ الدِّيمقراطيَّة سوف تبقى مهمَّة المستقبل. وبدا لنا أنَّه مجرَّد تحرُّرنا من طوباويَّة المساواة سوف نمتلك الحريَّة. وفي الواقع، فقد امتلكنا لا مساواة عظيمة بين فئة صغيرة من الملاَّك حديثي العهد وبين أغلبيَّة الشَّعب المقموعة، أمَّا الحرِّيـَّة الحقيقيَّة فقد ظلَّت سراباً"(28) .‏
                    والحقُّ أنَّ الدِّيموقراطيَّة روح حضاريٌّ ملازم لروح الأمَّة ومستوى وعيها ورقيِّها الحضاريين، ولذلك فهي تنمو نماءً ذاتيًّا من أرضيَّة الأمَّة إلى سقفها أو من قاعدتها إلى قمِّتها، ولا يمكن استنباتها بالإكراه أو فرضها من قبل السُّلطة أو الخارج أو الظُّروف العالميَّة المرافقة أو الظروف الطَّارئة. وبالتَّالي فإنَّ المؤسَّساتيَّة لا يمكن أن تكون ذات فعاليَّة ديمقراطيَّة بنَّاءة إلاَّ إذا كانت ثمرة تجسُّد الوعي الحضاري سلوكاً واقعيًّا. وعلى ذلك فإنَّ ادِّعاءات توفلر تعوزها الدِّقة والمصداقيَّة، لأنَّها تفترض تساوي الأمم والشُّعوب في الوعي والرُّقي الحضاريين.‏
                    انهيار المزاعم‏
                    وهنا يمكننا أن نتساءل: ما مدى مصداقيَّة هذه الرُّؤى والآراء ؟‏
                    يتَّفق أصحاب هذه الكتب، وغيرهم من أصحاب النَّظريَّات والرُّؤى، في نقاط ويفترقون عن بعضهم في نقاطٍ أخرى من حيث أولويَّة العوامل المؤثِّرة في تآكل سيادة الدَّولة وسلطتها، فهم يختلفون في أنَّ كلاًّ من فوكوياما وكينشي أوماي وبنيامين باربر يؤكِّد دور قوى الاقتصاد وآليَّاتها المتعاظمة التَّاثير والفعاليَّة في كسر أطواق الحدود والحواجز أمام الصِّلات التِّجاريَّة وما يلعبه ذلك من دور حاسم في تفتيت السيادة القوميَّة للدَّولة انطلاقاً مما يحاولون ترسيخه بوصفه مقولة وهو أنَّ "الدَّولة القوميَّة تفقد مركزيَّتها في اقتصاد غير مرتبطٍ بالحدود"(29) . ونجد في الجانب الآخر أنَّ روبرت كابلان وهنتنجتون ودافيد روثكوب وإلى حدٍّ ما ألفين توفلر ويثيرون زوابع العامل الثَّقافي الذي يستنهض في النَّفس اتجاهات وميولاً انتمائيَّة وولائيَّة جديدة تحمل الفرد من ضيق حدود وجوده إلى وجودٍ أعم وأشمل هو الحضارة الإنسانيَّة والثَّقافة الشُّموليَّة للبشريَّة، التي ستطوي تحت معطفها، في المستقبل القريب أو البعيد، كلَّ ثقافات البشر بما يسمُّونه ثقافة العولمة، التي هي ثقافة الأقوى من غير شك، أو الثَّقافة الأمريكيَّة بالمعنى الضَّيق، والثَّقافة الغربيَّة بالمعنى الواسع.‏
                    وإذا ما استثنينا توفلر وروثكوبف وجدنا أنَّهم جميعاً ينطلقون من النَّظريَّة الماركسيَّة بشكل عام، ويستندون هنا بشكل خاص إلى إصرار ماركس على أنَّ الانتشار العالمي للرَّأسماليَّة سيؤدِّي إلى تآكل قوَّة الدَّولة وسيادتها ومن ثمَّ ضمورها، ذلك أنَّه يمكن القول طبقاً لكارل ماركس: "تعدُّ عولمة رأس المال عاملاً مناهضاً لسلطة الدَّولة القوميَّة من حيث إنَّه يضعف استقلاليَّة مؤسَّسات الدَّولة ويفكِّك الرَّوابط السِّياسيَّة بين الدَّولة وجمهور مواطنيها"(30) . هذا على الرُّغم من أنَّ الماركسيَّة ترى "أنَّ الدَّولة ظاهرة انتقاليَّة وزائدة للمجتمع المقسوم إلى طبقات مكرَّسة للزَّوال عندما تلغى الطَّبقات في الشِّيوعيَّة"(31) .‏
                    وإلى جانب توافقهم هذا أضافوا توافقاً آخر فيما بينهم تمثَّل في أنَّهم حاولوا أيضاً أن يلوا عنق التَّاريخ بتنبُّؤاتهم الحتميَّة التي توجب على التَّاريخ أن يسير كما ترى نظريَّاتهم، ولا عجب في ذلك فكارل ماركس فعل الشَّيء ذاته عندما سلسل الماضي بما يقود إلى تأكيد نظريَّته وأوجب على المستقبل أن يسير على المسار الذي رسمه له لأنَّه وحده الذي يعزِّز نظريَّته ويثبتها. ولكن لأنَّ أحداً غير ماركس ومريديه لم يحاول أن يفرض على التَّاريخ مساره لم يأبه التَّاريخ بما أمره به، ولعلَّه كان من الممكن أن يضع اقتراحه بعين الحسبان لو أنَّه قدَّم اقتراحاً.‏
                    وهذا، في حقيقة الأمر، أوَّل مقتل لهذه النَّظريَّات جميعها ذلك "أنَّ الآراء المؤيِّدة للحتميَّة الاقتصاديَّة لا تصمد أما التَّدقيق [التَّجريبي] أو التَّجريبي. فعلى المستوى [التَّجريبي نجد أنَّ القسم الأكبر من الدَّلائل المقدَّمة في تلك الكتب غير حاسمة. أمَّا من الوجهة النَّظريَّة فإنَّ القوى الاقتصاديَّة التي تطلقها العولمة ـ هذا إن نحن سلَّمنا بأنَّ العولمة جائحة لا مهرب منها ولا مناص ـ تفرض على البلدان قيوداً جديدة وليس أغلالاً تكبِّل حركتها، كما أنَّ العولمة تنشأ عنها استراتيجيَّات وأدوار جديدة للدَّولة القوميَّة"(32) .‏
                    صحيحٌ أنَّ "بثَّ الأقمار الاصطناعيَّة لا يحترم الحدود الوطنيَّة"(33) ، كما يقول بنيامين باربر، ولكنَّ الحدود الوطنيَّة غير مرتهنة بما تبثُّه هذه الأقمار لأنَّ ما تبثُّه الأقمار الآن كانت تبثُّه وسائل غيرها فيما قد مضى وربَّما بصورة أخطر مما يمكن أن تفعله الأقمار الاصطناعيَّة، وصحيحٌ أيضاً أنَّ تيد تيرنر صاحب شبكة تلفزيون CNN؛ أَحد أَغنى رجال الأَعمال في العالم، يتبرَّعُ لهيئة الأُمم المتَّحدة بمبلغ مليار دولار، ويشترط عليها كيفيَّة إنفاقها في محاربة الفقر ، لا لحلِّ أَزمتها الماليَّة. وفوق ذلك يوجَّه انتقاداته للولايات المتَّحدة بسبب تقاعسها عن تسديد ما يترتب عليها من أَموال للأُمم المتَّحدة(34) . فإنَّ هذا السُّلوك غير فريدٍ ولا نادرٍ في التَّاريخ فكثير من أثرياء العالم؛ قديماً وحديثاً ومعاصراً، استطاعوا ويستطيعون التَّدخُّل في عمل الدَّولة وتوجيه دفَّتها والاشتراط عليها، ولم يكن ذلك يوماً من الأيَّام إيذاناً بتآكل سلطة الدَّولة وسيادتها؛ قد يعدِّل حكومة، قد يسقطها، قد يتحكَّم بالسُّلطة، قد يغيِّرها ... ولكنَّه لم يمح الدَّولة قطُّ ولن يزيلها عَوْضُ.‏
                    وصحيحٌ " أنَّ واحداً من مفاعيل هذه العولمة القائمة على [التِّقانة] ومن أُولى نتائجها، إنَّما هو تدميرٌ واقعيٌّ للمسافات والفواصل الجغرافيَّة، بل وللحدود التَّقليديَّة المعهودة الَّتي كانت الدُّول تتفاصل ضمنها عن بعضها [بعضاً]، وتحدُّ من السُّبل الميسِّرة لتعارفها وتفاعلها وتخاصبها"(35) . ولكنَّ هذا ليس يعني أبداً أنَّ الحدود ستضمحلُّ أو تزول، وليس يعني أبداً أنَّ مزيد التَّعارف والتَّواصل بين شعوب الأرض سيماهي بين خصائص الهويَّات القوميَّة والإثنيَّة ويمحو الفوارق بينها، وبالتَّالي فإنَّ سلطة الدَّولة وسيادتها القوميَّة ستظلُّ قائمةً بكلِّ ما تحمله الكلمة من معنى البقاء، ولكنَّنا لن ننكر أنَّ ماهيَّة كلٍّ من هذه السُّلطة وهذه السِّيادة، وتعيُّنها، ينبغي أن تكون متوافقةً مع مقتضيات المرحلة الرَّاهنة والمقبلة، وعلى ذلك فإنَّ هذه النُّزعة الإحيائيَّة لكارل ماركس من قبل بعض أصحاب هذه النَّظريَّات القائلة بتآكل سلطة الدَّولة وسيادتها في ظلِّ سيادة العولمة، إنَّما هي أمرٌ يبعث على العجب والإعجاب في آن معاً، فهي صحيحة بما هي مشروعٌ وعقائديَّة ومبدأٌ نظريٌّ، ولكنَّها خاطئة وغير مقنعة في النَّهاية، كما بيَّنا، ولذلك "[على الرُّغم من] أنَّه صحيحٌ تماماً أنَّ قوى العولمة تفرض تعقيدات صارمة على الحكومات القوميَّة، إلاَّ أنَّها تمنحها السُّلطة والقوَّة بأشكال جديدة. ومن ثمَّ فإنَّ العولمة لا يترتَّب عليها ضمور أو تآكل سلطة الدَّولة القوميَّة، بل يترتَّب عليها بالأحرى تغيُّر في استراتيجيَّات الدَّولة وإعادة توجيه لطاقتها"(36) . وبالتَّالي أيضاً فإنَّ تزايد " دور العامل الخارجي، كما يرى برهان غليون، في تحديد مصير الأَطراف الوطنيَّة المكوِّنة لهذه الدَّائرة المندمجة، وبالتَّالي لهوامشها أَيضاً"(37) . انطلاقاً من تعريفه للعولمة بأنَّها "حركيَّة ـ Dynamics جديدة تبرز داخل دائرة العلاقات الدُّوليَّة من خلال تحقيق درجة عالية من الكثافة والسُّرعة في عمليَّة انتشار المعلومات والمكتسبات التِّقنيَّة والعلميَّة للحضارة"(38) . لا يمكن أن يُفْهَمَ إلاَّ في إطار منطقيَّته التَّاريخيَّة التي تسوِّغ للقويِّ أن يتدخل في مصائر الأمم الأخرى وأن يمارس لعبته في تحديد مصائر هذه الأمم وتوجيهها بما يتناسب مع شروطه وظروفه ويخدمها، وهذا أمرٌ ليس بحاجة إلى برهان، بل برهانه، وبكلِّ بساطة، هو أنَّ التَّاريخ مليءٌ بمثل هذا السُّلوك بمختلف صوره وأشكاله.‏
