إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

مقدمة ابن خلدون

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #16
    رد: مقدمة ابن خلدون

    مقدمة ابن خلدون/الفصل الرابع في أن أهل البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر

    الفصل الرابع في أن أهل البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر

    و سببه أن النفس إذا كانت على الفطرة الأولى كانت متهيئة لقبول ما يرد عليها و ينطبع فيها من خير أو شر قال صلى الله عليه و سلم: كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه و بقدر ما سبق إليها من أحد الخلقين تبعد عن الآخر و يصعب عليها اكتسابه فصاحب الخير إذا سبقت إلى نفسه عوائد الخير و حصلت لها ملكته بعد عن الشر و صعب عليه طريقة و كذا صاحب الشر إذا سبقت إليه أيضاً عوائده و أهل الحضر لكثرة ما يعانون من فنون الملاذ و عوائد الترف و الإقبال على الدنيا و العكوف على شهواتهم منها و قد تلونت أنفسهم بكثير من مذمومات الخلق و الشر و بعدت عليهم طرق الخير و مسالكه بقدر ما حصل لهم من ذلك حتى لقد ذهبت عنهم مذاهب الحشمة في أحوالهم فتجد الكثير منهم يقذعون في أقوال الفحشاء في مجالسهم و بين كبرائهم و أهل محارمهم لا يصدهم عنه و ازع الحشمة لما أخذتهم به عوائد السوء في التظاهر بالفواحش قولاً و عملاً و أهل البدو و إن كانوا مقبلين على الدنيا مثلهم إلا أنه في المقدار الضروري في الترف و لا في شيء من أسباب الشهوات و اللذات و دواعيها فعوائدهم في معاملاتهم على نسبتها و ما يحصل فيهم من مذاهب السوء و مذمومات الخلق بالنسبة إلى أهل الحضر أقل بكثير فهم أقرب إلى الفطرة الأولى و أبعد عما ينطبع في النفس من سوء الملكات بكثرة العوائد المذمومة و قبحها فيسهل علاجهم عن علاج الحضر و هو ظاهر و قد يتوضح فيما بعد أن الحضارة هي نهاية العمران و خروجه إلى الفساد و نهاية الشر و البعد عن الخير فقد تبين أن أهل البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر و الله يحب المتقين و لا يعترض على ذلك بما ورد في صحيح البخاري من قول الحجاج لسلمة بن الأكوع و قد بلغة أنه خرج إلى سكنى البادية فقال له ارتددت على عقبيك تعربت فقال لا و لكن رسول الله صلى الله عليه و سلم أذن لي في البدو فاعلم أن الهجرة افترضت أول الإسلام على أهل مكة ليكونوا مع النبي صلى الله عليه و سلم حيث حل من المواطن ينصرونه و يظاهرونه على أمر و يحرسونه و لم تكن واجبة على الأعراب أهل البادية لأن أهل مكة يمسهم من عصبية النبي صلى الله عليه و سلم في المظاهرة و الحراسة مالا يمس غيرهم من بادية الأعراب و قد كان المهاجرون يستعيذون بالله من التعرب و هو سكنى البادية حيث لا تجب الهجرة و قال صلى الله عليه و سلم في حديث سعد بن أبي وقاص عند مرضه بمكة اللهم أمض لأصحابي هجرتهم و لا تردهم على أعقابهم و معناه أن يوفقهم لتلازمه المدينة و عدم التحول عنها فلا يرجعوا عن هجرتهم التي ابتدأوا بها و هو من باب الرجوع على العقب في السعي إلى وجه من الوجوه و قيل أن ذلك كان خاصاً بما قبل الفتح حين كانت الحاجة داعية إلى الهجرة لقلة المسلمين و أما بعد الفتح و حين كثر المسلمون و اعتزوا و تكفل الله لنبيه بالعصمة من الناس فإن الهجرة ساقطة حينئذ لقوله صلى الله عليه و سلم لا هجرة بعد الفتح و قيل سقط إنشاوها عمن يسلم بعد الفتح و قيل سقط وجوبها عمن أسلم و هاجر قبل الفتح و الكل مجمعون على أنها بعد الوفاة ساقطة لأن الصحابة افترقوا من يومئذ في الآفاق و انتشروا و لم يبق إلا فضل السكنى بالمدينة و هو هجرة فقول الحجاج لسلمة حين سكن البادية ارتددت على عقبيك تعربت نعى عليه في ترك السكنى بالمدينة بالإشارة إلى الدعاء المأثور الذي فقدناه و هو قوله لا تردهم على أعقابهم و قوله تعربت إشارة إلى أنة صار من الأعراب الذين لا يهاجرون و أجاب سلمة بإنكار ما ألزمه من الأمرين و أن النبي صلى الله عليه و سلم أذن له في البدر و يكون ذلك خاصاً به كشهادة خزيمة و عناق أبي بردة أو يكون الحجاج إنما نعى عليه ترك السكنى بالمدينة فقط لعلمه بسقوط الهجرة بعد الوفاة و أجابه سلمة بأن اغتنامه لإذن النبي صلى الله عليه و سلم أولى و أفضل فما آثره به و اختصه إلا لمعنى علمه فيه و على كل تقدير فليس دليلاً على مذمة البدو الذي عبر عنه بالتعرب لأن مشروعية الهجرة إنما كانت كما علمت لمظاهرة النبي صلى الله عليه و سلم و حراسته لا لمذمة البدو فليس في النعي على ترك هذا الواجب دليل على مذمة التعرب و الله سبحانه أعلم و به التوفيق.
    إذا الشعب يوما أراد الحياة
    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

