إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

صانع الأدب المعلم والأديب أمين نخلة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • صانع الأدب المعلم والأديب أمين نخلة


    أمين نخلة.. وصناعة الأدب

    كان دقيقا ولا يخرج ما يكتبه للناس إلا في أحسن صورة
    لم يكن مجرد أديب كبير بل كان معلما للأدب
    في زماننا الراهن يزدهر الكاتب وينحسر الأديب
    كان حريصا على التجويد إلا أنه لم يستسغ الغلوّ فيه
    الشعر عنده علم ينال بالجدّ والمثابرة والسليقة
    كان "الجاحظ" في زمانه.. والأستاذ المفتقد في زماننا الراهن
    كان يلازم شوقي عند زياراته للبنان .. ويرافق نخبة من الأدباء الكبار
    لم يكن من أنصار الغلو الذي يصل إلى حد الإبهام
    التلمذة لأستاذ الصناعة كانت شرطا في سائر الحرف من رفيعة ووضعية

    بقلم - جهاد فاضل :
    إلى وقت غير بعيد, كانت صناعة الأدب بخير. كان هناك أدباء مهمومون بالكلمة التي تنزل منزلها اللائق بها في الجملة, وباستخدام مفردة دون أخرى, وبالعمل على أن يأتي الموضوع الذي يشتغلون عليه مستكملا كل أدواته الأدبية والفنية. كان هناك "أدب" يختلف عما نسمّيه اليوم "بالكتابة" فالكتابة كانت ميدانا لعامة المثقفين الذين لا يصرفون الوقت اللازم للتجويد، بل يكتبون ما يرد على بالهم دون تدبر عميق, أو اهتمام كافٍ بما تتطلبة مهنة الأدب من جهد وتلمّس لمواطن القوة في الصياغة, وابتعاد عما هو ضحل وعادي ورثّ.

    ويقدم الباحثون في العادة الأدب والشاعر اللبناني أمين نخلة كمثال للأديب الذي كان يطيل النظر في كتابه, أو في كتابته, فلا يخرج بما كتب على الناس إلا بعد أن يكون قد استوى في أحسن تكوين وقد روى الروائي اللبناني الكبير توفيق يوسف عواد أنه شاهد مرة أمين نخلة يجلس في أحد مقاهي بيروت في الأربعينيات في القرن الماضي ومعه نص لأحد الأدباء يريد ان يبدي رايه فيه .
    كان أمين نخلة يكتب ثم يحذف. ثم يبدأ العمل من جديد فيدّون بعض الملاحظات ثم يأخذ في الكتابة من جديد ثم يعود إلى الحذف مرة أخرى, وهكذا دواليك إلى أن انتصف الليل وهو مازال يبدي ويعيد. ويبدو أنه لم يكن مرتاحا لما أنجزه, فعاد في الليلة التالية إلى ما كان يعمل عليه في الليلة السابقة حتى رضي عما كتبه وأفرج عنه, فنشرته مجلة المكشوف في أحد أعدادها.
    ويضيف هؤلاء الباحثون ان أمين نخلة لم يكن مجرد أديب كبير من طراز الذين تقع عبارتهم منزلها في كلامهم, وإنما كان أيضا معلما للأدب. ففي الكثير مما تركه من كتب, يعثر القارئ على استاذ كبير يهمه لا أن يترك تراثا أدبيا رفيع المقام، بل أن يترك ما يؤلف بوصله للأديب الناشئ تقيه الضلال وعثرات الطريق وتكون خير مرشد له في رحلته الشاقة، وصفة معلم "الأدب" من الصفات التي يخلعها الدارسون على الجاحظ, فقد قالوا فيه إنه "معلم العقل والأدب", في اشارة منهم إلى أنه كان استاذا كبيرا في زمانه, وأن مريدي الأدب كانوا يلزمون مجلسه للاستفادة منه ومن الملاحظات النقدية التي كان يبديها.