                    وأخيراً يجب ألاَّ ننسى من الأهمُّ في كلِّ هذا الموضوع، ألا وهم المواطنون الذين يمثلون الحامل العقائدي والفكري والثَّقافي والدِّيني والاجتماعي ... للدَّولة، وهم أصلاً من يفترضُ أنَّهم يشكِّلون أساساً محوريًّا في عمليَّة تآكل سلطة الدَّولة من خلال الثَّورة المعلوماتيَّة والاقتصاديَّة والتِّقانيَّة المتواشجة الصِّلة مع العولمة، فالواقع والمنطق التَّاريخي يؤكِّد أنَّ هؤلاء المواطنين يشكِّلون السِّياج الحقيقي للدَّولة القوميَّة من خلال إرثهم الثَّقافي والحضاري والاجتماعي ... من جهة، ومن خلال حاملهم الدِّيني من جهة ثانية وهو الأهم. وهذا هنتنجتون الذي يميل إلى القول بضعف مكانة الدَّولة وسلطتها تدريجيًّا بفعل العولمة، وعلى الرُّغم من تأكيده دور العامل الثَّقافيِّ في ذلك فإنَّه يرى أنَّ اعتقاد الكثيرين، في الغرب، بأَنَّ العالم يسير نحو ثقافةٍ عالميَّةٍ موحَّدةٍ هي ثقافةٌ غربيَّةٌ أَساساً، إنَّما هو اعتقادٌ متغطرسٌ، زائفٌ، خطرٌ؛ فانتشارُ السِّلع الاستهلاكيَّة الغربيَّةِ لا يعني انتشار الثَّقافة الغربيَّة، فشرب الكوكا كولا لا يؤدِّي إلى أن الرُّوس يفكِّرون مثل الأمريكان، كما أَنَّ تناول طبق الشُّوشي الياباني) لا يجعل الأَمريكيين يفكِّرون مثل اليابانيين(39) . وهو على الرُّغم من ذهابه إلى "أنَّ إحياء الدِّين أو "ثأر الله" مثلما وصفه جيل كيبل، يوفِّر أساساً للهويَّة والالتزام يتجاوز الحدود الوطنيَّة، ويوحِّد بين الحضارات"(40) . اعتقاداً منه بأنَّ الدِّين يلعب دوراً مهماً في إمحاء الحدود بين الأمم والقوميَّات، فإنَّه يعود ليؤكِّد أنَّ "الدِّين يفصل بين النَّاس بصورة أكثر حدَّة وحصراً حتَّى من العرق الإثني. فالمرء قد يكون نصف فرنسيٍّ أو نصف عربي، بل حتَّى مواطناً في بلدين في الوقت نفسه، لكن من الصَّعب أن يكون نصف كاثوليكي ونصف مسلم"(41) .‏
                    إنَّ اعتقاد هنتنجتون هذا صحيحٌ بمعنى من المعاني فالدِّين يختصر فعلاً المسافات بين معتقديه لأنَّ الدِّين بحدِّ ذاته حاملٌ فكري، ثقافيُّ، سياسيٌّ، اجتماعيٌّ، أخلاقيٌّ ... يتمحور حوله أبناؤه ويتلاقون عنده، ولذلك فإنَّه إن وصل بين حضارات ما وقرَّب المسافات بين شعوبها فإنَّها ستكون الشُّعوب التي تعتنقه ليس إلاَّ، وهنا سنجد أنفسنا أمام قوميَّات جديدة هي القوميَّات الدِّينيَّة، ولا يغيب عن الأذهان أبداً أنَّ ثمَّة نظريَّات قائمة تفسِّرُ نشأة الأمَّة بالدِّين، وأخرى تربط بين الدِّين والقوميَّة، وأخرى تحلُّ الدِّين محلَّ القوميَّة... وكلُّها تنهل من المعين ذاته. وبذلك فإنَّ الدِّين لن يمحو حدود الدُّول كما يريد هنتنجتون وإنَّما سيولِّد أنماطاً جديدةً من الدُّول تقوم على آليَّات وظائفيَّة جديدة لن تختلف من حيث المبدأ عن مفهوم الدُّولة بالمعنى الاصطلاحي. ذلك أنَّ، استناداً إلى قول هنتنجتون ذاته: "إنَّ الخصائص والفروق الثَّقافيَّة أقلُّ قابليَّة للتَّبديل، ثمَّ أقلُّ قابليَّة للحلول الوسط والتَّسويات من نظيرتها السِّياسيَّة والاقتصاديَّة، ففي الاتِّحاد السُّوفياتي السَّابق يمكن للشِّيوعيين أن يصبحوا ديمقراطيين، ويمكن أن يصبح الأغنياء فقراء والفقراء أغنياء، لكنَّ الرُّوس لا يمكن أن يصبحوا إستوانيين، ولا يمكن [للأذريين] أن يصبحوا أرمن". وبالقياس ذاته، وهو كاف على الرُّغم من وجود غيره، لا يمكن للفرنسيين أن يصبحوا عرباً ... على الرُّغم من إمكان أن يصبح الفرنسيُّ الفرد عربيًّا أو أمريكيًّا أو ماليزيًّا ... وإن أثبت التَّاريخ أنَّ المرء مهما تغرَّب وأصبح يظلُّ حاملاً هويته الأصليَّة ويندفع لا شعوريًّا للدِّفاع عنها عند أي خطر أو نقد يتوجه صوبها.‏
                    إذن لا بدَّ من الاعتراف، وقبل أَيِّ شيءٍ، بأَنَّ ثمَّة حقيقة لا يمكن تجاهلها أَو تجاوزها وهي أَنَّ الدَّولة هي المصدر الرَّئيس والأَوَّل للقرار ولا سيَّما في إطار العلاقات الدُّوليَّة، على الرَّغم من كلِّ ما آل إليه العالم من تطور في مختلف مجالات الحياة العلميَّة والاقتصاديَّة والسِّياسيَّة والفكريَّة ... فالخطابات والمفاوضات والتَّعاملات، وإن كان يقوم بها أَشخاصٌ، مهما كانت صفاتهم وأَوصافهم، فإنَّهم يتحدَّثون بأسماء الدُّول ويوقِّعون بأَسمائها. أَي إنَّهم يمثِّلون مصالح الدُّول، وهنا نتساءل من هي الدَّولة؟ وما المصالح الَّتي تريد الدَّولةُ تحقيقها ؟ وبهذا المعنى يرى فيليب جوميت ـ Philip Gummett " أَنَّه [على] الرَّغم من أَنَّ عمليَّة العولمة قد ضربت بجذورها في الأَعماق في بعض الميادين، وتخطَّت السِّيادة القوميَّة للدُّول في بعض القطاعات؛ كالمال والإعلام والثَّقافة، إلاَّ أَنَّ الدَّولة القوميَّة ـ National State مازال لها الكلمة الفصل في مسائل أُخرى كالدِّفاع، وحتَّى التِّجارة الخارجيَّة، على سبيل المثال. ولذا يقدِّمُ لنا مصطلحاً آخر وهو: Internationalization، حيث إنَّ عمليَّة العولمة، برأيه، ما زالت غير واضحة المعالم، لا من حيث تحديد المفهوم ـ Conceptually ولا من حيث اختبارها على أَرض الواقع ـ Empirically. لذا يحذِّرُ من عدم المبالغة بأَهمِّـيَّة هذه الظَّاهرة كظاهرةٍ تلغي التَّمايز القومي إلغاءً تامًّا"(42) .‏
                    ولكن، وبعد هذه المحاولة التي قد يعدُّها بعضهم استبسالاً في الدِّفاع عن سلطة الدَّولة وسيادتها القوميَّة، ولا سيَّما أنها تقف وسط شبه إجماعٍ من الباحثين والمفكِّرين على المصير المحتوم للدَّولة، حتَّى تبدو محاولتنا هذه وكأنَّها ضرب من التَّغريد خارج السِّرب ... إنَّنا، والحال كذلك، نشبه غاليليو غاليليه، الذي أرغمته السُّلطة الكنسيَّة على التَّراجع عن أقواله في دوران الأرض حول الشَّمس، فما كان منه وهو يغادر قاعة المحكمة إلاَّ أن يخصف الأرض بنعله وهو يقول: ولكنَّها تدور(43) .‏