    تعليق


    • #17
      رد: مقدمة ابن خلدون

      مقدمة ابن خلدون/الفصل الخامس في أن أهل البدو أقرب إلى الشجاعة من أهل الحضر

      الفصل الخامس في أن أهل البدو أقرب إلى الشجاعة من أهل الحضر

      و السبب في ذلك أن أهل الحضر ألقوا جنوبهم على مهاد الراحة و الدعة و انغمسوا في النعيم و الترف و وكلوا أمرهم في المدافعة عن أموالهم و أنفسهم إلى واليهم و الحاكم الذي يسوسهم و الحامية التي تولت حراستهم و استناموا إلى الأسوار التي تحوطهم و الحرز الذي يحول دونهم فلا تهيجهم هيعة و لا ينفر لهم صيد فهم غازون آمنون، قد ألقوا السلاح و توالت على ذلك منهم الأجيال و تنزلوا منزلة النساء و الولدان الذين هم عيال على أبي مثواهم حتى صار ذلك خلقاً يتنزل منزلة الطبيعة و أهل البدو لتفردهم عن التجمع و توحشهم في الضواحي و بعدهم عن الحامية و انتباذهم عن الأسوار و الأبواب قائمون بالمدافعة عن أنفسهم لا يكلونها إلى سواهم و لا يثقون فيها بغيرهم فهم دائماً يحملون السلاح و يتلفتون عن كل جانب في الطرق و يتجافون عن الهجوع إلا غراراً في المجالس و على الرحال و فوق الأقتاب و يتوجسون للنبات و الهيعات و يتفردون في القفر و البيداء فدلين بيأسهم واثقين بأنفسهم قد صار لهم البأس خلقاً و الشجاعة سجنةً يرجعون إليه متى دعاهم داع أو استنفرهم صارخ و أهل الحضر مهما خالطوهم في البادية أو صاحبوهم في السفر عيال عليهم لا يملكون منهم شيئاً من أمر أنفسهم و ذلك مشاهد بالعيان حتى في معرفة النواحي و الجهات و موارد المياه و مشاريع السبل و سبب ذلك ما شرحناه و أصله أن الإنسان ابن عوائده و مألوفه لا ابن طبيعته و مزاجه فالذي ألفه في الأحوال حتى صار خلقاً و ملكة و عادة تنزل منزلة الطبيعة و الجبلة و اعتبر ذلك في الآدميين تجده كثيراً صحيحاً و الله يخلق ما يشاء.
      إذا الشعب يوما أراد الحياة
      فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
      و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
      و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

      تعليق


      • #18
        رد: مقدمة ابن خلدون

        مقدمة ابن خلدون/الفصل السادس في أن معاناة أهل الحضر للأحكام مفسدة للبأس فيهم ذاهبة بالمنعة منهم

        الفصل السادس في أن معاناة أهل الحضر للأحكام مفسدة للبأس فيهم ذاهبة بالمنعة منهم

        و ذلك أنه ليس كل أحد مالك أمر نفسه إذ الرؤساء و الأمراء المالكون لأمر الناس قليل بالنسبة إلى غيرهم فمن الغالب أن يكون الإنسان في ملكة غيره، و لا بد فإن كانت الملكة رفيقة و عادلة لا يعانى منها حكم و لا منع و صد كان الناس من تحت يدها مدلين بما في أنفسهم من شجاعة أو جبن واثقين بعدم الوازع حتى صار لهم الإذلال جبلة لا يعرفون سواها و أما إذا كانت الملكة و أحكامها بالقهر و السطوة و الإخافة فتكسر حينئذ من سورة بأسهم و تذهب المنعة عنهم لما يكون من التكاسل في النفوس المضطهدة كما نبينه و قد نهى عمر سعداً رضي الله عنهما عن مثلها لما أخذ زهرة بن حوبة سلب الجالنوس و كانت قيمته خمسة و سبعين ألفاً من الذهب و كان أتبع الجالنوس يوم القادسية فقتله و أخذ سلبه فانتزعه منه سعد و قال له هلا انتظرت في أتباعه إذني و كتب إلى عمر يستأذنه فكتب إليه عمر تعمد إلى مثل زهرة و قد صلى بما صلى به و بقى عليك ما بقى من حربك و تكسر فوقه و تفسد قلبه و أمضى له عمر سلبه و أما إذا كانت الأحكام بالعقاب فمذهبة للبأس بالكلية لأن وقوع العقاب به و لم يدافع عن نفسه يكسبه المذلة التي تكسر من سورة بأسه بلا شك و أما إذا كانت الأحكام تأديبية و تعليمية و أخذت من عند الصبا أثرت في ذلك بعض الشيء لمرباه على المخافة و الانقياد فلا يكون مدلاً ببأسه و لهذا نجد المتوحشين من العرب أهل البدو أشد بأساً ممن تأخذه الأحكام و نجد أيضاً الذين يعانون الأحكام و ملكتها من لدن مرباهم في التأديب و التعليم في الصنائع و العلوم و الديانات ينقص ذلك من بأسهم كثيراً و لا يكادون يدفعون عن أنفسهم عادية بوجه من الوجوه و هذا شأن طلبة العلم المنتحلين للقراءة و الأخذ عن المشايخ و الأيمة الممارسين للتعليم و التأديب في مجالس الوقار و الهيبة فيهم هذه الأحوال و ذهابها بالمنعة و البأس. و لا تستنكر ذلك بما وقع في الصحابة من أخذهم بأحكام الدين و الشريعة و لم ينقص ذلك من بأسهم بل كانوا أشد الناس بأساً لأن الشارع صلوات الله عليه لما أخذ المسلمون عنه دينهم كان وازعهم فيه من أنفسهم لما تلي عليهم من الترغيب و الترهيب و لم يكن بتعليم صناعي و لا تأديب تعليمي إنما هي أحكام الذين و آدابه المتلقاة نقلاً يأخذون أنفسهم بها بما رسخ فيهم من عقائد الإيمان و التصديق فلم تزل سورة بأسهم مستحكمة كما كانت و لم تخدشها أظفار التأديب و الحكم قال عمر رضي الله عنه ( من لم يؤدبه الشرع لا أدبه الله ) حرصاً على أن يكون الوازع لكل أحد من نفسه و يقيناً بأن الشارع أعلم بمصالح العباد و لما تناقص الدين في الناس و أخذوا بالأحكام الوازعة ثم صار الشرع علماً و صناعة يؤخز بالتعليم و التأديب و رجع الناس إلى الحضارة و خلق الانقياد إلى الأحكام نقصت يذلك سورة البأس فيهم فقد تبين أن الأحكام السلطانية و التعليمية مفسدة للبأس لأن الوازع فيها ذاتي و لهذا كانت هذه الأحكام السلطانية و التعليم مما تؤثر في أهل الحواضر في ضعف نفوسهم و حضد الشوكة منهم بمعاناتهم في وليدهم و كهولهم و البدو بمعزل من هذه المنزلة لبعدهم عن أحكام السلطان و التعليم و الآداب و لهذا قال محمد بن أبي زيد في كتابه في أحكام المعلمين و المتعلمين ( أنه لا ينبغي للمؤدب أن يضرب أحداً من الصبيان في التعليم فوق ثلاثة أسواط ) نقله عن شريح القاضي و احتج له بعضهم بما وقع في حديث بدء الوحي من شأن الغط و أنه كان ثلاث مرات و هو ضعيف و لا يصلح شأن الغط أن يكون دليلاً على ذلك لبعده عن التعليم المتعارف و الله الحكيم الخبير.
        إذا الشعب يوما أراد الحياة
        فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
        و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
        و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

