إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

تاريخ الجزائر المعاصر (1954-1962).الجزء الثاني

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • تاريخ الجزائر المعاصر (1954-1962).الجزء الثاني

    مقدمة الجزء الثاني
    يسعدني أن أضع بين يدي القراء عامة والطلبة خاصة الجزء الثاني من تاريخ الجزائر المعاصر وهو يغطي الفترة الممتدة من سنة 1954 إلى غاية 1962.‏
    لقد حاولتُ بقدر الإمكان أن تكون الدراسة موجزة وقريبة من الموضوعية التي هي صفة أساسية من صفات البحث العلمي وسعيت مجتهداً وصادقاً، أن أقدمَ من خلال هذا العمل المتواضع أقصى مايمكن من المعطيات الضرورية لتتبع أهم أحداث ثورة نوفمبر ولفهم كثير من محطاتها الرئيسية.‏
    كما أنني توقفتُ ملياً عند بعض المصطلحات والمفاهيم والتي اعتبرتها مفاتيح الكتابة التاريخية والتي بدون التمكن منها يستحيل الوصول إلى حقيقة اندلاع الثورة وتقفي سائر مراحلها.‏
    إنني تعمدتُ عدم التوقف طويلاً عند القضايا الشائكة التي عرفتها جبهة التحرير الوطني طيلة سنوات الكفاح المسلح، وذلك لإيماني بأن الإنجاز الكبير لا يزيدها إلا تعقيداً وغموضاً. وهذا الاعتراف لا يعد هروباً من المسؤولية خاصة وأني أنجزت دراسة وافية شملت كل تلك القضايا مع محاولة الربط فيما بينها والكشف عن خباياها وتسليط الأضواء عن الضباب الكثيف، الذي أحيط بها ورجائي أن تجد طريقها إلى النشر في أقرب الأوقات.‏
    والله ولي التوفيق‏
    الدكتور: محمد العربي الزبيري‏

    إذا الشعب يوما أراد الحياة
    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

  • #2
    رد: تاريخ الجزائر المعاصر (1954-1962).الجزء الثاني

    الباب الثاني
    بناء المجتمع الجزائري الجديد وتطويره‏
    الفصل الأول‏
    الخطوات الأولى في التطبيق الميداني لأهداف الثورة‏
    التوجهات الأساسية:‏
    عندما أشعلت جبهة التحرير الوطني فتيل الثورة، ليلة الفاتح من نوفمبر سنة أربع وخمسين وتسعمائة وألف، فإنها إنما فعلت ذلك لتجسيد إيديولوجية حزب الشعب الجزائري، لأجل ذلك حددت تحركاتها الأولى في إطار توجهات ثلاث.‏
    1 - التوجه السياسي:‏
    ويهدف إلى استرجاع السيادة المغتصبة عن طريق الكفاح المسلح الذي يجب أن يتحول إلى انتفاضة عامة تضعف الجيوش المعتدية، وتخرب الاقتصاد الاستعماري وتفرض جو الحرب الساخنة على فرنسا فتنقاد إلى تفاوض كما حدده نداء الفاتح من نوفمبر سنة 1954.‏
    وفي إطار هذا التوجه السياسي، دعت جبهة التحرير الوطني كافة التشكيلات السياسية إلى الإعلان عن حل نفسها رسمياً(1) ، ودفع مناضليها ومريديها إلى الالتحاق، فرادى، بالصفوف، وأكدت من خلال النداء الأول وفي مناسبات عديدة، أن التفاوض لا يكون إلا معها بصفتها قائداً للكفاح المسلح وممثلاً وحيداً للشعب الجزائري.‏
    وكان قادة جبهة التحرير الوطني يطمحون، بصدق وإخلاص، إلى استرجاع استقلال الجزائر ضمن الوحدة الشاملة للمغرب العربي الكبير، وذلك تماشياً مع إيديولوجية نجم شمال إفريقيا، وإيماناً منها بأن تلك هي الطريقة الوحيدة لقطع خط الرجعة على الاستعمار بجميع أشكاله وألوانه.‏

    2 - التوجه الاقتصادي والاجتماعي:‏
    ويرمي إلى استرجاع الأراضي المغتصبة وإخضاع مجالات الإنتاج والتسويق والاستثمار إلى التخطيط الذي يأخذ بعين الاعتبار واقع البلاد وإمكانياتها واحتياجات الجماهير الشعبية الواسعة.‏
    وبواسطة هذا التوجه كانت جبهة التحرير الوطني تسعى إلى تغيير هيكلة اقتصادية واجتماعية وضعها الاستعمار الاستيطاني طيلة الفترة التي بقيها في ديارنا لتكون دعامة للاقتصاد في الوطن الأم) ولتبقي الإنسان الجزائري في حالة تبعية دائمة تمنعه من الشعور بذاته وتحول بينه وبين مسؤولياته ككائن له حق التصرف في شؤونه.‏
    صحيح أن جبهة التحرير الوطني لم تبدأ، في عامها الأول، ببرنامج اقتصادي، واضح لكنها كانت واعية بأن السلطات الاستعمارية قد اغتصبت ملكيات الجزائريين الزراعية والصناعية خاصة إلى الكولون يستغلونها ويوظفون ثرواتها لتحقيق الثراء الفاحش وللتمكن من ممارسة الاستبداد والاضطهاد على السكان الأهالي، ومن شراء الذمم والأحلاف سواء في أوساط الحكام الفرنسيين بمختلف أنحاء الجزائر أو في فرنسا ذاتها. ولقد تحول ذلك الوعي، في خضم المعركة، إلى رغبة ملحة في استرجاع كل ما أخذ بالقوة. وفي نهاية مرحلة الكفاح المسلح، ظهر التفكير جدياً في إرساء قواعد التسيير الذاتي الذي يعد، بحق، واحدة من الطرق المؤدية إلى انتصار الاشتراكية، والذي هو، في خطوطه العريضة، مأخوذ من تقاليدنا في الإنتاج والتسيير الاقتصادي قبل الاحتلال الفرنسي.‏
    3 - التوجه الحضاري:‏
    ويشمل مجالي الدين والثقافة انطلاقاً من مجموعة من الحقائق أهمها:‏
    أ - إن الاستعمار لاقى مقاومة بطولية دعامتها المسجد ومصدرها في غالب الأحيان إحدى الزوايا التي كانت منتشرة عبر مختلف أنحاء البلاد لأجل ذلك وجه ضربات قاسية إلى الدين ساعدت على تشويهه وتزييف تعاليمه وإغراقه في متاهات الشعوذة والدروشة. نقول ساعد لأن الأرضية اللازمة للقيام بذلك العمل إنما كانت متوفرة، شأن الجزائر في ذلك هو شأن باقي البلاد الإسلامية التي كانت تعيش جواً يسوده الظلم والاستبداد اللذين لا علاقة لهما بالإسلام، ويخضع للخرافات التي أبعدت الناس عن الدين الصحيح. أما المساجد فإنه أفرغها من محتواها الثوري الذي وجدت من أجله، وحولها إلى شبه كنائس، وذلك إذا سلمت من الهدم ولم تحول مادياً إلى مقرات لمؤسسات أخرى دينية أو اقتصادية أو سياسية أو عسكرية.‏
    إن هذه الحقيقة التاريخية هي التي جعلت الجزائر تلجأ إلى الدين:‏
    تخلصه من بعض ماعلق به من شوائب، وفي ذات الحين ترتكز عليه لتزويد المجاهدين بالطاقة الضرورية لهم في مواجهتهم لأعتى قوة استعمارية تفوقهم عدة وعتادا، ولتعبئة الجماهير الشعبية الواسعة وتوعيتها بالوضع الجديد الذي يجب أن تتكيف معه حتى تتمكن من المشاركة الفعلية في معركة التحرير.‏
    وبالفعل، فإن الذي يرجع، بتأمل، إلى تاريخ ثورة نوفمبر يرى أن التكبير والترغيب في الشهادة قد أديا دوراً أساسياً في تثبيت العزائم وتقوية النفوس وتجنيد أغلبية المواطنين حول جبهة التحرير الوطني.‏
    ب - إن الاستعمار كان وما زال يدرك أن شعباً بلا ثقافة شعب ميت، وأن الاحتلال الحقيقي لا يتم إلا عندما يقضي على ثقافة الشعب المعتدى عليه. فانطلاقاً من هذه القناعة عمدت السلطات الاستعمارية، في بلادنا، إلى تجهيل الجماهير، وتزييف التراث الوطني وطمس معالم الثقافة ومصادرها. بادرت إلى صنع ثقافة جديدة لا علاقة لها بواقعنا، ومثقفين، من نوع جديد، زودتهم بالقيم والأخلاق الاستعمارية. وهنا، أنبه إلى أن التعليم ليس هو الثقافة، وأن هناك من الحصول على الثقافة، وأن هناك من المتعلمين باللغة الفرنسية من تمكنوا من الحصول على ثقافة وطنية واسعة.‏
    إن جبهة التحرير الوطني لم تكن تجهل هذا المسعى الاستعماري، ومن ثمة، فإنها إلى جانب الكفاح المسلح، كانت تنظم، في الأرياف خاصة وفي أوساط المجاهدين بصفة عامة، حملات متواصلة لمحو الأمية، وتغيير الذهنيات الجامدة ولرفع مستوى الوعي لدى الفلاحين والعمال، كما أنها كانت تعمل، جاهدة على دعم الأخلاق الثورية المرتكزة على قيمنا العربية الإسلامية، تلكم القيم التي سيكون منها المنطلق لبلورة عناصر الشخصية الوطنية، ولتكوين الإنسان الجزائري الجديد القادر على الإسهام بفعالية في معركة البناء والتشييد من أجل استرجاع السيادة الوطنية وإقامة الدولة القوية المستقلة.‏
    وحينما اتخذت القيادة العليا لجبهة التحرير الوطني قرارها التاريخي الخاص بتفجير الثورة ليلة الفاتح من نوفمبر عام أربعة وخمسين وتسعمائة وألف، قسمت البلاد إلى ست مناطق عينت على رأس كل واحدة منها مسؤولاً، ماعدا منطقة الجنوب.‏
    وتم الاتفاق في نفس الوقت، على ضرورة عقد ندوة وطنية في منتصف شهر جانفي سنة خمس وخمسين وتسعمائة وألف تتولى تقييم المرحلة المقطوعة وإعداد برنامج العمل المستقبلي على ضوء التجربة المعيشة وما يكون قد تخللها من مستجدات.‏
    إن الندوة المذكورة لم تعقد ولم يتمكن القادة التاريخيون من التلاقي لأسباب كلها موضوعية يأتي في مقدمتها استشهاد مراد ديدوش قائد المنطقة الثانية(2) واعتقاد رابح بيطاط قائد المنطقة الرابعة (3) ومصطافه بن بولعيد قائد المنطقة الأولى(4) وعدم تمكن محمد بوضياف(5) من إحكام عملية التنسيق بين الداخل والخارج وهو ما أدى إلى عدم تمكين مختلف المناطق بالأسلحة والذخائر اللازمة لاستمرار المعركة وتطورها. وبالإضافة إلى ذلك هناك حالة الطوارئ(6) وميلاد الحركة الوطنية الجزائرية(7) التي أرادها السيد مصالي الحاج تنظيماً منافساً لجبهة التحرير الوطني.‏
    ولم يبق في الميدان من القيادة السداسية سوى كريم بلقاسم قائد المنطقة الثالثة الذي ظل يبذل أقصى مافي وسعه للتصدي إلى هجمات القوات الاستعمارية، والعربي بن المهيدي الذي صار يسعى للتوفيق بين مهامه كقائد للمنطقة الخامسة وواجبات جديدة فرضت عليه نتيجة اعتقال قائد المنطقة الرابعة.‏
    إن هذا التعثر، على الرغم مما كان يمثله من خطر ماحق على مصير الثورة، لم يمنع جبهة وجيش التحرير الوطني من الانتشار بسرعة فائقة خاصة في أوساط مناضلي حركة الانتصار للحريات الديمقراطية الذين كانوا ينتظرون هذه الظروف الجديدة بفارغ الصبر.‏
    ومن الغريب أن المناطق التي أصابتها أعنف الهزات هي التي طورت أكثر من غيرها.‏
    ونحن نعرف، اليوم، أن عدد المجاهدين الذين لم يكن يتجاوز الأربعمائة ليلة أول نوفمبر قد ارتفع عشية انتفاضة العشرين أوت سنة 1955 إلى حوالي أربعة آلاف، بالإضافة إلى التنظيم المدني السري الذي عم أغلبية أنحاء المناطق الأولى والثانية والثالثة.‏
    ولم يكن تزايد عدد المقاتلين، رغم أهميته كافياً، لأن الأسلحة لم تكن متوفرة لا نوعاً ولا كماً، ناهيك عن الذخيرة وسائر معدات الحرب.‏
    فرجال جيش التحرير الوطني، استطاعوا، في هذه الأشهر الأولى، أن يجمعوا حوالي ألف قطعة سلاح(8) مابين بنادق الصيد والمسدسات العادية والبنادق الحربية الموروثة عن الحرب الامبريالية الثانية ولم يكن هذا هو المتوقع عندما تفرقت القيادة العليا عشية أول نوفمبر، بل أن آمالاً كبيرة كانت معلقة على نشاطات المندوبية في الخارج(9) ومجهودات السيد محمد بوضياف الذي كلف بتعبئة الجزائريين في فرنسا حيث سهولة الاتصال بباعة الأسلحة ومهربيها.‏
    غير أن مندوبية الخارج لم تحصل، رغم الجهود المبذولة والوعود المحصل عليها، على مايمكنها من شراء الأسلحة وإدخالها إلى المناطق. ذلك(10) أن الدول العربية الشقيقة لم تكن تصدق أن يكون للشعب الجزائري،في يوم من الأيام، طليعة تستطيع تفجير الثورة على واحدة من أعظم القوات الاستعمارية في العالم، خاصة وأن الجزائر كانت ملحقة، قانونياً، بفرنسا(11) .‏
    أما السيد بوضياف، فإن مهمته في فرنسا قدتعقدت بسبب سيطرة مصالي شبه الكلية على هياكل حرّكة الانتصار للحريات الديمقراطية(12) لأجل ذلك، فإنه ترك فكرة التسليح مؤقتاً، وراح يقوم بحملة توعية واسعة النطاق في أوساط مناضلي الحركة المذكورة إلى أن تمكن من استمالة عدد كبير منهم سمح له بإنشاء هياكل جبهة التحرير الوطني وإرساء قواعدها الثابتة التي ستبرهن على نجاعتها فيما بعد.‏
    وأمام هذه الظروف الطارئة، فإن قيادات المناطق، حيث تأجج لهيب الثورة قد لجأت إلى الاعتماد على النفس وراحت تأمر بمضاعفة الجهود في مجال صنع المتفجرات التقليدية وجمع ما أمكن من الذخيرة والأسلحة التي كانت بين أيدي المواطنين، هذا من جهة، ومن جهة أخرى رفعت شعار:‏
    "سلاحنا نفتكه من عدونا"، وهو شعار أتى بنتائج إيجابية معتبرة."(13)
    وإلى جانب هذين الإجرائين الحكيمين قام كل من الشهيدين العربي بن المهيدي ومصطفى بن بولعيد، الأول في اتجاه المغرب الأقصى والثاني في اتجاه ليبيا عن طريق تونس، بمحاولة لربط الاتصال بمندوبية الخارج. لكن المحاولتين لم تأتيا بثمار يذكر إذ عاد ابن بولعيد إلى سجن الكدية كما هو معروف.‏
    كل هذه الصعوبات والمشاكل غير المتوقعة لم تمنع المجاهدين من خوض كثير من المعارك الناجحة ضد القوات الاستعمارية المسلحة، كماتم تمنع أعداداً كبيراً من الخونة والعملاء من نيل الجزاء الذي يستحقونه.‏
    إن الدارس لا يستطيع في صفحات قليلة أو حتى في مجلد، أن يتعرض بجد لكل العمليات العسكرية والحملات التأديبية والكمائن القاتلة التي قام بها أو أقامها جيش التحرير الوطني خلال تلك الأشهر الأولى من الثورة.‏
    ولكن كانت الثورة قد حققت كثيراً من التقدم، وأحرزت على العديد من الانتصارات في المجالين السياسي والعسكري، فإن مشاكل التسليح ستظل مطروحة بحدة إلى نهاية عام 1955. وإن هذا النقص في التسليح هو الذي سيسمح للسلطات الاستعمارية بأن تجمع قواها وتوظف إمكانات حربية هائلة لقمع المناطق الثائرة.‏