                    نعم، نحن نرجِّح استمرار سلطة الدَّولة وسيادتها القوميَّة، ولكنَّنا لا ننفي أبداً أنَّ الظُّروف والمعطيات الرَّاهنة على أقلِّ تقدير مضافة إلى ما سيأتي من المعطيات والظروف والشُّروط؛ سيَّان ما كان منها قابلاً للتَّكهُّن به انطلاقاً من الحاضر، أو ما كان مطويًّا في ثنايا الغيب، سيجعل السُّلطة والدَّولة أمام خيارات جديدة تفرضها آليَّات الحراك المعاصر بمختلف معطياته التِّقانيَّة والسِّياسية والاقتصاديَّة الاجتماعيَّة والأخلاقيَّة ... بما يخوِّلنا التَّخمين منذ الآن بأنَّ مركزيَّة السُّلطة آيلة من غير شكٍّ إلى كثير من التَّشذُّب، ويتضايف على ذلك أنَّ أساليب القمع القديمة وآليَّاته كلُّها آيلة أيضاً إلى السُّقوط، ولكن ليس قبل مضي ربع قرن على الأقل، ولا يعني ذلك أنَّ تحقُّق الدِّيمقراطيَّة أمرٌ حتميٌّ لا شكَّ فيه. أمَّا النَّاحية الاقتصاديَّة فإن أعظم التَّغيُّرات واقعةٌ في ميدانها، ومن المرجَّح باحتمالٍ أعظميٍّ أن تسود الخصخصة كلَّ القطاعات الاقتصاديَّة في العالم وليصبح دور الدَّولة في الإنتاجيَّة تحديداً وفي العمليَّة التَّبادليَّة من ثمَّ هامشيًّا إلى حدٍّ جدِّ كبيرٍ دون أن تغيب عن العمليَّة الاقتصاديَّة غياباً تامًّا، فهي في المحصلة الحاضنة المرجعيَّة للاقتصاد القوميِّ، كما أنَّ المواطنين معلَّقون دائماً برقاب دولهم ...أمَّا أن تزول الدَّولة كليَّةً فهذا مستحيلٌ من جهة، ولعبة من جهة ثانية؛‏
                    أمَّا الاستحالة فلأنَّ دولة على الأقلِّ في المحصلة ستظلُّ قائمةً، فأيُّ دولة هذه هي التي ستبقى ؟؟!! ولماذا هي بعينها لا غيرها ؟! وأيُّ الدُّول هي التي ستتنازل عن كيانها لصالح غيرها؟! نعم هناك دول ضعيفة قابلة للتَّفكُّك والانحلال وربَّما التَّلاشي، ولكن كم هو عددها؟ وكم يساوي عددها بالمقارنة مع ما تبقَّى من الدُّول؟ هذا مع عدم نسيان أنَّنا نتكلم على الدَّولة لا على السُّلطة فكلُّ سلطة قابلة للزَّوال والانمحاء بطبيعة الحال.‏
                    أمَّا من ناحية كونها لعبة فمردُّ ذلك إلى أنَّها تمثِّل إرادات الإمبراطوريَّات العظمى ورغباتها ولا سيَّما الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة التي تتزعَّم العالم حاليًّا وتتطلع إلى تكريس هذه الزَّعامة وترسيخها بأي صورة ممكنة من الصُّور حتَّى ولو تخللتها لحظات من الجنون، بل الكثير من الآراء تتَّجه إلى القول بأنَّ ولادة العولمة أصلاً مرتبطةٌ بالمشروع السِّياسي الأمريكي الجديد ـ New American Political Project والذي يعبِّر عنه روبرت كيهان قائلاً: "إنَّ الهيمنة تخلق الاستقرار [بوساطة] احترام مجموعة من قواعد اللعب"(44) .‏
                    * * *‏
                    (1) ـ حسين معلوم: الدَّولة، واقعها ومسألتها، في ظلِّ "المناخ العالميِّ الجديد" والأَسئلة الَّتي يطرحها بلا انقطاع ـ ضمن صحيفة؛ الحياة ـ لندن ـ العدد 12603 ـ 29 ربيع الآخر 1418هـ الموافق لـ 1 أَيلول/ سبتمبر 1997م ـ ص19.‏
                    (2) ـ Westphalian: نسبة إلى ويستفاليا؛ إحدى مقاطعات بروسيا الغربية، التي كانت دوقيَّة في الأصل، ثمَّ تحوَّلت بعد اتِّساع مساحة الأراضي التَّابعة لها إلى مملكة نابوليونيةَّ المترجم).‏
                    (3) ـ دانييل دريزنر: يا عولميي العالم ... اتَّحدوا ـ ترجمة؛ عبد السَّلام رضوان ـ ضمن مجلة؛ الثَّقافة العالميَّة ـ المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ـ الكويت ـ العدد 85 ـ 1997م ـ ص 40.‏
                    (4) ـ نايف علي عبيد: العولمة ... والعرب ـ ص31.‏
                    (5) ـ سيَّار الجميل: العولمة: اختراق الغرب للقوميَّات الآسيويَّة ـ ص 51.‏
                    (6) ـ لجنة "إدارة شؤون المجتمع الدُّولي": جيران في عالم واحد ـ ص 31.‏
                    (7) ـ حسين معلوم: الدَّولة، واقعها ومسألتها، في ظلِّ "المناخ العالميِّ الجديد" والأَسئلة الَّتي يطرحها بلا انقطاع ـ ص19.‏
                    (8) ـ انظر في ذلك كتابات المفكِّر المستقبليِّ الأَمريكيِّ الشَّهير: ألفين توفلر مثل: صدمة المستقبل، وهو أَهمُّها في هذا الصَّدد، ثم خرائط المستقبل،و تحوُّل السُّلطة، والموجة الثَّالثة، وبناء حضارةٍ جديدة. وكلُّها مترجمة إلى اللغة العربيَّة.‏
                    (9) ـ دانييل دريزنر: يا عولميي العالم ... اتَّحدوا ـ ص 40.‏
                    (10) ـ دانييل دريزنر: يا عولميي العالم ... اتَّحدوا ـ ص 42.‏
                    (11) ـ م.س ـ ذاته.‏
                    (12) ـ صامويل هانتنغتون وآخرون: صدام الحضارات ـ مركز الدِّراسات الاستراتيجيَّة والبحوث ـ بيروت ـ ط1 ـ 1995م ـ ص21.‏
                    (13) ـ م.س ـ ص 21 .‏
                    (14) ـ م.س ـ ص 20.‏
                    (15) ـ دانييل دريزنر: يا عولميي العالم ... اتَّحدوا ـ ص 42.‏
                    (16) ـ علي حرب: صدمة العولمة في خطاب النَّخبة ـ م.س.‏
                    (17) ـ بنيامين باربر: عندما تأكل العولمة الدَّولة الوطنيَّة من فوق ـ م.س.‏
                    (18) ـ دانييل دريزنر: يا عولميي العالم ... اتَّحدوا ـ ص 43.‏
                    (19) ـ بنيامين باربر: عندما تأكل العولمة الدَّولة الوطنيَّة من فوق ـ م.س.‏
                    (20) ـ دانييل دريزنر: يا عولميي العالم ... اتَّحدوا ـ ص 43.‏
                    (21) ـ دانييل دريزنر: يا عولميي العالم ... اتَّحدوا ـ ص 44.‏
                    (22) ـ م.س ـ ص 43 ـ 44.‏
                    (23) ـ عبد الحكيم محمد بدران: عرض لكتاب: بناء حضارة جديدة ـ ص 198.‏
                    (24) ـ م.س ـ ذاته.‏
                    (25) ـ م.س ـ ذاته.‏
                    (26) ـ م.س ـ ذاته.‏
                    (27) ـ م.س ـ ص 198 ـ 199.‏
                    (28) ـ ف. يرلوف: نهاية التَّاريخ أم البحث عن طريق جديد ـ ص 16 ـ 17.‏
                    (29) ـ دانييل دريزنر: يا عولميي العالم ... اتَّحدوا ـ ص 49.‏
                    (30) ـ م.س ـ ص 41.‏
                    (31) ـ مجموعة من المختصين: قاموس الفكر السياسي ـ ترجمة؛ الدكتور أنطون حمصي ـ وزارة الثقافة ـ دمشق ـ 1994م ـ ج1 ـ ص 306.‏
                    (32) ـ دانييل دريزنر: يا عولميي العالم ... اتَّحدوا ـ ص 48.‏
                    (33) ـ بنيامين باربر: عندما تأكل العولمة الدَّولة الوطنيَّة من فوق ـ م.س.‏
                    (34) ـ جاء ذلك في خطابٍ ألقاه بنيويورك في العشاء السَّنوي للجمعيَّة العموميَّة للأُمم المتَّحدة يوم الخميس 18 أَيلول/ سبتمبر 1997م.‏
                    (35) ـ ميشيل إدَّه: مستقبلنا العربي وتحدِّيات العولمة ـ ص 7.‏
                    (36) ـ دانييل دريزنر: يا عولميي العالم ... اتَّحدوا ـ ص 41.‏
                    (37) ـ نايف علي عبيد: العولمة والعرب ـ ص 28. عن: برهان غليون: العرب وتحدِّيات العولمة الثَّقافيَّة.‏
                    (38) ـ م.س ـ ذاته.‏
                    (39) ـ صامويل هانتجتون: الغرب ... إنَّه فريدٌ ولكنَّه ليس كلِّيـًّا جامعاً ـ ص56.‏
                    (40) ـ صاموئيل هانتنجتون: صدام الحضارات ـ ص 20 ـ 21.‏
                    (41) ـ م.س ـ ص 21.‏
                    (42) ـ نايف علي عبيد: العولمة والعرب ـ ص 28.‏
                    (43) ـ هذه قصَّة شائعة عن غاليليو، ولكنَّ بعضهم يرى أنَّها أسطورة لا أساس لها من الصِّحة. انظر قصَّة المحاكمة في: فيلما فريتش: غاليليه أو مستقبل العلم ـ ترجمة؛ عادل شقير ـ وزارة الثقافة دمشق ـ 1994م ـ ص57 ـ 74.‏
                    (44) ـ سيَّار الجميل: العولمة: اختراق الغرب للقوميات الآسيوية ـ ص 55.‏