        تعليق


        • #19
          رد: مقدمة ابن خلدون

          مقدمة ابن خلدون/الفصل السابع في أن سكنى البدو لا تكون إلا للقبائل أهل العصبية

          الفصل السابع في أن سكنى البدو لا تكون إلا للقبائل أهل العصبية

          إعلم أن الله سبحانه ركب في طبائع البشر الخير و الشر كما قال تعالى و هديناه النجدين و قال فألهمها فجورها و تقواها و الشر أقرب الخلال إليه إذا أهمل في مرعى عوائده و لم يهذبه الاقتداء بالدين و على ذلك الجم الغفير إلا من وفقه الله و من أخلاق البشر فيهم الظلم و العدوان بعض على بعض فمن امتدت عينه إلى متاع أخيه فقل امتدت يده إلى أخذه إلا أن يصده وازع كما قال: و الظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم فأما المدن و الأمصار فعدوان بعضهم على بعض، تدفعه الحكام و الدولة بما قبضوا على أيدي من تحتهم من الكافة أن يمتد بعضهم على بعض أو يمدو عليه فهم مكبوحون بحكمة القهر و السلطان عن التظالم إلا إذا كان من الحاكم بنفسه و أما العدوان الذي من خالي المدينة فيدفعه سياج الأسوار عند الغفلة أو الغرة ليلاً أو العجز عن المقاومة نهاراً أو يدفعه ازدياد الحامية من أعوان الدولة عند الاستعداد و المقاومة و أما أحياء البدو فيزع بعضهم عن بعض مشائخهم و كبراؤهم بما وفر في نفوس الكافة لهم من الوقار و التجلة و أما حللهم فإنما يذود عنها من خارج حامية الحي من أنجادهم و فتيانهم المعروفين بالشجاعة فيهم و لا يصدق دفاعهم و ذيادهم إلا إذا كانوا عصبية و أهل نسب واحد لأنهم بذلك تشتد شوكتهم و يخشى جانبهم إذ نعرة كل أحد على نسبه و عصبيته أهم و ما جعل الله في قلوب عباده من الشفقة و النعرة على ذوي أرحامهم و قرباهم موجودة في الطبائع البشرية و بها يكون التعاضد و التناصر و تعظم رهبة العدو لهم و اعتبر ذلك فيما حكاة القرآن عن اخوة يوسف عليه السلام حين قالوا لأبيه لئن أكلة الذئب و نحن عصبة إلا إذاً لخاسرون و المعنى أنه لا يتوهم العدوان على أحد مع وجود العصبة له و أما المتفردون في أنسابهم فقل أن تصيب أحداً منهم نعرة على صاحبه فإذا أظلم الجو بالشر يوم الحرب تسلل كل واحد منهم يبغي النجاة لنفسه خيفة و استيحاشاً من التخاذل فلا يقدرون من أجل ذلك على سكنى القفر لما أنهم حينئذ طعمة لمن يلتهمهم من الأمم سواهم و إذا تبين ذلك في السكنى التي تحتاج للمدافعة و الحماية فبمثله يتبين لك في كل أمر يحمل الناس عليه من نبؤة أو إقامة ملك أو دعوة إذ بلوغ الغرض من ذلك كله إنما يتم بالقتال عليه لما في طبائع البشر من الاستعصاء و لا بد في القتال من العصبية كما ذكرناه آنفاً فاتخذه إماماً تقتدي به فيما نورده عليك بعد و الله الموفق للصواب.
          إذا الشعب يوما أراد الحياة
          فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
          و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
          و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

          تعليق


          • #20
            رد: مقدمة ابن خلدون

            الفصل الثامن في أن العصبية إنما تكون

            من الالتحام بالنسب أو ما في معناه

            و ذلك أن صلة الرحم طبيعي في البشر إلا في الأقل و من صلتها النعرة على ذوي القربى و أهل الأرحام أن ينالهم ضيم أو تصيبهم هلكة فإن القريب يجد في نفسه غضاضة من ظلم قريبه أو العداء عليه و يود لو يحول بينه و بين ما يصله من المعاطب و المهالك نزعة طبيعية في البشر مذ كانوا فإذا كان النسب المتواصل بين المتناصرين قريباً جداً بحيث حصل به الاتحاد و الالتحام كانت الوصلة ظاهرة فاستدعت ذلك بمجردها و وضوحها و إذا بعد النسب بعض الشيء فربما تنوسي بعضها و يبقى منها شهر فتحمل على النصرة لذري نسبه بالأمر المشهور منه فراراً من الغضاضة التي يتوهمها في نفسه من ظلم من هو منسوب إليه بوجه و من هذا الباب الولاء و الحلف إذ نعرة كل أحد على أهل ولائه و حلفه للإلفة التي تلحق، النفس من اهتضام جارها أوقريبها أو نسيبها بوجه من وجوه النسب و ذلك لأجل اللحمة الحاصلة من الولاء مثل لحمة النسب أو قريباً منها و من هذا تفهم معنى قوله صلى الله عليه و سلم تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم بمعنى أن النسب إنما فائدته هذا الالتحام الذي يوجب صلة الأرحام حتى تقع المناصرة و النعرة و ما فوق ذلك مستغنى عنه إذ النسب أمر وهمي لا حقيقة له و نفعه إنما هو في هذه الوصلة و الالتحام فإذا كان ظاهراً واضحاً حمل النفوس على طبيعتها من النعرة كما قلناه وإذا كان إنما يستفاد من الخبر البعيد ضعف فيه الوهم و ذهبت فائدته و صار الشغل به مجاناً و من أعمال اللهو المنهي عنه و من هذا الاعتبار معنى قولهم النسب علم لا ينفع و جهالة لا تضر بمعنى أن النسب إذا خرج عن الوضوح و صار من قبيل العلوم ذهبت فائدة الوهم فيه عن النفس و انتفعت النعرة التي تحمل عليها العصبية فلا منفعة فيه حينئذ و الله سبحانه و تعالى أعلم.
            إذا الشعب يوما أراد الحياة
            فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
            و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
            و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

            تعليق


            • #21
              رد: مقدمة ابن خلدون

              الفصل التاسع في أن الصريح من النسب إنما يوحد للمتوحشين في القفر من العرب و من في معناهم