    *موقف الحكومة الفرنسية من الثورة وتطورها:‏
    وفي صباح اليوم الثاني من شهر نوفمبر، ظهرت الصحافة الاستعمارية بعناوين ترمي إلى هدفين مختلفين: فهي تدعو، من جهة، إلى التزام الهدوء، ومنح الثقة للسلطات المختصة التي تملك من الوسائل ماسيمكنها، في ظرف قصير جداً، من القضاء على الأعمال الإجرامية(14) والدعوة إلى الهدوء والثقة معناها منع الفوضى والاضطراب اللذين من شأنهما أن يخلقا مايحتاجه الثوار من ظروف ملائمة، فتضطرب نيران الحرب، وتعم الثورة التي تحقق المسؤولون من وقوعها رغم تنكرهم لها في الظاهر، وعدم اعترافها بشرعيتها. ومن جهةأخرى. فإن تلك العناوين جاءت عبارة عن ترهيب ووعيد موجهين لقادة وأعضاء الحركة الجديدة، مذكرة بقوة فرنسا وعظمتها وقدرتها على رد الفعل، وعلى استعمال العنف والقمع من أجل التوصل إلى استتباب الأمن وإرجاع المياه إلى مجاريها..‏
    وبهذا الصدد، صرح الوالي العام بأنه يملك وسائل إضافية سوف لن يدخر استعمالها، وأنه سيتخذ كل مايجب اتخاذه من إجراءات لحماية مصالح فرنسا والفرنسيين وللدفاع عنها(15)
    وفي اليوم الثالث من الشهر، تعددت التعاليق وتكاثرت الآراء التي أجمعت، رغم اختلاف الاتجاهات السياسية لأصحابها، بأن جذور ماوقع في الجزائر، يجب البحث عنها في الخارج، لأن الدقة التي ميزت الأحداث"أكبر من عقول الأهالي"(16)
    وبالطبع، فإن أول من وجهت إليه التهم الثقيلة هي الجامعة العربية التي لم تكن،آنذاك تخفي دفاعها عن حقوق أبناء المغرب العربي إلى درجة أنها أنشأت، في القاهرة، مباشرة بعد تأسيسها، مكتباً يمثل الحركات الوطنية العاملة في كل من تونس والجزائر والمغرب الأقصى(17) ، وبالإضافة إلى ذلك فإن إذاعة صوت العرب هي أول محطة أعلنت عن ميلاد جبهة التحرير الوطني، وبشرت بالنصر المبين، ودعت إلى اللحاق بركب المقاتلين، منددة بالقاعدين والمترددين، ثم أن مصر كانت، سنة 1954، ما زالت تعيش في هيجان الثورة وحماسها، تلك الثورة التي رفعت كشعار لها، منذ البداية، خدمة القومية العربية والدفاع عنها أينما وجد أبناؤها.‏
    ومن جهته، فإن السيد ميسكاتلي، ممثل ولاية الجزائر العاصمة في مجلس الشيوخ الفرنسي، قد صرح بأن الأحداث التي تهز المستعمرة منذ ثلاثة أيام ماهي إلا دلالة واضحة على التضامن الوطيد بين مختلف الحركات الوطنية التي تشوش شمال إفريقيا بأسره، بل أن مايتم في واحد من أقطار المغرب، إنما هو باتفاق الجميع ومن تخطيط كل القيادات المتمردة على السيادة الفرنسية(18) .‏
    أما الوالي العام، السيد روجي ليونار، فإنه أبدى اندهاشه أمام التناسق الذي تمت به العمليات عبر مختلف أنحاء البلاد، وراح يؤكد أن كل القرائن تثبت بأن عناصر أجنبية هي التي خططت وهي تقود التمرد قصد تجنيد الرأي العام بمناسبة انعقاد الدورة العادية للأمم المتحدة، والتمكن من فتح ملف المغرب العربي أمام تلك الهيئات الدولية.‏
    وعلى العكس من الوالي العام، فإن السيد مارسيل أدموند نايجلن السابق الذكر، لم يندهش لما وقع، بل ذكر أنه كان دائماً يقول: "إن الجزائر لا يمكن أن تبقى غريبة عما يجري في المغرب الأقصى وتونس"(19) ، ثم حدد خطة للعمل تهدف إلى خنق الثورة في مهدها، وحصرها في نقطتين: تتمثل الأولى في الشروع في تطبيق قانون الجزائر الذي سبقت الإشارة إليه، وتتعلق الثانية بتنمية الخدمات الاجتماعية، وخاصة محاربة البطالة في أوساط الأهالي لصدهم عن الانضمام إلى صفوف جبهة التحرير الوطني.‏
    وخارج الجزائر، فإن "بريد المغرب" قد علق على أحداث الفاتح من نوفمبر بمايلي:‏
    إن الوطنيين يعتقدون أنهم سيسيطرون على عمليات الإرهاب، ولكنهم غالطون، لأن ذلك سوف يتعداهم لفائدة الشيوعيين.(20)
    وكانت الجملة الأخيرة بمثابة الإيحاء، لأن الشيوعية سوف تصبح من خلال وسائل الإعلام، هي المتهم الثاني الذي ستركز سلطات الاستعمار مجهوداتها لتلقي عليه مسؤولية اندلاع الثورة.‏
    وليس معنى الاتهام أن المخابرات الفرنسية لم تكن تعرف الحقيقة، ولكن كان لابد من إيجاد العوامل التي تنفر الجماهير من الحركة الجديدة، وتمنعها من الالتحاق بصفوف المكافحين. ذلك أن الشعب الجزائري مسلم، وإذا كانت الثورة مدعمة، حقاً، من قبل الشيوعية، فإنها تكون، بلا شك، مناهضة للإسلام خاصة وأن هناك سوابق في التاريخ المعاصر:شعوب إسلامية سيطرت عليها الشيوعية، فأخرجتها من الإيمان ورمت بها في أحضان الكفر والإلحاد بحجة مسايرة العلم والتقدم.‏
    ولئن كانت المسؤولية قد ألقيت هكذا جزافاً على كل من الجامعة العربية والشيوعية، هروباً من الواقع المر الذي لم يكن يخفي على الولاية العامة، فإن حركة الانتصار للحريات الديمقراطية هي الأخرى قد تعرضت لقمع أعمى باعتبارها المسوؤل الرئيسي عما وقع(21) ..‏
    وهكذا صدر مرسوم بتاريخ الخامس من شهر نوفمبر، ونشر على أعمدة الجريدة الرسمية التي تحمل تاريخ السابع من نفس الشهر، يقضي بحل حركة الانتصار للحريات الديمقراطية وكل المنظمات والهيئات التابعة لها وتحريم نشاطها في كافة أنحاء تراب الجمهورية الفرنسية بما في ذلك مايسمى بعمالات الجزائر. وأعطيت الأوامر لمصالح الأمن في مختلف أنحاء البلاد، فألقت القبض، خلال الأسبوع الأول من نوفمبر وحده، على أكثر من ألفي رجل من مناضلي ومسؤولي الحركة المصالية وزجت بهم في السجون تستنطقهم، بحثاً عن الحقيقة ومن أجل التوصل إلى القيادة العاملة في كل منطقة.‏
    وأمام تلك الأعداد الضخمة من الإيقافات وبعد قنبلة جبال الأوراس بالنابالم الذي أتلف الأخضر واليابس في جزء كبير منها، عنونت الجرائد الاستعمارية في صحافتها الأولى: "بأن المنظمة الإرهابية قد قضي عليها نهائياً في الشرق الجزائري".(22) .‏
    ومما لاشك فيه أن تصرفات السلطات الاستعمارية، أثناء هذا الأسبوع الأول من الثورة قد ساهمت مساهمة فعالة،وبطريقة عفوية، في تزويد جبهة التحرير الوطني بالكثير من المنخرطين الجدد، كما أنها ساعدت على نشر الرعب في نفوس الأوربيين والتشكيك في كل مايمكن أن يصدر عن الهيئات الرسمية.‏
    وبالفعل، فإن حملة الإيقافات العشوائية قد دفعت الكثير من المترددين إلى تغيير مواقفهم والالتحاق بالجبال، هروباً من السجون ومراكز الاستنطاق(23) . ومن الجانب الآخر، فإن المعمرين لم تعد لهم أدنى ثقة فيما تصدره صحافتهم من بيانات رسمية، خاصة، وأن تلك البيانات كانت قد ذكرت، في البداية بأن عدد المتمردين لا يتجاوز ثلاثمائة أو أربعمائة شخص، يوجد جلهم في منطقة الأوراس.‏
    وبعد نهاية الأسبوع الأول من نوفمبر أفادت بأنه ألقي القبض على حوالي ألف من "الإرهابيين"(24) وبأن العمليات العسكرية الحقيقية سوف تدخل مرحلتها الحاسمة في الأيام المقبلة.‏
    *على هذا الأساس، صار الأوروبيون والذين يقرأون الجرائد بصفة عامة يتساءلون عمن هم هؤلاء الذين تم اعتقالهم.وهل السلطات الاستعمارية تعرف العدد الحقيقي للثوار العاملين في سائر أنحاء الجزائر؟وإذا كانت السلطات الرسمية لا تستطيع الإجابة المقنعة عن هذين السؤالين، فهل يحق للمعمرين أن يثقوا بقدرتها على حمايتهم والدفاع عن ممتلكاتهم، فضلاً عن ثقتهم بقدرتها على تخليص البلاد من ذلك السرطان الذي يهدد الكيان الاستعماري في أساسه؟‏
    ولاسترجاع تلك الثقة المفقودة والضرورية لخوض المعركة، ركزت السلطات الفرنسية على جانبين رئيسيين من جوانب الإعلام والتوجيه: فمن ناحية سلطت الأضواء على حياة بعض الثوار ممن لهم "ماض إجرامي أو علاقات مشبوهة مع القضاء" وذلك للتقليل من قيمة جبهة التحرير الوطني، وحتى يتخلف أبناء العائلات الكريمة عن الالتحاق بصفوف المجاهدين، ومن جملة ما نشرته جريدة "صدى الجزائر": أن جيش التحرير المزعوم يضم من بين قيادات أركانه شخصيات بارزة يمكن أن نذكر من جملتها: الشهير قرين بلقاسم بن بشير الذي يبلغ من العمر سبعاً وعشرين سنة ويجر وراءه سوابق عدلية لا تقوى الجبال على حملها. لأجل ذلك، فإنه لا مجال للدهشة عندما نعلم أنه فضل الالتحاق بأصدقائه المحكوم عليهم. ترأس عصابة من الإرهابيين بدلاً من أن يستسلم للعدالة ويقضي في السجن سنوات الأشغال الشاقة التي حكم بها عليه سنة 1950".(25)
    ومن ناحية ثانية، ركزت وسائل الإعلام، بأمر من المسؤولين طبعاً، على التدخل الأجنبي والإمدادات الخارجية"، التي بدونها لا يمكن للجزائريين أن يقفوا في وجه قوات الأمن الفرنسية(26) وبهذا الصدد، ذكر أن خمس مائة "إرهابي" تونسي التحقوا بجبال الأوراس في الأيام الأولى من شهر نوفمبر لتنظيم وحدات القتال، وتدريب الأهالي على استعمال الأسلحة وعلى خوض حرب العصابات. كما ذكر أن السلطات العسكرية قد لاحظت بأن بعض الطائرات تأتي، ليلاً، بدون أدنى ضوء فتفرغ حمولاتها بمنطقة الأوراس، وتضيف نفس المصادر أن تلك الطائرات قد يكون منطلقها من المملكة الليبية(27)
    وبالإضافة إلى كل ذلك، فإن الصحافة الفرنسية راحت تعمل على تعميم الفكرة القائلة بأن الثوار إنما هم جماعات معزولة ومنبوذة من الجماهير التي لا ترغب سوى في أن تبقى فرنسية كاملة الحقوق والواجبات. وبهذا الصدد نشرت "صدى الجزائر" خبراً مفاده أن سكان تيزي غنيف قد حاولوا الاعتداء على اثنين وثلاثين إرهابياً وقعوا أسرى أثناء عملية قامت بها "قوات الأمن"(28) .‏
    وقد أدت هذه الأوضاع، متظافرة، إلى تذبذب السلطات الاستعمارية التي لم تعد تعني مايصدر عنها من أقوال وتصرفات وصارت تتخبط في عدد لا حصر له من التناقضات.‏
    ففي ظرف يومي، الثامن والتاسع من شهر ديسمبر، أعلن السيد ميتران وزير الداخلية آنذاك، "أن سبعين ألف جندي يعملون في المناطق المشوشة للتدليل على أن فرنسا محمية في الجزائر"(29) ، وصرح السيد ليونار الوالي العام، في حفل رسمي "أن المتمردين لا يزيد عددهم عن أربعمائة شخص"، وعنونت "صدى الجزائر: إن قوات الأمن ألقت القبض على سبعمائة وخمسين وقتلت وجرحت سبعين من "الإرهابيين"(30) .‏
    ومع حلول السنة الجديدة، تغيرت الأوضاع كلية، حيث أدركت السلطات الاستعمارية أن لافائدة في مواصلة الكذب والمخادعة العاريين، فراحت قرار بتصعيد العمليات العسكرية للقضاء على مايسمى في تطبيق برنامج إصلاحي في الجزائر وعن اتخاذ قرار بتصعيد العمليات العسكرية للقضاء على مايسمى في ذلك الحين بجيوب التمرد(31) .‏
    فبالنسبة للنقطة الأولى. فإن السلطات الاستعمارية لم تجهد نفسها كثيراً. وإنما اكتفت بنفض الغبار عن قانون الجزائر الذي أودع رفوف المحفوظات منذ تاريخ صدوره سنة 1947. وأضيف إلى مواد ذلك القانون، لكي يبدو أن هناك تجديداً، إجراء خاص بإعطاء المرأة الجزائرية حق الانتخاب.‏
    ولقد رأى المعمرون خطراً ماحقاً في تمكين المرأة العربية المسلمة من سلاح يخشى أن يستعمله المناضلون للاستحواذ على كافة المؤسسات السياسية المسيرة للبلاد. كما أنهم اعتبروا تفكير حكومتهم في تطبيق قانون الجزائر، والمعارك قائمة، تعتبر تنازلاً للذين حملوا البنادق، وخطوة عملاقة في طريق التخلي عن العمالات الثلاث المكونة للجزائر الفرنسية. لأجل ذلك، فإنهم رفعوا شعاراتهم المعادية لسياسة الحكومة المركزية، وجندوا كل طاقاتهم للإطاحة بها، خاصة وأن السيد مانداس فرانس، يعد في نظرهم، واهب الاستقلالات ومخرباً للامبراطورية الاستعمارية(32) .‏
    وكان المعمرون أقوياء فعلاً، بالإضافة إلى أن تحركاتهم وقعت في ظرف كانت الحكومة فيه معرضة للهجومات مع جميع الجهات. وتزعم حركة المعمرين، تلك، رؤساء بلدياتهم الذين أوفدوا جماعة منهم إلى فرنسا، تشرح وجهة نظرهم، وتشتري الأنصار من بين كبار الشخصيات الفرنسية المسيطرة على المسرح الفرنسي.‏
    ويتضمن مخطط كفاح رؤساء البلديات ثلاثة مطالب مركزية، نستخرجها من الندوة الصحفية التي عقدها الناطق الرسمي بأسمائهم: السيد إيزلا، بتاريخ الخامس والعشرين من شهر جانفي سنة 1955.‏
    ويأتي على رأس تلك المطالب: المعارضة الشديدة لكل الإصلاحات المقترحة والتي ستجعل من الجزائر، حسب رأيهم، تونس ثانية، ولكي لا يظهر رؤساء البلديات في زي الطغاة المستبدين، صرح إيزلا "أن تطبيق الإصلاحات سينظر فيه بعدعودة السلام، واستتباب الأمن في البلاد"(33) .‏
    أما المطلب الثاني، فيدعو إلى التعجيل بإرسال الجيوش المدربة القادرة على خوض المعارك، لأن الأجناد المتواجدين في الميدان غير مهيئين لحرب العصابات. ولذلك، فإن اللفيفا الأجنبي(34) والطوابير المغربية(35) هي التي يجب أن تخصص لقتال الجزائريين. ولقد طرحت هذه الفكرة لأنها تمنع أبناء فرنسا من الموت المحقق، خاصة وأن أبناء المعمرين يؤدون الخدمة العسكرية كغيرهم، كما أنها تجعل الحرب تدور بين الأجانب فقط.‏
    وأما المطلب الثالث، فهو اقتصادي محض يدعو إلى تزويد الجزائر بقروض من ميزانية "الوطن الأم".‏
    ومن الجدير بالذكر أن الحكومة الفرنسية لم تبق مكتوفة الأيدي أمام كل تلك التحركات، فأصدر مجلس الوزراء بتاريخ الخامس والعشرين من شهر جانفي، هو نفس اليوم الذي عقد فيه السيد إيزلا ندوته الصحفية، بياناً يتضمن تعيين السيد جاك سوستال والياً عاماً للجزائر، والإعلان عن دمج شرطة الجزائر في شرطة فرنسا(36) .‏
    وإذا كان الإجراء الأول يهدف إلى التخلص من السيد ليونار الذي أصبح أسير كمشة من المعمرين المتطرفين، فإن دمج الشرطة يخرج قوات الأمن الأساسية من قبضة الشرذمة، ويسمح للسلطة المركزية بتعيين ضباط تستطيع الاعتماد عليهم، لأن ضباط ذلك الحين كانوا يأتمرون بأوامر الكولون.‏
    إن مبادرات الحكومة سليمة، في حد ذاتها، وكان من الممكن أن تكون لها نتائج إيجابية، ولكنها جاءت مختلفة، ولذلك، فإنها أدت إلى عكس ماكان ينتظر، فسقطت حكومة مانديس في اليوم الخامس من شهر فيفري سنة 1955، أي بعد عشرة أيام فقط من صدور البيان المذكور.‏
    أما بالنسبة للنقطة الثانية، فإن القيادة العسكرية، في الجزائر، قد شرعت منذ اليوم التاسع عشر من شهر جانفي، في تنظيم عمليات واسعة النطاق استهلتها بقنابل مكثفة لجبال الأوراس، ثم أَلقت بآلاف الجنود المزودين بجميع أنواع الأسلحة لتمشيط المنطقة، وسمي ذلك بعملية "فيرونيك" تشبيهاً بحركة القديسة التي تحمل نفس الاسم عندما مسحت وجه المسيح. والمقصود من ذلك التشبيه أن الجيوش الفرنسية تلقت الأمر "بتفتيش المنطقة شبراً شبراً حتى لا يبقى فيها متمرد واحد"(37) .‏
    لقد نسي الاستعمار مقولة ماوتسي تونغ الشهيرة: "أن الثورة أسماك مياهها الجماهير الشعبية"(38) .‏
    ومما تجدر الإشارة إليه أن السيد ليونار هو الذي أشرف على انطلاق عملية فيرونيك التي ستتبعها في اليوم الثالث والعشرين من نفس الشهر عملية "فيوليت" الموجهة لتطهير الجبال المحيطة بمدينة بسكرة والممتدة على حوالي مائتين وخمسين كيلو متراً مربعاً". (39)
    إن هزيمة مانديس فرانس، التي كانت أكبر دليل على قدرة الكولون وسعة سلطانهم، قد أغرقت فرنسا في أزمة سياسية تركتها بدون حكومة مدة تسعة عشر يوماً، ظهرت خلالها عدة محاولات فاشلة قامت بها شخصيات ذات انتماءات سياسية وعقائدية مختلفة. ويبدو أن الملل، من جهة، واطمئنان المعمرين على مصالحهم الخاصة، من جهة ثانية، هما اللذان سمحا للسيد ادقار فور أن يفوز بالثقة التي مكنته من تشكيل حكومته يوم 24 فيفري 1955م.‏
    ولا يمكن أن تكون مجرد صدفة تلك التي جعلت سوستيل الوالي العام الجديد، يعلن، بنفس التاريخ، إن فرنسا لن تتخلى عن الجزائر، إلا كما تتخلى عن مقاطعة بريتاني(40) .‏
    وليس ذلك فقط هو الدليل الوحيد على انتصار الطغمة الاستعمارية، بل إن هناك تصريحات أخرى، سيدلي بها سوستيل في مختلف أنحاء البلاد، يؤكد فيها بقوة أن فرنسا قد أدركت أهمية الجزائر، لذلك فهي مستعدة للذهاب إلى أبعد الحدود قصد الحفاظ عليها، وبعد الإعلانات ومختلف التصريحات جاءت الإجراءات(41) التي قيل، في ذلك الحين، إنها تشكل مرحلة أولى تتجاوب مع ثلاثة اهتمامات هي:‏
    1 - ضرورة توفير الأمن للسكان، بواسطة استعمال الوسائل العسكرية المكثفة.‏
    2 - الشروع في سياسة اقتصادية جديدة تأخذ بعين الاعتبار ثروات الصحراء التي من شأنها أن تغير مصير فرنسا.‏
    3 - تبني فكرة "الجيوش الإفريقية" التي كان بيجو قد استعملها في بداية الاحتلال والتي هي عبارة عن استعمال نفس الأسلحة التي يقاتل بها رجال المقاومة.‏
    لكن أخطر إجراء هو ذلك الذي نشرته الصحافة الصادرة بتاريخ التاسع عشر مارس في شكل بيان من وزارة الداخلية يحمل اسم: حالة الطوارئ.‏
    وحالة الطوارئ إجراء قانوني جديد، اتخذته السلطات الفرنسية تجنباً للجوء إلى حالة الحصار التي تدعو إليها أحكام الدستور أثناء الدخول في حرب أو عندما يتمرد الجيش.‏
    وقد جاء في بيان وزارة الداخلية أن حالة الطوارئ تشكل حلاً وسطاً بين الحالة العادية حيث الاحترام لجميع الحريات، وحالة الحصار التي تؤدي حتماً إلى تفكيك الهياكل التقليدية الإدارية، لأنها تنقل الحكم إلى السلطات العسكرية. ذلك أن حالة الطوارئ تبقي للسلطات المدنية حق ممارسة الحكم، ولكنها تعمل على تركيزه وتدعيمه.‏
    ليصبح أكثر ملاءمة مع أحداث تعد كارثة عمومية، من شأنها أن تعرض الأمن للخطر وأن تمس بالسيادة الوطنية(42) .‏
    وتنص المادة الأولى من وثيقة حالة الطوارئ على أن الإجراء الجديد "يمكن تطبيقه على كل أو على جزء من تراب "الوطن الأم" والجزائر أو عمالات ماوراء البحار، ويكون ذلك سواء في حالة وقوع خطر داهم نتيجة اضطراب الأمن العام، أو في حالة وقوع حوادث تتسم بطابع الكارثة العمومية نظراً لنوعها وخطورتها"(43) .‏
    ومامن شك أن الغموض والتقييم في هذه المادة مقصودان لتتمكن الحكومة من ممارسة الظلم والاضطهاد في كل مكان يمكن أن ترتفع فيه أصوات الدفاع عن الديمقراطية والحرية.‏
    وبمجرد ما وضعت حالة الطوارئ حيز التنفيذ، دخلت الجزائر مرحلة جديدة من حياتها وأهم ماطبعت به تلك المرحلة: ظهور المحتشدات التي توخي في إنشائها اختيار المناطق النائية ليصعب الاتصال بالمجبرين على الإقامة فيها.‏
    وكان اللجوء إلى إنشاء المحتشدات أمراً منطقياً يندرج في إطار المادة السابعة من وثيقة حالة الطوارئ، والتي تشير إلى أنّه في استطاعة وزير الداخلية في جميع الحالات والوالي العام في الجزائر. أن ينفيا إلى أية دائرة ترابية، أو إلى أي مكان محدد كل شخص يبدو نشاطه خطيراً على الأمن والنظام العام.‏
    وعلى الرغم من أن الوثيقة تنص في مكان آخر على أن النفي لا يؤدي إلى إنشاء المحتشدات، إلا أن ذلك لم يحترم ولم يكن بالإمكان احترامه لأن نفي مئات الأشخاص إلى مكان واحد يتطلب إمكانيات جبارة للقيام بالرقابة اليومية ولتوفير الأكل والسكن.‏
    لأجل ذلك كانت السلطات الاستعمارية مضطرة لإقامة المعسكرات، متبعة في ذلك أساليب النازيين أثناء الحرب الامبريالية الثانية.‏
    ولئن كانت المحتشدات في ظاهرها نقمة على الجزائريين فإنها في الحقيقة قد ساعدت، كثيراً، على نشر مبادئ وأهداف جبهة التحرير الوطني. إذ سرعان ما تحولت إلى منابع لاتنضب تزود روافد الكفاح المسلح سواء في الريف أو في المدينة.‏
    وقد استغلت الإطارات السياسية تلك التجمعات الهائلة لتنظيم الدروس الاستعجالية في كافة الميادين، ولتعد الذهنية الجزائرية للتكيف مع الأوضاع الجديدة المفروضة على البلاد.‏
    ومن الأكيد أن مستوى الوعي والإدراك لدى الجماهير الجزائرية قد ارتفع بنسبة عالية، جداً بفضل ماقدمته المحتشدات من معرفة، ماكان بالإمكان نقلها بمثل تلك السرعة، إلى مثل تلك الجموعات الهائلة.(44) . ذلك أن كل من يخلى سبيله، ويرجع إلى ذويه، يتحول، تلقائياً، إلى داعية متشبع بالعقيدة، قادر على الإقناع.‏
    وهكذا، نستطيع القول إن حالة الطوارئ التي كان المقصود منها شل الحركة النضالية وإخماد النشاط الثوري، قبل استفحاله، قد أتت بنتائج عكسية سيكون لها مفعول كبير في صقل روح المقاومة، خاصة عند النخبة من أبناء الشعب الجزائري.‏
    أما السلطات الاستعمارية، فإنها لم تكتفِ بسن حالة الطوارئ، ولكنها راحت تبذل كل مافي وسعها لخلق الظروف الملائمة لتطبيقها على أكبر عدد ممكن من دوائر وبلديات الوطن الجزائري.‏
    ففي هذا النطاق، افتعلت الأخبار والإشاعات التي مفادها "أن المتمردين، في جبال أوراس، قد تلقوا، عن طريق الجو، الأسلحة التي أرسلتها دول أجنبية قصد إغراق البلاد في بحر من الفوضى والاضطراب وانعدام الأمن، ومن أجل زرع الشقاق بين الأشقاء وتوسيع هوة الخلاف بينهم"(45) .‏
    ومثل هذا الوضع يشكل، بالطبع، سبباً متيناً لتطبيع حالة الطوارئ.‏
    ونشرت الصحافة أن المملكة الليبية ومصر هما اللتان تحركان التشويش وتدعمان التمرد من أجل الانفصال عن "الوطن الأم"، لأنهما غير راضيتين عما حققته الجزائر الفرنسية من تقدم وازدهار.‏
    ونقلت الصحافة، كذلك، نبأ إلقاء القبض على الملازم العراقي: محمد حمادي عبد العزيز، وهو يحارب إلى جانب الثوار بالقرب من بوغني. ثم خصصت أهم الأعمدة لنشر تصريحاته التي تحذر الجزائريين مما تبثه إذاعة "صوت العرب" من أكاذيب حول الوجود الفرنسي في الجزائر، مؤكداً أن حالة سكان منطقة القبائل التي يعرفها أفضل بكثير من حالة أحسن المصريين(46) .‏
    وكانت هذه الأخبار المكذوبة كافية لفرض تطبيق حالة الطوارئ على نواحي الشرق الجزائري في بادئ الأمر، ثم تعميم ذلك، بالتدريج، على سائر المناطق التي بدا فيها تمركز الثوار بكيفية مقلقة. ولكي يكون للإجراء الجديد فعالية أكبر، قررت السلطات الاستعمارية تعيين الجنرال غاستون بارلنج(47) على رأس القيادة الموحدة للعمليات العسكرية والمدنية في الأوراس، ولقد تم التعيين بسبب ما حاز عليه ذلك الضابط السامي من شهرة في المغرب الأقصى حيث كان يشرف على منطقة أغادير ذات المراس الصعب، ونشرت الصحافة آنذاك، أنه وضع تحت تصرفه الفيلق الأكثر أوسمة من فيالق الجيش الفرنسي"(48) .‏
    وبالإضافة إلى بارلنج، تم تعيين العقيد ديكورنو قائداً لناحية السمندو(49) ، المحاذية لمنطقة الأوراسي، وأوردت الأنباء، في ذلك الحين، بأن ديكورنو هو بطل الهند الصينية، دون أن تبين في أي مجال: أي في الهجوم أو في الانسحاب، لأن نتائج تلك الحرب غير القتلى والأسرى والمعطوبين.‏
    وكانت هذه التحركات مدعمة بتصريحات سياسية ومبادرات ميدانية، ففي المجال السياسي التأكيد على أنها ستبقى كذلك رغم تدخلات الأجانب(50) أما المبادرات الميدانية، فتتمثل في إقدام بعض المسؤولين أمثال المتصرف هرتز (51) على تكوين فرق الحركة، وفي أوامر الجنرال بارلنج المتعلقة بجعل المسؤولية جماعية على سكان المناطق الريفية التي تكون مسرحاً للمعارك مع الثوار، أو تتهم بالتعاون معهم.‏
    إن كل هذه المجهودات الحربية قد ترجمت، في النهاية، برفع عدد أفراد الجيش النظامي العامل بالجزائر إلى مائة ألف عسكري، بالإضافة إلى تعزيز مايسمى بقوات الأمن والمتمثلة في رجال الشرطة والدرك الوطني الذين كانوا، في تلك الأشهر الأولى من الثورة في المناطق، يقومون مقام الأجانب.‏
    غير أن تلك الإعدادات والمساعي لم تحقق لسلطات الاستعمار ماكانت تصبو إليه، ولم تخمد نار الثورة الملتهبة خاصة في المناطق الأولى والثانية والثالثة من أرض الوطن(52) .‏
    ولقد نشرت يوم 27 يونيو سنة 1955، على أعمدة الصحافة، نتائج المعارك التي دارت رحاها في تلك الأشهر الأولى،ولم تكن مشجعة بالمقارنة مع ما بذل من جهد، خاصة في الميدان العسكري.‏
    لقد ورد في الإحصاءات المنشورة: أن القوات الفرنسية في الشمال القسنطيني قد قتلت ثلاثمائة متمرد، وأسرت ثلاثمائة وسبعة وأربعين، في حين قتل من أفرادها تسعة وسبعون وجرح تسعة وأربعون، وقتل من المدنيين الفرنسيين مائة وتسعة وعشرون وجرح مائة وتسعة وأربعون(53) .‏
    وبتعبير أسهل، فإن الخسائر الفرنسية قد بلغت، إلى غاية التاريخ المذكور أعلاه، ثلثي الخسائر الجزائرية، وأنها لنتيجة جد مشجعة بالنسبة للثورة الفتيية التي لم تكن تطمح إلى مثل ما توصلت إليه.‏
    ومن الممكن أن السيد سوستال قد انتبه إلى هذه الحقيقة، واعترف في قرارة نفسه بأن القتال لن يؤدي إلى النصر المنتظر، لأن الجماهير الجزائرية قد بدأت تتبنى الثورة. لأجل ذلك، فإنه رمى في الميدان بمحاولة خاصة أطلق عليها اسمه، وهي عبارة عن برنامج إصلاحي موجه إلى كافة ميادين الحياة، ويشتمل على عشر نقاط..(54)
    إن هذه التحركات المخططة والمدعومة بنشاط سياسي مكثف قد جاءت بالنتائج المرتقبة، ففي خلال السداسي الأول من سنة 1955، ارتفع عدد الأجناد الفرنسيين من حوالي أربعين ألفاً، قبل فاتح نوفمبر، إلى مايزيد عن مائة ألف، تدرب جزء كبير منهم في مدن وأرياف الهند الصينية، وزود السلاح الجوي بمجموعة من الطائرات المطاردة والطائرات العمودية والطائرات المقنبلة، كما أن سلاح المدفعية قد تلقى عدداً من المدرعات والمدافع الثقيلة والمصفحات المختلفة الأنواع، في حين تم تعزيز القوات البحرية العامة في الجزائر بوحدة من البوارج الحربية(55) .‏
    وإلى جانب الجهد العسكري الكبير نظمت السلطات الاستعمارية حملة دعائية واسعة لتمجيد المظليين وإرهاب الأهالي(56) .‏
    ومن جهة أخرى، صدرت تعليمات برفع عدد المحتشدات والتجمعات، ونشطت الرقابة السياسية في ميداني الثقافة والإعلام، حيث صودرت مجموعة من الكتب لأنها تتعرض لحرب العصابات وحروب التحرير بصفة عامة، ومنعت من العرض بعض الأفلام الأمريكية مثل "قنطرة وادي كواى" و"الجنرال" وغيرهما مما له صلة بالمقاومة والكفاح المسلح.‏
    رغم كل هذه الاحتياطات ومضاعفة الإمكانيات الحربية، ورغم مشاكل التسليح التي لاقتها جبهة التحرير الوطني في السنة الأولى، فإن الجنرال شاريار لم يتردد، فإن أحد تقاريره، عن القول إن مايجري في الجزائر، حالياً، يمكن أن تكون له عواقب وخيمة، وعليه ينبغي، في نظره، ألا تنسى بأن التأني والضعف لا ينفعان في البلاد الإسلامية(57) .‏
    وعندما قطعت الثورة نصف عام من حياتها، كتب المارشال جوان (58) إلى رئيس الحكومة الفرنسية السيد ايدكارفونر (59) يحرضه على اتخاذ الإجراءات الصارمة. ومن جملة ماجاء في كتابه: إن الوضع في الجزائر خطير جداً، والمعلومات الأخيرة التي وصلتنا تنبئ بأننا نسير نحو انتفاضة معممة تحت لواء الجهاد، وذلك في سائر عمالة قسنطينة(60) .‏
    إن هذا التشكي الصادر عن القادة الفرنسيين، العسكريين منهم والسياسيين، إنما يهدف إلى حمل الحكومة الفرنسية على الاستجابة، بدون مناقشة، لكل الطلبات المتعلقة برفع ميزانية الحرب وعدد المقاتلين، وبسن القوانين الجديدة التي من شأنها أن تساعد على خنق الثورة في مهدها.‏
    ومع مرور الزمن، واتساع النشاط الثوري وافقت الحكومة الفرنسية على تطبيق مبدأ المسؤولية الجماعية وإعطاء التعويض المطلق للقادة العسكريين يفسرون ذلك المبدأ كيفما شاؤوا.‏
    كل هذه التدابير التعسفية كان الهدف من اتخاذها الحد من روح المقاومة لدى الجماهير الشعبية وكذلك تسليط أنواع القمع على المناضلين الوطنيين قصد إبعادهم عن جبهة التحرير الوطني، ولكن النهاية كانت عكسية، اعترف بذلك، بعد استرجاع الاستقلال، كل الذين عالجوا تاريخ ثورة نوفمبر العظيمة.‏
    (1) مازال هذا الموضوع يسيل كثيراً من الجدل، فمفجروا الثورة يصفون قيادات التشكيلات السياسية في ذلك الوقت بالانتهازية ويتهمونهم بعدم الإستجابة للنداء في الوقت المناسب، لأن الحزب الشيوعي حل من طرف السلطات الفرنسية في سبتمبر سنة 1955 ورغم ذلك ظل ينشط سرياً في الداخل وفي الخارج إلى أن استرجعت الجزائر استقلالها. أما جمعية العلماء والاتحاد الديمقراطية للبيان الجزائري فإنهما أعلنا عن حل نفسيهما وانضمام قيادتيهما فرادى إلى جبهة التحرير الوطني في شهر أفريل سنة ست وخمسون وتسعمائة وألف.‏
    (2) استشهد في معركة بوكركر على مقربة من مدينة زيغود يوسف حالياً يوم 18/01/1955.‏
    (3) تم اعتقاله على إثر وشاية يوم 25/02/1955.‏
    (4) تم اعتقاله في شهر فيفري سنة 1955 عندما كان يحاول اجتياز الحدود التونسية الليبية بحثاً عن الأسلحة والذخيرة.‏
    (5) الأسباب التي منعته من ذلك كثيرة منها: مرض السل وعدم اعتراف المندوبية الخارجية بسلطته.‏
    (6) إجراء قانوني اتخذته السلطات الاستعمارية بدلاً عن حالة الحصار وكان ذلك يوم 19/02/1955.‏
    (7) هناك اختلاف كبير حول تاريخ ميلادها بالضبط لكننا نرجح أن يكون في يوم 22/12/1955 على إثر حل حركة الانتصار يوم 15/11/1954 لأن الحركة الوطنية التي يتزعمها الحاج مصالي عودتنا على أنها تلجأ إلى اسم جديد كلما تعرضت لإجراءات الحل، أما التشكيلة فتبقى بدون تغيير.‏
    (8) - حزب جبهة التحرير الوطنيالمنظمة الوطنية للمجاهدين)، من معارك ثورة التحرير، منشورات قسم الإعلام والثقافة، الجزائر بدون تاريخ، ص 14، ومابعدها.‏
    (9) - كانت المندوبية مكونة من السيدمحمد خيضر رئيساً وعضوية السيد أحمدبن بلة وأيت أحمد وكلهم يعيشون في القاهرة بتفويض من قيادة حركة الانتصار للحريات الديمقراطية، وكانوا ملاحقين من طرف السلطات الاستعمارية بسبب ما تحملوه من مسؤوليات في إطار المنظمة الخاصة.‏
    (10) Aurcre, Editions Garnier, P. 68. Une Guerre.1. ABBAS Ferhat ) Autopsie d‏
    (11) - خيضر محمد)، "بدايات الثورة"، المجاهد، العدد، 12- بتاريخ 30/4/1962.‏
    (12) HARBI Mohamed), Le FLN Mirage et réalité, des origines àla prise du pouvoir- 1945-19620 P. 151.‏
    (13) - من معارك ثورة التحرير، ص 16.‏
    (14) انظر جريدة "صدى الجزائر" Echo d ' Alger، الصادرة بتاريخ 2 نوفمبر سنة 1954.‏
    (15) جريدة "Echo d' Oran" الصادرة بتاريخ 3 نوفمبر سنة 1954.‏
    (16) نفس المصدر.‏
    (17) مكي الشاذلي)، "مكتب تحرير المغرب العربي، الشعب، العدد 1092، الصادر بتاريخ 17/03/1966. يذكر الكاتب الذي كان يمثل حركة الانتصار للحريات الديمقراطية في المكتب المذكور برئاسة الأمير عبد الكريم الخطابي أن الجماعة العربية خصصت لها ميزانية لتكوين وتدريب جيش تحرير شمال إفريقيا.‏
    (18) Ladépêche de Constantine: العدد الصادر بتاريخ 02/11/1954.‏
    (19) نفس المصدر.‏
    (20) "بريدالمغرب"، الصادر بتاريخ 2 نوفمبر 1954.‏
    (21) روبارت مارل؛ أحمد بن بلة، قالي مار باريس سنة 1960، ص 96-97، يقول المؤلف أن أحمد بن بلة ذكر له أن قيادة الثورة كانت تراهن على ارتكاب فرنسا كل هذه الأخطاء.‏
    (22) ص Echo D'Oran La dépêche de constantine du 09/11/1954. Alger- Echo d Echod‏
    (23) المنظمة الوطنية للمجاهدين، أشغال المؤتمر لكتابة التاريخ، الجزائر 1981، ج1، ص 107.‏
    (24) نفس المصدر، ص 109.‏
    (25) انظر "صدى الجزائر"، عددها الصادر بتاريخ 5 نوفمبر سنة 1954.‏
    (26) صدى الجزائر، العدد الصادر بتاريخ 8/11/1954 ص2.‏
    (27) المنظمة الوطنية للمجاهدين، أشغال المؤتمر الأول لكتابة التاريخ، الجزائر 1981، ص 111.‏
    (28) - صدى الجزائر، عددها الصادر بتاريخ 9/12/1954.‏
    (29) - نشر الخبر على أعمدة كل الصحافة التي صدرت بالجزائر يوم 09/12/1954.‏
    (30) - صدى الجزائر، العدد الصادر بتاريخ 9/12/1954.‏
    (31) La dépéche de constantine du 1954/12/11‏
    (32) لأن حكومة مانداس فرانس هي التي وقعت اتفاقيات جيناف التي أنهت حرب الهند الصينية، وأعطت الاستقلال الداخلي لتونس وفتحت المفاوضات مع سلطان المغرب الأقصى قصد إعادته إلى العرش.‏
    (33) صدى الجزائر بتاريخ 28 ديسمبر 1954.‏
    (34) جيش أنشأته فرنسا في الجزائر سنة 1831، وهو مكون من المتطوعين القادمين من جميع البلاد المسيحية بهدف تكريس احتلال دار الجهاد، وقد ظل يتجدد بنفس الطريقة إلى أن استرجعت الجزائر استقلالها، وكانت قاعدته الأساسية هي مدينة سيدي بلعباس الكائنة على بعد ثمانين كلم جنوبي وهران.‏
    (35) - هي لفيف مكون من مقاتلين ينتمون إلى قبائل مختلفة من المغرب الأقصى استعملوا لقمع الحركة الوطنية في مراكش ثم جيء بهم إلى الجزائر حيث ظلوا يقاتلون جيش التحرير الوطني إلى مابعد استقلال بلادهم، وهكذا الاستعمار,‏
    (36) Alistair) Histoire de la Guerre d'Algérie , traduit de l'anglais par Yves de Guermy, Editions Albin Michel, Paris 1980 p 109‏
    (37) Courriére Yves) . Les Fils de la toussaint, Fayard Paris 1968.P550..‏
    (38) Documents chinois, Troisiéme session de la6éme assemblée de la république populaire de chine, Beying 1985.p77.‏
    (39) - إيفكوربار، ص 551.‏
    (40) - انظر عدد -"صدى الجزائر" الصادر بتاريخ 24 فبراير 1955، أما مقاطعة بريطانيا فهي منطقة مكونة من أربع ولايات تقع غرب فرنسا كانت دولةمستقلة انضمت إلى فرنسا في عهد فرانسوا الأول سنة 1534.‏
    (41) إليستر هورن، ص 111.‏
    (42) La dépeche de constontine عددها الصادر بتاريخ 19/03/1956 والحقيقة من حالة الطوارئ، هي ذاتها حالة الحصار، لأنها تتضمن إجراءات تقضي على الحريات الفردية التي يتمتع بها كل مواطن فرنسي والتي لا تمس ولا تنتهك إلا في حالة تطبيق المادة السابقة من دستور 1947، وهي نفس المادة المتعلقة بحالة الحصار ومن جملة تلك الإجراءات:‏
    1 - النفي أو الإقامة الجبرية.‏
    2 - تفتيش في الليل والنهار.‏
    3 - مراقبة الصحافة والنشر الثقافي.‏
    4 - إحلال القضاء العسكري محل القضاء المدني في بعض الحالات.‏
    (43) Comité de vigilance des étudiants, les pouvoirs spéciaux Lyon 1955.04‏
    (44) هناك أعداد كبيرة من المعتنقين الشباب تمكنوا من التحصيل العلمي واستطاعوا الاستقلال أن يشاركوا في المسابقات الخاصة بالدخول إلى الثانويات والجامعات.‏
    (45) انظر، صدى الجزائر، بتاريخ 09/04/1955 ومابعد.‏
    (46) صدى الجزائر ، عددها الصادر بتاريخ 09/04/1955.‏
    (47) وقع تعيين الجنرال بارلنج يوم 29 أفريل سنة 1955.‏
    (48) وصل هذا القلق إلى قلب الأوراس يوم 3 مارس سنة 1955.‏
    (49) وهي مسقط رأس العقيد الشهيد زيغويد يوسف، وهي اليوم تحمل اسمه، وتقع المدينة على بعد خمسة وعشرون كلم شمال قسنطينة.‏
    (50) انظر صدى الجزائر في عدديها الصادرين يوم 30/04/1955، ويوم 12/05/1952.‏
    (51) هو حاكم بسكرة والمشرف علىناحية توقرت العسكرية.‏
    (52) المنطقة في ذلك الوقت هي اسم الولاية مؤتمر الصومام يوم 20 يوليوسنة 1956.‏
    (53) انظر "صدى الأخبار" في عددها الصادر بتاريخ 27 يونيوسنة 1955.‏
    (54) النقاط المكونة لبرنامج سوستيل هي:‏
    1 - تقسيم إداري جديد لإنشاء عمالات ودوائر أخرى، وفي اعتقاد سوستال فإن هذا الإجراء سيسهل عملية المراقبة ويضبط حركة المواطنين.‏
    2 - تعصير الفلاحة، وذلك عن طريق الكنكة، لعل الأسلوب الحديث يلهي الجزائريين ويشدهم إلى الأرض، فلا يلتحقون بصفوف جبهة التحرير الوطني.‏
    3 - توسيع الصناعة الخفيفة، قصد خلق الوظائف ومناصب الشغل التي تمتص طوابير العاطلين قبل أن تمتد إليهم يد الثورة الزاحفة.‏
    4 - تحويل البلديات المختلطة قصد الانسجام الإداري، ومن أجل الاستجابة لأحد مطالب النخبة في الجزائر.‏
    5 - استقلال الدين الإسلامي عن الإدارة الفرنسية، وذلك يكون استجابة لأحد المطالب الأساسية التي تنادي بها جمعية العلماء.‏
    6 - تعليم اللغة العربية في المدارس الحكومية، مع العلم أن هذه النقطة تشكل مطلباً تنادي به كافة التشكيلات الوطنية في الجزائر.‏
    7 - محاربة الأمية بواسطة اللغة الفرنسية، لعل ذلك يقرب الجزائريين أكثر إلى الأمة الفرنسية.‏
    8 - فتح أبواب التكوين المهني للجزائريين حتى يشعر الشباب خاصة بأن هناك مساواة بينهم وبين المعمرين.‏
    9 - تمكين الفرنسيين المسلمين من الالتحاق بالوظيف العمومي حتى لا يبقى ذلك السلك حكراً على المستعمرين، وحتى تحضر الشروط الضرورية لخلق طبقة جديدة تستفيد من الحياة الرغدة التي تمنعها من الانتباه لصيحة الجهاد.‏
    10- مطالبة الوطن الأم بتكثيف المساعدة للمشاريع الاجتماعية التي من شأنها أن تخلق جواً من الارتياح والرضى لدى أغلبية سكان الجزائر.‏
    (55) محمد العربي الزبيري، الثورة الجزائرية في عامها الأول، المؤسسة الوطنية للكاتب، الجزائر 1984، ص 119. وما بعدها.‏
    (56) جاء في أحد المنشورات العديدة التي كانت تلقى بالطائرات على قرى المنطقتين ومداشرهما: "عما قريب سينزل السخط على رؤوس المتمردين، بعد ذلك سيحل السلم الفرنسي من جديد".‏
    (57) ديشمان، جاك: تاريخ جبهة التحرير الوطني، بتريس 1962، ص 184.‏
    (58) اذفونتش جوان، مارشال فرنسي من مواليد عنابة سنة 1888. شارك في احتلال المغرب الأقصى، حيث جرح سنة 1915، عين مساعداً للمرشال ليوتي، ألقى عليه القبض على رأس وحداته سنة 1940، أطلق سراحه بطلب من بيتان بعد عام واحد قضاه في الأسر. رئيس أركان الجيش الفرنسي 1944-1946. والي عام في المغرب الأقصى 1947 -1951 ثم مفتش عام للجيش إلىغاية عام 1953. عين على رأس قوات الحلف الأطلسي لوسط أوروبا من 1951 إلى 1956، أعلن سنة 1961، عن مناهضته لسياسة الجنرال ديغول في الجزائر.‏
    (59) من السياسيين الاشتراكيين في فرنسا، ولد سنة 1908، ترأس الحكومة الفرنسية مرتين سنة 1952 وسنة 1955. اختار في الأخير تدريس القانون بكلية الحقوق في ديجون.‏
    (60) رسالة تحمل تاريخ: 18 ماي سنة 1955.‏

    إذا الشعب يوما أراد الحياة
    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