    والواقع ان من يقرأ أمين نخلة في ملاحظاته الأدبية في الكثير من أعماله يجده هذا الاستاذ الذي كان الجاحظ في زمانه والاستاذ المفتقد في زماننا الراهن ففي زماننا الراهن يزدهر "الكاتب" بالمعنى الرث للكلمة, وينحسر "الأديب" بمعناه الأبلج الكريم الذي ننوّه به .
    ومن لا يصدق ذلك, عليه أن يدقق في الذي يقرأ الآن, وأن يقارنه بما كان يقرأه الناس في زمن أمين نخلة وأمين الريحاني وطه حسين وعباس العقاد وتوفيق الحكيم وعبدالعزيز البشري وشكيب أرسلان عندها يتضح أكثر الفرق بين "الأدب" و"الكتابة" الذي نتحدث عنه.
    كان أمين نخلة الذي لزم في شبابه أمير الشعراء شوقي عندما كان يزور لبنان في العشرينيات من القرن الماضي كما لزم نخبة من كبار أدباء زمانه مثل الشيخ عبدالقادر المغربي والشيخ مصطفى الغلاييني, يعلي من شأن "التلمذة لأستاذ الصناعة" على حد تعبيره فقد كان يرى أن التلمذة لأستاذ الصناعة وهي ما يقال له عند المحامين : التدرج شرط في حرفة المحاماة وفي سائر الحرف من رفيعة ووضعية وهي شرط, أيضا في صناعة الأدب فإن الذي لا يشحذ لسانه بإجادات أهل الطبقة العالية في المنثور والمنظوم, ولا يعب ما شاء الله له من تلك الحياض الصافية, هيهات أن يكون له في نثر أو شعر "فليس إلا فصيح الديوك هو الذي يصيح من البيضة".
    ومن أطراف ما كتبه مرة "كان لي صديق من ألطف الناس خروجا إلى حديث ونوادر. وكان يحب الشعر ولا يطيق ما جاء منه وسطا.
    فقلت له في بعض الأيام كي ما أحركه للفكاهة :"الشعراء اثنان ولا ثالث لهما : شاعر كتبت له الاجادة فلا فض فوه وآخر لم تكتب له فهو إذا نظم بيتا واحدا من الشعر وجب ان يفتى بقطع لسانه" فقال رحمه الله وقد تصنع الجد : هذا كلام يجب ان يكتب بالحبر الأحمر, في حرف كبير, في رقاع كبيرة ويوزع هكذا مناشير واعلانات على متخلفي الذهن من الشعراء, عسى ان يخافوا على ألسنتهم..
    ومع أن أمين نخلة كان حريصا كل الحرص على التجويد، إلا أنه لم يستسغ الغلو فيه فلا هو مع الإفراط ولا هو مع التفريط، وكأن التزام المعقول والمقبول في الفصاحة والبلاغة هو ما كان يلتزمه، أو يوصي به. فقد اعتبر ان الفصاحة المفرطة فيض عن المقدار المطلوب. وأما البلاغة، فإنه لا يسوغ فيها تجاوز الحد في الاختصار، وإلا نقصت من جانب التمام، حيث زادت الفصاحة المفرطة عنه! وهذا دليل على أنه لم يكن من أنصار الغلو المحض الذي يصل الى حد الإغراب والإبهام والتحمل، وإنما ظل في إطار معتدل في الإبلاغ.
    ولأنه كان شاعراً، فقد أولى الشعر عناية خاصة وهو يكتب ملاحظاته، او ذكرياته، في السنوات الأخيرة من حياته. فمما كتبه في هذا المجال: في باب التعريف بالشعر يعجبني جداً عجز فاليري ( وهو شاعر فرنسي كبير) عنه عجزا يفيض لطفاً وحلاوة.

    فإنه يقول في احدى محاضراته في ( السوربون) ما معربه: الشعر هو فن نظم البارع من الشعر.. وإنك واجد هنا، ولا ريب، وان الخبير قد أنبأك، ايضا، هذه المرة! في اشارة منه الى (وما ينبيك مثل خبير)!
    ولكن كيف ينال الشعر؟ للأمين حول هذه المسألة ملاحظة في منتهى الأهمية فقد كتب: ( يقول الخوارزمي إن الشعر علم ينال بالجد والمثابرة. قلت: وأين السليقة؟ نعم! لم يتبق في هذا الزمن الذي قام فيه العلم، والاستنباط، وسعة الاطلاع، مجال لشاعر كيما يقول ما قاله بعض الأعراب يفتخر انه يتكلم بالسليقة، اي عن طبع لا عن تعلم:

    ولست بنحوي يلوك لسانه
    ولكن سليقي يقول فيعرب!
    ولكن السليقة ما برحت هي الشرط المقدم والا جاء الشعر حبراً لا يلتمع، كما كان يقول شبلي الملاط شاعر الأرز!