              و ذلك لما اختصوا به من نكد العيش و شظف الأحوال و سوء المواطن حملتهم عليها الضرورة التي عينت لهم تلك القسمة و هي لما كان معاشهم من القيام على الإبل و نتاجها و رعايتها و الإبل تدعوهم إلى التوحش في القفر لرعيها من شجره و نتاجها في رماله كما تقدم و القفر مكان الشظف و السغب فصار لهم إلفاً و عادة و ربيت فيه أجيالهم حتى تمكنت خلقاً و جبلة فلا ينزع إليها أحد من الأمم أن يساهمهم في حالهم و لا يأنس بهم أحد من الأجيال بل لو وجد واحد منهم السبيل إلى الفرار من حاله و أمكنه ذلك لما تركه فيؤمن عليهم لأجل ذلك من اختلاط أنسابهم و فسادها و لا تزال بينهم محفوظة صريحة و اعتبر ذلك في مضر من قريش وكنانة و ثقيف و بني أسد و هديل و من جاورهم من خزاعة لما كانوا أهل شظف و مواطن غير ذات زرع و لا ضرع و بعدوا من أرياف الشام و العراق و معادن الأدم و الحبوب كيف كانت أنسابهم صريحة محفوظة لم يدخلها اختلاط و لا عرف فيها شوب. و أما العرب الذين كانوا بالتلول و في معادن الخصب للمراعي و العيش من حمير و كهلال مثل لخم و جذام و غسان و طي و قضاعة و إياد فاختلطت أنسابهم و تداخلت شعوبهم ففي كل واحد من بيوتهم من الخلاف عند الناس ما تعرف و إنما جاءهم ذلك من قبل العجم و مخالطتهم و هم لا يعتبرون المحافظة على النسب في بيوتهم و شعوبهم و إنما هذا للعرب فقط. قال عمر رضي الله تعالى عنه ( تعلموا النسب و لا تكونوا كنبط السواد ) إذا سئل أحدهم عن أصله قال من قرية كذا هذا أي ما لحق هؤلاء العرب أهل الأرياف من الازدحام مع الناس على البلد الطيب و المراعي الخصيبة فكثر الاختلاط و تداخلت الأنساب و قد كان وقع في صدر الإسلام الانتماء إلى المواطن فيقال جند قنسرين جند دمشق جند العواصم و انتقل ذلك إلى الأندلس و لم يكن لاطراح العرب أمر النسب و إنما كان لاختصاصهم بالمواطن بعد الفتح حتى عرفوا بها و صارت لهم علامة زائدة على النسب يتميزون بها عند أمرائهم ثم وقع الاختلاط في الحواضر مع العجم و غيرهم و فسدت الأنساب بالجملة و فقدت ثمرتها من العصبية فاطرحت ثم تلاشت القبائل و دثرت فدثرت العصبية بدثورها و بقي ذلك في البدو كما كان و الله وارث الأرض و من عليها.
              إذا الشعب يوما أراد الحياة
              فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
              و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
              و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

              تعليق


              • #22
                رد: مقدمة ابن خلدون

                الفصل العاشر في اختلاط الأنساب كيف يقع

                إعلم أنه من البين أن بعضاً من أهل الأنساب يسقط إلى أهل نسب آخر بقرابة إليهم أو حلف أو ولاء أو لفرار من قومه بجناية أصابها فيدعي بنسب هؤلاء و يعد منهم في ثمراته من النعرة و القود و حمل الديات و سائر الأحوال و إذا و جدت ثمرات النسب فكأنه وجد لأنه لا معنى لكونه من هؤلاء و من هؤلاء إلا جريان أحكامهم و أحوالهم عليه و كأنه التحم بهم ثم أنه قد يتناسى النسب الأول بطول الزمان و يذهب أهل العليم به فيخفى على الأكثر و ما زالت الأنساب تسقط من شعب إلى شعب و يلتحم قوم بآخرين في الجاهلية و الإسلام و العرب و العجم. و انظر خلاف الناس في نسب أن المنذر و غيرهم يتبين لك شيء من ذلك و منه شأن بجيلة في عرفجة بن هرثمة لما ولاه عمر عليهم فسألوه الإعفاء منه و قالوا هو فينا لزيق أي دخيل و لصيق و طلبوا أن يولي عليهم جريراً فسأله عمر عن ذلك فقال عرفجة صدقوا يا أمير المؤمنين أنا رجل من الأزد أصبت دماً في قومي و لحقت بهم و انظر منه كيف اختلط عرفجة ببجيلة و لبس جلدتهم و دعي بنسبهم حتى ترشح للرئاسة عليهم لولا علم بعضهم بوشائجه و لو غفلوا عن ذلك و امتد الزمن لتنوسي بالجملة و عد منهم بكل وجه و مذهب فافهمه و اعتبر سر الله في خليقته و مثل هذا كثير لهذا العهد و لما قبله من العهود و الله الموفق للصواب بمنه و فضله و كرمه.
                إذا الشعب يوما أراد الحياة
                فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                تعليق


                • #23
                  رد: مقدمة ابن خلدون

                  الفصل الحادي عشر في أن الرئاسة لا تزال في نصابها

                  المخصوص من أهل العصبية

                  إعلم أن كل حي أو بطن من القبائل وإن كانوا عصابة واحدة لنسبهم العام ففيهم أيضاً عصبيات أخرى لأنساب خاصة هي أشد التحاماً من النسب العام لهم مثل عشير واحد أو أهل بيت واحد أو اخوة بني أب واحد لا مثل بني المم الأقربين أو الأبعدين فهؤلاء أقعد بنسبهم المخصوص و يشاركون من سواهم من العصائب في النسب العام و النعرة تقع من أهل نسبهم المخصوص و من أهل النسب العام إلا أنها في النسب الخاص أشد لقرب اللحمة و الرئاسة فيهم إنما تكون في نصاب واحد منهم و لا تكون في الكل و لما كانت الرئاسة إنما تكون بالغلب وجب أن تكون عصبية ذلك النصاب أقوى من سائر العصائب ليقع الغلب بها و تتم الرئاسة لأهلها فإذا وجب ذلك تعين أن الرئاسة عليهم لا تزال في ذلك النصاب المخصوص بأهل الغلب عليهم إذ لو خرجت عنهم و صارت في العصائب الأخرى النازلة عن عصابتهم في الغلب لما تفت لهم الرئاسة فلا تزال في ذلك النصاب متناقلة من فرع منهم إلى فرع و لا تنتقل إلا إلى الأقوى من فروعه لما قلناه من سر الغلب لأن الاجتماع و العصبية بمثابة المزاج للمتكون و المزاج في المتكون لا يصلح إذا تكافأت العناصر فلا بد من غلبة أحدها و إلا لم يتم التكوين فهذا هو سر اشتراط الغلب في العصبية و منه تعين استمرار الرئاسة في النصاب المخصوص بها كما قررناه.
                  إذا الشعب يوما أراد الحياة
                  فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                  و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                  و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                  تعليق