    تعليق


    • #3
      رد: تاريخ الجزائر المعاصر (1954-1962).الجزء الثاني

      الفصل الثاني
      المجتمع الجزائري الجديد وكيفية تنظيمه‏
      لقد اغتنمت جبهة التحرير الوطني أول فرصة أتيحت لها، في اليوم العشرين من شهر أوت ست وخمسين وتسعمائة وألف، لعقد المؤتمر الذي كان منتظراً جمعه في بداية عام خمسة وخمسين وتسعمائة وألف(1) وضبطت جدول أعماله في نقطتين اثنتين هما:‏
      1 - إثراء بيان الفاتح من نوفمبرعام أربعة وخمسين وتسعمائة وألف.‏
      2 - تعيين القيادة العليا التي تناط بها مسؤولية مواصلة الكفاح من أجل استرجاع السيادة الوطنية. فبيان الفاتح من نوفمبر كان إعلاناً عن ميلاد جبهة التحرير الوطني، وتحديداً للخطوط العريضة التي يشتمل عليها برنامجها السياسي والعسكري. أما التسمية فيعود سببها إلى رغبة المجموعة التي أشعلت فتيل الثورة في التدليل على أنها لا تنتمي إلى أي من الجناحين المتصارعين داخل حزب الشعب الجزائري وأنها تتجاوز كل الصراعات الشكلية التي لا تفيد سوى الاستعمار، لترجع النضال إلى الطريق السوي المتمثل في الكفاح المسلح.‏
      فالكفاح المسلح هو الوسيلة الوحيدة التي ظل حزب الشعب الجزائري يستعد للوصول إليها، إيماناً منه بأنها اللغة التي يفهمها غلاة الاستعمار الفرنسي.(2)
      *وعندما يتأمل الدارس مختلف النقاط التي عالجها بيان أول نوفمبر سنة 1954، يتأكد أن ماحدث في تلك الليلة لم يكن إعلاناً عن مجرد حرب تحريرية تنتهي بوقف إطلاق النار بل كان بداية ثورة ترمي في ذات الوقت إلى تحرير الأرض وتحرير الإنسان.‏
      لأجل ذلك فإن القيادة العليا مطالبة، بالإضافة إلى سهرها على توفير الشروط اللازمة لإنجاح المعركة المسلحة، بوضع تصور إجمالي للمجتمع الذي ينتظر بناؤه بعد القضاء على السيطرة الأجنبية.‏
      من هنا جاء اهتمام مؤتمر وادي الصومام بالنقطتين المشار إليهما أعلاه، ولقد ناقش المؤتمرون مشروع وثيقة شاملة(3) نجد اليوم مقتطفات منها، ونعرف من الذين شاركوا في وضعها أن بعض أجزائها ظلت بعيدة عن متناول القارئ ويتحمل في نهاية الأمر، أنها ضاعّت رغم الإيماءات والإشاعات(4) .‏
      ومن وجهة النظر الإيديولوجية، فإن وثيقة وادي الصومام تعتبر ميثاقاً تضمن، بكثير من الدقة والتفاصيل، تقييم المرحلة المقطوعة من حياة الثورة وآفاق المجتمع الجزائري بعد استرجاع السيادة الوطنية، بالإضافة إلى تنظيم مختلف جوانب الكفاح المسلح وتصور المشروع السلمي لتسوية القضية الجزائرية. وإذا كنا قد أعطينا للنقطة الأولى حقها في الفصل الأول فإننا نخصص هذا الفصل الثاني لدراسة المجتمع الجزائري الجديد وكيفية تنظيمه:‏
      أ - في مجال السياسة الداخلية:‏
      لقد كان حزب الشعب الجزائري يسعى، بالدرجة الأولى، إلى تنظيم الطليعة المتشبعة بإيديولوجيته قصد تكليفها بالنفاذ إلى أوساط الجماهير حيثما وجدت توعيها بالواقع الذي تعيشه وتجندها لخوض المعركة عندما يحين الأوان، لأجل ذلك كان المناضلون يستعملون جميع الوسائل لإقناع أكبر عدد ممكن من المواطنين بضرورة الخلاص من كل أنواع السيطرة الأجنبية.‏
      كان الهدف الأول، إذن، يرمي إلى جعل الإنسان الجزائري يدرك أنه يعيش وضعاً مختلفاً كلياً عن وضع الأوربي، وأن من الواجب عليه العمل على إحداث التغيير.‏
      فالمستعمر الدخيل استطاع، بوسائل متعددة، أن يستولي على الأراضي الخصبة والمناجم الغنية بالثروات المعدنية وأن يسخر، لاستغلالها، كل السواعد القادرة على العمل كما سبقت الإشارة إلى ذلك في الباب الأول من هذه الدراسة.‏
      ولكي تتمكن السلطات الاستعمارية من تأييد حالة التبعية في أوساط الجماهير الجزائرية ومن إبقائها في دائرة التخلف، فإنها كانت تطبق بكل دقة مبدأ "فرق تسد".‏
      "فالجزائر لم تعرف الاستقلال في تاريخها، ولم يكن فيها شعب واحد، ولا هي قادرة على العيش بدون وصاية أجنبية. أما سكانها فأجناس مختلفة وقبائل متنافرة متناحرة"(5)
      لقد استطاع المؤرخون أن يعرفوا المكتبات بما مفاده أن العناية الاستعمارية قد جعلت من الجزائريين أمة في طور التكوين أهم عناصرها هم العرب واليهود والأوروبيين، ولأنها لم تكن موجودة من قبل، فإنه لا يحق لأبنائها أن يموتوا لكي تبعث من جديد كما أكد ذلك السيد فرحات عباس عندما قال: لو اكتشفت الأمة الجزائرية لكنت وطنياً دون أن أخجل من ذلك خجلي من ارتكاب الجريمة، لكنني لن أموت من أجل الوطن الجزائري لأنه غير موجود. إنني لم أعثر عليه. لقد سألت التاريخ واستنطقتُ الأحياء والأموات وزرت المقابر ولم أجد من يعرف ذلك. إن البناء لا يكون على رأس من الريح(6) .‏
      وفي نفس هذا المعنى كتب السيد بيار مونتانيون "أن فحص ألفي سنة من تاريخ المغرب الأوسط يجعلنا نؤكد عجز الشعب الجزائري عن بناء أمة وإنشاء حضارة. لقد تساءل المؤرخون حول ذلك فلم يجدوا أثراً للدولة الجزائرية ولا لثقافة خاصة تتميز بمؤلفاتها الأدبية وآثارها الفنية. إن تاريخ الجزائر فارغ مثل أرضها التي ليس فيها سوى آثار الآخرين"(7)
      ولم يقف السيد مونتانيون عند مجرد الادعاء، بل إنه حاول إيجاد أسباب للفراغ وللموت المذكورين: وفي نظره، فإن ذلك يرجع إلى كون الجزائر لم تنجب أبطالاً يوحدون شعبها ولا بين شخصيات علمية وثقافية وسياسية قادرة على إحداث التغيير والتطور التارخيين. يقول في هذا الصد" إن هذا البلد الذي أنجب أمثال القديسين أوغستين(8) وتارتليان(9) والقدس سيبريان(10) قد أصبح بعد الفتح العربي مفترقون إلى عظماء باستثناء الأمير عبد القادر. ومن الواضح أن في ذلك تكمن أسباب التبعية التي عاش فيها الجزائريون والتي دامت مدة ألفي سنة(11) .‏
      لأنه كان يعتبر الأمة الجزائرية غير موجودة ولا مجال لبعثها، فإن الاستعمار لم يجعل لنفسه حدوداً في تعامله مع الجزائر. فقد أعلن مبكراً عن ضمها إدارياً إلى التراب الفرنسي(12) ولجأ إلى كثير من المحاولات لتحقيق فرنسة الجماهير وتنصيرها قصد دمجها نهائياً في الشعب الفرنسي، ومن خلال كل تلك المحاولات كان يتفنن في سن القوانين المساعدة على إنجاح عملية السلخ و التشويه، نذكر على سبيل المثال: قانون الأهالي الذي لم يبلغ إلا سنة 1944(13) والقانون البلدي الصادر يوم الخامس من شهر أفريل سنة أربع وثمانين وثمانمائة وألف والقاضي بإعطاء حق التصويت للمالكين والمزارعين والموظفين والمتقاعدين والحاصلين على الأوسمة بهدف فصلهم عن جماهيرهم الشعبية. وهناك، أيضاً، القانون الخاص بإنشاء الفوضويات المادية(14) الذي وقع إصلاحه يوم 04/02/1919 بواسطة القانون الذي يحمل اسم صاحبه الوالي العام جونار إلى غير ذلك من الأمريات والقرارات والمراسيم.‏
      إن كل هذه الأوضاع اللاطبيعية هي التي استهدفت سياسة جبهة التحرير الوطني تغييرها جذرياً واستبدالها لما يمكن شعب الجزائر ليس من استرجاع الاستقلال الوطني فحسب ولكن، وفي المقام الأول، من استعادة مقومات الشخصية الوطنية التي لابد منها لبناء صرح الدولة الجزائرية التي قوضت أركانها جيوش الاحتلال عام ثلاثين وثمانمائة وألف.‏
      لأجل ذلك أكدت وثيقة وادي الصومام(15) على أن الكفاح المسلح يبقى مستمراً، وأن كل الطاقات الوطنية يجب أن تعبأ لتدعيمه وتطويره بجميع الوسائل إلى أن تتحقق الأهداف التالية:‏
      1 - الاعتراف بالشعب الجزائري شعباً واحداً لا يتجزأ، معنى ذلك أن خرافة "الجزائر فرنسية" و"الشعب الفرنسي المسلم" و"الأمة التي في طور التكون" كل ذلك يجب أن يزول من القاموس الاستعماري.‏
      2 - الاعتراف بالسيادة الوطنية على كافة الميادين بما في ذلك الدفاع الوطني والسياسة الخارجية. وهذا يعني أن الحلم الذي بدأ يراود فئة من المستعمرين وعدداً ممن يسمون بالمعتدلين الجزائريين يجب أن يتبخر، لأن أي نوع من الاستقلال الذاتي لا يمكن إلا أن يكرس الهيمنة الأجنبية وتثبيت الاستعمار الجديد.‏
      3 - الاعتراف بجبهة التحرير الوطني كممثل وحيد للشعب الجزائري، لها وحدها حق التفاوض وحق الأمر بوقف إطلاق النار وينجر عن هذا الاعتراف إجبار السلطات الاستعمارية على إطلاق سراح جميع الجزائريين والجزائريات الأسرى المعتقلين والمنفيين بسبب نشاطهم الوطني قبل وبعد اندلاع الثورة.‏
      إن استرجاع السيادة الوطنية على هذا الأساس من إلغاء الواقع الاستعماري الذي من المفروض أن تزول بزوال كل علاقات العسف والتبعية، وتبني من جديد على قواعد ثابتة ومتينة، أركان الدولة الجزائرية المتخلصة نهائياً من الرواسب التي من شأنها تسهيل عودة الاستعمار الجديد.‏
      فالسيادة الوطنية التي ترمي جبهة التحرير الوطني إلى استرجاعها لا تخص ميداناً دون آخر، بل إنها تشمل جميع مجالات الحياة وتمتد على كافة التراب الوطني حسب الحدود المرسومة من قبل السلطات الاستعمارية نفسها. لأجل ذلك. فإن ميثاق وادي الصومام قد عالج مسألة التفاوض مع العدو بكيفية دقيقة ومفصلة لا تترك أي منفذة للتحاليل وللمناورات.‏
      وعندما ينظر الدارس بتمعن إلى الأهداف المذكورة أعلاه يجد أنها مترابطة فيما بينها ومتكاملة، ذلك أن السيادة الوطنية تفقد كل معناها إذا كان الشعب مطعوناً في وحدته مصاباً بداء التقسيم والفرقة اللذين يكونان نتيجة لو فتح المجال لأطراف أخرى تتحدث باسم الشعب الجزائري. مع العلم أن التمثيل مطلقاً في مثل هذه الحالة لا يكون مجدياً. إلا إذا كان الممثل قوياً ويملك بين يديه وسائل حقيقية ولتوجيه الأحداث في الاتجاه الذي يقطع على العدو خطوط الرجعة، ويفرض عليه الالتزام بالإطار المرسوم للتفاوض.‏
      على هذا الأساس، أكدت وثيقة وادي الصومام ضرورة مضاعفة الجهد من أجل إعادة تنظيم الجماهير الشعبية في الأرياف وفي المدن وإعدادها عن طريق التوعية والترشيد لتجاوز دائرة التخلف التي وضعها فيها الاستعمار وللتخلص من الذهنيات المتحجرة التي ألصقها بها وأنماط الحياة التي فرضت عليها والتي تهدف فقط إلى إبقائها في حالة الغيبوبة والتبعية الدائمتين.‏
      فالمجالس الشعبية التي شرع في إنشائها منذ الأشهر الأولى لاندلاع الثورة(16) يجب أن يتم تدعيمها وتوسيع شبكتها بحيث تشمل كافة أنحاء الوطن وأن تسند إليها مسؤوليات تجعلها أكثر فعالية وأكثر اتصالاً بالجماهير الشعبية. فالمجلس الشعبي الواحد أصبح يتكون قانونياً من خمسة أعضاء بما في ذلك الرئيس، ويشرف على تسيير الحالة المدنية والمالية والاقتصادية والشرطة.‏
      وبعابرة أدق، فإن المجلس الشعبي حيث ما وجد يحل محل الإدارة الاستعمارية التي يجب أن تزول نهائياً وتزول اتصالاتها بالأوساط الشعبية(17) .‏
      لقد نجحت المجالس فعلاً في أداء مهمتها إذ استطاعت خاصة أن تقضي قضاءً مبرماً على النزاعات التي كانت قائمة بين الأعراش والأفراد والتي كانت السلطات الاستعمارية تحبذها كي تبقى دائماً مصدر ضعف بالنسبة للمتنازعين ومنفذاً يسمح للمحتل وأعوانه بالتمركز أكثر لمواصلة العبث بمصير المواطنين.‏
      ولم يكن ذلك النجاح ليخفى على الإدارة الاستعمارية التي كانت تقابله بمحاولات يائسة تتمثل في الترهيب والترغيب وفي الإعلان عن عدم اعترافها بالصلح الذي يحدث والتآخي الذي يتم(18) . ويندرج الإشراف على المجالس الشعبية ضمن اختصاصات المحافظين السياسيين الذين يتولون كذلك، مهام تربية الجماهير وتنظم التعليم والإعلام والدعايةإلى جانب القيام بتوجيه الحرب النفسية على مختلف الجبهات(19) .‏
      فالاستعمار الذي لم يفته التطور السريع الذي تعيشه الثورة في كافة المجالات لم يعد مكتفياً بالعمليات العسكرية التي ينظمها في سائر أرياف الوطن ويوفر لها ماتحتاج إليه من عدة وعتاد وحينما رأى تلك العمليات تعداها إلى التركيز على تسخير الإمكانيات المادية والبشرية لمحاولة تحييد الجماهير في مرحلة أولى قبل الدفع بها في معسكره تساعده على إخماد أنفاس الثورة. وقد كان المحافظون السياسيون يتصدون إلى هذه المساعي قصد إحباطها بجميع الوسائل. فقد كانوا يعتمدون على وسائل الإقناع، وعندما يشعرون أنها لم تعد تجدي نفعاً، فإنهم يلجأون إلى الترهيب الذي كثيراً مايكون مصحوباً بالتنفيذ الفعلي. وفي بعض الأحيان توظف الخرافة واللامعقول إذا كان ذاك ضرورياً لرفع معنويات الجماهير الشعبية أو لتنشيط عزائم العدو أو لتحقيقهما معاً(20) .‏
      وهكذا فإن مؤتمر الصومام لم يكتف بترسيم وظيفة المحافظ السياسي، ولكنه جعلها أساسية بالنسبة لمسار الثورة. فالمحافظ مسؤول متجول، يقضي كل أوقاته في التنقل بين المداشر والمشاتي يراقب المجالس الشعبية ويجمع ما أمكن من المواطنين يكونهم سياسياً وينشر بينهم إيديولوجية جبهة التحرير الوطني.وفي ذات الوقت، كان يزور وحدات جيش التحرير الوطني يزودها بالأخبار ويحلل أمامها المعطيات السياسية في داخل البلاد وفي خارجها، ويسجل الاحتياجات والمطالب التي يناقشها مع المسؤولين الأعلى ويعمل على الاستجابة لها بقدر الإمكان وفي حدود المستطاع.‏
      ويعتبر هذا الاهتمام البالغ الذي أولاه المؤتمر للجماهير الشعبية دليلاً على التحول الجذري الذي حدث في إيديولوجية الثورة التي كانت تعتمد على الطليعة لتحقيق الأهداف المرسومة فصارت تركز على الشعب وتثق على إحداث المعجزة التي لم تكن في الحسبان. ويبدو أن هذا التحول قد بدأ يفرض نفسه مع انتفاضة العشرين من شهر أغسطس سنة خمس وخمسين وتسعمائة وألف. ففي ذلك التاريخ حدث انقلاب لا مثيل له في موازين القوى إذ تخلص جيش التحرير الوطني الفتي من عقد الخوف التي كانت تفرض عليه التحرك ليلاً والنشاط خفية فصار أفراده ينتقلون في وضح النهار بينما انتقل الرعب إلى نفوس الأجناد الفرنسيين الذين أصبحوا، بفعل دعاية الكولون، يرون في كل واحد من الجزائريين مجاهداً أو مناضلاً مستعداً للانقضاض عليهم.‏
      ولم يكن ذلك هو التحول الوحيد الذي عرفته إيديولوجية الثورة الجزائرية، بل هناك نقاط أخرى اختلفت حولها الآراء كثيراً واشتد فيها إلا عن طريق التصويت بأغلبية الثلثين. ومن بين تلك النقاط الحساسة التي سيكون لها أثر بالغ على سير أحداث الثورة مايلي:‏
      1 - هيئات قيادة الثورة:‏
      لقد كانت الحاجة الماسة إلى قيادة واحدة وموحدة للثورة الجزائرية هي الدافع الأول الذي جعل المنطقة الثانية تسعى، منذ شهر مارس عام ست وخمسين وتسعمئة وألف(21) ، إلى جمع مؤتمر وطني يضم الإطارات القيادية في داخل البلاد وخارجها(22) . لكن ذلك لم يمنع المؤتمرين من التوقف طويلاً عند مناقشة هذه النقطة. وعلى الرغم من أن محضر الجلسات لم ينشر كاملاً إلى يومنا هذا حتى يطلع الباحث على حقيقة مادار من حوار يقال أنه كان صريحاً إلى أبعد الحدود وعنيفاً إلى درجة التهديد بتفجير المؤتمر، إلا أن الشهادات التي أدليت خاصة بمناسبة انعقاد ندوة التاريخ الخاصة بالولاية الثانية في اليومين الأخيرين من شهر جانفي سنة خمس وثمانين وتسعمائة وألف كافية لأخذ صورة مجملة عن المداولات التي جرت يومها فتصريحات السيد لخضر بن طوبال(23) الذي كان من المشاركين الأساسيين تدل على أن ممثلي المنطقة الثانية وعدداً من ممثلي المنطقتين الثالثة والرابعة كانوا كلهم يطالبون بأن تكون القيادة التي تنبثق عن المؤتمر مكونة فقط من الإطارات الأساسية التي ساهمت في تفجير الثورة والتي هي متشعبة بإيديولوجية واحدة، وذلك حفاظاً على التوجهات الثورية وتجنباً للانزلاق في شتى أنواع الانحراف، لكن الأغلبية من المؤتمرين وفي مقدمتهم السيدان العربي بن مهيدي وعبان رمضان كانوا يرون أن الثورة قد توسعت وصارت تضم في صفوفها فئات اجتماعية مختلفة وتيارات إيديولوجية متعددة، وهي مدعوة لأن تتطور أكثر مضطر لأن يأخذ بعين الاعتبار كل هذه المعطيات الجديدة ويخرج بقيادة تكون ممثلة لكافة الاتجاهات الوطنية.‏
      لقد انتصرت الأغلبية في ذلك الوقت وتدخل مبدأ المركزية الديمقراطية ليمنع الانقسام الفعلي ويضمن للقيادة الجديدة استمرارية وحدتها ويوفر لها شروط النجاح(24) . ولكن، اليوم، بعد مرور أكثر من ثلاثين سنة على تلك العملية فإن الآراء ماتزال مختلفة حول جدواها.‏
      *إن التحليل المعمق للقرار الذي صدر عن مؤتمر الصومام حول ضرورة إشراك جميع التيارات الوطنية في هيئات قيادة الثورة يقودنا حتماً إلى القول بأن العملية كانت أخطاءً إيديولوجية لأنها لم تشترط على الإطارات الملحقة سواء بالمجلس الوطني للثورة الجزائرية أو بلجنة التنسيق والتنفيذ تخليها، نهائياً عن قناعاتها الفلسفية وتبنيها المطلق للإيديولوجية التي يعود الفضل إليها في تهيئة الأرضية الصلبة التي انطلقت منها الشرارة الأولى المعلنة عن بدء الكفاح المسلح الذي لن يتوقف إلا عندما تسترجع السيادة الوطنية إن هذا لم يحدث وذلك لسببين أساسيين في نظرنا هما:‏
      أ - إن قادة جبهة التحرير الوطني الذين كانوا يدافعون عن فكرة منح المناصب القيادية للإطارات السامية الآتية من التشكيلات السياسية الأخرى دون احترام التدرج النظامي الذي تخضع له إطارات الثورة منذ ليلة الفاتح من نوفمبر، إنما كانوا يرمون، من خلال ذلك إلى ترغيب الإطارات السامية المذكورة وجعلها تسارع إلى الالتحاق بالصف، معتقدين أن بقاءهم خارج إطار جبهة التحرير الوطني قد يشجع الاستعمار على استعمالهم لخلق قوة ثالثة للضغط بها عند الحاجة(25) لقد كان هذا الإجراء ممكناً لكنه لم يكن أكيداً. لكن الذي لاشك فيه هو أن المشكل الإيديولوجي لم يطرح على المسؤولين الجدد الذين سيظلون محتفظين بقناعاتهم الفكرية والثقافية إلى غاية وقف إطلاق النار.‏
      ب- إن الإطارات القيادية التي جاءت من التشكيلات السياسية الأخرى لم تكن قادرة، في ذلك الوقت، على المبادرة لطرح المشكل الإيديولوجي لأنها، في معظمها، إنما التحقت حتى لا يفوتها الركب من جهة، ولأنها أصبحت خائفة من الموت الذي بدأ يطرق باب الشخصيات المترددة(26) من جهة ثانية.‏
      هكذا، إذن، فإن خوف البعض من الموت ومن فوات الأوان، وخوف البعض الآخر من ظهور القوة الثالثة خاصة بعد المحاولات التي قام بها سوستيل على أصعدة مختلفة هو الذي لم يسمح بتسوية المشكل الإيديولوجي من البداية. وبقاؤه معلقاً على النحو الذي كان عليه هو الذي سيسهل تفجير الوضع السياسي في الجزائر مباشرة بعد استرجاع السيادة الوطنية.‏
      قد يقال: لكن الأزمة السياسية التي أخرجت قطار الثورة من سكتة كانت كل أطرافها متشبعة بإيديولوجية واحدة، لأن رئيس الحكومة المؤقتة، يومها، أغلبية وزرائه ورئيس أركان جيش التحرير الوطني وكل قادة الولايات في داخل الوطن وكذلك مسؤولي اتحادية جبهة التحرير الوطني في فرنسا كلهم كانوا، قبل اندلاع الثورة، مناضلين في صفوف حركة الانتصار للحريات الديمقراطية. لقد كان ذلك صحيحاً، لكن المحيط الذي تدخل بعنف وقام بالدور الرئيسي في إذكاء نار الفتنة إنما كان يعمل لإيجاد الفرص الملائمة لعودة الإيديولوجيات المختلفة إلى الميدان، وليس ثمة لتحقيق ذلك، أفضل من الصراع الدموي على السلطة، لأن إراقة الدماء واللجوء إلى العنف على حساب الحوار يؤديان حتماً إلى تشتيت الصف واختفاء الأمن والاستقرار وشيوع الفوضى والاضطراب وكلها آفات تنخر جسم المجتمع وتفسح المجال للتعددية بجميع أنواعها.‏
      ورغم كل ذلك، فإن الدارس المتمعن للأوضاع السائدة يومها في الجزائر لا يسعه إلا أن يقول: إن مؤتمر وادي الصومام كان مصيباً في قراره، لكن الخطأ يكمن في كون القيادة الثورية لم تول كل العناية للتطور الإيديولوجي الذي كان يحدث بفعل نمو جبهة التحرير الوطني واتساع شبكة منظماتها الجماهيرية. ولو أنها فعلت ذلك لوجدت نفسها متشبعة بفكر واحد، تتكلم لغة واحدة ومستعدة لمواجهة كل الطوارئ بنفس العزيمة، ونفس الحزم اللذين تميزت بهما طيلة فترة الكفاح المسلح.‏
      ولأن أغلبية المؤتمرين صادقت على القرار، فإن المجلس الوطني للثورة الجزائرية قد جاء مكوناً من 34 عضواً نصفهم أساسي ونصفهم إضافي الصنفين ومشتملاً في الصنفين، على أقلية قليلة من الإطارات التي كانت تقود مختلف التشكيلات السياسية الوطنية التي قررت أخيراً، الالتحاق بجبهة التحرير الوطني ومايقال عن المجلس الوطني للثورة الجزائرية لا يمكن تطبيقه على لجنة التنسيق والتنفيذ التي اشتملت على خمسة أعضاء كلهم من قدامى حركة الانتصار للحريات الديمقراطية.(27)
      2 - أولوية السياسي على العسكري:‏
      لقد لاقى معارضة شديدة من طرف عدد من القادة المشاركين في المؤتمر لاعتقادهم بأن عبان و أعضاء لجنة الصياغة الذين كانوا معه وهم من السياسيين إنما يريدون احتواء الثورة والسيطرة عليها، خاصة وأن المبدأ المذكور جاء مقروناً بآخر نص على أولوية الداخل على الخارج. وإذا عرفنا أن المسؤولين غير العسكريين هم قادة العاصمة التي استقلت عن الولاية الرابعة وأعضاء مندوبية الخارج واتحادية جبهة التحرير الوطني في فرنسا أدركنا شرعية تخوف المعارضين للمبدأين.‏
      لكن السيد عمار بن عودة(28) يذكر أن التخوف المشار إليه سرعان ما تبدد عندما أعطيت التفسيرات التي مفادها أن المقصود بأولوية السياسي العسكري هو التركيز على التفاوض مع العدو لضبط شروط وقف إطلاق النار، لأن الانتصار العسكري على واحدة من أكبر الدول الاستعمارية في العالم يُعد من باب المستحيلات تقريباً خاصة إذا كانت تلك الدولة عضواً فاعلاً في منظمة الحلف الأطلسي(29) .‏
      والحقيقة أن التفسيرات المذكورة إنما تم اللجوء إليها فقط للتهدئة ولتقديم التبريرات اللازمة لكبح النفوس وعدم الانقياد لما قد لا يحمد عقباه. فالسياسي والعسكري سواء كان عملاً أو شخصاً، شيء واحد، لأن العمل السياسي يبرمج له الرجل السياسي كما أن القائدالعسكري هو الذي يشرف على تنفيذ العمليات العسكرية التي يكون قد خطط لها. فإذا كانت الأولوية للعمل السياسي، فذلك يعني أن قرار الرجل العسكري يأتي في الدرجة الثانية كوسيلة لدعم مواقف المسؤول السياسي.‏
      وفيما يخص أولوية الداخل على الخارج، فإن المؤتمر قد لجأ إلى إقرارها لأسباب عدة يمكن استخلاص أهمها من العرض الذي قدمه الشهيد العربي بن المهيدي إلى المؤتمرين عن المهمة التي قام بها إلى القاهرة في مستهل عام ستة وخمسين وتسعمائة وألف(30) .‏
      فالعرض المذكور يؤكد بصريح اللفظ أن مصر لا يمكن الاعتماد عليها مطلقاً في الحصول على الأسلحة لأن موقفها من الثورة الجزائرية يخضع بقسط وافر إلى نشاطها الديبلوماسي(31) كما أن مندوبية جبهة التحرير الوطني غير قادرة على أن تكون قيادة موحدة بفعل الانقسام السائد بين أفرادها الذين مازال كل منهم يبحث عن الزعامة لنفسه. ومما لا ريب فيه أن ثمة خلافات أخرى كثيرة ظهرت أثناء أشغال المؤتمر لكن أصالة ثورة نوفمبر وضعت حداً لكل مامن شأنه أن يتجاوز الخط الأحمر. وظل العمل على تعبئة كل الطاقات الحية قصد القضاء المبرم على النظام الاستعماري هو المهمة الأساسية التي تحجب جميع المهام الأخرى، لأجل ذلك، فإن المؤتمرين صادقوا بالإجماع على الخطوط العريضة التالية:‏