                    تعليق


                    • #11
                      رد: انهيار مزاعم العولمة

                      الباب الرَّابع: الأمور بخواتيمها : الفصل الأوَّل :العولمة في سبع مقولات
                      العولمة مفرز تلقائي لمسارات التَّطوُّر البشري تحوَّل إلى أسلحة متنوعة في أيدي الأقوياء لقولبة العالم بما يتوافق مع مصالحهم وأهوائهم.‏
                      1 ـ التَّاريخ يعيد نفسه دائماً:‏
                      من السَّذاجة بمكان أن نعتقد بأنَّ التَّاريخ يكرِّر نفسه تكراراً آليًّا كما يرى الكثيرون أو يفهمون من مقولة إنَّ التَّاريخ يعيد نفسه، ذلك أنَّ هذه المقولة لا تنطوي أبداً على إمكانيَّة أن ينتج التَّاريخ ذاته أو أن يعيد إنتاج ذاته بذاته لأن التَّاريخ ليس كائناً إلا من حيث هو مفهوم يطوي تحت جناحيه جملة وقائع البشر المنصرمة، نقول وقائع البشر ونصرُّ على ذلك لأنَّ الإنسان وحده موضوع التَّاريخ ومحموله. ولكنَّنا لا نعني وقائع الإنسان بما هو إنسانٌ وحسب، بل نعني أيضاً كلَّ ما اتَّصل بالإنسانِ أو اتَّصلَ الإنسانُ به في إطار سيرورته وصيرورته بما هو كائنٌ به من عقل وفعل وانفعال، أي بما يفعله في ذاته ولذاته، وبما ينفعل به من فعل جنسه وفعل ما هو مفارق لجنسه.‏
                      إنَّ التَّاريخ بهذا المعنى، وبأي معنى آخر يمكن أن يفهم به التَّاريخ، لا يمكنه أبداً أن يعيد نفسه مكرراً سيرته الأولى، ولا يمكن أن يستنهض ما مضى من وقائعه ... وإنَّما الإنسان هو الذي يعيد التَّاريخ، والإنسان إذ يعيد التَّاريخ فإنَّه لا يعيد وقائعه بحرفيَّاتها ولا حتَّى بأشباهها وإنَّما هو يعيد ذاته من حيث هو إنسان، أي من حيث هو رغبة وميل وهوى طموح وغريزة ... وعقل. وإذ يعيد الإنسان الفرد ذاته الماهويَّة الكليَّة لا الفرديَّة فإنَّه يعيد محاور وقائع التَّاريخ، أي إنَّ المهيمن يعيد سلوك المهيمن ذاته ولكن في إطار راهنيَّته التَّاريخيَّة والحضاريَّة وما انطوت عليه هذه الرَّاهنيَّة من معطيات وشروط وظروف جديدة، والقويُّ يعيد سلوك القويِّ ... والأمَّة تعيد سلوك الأمَّة ... وإذا ما أخذنا البنى النَّفسيَّة والاجتماعيَّة للأمم والشُّعوب، وغيرها من المعطيات المعرفيَّة الأخرى بعين النَّظر، استطعنا أن نفهم كيف يعيد التَّاريخ نفسه.‏
                      وعلى هذا الأساس يمكننا القول إنَّ التَّاريخ لا يعيد نفسه وقائعيًّا وإنَّما مدلوليًّا، وبهذا المعنى نفسر قول غورو عندما وضع قدمه على قبر صلاح الدِّين الأيوبي في الجامع الأموي بدمشق وقال: لقد عدنا يا صلاح الدِّين. وبهذا المعنى نفسِّر أيضاً توقيت عقد مؤتمر السَّلام العربي الإسرائيلي ومكانه في مدريد ... حيث سَّلم الملك أبو عبد الله الصَّغير للملك فرناندو مفاتيح قصر الحمراء وبوابات مدينة غرناطة آخر الممالك الإسلاميَّة بالأندلس في الثَّاني من كانون الثَّاني عام 1492م. وليعلق وزير الخارجيَّة الأمريكي في جلسة افتتاح المؤتمر قائلاً: قبل خمسمئة سنة وقع العرب وثائق خروجهم من الأندلس والآن سيوقِّعون وثائق خروجهم من التَّاريخ.‏
                      2 ـ قوانين البشر قوانين الطَّبيعية:‏
                      ليس ثمَّة شيءٌ جديدٌ في العولمة فكلُّ ما فيها قديم من حيث المبدأ؛ قوانين الطَّبيعة ساريةٌ عليها كما هي سارية على غيرها، ولكن يجب أن يحمل ذلك محمل الحتميَّة التَّاريخيَّة ولا يجوز أن يفهم على أنَّه من باب الجبريَّة الطَّبيعيَّة أبداً. وأعني بذلك، هنا تحديداً، أي فيما يخصُّ موضوعنا، أنَّ العولمة تقوم على جملةٍ من القوانين هي القوانين العامَّة التي تحكم السَّيرورة البشريَّة على الأرض في مجال العلاقات بين البشر: أفراداً وجماعات وأمماً. ولذلك لا مانع من وسم هذه القوانين بالطَّبيعيَّة انطلاقاً من عموميَّتها وتاريخيَّتها.‏
                      ونقصد بكونها قوانين طبيعيَّة تكراريَّتها بالدَّرجة الأولى، ولكن هذه التِّكراريَّة ليست بالمعنى الاطِّرادي المنتظم تماماً ولكن بالمعنى المدلولي الذي أتينا عليه في مقولة التاريخ يعيد نفسه. وبالدَّرجة الثَّانية قيامها على الطَّبيعة البشريَّة، أو بمعنى آخر قيامها على البنية النَّفسيَّة للإنسان بما هو فرد ومواطن وعضو في الجماعة والأمَّة أيًّا كان موقعه من كلِّ ذلك.‏
                      وعلى الرُّغم من إمكان ردِّ هذه القوانين إلى قانون أو مبدأ واحدٍ هو منطق القوَّة، فإنَّ الأنسب الحديث عنها متفاصلةً، ولا سيَّما أنَّنا، على كلِّ حالٍ، سنعرض لها جملة أو تفصيلاً. والتَّفصيل أوضح. وهذه القوانين هي:‏
                      أوَّلاً: الأقوى هو الذي يفرض إرادته وسيادته وهيمنته ومصالحه ... على سواه ممن هم أضعف منه كلاًّ تبعاً لدرجة ضعفه عند الأقوى.‏
                      ثانياً: إنَّ ما ينتاب الأقوى من مشاعر العظمة والعُنجهيَّة والاعتداد المنتبج بالذَّات والغرور والجبروت ... أمرٌ طبيعيٌّ من حيث المبدأ، أي إنَّه أمرٌ طبيعيٌّ في ظرفه ووضعه، مرتهنٌ بذلك ومشروط به. هذا من دون نسيان أنَّ مثل هذه المشاعر قد تنتاب الضُّعفاء أيضاً ولكنَّها مشاعر مرضيَّة أو خيالات سرعان ما تتحطَّم على صخور الواقع.‏
                      ثالثاً: الحقُّ هو ما يقوله الأقوى وما يريده ويقرره، حتَّى وإن رأى الآخرون كلهم ما هو خلاف ذلك، أو اعترضوا عليه. وأكبر مشكلة تعترضنا هنا هي أنَّ حقَّ الأقوياء هذا، في معظمه، يقوم على حساب الضُّعفاء وفي خيراتهم من جهة، ومن جهة ثانية فإنَّ الأقوياء لا يقبلون النِّقاش في أنَّ هذا حقَّهم، والضُّعفاء، بغضِّ النَّظر عن الاستثناءات، لا يمكن أن يقتنعوا بأنَّ هذا حق الأقوياء حقًّا، وهذا أساس الصِّراع التَّاريخي الظَّاهر والخفي بين الأمم والشُّعوب. ولكنْ على الرغم من ذلك ترجح كفَّة الأقوياء دائماً.‏
                      رابعاً: الضُّعفاء مولعون باقتفاء خطى الأقوياء، مفتونون بالسير وراءهم، مغرمون بعظمتهم ... ولذلك يجدون ـ من باب الحيل الدِّفاعيَّة عن الذَّات ـ آلاف الأعذار والأسـباب لتسويغ تقليدهم لهم، والسَّماح لهم بنهب خيراتهم، والعبث في عقائدهم ومعتقداتهم، والعيث في الأرض فساداً.‏
                      خامساً: قوَّة الأمَّة كقوَّة الفرد لها عمر، يطول ويقصر بحسب ما قامت عليه من ركائز وأسس، ولذلك مهما طالت قوَّة الأمَّة، وامتدَّ عزَّها وسلطانها، فإنَّها لا بدَّ آيلةٌ إلى الوهن والضَّعف حتَّى التَّلاشي، لتحلَّ محلها أمَّةٌ أخرى كانت آخذة في الصُّعود رويداً رويداً.‏
                      3 ـ العولمة اصطلاح جديد لنظام تاريخيٍّ متكرِّر:‏
                      من خلال نظرة كشفيَّة سريعة إلى ما مضى من تاريخ البشر، وبالاستناد إلى ما سبق وأسلفنا، وليس هذا الاستناد من الضَّرورة بما يحول غيابه دون تحقق المراد، لا غرو في القول إنَّ كلَّ تعريفات العولمة السابقة والأحاديث الدَّائرة فيها، حتَّى حديثنا، مرتبطة بجذور عقائديَّة وتعبِّر عن مناخات منفعيَّة تفوح منها رائحة هذه العقائديَّات المنبثقة منها بمعنى من المعاني. ذلك أنَّ الجغرافيا لم تنته والتَّاريخ لم ينته ولن ينتهي، وبذلك فإنَّ هذه التَّعريفات لا تعبِّر عن واقعٍ أبداً وإنَّما تعبِّر عن مطالب ومتطلَّبات وتَحقُّق ذلك على أرض الواقع مرتهن بجملة معقَّدة من الشُّروط والمعايير والمقاييس والظُّروف لا يوجد ما يحول دون تحقُّقها عقليًّا ولكنَّ منطقيَّة الواقع من جهة وراهنيَّته من جهة ثانية لن تحتمل ذلك أبداً بالمعاني المرادة من العولمة والمطروحة فيها. وانطلاقاً من مثل هذا الأساس ذهب محمد عابد الجابري إلى تأكيد أنَّ العولمة ليست مجرَّد آليَّة من آليَّات التَّطوُّر الرَّأسمالي، بل هي أيضاً، وبالدَّرجة الأولى، [عقائديَّة] تعكس إرادة الهيمنة على العالم، والعولمة التي يجري الحديث عليها الآن نظام أو نسق ذو أبعاد تتجاوز دائرة الاقتصاد. إنَّها نظامٌ عالميٌّ، أو يراد لها أن تكون كذلك، يشمل مجال المال والتَّسويق والمبادلات والاتِّصال الخ ... كما يشمل أيضاً مجال السِّياسة والفكر و[العقائديَّة] ... فالعولمة إلى جانب أنَّها تعكس مظهراً أساسيًّا من مظاهر التَّطوُّر الحضاري الذي يشهده عصرنا، هي أيضاً [عقائديَّة] تعبِّرُ بصورة مباشرة عن إرادة الهيمنة على العالم وأمركته(1) . وقد حددت الولايات المتَّحدة خصوصاً والعالم الغربي على العموم، الوسائل التي ستقوم من خلالها بتحقيق أغراضها في ذلك، ومن أهمها الضَّغط بالاقتصاد والإعلام لتفتيت القوميَّات الجامحة وخلخلة التَّوازات الدولية بما يخدم مصالحها والتَّركيز على الحرب النَّفسيَّة من خلال الغزو الثَّقافي والإعلامي والتِّقاني لكسر أطواق الحدود القوميَّة وفتحها أمام الصَّولة الغربيَّة عموماً والأمريكيَّة خصوصاً.‏
                      أي إنَّ فكرة عنوان كتاب أوماي "عالم بلا حدود" التي استطاعت أن تفرض ذاتها على جلِّ المفكِّرين الذين استلهموا منها أهمَّ تعريف معبِّرٍ وبليغ وكثيف للعولمة التي أصبحت تعني من غير ما جدل " نهاية الجغرافية "... وإن كانت فكرةً يُكبر عليها فكر هذا الرَّجل، فإنَّها ليست محض إبداعٍ غير مسبوق بمثيل أبداً، وإنَّما هي الحقيقة التَّاريخيَّة المتكرِّرة دائماً وأبداً، ذلك هذا الاصطلاح: نهاية الجغرافية، القادر على احتواء مختلف التَّعريفات السَّابقة للعولمة بوصفها انعدام كلِّ الحواجز؛ الاقتصاديَّة والسِّياسيَّة والعرقيَّة والثَّقافيَّة والعلميَّة والمعرفيَّة ... والجغرافيَّة، أي بوصفها عالماً بلا حدود ... إنَّما هو المضمون الحقيقي لممارسات كلِّ الإمبراطوريَّات السَّابقة بما هي القوى المحركة للحضارة البشريَّة، سيَّان وعت ذلك أم لم تعه. فكلُّ أمَّة رائدة أو إمبراطوريَّة؛ سيَّان كانت متفرِّدة أم ثنائيَّة الاستقطاب، تحاول إعادة ترتيب الأوراق العالميَّة وصياغتها بما يتوافق مع مصالحها ويخدمها، بل إنَّ الظُّروف العالميَّة دائماً تخدم الأقوياء في إعادة هيكلة العالم، على مختلف الأصعدة، بما يعزز مصالحهم.‏
                      ومن ثمَّ فإنَّ الولايات المتحدة إذ تقوم بما تقوم به لتعزيز هيمنتها وسطوتها فإنَّها لم تأت بما هو من غير طبائع البشر أو لم يكن موجوداً فيهم، إنها تقوم بما يمـكن بل يجـب أن يقوم به من هو في موقعها، ولذلك نستطيع القول من غير ما حـرج إنَّ العولمة ليسـت إلاَّ ثوباً جديداً لواقع متكرِّر بأثواب متغيِّرة، أي إنَّها اصطلاح جديد لنظام تاريخيٍّ متكرِّر.‏
                      4 ـ العولمة مفرز تلقائيٌّ وتوظيف استخباراتي:‏
                      صحيحٌ أنَّه ليس من جديدٍ أبداً في العولمة من حيث المبدأ، ولكن ثمَّة أشياء جديدة كثير فيها من حيث الشَّكل والظُّروف والمعطيات ... التي لا يمكن إغفالها ولا التَّنكر لها. ففي الدَّرجة الأولى نجد أن العولمة مفرزلإ تلقائيٌّ لسيرورة التَّطور والتَّقدُّم؛ الاقتصادي والتِّقاني والعلمي والحضاري. فبدافع التَّنافس الاقتصادي والصِّراع الحضاري ـ وكلاهما يهدف إلى تعزيز الهيمنة ومدَّ النُّفوذ والتَّحكم بمقدرات ـ تدامجت آليَّات العمل والهياكل الاقتصاديَّة والعلميَّة والتَّقنيَّة الإعلاميَّة، وتواشجت الصِّلات بينها حتَّى بات من المتعذَّر الفصل بينها في العصر الحاضر، وفيما سيأتي من العصور، وهذه أولى دعامات العولمة ومرتكزاتها الأساسيَّة. أمَّا أهمُّ مظاهر العولمة، وهو عنصرٌ صميميٌّ فيها، فهو الانفتاح الإعلامي الهائل، والتَّدفق المعلوماتي الغزير، الأمران اللذان فرضا ذاتهما على دول العالم قاطبةً.‏