    وله رأي دقيق وصائب فيما ينبغي للشعر، أو في بعض الشروط التي لا شعر عالي المقام بدونها. فهو يروي الحكاية التالية التي ينبغي لشعراء اليوم ان يقرأوها وينتفعوا بها لأنه في الشعر لا وسطية، فإما أن يكون شعراً عظيماً أو لا يكون شعرا أصلاً.
    كنت ذات مرة في جريدة ( الأحرار) وكان الشاعر إلياس أبوشبكة صاحب أفاعي الفردوس يعمل محررا فيها. يكتب فصولاً يومية بين قصة، وخبر سياسي، وتعليق على برقية، أو مقالة، مما يضطر لكتابته على عجلة، اضطرار كل كاتب للعجلة في الجرائد. فسألني المرحوم الياس رأيي في قصيدة له كانت قد نشرتها احدى المجلات يومئذ، فقلت: لقد علمنا بوالو ( ناقد أدبي فرنسي من القرن السابع عشر) ما ينبغي للشعر، وان هو قد غلا في ذلك، فما لك تسألني؟ أردت ما معناه من كلام مشهور لبوالو في ( الفن الشعري): في هذه الصناعة اجعل يدك تمر عشرين مرة، وملس ونعم. ثم ملس ونعم.. وقلت له: هيهات ان يضعف النفس الشعري بمعاودة النظر، ويصير الشعر بذلك الى التكلف، وان ما يجيء في النزلة الأولى ليس وحيا يوحى! فضحك رحمه الله وأخذ بقلم كان على المنضدة وقال: هذا الذي يكتب به كل يوم، قاتله الله! فإنه يعود العجلة في غرف الحبر.
    ثم مضت أيام على ذلك، وطالعت في احدى الجرائد قصيدة له هي من الشعر العجب، من الذي يحمل اثر الروية الثاقبة. فلما لقيته في الطريق، قلت له: اليوم يقبلك بوالو بين عينيك، فإنك لم تكتب هذه القصيدة بالقلم الذي اريتنيه ذلك اليوم!
    وها هنا لا بد من القول ان المطبوعين على الشعر هم الذين يفهمون معنى معاودة النظر طلبا لجمال القول في أبعد غاياته. فان الشاعر المطبوع يكون حب الجمال في غريزته. أما متخلفو الطبع فهم لا يفهمون معنى معاودة نظر، ولا طلب جمال، ولا غايات بعيدة. إنهم ليسوا في هذا الوارد!
    هذا، ورحم الله أبا زيد. فقد روي، على ما في نقل للبلوي، انه قال: لا يبيض الكتاب حتى يسود!
    انها حكاية معبرة تتناول مستلزمات العملية الشعرية ليست السليقة وحدها بكافية، ولا يمكن ان يقول شاعر انه كتب ما كتب استنادا الى (النزلة الأولى)، فما يجيئ في النزلة الأولى ليس وحيا يوحى. ان الشعر ينبغي ان يحمل اثر الروية الثاقبة. على الشاعر ان يعيد النظر، وان يحذف، وان ينقح، وان يضيف، طلبا لجمال القول في ابعد غاياته.

    صحيح ان أمين نخلة يستند الى تعاليم بوالو الكلاسيكية حول عملية نظم الشعر، ولكنه يضيف اليها الكثير. انه بوالو آخر لا يقل استنارة عن بوالو وشرحا عبقريا لتعاليمه.
    ولا كلام حول الجانب الإنساني في شعرنا القديم ليس كمثله كلام من حيث تضمن ثراتنا الشعري لهذا الجانب. فهو يصحح او يصوب كلاما للكاتب الشاعر المصري كمال نشأت الذي أعجب بهذا الجانب في شعر ايليا أبي ماضي وجبران خليل جبران وسواهما في شعراء الهجر الشمالي اللبناني.
    يقول أمين نخلة: لقد تحدث الأستاذ كمال نشأت في مجلة الرسالة، مجلة أحمد حسن الزيات، عن الجانب الإنساني في شعر أبي ماضي، وشعر جماعة من شعراء المهجر الشمالي اللبناني، فقال: أما شعرنا العربي القديم فقد جانب هذا الاتجاه، وان ظهر فلمع هنا وهناك.
    ويبدو ان هذا القول لكمال نشأت قد استفز أمين نخلة لأكثر من سبب. أولا انه لم يكن، فيما يبدو، يستلطف ركاكة هؤلاء المهجرين وعلى رأسهم جبران، فوجدها مناسبة ليبدي رأيه في ركاكتهم وليقابل، ثانيا، بين هذه الركاكة واجادات الاقدمين.
    فهو يقول:
    لقد اذكرني كلام الأستاذ نشأت أفراد أبيات قديمة تطبق المفصل في هذا الموضوع السَّنِي. ومن ذلك قول أمية بن أبي الصلت الاندلسي:

    إذا كان أصلي من ترابٍ، فكلها
    بلادي، وكل العالمين أقاربي!
    وقول أبي العلاء من قصيدة له، شرقت طائفة من أبياتها وغربت، وتناولتها الترجمة الى لغة الانجليز والفرنسيين والترك والروس، وهي لا تزال تدور في مجالس الأدب في الدنيا:

    فلا هطلت علي، ولا بأرضي
    سحائب ليس تنتظم البلادا!
    وهما من جهة هذه النزعة الانسانية التي يستشهد لها الاستاذ نشأت بمثل قول ندرة الحداد، من شعراء المهجر:
    هو ذا قممي الذي أحسبه
    ما عشت قممك!

    أعلى طبقة في المعاني وفي المباني، مما ساقه من الشواهد على انسانيات شعرائنا المهجرين.
    وقد اذكرني ايضا كلام الاستاذ نشأت قول البحتري في هذه الشعبة من الموضوع:
    ولا تقل: أمم شتى، ولا فرق
    فالأرض من تربةٍ والناس من رجل!

    أما ما أورده الأستاذ من شعر جبران خليل جبران في باب المساواة، وهو قوله من موشح له طويل:
    ليس في النفايات حر
    لا ولا العبد الذميم
    إنما الأمجاد سخف
    وفقاقيع تعوم!

    وكأن الكاتب، رعاه الله، قد حلا له في ما حلا له هنا، هذه الفقاقيع التي تعوم.. فأين ذلك كله من قول الشاعر القديم:
    وان جاءني يلتف بالطمر أحمر
    أتاني أخا من جانب الأرض يقبل..
    ولا، والله، ما لحسن قوله: «أتاني أخا من جانب الأرض» نهاية!
    وكان له رأي لافت في الجاهلية والعصر الجاهلي: «لا ادري كيف يقولون في تاريخ الأدب العربي: جاهلية وعصر جاهلية! على أنه يوجد من دقائق الفلسفة العقلية في هذا الذي انتهى الينا من شعر الجاهلين.
    وقد ضاعت علينا اجاداتهم في الكتابة والخطابة شيء كثير، فعند النابغة مثلا من الكلام عن النظام السياسي، وعند زهير، والحارث بن حلزة، من الالتفات الى علم الأخلاق والآداب الاجتماعية، وعند طرفة في القصيدة التي يطالب فيها بحقوق أمه (وردة) ما يقصر الشعر اليوم عن لحاقه في هذا الميدان.

    قال لي الريحاني فيلسوف الفريكة ونحن نعرض في احد الايام مسألة القرآن في بلاغته، وأحكامه الروائع، بازاء الجاهلية، ما هذا مؤداه: «لو لم تكن الجاهلية متحفزة الصدى، لما جاء القرآن بهذا الصوت الذي هز الجزيرة في البلاغات والنظم الاجتماعية. وبعد هذا يقولون: جاهلية وعصر جاهلية..
    كان أمين نخلة أديبا كبيرا ولكنه كان ايضا معلما للأدب.

    يضرب المثل عندنا في لبنان بأسلوبه المعجز الذي يحسده عليه الشاعر سعيد عقل. فهو يقول: ان له اسلوبه تمنيت لو يكون لي مثله، وكثيرا ما حاولت تقليده فيه فعجزت..
    ولكن أدب أمين نخلة وان توارى بعض الشيء في زماننا الراهن، فانه يظل مثالا يحتذي، ونموذجا لما كان سائدا من أدب رفيع في منتصف القرن الماضي.
يعمل...
X