      1 - إن وحدة الشعب الجزائري مقدسة وكذلك وحدة التراب الوطني، وأي تنازل عن جزء من هذه أو تلك يعد خيانة عظمى. وتعتبر جبهة التحرير الوطني هي الممثل الشرعي للشعب والقائد الوحيد للثورة التي ستظل مستمرة إلى أن يتم بكيفية مطلقة تحرير الأرض وتحرير الإنسان.‏
      وعلى جبهة التحرير الوطني، كي تكون في مستوى المهمة المسطورة لها، أن تواصل ضرب جذورها في أعماق الجماهير الشعبية الواسعة لأن بذلك تكمن القوة التي هي في حاجة إليها لمواجهة عدة الامبريالية وعتادها.‏
      فمن هذا المنطلق تعمل جبهة التحرير الوطني بجميع الوسائل المتوفرة لديها، على محاربة الآفات الاجتماعية مثل الرشوة والجهوية والقبلية والعشائرية والانتهازية التي تشكل مصادر ضعف قاتل وحواجز تعرقل عملية التجنيد من جهة ومساعي بناء المجتمع الثوري من جهة ثانية.‏
      والنجاح في الارتقاء إلى ما تطلبه مستواها كحركة تحررية شاملة يحتم على جبهة التحرير الوطني أن ترسم مجموعة من الضوابط تلتزم بها في سعيها الدائب من أجل تحويل الجماهير الشعبية إلى طاقة خلاقة تتعدى وقف إطلاق النار لتهز أركان التخلف وتشق طريق الانتصار لعملية البناء والتشييد في كافة المجالات وعلى جميع الأصعدة. ومن جملة الضوابط التي صادق عليها مؤتمر وادي الصومام تجدر الإشارة إلى سياسة الإطارات وسياسة الإعلام وسياسة تنظيم الشرائح الاجتماعية المختلفة.‏
      فبالنسبة لإطارات الثورة يرى المؤتمر ضرورة تمكينهم من تكوين سياسي وإيديولوجي يتسلحون به لقيادة الجميع، كل حسب قدرته واختصاصه، في معركة حاسمة ضد واحدة من أعتى القوات الاستعمارية في العالم.‏
      وإذا كان الإطار يعرف أنه القدوة الحسنة للذين يسعى إلى تعبئتهم في شتى الميادين، فأنه مطالب بأن يكون مضرب المثل في التحلي بروح المسؤولية والامتثال للقوانين السائدة في صفوف جبهة التحرير الوطني، وبأن يكون سباقاً إلى التضحية، دقيقاً في تطبيق المبادئ ومنضبطاً في تأدية الواجب، وزيادة على ذلك، فإنه لا يعرف التهاون ولا يركن إلى ما تقوم به. لكن الثورة، لكي تحميه من الانحراف، تفرض عليه رقابة مشددة وتحتم عليه أن يكون يقظاً في جميع الحالات.‏
      أما عن الإعلام، فإن ميثاق وادي الصومام يرى أن وسائله يجب أن تكون قادرة على الرد بسرعة عن مناورات العدو إلى تأبيد التقسيم ونشر أسباب الخلاف والنزاع في أوساط الجماهير قصد عزلها عن جبهة التحرير الوطني. ذلك فإن رجل الإعلام ينطلق من كون الدعاية "ليست مجرد تهريج يتميز بعنف الكلمة العقيمة في غالب الأحيان والتي تذهب هباء منثورا، وبما أن الشعب الجزائري أصبح ناضجاً للقيام بالعمل المسلح الإيجابي والمثمر، فإن لغة جبهة التحرير الوطني يجب أن تكون معبرة عن رشدها وذلك بجعلها تتخذ شكلاً جدياً ومتزناً دون التجرد من الحزم والصراحة والحماس الثوري"(32) ، إن رجل الإعلام، في منظور جبهة التحرير الوطني، لا يقتصر على تلقي الأخبار وصياغتها ونشرها في أوساط الشعب ولكنه يجب أن يكون سريع البديهة واسع المعرفة وذا قدرة فائقة على الاستيعاب والتحليل والتميز.‏
      فالأخبار تأتيه مواد خام وهو يسهر على فرزها وقولبتها حسب ما تطلبه الظروف وتقتضيه المصلحة. ومن هذه الناحية فهو عبارة عن موجه للرأي العام وصانع للأجواء السياسية خاصة، لأجل ذلك يجب أن تتوفر فيه شروط أساسية أهمها التشبع بإيديولوجية جبهة التحرير الوطني والاستعداد للتضحية بكل شيء من أجل تجسيدها على أرض الواقع.‏
      لقد لاحظ مؤتمر الصومام أن الثورة قطعت خطوات حاسمة في تاريخها، وأنها أصبحت في حاجة إلى تعميم فلسفتها عن طريق التعليمات والشعارات، وعليه قرر مضاعفة عدد المراكز الإعلامية وتزويدها بكل ما تحتاج إليه من إمكانيات مادية وبشرية حتى تكون قادرة على تأدية الرسالة المنتظر منها تبليغها، ومن جهة أخرى، وكتتمة للجهد الذي قد تبذله المراكز، قرر إصدار أكبر عدد ممكن من النشريات الداخلية والدوريات العلمية والثقافية بالإضافة إلى تطوير "المقاومة الجزائرية" و"المجاهد" اللسان المركزي لجبهة التحرير الوطني(33) .‏
      وأعطى المؤتمرون تلك، توجيهات خاصة بمضاعفة الجهد من أجل رفع مستوى الدعاية الثورية بحيث تتجاوز رسالتها الوطنية وتشق طريقها نحو الرأي العام العالمي الذي بدأ، فعلاً، يهتم بما يجري في الجزائر ويسعى إلى متابعة تطور كفاحها المسلح. فبهذا الصدد، جاء في محاضرة جلسات المؤتمر: "أن كل منشور أو تصريح أو استجواب أو بيان يصدر عن جبهة التحرير الوطني يجب أن يكون له، اليوم، صدى عالمياً. لأجل ذلك يجب أن يكون مطبوعاً بروح المسؤولية التي تشرف السمعة التي اكتسبتها الجزائر السائرة بثبات في طريق الحرية والاستقلال"(34) .‏
      2 - وفيما يخص تنظيم الشرائح الاجتماعية، فإن المؤتمر قد ركز على الحركة الفلاحية وذلك تقديراً للدور الأساسي الذي تقوم به المناطق الريفية في حياة الثورة وتحسباً للمناورات التي تحيكها السلطات الاستعمارية قصد التوغل في تلك المناطق من أجل تحييدها على الأقل.‏
      لقد أدركت قوات الاحتلال أن جيش التحرير الوطني ضرب جذوره في أعماق الجماهير الريفية التي احتضنت الثورة بكل قوة لأنها وجدت فيها منقذاً لها من حالة البؤس التي كانت مفروضة عليها، لأجل ذلك، ولأول مرة في تاريخ الاستعمار، أعلنت الحكومة الفرنسية عن استعدادها للقيام بإصلاح زراعي يستهدف تحسين أوضاع الفلاحين الجزائريين عن طريق إعادة توزيع بعض المساحات التي قد تقتطع من المزارع الكبرى أو من أراضي الشركات الخاصة ومؤسسات الدولة. كما أنها قررت في ذات الوقت تعديل نظام الخماسة الذي كان سائد في أرياف الجزائر خاصة.‏
      إن المقصود من هذه المناورات المفضوحة، كما جاء ذلك في ميثاق وادي الصومام، هو مغالطة أبناء الريف الجزائري وصدهم عن تبني الثورة، لكن الفلاح الجزائري الذي عرف، في الوقت المناسب، كيف يفشل سياسة الأهالي التي حاول المستعمر تطبيقها لتقسيم المواطنين إلى عرب وبربر متنافرين ومتماقتين، لن ينخدع لهذه المحاولة الجديدة خاصة وأنه يدرك بأن "الإصلاح الزراعي الحقيقي لا ينفصل عن الهدم الكلي للنظام الاستعماري".(35)
      فهذا الوضع الجديد الذي آل إليه الريف الجزائري هو الذي جعل المؤتمرين يدعون جبهة التحرير الوطني لبذل أكبر مايمكن من الجهد لمساعدة الفلاحين على تنظيم أنفسهم في إطار سياسة وطنية عادلة ترمي إلى:‏
      أ - تغذية الحقد الشديد على الاستعمار الفرنسي وإدارته وجيشه وشرطته وعلى الخونة المتعاونين معه.‏
      ب - تكوين احتياطي بشري يتزود منه جيش التحرير الوطني والمقاومة بصفة عامة.‏
      ج - نشر عدم الاستقرار في البوادي والعمل على خلق الشروط الموضوعية اللازمة لدعم المناطق المحررة وافتكاك مناطق جديدة من العدو.‏
      3 - وإذا كانت الأرياف قد اندمج سكانها، منذ البداية، في صفوف جبهة التحرير الوطني محرزة بذلك على مكانة خاصة في تركيبة الثورة، فإن عمال المدن قد أسسوا تنظيماً نقابياً وطنياً أسموه الاتحاد العام للعمال الجزائريين، وكان ذلك في اليوم الرابع والعشرين من شهر فيفري سنة ستة وخمسين وتسعمائة وألف.‏
      إن مؤتمر الصومام قد بارك، في محاضره، ميلاد الاتحاد الذي رأى فيه "تعبيراً عن رد فعل سليم قام به العمال الجزائريون ضد التأثير المُشّل الذي يصدر عن مسيري الكونفدرالية العامة للشغل والقوات الشغيلة والكونفدرالية الفرنسية للعمال المسيحيين"(36) وأوصى بأن تولي جبهة التحرير الوطني عناية خاصة بالمولود الجديد حتى يشتد عوده وتتدعم هياكله.‏
      لقد كانت حقوق العمال الجزائريين في بلادهم مهدورة، ولم يكن في مقدور أغلبيتهم المطالبة بأكثر مما يتكرم به أرباب العمل من الكولون الذين كانوا يقومون بالتوظيف وبالفصل كيفما يشاؤون ولم يكن في وسع التنظيمات النقابية الوقوف في وجه تلك التصرفات الاستبدالية نظراً لما كان للمعمرين من نفوذ سواء في مستوى الولاية العامة أو في أوساط الدوائر الحاكمة في العاصمة الفرنسية.‏
      أما الجزائريون المغتربون، فإن كثيراً منهم قد هاجر وفي نفسه ذلك الخوف من الطغيان، وذلك الشعور بالعجز عن المقاومة، ولذلك فإنهم كانوا يبذلون كل مافي وسعهم للبقاء بعيدين عن الجو النقابي، وعندما تبدد الإقامة مخاوفهم، فإنهم يجرون، كأصوات في البداية، إلى مختلف التشكيلات النقابية، وهناك من استطاع أن يتحول، بسرعة أحياناً، من مجرد صوت إلى مسؤول فاعل ومحرك للجماهير.‏
      فمن بين هؤلاء المسؤولين الذين اكتسبوا تجربة ميدانية وتسلحوا بوعي سياسي عال، برزت تلك الطليعة التي أنشأت، رغم الصعوبات والعراقيل، مركزية نقابية تهدف إلى لمّ شمل العمال الجزائريين داخل التراب الوطني وخارجه من أجل تحسيسهم بالواقع الوطني الجديد، وتزويدهم بإطار تنظيمي يتدربون فيه على تحمل مسؤولياتهم ويتجندون داخله ليكونوا الخزان الحقيقي الذي يمول جيش وجبهة التحرير الوطني بكل ما يحتاجان إليه من إمكانيات مادية وبشرية.‏
      *إن الطابع الوطني الذي اكتساه الاتحاد منذ تأسيسه، قد ساعد كثيراً على التخلص من الهيمنة الأجنبية وبذلك وجد نفسه، إذ يدافع عن حقوق أعضائه، إنما يدافع عن مصالح الأمة الجزائرية جمعاء. ويرى مؤتمر وادي الصومام أن التنظيم الجديد قادر على القيام بدور إيجابي في معركة التحرير الوطني لأسباب يعددها كالآتي(37) .‏
      أ - أن قيادة الاتحاد لا تتشكل من عناصر منبثقة عن الأقلية الأوربية التي تتعرض للظلم الاستعماري، ولكنها مكونة من إطارات وطنية يدفعها وعيها الشديد إلى محاربة الاستغلال الاجتماعي من جهة والتميز العنصري من جهة ثانية.‏
      ب- أن العمود الفقري لتلك القيادة ليس مكوناً من الارستقراطية العالمية التي تشمل الموظفين وعمال السكة الحديدية، ولكنه منبثق عن الطبقات الأكثر حرماناً مثل عمال الموانئ والمناجم والصناعات الزراعية.‏
      ج - أن العمل الثوري قد أصبح حقيقة وهو قادر على توفير الشروط الموضوعية اللازمة لتحقيق التآخي الذي لابد منه لصنع الأداة القوية التي تستطيع الصمود في وجه آليات الحرب الاستعمارية، ولمنع ماقد يحدث من انقسام في أوساط عشرات آلاف العمال الذين سارعوا للانضمام إلى الاتحاد العام للعمال الجزائريين مباشرة بعد ميلاده(38) .‏
      إن جبهة التحرير الوطني لم تعد تكتفي بوجودالاتحاد واستقلاليته عن التنظيمات النقابية الفرنسية، بل أصبحت تطمح إلى أن يقوم التنظيم الجديد بدور أساسي في عملية تكوين العمال وتوعيتهم وتعبئتهم المستمرة وفي استمالة التنظيمات المماثلة في فرنسا أو في مختلف أنحاء العالم لمساندة كفاح الشعب الجزائري، لأجل ذلك فإن تعلق الأمر بمواجهة التحديات والصعوبات، هذا من جهة، ومن جهة ثانية أوصى باحترام الديمقراطية في أوساط العمال ومراعاة التقاليد السائدة داخل الحركات العمالية المعروفة في العالم.‏
      وبالإضافة إلى كل هذه التوجيهات السياسية والإجراءات التنظيمية التي سيكون لها أثر فعال في حياة الاتحاد العام للعمال الجزائريين، حذر المؤتمر الإطارات النقابية من مغالطات الحزب الشيوعي الجزائري الذي "لايمكن لعجزه في الميدان السياسي إلا أن يتحول إلى فشل ذريع في المجال النقابي"(39) وأكد أن عالم الشغل في الجزائر سيعرف تطوراً هاماً تحت إشراف جبهة التحرير الوطني خاصة وأن "المركزية النقابية الجديدة تختلف كلية عن المنظمات الفرنسية المماثلة سواء بالنسبة لاختيار قيادتها أو للتضامن الأخوي الذي تغذيه ثورة التحرير الوطني والذي يجد سنداً قوياً لدى عمال شمال إفريقيا والعالم أجمع(40) .‏
      فمن خلال كل ماتقدم، ترى جبهة التحرير الوطني أن الطبقة العاملة تستطيع، في خضم المعركة التحريرية الشاملة أن تسهم فعلياً في إحداث ديناميكية قادرة على تمكين الثورة من التطور بسرعة فائقة ومن اكتساب القوة الكافية لتحقيق النصر النهائي.‏
      4 - ودائماً في إطار تنظيم الفئات الاجتماعية المختلفة، قرر المؤتمر ضرورة إنشاء اتحاد عام للتجار الجزائريين يسند الإشراف عليه إلى وطنيين يكونون إضافة إلى تسيير شؤون التنظيم الجديد، مكلفين بإيجاد أفضل السبل لكسر الاحتكارات الأوربية التي تخنق التاجر الجزائري الصغير وتجعل منه مجرد آلة لا تتحرك إلا كيفما شاء المستغل لها. ويقوم الاتحاد من جهة أخرى، بنشر الوعي الثوري في أوساط كافة التجار الجزائريين الذين يجب أن يتنجندوا للإسهام فعلياً وبقسط وافر في تمويل الثورة إلى جانب المهمة الأساسية الأخرى التي حددها المؤتمر للاتحاد عندما أكد أن جبهة التحرير الوطني التي تسعى إلىجعل الاتحاد العام للعمال الجزائريين يتطور بسرعة في أجواء سياسية ملائمة، تنتظر منه القيام بمحاربة كافة أنواع التغريم والضرائب وبمقاطعة تجار الجملة المستعمرين وكل التنظيمات التجارية التي نشاطاتها في إطار الحرب الامبريالية الدائرة رحاها ضد الشعب الجزائري(41) .‏
      5 - وحظيت المرأة كذلك باهتمام مؤتمر وادي الصومام. ولم يكن ذلك الأمر الغريب خاصة عندما نرجع إلى تاريخ المقاومة الشعبية الذي عرف من النساء اللاتي قدن الكفاح المسلح أو شاركن فيه بما أصبح مضرباً للمثل في الشجاعة والإقدام.‏
      ولقد برهنت الفتيات الجزائريات، منذ اندلاع ثورة نوفمبر، على أنهن أهل لحمل مشعل لالة فاطمة أنسومر(42) ، وأن شجاعتهن لا تقل عن شجاعة الرجل سواء في ميدان المعارك والسلاح في أيديهن أو في المستشفيات والمستوصفات حيث يبدعن في التمريض وتضميد الجراح أو في القرى والمداشر ينشرن الوعي الثوري ويشاركن بقسط وافر في تربية الجماهير سياسياً وإيديولوجياً.‏
      فالفتاة الجزائرية غادرت صفوف الثانويات ومدرجات الجامعات تماماً كما فعل أخوها التلميذ والطالب، عندما وجهت لهم النداء جبهة التحرير الوطني(43) ، وعلى غرار إخوانها، أعربت عن استعدادها للانضمام إلى الصفوف وأصبح من الواجب على قيادات الثورة أن تهتم بتخصيص تنظيم لها شبيه بالاتحادات الأخرى يمكنها من النشاط اليومي لفائدة الكفاح المسلح(44) .‏
      (1) محمد العربي الزبيري، الثورة الجزائرية في عامها الأول، ص 123.‏
      وكذلك حزبي محمد) جبهة التحرير الوطني، ص 172.‏
      (2) MTLD,Résolution générale Adoptée par le deuxiéme congrés du MTLD, d' Avril 1953 p3-2).‏
      (3) أوزقان عمار) ذكر لي في لقاء أجريته معه بمقر حزب جبهة التحرير الوطني في ساحة الأمير عبد القادر بالعاصمة يوم 10/04/1964 أنه كان المحرر الرئيسي لمشروع الميثاق الذي عرض للمناقشة على مؤتمر وادي الصومام.‏
      (4) هناك عدد من المسؤولين يقولون أنهم يملكون بعض المخطوطات وأنهم سينشرونها في الوقت المناسب، ولكن بعضهم طبع مذكراته وذيلها بملاحق دون أن ينقل للقراء أشياء جديدة عن وثيقة وادي الصومام التي يبدو أن ماهو منشور منها كامل ولا ينبئ بأن ثمة أجزاء ناقصة، لقد أتيحت لي فرصة الحديث في الموضوع مع السيد عمار أوزقان بعد تعيينه رئيساً للجنة المنبثقة عن المؤتمر الأول لحزب جبهة التحرير الوطني فأكد لي أن مايعتبره بعضهم قد ضاع إنما هي مجموعة من الاقتراحات المقدمة من جهات مختلفة ولم ير المؤتمرون ضرورة لتبنيها، وهناك أيضاً عدد من الفقرات التي تعالج موضوعات متنوعة حذفت أثناء المناقشة العامة.‏
      (5) مجموعة من المؤرخين الفرنسيين، تاريخ شمال إفريقيا الفرنسي بدون معلومات حول الطباعة والنشر. ص: 17 ومن الجدير بالذكر أن هذه أيضاً، هي نظرية الحزب الشيوعي الجزائري التي ظل يدافع عنها إلى نهاية الأربعينات وكتابات موريس توريس وأقواله في الموضوع معروفة وكثيرة.‏
      (6) فرحات عباس، جريدة الوفاق الصادرة يوم 23/02/1936.‏
      (7) PIERRE MONTAGNONS, LA GUERRE D'ALGERIE. GENESE ET ENGRENAGEE D'UNE TRAGEDIE EDITIONS PYMALION- PARIS 1984. P.29.‏
      (8) من مواليد سوق أهراس سنة 354 توفي بعنابة سنة 0430، يعتبر من آباء الكنسية الكاثوليكية له مؤلفات كثيرة أهمها: مدينة الله، اهتم في حياته، بموضوعات متعددة لكنه ركز كل مجهوداته في السنوات الأخيرة على معالجة موضوع الآلة وموضوع الإنسان، يحتفل به يوم 280 أوت من كل سنة.‏
      (9) من كبار رجال الكنيسة، ولد بقرطاج سنة 155 وتوفي فيها بعد ذلك بخمس وستين سنة، له مؤلفات عديدة في اللاهوت وفي الفلسفة.‏
      (10) من مشاهير آباء الكنيسة، ولد مع مطلع القرن الثالث بقرطاج وتوفي فيها سنة 258. قام بأدوار سياسية كبيرة وترك مؤلفات كثيرة. يحتفل به يوم 16 سبتمبر من كل سنة.‏
      (11) بيار مونتانيون، ص : 30.‏
      (12) انظر المرسوم الملكي الذي يحمل تاريخ 22/7/1843.‏
      (13) وفي الحقيقة، فإن الإلغاء لم يكن سوى شكلياً لأن محتوى القانون ظل ساري المفعول حتى اندلاع الثورة.‏
      (14) صدر هذا القانون لتحديد وضع الجزائريون بالنسبة إلى الجنسية الفرنسية والحقوق المدنية والسياسية التي تعود إلى المواطن. وأهم ما جاء فيه الشروط التي لابد أن يتوفر واحد منها في الإنسان الجزائري كي يصبح مواطناً فرنسياً وهي سبعة: الخدمة العسكرية- القراءة والكتابة باللغة الفرنسية- الملكية- الوظيف- أن يكون قد انتخب لمنصب سياسي- حيازة الأوسمة الفرنسية- أن يكون من أب متجنس.‏
      (15) FRONT DE LIBERATION NATIONAL- EL MOUDJAHIS, IMPRIME EN- YOUGOUSLAVIE, JUIN 1962 TOME I.P 58 ET SUIVANTES.‏
      يجد القارئ عدداً خاصاً يتضمن أكبر جزء من ميثاق وادي الصومام.‏
      (16) المنظمة الوطنية للمجاهدين، أشغال المؤتمر الأولى لكتابة التاريخ، ص 185.‏
      (17) نفس المصدر.‏
      (18) صدى الجزائر، عددها الصادر بتاريخ 21/06/1955.‏
      (19) حول اختصاص المحافظ السياسي انظر المجاهد، العدد 11 الصادر بتاريخ 01/11/1957، ص 146.‏
      (20) من ذلك أن المحافظين السياسيين كانوا يشيعون في أوساط الجماهير أن الملائكة، عندما تشتد المعارك، تنزل من السماء لنصرة المجاهدين، وأن الله أعطى للمجاهد قدرة للتحول بكل سهولة وسرعة فائقة إلى الهيأة التي يريدها. من ثمة فإنه يستطيع الدخول إلى ثكنات العدو أو التجول في شوارع المدينة و القرية دون أن يشعر بوجوده أحد باستثناء المناضلين.‏
      (21) لقاء أجريته مع العقيد لخضر بن طوبال في بيته يوم 16/04/1985 بحضور السيد محمد الصالح بوسلامة.‏
      (22) شهادة خاصة قدمها لي العقيد بن طوبال الذي يجزم أن الشهيد يوسف زيغود يوسف بذل كل مافي وسعه ليجمع مختلف المناطق من أجل تقييم المرحلة المقطوعة والتخطيط للمستقبل، وقد ظل يسعى إلى أن أظهرت نفس الفكرة عند الشهيد العربي بن المهيدي وتباعاً الشهيد رمضان عبان.‏
      (23) وهو واحد من الاثنين والعشرين الذين فجروا الثورة، كان عضواً في المنطقة الخاصة، احتمى بغابات الأوراس مدة طويلة قبل ليلة الفاتح من نوفمبر، شارك، فعلاً، في مؤتمر وادي الصومام كنائب أول للشهيد يوسف زيغود، قادالولاية الثانية سنتي 1956 و1957 عين عضو لجنة التنسيق والتنفيذ سنة 1958 وزير الداخلية 1958 -1960 ثم وزير دولة إلى غاية. 1962. اشتهر بالدعوة إلى الانضباط والعنف الثوري والتأثر بالتقنيات الفيتنامية في حرب العصابات. يعتبره السياسيون أحد الباءات الثلاث الذين سيطروا على التسيير الخارجي للثورة إلى غاية استرجاع الاستقلال.‏
      (24) كان السيد عمار بن عودة من الرافضين الداعين بحماس إلى الخط الإيديولوجي. ويعتقد شخصياً أنه عوقب على ذلك عندما قرر المؤتمر إرساله إلى تونس للإشراف مع السيد واعمران على تسليح الثورة. لكنه وهو في طريقه إلى تونس بذل كل مافي وسعه ونجح في إقناع مجموعات كبيرة من القادة والمجاهدين الذين أرادوا التنكر لنتائج المؤتمر احتجاجاً على وجود بعض الأشخاص من إيديولوجيات أخرى داخل الهيئات القيادية.‏
      (25) يذكر السيد مصطفى بن عودة أن الشهيد عبان قال له: إن الانحراف الإيديولوجي أفسح من المجال لفرحات عباس إلى باوداي جزائري انظر شريط الفيديو الخاص بندوة قسنطينة حول كتابة تاريخ الثورة المنعقدة يومي 30 و31 جانفي سنة 1985، وهو موجود ضمن محفوظاتي الخاصة.‏
      (26) نذكر على سبيل المثال إعدام علاوة عباس ومحاولة التنفيذ في بعض الشخصيات التي ماتزال على قيد الحياة والتي تابت فيما بعد والتحقت بصفوف جبهة التحرير الوطني.‏
      (27) المقصود هنا هم السادة: بلقاسم كريم، ابن يوسف بن خدة، العربي بن المهيدي، وعبان رمضان وزيغود يوسف الذي سيترك مكانه بعد الاستشهاد إلى السيد: سعد دحلب.‏
      (28) من أسرة عريقة في ولاية عنابة، التحق بالجبال منذ مايسمى بمؤامرة سنة 1950. تقلد مسؤوليات كثيرة أثناء الثورة آخرها: المشاركة باسم جيش التحرير الوطني في مفاوضات إيفيان. عيّن بعد استرجاع الاستقلال سفيراً في طرابلس. عضو اللجنة المركزية لحزب جبهة التحرير الوطني منذ سنة 1979. هو الآن رئيس اللجنة الوطنية لمصاف الاستحقاق.‏
      (29) انظر الندوة.‏
      (30) في مستهل تلك السنة كان ابن المهيدي قد اتصل ببرقية من مندوبية الخارج مفادها أن باخرة محملة بالسلاح ستغادر القاهرة في اتجاه مدريد، وعليه أن يتكفل بتحويل حمولتها إلى المغرب ومنه إلى مختلف مناطق الوطن. ولما طال انتظاره في العاصمة الإسبانية، رحل إلى القاهرة وهناك وجد قيادة مقسمة إلى كتل يستحيل الاعتماد عليها.‏
      (31) نفس زيارة ابن المهيدي إلى القاهرة كشفت له بأن باخرة الأسلحة لم تبحر الزيارة التي يؤديها وزير الخارجية الفرنسي إلى مصر في شهر مارس سنة 1956.‏
      (32) EL. MOUDGAHID, Organe central du FLN Une revolution democratique) No 12 du 15.11.1957.‏
      (33) لقدكانت "المقاومة تصدر خارج الوطن، وهي ثلاثة من المنشورات: نشرة باريس في فرنسا، نشرة المغرب الأقصى ونشرة تونس. أما المجاهد فإنه ظهر إلى الوجود في مدينة الجزائر، وصدر العدد الأول منه في شهر جوان سنة 1956.‏
      (34) المجاهد العدد الخاص، ص67‏
      (35) المجاهد، العدد الخاص، ص 68.‏
      (36) المجاهد، العدد الخاص، ص 68.‏
      (37) نفس المصدر، ص :69.‏
      (38) جاء في مؤتمر وادي الصومام أن الاتحاد العام للعمال الجزائريين قد سجل انضمام اثنتين وسبعين نقابة في أقل من شهرين وأصبح يشتمل على 110.000 منخرط، انظر المجاهد، ص 357.‏
      (39) نفس المصدر، ص: 68.‏
      (40) نفس المصدر.‏
      (41) نفس المصدر، ص 68.‏
      (42) قائدة الكفاح المسلح في المجانة ومنطقة القبائل في الفترة مابين 1853 و1856.‏
      (43) المقصود هنا هو النداء الخاص بالإضراب عن الدروس والإلتحاق بصفوف جبهة التحرير الوطني وجيش التحرير الوطني وقد استجيبت بالإجماع وتوقفت الدراسة قبل شهر فقط من الامتحانات وذلك يوم 19/05/1956.‏
      (44) سيبدأ هذا التنظيم يتجسد بالتدريج خاصة عندما تظهر على الساحة النضالية السيدات: مامية شنتوف، خيرة مصطفاوي ونفيسة حمود الاتي سيمثلن النساء الجزائريات في كثير من التظاهرات الدولية.‏