                      في خضمِّ السيرورة المنطقيَّة لحركيَّة الدعامة والمظهر، طفت على السَّطح جملة من الحقائق التَّاريخيَّة القديمة من حيث المبدأ، ولكنَّها روِّجت على أنَّها حقائق ومعطيات جديدة ظهرت لأوَّل مرَّة، والعولمة هي التي أثبتتها. وأهم هذه الحقائق:‏
                      أوَّلاً: إنَّ التَّاريخ قد انتهى عند أقدام الغرب، وتوقف عنده.‏
                      ثانياً: إنَّ أقطاب العولمة، الدُّول العظمى، الغرب ولا سيَّما الولايات المتحدة، هي المتحكِّمة بمصائر الأمم والشُّعوب والدُّول؛ مقدراتها وحاضرها ومستقبلها، وهذا هو قدر العالم المحتوم الذي لا محيد عنه، ولا مجال للإفلات منه.‏
                      ثالثاً: إنَّ الغرب، ولا سيَّما الولايات المتحدة، هو سيِّد العالم، وعلى العالم الانطواء تحت عباءته، شاء أم أبى ولا مجال لغير ذلك.‏
                      رابعاً: الغرب وحده الذي يملك الحقيقة والقدرة على تسيير دفتي التاريخ والعالم.‏
                      خامساً: إنَّ قدرة الغرب وعظمته وجبروته كافية لإثبات أنَّ ثقافته هي الأقوم، وهي الأجدر بالسيادة والانتشار على حساب الثَّقافات الأخرى التي ستزول وتتلاشى بشكل تلقائيٍّ أمام قوَّة الثقافة الغربيَّة وصوابيَّتها وعظمتها.‏
                      سادساً: إنَّ الحدود الجمركيَّة القائمة أمام الانفتاح الاقتصادي بشكل خاص والثَّقافي بشكل عام خطأ فادح وخطر على من يقوم به لأنَّها تحرم هذه الدُّول من نِعَم الحضارة والرُّقي ... ولذلك على العالم كلِّه إدراك هذه الحقيقة وتكسير هذه القيود وتحطيمها.‏
                      أقول إنَّ هذه النِّقاط حقائق تاريخيَّة قديمة من حيث المبدأ لأنَّ الإمبراطوريَّات السَّابقة كلَّها كانت تقوم على هذه الحقائق وتعدُّها منطلقات بل مسـلمات وعلى التَّسـليم بها من دون أيِّ نقاش. سيَّان وعت هـذه الإمبراطوريات قيامها بهذا الفعل أم لم تعه. ألم يحسـب العرب والفكر الإسلامي أنَّ التَّاريخ قد انتهى على أعتاب حضارتهم وتوقف عندها ؟! ألم يعتقد جنكيز خان أنَّه قاهر العالم والتَّاريخ ؟! وقبلهما ألم يعتقد اليونان ثمَّ الرومان ... أنَّ حضارتهم تاج الحضارات وخاتمتها ؟! ألم يكن هؤلاء جميعهم هم المتحكمون بمصائر الشعوب ومقدراتها؟! ألم يحسبوا أنَّهم وحدهم المالكون للحقيقة والقدرة على تسيير دفتي العالم والتَّاريخ ؟!‏
                      المشكلة هي أنَّ مفكري الغرب على عمومه، ولا سيَّما الأمريكيين، توهَّموا أنَّهم أوَّل من اكتشف هذه الحقائق، وأنَّها لم تظهر إلاَّ بوصفها نتاجاً لحضارتهم وعولمتهم والمسحة الرَّحمانيَّة الأمريكيَّة. واعتقد المساكين بحقيقة هذا الوهم وراحوا يستنفدون إمكانته من أجل إيهام الشُّعوب الأخرى بأنَّه مسلمة لا يمكن الخروج من ربقتها. ولذلك فإنَّ على الشُّعوب الأخرى التَّسليم بحقيقة تفوق الغرب الأبديَّة وعظمته الأزليَّة وأحقيَّته الإلهيَّة بالهيمنة على العالم، وأحقِّـيَّته المنطقيَّة بالتَّحكم بمقدرات الشعوب وخيراتها، وضرورة رفع القيود الجمركيَّة عن كلِّ تحرُّك اقتصادي أو سياسي أو عسكري أو ثقافي أو حضاري ... للغرب؛ استيراداً وتصديراً.‏
                      وعلى هذا النَّحو تحول العولمة من مفرز تلقائيٍّ للتَّطور الحضاري إلى صناعة فكريَّة تستهدف تعزيز الهيمنة الغربيَّة وتقويض بل إجهاض كلِّ جهدٍ يمكن أن تقوم به أيُّ أمَّة أخرى، وليس يعنينا هنا كثيراً أن يكون التَّوظيف استخباراتيًّا بالمعنى الحرفيِّ للكلمة أم فكريًّا أم اقتصاديًّا ... لأنَّ الغاية واحدة.‏
                      5 ـ العولمة حرب إعلاميَّة ليس إلاَّ:‏
                      سيَّان سلَّمنا بالمقولات السَّابقة أم لم نسلِّم بها فإنَّنا نطرح المقولة الخامسة من مقولاتنا في العولمة فنقول: إنَّها حربٌ إعلاميَّة ليس ألاَّ. ونعني بذلك من جهةٍ أولى إمكان استقلاليَّة المقولات عن بعضها بعضاً وإمكان ترابطها وتكاملها. ومن جهة ثانية فإنَّ التجليَّات التي تمظهرت فيها العولمة إنَّما هي نتائج حتميَّة للتَّطوُّر الحضاري بمختلف ميادنه. ولكنَّ العلوميين استغلوا هذه التَّجليات والتَّمظهرات التي قاد إليها التَّطور الحضاري والتَّنافس الاقتصادي والسياسي ... وسخَّروها لشنِّ حرب إعلاميَّة على دول العالم قاطبةً من أجل خدمة مصالحهم وتعزيزها، بتكريس ضعفها وضياعها وتشرذمها وبقائها مخترقة منتهكة بما يضمن استمرار بقاء الأقوياء أقوياء.‏
                      إنَّ العولمة بما هي ظاهرة تاريخيَّة بريئة من الغرضيَّة السِّياسيَّة، شأنها في ذلك شأن أي ظاهرة تاريخيَّة، ولكنَّها كانت آخر الموجات التي ركبها المستفيدون منها وحوَّروها ودوَّروها بما يبقيهم في دائرة الاستفادة ... شأنها في ذلك أيضاً شأن غيرها من الموجات السَّابقة على مختلف المستويات والأصعدة ... أي إنَّ العولميين بهيمنتهم الإعلاميَّة قد حوَّلوا العولمة من مفرز تلقائيٍّ منطقيٍّ للصراع الاقتصادي والتَّطور الحضاري إلى أداة وسلاح لمحاربة الشُّعوب الأخرى وتكريس ضعفها وتفككها وترهلها وتخلفها ...‏
                      ولكن، هل كان من الممكن أن تلبس العولمة ثوب البراءة وتكون بمنأى عن الصِّراع الحضاري ؟ ليس ثمَّة استحالة في ذلك، ولكنَّها ولدت في خضم الصِّراع، وكانت من نتائجه، وهي في الأصل جزء منه، ولذلك من المتعذَّر عزلها عنه حتَّى ولو كان المتصدِّر غير الغرب. بل إنَّ المهمَّ والخطير في الأمر أنَّ العولمة ليست مجرَّد حرب إعلاميَّة وحسب، وإنَّما هي ذاتها بأدواتها وشروطها وظروفها ومعطياتها ومفرزاتها، قد صارت سلاحاً أساسيًّا من أسلحة الصِّراع الحضاري بكل مستوياته؛ الاقتصادية والسياسية والثقافية ...‏
                      6 ـ هناك فرق بين العولمة والعالميَّة:‏
                      يبدو من ظاهر اللفظ وبعض المضمون أنَّ ثمَّة تشابهاً وتداخلاً بين العولمة والعالميَّة الأمر الذي قد يوجد بعض اللبس بين المفهومين على الرُّغم من تباينهما ومن الضَّرورة لذلك التَّمييز بينهما. ويجدر التَّنويه هنا بأنَّنا سنعتمد التَّمييز الذي قدَّمه الجابري في ندوة العرب والعولمة بوصفه الأطروحة الخامسة من أطروحاته العشر في العولمة، ولا سيَّما أنَّنا لا نجد كثير اختلاف معه في ذلك.‏
                      العولمة شيء والعالميَّة شيء آخر. العالميَّة تفتح على العالم، على الثقافة الأخرى، واحتفاظ بالخلاف الأيديولوجي. أمَّأ العولمة فهي [في بعض أوجهها] نفي للآخر وإحلال للاختراق الثَّقافي محلَّ الصِّراع الأيديولوجي.‏
                      العولمة ـ Globalization إرادة للهيمنة وبالتَّالي قمع وإقصاء للخصوصي، أمَّا العالميَّة ـ Universalisme - Universalite فهي طموح إلى الارتفاع بالخصوصيَّة إلى مستوى عالمي. العولمة احتواء للعالم، والعالميَّة تفتُّح على ما هو عالمي وكوني.‏
                      نشدان العالميَّة في المجال الثقافي، كما في غيره من المجالات، طموح مشروع، ورغبة في الأخذ والعطاء، في التَّعارف والحوار والتَّلاقح. إنَّها طريق الأنا في التَّعامل مع الآخر بوصفه أنا ثانية، طريقها إلى جعل الإيثار يحل محل الأثرة. أمَّا العولمة فهي طموح بل إرادة لاختراق الآخر وسلبه خصوصيَّته، وبالتالي نفيه من العالم. العالميَّة إغناء للهويَّة الثقافيَّة، أمَّا العولمة فهي اختراق لها وتمييع.‏
                      والاختراق الثقافي الذي تمارسه العولمة يريد إلغاء الصراع الأيديولوجي والحلول محلَّه ... الصِّراع الأيديولوجي صراع على تأويل الحاضر وتفسير الماضي والتَّشريع للمستقبل. أمَّا الاختراق الثَّقافي فيستهدف الأداة التي يتمُّ بها ذلك التَّأويل والتَّفسير والتشريع: يستهدف العقل والنَّفس(2) .‏
                      وإذا كان العالميُّ يفرض تقبله على العالم بما يقوم به من مزايا وخصـائص وسـمات، فإنَّ العولميَّ يوجـب تقبله على العالم بما هو منتج احتكاري يفرضه الأقوى على الآخرين بغضِّ النَّظر عن جدارته أو عدمها.‏
                      7 ـ العولمة خطرٌ إن استسلمنا لمزاعمها أو لم نستسلم:‏
                      تقوم العولمة بما هي ظاهرة تاريخيَّة على جملة من الحقائق التي لا يمكن نكرانها بوصفها حقائق، هي الدَّعائم الواقعيَّة التي قادت إليها من جهة، والتي تقوم بها من جهة ثانية. ولكنَّها في الوقت ذاته تسبح في بحر من المزاعم والادِّعاءات الواهية الواهنة، وهي في الحالين كليهما خطر خطر لا بدَّ من الوصول إلى الكيفيَّة المناسبة لمواجهته. وعندما أقول إنَّها خطرٌ فإنَّني أعني بالضَّرورة أنَّها خطر علينا نحن العرب، العالم الثالث على عمومه، لا على أقطاب العولمة، وإن حاول بعضهم الإيحاء بوجود أخطار عولميَّة على أقطاب العولمة.‏
                      العولمة خطرٌ إن استسلمنا لمزاعمها لأنَّ العولميين؛ وهم محقون بما هو منسوب لهم من الحقِّ في ذلك، يتطلَّعون من خلال هذه المزاعم إلى إحباط الجهود، وتثبيط الهمم، وزرع اليأس في النُّفوس، وجعلها تستسهل الانقياد لأهواء أقطاب العولمة. والمظاهر معظمها ترجح كفَّة مزاعمهم وادِّعاءاتهم، ولكنَّها مظاهر لا جواهر، لأنَّ حقيقة الأمر كما أوضحنا في أكثر من موقع خلاف ذلك، وغاية المراد هنا هو عدم اليأس ولا الاستسلام ولا التسليم.‏
                      والعولمة كذلك خطر حتَّى إذا لم نستسلم لمزاعمها، أي إذا نظرنا إليها فقط من زاوية ما تقوم به بوصفها مرحلة تاريخيَّة من مراحل تطور البشريَّة وتقدمها، ذلك أنَّ عدم الاستسلام للمزاعم والادِّعاءات لا يعني أبداً انتفاء خطرها.‏
                      لقد وصل العالم إلى درجة من التَّطور والتَّقدُّم المذهل الذي يكفي وحده لزرع اليأس في النفوس من اللحاق بركب الحضارة والتقدم، حتَّى ولو لم نستسلم للمزاعم التي يروِّجها الغرب في هذا الصَّدد. وما أكثر المحبطين منَّا الذي خنقوا آمالهم وطموحاتهم عندما قارنوا ما نحن فيه مع ما وصل إليه الغرب ... ولذلك نجدنا مصرِّين على القول أيضاً إنَّ العولمة خطرٌ على كلِّ حال، ويجب أن نتلَّمَّس الحلول ـ وأزعم أنَّها موجودة ـ من أجل اللحاق بالعصر وما وصلت إليه الأمم المتقدِّمة من نماء وازدهار وتطوُّر.‏
                      ونحن إذ نقول ذلك فإنَّنا لا نتجاهل صعوبة الموقف، ولا نغمض أعيننا عن مرارة المواجهة ... إنَّ الوضع حرجٌ حقًّا. ولكنَّ المسألة حاسمة ومصيريَّة، لا تقبل اليأس، ولا ترضى بالاستسلام ولا الخنوع ... يجب أن نعرف أين نقف، وإلى أين نسير ... والأمر لا يحتمل التَّسويف ولا التَّأجيل. وأوَّل ما ينبغي أن يؤخذ بعين النَّظر والحسبان والاعتبار هو أنَّ آليَّتي انتقال الحضارة ومركز القوَّة من أمَّة إلى أخرى قد تغيرت تغيراً نوعيًّا وجذريًّا عمَّا كانت عليه فيما مضى، وهي مسألة يطول شرحها.‏
                      * * *‏
                      (1) ـ محمد عابد الجابري: عشر أطروحات حول العولمة والهوية الثَّقافية ـ م.س.‏
                      (2) ـ محمد عابد الجابري: عشر أطروحات حول العولمة ـ م.س.‏