                  • #24
                    رد: مقدمة ابن خلدون

                    الفصل الثاني عشر في أن الرئاسة على أهل العصبية لا تكون في غير نسبهم

                    و ذلك أن الرئاسة لا تكون إلا بالغلب و الغلب إنما يكون بالعصبية كما قدمناه فلا بد في الرئاسة على القوم أن تكون من عصبية غالبة لعصبياتهم واحدة واحدة لأن كل عصبية منهم إذا أحست بغلب عصبية الرئيس لهم أقروا بالإذعان و الاتباع و الساقط في نسبهم بالجملة لا تكون له عصبية فيهم بالنسب إنما هو ملصق لزيق و غاية التعصب له بالولاء و الحلف و ذلك لا يوجب له غلباً عليهم البتة و إذا فرضنا أنه قد التحم بهم و اختلط و تنوسي عهده الأول من الالتصاق و لبس جلدتهم و دعي بنسبهم فكيف له الرئاسة قبل هذا الالتحام أو لأحد من سلفه و الرئاسة على القوم إنما تكون متناقلة في منبت واحد تعين له الغلب بالعصبية فالأولية التي كانت لهذا الملصق قد عرف فيها التصاقه من غير شك و منعة ذلك الالتصاق من الرئاسة حينئذ فكيف تنوقلت عنه و هو على حال الإلصاق و الرئاسة لا بد و أن تكون موروثة عن مستحقها لما قلناه من التغلب بالعصبية و قد يتشوف كثير من الرؤساء على القبائل و العصائب إلى أنساب يلهجون بها إما لخصوصية فصيلة كانت في أهل ذلك النسب من شجاعة أو كرم أو ذكر كيف اتفق فينزعون إلى ذلك النسب و يتورطون بالدعوى في شعوبه و لا يعلمون ما يوقعون فيه أنفسهم من القدح في رئاستهم و الطعن في شرفهم و هذا كثير في الناس لهذا العهد فمن ذلك ما يدعيه زناتة جملة أنهم من العرب و منه ادعاء أولاد رباب المعروفين بالحجازيين من بني عامر أحد شعوب زغبة أنهم من بني سليم ثم من الشريد منهم لحق جدهم ببني عامر نجاراً يصنع الحرجان و أختلط بهم و التحم بنسبهم حتى رأس عليهم و يسمونه الحجازي. و من ذلك ادعاء بنى عبد القوي بن العباس بن توجين أنهم من ولد العباس بن عبد المطلب رغبة في هذا النسب الشريف و غلطا باسم العباس بن عطية أبى عبد القوي و لم يعلم دخول أحد من العباسين إلى المغرب لأنه كان منذ أول دولتيهم على دعوة العلويين أعدائهم من الأدارسة و العبيديين فكيف يكون من سبط العباس أحد من شيعة العلويين من و كذلك ما يدعيه أبناء زيان ملوك تلمسان من بني عبد الواحد أنهم من ولد القاسم بن إدريس ذهاباً إلى ما اشتهر في نسبهم أنهم من ولد القاسم فيقولون بلسانهم الزناتي أنت القاسم أي بنو القاسم ثم يدعون أن القاسم هذا هو القاسم بن إدريس أو القاسم بن محمد بن إدريس و لو كان ذلك صحيحاً فغاية القاسم هذا أنه فر من مكان سلطانه مستجيراً بهم فكيف تتم له الرئاسة عليهم في باديتهم و إنما هو غلط من قبل اسم القاسم فإنه كثير الوجود في الأدارسة فتوهموا أن قاسمهم من ذلك النسب و هم غير محتاجين لذلك فإن منالهم للملك و العزة إنما كان بعصبيتهم و لم يكن بادعاء علوية و لا عباسية و لا شيء من الأنساب و إنما يحمل على هذا المتقربون إلى الملوك بمنازعهم و مذاهبهم و يشتهر حتى يبعد عن الرد و لقد بلغني عن يغمراسن بن زيان مؤئل سلطانهم أنه لما قيل له ذلك أنكره و قال بلغته الزناتية ما معناه أما الدنيا و الملك فنلناهما بسيوفنا لا بهذا النسب و أما نفعهما في الآخرة فمردود إلى الله و أعرض عن التقرب إليه ما بذلك. و من هذا الباب ما يدعيه بنو سعد شيوخ بني يزيد من زغبة أنهم من ولد أبي بكر الصديق رضي الله عنه و بنو سلامة شيوخ بني يدللتن من توجين أنهم من سليم و الزواودة شيوخ رياح أنهم من أعقاب البرامكة و كذا بنو مهنا أمراء طيىء بالمشرق يدعون فيما بلغنا أنهم من أعقابهم و أمثال ذلك كثير و رئاستهم في قومهم مانعة من ادعاء هذه الأنساب كما ذكرناه بل تعين أن يكونوا من صريح ذلك النسب و أقوى عصبياته فاعتبره و اجتنب المغالط فيه و لا تجعل من هذا الباب إلحاق مهدي الموحدين بنسب العلوية فإن المهدي لم يكن من منبت الرئاسة في هرثمة قومه، و إنما رأس عليهم بعد اشتهاره بالعلم و الدين و دخول قبائل المصامدة في دعوته و كان مع ذلك من أهل المنابت المتوسطة فيهم و الله عالم الغيب و الشهادة.
                    إذا الشعب يوما أراد الحياة
                    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                    تعليق


                    • #25
                      رد: مقدمة ابن خلدون

                      الفصل الثالث عشر في أن البيت و الشرف بالأصالة و الحقيقة لأهل المصبية و يكون لغيرهم بالمجاز و الشبه