      إذا الشعب يوما أراد الحياة
      فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
      و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
      و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

      تعليق


      • #4
        رد: تاريخ الجزائر المعاصر (1954-1962).الجزء الثاني

        * مواجهة الصعوبات الأولى:
        ولئن كانت جبهة التحرير الوطني قد استفادت في مجال العدد من كل هذه التصرفات الاستعمارية، فإن جيش التحرير الوطني، في الواقع، لم يستفد كثيراً بسبب نقص الأسلحة والذخيرة كما أشرنا إلى ذلك سابقاً، لأجل ذلك، فإن العمليات العسكرية وعمليات التمشيط المكثفة واستعمال العتاد الحربي وآلاف الأجناد المجلوبة من فرنسا، كلها، قد شكلت مضايقة رهيبة، وخناقاً على الوحدات الأولى المكونة لجيش التحرير الوطني في الشرق الجزائري، وعلى وجه الخصوص في المنطقة الأولى(1) وجنوب المنطقة الثانية(2) .‏
        وكان المسؤولون، في المنطقتين، يدركون جيداً ذلك الوضع القاسي، ويقدرون كل الصعوبات المتمثلة في تفوق العدو، عدداً وعدة، وفي عدم توفر الأسلحة والذخيرة لدى جيش التحرير الوطني، كما أنهم كانوا يعرفون أن الاستمرار على تلك الحالة يسيء إلى الثورة. وعليه صار لابد من إيجاد طريقة تمكن من فك الحصار المضروب على قمم الجبال والأرياف، ومن جعل القرى والمدن تشعر بأنها طرف أساسي في المعركة التي ينبغي أن تنتشر بسرعة وتتسع ليضطرب العدو، فتتمزق وحدته وتتشتت قوته الضاربة، وفكر الشهيد يوسف زيغود(3) ومساعدوه المقربون طويلاً للوصول إلى حل ناجح، صار يسمى منذ ذلك التاريخ "انتفاضة العشرين يوليو سنة 1955.‏
        وقبل أن نسترسل في الحديث عن العشرين من يوليو، ينبغي أن نقول إن تركيز فرنسا على المنطقتين الأولى والثانية لم يكن يعني أن الثورة قد خبت نيرانها في المناطق الأخرى من البلاد. لكن المنطقة الأولى كان لها وضع خاص يتمثل فيما يلي:‏
        1 - لقد كانت، قبل نوفمبر سنة 1954، مأوى لمناضلي ومسؤولي المنظمة الخاصة الملاحقين من طرف السلطات الاستعمارية وبالتالي ميداناً للتدريبات العسكرية ومخزناً للأسلحة والذخائر التي تحصلت عليها مختلف أجهزة حركة الانتصار للحريات الديمقراطية من جميع الجهات وبجميع الوسائل.‏
        2 - إن مسؤولها الأول، الشهيد مصطفى بن بولعيد. كان معروفاً كمسؤول في الأوساط السياسية، إذ كان، عشية الثورة، عضواً في اللجنة المركزية لحركة الانتصار للحريات الديمقراطية، ومن ثم، فإنه كان يحظى بثقة معظم المناضلين بما في ذلك أعضاء المنظمة الخاصة للمتواجدين هناك.‏
        وبالإضافة إلى شهرته السياسية، فإن مصطفى كان ثرياً ومن رجال الأعمال الناجحين، استطاع أن يوظف رؤوس أمواله في خدمة الجماهير الشعبية التي منحته، بالمقابل، حبها وثقتها.‏
        هذان السببان، خاصة، قد ساعدا على انطلاق الأعمال الثورية بسرعة فائقة، ومكنا المسؤولين عن جبهة وجيش التحرير الوطني من العمل بحرية في أوساط الأهالي من سكان المدن والأرياف.‏
        وإذا كانت المنطقة الثانية لم تعطِ قائداً له نفس وضع إمكانيات الشهيد ابن بولعيد، فإنها كانت تشتمل على عدد كبير من أعضاء المنظمة الخاصة (4) ومن مناضلي حركة الانتصار للحريات الديمقراطية المحنكين والمؤيدين للإسراع بالدخول في مرحلة الكفاح المسلح، لأجل ذلك فإن عملية الهيكلية وتنصيب الخلايا وتجنيد المجاهدين الأوائل لم تعترضها صعوبات كثيرة، الأمر الذي ساعد على إنجاز نسبة كبيرة من البرنامج الذي وضعته القيادة العليا بالنسبة للأشهر الأولى من الثورة.‏
        فهذه الأوضاع الخاصة التي كانت للمنطقتين هي التي جعلت الثورة تكون فيهما قوية ومنتشرة، وفي نفس الوقت جعلت السلطات الاستعمارية تخصص معظم إمكانياتها المادية والعسكرية والسياسية لمحاربة جبهة التحرير الوطني هناك.‏
        أما في المناطق الأخرى، فقد اهتمت القيادة، في الأشهر الأولى بتنظيم حملة شرح واسعة في أوساط مناضلي حركة الانتصار للحريات الديمقراطية الذين كانوا، في معظمهم، موالين للسيد مصالي في خلافه مع اللجنة المركزية؛ وفي نفس الأثناء كانت هيكلة جبهة التحرير الوطني تجري على جميع المستويات في حين كان التجنيد يتم ببطء نتيجة عدم وجود الأسلحة الكافية.‏
        ولم تبدأ العمليات العسكرية في تلك المنطقة إلا في ربيع عام 1955. وكانت في شكل كمائن تنصب أساساً للحصول على الأسلحة، وبالإضافة إلى ذلك كانت نشاطات جيش التحرير الوطني توجه لإعدام أعوان الشرطة وحراس الغابات، و"القياد" وغيرهم من دعائم السلطات الاستعمارية، وكلما أعدم خائن استفاد مجاهد من سلاحه.‏
        وإلى جانب هذه العمليات العسكرية البسيطة، كان على جيش التحرير الوطني في المنطقة الثالثة، أن يجابه المجموعات المسلحة التابعة للحركة الوطنية الجزائرية.‏
        أما المنطقة الرابعة، فإنها كانت أسوأ حظاً، لأن السلطات الاستعمارية التي كانت تتابع تحركات مناضلي حركة الانتصار للحريات الديمقراطية قد تمكنت، في خلال الشهر الأول، من إلقاء القبض على أغلبية العناصر الذين بدأوا مع السيد بيطاط بما في ذلك نوابه في العاصمة. وبيطاط نفسه سيقع أسيراً في منتصف شهر فبراير 1955.‏
        ونتيجة لذلك النجاح الذي حققته مصالح الأمن الفرنسية، فإن المنطقة الرابعة كادت تختنق بعد حوالي سبعين يوماً فقط من اندلاع الثورة ويعود الفضل في بقائها وانتعاشها إلى ابن المهيدي والعقيد واعمران(5) ، الذي تمكن، رغم كل العراقيل، من إعادة تنظيم الهياكل ثم ساعدته الظروف على اختيار الرجال الأكفاء الذين عرفوا كيف يندمجون بسرعة وكيف يسيطرون على الأوضاع بعد أن كادت تفلت من جبهة التحرير الوطني لفائدة العدو.‏
        ومن جملة الإطارات البارزة تجدر الإشارة إلى عبان رمضان (6) الذي خرج من السجن في النصف من شهر فبراير، ووضع نفسه تحت تصرف جبهة التحرير الوطني. مع العلم أنه من مسؤولي حركة الانتصار للحريات الديمقراطية: قاد ولاية بجاية ثم ولاية عنابة إلى غاية سنة 1950 عندما ألقي عليه القبض وحكم عليه بالحبس لمدة خمس سنوات.‏
        وبسرعة كبيرة، وبفضل تكوينه السياسي والإيديولوجي ومستواه الثقافي، استطاع أن يحتل الصدارة أمام مسؤول العقيد واعمران، وحتى أمام قائد المنطقة الثالثة كريم بلقاسم الذي كان يأتي إلى العاصمة يأخذ رأيه حول القضايا السياسية.‏
        وأول عمل قام به السيد عبان رمضان هو صياغة بيان مطول يحمل تاريخ فاتح من ابريل سنة 1955 وموجه إلى الشعب الجزائري، جاء فيه على الخصوص:‏
        "إن السلطات العسكرية الفرنسية تبذل كل مافي وسعها لإخفاء الحقيقة، فمثلاً، عندما تنصب قواتنا كميناً لسيارة مصفحة، ويصيب سائقها الهلع فيلقي بمركوبه إلى حيث لا رجعة، فإن الصحافة الاستعمارية تكتب عن حادث تنسب سببه إلى الجليد".‏
        "أيها الشعب الجزائري، بعدأن حققت نجاحات كثيرة، لا ينبغي أن يخفى عليك بأن المهمة الباقية مهمة جبارة. لأجل ذلك، فإن جيش التحرير الوطني يدعوك لتساعده وتمد له يد المعونة في جميع الميادين... إن النصر مرهون بما يقدمه كل الجزائريين من مساهمة إلى جانب قواتنا المحاربة والعازمة على مواصلة المعركة إلى أن تنتصر القضية الجزائرية".‏
        "أيها الجزائريون، تعالوا جميعاً لتعزيز صفوف جبهة التحرير الوطني. وتخلصوا من التردد، واتركوا الصمت.. وسعوا دائرة نشاطكم كل يوم أكثر حتى تتمكنوا من إرضاء ضمائركم ومن تسديد الدين الذي عليكم لبلدكم(7) ".‏
        وقد استعمل عبان رمضان كل الإمكانيات المتوفرة لديه لسحب المنشور وتوزيعه على أكبر عدد ممكن من المواطنين. وفي نفس الوقت ضاعف اتصالاته بالشخصيات الجزائرية مركزاً على قادة التشكيلات السياسية.‏
        وإذا كانت مجهودات المستشار السياسي للمنطقة الرابعة لم تسفر عن نتيجة تذكر في مجال التفاوض مع ممثلي الحزب الشيوعي والاتحاد الديمقراطي وجمعية العلماء، فإن عملية التعبئة والتنظيم في أوساط مناضلي حركة الانتصار المحلولة قد قطعت خطوة عملاقة بعد يوم 13 مايو سنة 1955 الذي أطلق فيه سراح أعضاء اللجنة المركزية الذين التحق معظمهم بجبهة التحرير الوطني في داخل البلاد وفي خارجها على حد سواء، ومن أبرز أولئك الأعضاء السيد ابن يوسف بن خدة(8) الذي سيلعب دوراً حاسماً في معركة الجزائر وعلى رأس الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية فيما بعد.‏
        *لكن التنظيم وحده لا يكفي ولا يكون ناجحاً إلا إذا توافر السلاح والمال، ولئن كان واعمران قد استطاع أن يحل المشكل الأخير بفضل حملة الاكتتاب التي نظمها في أوساط الصناعة والتجارة خاصة، فإن عبان، لمعالجة المشكل الأول، قد أرسل مبعوثاً إلى جنيف عن طريق باريس، ولم تسفر العملية عن أية إيجابية إذا استثنينا تأكيد قيادة المنظمة من ضرورة الاعتماد على النفس.‏
        وبالفعل، لقد شرع في تكوين فرقتين مسلحتين، تتحرك إحداهما داخل حي بلكور وتكون تحت إشراف الشهيد ذبيح الشريف، وتتحرك الثانية في حي القصبة فتكون تحت إشراف السيد ياسف سعدي. ويتولى التوجيه السياسي مسؤول جهوي يأخذ تعليماته مباشرة من الشهيد عبان الذي يعمل بتنسيق مع العقيد واعمران، السيد بلقاسم كريم.‏
        غير أن التنظيم العسكري، في العاصمة، لم يعرف أي نجاح يذكر في هذه السنة الأولى من الثورة، وذلك بسبب سيطرة المخابرات الاستعمارية وعدم وجود الإمكانيات المادية التي تسمح بالعمل الفوري.‏
        وعلى العكس من ذلك، فإن التنظيم السياسي قد عرف تطوراً ملموساً:فأنشئ العديد من الخلايا، وتكاثرت المنشورات الداعية إلى عدم التعامل مع الإدارة الاستعمارية: "لأن غضب الثورة سينصب بلا شفقة ولا رحمة على كل مخالف للتعليمات" وتضاعفت الاتصالات مع قادة التشكيلات السياسية المقيمين بالعاصمة ومع معظم الجزائريين المنتخبين الذين قدم عدد كبير منهم استقالته.‏
        وبالنسبة للمنطقة الخامسة، فإن الأمر كان مغايراً تماماً، ذلك أن عمليات ليلة الفاتح من نوفمبر لم تكن ناجحة في معظمها، وتمكنت القوات الاستعمارية من إلحاق خسائر فادحة بتلك المجموعات الأولى من المجاهدين الذين كان يقودهم الشهيد العربي بن المهيدي. ومن جملة القتلى الأول من الثورة: الشهيد ابن عبد المالك رمضان النائب الأول لقائد المنطقة.‏
        ولقد تأثر الشهيد ابن المهيدي بتلك النتائج السلبية التي عرفتها منطقته فحاول الاتصال بالعاصمة، تارة وبالمغرب الأقصى تارةأخرى، يبحث عن الأسلحة وعن أحسن الوسائل التي تمكنه من تجاوز المحنة.‏
        وإذا كان مشكل الأسلحة سيظل قائماً طوال تلك السنة الأولى من الثورة تقريباً، فإن ابن المهيدي قد وجد في السيد عبد الحفيظ بو الصوف(9) نائباً توفرت فيه كل الشروط المطلوبة في القائد الناجح، لقد كان ذكياً متعلماً ومثقفاً، كما أنه كان رهيف الحس يتمتع بمقدرة كبيرة على فهم الآخرين وعلى ربط العلاقات الإنسانية اللازمة خاصة في مثل تلك الظروف.‏
        ومن الجدير بالذكر، أن بوصوف استطاع، بفضل حركته وبفضل المجهودات الجبارة التي كان يبذلها في جميع الأوقات وبكل المناسبات، أن يعيد تنظيم المنطقة، ويوفر لها الوسائل والإمكانيات المادية والبشرية التي ستسمح لها بالانطلاقة من جديد بمناسبة العيد الأول لميلاد الثورة.‏
        وعلى الرغم من أن المنطقة الخامسة قد قضت كل تلك السنة الأولى في التأهب والاستعداد، فإن السلطات الاستعمارية لم تسرح، وظلت تتابع، عن كثب تحركات المناضلين لعلها تتمكن من القضاء على الحركة قبل ميلادها. وفي هذا الإطار، أراد الوالي العام: السيد جاك سوستيل أن يفرض على مدينتي مغنية وسبدو نفس حالة الطوارئ التي كانت مفروضة على الشرق الجزائري(10) .‏
        ولتنظيم العمال الجزائريين في فرنسا، وإشراكهم في الكفاح المسلح، اتجه السيد محمد بوضياف إلى زوريخ حيث استدعى السيد مراد تربوش(11) وزوده بالتعليمات اللازمة لبعث جبهة التحرير الوطني بفرنسا في مرحلة أولى وبأوربا في مرحلة ثانية.‏
        ولقد كانت المهمة صعبة ومعقدة، خاصة وأن مصالي الحاج كان يسيطر، كلية، على كافة المناطق هناك، وأن مناضلي، حركة الانتصار للحريات الديمقراطية في فرنسا كانوا يقدسون الزعيم ولا يرضون بغيره بديلاً، كما أنهم أخبروا في تلك الأيام الأولى من نوفمبر بأن القيادة العليا للحزب هي التي أشعلت فتيل الثورة، ومن ثم لا يمكن أن يصدقوا ماقد يأتي به تربوش حتى لو كان من المسؤولين الموثوق بهم.‏
        وعلى الرغم من كل الصعوبات، استطاع القائد الأول لفدرالية جبهة التحرير الوطني في فرنسا أن يجند مجموعة أولى من خمسة أشخاص، كان كل منهم مسؤولاً عن واحدة من قسمات حركة الانتصار للحريات الديمقراطية، وأمرهم بالبدء، في تكوين الخلايا التي ينبغي أن يزيد عدد أعضائها عن الخمسة مناضلين، كما أمرهم بنسخ نداء الفاتح من نوفمبر وتعميمه وماكاد يحل شهر مايو سنة 1955 حتى صارت جبهة التحرير الوطني تضم في صفوفها حوالي مائتي مناضل كلهم مستعدون للشروع في العمل الفدائي، لكن الحركة الوطنية الجزائرية كانت وماتزال متواجدة في معظم النواحي، لذلك قرر السيد محمد بوضياف الاستمرار في عملية الهيكلة. وحتى هذه الأخيرة، فإنها سوف تتعثر لأن مصالح الأمن الفرنسية ستلقي القبض على تربوش وبعض أعضاء اللجنة العاملين معه. تم ذلك يوم 26 ماي من نفس السنة.‏
        وفي القاهرة، فإن المندوبية، المكونة في بداية الأمر، من ثلاثة أشخاص(12) قد تدعمت بالتحاق السيد محمد يزيد (13) عضو اللجنة المركزية لحركة الانتصار ومسؤول فدرالية فرنسا لنفس الحركة قبل اندلاع الثورة، ونظراً لثقافته الواسعة، وتكوينه السياسي وخبرته النضالية فإنه سيصبح واحداً من أعلام السياسة الخارجية لجبهة التحرير الوطني، ولا أظن أن رجال الإعلام الذين كانوا يمارسون المهنة في مستويات عالية، آنذاك مستعدون اليوم، لنسيان ماكان يمتاز به الرجل من ديناميكية وذكاء على استغلال الأحداث والظروف.‏
        وكان حضور مؤتمر باندونغ أول انتصار دولي تحرزت عليه جبهة التحرير الوطني التي استطاع ممثلوها أن يتحركوا بحرية مطلقة ضمن وفد المغرب العربي الكبير، وأن يتمكنوا من إقناع أغلبية الوفود المشاركة بعدالة القضية الجزائرية. وقد تجسدت المجهودات المبذولة من طرف السيدين آيت أحمد ومحمد يزيد في تأكيد المؤتمر الأفرو آسيوي على تأييده لشعوب الجزائر والمغرب الأقصى وتونس في تقرير مصيرها وفي عملها من أجل حصولها على الاستقلال(14) . إن موقف مؤتمر باندونغ(15) هذا قد فتح أبواب المنظمات الدولية وفي مقدمتها الأمم المتحدة أمام جبهة التحرير الوطني. لأجل ذلك صار على هذه الأخيرة أن تثبت وجود الثورة الشاملة، ولم يكن ثمة للقيام بذلك أفضل من انتفاضة العشرين أوت سنة 1955.‏
        * هجومات العشرين من أغسطس1955 أهدافها ونتائجها:‏
        والحديث عن انتفاضة العشرين أغسطس، بعد حوالي ثلاثين سنة، ليس بالموضوع السهل، خاصة وأن الذين هيأوا لها ونفذوها لم يتركوا لنا مذكراتهم، ولم يكتب الأحياء منهم، حتى الآن، مايسمح بالحكم على صحة أو عدم صحة ماورد حول هذه المسألة في عشرات المؤلفات.‏
        وعلى سبيل المثال، فإن السيد الستار هورن، في كتابه "تاريخ حرب الجزائر" يذكر بأن "أحداث عشرين أوت" كانت نتيجة اليأس القاتل الذي يسيطر على كل من زيغود ومساعده الأول السيد لخضر بن طوبال(16) وكما سنرى فإن هذا الرأي لا يختلف كثيراً عن الذي جاء به السيد فرحات عباس الذي يضيف إلى اليأس، شعور الشهيد زيغود بالذنب والتقصير تجاه قائد المنطقة: الشهيد ديدوش مراد. أما الملازم أيف كوريار، فإنه، على غرار جرجي زيدان، يطلق العنان لخياله، فيسمع زيغود وهو يحدث أحد أعوانه "إن الخسارة ستكون مرتفعة، ولكن حتى إذا قضي على نصف السكان، فإن الثورة ستربح لأن الجزائر ستتحرك... وعلى أية حال، فإن حال الثورة لن يكون بعد الأحداث) أسوأ مما هو عليه الآن(17) .‏
        في استطاعة أي قارئ أن يواصل تعداد الأمثلة وهي معظمها متقاربة. لكننا نتوقف عند رأي السيد إيدوارد باهر الذي يقول: لقد كانت أحداث العشرين من آب تعبيراً عن الاحتفال بالذكرى الثانية لإلقاء القبض على سلطان المغرب الأقصى. وبينما شاهدت مدينة وادي زم، في البلد الأخير، تقتيل حوالي تسعين، أوربياً، فإن العملية قد أخذت نفس الحجم، تقريباً، في ناحية سكيكدة والعالية....).‏
        غير أن هناك شيئاً لابد من الإشارة إليه، وهو أن الصحافيين والدارسين والباحثين والهواة الذين تعرضوا في كتاباتهم إلى الانتفاضة قد اعتمدوا على ما سمعوه من أخبار ثم تولى كل واحد توجيهها كيفما شاء، وحسب الأغراض التي حددها لنفسه. ومعظم تلك الأخبار، حتى يومنا هذا متأتية عن مصادر استعمارية من جرائد ونشريات وتقارير أمن ودراسات ميدانية إلى غير ذلك من الوثائق التي أعدتها، في ذلك الحين، مختلف السلطات الفرنسية، أما محفوظات جبهة وجيش التحرير الوطني، فإنها قد ضاعت، ولم يبق منها الشهادات الحية وهي لم تستنطق بعد بطريقة علمية وجدية.‏
        كثير من الكتاب يذكرون أن السيد لخضر بن طوبال وهو أساسي في هذا الموضوع، قد قال لهم كذا وكذا، أو أكد لهم هذه الحقيقة أو تلك، أو زودهم بوثائق شخصية لم تنشر، في حين أن المعني بالأمر لم يقدم سوى شهادة واحدة(18) ، ولم ينشر أي شيء في الموضوع.‏
        إن المسؤولين الذين عاشوا تلك الفترة يجمعون على أن زيغود يوسف هو صاحب فكرة الانتفاضة، وعندما اختمرت في ذهنه نقلها إلى مساعديه الأقربين وفي مقدمتهم لخضر بن طوبال. ولقد كان زيغود من قدماء المنظمة الخاصة، ومن المناضلين البارزين في حركة الانتصار للحريات الديمقراطية، لأجل ذلك، وعلى عكس من يزعم بأنه لم يكن يعرف مايمكن أن تنتهي إليه الانتفاضة من عواقب وخيمة، فإننا نستطيع التأكيد بأنه كان مقداراً لكل الاحتمالات.‏
        فالمشرفون على المنظمة الخاصة كانوا يركزون على نظرية حرب العصابات، وعلى كل المناهج التي من شأنها تعبئة الجماهير وجعلها تتحمل مسؤولياتها كاملة. وفي هذا الإطار، كان يوسف زيغود يقول دائماً أن القمع الأعمى يولد القمع الأعمى، والعنف يدعو إلى العنف، وعلى هذا الأساس، فإذا تمكنت جبهة التحرير الوطني من إقناع السكان العزل بضرورة الانضمام إلى أفراد جيش التحرير الوطني في عملية هجومية ضد الاستعمار وقواته بجميع أنواعها، فإنها ستتسبب في رد فعل عنيف يقطع خط الرجعة على المترددين، ويوقظ الحس الوطني لدى عامة المواطنين.‏
        ومهما يكن من أمر، فإن جميع المعلومات المختلفة من مصادرها المتعددة وإخضاعها للنقد والتحليل، يسمحان لنا بحصر أهداف انتفاضة العشرين آب فيمايلي:‏
        1 - مضاعفة عدد مراكز التوتر في أماكن كثيرة من المنطقة الثانية ليرفع الحصار المضروب على منطقة الأوراس التي كانت تعاني من عمليات التمشيط المبكرة آنذاك.‏
        2 - نقل الحرب الساخنة من الجبال والأرياف إلى المدن والقرى، وبذلك يتم ضرب عصفورين بحجر واحد. فمن جهة يخفف الضغط المفروض على الريف من أجل محاولة خنق التنظيم الثوري في مهده، ومن جهة أخرى ليتأكد الاستعمار من أن الثورة في كل مكان ولكي تتسع الهوة بين السلطات الاستعمارية والجزائريين الذين كانوا مايزالون مترددين.‏
        3 - إقناع الرأي العام الفرنسي والرأي العام العالمي بأن الشعب الجزائري قد تبنى جبهة التحرير الوطني، وهو مستعد لمجابهة الرشاشات والدبابات حتى بالحجارة والفؤوس والعصي من أجل تحرير البلاد.‏
        4 - تدويل القضية الجزائرية، وذلك بحمل الجمعية العامة للأمم المتحدة على تسجيلها في جدول أعمال دورة 55.‏
        5 - لتكون تلك الأحداث الدامية تعبيراً صادقاً عن تضامن الجماهير الجزائرية مع الشعب المغربي الشقيق.‏
        وبالفعل، فإن معظم هذه الأهداف قد تحقق، وعلى سبيل المثال، نذكر يقظة الحس الوطني لدى منتخبي الدرجة الثانية من الجزائريين الذين سيصدرون اللائحة المشهورة بعد حوالي شهر من وقوع الانتفاضة(19) ، كما تشير إلى أن المجلس الوطني الفرنسي قد خصص، نتيجة لذلك، ثلاثة أيام في منتصف شهر أكتوبر للتداول حول القضية الجزائرية(20) . أما الجمعية العامة للأمم المتحدة، فإنها بفضل موقف بلدان العالم الثالث، قد سجلت المسألة الجزائرية في جدول أعمال دورة سنة 1955. وكان ذلك بأغلبية صوت واحد. واكتفى الوفد الفرنسي لدى الأمم المتحدة بالانسحاب(21) بينما في الجزائر، صرح سوستيل: إن ماوقع في نيويورك أثمن من قافلة أسلحة توجه إلى جبهة التحرير الوطني(22) .‏
        أما السيد فرحات عباس، فيرى أن ما أسماه بفظائع أوت هي نتيجة أزمة الضمير التي كان زيغود يجتازها في ذلك الوقت. وتتمثل الأزمة، حسب رأيه، في شعور قائد المنطقة الثانية بأن السبب في استشهاد ديدوش مراد إنما يرجع إلى الأخطاء التي ارتكبها هو، كدليل يعرف المنطقة وسمح للفرقة بأن تجتاز أرضاً مكشوفة(23) .‏
        وبالإضافة إلى أزمة الضمير، يزعم عباس بأن أحداث العشرين من أغسطس سنة 1955، كانت تقية اتخذها زيغود ليصفي حسابات قديمة مثل انتقامه من علاوة عباس الذي كان قبل الثورة قد انتصر في الانتخابات على مرشح حركة الانتصار للحريات الديمقراطية(24) .‏
        وإذا استثنينا غلاة الاستعماريين الذين كتبوا عن انتفاضة العشرين أوت لتشويهها، وهم معذورون لأنهم في حالة الدفاع عن أنفسهم وتبرير جرائمهم، فإن عباس هو الوحيد الذي قلل من قيمتها مؤكداً بأن قيادة المنطقة الثانية كانت قصيرة النظر، ومشيراً إلى أن مؤتمر الصومام نفسه قد أدان الأحداث ولو كانت فيها فائدة لما فعل ذلك.‏
        نحن نعتقد أن عباس عندما أصدر هذا الحكم، لم يكن قد أطلع على رأي السيد جاك سوستيل الذي قال بعد الأحداث بأسابيع: هناك تاريخان يفرضان نفسيهما على الذهن وهما: فاتح نوفمبر و20 أغسطس وهذا الأخير أكثر لأن سلسلة الحوادث بعده قد تكاثرت وأخذت بعداً آخر(25) .‏
        ويذكر المؤرخون جميعهم أن انتفاضة العشرين أغسطس وقعت عند منتصف النهار لكن واحداً منهم لم يحاول أن يصل إلى الدافع الذي جعل زيغود يختار تلك الساعة من النهار.‏
        والحقيقة أنها كانت، يومها، هي وقت آذان صلاة الظهر، وأراد أن تمتزج الدعوة للصلاة بالدعوة إلى الجهاد، وهو ماحدث في أغلبية القرى والمدن.‏
        وهناك أسباب أخرى من جملتها، مثلاً، كون منتصف النهار هو موعد وجبة الغذاء عند الأوروبيين المدنيين، لأن العسكريين يتغذون قبل ذلك بساعة كاملة أو نصف ساعة، ثم أن الوقت صيف، وبعد الظهر تشتد الحرارة، ومعظم أفراد الجيش الفرنسي غير معتادين على ذلك.‏
        المهم أن الهجوم قد بدأ في الوقت المضبوط ولكن ليس في كل الجهات المحددة، بل يمكن الجزم أن الجهة التي كان يشرف عليها الشهيد زيغود مباشرة هي التي نفذت الخطة بكل دقة، لأجل ذلك وقع كل الثقل تقريباً على الشريط الممتد بين سكيكدة، القل وقسنطينة، شاملاً على الخصوص: مدينة سكيكدة وضواحيها، مدينة رمضان جمال حالياً مدينة صالح بوشعور، مدينة الحروش، مدينة مزاج الدشيش، مدينة سيدي مزغيش، مدينة ريغود يوسف حالياً، مدينة وادي زناتي، ثم مدن القل والميلية وقسنطينة والخروب.‏
        ولقد كانت عمليات القمع وحشية، استهدفت كل المواطنين بدون تمييز وإن كان الاختيار يذهب، غالباً إلى الرجال والشباب، واختلفت الجهات في تقدير عدد القتلى، فالمصادر الفرنسية تحدثت عن حوالي ألف وخمسمائة شخص من بينهم حوالي مائة وعشرين أوربياً.‏
        أما جبهة التحرير الوطني فنشرت، يومها، أسماء وعناوين اثني عشر ألف قتيل وقتيلة. ونحن نعتقد أن شهداء الانتفاضة كانوا أكثر بكثير، نستدل على ذلك بشهادة جندي فرنسي ذكره السيد هورن في كتابه(26) يقول ذلك الجندي الذي يتحدث عن مدينة سكيكدة.‏
        "إننا شرعنا نطلق الرصاص على الجميع بدون تفريق... وكان قادتنا يحددون الأوامر باستهداف كل العرب الذين نلقاهم... وظللنا مدة ساعتين لا نسمع غير صوت الأسلحة الأوتوماتيكية تقذف النار على الجمهور... بعد ذلك جاءت أوامر جديدة تقضي بجمع الأسرى، وفي الغد، على الساعة السادسة صباحاً، سطرت المدافع الرشاشة أمامهم ثم أطلق الرصاص. وبعد عشر دقائق انتهى كل شيء وكانت أعدادهم هائلة إلى درجة أن دفنهم استوجب استعمال الجرافة.‏
        ومهما كان عدد الضحايا، فإنه يبقى قليلاً إذا قارناه بالنتيجة الإيجابية التي تم التوصل إليها. ولئن كان بعض الكتاب والمؤرخين يزعمون بأن عدداً من المسؤولين في المنطقة الرابعة، أمثال عبان ولبجاوي، قد استنكروا أحداث العشرين من أغسطس لأنها تسببت في مقتل أو عطب كثير من المدنيين، وإذا كان هناك من يذهب بالقول إلى أن مؤتمر وادي الصومام قد أدان العملية ووجه، بشأنها، توبيخاً إلى الشهيد زيغود يوسف، فإن الواقع لا يصدق كل هذه الادعاءات لسبب بسيط وهو أن محفوظات الثورة لا تذكر ذلك، بل أن جميع الوثائق المتوفرة لدينا، حتى الآن تمجد الانتفاضة وتعتبرها بعثاً جديداً ومنعرجاً تاريخياً حاسماً في حياة الثورة(27) .‏
        وليس ما أوردته مجرد ادعاء، كما أنه لا تأثير فيه، لا للعاطفة ولا للمغالاة، لأن أحداث العشرين من أغسطس هي التي فرضت على صحافة العالم كله أن تخصص أعمدة كاملة تحت عناوين كبيرة للقضية الجزائرية بمفهوم جديد غير الذي يجعل من الجزائر جزءاً لا يتجزأ من فرنسا.‏
        وانتفاضة العشرين أغسطس أيضاً، هي التي كسرت جناحي السيد سوستيل الذي كان قد جمع كل قواه، وجند سائر إمكانياته في جميع الميادين ليطبق قانون سنة 1947 الذي أسلفنا ذكره، لقد كان سوستيل يؤمن بأن الإصلاحات الاجتماعية وبعض الحقوق للجزائريين تكفي لعزل جبهة التحرير الوطني والقضاء عليها، وكان يعتمد، في حساباته، على مجموعة من المعتدلين وبالضبط على السيد فرحات عباس وأتباعه. لكن زيغود، الذي لم يكن في الحسبان، تدخل بعنف فزاد الهوة اتساعاً ووجه إنذاراً شديد اللهجة للإطارات الجزائرية التي كان سوستيل يركز عليها آماله.‏
        (1) هي منطقة الأوراس التي ستصبح بعد مؤتمر الصومام هي للولاية الأولى.‏
        (2) هي التي ستصبح فيما بعد نواة القاعدة الشرقية.‏
        (3) من مواليد عام 1921 في القرية التي تحمل اسمه حالياً بولاية سكيكدة، نال الشهادة الابتدائية ثم اشتغل حداد وهو لم يبلغ بعد سن الرشد، انضم إلى صفوف حزب الشعب الجزائري سنة 1942، وعندما أنشئت المنظمة الخاصة صار واحد من قادتها البارزين، شارك في اجتماع الاثنين والعشرين خلف ديدوش مراد في قيادتها الأولى يوم 18/05/1955 ثناء، قام بدور أساسي في التحضير لمؤتمر وادي الصومام في توفير الشروط اللازمة لإنجاحه، استشهد أثناء معركة قرب بلدة سيدي مزغيش ولاية سكيكدة حالياً)، يوم 23/09/1956 بينما كان في طريقه إلى الأوراس في مهمة كلفه بها المؤتمر الأول لجبهة التحرير الوطني.‏
        (4) عندما وقع اجتماع الاثنين والعشرين كان حوالي نصف المشاركين من تلك التي ستصبح المنطقة الثانية وهم: زيغود يوسف، ابن طوبال، ابن عودة، ناجي بوصوف، عبد مالك، مشاطئ، حباشي، ببطاط وبوضياف.‏
        (5) من مواليد 10/01/1919 لجأ إلى الحياة السرية منذ سنة 1945. نائب السيد كريم بلقاسم في المنطقة الثالثة ثم قاد المنطقة الرابعة بعد أن ألقي القبض على السيد بيطاط، عين نائباً عسكرياً للسيد الأمين دباغين ثم قائداً أعلى للقوات المسلحة يوم 25 مارس 1957.‏
        (6) خبا نجمه مع نهاية عام 1958. يعيش حالياً من التجارة.‏
        من مواليد 1920 بالأربعاء نايث ايراثن ولاية تيزي وزو) ألقي عليه القبض عندما اكتشف أمر المنظمة الخاصة التي كان واحداً من أبرز قادتها. خرج من السجن في نهاية فبرايرعام 1955. تولى تنسيق قيادة منطقة الجزائر. قام بدور أساسي في عقد وإنجاح مؤتمر واد الصومام. اغتاله رفاقه بلقاسم كريم ولخضر بن طوبال وعبد الحفيظ بوصوف يوم 27/12/1957. ثم أعلنوا على أعمدة المجاهد الذي كان يشرف عليه أنه استشهد في ميدان الشرف في شهر افريل سنة 1958.‏
        (7) Jeanson Cet F) I'Algerie hors la loi , le seuil 1955 ., p 310‏
        انظر كذلك للاطلاع على منشور كامل:‏
        tract du FL N Manduze Andre) Numero special du 15 juin 1955. ش Conscience maghrebine‏
        (8) من مواليد عام 1920 بالبرواقية ولاية المدية حالياً. عضو اللجنة المركزية لحركة الإنتصارات للحريات الديمقراطية. ألقي عليه القبض في الأيام الأولى من شهر نوفمبر أطلق سراحه يوم 13 ماي 1955، ومباشرة التحق بصفوف جبهة التحرير الوطني إلى جانب عبان رمضان، شارك في معركة الجزائر وعين عضوا في لجنة التنسيق والتنفيذ سنة 1956 ثم وزيراً للشؤون الإجتماعية في أول الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية.ترأس الحكومة الالثة ابتداء من شهر أوت سنة 1961، رفض الدخول في صراع دموي مع المكتب السياسي بعد الإستقلال، فانسحب من الميدان ولجأ إلى الحياة المدنية، يشرف على صيدلية بحيدرة في ضواحي العاصمة.‏
        (9) يعتبر من القادة الأساسيين للثورة الجزائرية، تكون خاصة في إطار المنطقة الخاصة التي كان يحتل مكانة مرموقة في صفوفها واحد من الاثنين والعشرين سبر دائرة سكيكدة للحزب سنتي 1952- 1953، ثم عين على رأس دائرة تلمسان، عندما اندلعت الثورة عين نائباً أول للشهيد العربي بن مهيدي الذي خلفه سنة 1956 على رأس الولاية الخامسة التي قادها إلى غاية 1958، تولى مسؤولية تسليح الثورة وتنظيم المخابرات التي بلغت، في عهده، أعلى المستويات، هو الذي وفر لهواري بومدين شروط ارتقاء سلم المسؤوليات قبل أن يتركه على رأس الولاية الخامسة. انعزل عن السياسة بعد وقف اطلاق النار ومات بسكتة قلبية .....‏
        (10) انظر البرقية التي تحمل رقم 00686 والتي وجهها سوستيل إلى القائد الأعلى للجيوش الفرنسية العاملة في الجزائر لقد جاء في تلك البرقية، أؤكد موافقتي على تمديد حالة الطوارئ إلىكافة عمالة قسنطية، وكذلك إضافة البلدتين المختلطتين في غنية وسبدو وبعمالة وهران على الحدود المغربية:‏
        انظر: SOUSTELLE J) Aimée et souffrante Algérie . Paris 1956, p 98.‏
        (11) إذا ما استثنينا السيد محمد بوضياف، فإن مراد تربوش هو أول مسؤول لاتحادية جبهة التحرير الوطني في فرنسا، ظل يقودها أكثر من عام كامل، ويعود الفضل إليه في إرساء قواعدها، وتوفير الشروط الموضوعية لتطورها.‏
        (12) محمد خيضر، حسين آيت أحمد، وأحمد بن بلة.‏
        (13) من مناضلي حزب الشعب القدامى، انتخب عضو اللجنة المركزية 1950-1954)) عين لتمثيل جبهة التحرير الوطني في نيويورك من سنة 1955 إلى سنة 1958، تولى وزارة الأخبار في الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية إلى غاية وقف إطلاق النار. عين سفيراً في لبنان، ثم سفيراً للجامعة العربية في باريس، انتخب عضواً للجنة المركزية على إثر المؤتمر الرابع. عين عضواً بالأمانة الدائمة للجنة المركزية سنة 1984.‏
        (14) آيت ، أحمد حسين)، الحرب بعد وبعدالحرب، ص 127.‏
        (15) باندونغ: مدينة كبيرة في أندونيسية، تقع جنوب جزيرة جافة. ضمت الندوة المذكورة ثلاثين بلداً من آسيا وإفريقيا، واشتهرت بقراراتها المدينة للاستعمار والعنصرية والداعية إلى التعاون الإيجابي والمكثف بين كل البلدان النامية والنضال من أجل تمكين الشعوب من حقها في تقرير المصير.‏
        (16) الستير هورن: تاريخ حرب الجزائر، ترجمه عن الإنكليزية إيف كارني وفيليب يوردريل، باريس سنة 1980، ص 123.‏
        (17) إيف كوريار، عهد الفهود، فايار باريس سنة 1969، ص 182.‏
        (18) بمناسبة الندوة الوطنية الأولى لكتابة تاريخ الثورة أيام 29-31 أكتوبر سنة 1981.‏
        (19) انظر اللائحة التي تحمل تاريخ 26/09/1955 في ABBAS Ferhat, Autopsie d'une guerrep.143.‏
        (20) أوبرمان، ص 67.‏
        (21) الشقيري أحمد)، قصة الثورة الجزائرية، دار العودة بيروت بدون تاريخ، ص 20.‏
        (22) صدى الجزائر، في عددها الصادر بتاريخ 29/12/1955.‏
        (23) عباس فرحات) تشريح حرب، ص106 ومابعدها.‏
        (24) نفس المصدر.‏
        (25) SOUSTELLE J) Aimée et souffrante Algérie. p 137.‏
        (26) انظر الستير هورن، ص 125 و126.‏
        (27) أعمال المؤتمر لكتابة التاريخ، ص: 217، ومابعدها.‏

        إذا الشعب يوما أراد الحياة
        فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
        و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
        و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

        تعليق


        • #5
          رد: تاريخ الجزائر المعاصر (1954-1962).الجزء الثاني

          الفصل الثالث
          التطبيق العملي لأهداف جبهة التحرير الوطني بعد مؤتمر وادي الصومام‏
          تقييم أخر لنتائج وادي الصومام:‏
          لقد كان مؤتمر وادي الصومام انتصاراً للثورة الجزائرية في نظر العديد من المحللين السياسيين الوطنيين على وجه الخصوص. لكن بعض المسؤولين الجزائريين في الخارج اعتبروا إفقاده نوعاً من الخيانة التي ستكون عواقبها وخيمة على مصير الكفاح المسلح في الجزائر. فضابط المخابرات المصري فتحي الديب أورد في كتابه "عبد الناصر وثورة الجزائر"(1) أن السيد أحمد بن بلة أكد" أن المؤتمر شكل نقطة تحول خطيرة في مسيرة الثورة للأسباب التالية:‏
          أ- إن اعتراض الولايات الشرقية والغربية التي تغيبت عن المؤتمر لن يتوقف عن حد الاعتراض على القرارات، بل ينتظر أن يتطور إلى صدام في إطار من محاولات التصفية بين القيادات في نطاق صراع داخلي.‏
          ب- أن الولايات المجاورة للحدود ستقوم بحجب السلاح عن الولايات الداخلية لإرغامها على التراجع عن قرارات المؤتمر. وقد وصلته رسائل تفيد بذلك.‏
          ج- احتمال انتقال صورة الصراع الداخلي المتوقعة إلى الخارج بعد خروج المجموعة الموالية لعبان رمضان، الأمر الذي سيزعزع ثقة الرأي العام العربي والعالمي في الصورة المشرفة التي أمكن تحقيقها لثورة الجزائر.‏
          د- بدء مرحلة الصراع بين السياسيين والعسكريين وما تحمله من آثار ضارة بالمسيرة الثورية خاصة بعد انتشار نغمة، سياسي وعسكري، في أوساط جيش التحرير الوطني(2) .‏
          ليس من السهل على الدارس المحقق أن يأخذ كتابة السيد فتحي الديب على أنها حقيقة تاريخية مسلم بها كتلك التي يرويها الثقاة الذين يتولون بأنفسهم إخضاع المعلومات إلى المقاييس والمعايير المعروفة لجمهور المؤرخين.‏
          وعلى الرغم من أن "عبد الناصر والثورة الجزائرية" صدر عن دار المستقبل العربي سنة 1984 ونشر أيضاً مترجماً إلى اللغة الفرنسية، وأن السيد بن بلة لم يعارض، قولاً أو كتابة، ما جاء في الكتاب من المعلومات منسوبة إليه حول المؤتمر، فإننا نعتبر أن الفصل الرابع عشر كله مغلوط ولا يمكن اعتماده في تقييم نتائج أشغال وادي الصومام.‏
          إن حكمنا بهذه القسوة على هذا الفصل مستخلص خاصة من النقطة العاشرة التي توهم القارئ الخالي الذهن بأن مرحلة الصراع الداخلي والتصفية الجسدية المذكورين من بين الأسباب التي اعتمد عليها السيد أحمد بن بلة لإصدار حكمه الآنف الذكر قد بدأت فعلاً وأن "أول ضحاياها هو المناضل القائد البطل مصطفى بن بو لعيد.. ولحق به المناضل الجسور والوطني المخلص يوسف زيغود قائد ولاية شمال قسنطينة الذي صاحبت ظروف وقوعه في كمين أعده الفرنسيون له بعد خروجه من مخبئه علامات استفهام تشير بإصبع الاتهام بالخيانة والغدر إلى مساعديه في القيادة إبراهيم مزهودي وعلى كافي"(3) .‏
          إن هذين الخبرين لا أساس لهما من الصحة: أولاً لأن الشهيد مصطفى بن بولعيد لم يكن من المعارضين لقرارات مؤتمر وادي الصومام لسبب واضح وبسيط يتمثل في كونه استشهد قبل انعقاد المؤتمر بحوالي خمسة أشهر. أما يوسف زيغود فإن استشهاده كان في نهاية الأسبوع الأخير من شهر سبتمبر في حين أن الذيب يذكر أنه تلقى الخبرين في نهاية الأسبوع الثاني من شهر سبتمبر سنة 1956. وبالإضافة إلى ذلك فإن السيدين على كافي وإبراهيم مزهودي كانا من أكثر القادة ارتباطاً بالشهيد، بل إن مزهودي، عندما وقع الاستشهاد، كان قد وصل إلى الحدود التونسية في إطار تنفيذ مقررات المؤتمر.‏
          وإن الرجوع إلى المصادر الحية واستنطاق الوثائق المتوفرة للباحثين يدلان، بما لامجال للشك فيه، على أن جل المعارضين لنتائج المؤتمر لم يفعلوا ذلك من منطلقات أيديولوجية لكنهم كانوا، فقط، مدفوعين بأغراض شخصية بعضها يتعلق بالجري وراء السلطة وبعضها الآخر ناتج عن الانحياز لأشخاص دون التمعن في الموضوع.‏