                      تعليق


                      • #12
                        رد: انهيار مزاعم العولمة

                        الفصل الثَّاني: العرب والعولمة
                        إنَّ أزمة الهويَّة العربيَّة؛ المجتمعيَّة والثَّقافيَّة، لا تكمن في محاولات اختراقها من الخارج، بقدر ما تكمن بالذَّات لدى حماتها والمدافعين عنها من النُّخب وأصحاب المشاريع الأيديولوجيَّة، العاجزين عن ممارسة الاختراق والتَّوسُّع، عبر خلق الحقائق وإنتاج الوقائع.‏
                        علي حرب‏
                        تلعب اللغة دوراً كبيراً في الفرق الدَّلالي للعبارات المستخدمة من حيث التَّقديم والتَّأخير، ولذلك كان ثمَّة مشكلة في دقَّة التَّعبير عن مرادنا في هذا الفصل من حيث العنوان؛ هل نجعله: العرب والعولمة، أو نجعله: العولمة والعرب، فمن البداهة بمكان أنَّ العنوان الأوَّل يفترض أنَّنا سنتحدَّث في موقف العرب من العولمة، واستعدادهم لها، وتعاملهم معها ... وبالقول المختصر يعني أنَّنا سنبحث في الفعل بوصفه متَّجهاً من العرب إلى العولمة. أمَّا العنوان الثَّاني: العولمة والعرب، فإنَّه يفترض أنَّ الكلام سيدور في فلك فعل العولمة في العرب، وهذا ما شكَّل محور كلِّ سابق كلامنا، ولكن بصورة غير مباشرة. وإذا ما انتقلنا إلى العنوان الأوَّل لكان بإمكاننا فوراً استنتاج وجوب انطلاق الفعل العربي من طبيعة الفعل العولمي. وهنا نجدنا نعود إلى السُّؤال المزدوج الأهمِّ الذي بدأنا به توطئة الكتاب وهو: ماذا تريد العولمة منا، وماذا نريد نحن من العولمة ؟‏
                        إنَّ ما تريده العولمة منَّا، وقد تبسَّطنا في ذلك كثير، وفي أكثر من موقع من هذا الكتاب، لا يختلف أبداً عمَّا يريده الأقوياء من الضعفاء، عمَّا يريده الخصوم من خصومهم، عمَّا يريده من يذود عن مكانته ضدَّ أيِّ محاولة أو تفكير بزعزعتها ... ولعلَّنا لا نفتئتُ على الحقِّ إذا قلنا: عمَّا يريده العدوُّ من عدُّوه !!‏

                        أولسنا نبالغ إذا عددنا الغرب عدوًّا لنا ؟‏
                        ليس في ذلك أي مبالغة أو تطرُّف، فليس يشترط للعداوة احتلال أرضٍ أو انتهاك عرضٍ أو نهب خيرات ... وكل ذلك متحقق في علاقتنا مع الغرب، وإنَّما الأصل في هذه العداوة هو العلاقة بين الأمم القائمة على مبدأ الصِّراع لا من أجل البقاء المحض، وإنَّما من أجل البقاء على القمَّة أو من أجل الوصول إليها. وهذا الصِّراع حتميٌّ ولا مفرَّ منه، وكلُّ من يقول بعكس ذلك أو يعتقد به فهو مخطئ. وهي مسألة شبه مسلَّمة، أي إنَّ برهانها فيها، ويضاف إلى ذلك أنَّ تاريخ البشريَّة كلُّه يؤكِّد هذه الحقيقة، بل إنَّنا إذا غضضنا الطَّرف عن كلِّ ما مضى فإنَّ الواقع الرَّاهن وحده كفيل بدفعنا للتَّسليم بهذه الحقيقة، وهذه الحقيقة هي المقولة الرَّئيسة التي دارت حول محورها فصول هذا الكتاب. ولذلك نجدنا ننظر بعين الرَّأفة والشفقة لحال لجنة إدارة شؤون المجتمع العالمي عندما تصرخ بأعلى صوتها قائلةً: "ليس هناك بديلٌ للعمل معاً واستخدام القدرة الجماعيَّة لخلق عالمٍ أَفضل"(1) . فهذه نظرة مفعمة بالإنسانيَّة الفائقة لحدود الإنسانيَّة، إنَّها إنسانيَّة أكثر من إنسانيَّة ... بل إنَّها إنسانيَّة ملائكيَّة، لا ترى من الإنسان إلاَّ وجهه الملائكي الأمثل المجاوز في رقَّته وشفافيَّته.‏
                        والحقُّ أنَّنا إذ نقول ذلك فإنَّنا لا نعني أبداً أنَّنا ضدَّ التَّعاون الإنساني، ولا ضدَّ تشارك الأمم والشعوب وتكاملها، ولكنَّ هذا الطُّموح الذي كحَّل عيون الفلاسفة متعذَّرٌ من النَّاحية الواقعيَّة، إنَّه محض أمنية. أمَّا التَّكامل الواقعي والموجود، والذي يكثر وروده في كتابات المفكرين، فهو من نوع آخر، ويتشعب في حقيقته إلى نوعين؛ تكامل تراكمي عمودي وتكامل أخطبوطي أفقي. أمَّا التَّكامل التَّراكمي العمودي فهو تكامل الحضارات المتعاقبة ورفدها بعضها بعضاً بفعل التَّلاقح الحتمي للحضارات والشُّعوب، كما حدث في وراثة اليونان لحضارات الشَّرق القديم، ووراثة الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة للحضارة اليونانيَّة والحضارات السَّابقة، ووراثة الحضارة الأوروبيَّة للحضارة العربيَّة الإسلاميَّة ... وأمَّا التَّكامل الأفقي فهو التَّكامل المتزامن بين الأمم والشعوب، وهو إمَّا أن يكون تكاملاً قسرياً يفرض القوي فيه إيقاعه وحاجاته على الضَّعيف من أجل أن يتكامل بنيانه ويزداد منعة كما هو الحال بين الغرب والشَّرق أو بين الشَّمال والجنوب، وبهذا المعنى "يقرع توفلر الجرس لكي يحذِّرَ هؤلاء الَّذين يقفون في وجه الموجة الثَّالثة موجة العولمة) بأَنَّ دوَّامة التَّغيُّر سوف تجرفهم، وأَنَّ هؤلاء الَّذين لم يركبوا الموجة سوف يظلُّون متخلِّفين في مزبلة التَّاريخ"(2) . أو أنَّه تكامل بين حضارتين قويتين متزامنتين، وهنا تلعب المصالح والقوَّة الدَّور الحاسم في تحديد طبيعة هذا التَّكامل كما هو الأمر بين الولايات المتحدة وأوروبا واليابان مثلاً، وبهذا المعنى " يجادل أُوماي في أَنَّ العولمة ليست فقط من أَجل تعاون أَكبر، ولكنَّ أَيَّ شركة ذات سوقٍ محليَّةٍ قويَّةٍ وتصديرٍ قويٍّ يمكن أَن تتابع عمليَّة العولمة"(3) .‏
                        إنَّ الموقع العربيَّ من العـولمة، أي من الدُّول المتقدِّمة، موقع مأساويٌّ، ولكنَّه، على ضوء ما سبق وأسلفنا، موقعٌ طبـيعيٌّ في إطار راهنيَّته التَّاريخيَّة. ولذلك نحن لا نعتب على الغرب في اختراقاته وانتـهاكاته حقوقنا وخصوصيَّاتنا، ولكنَّنا نعتب على أنفسنا المتقاعسة، المتهالكة في فتح الثَّـغرات أمام الغرب ليقوم هو باختراق غيرها، ولتتسع من ثمَّ جـراحنا أكثر وتتكثر. وبهذا المعنى يمكنني أن أفهم قول علي حرب: "إنَّ أزمـة الهويَّة العربيَّة؛ المجتمعيَّة والثَّقافيَّة، لا تكمن في محاولات اختراقها من الخارج، بقدر ما تكمن بالذَّات لدى حماتـها والمدافعين عنها من النُّخب وأصحاب المشاريع الأيديولوجيَّة، العاجزين عن ممارسة الاختراق والتَّوسُّع، عبر خلق الحقائق وإنتاج الوقائع"(4) . ولكنَّنا نأخذ عليه رقَّته ولطـفه في التَّعامل مع هؤلاء الذي أعملوا معاول الهدم والتَّخريب في البنى العربيَّة جميعها: الاجتماعيَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة والفكريَّة ... عن قصد وعن غير قصد.‏
                        سحابة نصف قرن قد انقضت على الاستقلالات العربيَّة ونخبنا الفكريَّة وقياداتنا السِّياسيَّة تتقاذف انتماءاتنا وولاآتنا ما بين الاشتراكيَّة والرَّأسماليَّة من دون أي تفكير بخصوصيَّة حضارتنا وأمَّتنا وشعبنا، ولذلك سارت كلُّ الشُّعوب والأمم إلى الأمام وسرنا القهقرى؛ من كان يسبقنا بعام صار يسبقنا بعشرات الأعوام، بل كلُّ من كان وراءنا صار أمامنا... لقد خذلتنا نخبنا الفكريَّة والسِّياسية وخانتنا، لقد خانت أنفسها بالدَّرجة الأولى وانعكس ذلك على الأمَّة كلِّ الأمَّة، من خلال الانتماءات الرَّعناء والعمياء البعيدة كلَّ البعد عن روح الحضارة العربيَّة وخصوصيَّتها، ومن دون أخذ ذلك بعين النَّظر والحسبان.‏