                      و ذلك أن الشرف و الحسب إنما هو بالخلال و معنى البيت أن يعد الرجل في آبائه أشرافا مذكورين يكون له بولادتهم إياه و الانتساب إليهم تجلة في أهل جلدته لما و قر في نفوسهم من تجلة سلفه و شرفهم بخلالهم و الناس في نشأتهم و تناسلهم معادن قال صلى الله عليه و سلم الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا فمعنى الحسب راجع إلى الأنساب و قد بينا أن ثمرة الأنساب و فائدتها إنما هي العصبية للنعرة و التناصر فحيث تكون العصبية مرهوبة و المنبت فيها زكي محمى تكون فائدة النسب أو صح و ثمرتها أقوى و تعديد الأشراف من الآباء زائد في فائدتها فيكون الحسب و الشرف أصليين في أهل العصبية لوجود ثمرة النسب و تفاوت البيوت في هذا الشرف بتفاوت العصبية لأنه سيرها و لا يكون للمنفردين من، أهل الأمصار بيت إلا بالمجاز و إن توهموه فزخرف من الدعاوى و إذا اعتبرت الحسب في أهل الأمصار و جدت معناه أن الرجل منهم يعد سلفاً في خلال الخير و مخالطة أهله مع الركون إلى العافية ما استطاع و هذا مغاير لسر العصبية التي هي ثمرة النسب و تعديد الآباء لكنه يطلق عليه حسب وبيت بالمجاز لعلامة ما فيه من تعديد الآباء المتعاقبين على طريقة واحدة من الخير و مسالكه و ليس حسباً بالحقيقة و على الإطلاق و أن ثبت إنه حقيقة فيهما بالوضع اللغوي فيكون من المشكك الذي هو في بعض مواضعه أولى و قد يكون للبيت شرف أول بالعصبية و الخلال ثم ينسلخون منه لذهابها بالحضارة كما تقدم و يختلطون بالغمار و يبقى في نفوسهم وسواس ذلك الحسب يعدون به أنفسهم من أشراف البيوتات أهل العصائب و ليسوا منها في شيء لذهاب العصبية جملة و كثير من أهل الأمصار الناشئين في بيوت العرب أو العجم لأول عهدهم موسوسون بذلك و أكثر ما رسخ الوسواس في ذلك لبني إسرائيل فإنه كان لهم بيت من أعظم بيوت العالم بالمنبت أولاً لما تعدد في سلفهم من الأنبياء و الرسل من لدن إبراهيم عليه السلام إلى موسى صاحب ملتهم و شريعتهم ثم بالعصبية ثانياً و ما أتاهم الله بها من الملك الذي وعدهم به ثم انسلخوا من ذلك أجمع و ضربت عليهم الذلة و المسكنة و كتب عليهم الجلاء في الأرض و انفردوا بالاستعباد للكفر آلافاً من السنين و ما زال هذا الوسواس مصاحباً لهم فتجدهم يقولون هذا هاروني هذا من نسل يوشع هذا من عقب كالب هذا من سبط يهوذا مع ذهاب العصبية و رسوخ الذل فيهم منذ أحقاب متطاولة و كثير من أهل الأمصار و غيرهم المنقطعين في أنسابهم عن العصبية يذهب إلى هذا الهذيان و قد غلط أبو الوليد بن رشد في هذا لما ذكر الحسب في كتاب الخطابة من تلخيص كتاب المعلم الأول و الحسب هو أن يكون من قوم قديم نزلهم بالمدينة و لم يتعرض لما ذكرناه و ليت شعري ما الذي ينفعه قدم نزلهم بالمدينة إنما لم تكن له عصابة يرهب بها جانبه و تحمل غيرهم على القبول منه فكأنه أطلق الحسب على تعديد الآباء فقط مع أن الخطابة إنما هي استمالة من تؤثر استمالته و هم أهل الحل و العقد و أما من لا قدرة له البتة فلا يلتفت إليه و لا يقدر على استمالة أحد و لا يستمال هو و أهل الأمصار من الحضر بهذه المثابة إلا أن ابن رشد ربا في جبل و بلد و لم يمارسوا العصبية و لا أنسوا أحوالهم فبقي في أمر البيت و الحسب على الأمر المشهور من تعديد الآباء على الإطلاق و لم يراجع فيه حقيقة العصبية و سرها في الخليقة و الله بكل شيء عليم.
                      إذا الشعب يوما أراد الحياة
                      فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                      و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                      و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                      تعليق


                      • #26
                        رد: مقدمة ابن خلدون

                        الفصل الرابع عشر في أن البيت و الشرف للموالي و أهل الاصطناع إنما هو بمواليهم لا بأنسابهم

                        و ذلك أنا قدمنا أن الشرف بالأصالة و الحقيقة إنما هو لأهل العصبية فإذا اصطنع أهل العصبية قوماً من غير نسبهم أو استرقوا العبدان و الموالي و التحموا به كما قلناه ضرب معهم أولئك الموالي و المصطنعون بنسبهم في تلك العصبية و لبسوا جلدتها كأنها عصبتهم و حصل لهم من الانتظام في العصبية مساهمة في نسبها كما قال صلى الله تعالى عليه و سلم مولى القوم منهم و سواء كال مولى رق أو مولى اصطناع و حلف و ليس نسب ولادته بنافع له في تلك العصبية إذ هي مباينة لذلك النسب و عصبية ذلك النسب مفقودة لذهاب سرها عند التحامه بهذا النسب الآخر و فقدانه أهل عصبيتها فيصير من هؤلاء و يندرج فيهم فإذا تمددت له الآباء في هذه العصبية كان له بينهم شرف و بيت على نسبته في ولائهم و اصطناعهم لا يتجاوزه إلى شرفهم بل يكون أدون منهم على كل حال و هذا شأن الموالي في الدول و الخدمة كلهم فإنهم إنما يشرفون بالرسوخ في، ولاء الدولة و خدمتها و تعدد الآباء في ولايتها ألا ترى إلى موالي الأتراك في دولة بني العباس و إلى بني برمك من قبليهم و بني نوبخت كيف أدركوا البيت و الشرف و بنوا المجد و الأصالة بالرسوخ في ولاء الدولة فكان جعفر بن يحيى بن خالد من أعظم الناس بيتاً و شرفاً بالانتساب إلى ولاء الرشيد و قومه لا بالانتساب في الفرس و كذا موالي كل دولة و خدمها إنما يكون لهم البيت و الحسب بالرسوخ في ولائها و الأصالة في اصطناعها و يضمحل نسبه الأقدم من غير نسبها و يبقى ملغى لا عبرة به في أصالته و مجده و إنما المعتبر نسبة ولائه و اصطناعه إذ فيه سر العصبية التي بها البيت و الشرف فكان شرفه مشتقاً من شرف مواليه و بناؤه من بنائهم فلم ينفعه نسب ولادته و إنما بنى مجده نسب الولاء في الدولة و لحمة الاصطناع فيها و التربية و قد يكون نسبه الأول في لحمة عصبته و دولته فإذا ذهبت و صار ولأوه و اصطناعه في أخرى لم تنفعه الأولى لذهاب عصبيتها و انتفع بالثانية لوجودها و هذا حال بني برمك إذ المنقول أنهم كانوا أهل بيت في الفرس من سدنة بيوت النار عندهم و لما صاروا إلى ولاء بنى العباس لم يكن بالأول اعتبار و إنما كان شرفهم من حيث ولايتهم في الدولة و اصطناعهم و ما سوى هذا فوهم توسوس به النفوس الجامحة و لا حقيقة له و الوجود شاهد بما قلناه لم إن أكرمكم عند الله أتقاكم و الله و رسوله أعلم.
                        إذا الشعب يوما أراد الحياة
                        فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                        و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                        و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                        تعليق