          هكذا نرى أن السيد بن بلة يجعل في مقدمة مأخذه على المؤتمر أنه لم يجمع سوى قادة الولايات الرابعة والثالثة والثانية مؤكداً أن باقي القادة قد تخلفوا عن الحضور وهم ممثلو وهران والأوراس وسوق أهراس والصحراء والخارج(4) .‏
          إن هذا المأخذ مرفوض في أساسه لأن المنطقة الخامسة أي الغرب الجزائري كانت ممثلة في شخص قائدها الأول الشهيد العربي بن مهيدي الذي ترأس المؤتمر. أما المنطقة الأولى فإن عدم حضورها يرجع فقط لكون ضباطها السامين لم يتفقوا على تعيين خليفة الشهيد مصطفى بن بولعيد.‏
          وفيما يخص سوق أهراس والصحراء فإنهما لم تكونا من ضمن المناطق الخمس التي تأسست وانطلقت في الكفاح ليلة الفاتح من نوفمبر سنة 1954.‏
          ودائماً حسب السيد فتحي الديب(5) ، فإن بن بلة يرفض نتائج مؤتمر وادي الصومام لأن السياسيين هم الذين سيطروا على أشغاله دون العسكريين الذين تنقصهم الخبرة في مجال المناورات من جهة، ولأن عبان اختار بالفعل الدكتور محمد الأمين دباغين لتمثيل الثورة الجزائرية بالقاهرة وللتحقيق مع أعضاء المندوبية حول تقصيرهم في أداء مهمتهم المتمثلة خاصة في تزويد الداخل بما يحتاج إليه من سلاح وذخيرة من جهة أخرى.‏
          إن هذين السببين مختلفان فقط وليس ثمة في الواقع ما يعمها، لأن عبان رمضان نفسه لم يكن محترفاً سياسياً بل كان، كغيره، مناضلاً يؤمن بضرورة انتهاج الكفاح المسلح استرجاع السيادة الوطنية، وقبل أن ينخرط في حزب الشعب الجزائري الذي تقلد في صفوفه مسؤوليات هامة، كان جندياً في الجيش الفرنسي على غرار بن بلة ذاته.‏
          أما الدكتور محمد الأمين دباغين، فإن أعضاء مندوبية الخارج هم الذين طالبوا بإرساله إلى القاهرة ليكون عليهم رئيساً(6) . وليس ذلك بالشيء الغريب إذا علمنا أن النواة الأولى التي قررت الدخول في مرحلة الكفاح المسلح كانت قد لجأت إليه ليقود الثورة بعد أن رفض ذلك الشرف مصالي الحاج لأسباب ليس هذا محل التعرض إليها. فالدكتور، إذن، لم يعين من طرف عبان الذي اقتصر دوره على تبليغه رسائل المندوبية. وحتى عندما وصل مصر، فإنه رفض ممارسة المسؤولية المسندة إليه دون قرار رسمي يوافق عليه الجميع وقد صدر ذلك القرار بالفعل عن مؤتمر وادي الصومام، ويبدو أن بعضهم تقبل ذلك بكثير من التردد والحذر.‏
          ولقد كان هناك نوع آخر من التردد لكنه، هذه المرة، خاص بقرار أساسي اتخذه المؤتمر ويتعلق بفتح أبواب قيادة جبهة التحرير الوطني إلى عدد من السياسيين الذين لم يتكونوا في صفوف حزب الشعب الجزائري وما تفرع عنه من تنظيمات سرية أو علنية على حد سواء. إن هذا القرار قد أثار أثناء أشغال المؤتمر معارضة عدد من المسؤولين الذين وصفوه بالانحراف الذي يعرض الثورة إلى خطر الموت لأنه يقضي على وحدة التصور ووحدة التفكير الضروريين للاستمرارية الثورية، لكن مبدأ المركزية الديمقراطية حسم الموقف كما سبق أن أشرنا إلى ذلك.‏
          هكذا، إذن، يمكن القول أن نتائج مؤتمر وادي الصومام قد استقبلت، ظاهرياً، بارتياح كبير من طرف المسؤولين في جميع المستويات، لكنها، في الواقع تسببت في ميلاد صراع داخلي على السلطة كان يمكن أن يغذى وينتشر لو لم يحدث اختطاف الطائرة التي كانت تنقل القادة الأربعة من المغرب إلى تونس في اليوم الثاني والعشرين من شهر أكتوبر سنة ست وخمسين وتسعمائة وألف.‏
          ولقد كانت لجنة التنسيق والتنفيذ تتوقع حدوث بعض التصدع في الصف، لأجل ذلك تقرر إيفاد السادة عمار بن عودة وعمار واعمران وإبراهيم مزهودي إلى تونس قصد شرح النتائج التي توصل إليها المؤتمر، وإيجاد الحلول اللازمة للمشاكل العديدة التي تعترض سبيل تزويد الداخل بالأسلحة والذخيرة.‏
          ومن الجدير بالذكر أن هؤلاء الأخوة لاقوا صعوبات كثيرة وهم يؤدون هذه المهمة الصعبة. ومن جملة الصعوبات التي اعترضت سبيلهم فإن السيد فتحي الديب قد أشار إلى تمرد ما يسمى بقيادة مناطق جيش التحرير الوطني الذين اجتمعوا "في مكان ما"(7) وقرروا عدم الاعتراف بقرارات مؤتمر وادي الصومام لأنهم لم يشاركوا في وضعها، وأجمعوا على ضرورة إبعاد موقدي المؤتمر باعتبار أن وجودهم في تونس يشكل مصدراً للقلاقل ويتسبب في تعطيل عملية التسليح(8) .‏
          وعلى الرغم من أن السيد فتحي الديب قد نشر ضمن ملحقات كتابه وثيقة تحمل توقيعات عدد من مسؤولي جيش التحرير الوطني في أقصى شرق الجزائر لتدعيم زعمه وإعطائه نوعاً من المصداقية، إلا أن فحص الوثيقة المذكورة يبين بوضوح تام أن هناك خلطاً كبيراً في المصطلحات ترتب عليه ذلك الغموض الذي استند عليه الكاتب لإصدار حكمه. فمحضر الاجتماع المنعقد، فعلاً، بتاريخ الخامس عشر من شهر ديسمبر سنة ست وخمسين وتسعمائة وألف يذكر أن الموقعين عليه قرروا، بادئ ذي بدء، عدم الاعتراف بقرارات وادي الصومام لكن المحضر لم يذكر أن الجهات التي يمثلونها لا يمكن أن تكون مناطق لأنها في مجملها تابعة لمنطقتين اثنتين هما: الشمال القسنطيني والأوراس.‏
          وعندما يرجع الدارس إلى شخصية الموقعين على الوثيقة، فإنه يتأكد من أنهم لم يكونوا مؤهلين لتقييم نتائج المؤتمر خارج هياكلهم النظامية، ولقد كان عليهم إبداء كل آرائهم في إطار اجتماعات الولاية(9) التي ينتمون إليها. أما خارج ذاك، فإنهم إنما يكونون قد شقوا عصى الطاعة ويطبق عليهم النظام الداخلي لجيش التحرير الوطني.‏
          وحينما يطرح الدارس كل هذه التعليقات النظرية جانباً، ويعود إلى ميدان، يجد، بكل موضوعية، أن مؤتمر وادي الصومام أثرى بالفعل أيديولوجية جبهة التحرير الوطني، وزود الثورة بالأدوات التي كانت تنقصها لمواصلة المسيرة ولتوفير أسباب استمرارية الكفاح المسلح والنضال السياسي من أجل استرجاع الاستقلال الوطني.‏
          ويتمثل الإثراء خاصة في إعطاء جبهة التحرير الوطني نفسها مفهوماً آخر إذا لم تبق ذلك التنظيم الذي يعمل على لم شمل نزعات سياسية مختلفة نتجت عن الأزمات الداخلية التي مر بها نجم شمال إفريقيا ومن بعده حزب الشعب الجزائري ثم حركة الانتصار للحريات الديمقراطية، وعن الصراعات التي وقعت بين المشرفين على الجناح السياسي والمسؤولين عن المنظمة الخاصة من جهة وبين دعاة الشرعية السياسية وأنصار الكفاح المسلح من جهة ثانية. بل تحولت إلى حركة مفتوحة أبوابها ليس فقط لمناضلين صهرتهم أيديولوجية واحدة ولكن لمواطنين وإطارات ومناضلين ظلوا حتى ذلك التاريخ متمسكين بأيديولوجية مختلفة وقرروا تجميد تمسكهم ذلك للالتحاق بالمسار الثوري دون أن يقدموا الدليل على أن التحاقهم نهائي وبدون رجعة(10) .‏
          وإذا كان ذلك الالتحاق الذي سمح به مؤتمر وادي الصومام قد جاء نتيجة نوع من التنازل عن واحد من الشروط الأساسية الواردة في نداء الفاتح من نوفمبر، ويتمثل في إعلان الملتحق عن تخليه النهائي عن أيديولوجيته، فإنه، في واقع الأمر، قد حقق انتصاراً لجبهة التحرير الوطني التي استطاعت، تفضل ذلك، أن تضم إلى صفوفها عدداً كبيراً من الإطارات السياسية والثقافية التي ستؤدي دوراً لا يستهان به خلال ما تبقى من سنوات الكفاح المسلح، وقد كان من الممكن أن يكون انتصاراً أكبر، لو لم تتعرض البلاد إلى أزمة صائفة اثنين وستين تسعمائة وألف التي فتحت شهية المحترفين السياسيين على حساب المصلحة الوطنية.‏
          ومجرد انتهاء أشغال المؤتمر، رجعت لجنة التنسيق والتنفيذ إلى العاصمة وتوجه العقيد يوسف زيغود إلى الأوراس مكلفاً بالإشراف على عملية إنهاء الخلافات القائمة بين مختلف القيادات المحلية، وتعيين القائد الموحد الذي يكون أهلاً لخلافة الشهيد مصطفى بن بوالعيد، غير أن هذه المهمة الصعبة والنبيلة في ذات الوقت لم يكتب لها النجاح على يد قائد الولاية الثانية الذي استشهد قبل حتى أن يخرج من ولايته(11) .‏
          إن هذه المهمة قد أسالت كثيراً من الحبر وحاول العديد من المؤرخين إعطائها تأويلاً غير الذي وجدت من أجله. فزيغود يوسف كان مشهوراً بقدرته على التنظيم وكانت له خبرة واسعة بالعمل العسكري بالإضافة إلى معرفته بإطارات الولاية الأولى الذين كانوا يكنون له كل الاحترام نظراً للعلاقات النضالية والودية التي كان يقيمها مع قائدهم بلا منازع الشهيد مصطفى بن بوالعيد.‏
          ومن الممكن أن زيغود كان ينجح في توحيد مختلف الفرق المتنازعة على السلطة في الأوراس، ولو تم ذلك لربحت الثورة وقتاً ثميناً واستفادت من طاقات وطنية ضاعت بلا سبب يذكر.‏
          وشكل استشهاد زيغود أول امتحان اجتازته القيادة العليا بنجاح حيث تم تعويضه بسرعة وبدون أي مشكل(12) واستمرت لجنة التنفيذ والتنسيق تواصل تطبيق الأيديولوجية التي صادق عليها المؤتمر.‏
          ففي المجال العسكري، تكيف جيش التحرير الوطني بسرعة فائقة مع التنظيم الجديد، وبدا يعمل طبقاً للقوانين المختلفة المشار إليها في محلها، وينطبق هذا القول حتى على المناطق التي أبدت تحفظها وعبرت عنه بممارسات وصلت إلى حد استعمال العنف.‏
          وكان لتمركز لجنة التنسيق والتنفيذ في عاصمة البلاد أثر بالغ الأهمية على معنويات القوات الجزائرية المقاتلة داخل المدن وفي الجبال والأرياف عامة. فوحدة القيادة وتواجدها في ميادين المعركة زاد المجاهدين حماساً، وقرب المواطنين أكثر من صفوف جبهة التحرير الوطني.‏

          وبمجرد العودة إلى العاصمة، شرعت القيادة العليا في الإعداد لتطبيق قرار المؤتمر المتعلق بدعم العمل الفدائي وتعميمه حتى يتمكن سكان المدن من القيام بواجبهم الوطني في إطار الكفاح المسلح الذي أصبح حقيقة ملموسة في كافة أرياف البلاد.‏
          وتضاعف العمل الفدائي ابتداء من شهر سبتمبر سنة ست وخمسين من العمليات الجريئة التي استهدفت تفجير أشهر النوادي والمقاهي التي يرتادها الفرنسيون العسكريون والمدنيون على حد سواء(13) . وخارج العاصمة يمكن الإشارة إلى ما اصطلح على تسميته بعملية "العصفور الأزرق(14) التي مكنت الثورة من الاستحواذ، دفعة واحدة على خمسين وثلاثمائة قطعة من أحسن أنواع السلع واستفادة من عدد ماثل من الجنود المناضلين الذين عملت القوات الاستعمارية على تدريبهم عسكرياً في ظرف قصير وملائم للغاية.‏
          وفي نفس الفترة، عرفت كبريات المدن، خاصة في الولايات الأولى والثانية والثالثة، نشاطاً فدائياً كبيراً بقصد تطهير صفوف الشعب من الخونة، ونشر جو الثقة في أوساط المواطنين الذين أرهقهم العنف الاستعماري الذي بلغ قمته في تطبيق ما يسمى بالمسؤولية الجماعية. هذا من جهة، ومن جهة ثانية كان العمل الفدائي يهدف إلى تفكيك شبكات العدو الاستعلامية، وضرب مصالحه الحيوية المتمثلة سواء في المحلات العمومية أو في المؤسسات الاقتصادية التي يستغلها غلاة الكولون. ومن حين لآخر، كان الفدائيون يوجهون رصاصهم وقنابلهم لضباط الأمن الفرنسيين وقادة الأقسام الإدارية المختصة(15) والقواد والآغوات والباشوات(16) الذين لم يستجيبوا لنداءات الثورة وتعليماتها الداعية إياهم إلى الاستقالة والانضمام إلى التنظيم المدني لجبهة التحرير الوطني.‏
          ولئن كان من الصعب، اليوم، تقديم إحصاء دقيق لكل العمليات الفدائية التي تم تنفيذها في الفترة الفاصلة ما بين مؤتمر وادي الصومام والدورة التي عقدها المجلس الوطني للثورة الجزائرية بالقاهرة ابتداءاً من يوم عشرين آب سنة سبع وخمسين وتسعمائة وألف(17) ، فإن الرجوع إلى الجرائد الاستعمارية التي كانت تصدر في ذلك الوقت يمكننا من تقديم نظرة إجمالية عن الموضوع(18) . ولقد حاولنا حصر عدد العمليات بالنسبة لمدينة قسنطينة وحدها، فوجدنا معدلها يزيد عن خمس في كل يوم بالنسبة للفترة المذكورة أعلاه.‏
          وإلى جانب تكثيف العمل الفدائي، قامت مختلف الولايات بإعادة هيكلة نفسها طبقاً لمقررات وادي الصومام وكما سبقت الإشارة إلى ذلك في الفصل الثاني. وبمجرد أن فرغت من تكوين اللجان النظامية وتنصيبها قصد تكليفها بالإشراف على شؤون المواطنين الإدارية والتعليمية ولأجل توعية الجماهير وإنقاذها من براثن العدو الذي بدأ يزرع "الأقسام الإدارية المختصة"(19) في المناطق الريفية و"المصالح الإدارية العمرانية"(20) في المدن.‏
          ولقد كان المؤتمرون الذين قرروا تأسيس المجالس الشعبية يعلمون علم اليقين أن التنظيم الشعبي هو القاعدة الأساسية التي يرتكز عليها العمل الفدائي، ويتوقف عليها نجاح العمليات العسكرية ذلك أن المجالس هي التي تتولى تحسيس الجماهير بأهمية الكفاح المسلح وبضرورة الإسهام فيه مباشرة أو بطريقة غير مباشرة(21) . فالفدائيون والمجاهدون يمكن تجنيدهم بكل سهولة، لكن وجودهم حتى بأعداد كثيرة لا يكون له معنى إلا إذا وجدت القاعدة التي تراقب العدو وتجمع أخباره والتي تحضر المؤن وتعد مراكز الراحة والانطلاق والتي تشرف على جمع الاشتراكات والتبرعات وشراء ما يحتاج إليه الجيش من معدات ومستلزمات مختلفة.‏
          وإن عودة سريعة إلى ذلك الوقت، وبالذات طريقة تأسيس المجالس الشعبية، تكفي للتدليل على أن الثورة كانت تتبع الأسلوب الديمقراطي لتعيين المسؤولين عن تلك المجالس. فالمسؤولون على المستوى الأعلى كانوا يستشيرون أكبر عدد ممكن من أبناء القرية قبل اختيار رئيس المجلس والأعضاء الأربعة الذين يساعدونه. وعندما تكون الظروف الأمنية مواتية، فإن السكان الراشدين هم الذين يدعون للانتخاب بكل حرية. وعلى الرغم من أن وثيقة وادي الصومام لم تتعرض بالتفصيل للمجالس الشعبية، فإن المشروع على مستوى الولاية، قد وضع نوعاً من القانون الداخلي الذي حددت بمقتضاه مهام كل واحد من الأعضاء المكونين للمجلس.‏
          فالرئيس مسؤول عن التنسيق ومكلف بتنفيذ التعليمات والتوجيهات وبتنشيط الهياكل النظامية ومراقبتها، وكذلك السهر على تطبيق القرارات التي يتخذها المجلس نفسه، وبالإضافة إلى ذلك، فإنه يرأس الاجتماعات ويراقب أعمال الشرطة. أما مسؤول المال فيستقبل كل المدخولات التي يضع بشأنها تقريراً شهرياً. ويتولى تسديد نفقات الهياكل النظامية وصرف المنح لعائلات الشهداء والمجاهدين. وبينما يقوم مسؤول الدعاية والأخبار بتنظيم مراكز البريد وجمع المعلومات وتبليغها في شكل تقارير منتظمة إلى القيادة، فإن مسؤول الأمن يشرف مباشرة على رجال الشرطة ويحدد الأماكن الملائمة لتمركز الجيش، كما أنه يضبط المسالك والطرقات التي يتبعها الأفراد والجماعات والقوافل. وأما مسؤول التموين فتنحصر مهمته في الجمع والتخزين والتوزيع، ولديه يجد المسؤولون الجرد الشامل لممتلكات الثورة من الحبوب والمواد الغذائية والثروة الحيوانية.‏
          وتعتمد المجالس الشعبية في تأدية مهامها على مسؤولي المشاتي(22) والمداشر(23) الذين تسند إليهم صلاحيات واسعة في ميادين التنظيم والمراقبة وإعداد المأوى والمأكل وتسجيل الحالة المدنية وغيرها من الأعمال الضرورية لضمان التسيير الحسن وإبقاء الجماهير الشعبية في حالة اليقظة الدائمة والاستعداد المستمر.‏
          ومع مر الأيام فإن الإشراف على شؤون المواطنين والعمل على تنظيم حياتهم في جميع مجالاتها قد أدى بقيادات الثورة إلى اصطدام بالواقع المعيشي الذي تراكمت مساوئه بفعل الوجود الاستعماري الذي كان يهدف بالدرجة الأولى إلى زرع الشقاق في أوساط الجماهير وإغراقها في بحور المشاكل الزائفة التي تنغص حياة المواطن وتمنعه من الاهتمام بالقضايا الحقيقية والتي هي قضايا التحرير والتحرر والرقي والتقدم. ومع اندلاع الثورة، وحدت الجماهير الشعبية نفسها في مواجهة وضع جديد يعنيها مباشرة ويمس جميع الميادين الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية. وإذا كان هذا الوضع الجديد قد أحدث تغييراً جذرياً يعمل جاهداً، على إبقائها لأنها تضمن ديمومة تبعية أغلبية الشعب الجزائري وقبولها السيطرة الاستعمارية باعتبارها الحتمية التي لا مرد لها سوى القدرة الإلهية ، فإن العلاقات الإنسانية الجديدة التي أوجدها والمسؤوليات المختلفة التي صاحبته منذ ظهوره ثم راحت تكبر وتتسع وترسخه وتطوره، كل ذلك قد دفع قيادة الثورة إلى أن تدرج مسألة تنظيم القضاء ضمن الأولويات التي تحظى بالعناية الكبرى.‏
          ولأجل ذلك، فإن الثورة التي كانت تهدف، قبل كل شيء، إلى تحرير الإنسان(24) قد عملت، منذ الساعات الأولى، على إنشاء لجان للصلح أو كانت لها مهمة البث في القضايا العالقة بين الناس، وحل المشاكل التي من شأنها أن تعرقل عملية بناء المجتمع الجديد المزمع بناؤه بعد تقويض أركان الاستعمار.‏
          وعلى إثر أشغال مؤتمر وادي الصومام، استبدلت لجان الصلح بلجان العدل التي أصبح من صلاحياتها النظر في كل المنازعات الشخصية والمدنية والجزئية المنشورة بين الأطراف الجزائرية أمام العدالة الاستعمارية التي لم تخف اندهاشها الكبير أمام الإحجام المفاجئ للمتخاصمين(25) .‏
          وعلى الرغم من أن وثيقة وادي الصومام قد أهملت التركيز على البعد الإسلامي لثورة نوفمبر، فإن قيادات الولايات قد حرصت كل الحرص على أن تكون الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي لكل الأحكام التي تصدر باسم الشعب الجزائري.(26)
          وعندما كانت لجنة العدل تسند إلى مناضل أمي، فإنه يلجأ إلى المتفقهين في الدين يستشيرهم قبل الفصل في القضايا المنشورة أمامه.‏
          أما عن الاختصاص المحلي، فإن لكل واحدة من هيئات الثورة لجنتها للعدل التي تنظر في قضايا المواطنين التابعين لها. وتتشكل كل لجنة من رئيس وأربعة أعضاء يشترك جميعهم في دراسة الموضوع المعروض عليهم وفي المداولة حوله، وعندما يتعذر الإجماع يلجأ إلى بعض الشخصيات التي لها إلمام بالقضية فيطلب رأيها على سبيل الاستشارة والتوضيحات الإضافية.‏
          وإذا كان الأمر يتعلق بجريمة أو بقضية أحد أطرافها من مناضلي جبهة التحرير الوطني أو أعضاء جيش التحرير الوطني، فإن لجنة العدل تتخلى عن الموضوع(27) وتحوله إلى هيئات قضائية أخرى تسمى المحكمة الثورية. وفي جميع الحالات، فإن تنفيذ الأحكام يخضع لإجراءات مضبوطة ضمن القانون الداخلي لجيش التحرير الوطني.‏
          وبالموازاة مع العمل على تنظيم القواعد الشعبية ووضع أسس النظام القضائي، كانت قيادات الثورة في مستوى الولايات تولي أهمية خاصة بإقامة المنشآت الصحية عبر مختلف أنحاء الوطن وتبذل جهوداً جبارة لتقديم أدنى ما يمكن من التعليم لأبناء الريف الجزائري ولتنظيم حملات محو الأمية بالنسبة للكبار.‏
          أما في مجال الصحة، فإنها لم تكتف بإعداد مراكز الاستشفاء المستشفيات) والتخطيط لمواقعها حتى تكون قادرة على تلبية حاجات جيش التحرير الوطني والمواطنين المقيمين بالمناطق المحررة على وجه الخصوص(28) بل إنها زودت المراكز المذكورة بقانون داخلي موحد يحدد شروط القبول فيها ويضبط المقاييس التي يجب أن تتوفر في هيأة المشرفين عليها من أطباء وممرضين وكيفية جلب الأدوية اللازمة وما ينبغي القيام به لضمان أمنها في جميع الحالات.‏
          ولقد أدت مراكز الاستشفاء دوراً كبيراً، وليس في معالجة المرضى والجرحى فحسب ولكن كذلك في تكوين الممرضات والممرضين الذين كانوا يختارون من بين الشباب المتعلم قليلاً(29) ، وعلى الرغم من قلة الأدوية والعتاد الطبي، نظراً للمراقبة الشديدة التي تفرضها سلطات الاستعمار على الصيدليات والمستشفيات التي تشغل جزائريين، فإن المراكز الصحية التابعة لجيش التحرير الوطني كانت تستقبل، للمداواة العاجلة والضرورية، أعداداً كبيرة من المواطنين العاديين.‏
          وأما في ميدان التعليم، فإن جيش التحرير الوطني قد نظم بنجاح حملات واسعة النطاق لمحو الأمية في صفوفه(30) قبل أن يشرع في تأسيس المدارس اللازمة لتعليم أبناء الريف، وتمكينهم من الدخول إلى عالم القراءة والكتابة. وكلما كانت الفرصة مواتية كان الأطفال، في سن المراهقة خاصة، يهجرون إلى الحدود الشرقية والغربية حيث الدراسة منتظمة تحت إشراف جبهة التحرير الوطني(31) .‏
          وإلى جانب كل هذه الأعمال الموجهة إلى تغيير صورة المجتمع الجزائري تغييراً جذرياً، وإلى إرساء قواعد الكفاح المسلح وتزويده بالأرضية الصلبة التي تضمن له النجاح، فإن النشاط العسكري والسياسي قد تضاعف بكيفية لم يعد الاستعمار قادراً على إخفاء نتائجها سواء في داخل الوطن أو في خارجه.‏
          فبالنسبة إلى الخارج، استطاعت جبهة التحرير الوطني أن تفرض القضية الجزائرية على الساحة الدولية، خاصة بعد أن احتضنها مؤتمر باندونغ(32) وتعهد السيد شوان لاي بوقوف الصين إلى جانبها حتى يتحقق لها النصر.‏
          وفيما يتعلق بالداخل، فإن جيش التحرير الوطني قد ارتفعت أعداده من حوالي 400 مناضل مسلح ليلة الفاتح من نوفمبر إلى حوالي 23000 مجاهد ما بين مسبل وجندي غداة مؤتمر وادي الصومام.‏