                        فأين الفعل العربي، وماذا يمكن أن يكون ؟!!‏
                        ومن ثمَّ: هل نقف مع العولمة، أم نقف ضدَّها ؟‏
                        إنَّ التَّخيير في معرض الإلزام أمرٌ غير واردٍ ولا معقـول، لانطوائه في الأصـل تحت عباءة المفـارقة المنطقيَّة التي تحيل المختار إلى محرج. ذلك أنَّنا، بغضِّ النَّظر عمَّا سـيأتي، ملزمون بالوقوف مع العولمة على الرُّغم من تهـديدها كياننا ووجودنا ! ونحن كذلك ملزمون بالوقـوف ضدَّ العولمة على الرُّغم من ضرورة اندماجنا في خضـمِّها ! فكيف يكون ذلك ولماذا ؟‏
                        ليست العولمة سيادة دولة أو شركة أو حزب أو جماعة ... حتَّى نقف معها أو ضدَّها، أمامها أو وراءها. إنَّها السَّيرورة الطَّبيعيَّة للتطور التاريخي؛ العلمي والتِّقاني والاقتصادي ... وبالتَّالي فإنَّ الوقوف معها أو ضدَّها هو وقوف مع أو ضدَّ لا شيء وكل شيء بآن معاً، والماشي وراء العولمة أو أمامها هو ماشٍ أمام أو وراء لا شيء، لأنَّ العولمة ليست قراراً أو موقفاً يتيح لنا أن نعلن منه موقفاً أو نتَّخذ ضدَّه قراراً .‏
                        فماذا نفعل إذن ؟‏
                        إنَّ الموقف لا يحتمل الصَّمت، وليس يجدي معه محض الكلام. إنَّنا أمام واقع تتحرك معطياته بوتائر متسارعة، ولا يمكن التَّعامل مع الوقائع إلا بوقائع مماثلة من الطِّينة أو المادَّة ذاتها. ولذلك يجب أن نسعى بمختلف الأطر والإمكانات والاتِّجاهات والوتائر من أجل موازاة المرحلة التَّاريخيَّة الرَّاهنة؛ مرحلة العولمة، والتَّعامل معها تعاملاً ندِّيـًّا يمكننا من الحـفاظ على ذاتنا إن كان يهمنا أن تكون ذاتنا هي ذاتنا، ولم أعلم قطُّ أنَّ ذاتاً، على مدى ما امتدَّ التَّاريخ البشري، رفضت أن تكون هي هيَ.‏
                        إذن فإنَّ المهمَّة الأولى الملقاة على عاتقنا الآن هي الحفاظ على ذاتنا؛ الحفاظ عليها لا الانغلاق عليها كما سيفهم الكثيرون انطلاقاً من رؤاهم الموتورة. والحفاظ على الذَّات يتطلَّب معرفتها وفهمها. وعندما نعرف ذاتنا ونفهمها سنجدنا مرغمين على احترامها وإنصافها وتقديرها حق قدرها لأنَّ أمَّتنا كريمة عزيزة عظيمة معطاءة خلاَّقة، لا تستحق الضَّعف ولا الذل ولا الهوان.‏
                        وعلى الرُّغم من البون الشَّاسع الذي يفصلنا عن الدُّول المتقدِّمة، وعلى الرُّغم من الجهود المضنية التي يجب أن نبذلها من أجل مجاراة الأمم المتقدمة في تقدمها وتطورها ومن أجل وضع أمَّتنا في موقع العزَّة والمنعة والكرامة الذي تستحقه، وعلى الرُّغم من اليأس الذي تسرب إلى كثير من النفوس بسبب هذا البون حتى ظنَّت ألاَّ مجال للحاق بركب الحضارة كما يرى الدكتور أحمد مستجير إذ يقول: "إن عصر التَّأليف قد انتهى في العالم العربي، وعلينا أن ننقل فقط خبراتهم أولاً بأول وبأمانة ودقَّة، أمَّا عكس ذلك فهو مضيعة للوقت"(5) ... فإنَّ الفرصة مازالت قائمة، بل لا يمكن إلاَّ أن تظلَّ قائمة، ولا يجوز أن نقبل بغير ذلك.‏
                        وإذا كان ميشيل كلوغ يرى "أنَّ الفائزين من هذه العولمة سيكونون هم على وجه التَّحديد البلاد أو القوى الاجتماعيَّة أو السياسيَّة التي ستعرف كيف تنمي العلاقات بين القطاعات المختلفة وتجني العائد من وراء ذلك"(6) . فإنَّنا نرى أنَّ أمام العرب الكثير من الفرص والإمكانات المتاحة من أجل النهوض... بل حتَّى وإن انعدمت الإمكانات، وغابت الفرص، واضمحلت القدرات لوجب علينا أن ننحت الفرص ولو من الصخر بأظافرنا، وأن ننهض القدرات ولو من عدم، وأن نزرع الإمكانات ولو في الهواء ... فالتَّاريخ "الذي لا يعيد نفسه إلا على الأغبياء" لا ينسى، ولا يماري، ولا يرحم أحداً.‏
                        فهل سنستطيع معرفة ذاتنا وإمكاناتنا ؟‏
                        وهل سنعرف كيف نسخر إمكاناتنا من أجل ذاتنا ؟‏
                        أقسم الكثيرون بالله أنَّ ذلك أمر يسـير ولا يحتاج إلا إلى بعض البداهة. وشدَّ الكثيرون أشعار رؤوسـهم غيظاً من عدم امتلاك بعض البداهة هذا... نحن لا ننكر وجود الصُّعوبات ولا العقبات ولا التَّحديات ولا التَّهديدات ... ولكن ماذا فعلنا في واجهة ذلك ؟!! إنَّ الحلول كثيرة تملأ صفحات آلاف الكتب المنشـورة المشهورة، وقد كنَّا عزمنا على اقتراح بعض الحلول، وقسَّـمناها تبعاً للميادين ما بين علميَّة واقتصاديَّة وثقافيَّة وسياسيَّة وتربويَّة وعسكريَّة واجتماعيَّة ... ولكنَّا وجدنا أضعاف ما نريد قوله موجوداً لدى الكثيرين ومنذ كثير من السنين وكلُّه معروف ومشهور.‏
                        فيا ليت يا ليت نبدأ بداية حقَّة.‏
                        ويا ليت يا ليت نترفَّع عن التُّرهات والسَّفاسف.‏
                        ويا ليت يا ليت نضع مصالحنا نصب أعيننا قبل مصالح الغير.‏
                        ويا ليت يا ليت نفكِّر في مكاسب المستقبل ولا نتوقف عند خسائر الحاضر.‏
                        ويا ليت يا ليت يا ليت ... نكون عرباً حقًّا يعرفون معنى انتمائهم.‏
                        * * *‏
                        (1) ـ لجنة "إدارة شؤون المجتمع الدُّولي": جيران في عالم واحد ـ ص 22.‏
                        (2) ـ عبد الحكيم محمد بدران: عرض لكتاب: بناء حضارة جديدة ـ ص 199.‏
                        (3) - Carol Kennedy: Managing with the Gurus. P. 251.‏
                        (4) ـ علي حرب: صدمة العولمة في خطاب النَّخبة ـ م.س.‏
                        (5) ـ من حوار مع: د. أحمد مستجير، ضمن مجلة: الواحة "ملحق صحيفة الاتحاد الظبيانية" ـ العدد 180 ـ20 آب 1998م ـ ص 6..‏
                        (6) ـ ميشيل كلوغ: أربع أطروحات ... ـ ص 57.‏

                        تعليق


                        • #13
                          رد: انهيار مزاعم العولمة

                          المسارد
                          1 ـ ثبت الأعلام.‏
                          2 ـ ثبت الاصطلاحات:‏
                          أوَّلاً: حسب الأبجديَّة العربيَّة.‏
                          ثانياً: حسب الأبجديَّة اللاتينيَّة.‏
                          3 ـ ثبت المراجع:‏
                          أوَّلاً: المراجع العربيَّة (عام).‏
                          ثانياً: المراجع الأجنبيَّة.‏
                          ثالثاً: ثبت المجلات.‏
                          رابعاً: ثبت الصحف.‏
                          ثبت الأعلام‏
                          لا بدَّ من الإشارة هنا إلى أَنَّ مبدأ التَّصنيف المعتمد هو المبدأ الحديث الَّذي يتجاهل الأَلقاب مثل: أَبو وابن، فابن خلدون مثلاً موجودٌ في: خلدون، وأَبو عبد الله موجودٌ في: عبد الله. أَمَّا الأَعلام الآخرون فمرتَّبون حسب أَسمائهم الحقيقيَّة إلاَّ من اشتُهر منهم باسم ما فهو موجود فيه مثل الجابري وهنتنجتون ...‏


                          * ابراهيم سعد الديِّن عبدالله(د): 60‏
                          * أحمد خضر : 48‏
                          * أحمد فؤاد بليغ: 59‏
                          * أحمد مستجير (د): 133‏
                          * أحمد مغربي: 62، 82‏
                          * آدم سميث: 27، 29، 34.‏
                          * آديلارد أوف بث: 90.‏
                          * أرسطو: 90.‏
                          * أرنست رينان: 84.‏
                          * أسامة بن منقذ: 84.‏
                          * أشرف الصباغ: 73.‏
                          * أفلاطون : 84.‏
                          * إكيو موريتا : 36 ،237.‏
                          * أنطون حمصي: 108.‏
                          * أورفيتو : 90.‏
                          * أورين هاتش: 42.‏
                          * بديع الكسم (د): 5.‏
                          * برنارد بارنز: 51.‏
                          * برنارد لويس: 84.‏
                          * برهان غليون : 15، 22، 27، 28، 29، 110.‏
                          * بشر بن متَّى : 85.‏
                          * بطرس الأكبر : 86..‏
                          * البطريق (ابن) : 85..‏
                          * بنيامين باربر : 60، 62، 63، 81، 82، 92، 93، 94، 102، 105، 107، 109.‏
                          * بورفير : 89..‏
                          * بول فيريليو :82.‏
                          * بونبوناتزي :90.‏
                          * بيل جيتس: 28، 29، 34، 36، 48.‏
                          * تشارلز كندلبرجر : 102.‏
                          * تشيزاري كريمونيني :90.‏
                          * توفلر، ألفين : 13، 29، 35، 41، 102، 103، 106، 107، 108.‏
                          * توفلر، هايدي : 35.‏
                          * توماس أرنولد (السير) : 84.‏
                          * تيد تيرنر: 109‏
                          * الجابري، محمد عابد :12، 16، 23، 28، 120، 123، 124.‏
                          * جريج مكاو : 48.‏
                          * جلال الرشيدي: 28، 30، 34، 36‏
                          * جنديسالفي : 90.‏
                          * جورج طرابيشي : 11، 14.‏
                          * جيرولامو كردانو : 90.‏
                          * جيل كيبل : 111.‏
                          * جيمس بوتكنز : 45، 51،75.‏
                          * حسين معلوم: 99، 101.‏
                          * حنين بن إسحاق : 85.‏
                          * خلدون (ابن) : 122.‏
                          * دستوت دوتراسي : 20.‏
                          * ديفيد روثكوبف : 48، 77، 78، 79، 80، 81، 91، 94، 95، 107، 108.‏
                          * ديملر بنز : 46، 47.‏
                          * ديوجين : 89.‏
                          * رشد (ابن) : 90.‏
                          * روبرت كابلان : 102، 105، 106، 107.‏
                          * روبرت كيهان : 113.‏
                          * روي كالن : 34.‏
                          * ريمون لول : 90.‏
                          * زنوبيا : 90.‏
                          * زينون الرِّواقي : 88.‏
                          * زينون الصُّوري : 88/89.‏
                          * ستانفيلد تيرنر : 58، 59.‏
                          * سمير أَمين : 14، 21، 22، 23.‏
                          * سنجر : 21.‏
                          * سون بيونج : 47.‏
                          * سيبويه :89.‏
                          * سيجر دي برابان : 90.‏
                          * سينا (ابن) : 89، 90.‏
                          * سينشاروا إيشهارا : 36، 37.‏
                          * سيَّار الجميل : 14، 22، 101، 113.‏
                          * شارل بللا : 84.‏
                          * شكسبير :7، 88.‏
                          * صادق جلال العظم : 14، 23، 28.‏
                          * صلاح الدين الأيوبي : 118.‏
                          * طاليس : 84.‏
                          * عبد الله الصَّغير (أبو): 13، 29،42، 106، 131.‏
                          * علي حرب: 14، 15، 24، 82، 104، 129، 131.‏
                          * غاليليو غاليليه : 112.‏
                          * غورو : 118.‏
                          * الفارابي : 89.‏
                          * فرانس روزنتال : 84.‏
                          * فرانسوا ميتران :42.‏
                          * فرانسيس فوكوياما : 102، 103، 104، 105، 107.‏
                          * فرناندو: 118.‏
                          * فورد، هنري : 21.‏
                          * فيثاغورث : 84، 88.‏
                          * فيليب جوميت : 99، 100، 112.‏
                          * قرَّة (ابن) : 85.‏
                          * كار، ا.هـ. : 102.‏
                          * كارل بوبر : 74، 74.‏
                          * كارل ماركس : 33، 102، 105، 108، 109.‏
                          * كلينتون : 73.‏
                          * كولان : 84.‏
                          * كينـز، جون ماينرد : 100.‏
                          * كينشي أُوماي: 2115، 23، 42، 102، 104،107، 131.‏
                          * لاو سي : 57، 58.‏
                          * لستر ثاروا : 59.‏
                          * لورانس هيورث : 44.‏
                          * لوقيانوس السُّميساطي : 88.‏
                          * لونجينو : 89، 90.‏
                          * لوي ماسنيون :84.‏
                          * لي كوان وو : 47.‏
                          * لي كوان يوي : 81.‏
                          * ليفي بروفنسال : 84.‏
                          * ماك بيرجيه : 84.‏
                          * ماك دونالد :84.‏
                          * متى بن يونس القنَّائي : 85.‏
                          * مسعود ضاهر: 20، 67، 68.‏
                          * مسكويه : 89.‏
                          * مصطفى حمدي : 12، 13.‏
                          * مصطفى كمال أتاتورك: 86.‏
                          * المقفَّع (ابن) : 89.‏
                          * مهاتير محمد : 81.‏
                          * ميخائيل سكوت : 90.‏
                          * ميشيل إدَّه : 28، 30، 44، 78، 81، 109.‏
                          * ميشيل كلوغ : 93، 133.‏
                          * مينيب : 88.‏
                          * ناعمة (ابن) : 85.‏
                          * نايف علي عبيد : 13، 15، 22، 29، 100، 110، 112.‏
                          * نزار الخطيب : 45.‏
                          * نقفور : 84.‏
                          * نيفو : 90.‏
                          * هارولد بوون: 84.‏
                          * هارون الرَّشيد : 20، 84.‏
                          * هاملتون جب : 84.‏
                          * هرمان الألماني : 90.‏
                          * هنتنجتون، صاموئيل : 83، 85، 86،90، 92، 102، 1203، 104، 107، 110، 111.‏
                          * ياقوت الرُّومي : 127.‏
                          * يحيى حقِّي : 86.‏
                          * يرلوف، ف : 42، 73، 107.‏
                          * يمليخو : 89.‏
                          يوسف كرم : 84، 89، 90.‏