                        • #27
                          رد: مقدمة ابن خلدون

                          الفصل الخامس عشر في أن نهاية الحسب في العقب الواحد أربعة آباء

                          إعلم أن العالم العنصري بما فيه كائن فاسد لا من ذواته و لا من أحواله و المكونات من المعدن و النبات و جميع الحيوانات الإنسان و غيره كائنة فاسدة بالمعاينة و كذلك ما يعرض لها من الأحوال و خصوصا الإنسانية فالعلوم تنشأ ثم تدرس و كذا الصنائع و أمثالها و الحسب من العوارض التي تعرض للآدميين فهو كائن فاسد لا محالة و ليس يوجد لأحد من أهل الخليقة شرف متصل في آبائه من لدن آدم إليه إلا ما كان من ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم كرامة به و حياطةً على السر فيه و أول كل شرف خارجية كما قيل، و هي الخروج عن الرئاسة و الشرف إلى الضعة و الابتذال و عدم الحسب و معناه أن كل شرف و حسب فعدمه سابق عليه شأن كل محدث ثم إن نهايته في أربعة آباء و ذلك أن باني المجد عالم يما عاناه في بنائه و محافظ على الخلال التي هي أسباب كونه و بقائه و ابنه من بعده مباشر لأبيه فقد سمع منه ذلك و أخذه عنه إلا أنه مقصر في ذلك تقصير السامع بالشيء عن المعاني له ثم إذا جاء الثالث كان حظه الاقتفاء و التقليد خاصة فقصر عن الثاني تقصير المقلد عن المجتهد ثم إذا جاء الرابع قصر عن طريقتيهم جملة و أضاع الخلال الحافظة لبناء مجدهم و احتقرها و توهم أن ذلك البنيان لم يكن بمعاناة و لا تكلف و إنما هو أمر وجب لهم منذ أول النشأة بمجرد انتسابهم و ليس بعصابة و لا بخلال لما يرى من التجلة بين الناس و لا يعلم كيف كان حدوثها و لا سببها و يتوهم أنه النسب فقط فيربأ بنفسه عن أهل عصيته و يرى الفصل له عليهم وثوقاً بما ربي فيه من استتباعهم و جهلاً بما أوجب ذلك الاستتباع من الخلال التي منها التواضع لهم و الأخذ بمجامع قلوبهم فيحتقرهم بذلك فينغصون عليه و يحتقرونه و يديلون منه سواه من أهل ذلك المنبت و من فروعه في غير ذلك العقب للإذعان لعصبيتهم كما قلناه بعد الوثوق بما يرضونه من خلاله فتنمو فروع هذا و تذوي فروع الأول و ينهدم بناء بيته هذا في الملوك و هكذا في بيوت القبائل و الأمراء و أهل العصبية أجمع ثم في بيوت أهل الأمصار إذا تحطمت بيوت نشأت بيوت أخرى من ذلك النسب إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد * وما ذلك على الله بعزيز و اشتراط الأربعة في الأحساب إنما هو في الغالب و إلا فقد يدثر البيت من دون الأربعة و يتلاشى و ينهدم و قد يتصل أمرها إلى الخامس و السادس إلا أنه في انحطاط و ذهاب و اعتبار الأربعة من قبل الأجيال الأربعة بأن و مباشر له و مقلد و هادم و هو أقل ما يمكن و قد اعتبرت الأربعة في نهاية الحسب في باب المدح و الثناء قال صلى الله عليه و سلم إنما الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم إشارة إلى أنه بلغ الغاية من المجد و في التوراة ما معناه أن الله ربك طائق غيور مطالب بذنوب الآباء للبنين على الثوالث و الروابع و هذا يدل على أن الأربعة الأعقاب غاية في الأنساب و الحسب. و في كتاب الأغاني في أخبار عزيف الغواني أن كسرى قال للنعمان هل في العرب قبيلة تتشرف على قبيلة قال نعم قال بأي شيء قال من كان له ثلاثة آباء متوالية رؤساء ثم تصل ذلك بكمال الرابع فالبيت من قبيلته و طلب ذلك فلم يجده إلا في آل حذيفة بن بدر الفزاري و هم بيت قيس و آل ذي الجدين بيت شيبان و آل الأشعث بن قيس من كندة و آل حاجب بن زرارة و آل قيس بن عاصم المنقري من بني تميم فجمع هؤلاء الرهط و من تبعهم من عشائرهم و أقعد لهم الحكام و العدول فقام حذيفة بن بدر ثم الأشعث بن قيس لقرابته من النعمان ثم بسطام بن قيس بن شيبان ثم حاجب بن زرارة ثم قيس بن عاصم و خطبوا و نثروا فقال كسرى كلهم سيد يصلح لموضعه و كانت هذه البيوتات هي المذكورة في العرب بعد بني هاشم و معهم بيت بني الذبيان من بنى الحرث بن كعب اليمني و هذا كله يدل على أن الأربعة الآباء نهاية في الحسب و الله أعلم.
                          إذا الشعب يوما أراد الحياة
                          فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                          و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                          و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                          تعليق


                          • #28
                            رد: مقدمة ابن خلدون

                            الفصل السادس عشر في أن الأمم الوحشية أقدر على التغلب ممن سواها

                            إعلم أنه لما كانت البداوة سبباً في الشجاعة كما قلناه في المقدمة الثالثة لا جرم كان هذا الجيل الوحشي أشد شجاعة من الجيل الآخر فهم أقدر على التغلب و انتزاع ما في أيدي سواهم من الأمم بل الجيل الواحد تختلف أحواله في ذلك باختلاف الأعصار فكلما نزلوا الأرياف و تفنقوا النعيم و ألفوا عوائد الخصب في المعاش و النعيم، نقص من شجاعتهم بمقدار ما نقص من توحشهم و بداوتهم و اعتبر ذلك في الحيوانات العجم بدواجن الظباء و البقر الوحشية و الحفر إذا زال توحشها بمخالطة الآدميين و أخصب عيشها كيف يختلف حالها في الانتهاض و الشدة حتى في مشيتها و حسن أديمها و كذلك الآدمي المتوحش إذا أنس و ألف و سببه أن تكون السجايا و الطباخ إنما هو عن المألوفات و العوائد و إذا كان الغلب للأمم إنما يكون بالإقدام و البسالة فمن كان من هذه الأجيال أعرق في البداوة و أكثر توحشاً كان أقرب إلى التغلب على سواه إذا تقاربا في العدد و تكافآ في القوة العصبية و انظر في ذلك شأن مضر مع من قبلهم من حمير و كهلان السابقين إلى الملك و النعيم و مع ربيعة المتوطنين أرياف العراق و نعيمه لما بقي مضر في بداوتهم و تقدمهم الآخرون إلى خصب العيش و غضارة النعيم كيف أرهفت البداوة حدهم في التغلب فغلبوهم على ما في أيديهم و انتزعوه منهم و هذا حال بني طيء و بني عامر بن صعصعة و بني سليم بن منصور و من بعدهم لما تأخروا في باديتهم عن سائر قبائل مضر و اليمن و لم يتلبسوا بشيء من دنياهم كيف أمسكت حال البداوة عليهم قوة عصبيتهم و لم تخلفها مذاهب الترف حتى صاروا أغلب على الأمر منهم و كذا كل حي من العرب يلي نعيماً و عيشاً خصباً دون الحي الآخر فإن الحي المتبدي، يكون أغلب له و أقدر عليه إذا تكافآ في القوة و العدد سنة الله في خلقه.
                            إذا الشعب يوما أراد الحياة
                            فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                            و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                            و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                            تعليق