          كما أن الأسلحة التي كان أغلبها من بنادق الصيد وبقايا الحرب الإمبريالية الثانية، قد أصبحت تتضمن أكثر من ثلاثة آلاف قطعة حربية وأكثر من عشرة آلاف بندقية صيد. وصارت ميزانية الثورة قريبة من مليار فرنك قديم بينما كانت عشية نوفمبر لا تكاد تذكر.‏
          وعلى الرغم من أن الثورة قد تلقت ضربتين قاسيتين في شهر أكتوبر سنة ست وخمسين وتسعمائة وألف، تتمثل الأولى في تمكن الجيش الاستعماري من الاستيلاء على الباخرة "أتوس س(33) المقلة لحوالي مائة طن من الأسلحة والذخيرة الحربية كانت في طريقها إلى منطقة الناظور الغربية، وتتعلق الثانية بإجبار طائرة الخطوط الملكية المغربية على النزول بمطار الجزائر وعلى متنها أربعة من أعضاء القيادة التساعية التي تحملت مسؤولية تفجير الثورة، فإن العدو قد تزعزع من أعماقه نتيجة التغيير الكمي والنوعي الذي أدخل على طرائق القتال في مدينة الجزائر وضواحيها وفي سائر كبريات مدن البلاد وقراها.‏
          وقد عبرت القيادة المدنية الفرنسية عن عجزها في مواجهة نشاط جبهة التحرير الوطني في المجالين السياسي والعسكري عندما أقدم السيد روبير لاكوست في اليوم السابع من شهر ك2 سنة سبع وخمسين وتسعمائة وألف على استدعاء الجنرال صالان وماسي وأسند لهما مهمة "إعادة الأمن والاستقرار إلى العاصمة"(34) .‏
          وواجهت قيادة جبهة التحرير الوطني في العاصمة دخول المظليين بقوة إلى المعركة بتنظيم عدد كبير من العمليات الفدائية وبإضراب شامل انطلق في نهاية الأسبوع الرابع من نفس الشهر(35) .‏
          إن مختلف المصادر التي بين أيدينا اليوم تركز على العمل الفدائي الذي عرفته العاصمة ولا تعير إلا اهتماماً متواضعاً للعمليات التي أنجزها الفدائي في باقي مدن الجزائر وقراها وذلك على الرغم من أن تلك العمليات كانت في كثير من الأحيان تكاد تكون خيالية. فالإعلام العالمي، عندما لا يكون منحازاً، فإنه يستقي معلوماته من وسائل الإعلام الفرنسي وهذه الأخيرة موجهة للتقليل من أهمية التزايد الذي عرفه الكفاح المسلح مباشرة بعد مؤتمر الصومام ولتعميم الواقع الذي من شأنه أن يظهر للرأي العام العالمي أن قيادات الثورة تبذل جهوداً مكثفة لتطبيق مقررات المؤتمر المذكور. أما الأجهزة الإعلامية التي كانت في حوزة الثورة، فإنها، رغم كل المحاولات، لم ترق إلى المستوى الذي يجعلها قادرة على الاستجابة للحاجة، وحتى الإعلام العربي الذي كان متعاطفاً مع الثورة بالضرورة، فإنه لم يكن من حيث الإمكانيات المادية والتقنية، قادراً على تأدية الدور الذي يسمح بتقديم العمل الثوري في صورته الحقيقية التي يعمل العدو على إخفائها بكل ما أوتي من قوة(36) .‏
          وسيظل إضراب الأسبوع، كما اصطلح على تسميته، مادة غزيرة للمؤرخين السياسيين وللمسؤولين الجزائريين الذين عايشوا الحدث أو شاركوا في الإعداد له من قريب أو من بعيد.‏
          أما الشهيد العربي بن المهيدي وأنصاره فموقفهم لا غبار عليه. فالإضراب، بالنسبة إليهم، امتحان عسير مطلوب منه تحقيق نتيجتين إيجابيتين مقابل تضحيات جسام لا يمكن تقييمها مسبقاً. فالنتيجة الأولى تتكتل في توسيع الهوة بين جماهير الشعب الجزائري، وقوى الاحتلال الفرنسي وفي هز النفوس المترددة والمتشككة وجعلها تقتنع بأن التضامن الوطني هو الضمان الوحيد لتوفير الشروط اللازمة للقضاء على النظام الاستعماري واسترجاع السيادة الوطنية، وتكمن النتيجة الثانية في تنبيه الرأي العام العالمي إلى أن شعار الجزائر الفرنسية خرافة لم يعد لها وجود بفعل إجماع الجزائريين على طاعة أوامر جبهة التحرير الوطني.‏
          ويرى كبار العسكريين الفرنسيين أن تنظيم الإضراب وتمديده لمدة أسبوع كان خطأ ارتكبته لجنة التنسيق التنفيذية، إذ أن إغلاق المحلات التجارية وبقاء السكان في منازلهم سهل على المصالح الاستعمارية المختصة مهمتها فيما يتعلق بمراقبة تحركات المشبوهين، أعطاها فرصة التدخل السريع للمطاردة ولتطويق الأماكن التي تمركزت فيها القيادات السياسية واللجان الشعبية ومجموعات الفدائيين.‏
          ويلح بعض المسؤولين ممن لم يكونوا محبذين للإضراب على أن نظرتهم كانت الصائبة، لأن الكلفة، في حسابهم، كانت أكثر بكثير من الأهداف التي تحققت ومهما اختلفت وجهات النظر وتعددت الأحكام، فإننا نرى *فيما يخصنا، وانطلاقاً من تحليلنا لكل المعطيات والنتائج، أن إضراب الأسبوع كان شبيهاً في أكثر من قطعة بانتفاضة الشمال القسنطيني التي وقعت في اليوم العشرين من شهر آب سنة خمس وخمسين وتسعمائة وألف، ومن ثم وعلى غرار العشرين أوت فهو عملية ناجحة رغم كل ما ترتب عنها من نتائج سلبية ورغم كل ما كلفته من أثمان باهظة في جميع الميادين.‏
          لكن الاعتراف بالنجاح لا يمنع أبداً من القول: "إن الإضراب هو الذي أدى إلى استشهاد العربي بن المهيدي وإلى خروج لجنة التنسيق والتنفيذ من التراب الوطني وبذلك وضعت نفسها أمام امتحان عسير يتعلق بممارسة مبدأ أولوية الداخل على الخارج خاصة.‏
          لقد كانت قيادة مؤتمر وادي الصومام، عندما أبرزت المبدأ المذكور، تهدف إلى استعماله قصد إبعاد مندوبية الخارج عن السلطة وجعلها مجرد مصلحة من جملة مصالح أخرى كثيرة وذلك على الرغم من أن المبدأ في حد ذاته مصيب لأن القيادة الحقيقية للثورة إنما هي تلك التي تكون على اتصال دائم بالقوات المقاتلة، ومن الصعب جداً أن تخضع إلى خارج الولايات، تقود كفاحاً يحتاج إلى أوامر يومية تتوقف نجاعتها على مدى معرفة الميدان معطياته. لكن عبان رمضان الذي لم يكن يخفي عليه ذلك أراد توظيف المنطق والفعالية لتحقيق شيء في نفسه يمكن أن نسميه اليوم حب المسؤولية أو حسابات الماضي.‏
          فالشهيد العربي بن المهيدي، من بين أعضاء لجنة التنسيق والتنفيذ، هو الوحيد الذي ظل وفياً للمبادئ التي صادق عليها المؤتمر عندما رفض الخروج وصرح في آخر اجتماع عقدته اللجنة بتاريخ 15/2/1957 أنه "يفضل الموت في ساحة المعركة(37) حتى يكون وقوداً جيداً وكافياً لثورة لن تتوقف حتى تسترجع الجزائر سيادتها.‏
          أما في الخارج، ومن غياهب السجن، فإن السيدين، بن بلة وبوضياف قد عبرا عن تضامنهما مع ابن المهيدي الذي أُلقي عليه القبض يوم 23 فيفري وأعدم في ظروف أحاط بها كثير من الغموض(38) .‏
          ويعتبر خروج لجنة التنسيق والتنفيذ تجسيداً للهزيمة التي منيت بها جبهة التحرير الوطني في مدينة العاصمة وذلك على الرغم من كل العمليات العسكرية التي نفذت خلال الأشهر الستة جاءت بعد انعقاد مؤتمر وادي الصومام.‏
          وبمجرد الالتحاق بالعاصمة التونسية اجتمعت لجنة التنسيق والتنفيذ لتقييم المرحلة المقطوعة، لكن السيد بلقاسم كريم الذي كان من المقررين الأساسيين في وادي الصومام أبدى رغبة ملحة في التخلي عن المبادئ الرئيسية، وراح يلوح بضرورة إسناد القيادة للمسؤولين التاريخيين علماً بأنه الوحيد، من بينهم الذي ظل طليقاً وعلى قيد الحياة(39) ، كما أنه رفع شعار التصالح مع رفاق الدرب المعتقلين لسد الطريق أمام المركزيين المعتدلين ولتمكين العسكريين من شغل مناصب الحل والربط في أجهزة الثورة.‏
          وإذا كان السيدان دحلب وابن خدة لم يظهرا معارضتهما للأفكار الجديدة التي جاء بها السيد كريم بلقاسم، فإن عبان رمضان قد بذل كل ما في وسعه للتصدي لها، لكن الظروف تغيرت، فلم يعد هو الآمر الناهي، ولم يعد كريم هو ذلك المنبهر أمام شخصيته الفذة، وتبين أن حساباته التي جعلته يختار ابن خدة ودحلب لعضوية اللجنة كانت خاطئة. كل ذلك سوف يكون له بالغ الأثر على مسيرة الثورة وسوف يكون عبان أول من يدفع ثمن سوء التقدير.‏
          (1) كناب ضخم مكون من 736ص من الشكل الكبير، صدر عن دار المستقبل العربي، القاهرة. سنة 1984 أَلفَّهُ السيد فتحي الديب الذي كان مكلفاً من قبل الرئيس عبد الناصر بمتابعة تطورات الثورة الجزائرية يشتمل الكتاب على كثير من المعلومات الثمينة لكنه يتضمن كذلك كثيراً من الأخبار المدسوسة والمعلومات المزيفة لسبب أو لآخر.‏
          (2) عبد الناصر وثورة الجزائر، ص: 248.‏
          (3) نفس المصدر، ص249.‏
          (4) نفس المصدر، ص245.‏
          (5) نفس المصدر، ص247.‏
          (6) حدثني الدكتور دباغين نفسه عن الموضوع وتوقف طويلاً عند الكلام عن الرسائل التي كانت تأتي من القاهرة من نهاية عام 1953 والتي تسببت في إلقاء القبض عليه، لأن السلطات الفرنسية التي كانت تراقب المراسلات عرفت رغم استعمال الرموز أن الشخص المطلوب لقيادة المندوبية هو دباغين. ودعماً لهذا القول يذكر السيد فرحات عباس في "تشريح حزب" ص:180 أنه عندما وصل إلى القاهرة وذلك قبل انعقاد المؤتمر، كان الدكتور دباغين على رأس المندوبية وكان تنظيمه محكماً".‏
          (7) عبد الناصر ثورة الجزائر، ص673.‏
          (8) نفس المصدر. ص: 674.‏
          (9) فالولاية هي التسمية الجديدة التي خصصها المؤتمر للمنطقة السابقة. وبذلك أصبحت الجزائر مقسمة إلى ست ولايات مقسمة إلى عدد من المناطق وكل منطقة إلى مجموعة من النواحي وكل ناحية ألى أقسام.‏
          (10) أين طوبال الخضر) "من أهداف مؤتمر وادي الصومام" محاضرة ألقاها في إطار النشاط الثقافي الذي نظمه اتحاد الكتاب الجزائريين بقاعة الكابري في العاصمة يوم 20/8/1982.‏
          (11) المنظمة الوطنية للمجاهدين، من شهداء ثورة التحرير، مطبعة جريدة الوحدة بدون تاريخ ص،50.‏
          (12) لقد كان يوسف زيغود من قدماء المنظمة الخاصة والمناضلين البارزين في حركة الانتصار للحريات الديمقراطية تولى قيادة المنظمة الثانية على إثر استشهاد مراد ديدوش يوم 18 ك2 سنة 1955. يعتبر واحداً من المنظرين العسكريين الأساسيين في ثورة نوفمبر التي أعطاها دفعاً كبيراً بفضل الهجوم الشامل الذي نظمه ابتداء من يوم 20 أغسطس سنة 1955 على مراكز العدو بكامل تراباً لشمال القسنطيني. بدأ الدعوة إلى عقد مؤتمر وطني للثورة الجزائرية منذ أول عهده بقيادة المنظمة الثانية واقترح أن تجري أشغاله في ناحيتها الغربية، ويذكر المقربون إليه أنه كان متشدداً في عملية اختيار القيادة العليا للثورة إذ رفض أن تفتح أبوابها للمتنشبعين بغير إيديولوجية الحركة الوطنية المتمثلة في النجم ومن بعده حزب الشعب ثم حركة الانتصار والمنظمة الخاصة.‏
          في أثناء مؤتمر وادي الصومام عين الشهيد يوسف زيغود عضواً بلجنة التنسيق والتنفيذ ثم كلف بالمهمة التي كان من المفروض أن تقودها إلى الولاية الأولى. وعلى أثر استشهاده تمَّ تعويضه للسيد سعد دحلب.‏
          وإذا كان بعض المؤرخين يهملون عن قصد أو غير قصد، تعيين العقيد يوسف زيغوت كعضو أساسي في لجنة التنسيق والتنفيذ، فإن الدارسين الجديين الذين أعطيت إمكانية الإطلاع على وثائق الثورة الجزائرية لا يترددون في إدراج اسمه ضمن التشكيلية الأولى. وعلى سبيل المثال يمكن الرجوع إلى كتاب السيد فيليب تريبيي Philippe Tripier "تشريح لحرب الجزائر" ص: 121.‏
          علماً بأن الكتاب صدر في باريس سنة 1972 ويشتمل على 680ص من القطع الكبير.‏
          (13) نشرت جريدة "لومند" الفرنسية في عددها الصادر بتاريخ 28/29 نوفمبر سنة 1971 مقالاً كتبته الآنسة جارمان تبون التي كانت عضواً بديوان جاك سوستيل سنتي 1955- 1956 تعلق فيه على كتاب الجنرال ماسي: "معركة الجزائر الحقيقية" ومن جملة ما ورد في المقال أن السلطات الاستعمارية هي التي بدأت بتفجير الأهداف المدنية أقدمت يوم 10/8/1956 على تلغيم المبنى الكائن برقم 3 نهج طيبة انتقاماً من الشهيد عاشور الذي كان واحداً من قادة العمل الفدائي في العاصمة".‏
          (14) بدأت هذه العملية في شكل مؤامرة خطط لها السيد جاك سوستيل قصد اختراق صفوف جيش التحرير الوطني وتفجير الثورة من الداخل. تتمثل العملية في قيام المصالح الاستعمارية في العاصمة بالاتصال بأشخاص جزائريين يسكنون مدينة العزازقة الكائنة بولاية تيزيوزو حالياً، فعرضت عليهم تكوين أفواج من المسلحين الذين تسند إليهم مهمة تخريبية واسعة النطاق. لكن الأشخاص المعنيين اتصلوا بقيادة جبهة التحرير الوطني التي أمرتهم بقبول العرض. وشرع على الفور في تكوين الأفواج من المناضلين المخلصين. وبسرعة فائقة بلغ عددهم 350 دربهم الجيش الفرنسي وزودهم بأحدث أنواع الأسلحة. بعد ذلك جاءت الأوامر، فالتحقوا جميعاً بصفوف جيش التحرير الوطني.‏
          (15) هذه المصالح من اختراع السيد جاك سوستيل الذي اعتبرها عنصراً أساسياً في مشروع الإصلاحات التي جاء بها معتقداً أنها كافية لخنق الثورة في المهد. ومن مهام المصالح الإدارية المختصة تسيير شؤون المواطنين والعمل على تقديم المعونة للمعوزين وتنظيم الحركة التعليمية في الأرياف خاصة، لكن المهمة الرئيسية لتلك المصالح تبقى هي الاستعلامات وتوظيفها لدعم العمليات العسكرية التي يقوم بها الجيش الاستعماري. ولقد أسند تسيير المصالح الإدارية المختصة إلى ضباط من الجيش متعلمين يشاركون إجبارياً في مهمات خاصة.‏
          (16) لأن عدداً كبيراً منهم قد أدركه الوعي بسرعة وأبدى استعداداً للنشاط في صفوف جبهة التحرير الوطني.‏
          (17) انظر الملحق رقم 10.‏
          (18) انظر جريدتي لا دباش قسنطينة la depêches de contantine ler trimestre 1957) وصدى الجزائر نفس الفترة.‏
          (19) كان جاك سوستيل الذي عين والياً عاماً للجزائر من طرف الرئيس مانديس فرانس بتاريخ 25/1/1955، يعتقد أن الإصلاح في المجالات الإدارية والاقتصادية والاجتماعية وحده كاف لجعل الجزائريين ينفضون من حول جبهة التحرير الوطني، ولذلك وضع مخططاً شاملاً يسمى باسمه ضمنه فتح أبواب التوظيف للأهالي وإفادة الفلاحين الجزائريين من القروض على غرار الفلاحين الأوربيين ومحاولة التفاوض مع جهات مختلفة تمثل تشكيلات سياسية متعددة كان يظن أنها تستطيع وقف إطلاق النار، ولكن الأهم من كل ذلك هو إنشاء ما يسمى بالمصالح الإدارية المختصة التي أراد أن يجعل منها همزة وصل السلطتين المدنية والعسكرية، أسند لها مهمة الإشراف على شؤون الجزائريين خاصة في القرى والأرياف، ومسؤولية استعمال كل الوسائل من أجل ربح ثقة المواطنين والأهالي وجعلهم يقبلون التعاون مع الجيش الاستعماري ضد جبهة التحرير الوطني.‏
          قاد كل واحد من هذه المصالح ضابط برتبة ملازم أم نقيب يختار من بين المثقفين الضالعين في علم النفس. وعندما يكون غير عارف باللغة العربية واللهجات المحلية بعين له مترجم. ولقد قامت هذه المصالح بتأدية دور خطير، وفي كثير من الأحيان شكلت تهديداً جدياً على حسن سير الثورة. ومن الجدير بالذكر أن آثار النشاط التخريبي الذي أنجزته تلك المصالح ما تزال قائمة إلى أيامنا هذه وتتجلى خاصة في مظاهر الاستلاب ومناهضة الثورة.‏
          (20) تقوم هذه المصالح في المدن بنفس الدور المناط بالمصالح الإدارية المختصة، ولكن أعمالها ظلت محدودة نظراً لنوعية السكان الذين تتعامل معهم.‏
          (21) نعني بالطريقة غير مباشرة، هنا، ما يعبر عنه بأضعف الإيمان وهو التعاطف مع الثورة مع فقدان الشجاعة الضرورية لدخول الميدان.‏
          (22) المشتى هي مجموعة من الديار المبنية بناءاً خفيفاً حتى تكون قابلة للتعدين بسهولة. ويبدو أن الاسم مأخوذ من الشتاء لأن هذا الفصل يلزم الناس بالبقاء في مكان واحد على خلاف الفصول الأخرى التي يتميز كل منها بنشاط خاص يتطلب كثيراً من الحركة والتنقل. ومن الجدير بالذكر أن التسمية أصبحت متداولة وهي مستعملة في اللغة الفرنسية. ومما زادها شهرة ارتباطها بإنسان كرومانيون الذي اكتشفت آثاره سنة 1912 بمشتى العربي الكائنة على مقربة من مدينة قسنطينة. ومن الجدير بالذكر أن نظام المشاتي هذا خاص بشمال إفريقيا.‏
          (23) جمع دشرة وهي مجموعة من المنازل المبنية بالطوب أو بالحجر على خلاف منازل المشتى التي هي في أغلبها من الديس وأغصان الشجر التي تُغطى بالطين وأحياناً ببراز البقر. وتبنى المداشر عادة حول المزارع الكبرى ومنابع المياه.‏
          (24) لقد أشرنا في مناسبات عديدة وفي كتابنا "الغزو الثقافي في الجزائر من 1962 إلى 1982" إلى أن تحرير الإنسان مرتبط أشد الارتباط بتحرير الأرض، وإن تحرير الإثنين يشكل حجر الزاوية بالنسبة لأيديولوجية الثورة الجزائرية.‏
          (25) انظر سجلات كتابات الضبط لدى مختلف محاكم الصلح للتأكد من أن الجزائريين استجابوا استجابة مطلقة لأوامر جبهة التحرير الوطني المتعلقة بمقاطعة القضاء الفرنسي ونشر قضاياهم أمام لجان العدل.‏
          (26) من الجدير بالذكر أن أحكام لجان العدل لا تقبل الإستئناف. ومع ذلك فإن تقصيات قمنا بها عبر عدد من نواحي البلاد قد أثبتت لنا أن المتخاصمين على كثرتهم لم يطعنوا في تلك الأحكام، بل أن الذين اتصلنا بهم لم يخفوا رضاهم سواء كان الحكم لهم أو عليهم.‏
          (27) يستخلص من ذلك النظام الداخلي أن الأحكام تنفذ من طرف الهيأة العليا مباشرة باستثناء الحكم بالإعدام الذي لا بد من الرجوع فيه إلى محكمة الولاية.‏
          (28) في الحقيقة أن مراكز الاستشفاء كانت مفتوحة لجميع المواطنين الذين كانوا يجدون فيها حسن الاستقبال والمعاملة، وكانت تقدم لهم علاجاً أَفضل من ذلك الذي يخصص لأمثالهم في مستشفيات العدو، ويبدو أن هذا الأخير كان يقدر ذلك، وعليه فإنه أمر المصالح الإدارية المختصة التي سبقت الإشارة إليها بالتركيز على جانب المداواة لربح ثقة الجماهير الشعبية في الأرياف.‏
          (29) أن عدداً كبيراً من الممرضين خاصة قد اجتازوا الحدود الشرقية والغربية، وبعد أن علموا في المستشفيات التونسية والمغربية أرسلوا إلى بلدان المعسكر الاشتراكي حيث تعلموا لغاتها والتحقوا بمعاهد الطب هناك وتمكنوا بفضل إرادتهم القوية من التخصص في مختلف فنون الطب.‏
          (30) يجب الأخذ في الاعتبار كون أعضاء جيش التحرير كانوا من أبناء الريف حيث كانت الأمية تزيد عن 95 ولقد استطاعت حملات محو الأمية المتتالية أن تحقق الأهداف المحددة لها، إذ نقصت هذه النسبة إلى أقل من 10% عند وقف إطلاق النار. 1962.‏
          (31) تجدر الإشارة إلى أن أغلبية تلاميذ تلك المدارس قد أرسلوا إلى مختلف أقطار الوطن العربي، وبلدان المعسكر الاشتراكي فأتموا دراستهم، وبعد وقف إطلاق النار عادوا............‏
          (32) المجاهد، العدد الخاص، ص69.‏
          (33) كانت الباخرة لصاحبها البريطاني سان بريلفز وقد اشتراها السيد أحمد بن بله باسم إبراهيم النيال السوداني الجنسية يوم 21/7/1956، وأبحرت من الإسكندرية ليلة الرابع من شهر أكتوبر محملة بأنواع كثيرة من الأسلحة والذخيرة إلا أنها احتجزت من طرف البحرية الاستعمارية يوم 16 من نفس الشهر. لكن السيد عباس في كتابه "تشريح الثورة ص:184، يرى أن مسؤول فرع شمال إفريقيا بالمخابرات المصرية: السيد فتحي الديب هو الذي سلم الباخرة إلى الفرنسيين عن طريق سفارة فرنسا بالقاهرة.‏
          (34) هؤلاء القادة هم: أحمد بن بله، محمد خيضر، محمد بوضياف وحسين آيت أحمد، أما عملية القرصنة فقد تمت بموافقة السيد ماكس لوجين Max Lejeunne نائب كاتب الدولة للدفاع الوطني الفرنسي.‏
          (35) عندما أمر بالإضراب العام، قال الشهيد ابن المهيدي: "أن نجاحه سيبين بما لا يدع أي مجال للشك أن الشعب الجزائري يساند جبهة التحرير الوطني ممثله الشرعي والوحيد، وسيعطي حجة للمندوبين الجزائريين في الأمم المتحدة لإقناع الديبلوماسيات المترددة، من لقاء أجريته مع رئيس ابن يوسف بن خدة في بيته يوم 16/6/1986، وكان ذلك بحضور السيد محمد الصالح بوسلامة.‏
          (36) ولسد هذا في تاريخ ثورة فإن منظمة المجاهدين تقيم دورياً سنوات ندوات جبهوية وأخرى وطنية، تحاول، من خلالها، إقامة جرد واف بقدر الإمكان لمختلف العمليات العسكرية والفدائية دون إهمال جانب التنظيم السياسي والاجتماعي والثقافي والقضائي للثورة. غير أن هذا الجهد، رغم ضخامته ورغم قيمته العلمية، سيظل ضائعاً ما لم تتحد الأقلام المختصة الى تحويله إلى تاريخ ما أحوج الأجيال الصاعدة إليه.‏
          (37) من شهداء التحرير، ص71 وكذلك المجاهد، العدد 9 الصادر بتاريخ 20/8/1957.‏
          (38) لكن الأكيد هو أنه عذب تعذيباً لم يعرفه أحد ثم أعدم شنقاً. ولقد أورد الكتّاب والمؤرخون روايات متعددة حول الموضوع.‏
          (39) حربي محمد جبهة التحرير الوطني، ص 215.‏

          إذا الشعب يوما أراد الحياة
          فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
          و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
          و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

          تعليق


          • #6
            رد: تاريخ الجزائر المعاصر (1954-1962).الجزء الثاني

            الدورة الأولى للمجلس الوطني للثورة الجزائرية:
            رغم كل الخلافات التي بدأت تلوح في الآفاق، فإن أعضاء لجنة التنسيق والتنفيذ قد أنهوا اجتماعهم المشار إليه أعلاه بالتصديق على ورقة عمل تضمنت تقييماً مفصلاً وموضوعياً للمراحل التي قطعتها الثورة، ومجموعة من الاقتراحات العلمية التي من شأنها أن تكون أساساً لبرنامج العمل المستقبلي الذي سوف يصدر عن الهيئة العليا للثورة في دورتها االرسمية الأولى التي تقرر، بعد استشارات واسعة، عقدها بمدينة القاهرة في الفترة من 20 إلى 27 أوت سنة سبع وخمسين وتسعمئة وألف(1) .‏
            ولقد كانت الدورة، بالفعل منعرجاً خطيراً في تاريخ ثورة نوفمبر، وكان من الممكن أن يتحول اللقاء إلى مأساة دموية، لكن الروح الوطنية تغلبت في النهاية، وتوصل المشاركون إلى مجموعة من الحلول الوسطى التي ساعدت على تجاوز الحساسيات الشخصية وأوجدت السبيل لتواصل الكفاح المسلح مع الحفاظ على مظهر القيادة ووحدة التوجه رغم كل ما وقع من مشادات ونزاعات واختلافات تجاوزت حد اللياقة في كثير من الأحيان.‏
            وإذا كان المجلس الوطني قد اختار بعد نقاش عدم تأييد السيد كريم بالنسبة لطرحه المتعلق بضرورة إسناد مسؤولية الثورة لأقدم العناصر القيادية، وفضل مواصلة السير طبقاً لأسلوب العمل الذي دشنه السيد عبان أثناء مؤتمر وادي الصومام عندما فتح أبواب المسؤولية إطارات متشبعة بإيديولوجية غير التي وضعها نجم شمال إفريقيا، فإنه قد أبدى كثيراً من المرونة عندما تعلق الأمر بمراجعة مبدأي أولوية الداخل على الخارج والسياسي على العسكري.‏
            هكذا، قرر المجلس الوطني وتوسيع نفسه بحيث انتقل عدد أعضائه من أربعة وثلاثين إلى أربعة وخمسين، وقرر كذلك رفع عدد أعضاء لجنة التنسيق والتنفيذ إلى أربعة عشر. وفي الحالتين لم يبق التعيين مقصوراً على العناصر الملتزمة في صفوف حزب الشعب الجزائري وما تفرع عنه بعد الحرب الإمبريالية الثانية. وعلى سبيل المثال، تجدر الإشارة إلى لجنة التنسيق تضمنت السيدين فرحات عباس ومحمود شريف(2) وهما من الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري.‏
            إن الانفتاح على العناصر القيادية الوافدة من الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري ومن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين كان إجراء طبيعياً ومنطقياً في ذات الوقت رغم أنه كان مرفوضاً بدرجات متفاوتة من معظم إطارات حركة الانتصار للحريات الديمقراطية.‏
            أما الصفة الطبيعية للإجراء فمتأتية من كون جبهة التحرير الوطني حركة سياسية مسلحة تهدف أساساً إلى تقويض أركان الاستعمار الفرنسي في الجزائر، ولذلك فهي في حاجة إلى جميع الطاقات الحية بدون استثناء، وليس من المعقول أبداً أن توصد أبواب النضال بجميع أنواعه في وجه المتطوعين له. ولو لم تفعل لتركت *مفتوحة لأبواب المناورات الدنيئة للسلطات الاستعمارية التي كانت تستطيع توظيف الأبواب المغلقة لإنشاء حركات تتناحر فيما بينها وتسهل مهمة العدو الرامية إلى خنق أنفاس الثورة.‏
            وأما منطقية الإجراء فمتأتية من كون الإيديولوجية كلها كانت ترمي إلى تغيير وضع المجتمع الجزائري في اتجاه الأفضل. فالاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري كان يهدف إلى تحقيق المساواة في المواطنة بين الفرنسيين والجزائريين معتقداً أن النضال السياسي وحده يكفي للوصول إلى تلك الغاية، ومع مر السنين ثبت لقيادات الحزب والمناضلين الواعين أن الكولون لن يسمحوا للإنسان الجزائري بالانعتاق من عبودية الاستعمار وما يترتب عليها من أنواع الاستغلال والعسف والاضطهاد، لأجل ذلك فإنهم غيروا قناعتهم وصاروا يؤمنون بتمايز الشعب الجزائري وبضرورة إقامة دولته المتعاونة مع فرنسا لاالتابعة لها أو المنفصلة عنها. وبالمؤازرة مع تغيير القناعات ظهرت محاولات متعددة لتطوير مشروع المجتمع وتغيير أسلوب النضال، وتواصلت إلى أن وجد الاتحاد نفسه مندمجاً في جبهة التحرير الوطني سنة ست وخمسين وتسعمائة وألف.‏
            إذن، وانطلاقاً مما سبق، يجب التأكيد على أن تغييراً نوعياً قد تجسد على الميدان خلال تلك الدورة الأولى التي عقدها المجلس الوطني للثورة الجزائرية مستهدفاً المنطلقات الأيديولوجية بحيث لم يعد يشترط الانتماء العضوي لحزب الشعب الجزائري والتشبع المطلق بأيديولوجيته للتمكن من ممارسة المهام القيادية العليا.‏
            وفيما يتعلق بأولوية السياسي على العسكري والداخل على الخارج، فإن المجلس الوطني قد ألغى قرار مؤتمر وادي الصومام وأكد في لائحته النهائية أن الأولوية لا تكون إلا حيث الفعالية وحيث مصلحة الثورة. وفي الحقيقة، فإن هذا التأكيد لم يكن إلا شكلياً، ولأن الواقع لم يكن كذلك بالنسبة للنقطتين على حد سواء.‏
            ففيما يخص النقطة الأولى، تجدر الإشارة إلى أن السلطة كلها قد انتقلت إلى القادة العسكريين الذين بدأوا يجنحون إلى الاستبداد رغم معارضة عبان الذي أصبح شبه وحيد نظراً لسكوت من كانوا يسمون بالسياسيين الذين رضوا بدور المنفذ. وقد كان الفرنسيون يدعون هؤلاء العسكريين: "الباءات الثلاث وهم يعنون: بلقاسم كريم، وبن طوبال لخضر وبالصوف عبد الحفيظ(3) .‏
            وفيما يخص النقطة الثانية، وباستثناء العلاقات مع الخارج، فإن الداخل كان مستقلاً وسيظل كذلك إلى غاية وقف إطلاق النار.‏
            من حرب العصابات إلى حرب الواقع:‏
            لقد كان اندلاع الثورة ليلة الفاتح نوفمبر سنة أربع وخمسين وتسعمائة وألف تطبيقاً ميدانياً للمبدأ القائل بضرورة استعمال الكفاح المسلح من أجل استرجاع الاستقلال الوطني، لأجل ذلك، فإن جل مناضلي حركة الانتصار للحريات الديمقراطية هللوا للشرارة الأولى قبل أن تبدأ المشادات الكلامية ثم الصراعات الدموية من انتصار الزعيم مصالي ومناضلي الوليد الجديد: جبهة التحرير الوطني(4) .‏
            وإذا كانت الفترة الممتدة إلى نهاية شهر أوت سنة ست وخمسين وتسعمائة وألف قد امتازت بممارسة حرب العصابات ضد العدو بالمؤازرات مع التركيز على توعية الجماهير الشعبية وتنظيمها في إطار مواجهة عمليات التمشيط الواسعة التي كانت القوات الاستعمارية تقوم بها من أجل السيطرة على جبال وغابات المناطق الأولى والثانية والثالثة وافتكاكها من جيش التحرير الوطني الذي تمكن خلال وقت قصير جداً من تجنيد جموع غفيرة من الشباب المؤمن بقضية التحرير المستعد للاستشهاد من أجلها، وإذا كان مؤتمر وادي الصومام قد قرر تنشيط العمل الفدائي في المدن والقرى من أجل تعميم حالة الحرب وتخفيف الضغط على المجاهدين في الجبال، فإن المجلس الوطني للثورة الجزائرية في دورته الأولى المنعقدة بالقاهرة، قد ثبت قرار المؤتمرين في وادي الصومام وأيده بقرار آخر يدعو إلى تجاوز حرب العصابات من أجل تحويل كبير من جيش التحرير الوطني مفهوم الولايات من جهة، ولتوفير الظروف الملائمة لإنجاز "ديان بيان فو " جزائرية من جهة ثانية.‏