                          تعليق


                          • #14
                            رد: انهيار مزاعم العولمة

                            ثبت الاصطلاحاتأ ـ حسب الألفابائية العربيَّة

                            </SPAN></B>
                            الاصـــطلاح باللغة الإنجليزيَّة</SPAN></B>
                            الاصـــطلاح باللغة العربيَّة</SPAN></B>
                            </SPAN></B>

                            Social
                            اجتماعي
                            </SPAN></B>

                            Exception Cultural
                            الاستثناء الثَّقافي
                            </SPAN></B>

                            Peripheries = Satellite
                            الأطراف: (التَّوابع)
                            </SPAN></B>

                            Re - structuring Economy
                            إعادة هيكلة الاقتصاد
                            </SPAN></B>

                            Interdependence
                            اعتماد متبادل
                            </SPAN></B>

                            Economy
                            اقتصاد
                            </SPAN></B>

                            Electronical Economy
                            اقتصاد إلكتروني
                            </SPAN></B>

                            Market Economic
                            اقتصاد السُّوق
                            </SPAN></B>

                            Economical
                            اقتصادي (بشكل اقتصادي)
                            </SPAN></B>

                            Economist
                            اقتصادي (رجل الاقتصاد)
                            </SPAN></B>

                            Travel Cheque
                            أمر صرف سياحي
                            </SPAN></B>

                            Anthropology
                            إناسة : (علم أصل الإنسان)
                            </SPAN></B>

                            Anthropological
                            إناسي: (بشكل إناسي)
                            </SPAN></B>

                            Absorption
                            اندماج ابتلاعي
                            </SPAN></B>

                            Optional Alliance
                            اندماج إرادي
                            </SPAN></B>

                            Economical - Alliance
                            اندماج اقتصادي
                            </SPAN></B>

                            Service - Alliance
                            اندماج خدمي
                            </SPAN></B>

                            Co- operation Alliance
                            اندماج الشراكة
                            </SPAN></B>

                            Code - Sharing
                            اندماج الشَّراكة بالرَّمز التِّجاري
                            </SPAN></B>

                            Opportunistic Alliance
                            اندماج فرصي
                            </SPAN></B>

                            Inevitably Alliance
                            اندماج قسري
                            </SPAN></B>

                            Free Trade
                            تجارة حرَّة
                            </SPAN></B>

                            Technology
                            تقانة
                            </SPAN></B>

                            Technology
                            تقانيِّ
                            </SPAN></B>

                            Economical Competition
                            تنافس اقتصادي
                            </SPAN></B>

                            Cultural Competition
                            تنافس ثقافي
                            </SPAN></B>

                            Civilizations Competition
                            تنافس الحضارات
                            </SPAN></B>

                            Culture
                            ثقافة
                            </SPAN></B>

                            Geostrategy
                            جغراتيجيا: (جغرافيا استراتيجية)
                            </SPAN></B>

                            Geopolitics
                            جغراسيا: (جغرافيا سياسية)
                            </SPAN></B>

                            Computer
                            حاسوب
                            </SPAN></B>

                            Container
                            حاوية سلع
                            </SPAN></B>

                            Trade Freedom
                            حريَّة التجارة
                            </SPAN></B>

                            Political Liberty
                            الحريَّة السياسيَّة
                            </SPAN></B>

                            Civilization
                            الحضــارة
                            </SPAN></B>

                            Trade Protection
                            الحماية التِّجاريَّة
                            </SPAN></B>

                            Customs Duty
                            الرسوم الجمركيَّة
                            </SPAN></B>

                            Customer
                            زبــون
                            </SPAN></B>

                            Power
                            سُــلطة
                            </SPAN></B>

                            Commodity
                            ســلعة
                            </SPAN></B>

                            Market
                            ســـوق
                            </SPAN></B>

                            Cultures Collide
                            صراع الثَّقافات
                            </SPAN></B>

                            Civilizations Collide
                            صراع الحضارات
                            </SPAN></B>

                            Universalisme
                            العالميَّة
                            </SPAN></B>

                            Ideological
                            عقائدي
                            </SPAN></B>

                            Ideology
                            عقائديَّة
                            </SPAN></B>

                            International Relation
                            علاقات دوليَّة
                            </SPAN></B>

                            Globalization
                            العولمة
                            </SPAN></B>

                            Social Globalization
                            العولمة الاجتماعيَّة
                            </SPAN></B>

                            Media Globalization
                            العولمة الإعلاميَّة
                            </SPAN></B>

                            Economical Globalization
                            العولمة الاقتصاديَّة
                            </SPAN></B>

                            Americanization
                            العولمة الأمريكيَّة
                            </SPAN></B>

                            Cultural Globalization
                            العولمة الثقافيَّة
                            </SPAN></B>

                            Political Globalization
                            العولمة السياسيَّة
                            </SPAN></B>

                            Japanaization
                            العولمة اليابانيَّة
                            </SPAN></B>

                            Cultural Aggression
                            الغزو الثَّقافي
                            </SPAN></B>

                            Customs Limitation
                            القيود الجمركيَّة
                            </SPAN></B>

                            Lebensraum
                            مجال جيوي
                            </SPAN></B>

                            Center = Metropolis
                            المركز: (المركز الرَّأسمالي)
                            </SPAN></B>

                            Consumed
                            مستهلَك
                            </SPAN></B>

                            Consumer
                            مستهلِك
                            </SPAN></B>

                            Information
                            المعلومات
                            </SPAN></B>

                            Informatic
                            المعلوماتيَّة
                            </SPAN></B>

                            Product
                            منتَـج
                            </SPAN></B>

                            Producer
                            منتِـج (عام)
                            </SPAN></B>

                            Manufacturer
                            منتِج (مُصنِّع)
                            </SPAN></B>

                            Fax
                            ناســـوخ
                            </SPAN></B>

                            Mass Media
                            وسائل الإعلام
                            </SPAN></B>
                            ب ـ حسب الألفابائيَّة اللاتينيَّة

                            </SPAN></B>
                            الاصـــطلاح باللغة الإنجليزيَّة
                            الاصـــطلاح باللغة العربيَّة</SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            Absorption</SPAN></B>
                            اندماج ابتلاعي</SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            Americanization</SPAN></B>
                            العولمة الأمريكيَّة</SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            Anthropological</SPAN></B>
                            إناسي: (بشكل إناسي)</SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            Anthropology</SPAN></B>
                            إناسة : (علم أصل الإنسان)</SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            Center = Metropolis</SPAN></B>
                            المركز: (المركز الرَّأسمالي)</SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            Civilization</SPAN></B>
                            الحضــارة</SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            Civilizations Collide</SPAN></B>
                            صراع الحضارات</SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            Civilizations Competition</SPAN></B>
                            تنافس الحضارات</SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            Co- operation Alliance</SPAN></B>
                            اندماج الشراكة</SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            Code - Sharing</SPAN></B>
                            اندماج الشَّراكة بالرَّمز التِّجاري</SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            Commodity</SPAN></B>
                            ســلعة</SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            Computer</SPAN></B>
                            حاسوب</SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            Consumed</SPAN></B>
                            مستهلَك</SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            Consumer</SPAN></B>
                            مستهلِك</SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            Container</SPAN></B>
                            حاوية سلع</SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            Cultural Aggression</SPAN></B>
                            الغزو الثَّقافي</SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            Cultural Competition</SPAN></B>
                            تنافس ثقافي</SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            Cultural Globalization</SPAN></B>
                            العولمة الثقافيَّة</SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            Culture</SPAN></B>
                            ثقافة</SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            Cultures Collide</SPAN></B>
                            صراع الثَّقافات</SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            Customer</SPAN></B>
                            زبــون</SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            Customs Duty</SPAN></B>
                            الرسوم الجمركيَّة</SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            Customs Limitation</SPAN></B>
                            القيود الجمركيَّة</SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            Economical</SPAN></B>
                            اقتصادي (بشكل اقتصادي)</SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            Economical - Alliance</SPAN></B>
                            اندماج اقتصادي</SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            Economical Competition</SPAN></B>
                            تنافس اقتصادي</SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            Economical Globalization</SPAN></B>
                            العولمة الاقتصاديَّة</SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            Economist</SPAN></B>
                            اقتصادي (رجل الاقتصاد)</SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            Economy</SPAN></B>
                            اقتصاد</SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            Electronical Economy</SPAN></B>
                            اقتصاد إلكتروني</SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            Exception Cultural</SPAN></B>
                            الاستثناء الثَّقافي</SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            Fax</SPAN></B>
                            ناســـوخ</SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            Free Trade</SPAN></B>
                            تجارة حرَّة</SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            Geopolitics</SPAN></B>
                            جغراسيا: (جغرافيا سياسية)</SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            Geostrategy</SPAN></B>
                            جغراتيجيا: (جغرافيا استراتيجية)</SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            Globalization</SPAN></B>
                            العولمة</SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            Ideological</SPAN></B>
                            عقائدي</SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            Ideology</SPAN></B>
                            عقائديَّة</SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            Inevitably Alliance</SPAN></B>
                            اندماج قسري</SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            Informatic</SPAN></B>
                            المعلوماتيَّة</SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            Information</SPAN></B>
                            المعلومات</SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            Interdependence</SPAN></B>
                            اعتماد متبادل</SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            International Relation</SPAN></B>
                            علاقات دوليَّة</SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            Japanaization</SPAN></B>
                            العولمة اليابانيَّة</SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            Lebensraum</SPAN></B>
                            مجال جيوي</SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            Manufacturer</SPAN></B>
                            منتِج (مُصنِّع)</SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            Market</SPAN></B>
                            ســـوق</SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            Market Economic</SPAN></B>
                            اقتصاد السُّوق</SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            Mass Media</SPAN></B>
                            وسائل الإعلام</SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            Media Globalization</SPAN></B>
                            العولمة الإعلاميَّة</SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            Opportunistic Alliance</SPAN></B>
                            اندماج فرصي</SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            Optional Alliance</SPAN></B>
                            اندماج إرادي</SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            Peripheries = Satellite</SPAN></B>
                            الأطراف: (التَّوابع)</SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            Political Globalization</SPAN></B>
                            العولمة السياسيَّة</SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            Political Liberty</SPAN></B>
                            الحريَّة السياسيَّة</SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            Power</SPAN></B>
                            سُــلطة</SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            Producer</SPAN></B>
                            منتِـج (عام)</SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            Product</SPAN></B>
                            منتَـج</SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            Re - structuring Economy</SPAN></B>
                            إعادة هيكلة الاقتصاد</SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            Service - Alliance</SPAN></B>
                            اندماج خدمي</SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            Social</SPAN></B>
                            اجتماعي</SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            Social Globalization</SPAN></B>
                            العولمة الاجتماعيَّة</SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            Technology</SPAN></B>
                            تقانة</SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            Technology</SPAN></B>
                            تقانيِّ</SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            Trade Freedom</SPAN></B>
                            حريَّة التجارة</SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            Trade Protection</SPAN></B>
                            الحماية التِّجاريَّة</SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            Travel Cheque</SPAN></B>
                            أمر صرف سياحي</SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            </SPAN></B>
                            Universalisme</SPAN></B>
                            العالميَّة</SPAN></B>
                            </SPAN></B>

                            تعليق

                            يعمل...
                            X