                            • #29
                              رد: مقدمة ابن خلدون

                              الفصل السابع عشر في أن الغاية التي تجري إليها العصبية هي الملك

                              و ذلك لأنا قدمنا أن العصبية بها تكون الحماية و المدافعة و المطالبة و كل أمر يجتمع عليه و قدمنا أن الآدميين بالطبيعة الإنسانيه يحتاجون في كل اجتماع إلى وازع و حاكم يزع بعضهم عن بعض فلا بد أن يكون متغلباً عليهم بتلك العصبية و إلا لم تتم قدرته على ذلك و هذا التغلب هو الملك و هو أمر زائد على الرئاسة لأن الرئاسة إنما هي سؤدد و صاحبها متبوع و ليس له عليهم قهر في أحكامه و أما الملك فهو التغلب و الحكم بالقهر و صاحبها متبوع و ليس له عليهم قهر في أحكامه. و أما الملك فهو التغلب و الحكم بالقوة و صاحب العصبية إذا بلغ إلى رتبة طلب ما فوقها فإذا بلغ رتبة السؤدد و الاتباع و وجد السبيل إلى التغلب و القهر لا يتركه لأنه مطلوب للنفس و لا يتم اقتدارها عليه إلا بالعصبية التي يكون بها متبوعاً فالتغلب الملكي غاية للعصبية كما رأيت ثم أن القبيل الواحد و إن كانت فيه بيوتات مفترقة و عصبيات متعددة فلا بد من عصبية تكون أقوى من جميعها تغلبها و تستتبعها وتلتحم جميع العصبيات فيها و تصير كأنها عصبية واحدة كبرى و إلا وقع الافتراق المفضي إلى الاختلاف و التنافس ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ثم إذا حصل التغلب لتلك العصبية على قومها طلبت بطبعها التغلب على أهل عصبية أخرى بعيدة عنها فإن كافأتها أو مانعتها كانوا أقتالاً و أنظاراً و لكل واحدة منهما التغلب على حوزتها و قومها شأن القبائل و الأمم المفترقة في العالم و إن غلبتها و استتبعتها التحمت بها أيضاً و زادت قوة في التغلب إلى قوتها و طلبت غاية من التغلب و التحكم أعلى من الغاية الأولى و أبعد و هكذا دائماً حتى تكافىء بقوتها قوة الدولة في هرمها و لم يكن لها ممانع من أولياء الدولة أهل العصبيات استولت عليها و انتزعت الأمر من يدها و صار الملك أجمع لها و إن انتهت قوتها و لم يقارن ذلك هرم، الدولة و إنما قارن حاجتها إلى الاستظهار بأهل العصبيات انتظمتها الدولة في أوليائها تستظهر بها على ما يعن من مقاصدها و ذلك ملك آخر دون الملك المستبد و هو كما وقع للترك في دولة بني العباس و لصنهاجة و زناتة مع كتامة و لبني حمدان مع ملوك الشيعة من العلوية و العباسية فقد ظهر أن الملك هو غاية العصبية و أنها إذا بلغت إلى غايتها حصل للقبيلة الملك إما بالاستبداد أو بالمظاهرة على حسب ما يسعه الوقت المقارن لذلك و إن عاقها عن بلوغ الغاية عوائق كما نبينه وقفت في مقامها إلى أن يقضي الله بأمره.
                              إذا الشعب يوما أراد الحياة
                              فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                              و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                              و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                              تعليق


                              • #30
                                رد: مقدمة ابن خلدون

                                الفصل الثامن عشر في أن من عوائق الملك حصول الترف
                                و انغماس القبيل في النعيم

                                و سبب ذلك أن القبيل إذا غلبت بعصبيتها بعض الغلب استولت على النعمة بمقداره و شاركت أهل النعم و الخصب في نعمتهم و خصبهم و ضربت معهم في ذلك بسهم و حصة بمقدار غلبها و استظهار الدولة بها فإن كانت الدولة من القوة بحيث لا يطمع أحد في انتزاع أمرها و لا مشاركتها فيه أذعن ذلك القبيل لولايتها و القنوع بما يسوغون من نعمتها و يشركون فيه من جبايتها و لم تسم آمالهم إلى شيء من منازع الملك و لا أسبابه إنما همتهم النعيم و الكسب و خصب العيش و السكون في ظل الدولة إلى الدعة و الراحة و الأخذ بمذاهب الملك في المباني و الملابس و الاستكثار من ذلك و التأنق فيه بمقدار ما حصل من الرياش و الترف و ما يدعو إليه من توابع ذلك فتذهب خشونة البداوة و تضعف العصبية و البسالة و يتنعمون فيما أتاهم الله من البسطة و تنشأ بنوهم و أعقابهم في مثل ذلك من الترفع عن خدمة أنفسهم و ولاية حاجاتهم و يستنكفون عن سائر الأمور الضرورية في العصبية حتى يصير ذلك خلقاً لهم و سجية فتنقص عصبيتهم و بسالتهم في الأجيال بعدهم يتعاقبها إلى أن تنقرض العصبية فيأذنون بالانقراض و على قدر ترفهم و نعمتهم يكون إشرافهم على الفناء فضلاً عن الملك فإن عوارض الترف و الغرق في النعيم كاسر من سورة المصبية التي بها التغلب و إذا انقرضت العصبية قصر القبيل عن المدافعة و الحماية فضلاً عن المطالبة و التهمتهم الأمم سواهم فقد تبين أن الترف من عوائق الملك و الله يؤتي ملكه من يشاء.
                                إذا الشعب يوما أراد الحياة
                                فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                                و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                                و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                                تعليق

                                يعمل...
                                X