            إن اتخاد هذا القرار يرجع في أساسه إلى تأثر بعض أعضاء لجنة التنسيق والتنفيذ(5) بأدبيات كل من ماوتسي تونغ وتروتسكي، لكنه لم يأخذ في الاعتبار الواقع الجزائري الذي كان، يوماً، يختلف كلية عن الواقع الصيني أو الهند الصينية إذ، رغم الانتصارات العديدة التي أحرزها جيش التحرير الوطني، ورغم سيطرته، ليلاً خاصة على مناطق عديدة، ورغم المساندة الشعبية التي كان يحظى بها، فإن جبهة التحرير الوطني لم تتمكن، إلى غاية ذلك التاريخ، من تحرير مناطق يمكن الاحتفاظ بها لتكوين منطلقات لوحدات أكبر من الفيالق(6) ، لأجل ذلك، فإن القرار ظل حبراً على ورق سوف لن تتزود الثورة الجزائرية بفرقتها العسكرية المتخصصة ولن تفرض على فرنسا ديان بيان فو ثانية.‏
            وفي إطار نفس التوجه الخاص بالعمل من أجل تجاوز مفهوم الولايات، قرّر المجلس الوطني للثورة الجزائرية ضرورة الإسراع بإنشاء قيادة موحدة لجيش التحرير الوطني، لكن تنفيذ هذا القرار تعثر في بداية الأمر نتيجة الصراع الذي صاحب خروج لجنة التنسيق والتنفيذ من الجزائر والذي قام في أساسه بين السيدين بلقاسم كريم وعبان رمضان(7) . وبعد التخلص من هذا الأخير(8) ظهرت إلى الوجود، في شهر أفريل سنة ثمان وخمسين وتسعمائة وألف، لجنة التنظيم العسكري مقسمة إلى فرعين لكن بدون رأس موحد في الظاهر على الأقل(9) .‏
            أما الفرع الأول فيترأسه العقيد هواري بومدين(10) ومقره الحدود الجزائرية التونسية التي تتخذ منطلقاً للإشراف على الكفاح المسلح في شرقي البلاد الذي يشمل في هذه الحالة، الولايات الأولى والثانية والثالثة.(11)
            وبمجرد التنصيب وانطلاق العمل، تمكن العقيد هواري بومدين من تنظيم الفرع الذي أسندت إليه مسؤوليته، تنظيماً عصرياً تميز، في ذلك الوقت، بالدقة في التخطيط والانضباط في ممارسة النشاط العسكري، واستطاع، في ظرف قصير، أن يثبت ويطور أجهزة الاستعلامات والإمدادات التي أنشأها سلفه ومعلمه العقيد عبد الحفيظ بو الصوف، وتجاوز بدون كثير عناء مسألة الأشخاص إذ عرف كيف يختار محيطه الضيق ويفرض جو الأخوة والتعاون بين الجميع بما في ذلك النائب الذي كان يراهن عليه السيد بلقاسم كريم للسيطرة على غربي البلاد.‏
            لكن العقيد محمدي السعيد لم يحالفه النجاح في تأدية مهمته إذ وجد صعوبة جمة في إقناع نوابه بمسؤوليته عليهم، ولذلك راح كل واحد منهم يعمل مستقلاً ومباشرة مع الولاية التي جاء منها أو كان يشرف عليها(12) ومع واحد وأكثر من الباءات الثلاث الذين سبقت الإشارة إليهم. وبالتدريج تأزم الوضع في الحدود الشرقية وبدأ المرض يسري إلى هيئات الثورة بداخل الوطن وخاصة منه الولاية الأولى والقاعدة الشرقية. وأمام هذا التطور الخطير اجتمعت لجنة التنسيق والتنفيذ في اليوم التاسع من شهر سبتمبر سنة ثمان وخمسين وتسعمائة وألف، فأقرت عجز القائد ونوابه وقررت ضد كل واحد منهم عقوبات مختلفة(13) .‏
            وفي نفس الاجتماع، أطلعت لجنة التنسيق والتنفيذ على التقارير المقدمة من طرف أعضاء اللجنة(14) التي كانت عينتها لدراسة إمكانية إنشاء حكومة مؤقتة للجمهورية الجزائرية. وبدلاً من استدعاء المجلس الوطني للاجتماع بصفته الهيئة العليا للثورة الجزائرية التي يحق لها اتخاذ القرار، في مثل هذه الحالات، لجأ السادة: بلقاسم كريم ولخضر بن طبال وعبد الحفيظ بوصوف إلى القيام بأول انقلاب عسكري وأعلنوا عن تكون حكومة برئاسة السيد فرحات عباس على أن يظلوا هم السلطة المرجعية الوحيدة التي بيدها الحل والربط(15) .‏
            ولقد كان الانقلاب هروباً إلى الأمام لأن الباءات الثلاث -على حد التعبير الفرنسي- كانوا متأكدين أن أغلبية أعضاء المجلس الوطني أصبحوا مقتنعين بعدم قدرتهم على تسيير شؤون الثورة الجزائرية. وتسربت معلومات مفادها أن قادة الداخل عازمون على إبعادهم واستبدالهم بمن هم أكثر منهم كفاءة. وكانت الأنظار قد بدأت تتجه إلى العقيدين محمد لعموري ومصطفى لكحل اللذين كانا، منذ مدة، يحذران من الانحراف ويطالبان بعدم الابتعاد عن الخط الإيديولوجي كما ورد تحديده في بيان الفاتح من نوفمبر. ويبدو أن هذه الدعوة التي رفع لواءها العقيدان محمد ومصطفى قد وجدت أنصاراً كثيرين من بين إطارات جميع الولايات، ويبدو كذلك أن اتصالات أولية مباشرة قد وقعت مع الداخل وعلى أثرها عاد لعموري من منفاه خفية ليترأس في منطقة الكاف(16) اجتماعاً سرياً انعقد بتاريخ 16/11/1958 ويشارك فيه عدد كبير من إطارات الثورة العسكرية والسياسية من أجل إطاحة الحكومة المؤقتة وإعادة تأهيل المجلس الوطني للثورة الجزائرية وتطهيره من العناصر التي دبرت الانقلاب أو شاركت فيه من قريب أو بعيد، وكان من الممكن أن تنجح المبادرة لو لم يتفطن. الباءات الثلاث إلى اللجوء إلى السلطات التونسية وإلى الضباط الجزائريين القادمين من الجيش الاستعماري عبر ألمانيا وإيطاليا.‏
            أما الحكومة التونسية فقد أوهموها بأن قادة الداخل إذ يدعون إلى الالتزام بنداء أول نوفمبر، فإنهم يهدفون إلى جر تونس والمغرب الأقصى إلى إعلان الحرب على فرنسا وعدم القبول بإيقافها إلا عندما يسترجع شمال إفريقيا سيادته التي تكون منطلقاً لوحدته في إطار المبادئ العربية الإسلامية. وأحيط الرئيس بورقيبة علماً بأن أنصار صالح بن يوسف وراء الاجتماع المنعقد بالكاف، وأن إطارات سامية من بينهم متواجدة بالقاعة. وأما الضباط الجزائريون القادمون من الجيش الفرنسي(17) فقد أقنعوهم بأن الحركة تستهدفهم لأن ضباط جيش التحرير الوطني يرفضون تواجدهم على الحدود الجزائرية التونسية ويعتبرونهم عيوناً تعمل لفائدة الجيش الاستعماري.‏
            بعض هؤلاء الضباط اشتغل في صفوف الجيش الفرنسي ضد جيش التحرير الوطني داخل الجزائر في السنوات الأولى للثورة، وبعضهم ظل في فرنسا أو في ألمانيا داخل الثكنات، وقد التحقوا بالحدود الجزائرية الشرقية والغربية عن طريق اتحادية جبهة التحرير الوطني بأوربا في فترات متتالية ابتداءاً من سنة 1957. وكان يمكن أن يشكلوا دعماً كبيراً لقدرة الولايات العسكرية لكنهم لم يدخلوا إلى التراب الوطني سوى بعد وقف إطلاق النار، الأمر الذي جعل أبناء جيش التحرير الوطني يستاؤون ويطالبون بتسريحهم غير أن العقيد هواري بومدين كان متمسكاً بهم، وبدأ الصراع بين الطرفين محتداً خاصة ابتداءً من المؤتمر التأسيسي لحزب جبهة التحرير الوطني المنعقد في الفترة ما بين 16 و 21 أفريل سنة 1964. وتجدر الإشارة إلى أن دعم بو مدين لهم قد مكنهم بالتدريج من السيطرة على الجيش. ويعتبر العقيد الشاب محمد شعباني أول ضحايا ذلك الصراع(18) .‏
            فبهذه الكيفية تمكن الباءات الثلاث من تعبئة الضباط من غير أبناء جيش التحرير الوطني، ومن جعل الجيش التونسي يتحرك بقوة في اتجاه مكان الاجتماع، ولأن المجتمعين لم يكن لهم أي حساب مع الحكومة التونسية، فإنهم انخدعوا وبسهولة استسلموا للأسر. ولما علم أن تسلمت الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية مجموع المتمردين أقامت لهم محكمة أصدرت على عجل أحكاماً مختلفة ضدهم(19) .‏
            ومن الجدير بالذكر أن المحاكمة كانت صورية فقط. وفي الواقع فإن الأمر يتعلق باغتيالات جماعية استهدفت مجموعة من خيرة إطارات الثورة قصد الاستجابة لطموحات شخصية(20) ، تماماً مثل ما وقع قبل ذلك بحوالي سنة عندما أعدم عبان رمضان بدون محاكمة. ومما لا شك فيه أن العمليتين كانتا انحرافاً أيديولوجياً خطيراً سوف يكون له تأثيره البالغ على مسار الثورة في الخارج لأنه سيدخلها عالم الإرهاب وانعدام الثقة.‏
            التخطيط للعمل السياسي:‏
            إن أشغال الدورة الأولى للمجلس الوطني لم تتوقف عند قضايا التسيير والمسؤولية، لكنها امتدت لتشمل كافة الموضوعات الأساسية التي تؤثر مباشرة على مصير الثورة وقد سعى المشاركون في الدورة لتعطي الأولوية في التنفيذ لكل ما من شأنه أن يدعم صفوف الثورة وطنياً، ويخدم العلاقات المغاربية ويثبت جبهة التحرير الوطني على الساحة الدولية وخاصة في حظيرة الأمم المتحدة.‏
            فبالنسبة للعلاقات المغاربية، لاحظت الدورة أنها أصبحت تشكو نوعاً من الفتور، خاصة بعد أن استرجعت كل من تونس والمغرب الأقصى استقلالها، وانتهت، بعد مناقشات واسعة وثرية، إلى أن قرار وادي الصومام في هذا الشأن، وهو تجسيد لما جاء في بيان أول نوفمبر، قد ظل حبراً على ورق نتيجة عدم وجود التجارب لدى الشقيقين المستقلين حديثاً.‏
            لقد كان وادي الصومام قد دعا إلى تنسيق العمل السياسي وإنشاء لجنة للتنسيق تشارك فيها جميع الأحزاب الوطنية التونسية والمغربية إلى جانب جبهة التحرير الوطني وذلك من أجل إنشاء لجان شعبية تساند الثورة الجزائرية، وإيجاد سبل التضامن والتوحيد بين المنظمات الجماهيرية والنخبوية في الأقطار الثلاثة(21) لكن مشاغل المغرب الأقصى وتونس قد تغيرت وأصبح البلدان يعملان على توطيد سيادتهما في إطار الحدود التي وضعها الاستعمار. ومما لا شك فيه أن، انحرافاً عن البرنامج الأساسي الذي كان يدعو إلى استمرار الكفاح المسلح حتى يتمكن شمال إفريقيا بأكمله من استرجاع سيادته وطرد المغتصب من أراضيه(22) .‏
            أما عن دعم الصف الوطني فلا بد من الذكر بأن الفلاحين الجزائريين هم أول من تحمل عبئ الثورة وشكل عمودها الفقري، وذلك طبيعي عندما نعرف أن سكان الريف في الجزائر كانوا، قبل عام أربعة وخمسين وتسعمائة وألف، يمثلون أكثر من ثلثي الشعب، وعندما قرر مؤتمر وادي الصومام تكثيف العمل الفدائي في الحواضر(23) أصدر في ذات الوقت، توجيهات واضحة للاهتمام بتنظيم القوى الوطنية الحية، قصد تمكينها من الارتباط، عضوياً بجبهة التحرير الوطني وجعل المدن تقوم بدورها الحقيقي في معركة التحرير، وكانت فئات العمل والتجار والطلبة في طليعة من حظي بعناية القيادة السياسية التي تمكنت، في وقت قصير جداً، من إبراز تنظيماتها الوطنية وتزويدها بالعناصر المناضلة القادرة على تنشيطها في جميع المجالات، وتوظيفها، عقلانياً، لخدمة الكفاح المسلح.‏
            ففيما يخص العمال الجزائريين الذين كانوا ينشطون نقابياً في مختلف المنظمات الفرنسية(24) .‏
            فإن جبهة التحرير الوطني قد توصلت(25) بعد دراسات ومشاورات، إلى تقديم ملف قانوني كامل تم، بموجبه، إنشاء الاتحاد العام للعمال الجزائريين في اليوم الرابع والعشرين من شهر فيفري شباط سنة ست وخمسين وتسعمائة وألف وعينت أميناً عاماً له السيد عيسات إيدير(26) ثم رصدت له الميزانية اللازمة للإنطلاقة بالكيفية التي تمكن من مغالبة وإلغاء منافسيه: الاتحاد النقابي للعمال الجزائريين(27) والاتحاد العام للنقابات الجزائرية(28) .‏
            وبالفعل، استطاع الاتحاد العام للعمال الجزائريين أن تقطع خطوات جبارة في مجالي التجنيد والعلاقات مع المنظمات المماثلة العاملة خاصة في البلدان الغربية، وبذلك أصبح قادراً على تعبئة الجماهير الشعبية لتلبية نداء جبهة التحرير الوطني كما كان الأمر بالنسبة لإضراب الأسبوع الذي سبقت الإشارة إليه، وسهلت أمامه مهمة النفاذ إلى الأوساط النقابية الدولية التي لم تعد تخفي تعاطفها مع الثورة الجزائرية.‏
            وبالتدريج، صار الاتحاد يضع الكفاح التحريري في مقدمة نشاطه ويعلن في جميع المناسبات أن أهدافه هي نفس أهداف جبهة التحرير الوطني وهي تتمثل في العمل بجميع الوسائل من أجل تقويض أركان الاستعمار حتى يتسنى للعمال الجزائريين أن يمارسوا الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية(29) . غير أن وضع الكفاح التحريري في مقدمة الإنشغالات لم يصرف المركزية النقابية الجزائرية عن تأدية مهامها الأساسية في الدفاع عن حقوق العمال وحماية مصالحهم وفي التخطيط للمستقبل بواسطة تكوين الإطارات(30) إعداد الدراسات التقنية الكفيلة بترقية الاقتصاد الجزائري وتنميته بعد استرجاع السيادة الوطنية(31) .‏
            وأمام هذا النشاط المتزايد لجأت السلطات الاستعمارية إلى اعتقال آلاف المناضلين والإطارات النقابية قبل أن تعمد إلى إصدار قرار بحل الاتحاد رسمياً بحجة ارتباطه بحزب سياسي، وردت الأمانة العامة للاتحاد على هذا الإجراء التعسفي مؤكدة أن جبهة التحرير الوطني "ليست حزباً، ولكنها تجمع وطني يضم كل القوى الحية في البلاد. وفي جبهة التحرير الوطني تنصهر كل النزاعات السياسية والاجتماعية في سبيل تحقيق التحرير السياسي والاقتصادي والاجتماعي"(32) .‏
            وبالإضافة إلى ذلك استشهدت باللائحة الخامسة والثلاثين الصادرة عن الندوة العالمية للشغل التي تنص على أن "الهدف الأساسي والدائم لكل حركة نقابية هو تحقيق التقدم الاقتصادي والاجتماعي لفائدة العمال، ولبلوغ ذلك، تستطيع النقابات، وفقاً للقوانين الجاري بها العمل، إقامة علاقات مع الأحزاب السياسية"(33) .‏
            وبالدخول إلى السرية، تضاعف نشاط الاتحاد العام للعمال الجزائريين في سبيل تجسيد برامج جبهة التحرير الوطني ولم تلبث صفوفه أن تعززت بانضمام أغلبية أعضاء بفرنسا في اليوم الثالث عشر من شهر مارس سنة ثمان وخمسين وتسعمائة وألف، وصرح أمينه العام المساعد قائلاً: "أن هذا القرار قد جاء نتيجة اقتناعنا بأنه "لا يمكن أن يوجد سوى تمثيل واحد للعمال الجزائريين"(34) .‏
            أما الاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين الذي تأسس في الفصل الأخير من السنة الأولى للثورة(35) ، فإن نشاطه الفعلي لم يظهر إلاّ في مستهل السنة الثانية بعدما وقع اعتقال الطالبين الشهيدين: بلقاسم زدور وعمارة رشد.‏
            فعلى إثر ذينك الاعتقالين اللذين وقعا في وقت واحد تقريباً(36) لكن في مدينتي وهران بالنسبة للأول والجزائر بالنسبة للثاني، أصدر الاتحاد منشوراً يندد فيه بأعمال القمع التي تمارسها السلطات الاستعمارية ويطالب بالمصالح الفرنسية المعينة باحترام للإجراءات القانونية خاصة فيما يتعلق بمدة الحبس الاحتياطي الذي لا ينبغي أن تفوق ثمان وأربعين ساعة بمحلات الشرطة، ويندد بعمليات التعذيب الجسماني التي يتعرض لها السجناء الجزائريون(37) .‏
            وكان المنشور كافياً ليثير رد فعل الغلاة من قادة الاتحاد الوطني للطلبة الفرنسيين وفي مقدمتهم السيد جاك لابورت الذي صرح بأن موقف الهيئات القيادية للطلبة المسلمين الجزائريين يعتبر فعلاً سياسي ومن ثم فهو عبارة عن ممارسة غير شرعية ومبادرة من شأنها تشجيع الخارجين عن القانون والمعتدين على العدالة الفرنسية.‏
            لكن الاتحاد، منذ تأسيسه، لم يخف توجهاته الوطنية والتزامه بالعمل من أجل تحقيق أهداف الثورة بقيادة جبهة التحرير الوطني حتى أن رئيسه(38) صرح رسمياً قائلاً: "فإذا كان المقصود بالمتمردين والخارجين عن القانون هم أولئك الرجال الذين يطالبون بحريتهم وهم لا يطالبون بها مسلحين إلا لأن كل الأبواب الأخرى قد سدت أمامهم، ويكافحون في سبيل كرامتهم وحقهم في الوجود وخارجون عن القانون"(39) .‏
            وفي شهر أفريل سنة ست وخمسين وتسعمائة وألف عقد الاتحاد مؤتمره الثاني في باريس واعتمد نداء الفاتح من نوفمبر لصياغة وثائقه النهائية، وقد جاء في لائحته السياسية: "أن كفاح الشعب الجزائري لا يمكن أن ينتهي بغير استرجاع السيادة الوطنية، وعليه فإن الطلبة المسلمين الجزائريين يلحون على المطالبة بالتفاوض مع جبهة التحرير الوطني الممثل الوحيد والشرعي للشعب الجزائري"(40) .‏
            وفي أثناء دورته الأولى المنعقدة بالقاهرة، درس المجلس الوطني للثورة الجزائرية مسألة الإضراب اللامحدود، ولما أجمع الأعضاء على أنه أدى المهمة المنتظرة منه، فإنهم قرروا آمر اللجنة المديرة للاتحاد بأن تضع له حداً لمهمة افتتاح السنة الدراسية 57/58(41) ، وقد تم ذلك بالفعل على إثر الاجتماع الذي عقد بباريس في اليوم الرابع عشر من شهر أكتوبر سنة سبع وخمسين وتسعمائة وألف.‏
            ثم جاءت الخطوة الحاسمة في نهاية نفس السنة إذ عقد الاتحاد مؤتمره الثالث بضواحي باريس في الفترة ما بين الثالث والعشرين والثامن والعشرين من شهر ديسمبر، وصادق بالإجماع على اللائحات السياسية العامة التي لفت فيها انتباه الرأي العام الفرنسي والعالمي إلى ضرورة الضغط على الحكومة الفرنسية كي تحترم مبدأ الحق الطبيعي للشعوب في الاستقلال، وبالإضافة إلى ذلك أكد ما جاء في مقررات المؤتمر الثاني المشار إليها أعلاه(42) .‏
            وتجدر الاشارة، هنا، إلى أن المؤتمر نجح نجاحاً باهراً إذ حضر جلسته الختامية مندوبو اتحادات طلابية غفيرة إلى جانب ممثلي الاتحاد العالمي للطلبة والاتحاد العام لطلبة الولايات المتحدة الأمريكية. وقد تدخل هذان الأخيران بكلمتين قويتين كلفتهما الاستنطاق والطرد من التراب الفرنسي(43) . وبعد شهر واحد من انتهاء أشغال المؤتمر ونشر نتائجها، أصدرت الحكومة الفرنسية قراراً يحمل تاريخ الثامن والعشرين من شهر جانفي سنة ثمان وخمسين وتسعمائة وألف ويقضي بحل الاتحاد بحجة انتمائه لجبهة التحرير الوطني، وبذلك دخل التنظيم الطلابي الجزائري مرحلة السرية إلى جانب باقي المنظمات الجماهيرية العاملة في صفوف الثورة، ويستعمل جميع الوسائل لتجسيد أيديولوجيتها على أرض الواقع.‏
            وإذا كان التنظيمان العمالي والطلابي قد وقعت هيكلتها قبل مؤتمر وادي الصومام، فإن الاتحاد العام للتجار الجزائريين لم يتأسس إلا بعد أن رجعت لجنة التنسيق والتنفيذ إلى العاصمة. وقد انعقد مؤتمر الأول يومي الثالث عشر والرابع عشر من شهر سبتمبر سنة ست وخمسين وتسعمائة وألف، وقام بدور أساسي في إنجاح إضراب الأسبوع المسطور أعلاه.‏
            قبل ذلك، وبأمر من قيادة الثورة، أعلن الاتحاد عن إضراب تجريبي بمناسبة الذكرى الثانية لانطلاق الكفاح المسلح، ولقد استجاب التجار الجزائريون بالإجماع للإعلان المذكور مما جعل السلطات الاستعمارية ترد بعنف كبير فتأمر بإغلاق المتاجر(44) ولمدد تتراوح ما بين شهر وشهرين وتلقي القبض على عشرة من القيادة المنتخبة حديثاً(45) وتزج بهم في محتشد البرواقية(46) وفي نهاية شهر نوفمبر من نفس السنة شارك الاتحاد، بمدينة طرابلس، في أشغال المؤتمر السادس لغرف التجارة والصناعة والفلاحة عن البلدان العربية(47) وقدم بالمناسبة، عرضاً وافياً عن الإمكانيات الاقتصادية التي تتوفر عليها الجزائر، ومنذ ذلك التاريخ دخل السرية هو أيضاً وراح يعمل بكل ما في وسعه على تعبئة عالم التجارة إلى جانب الكفاح الذي يخوضه الشعب الجزائري بقيادة جبهة التحرير الوطني.‏

            ولم يكتف المغرب الأقصى وتونس بالتوقف عن الكفاح وقبول الحل الفرنسي تاركين جبهة التحرير الوطني وحدها في الميدان، بل إن السلطات الرسمية، في كل من البلدان قد أصبحت، خوفاً من فرنسا، تشد الخناق على الثورة الجزائرية فتعترض سبيل الإمدادات الواردة إليها من مختلف أنحاء العالم وتحاول، بشتى الوسائل، التدخل في شؤون جيش التحرير الوطني المقيم على حدودها، وفي كثير من الأحيان تتحول تلك المحاولات إلى معارك دامية بين الأشقاء.‏
            من هذا المنطلق قررت الدورة تكثيف الاتصال بسلطات البلدان وحددت لذلك مجموعة من الأهداف تندرج كلها في إطار التوجه الوحدوي كما جاء التنصيص عليه في بيان الفاتح من نوفمبر(48) ، وفي مقدمة هذه الأهداف يأتي ما يلي:‏
            1- فتح مفاوضات عسكرية لتسوية أوضاع الأسرى من جميع الأطراف ثم التعرض لنقاط الخلاف والعمل على إزالتها. وفي هذا السياق وقعت في تونس لقاءات متعددة بين ممثلين عن جبهة التحرير الوطني وممثلين عن الجيش التونسي ولقاءات أخرى مماثلة في المغرب الأقصى.‏
            وعلى الرغم من أن تلك اللقاءات قد ساعدت على تلطيف الأجواء وحل بعض المشاكل الثانوية إلا أن التحفظات ظلت قائمة ولم تتمكن الأطراف المتفاوضة من تجاوز عقد الإقليمية التي غرستها فيهم سلطات الاستعمار، ولم تتوقف القوات التونسية والقوات المغربية، كل واحدة على حدودها، عن مهاجمة مراكز جيش التحرير الوطني الجزائري وحجز كميات كبيرة من الأسلحة الموجهة إليه عن طريق البحر، ولم تنج حتى المؤن والأغطية والملابس والأدوية المخصصة للاجئين.‏
            2- العمل على إعادة إحياء الاتفاق المبرم بتاريخ الواحد والعشرين من شهر جانفي سنة ست وخمسين وتسعمائة وألف بين جيش تحرير المغرب وجيش التحرير الوطني الجزائري والذي مفاده أن الطرفين لن يتوقفا عن الكفاح المسلح حتى يسترجع المغرب العربي كله استقلاله التام. ويؤكد الاتفاق أن قضية شمال إفريقيا قضية شعب واحد "غلب على أمره على يد مستعمر واحد في ظروف واحدة ولو اختلف التاريخ"(49) .‏
            3- العمل بجميع الوسائل على تحميس الشعب العربي في كل من تونس والمغرب الأقصى حتى يستمر في ضغطه على السلطات الرسمية من أجل إبقائها ملتزمة بمساندة الكفاح المسلح في الجزائر وعدم الرضوخ للتهديدات الصادرة عن الحكومة الفرنسية.‏
            4- العمل على إقناع الطرفين المغربي والتونسي بسلامة موقف جبهة التحرير الوطني الذي يطرح الاعتراف بالاستقلال شرطاً مسبقاً للدخول في أي تفاوض مع السلطات الاستعمارية.‏
            5- تشجيع المغرب وتونس على مواصلة العمل، الدولي من أجل بلورة الحل المغاربي للقضية الجزائرية وذلك في إطار التوصية التي صادقت عليها الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 11/12/1957(50) .‏
            أما بالنسبة للعلاقات الخارجية، وفي إطار تدويل القضية الجزائرية كما جاء ذلك في بيان الفاتح من نوفمبر، لاحظت الدورة الأولى للمجلس الوطني أن فرنسا لم تغير سياستها التي تجعل الجزائر مجموعة من العملات الفرنسية لا يحق لأي تنظيم خارجي، بما في ذلك الأمم المتحدة، أن تتدخل في شؤونها.‏
            وعلى الرغم من المناورات الديبلوماسية الهادفة إلى تخدير الرأي العام العالمي بواسطة إبداء الاستعدادات الوهمية للتفاوض مع ممثلي جبهة التحرير الوطني(51) ، فإن الحكومة الفرنسية لم تقطع أية خطوة من شأنها التدليل على نيتها في التوصل إلى حل يأخذ في الاعتبار طموحات الشعب الجزائري في استرجاع استقلاله، لأجل ذلك، أصدرت الدورة لائحة تدعو، من خلالها، إلى تكثيف النشاط الخارجي الذي أوصت بأن يكون في اتجاهات ثلاثة:‏
            1- في اتجاه الأمم المتحدة:‏
            لقد أثبت مجلس الأمن أنه قادر على التدخل لتسوية القضايا المعقدة عندما وضع حداً للاحتلال الهولندي في أندونيسيا سنة تسع وأربعين وتسعمائة وألف. لكن فيما يخص الجزائر، فإن فرنسا تملك حق الفيتو، وعليه فإن جبهة التحرير الوطني مضطرة للتركيز على الجمعية العامة معتمد على نص المادة العاشرة من ميثاق الأمم المتحدة الذي يؤكد المسطور في الميثاق المذكور. وإقناع الجمعية العامة للأمم المتحدة بعدالة القضية الجزائرية ليس بالأمر الهين خاصة إذا علمنا أن الولايات المتحدة الأمريكية تقف وراء الدبلوماسية الفرنسية، يكفي للتدليل على ذلك نص الفقرة التالية المقتطفة من الندوة الصحفية التي عقدها السيد جون فوستر دلاس(52) يوم 4/2/11957 بمناسبة أشغال الدورة الحادية عشر للأمم المتحدة:‏
            "إن الولايات المتحدة الأمريكية مقتنعة بأن الجمعية العامة للأمم المتحدة لا يمكن أن تقدم أية لائحة عملية حول القضية الجزائرية. أتمنى أن لا تحاول ذلك الوضع في الجزائر معقد جداً، ولا أدري إذا كان يمكن التوصل إلى صياغة نص ذي قيمة في الموضوع، بل إني أشك حتى في جدوى العمل على إيجاد مثل ذلك". وأمام اللجنة السياسية التي كانت مجتمعة عشية انعقاد الدورة الموالية. صرح هنري كابت لودج قائلاً: "ينبغي، في الوقت الراهن، إعطاء فرنسا إمكانية إرساء قواعد التطور السياسي الذي يضمن لسكان الجزائر تحقيق طموحاتهم في السلام والاستقرار(53) .‏
            ولم تستسلم جبهة التحرير الوطني لذلك التحيز المعلن، بل إن لجنة التنسيق والتنفيذ قد جندت أكثر الإطارات كفاءة من أجل النفاذ إلى أوساط الطبقات الحاكمة في جميع الدول الغربية وفي مقدمتها بريطانيا، أمريكا، إيطاليا، وألمانيا واستطاعت في بداية الأمر، أن تستميل رجال الأعمال وتجار الأسلحة ثم تمكنت، بالتدريج من ربح ثقة في التشكيلات السياسية التي لم تلبث أن تبنت القضية الجزائرية وصارت تناضل في سبيل تسويتها على أساس الاستقلال الوطني.‏
            2- في اتجاه المنظمة الأفرو آسيوية:‏
            لقد وجدت الثورة الجزائرية، منذ الأسابيع الأولى لاندلاعها، سنداً قوياً في دول إفريقيا وآسيا. ويرجع الفضل في ذلك، بادئ الأمر، إلى روابط العروبة والإسلام التي وظفت إلى أبعد الحدود من أجل تدويل القضية الجزائرية وفتح المجال الديبلوماسي العالمي أمام جبهة التحرير الوطني.‏
            ففي شهر جانفي سنة خمس وخمسين وتسعمائة وألف(54) تحركت المملكة العربية السعودية بواسطة الرسالة إلى مجلس الأمن تطالبه فيها بالتدخل السريع لإيقاف الحملات القمعية التي تمارسها فرنسا الاستعمارية في الجزائر. وبعد ذلك بحوالي ثلاثة أسابيع طلبت مجموعة من الدول الأقرو آسيوية إدراج القضية الجزائرية في جدول أعمال الدورة العاشرة للأمم المتحدة(55) .‏
            وفي سنة ست وخمسين وتسعمائة وألف. وفي اليوم الثالث عشر من شهر جوان، طلبت ثلاث عشرة دولة إفريقية آسيوية من مجلس الأمن أن يعقد جلسة عاجلة لإنهاء الحرب الدائرة رحاها في الجزائر. رفض ذلك، فإن مجموعة أخرى من البلدان الأقرو آسيوية قد طلبت، في الأول من أكتوبر عام ستة وخمسين وتسعمائة وألف إدراج القضية الجزائرية في جدول أعمالها الحادية عشر(56) .‏
            وفي السادس عشر من شهر جويلية سنة سبع وخمسين وتسعمائة وألف طلبت إدراجها في جدول أعمال الدورة الثانية عشرة.‏
            وفي كل واحدة من هذه المرات كانت الجمعية تتخذ قرارات إجماعية تعرب فيها عن أملها في أن تتوقف الحرب في الجزائر بواسطة التفاوض بين فرنسا وجبهة التحرير الوطني. لكن، في كل مرة، كانت فرنسا تضرب عرض الحائط بتوصيات الجمعية العامة مستغلة عضويتها في مجلس الأمن وما يتبع ذلك من حق استعمال الفيتو.‏
            ولقد درست الدورة الأولى للمجلس الوطني للثورة الجزائرية هذا الوضع، وإذ ثمنت الجهد المبذول من طرف عدد كبير من الدول الأفرو آسيوية، فإنها قررت تشكيل وفود متعددة تتحرك في جميع المناسبات ولا يبقى العمل مقصوراً على دورات الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن وكان لنشاط تلك الوفود أثر فاعل لم يلبث أن تجسد في مؤتمر التضامن الأفرو آسيوية المنعقد في القاهرة بتاريخ السادس والعشرين من شهر ديسمبر سنة سبع وخمسين وتسعمائة وألف(57) .‏
            (1) نظراً إلى أن المورخين والصحافيين، في ذلك الوقت لم يولوا اهتماماً كبيراً بتلك الدورة التي عقدها المجلس الوطني للثورة الجزائرية ونظراً إلى أن أعضاء المجلس المذكور لم يهتموا، في الستينات أو حتى في السبعينات بكتابة مذكراتهم، فإن الاختلافات قد جاءت فيما يتعلق بتاريخ بدء الأشغال وكذلك المدة التي استغرقتها. وعلى سبيل المثال:‏
            - يذكر السيد فيليب تريبي في كتابه: تشريح لحرب الجزائر الصفحة 198 أن المجلس الوطني للثورة الجزائرية اجتمع بالقاهرة في دورة سرية يوم 23 أوت سنة 1957.‏
            - أما السيد إدوارد باهر الصحافي الإنكليزي الذي صدر كتابه: "مأساة الجزائر" سنة 1961، فإنه تحاشى تقديم تاريخ محدد واكتفى في الصفحى 127 بالقول أن الدورة انعقدت في سنة 1957.‏
            - وأما السيد جاك ديمشان "تاريخ جبهة التحرير الوطني" الذي صدر في بارس سنة 1962، فإنه ذكر في الصفحة 265 من كتابه "إن الدورة انعقدت في شهر أوت" وبعد ذلك بفقرتين أشار إلى أنها يوم اختتمت يوم 27 من نفس الشهر.‏
            - ويذكر السيد فتحي الديب في كتابه: "عبد الناصر وثورة الجزائر" الصفحة 355، "المؤتمر انعقد في أول سبتمبر سنة 1957. أما نحن فإننا استقينا معلوماتنا مباشرة من السيدين عبد الحفيظ بو الصوف والأخضر بن طوبال وقد وجدنا تأييداً لهذه المعلومات في بعض الكتب التي عالجت تاريخ الكفاح المسلح في الجزائر وفي مقدمتها: "حرب الجزائر لصاحبه العقيد يبارلو كويي Pierre le Goyet رئيس مصلحة الأرشيف المعاصر لدى رئاسة الحكومة الفرنسية إلى غاية عام 1957 وهو عضو لجنة تاريخ الحرب العالمية الثانية ولجنة التاريخ العسكري المقارن.‏
            أما السيد فرحات عباس لا يذكر تاريخ ابتداء الأشغال لكنه يؤكد في كتابه "تشريح الحرب ص210 أنه كان في بيونس آرس عندما استدعيَّ إلى القاهرة 17 آوت، وفي الصفحة 212 يضيف قائلاً: "وفي يوم 24 أوت، وبعد اجتماعات عديدة مع العقداء، وافقنا على أن نكون أعضاء بلجنة التنسيق والتنفيذ التي أصبحت يوم 28 من نفس الشهر، أي غداة اختتام المؤتمر مكونة كالآتي: العقيد كريم، العقيد واعمران، العقيد محمد شريف، العقيد بو الصوف، العقيد ابن طوبال، عبان، دباغين، مهري وعباس ونسي المؤلف أن يضيف أسماء المعتقلين وهم: أحمد بن بلة، محمد خيضر، حسين آيت أحمد، محمد بوضياف ورابح بيطاط.‏
            (2) من مواليد سنة 1914 بضواحي مدينة تبسة. تخرج من مدرسة تكوين الضباط في فرنسا وشارك في الحرب العالمية الثانية كواحد من الضباط الشباب الفرنسي الذي استقال منه على إثر مجازر ماي سنة 1945 وهو برتبة نقيب. وفي سنة 1946في صفوف الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري وأصبح ملاحقاً من طرف الإدارة الاستعمارية. التحق بصفوف جيش التحرير الوطني في نهاية عام 1955 وتسلق سلم المسؤوليات إلى أن أصبح قائد للولاية الأولى ثم عضواً بلجنة التنسيق والتنفيذ قبل أن يعين وزيراً للتسليح والتموين. لم يؤدي أي دور سياسي أو غيره بعد استرجاع الاستقلال.‏
            (3) تسمية العسكريين والسياسيين هي فقط اختراعات السلطات الاستعمارية، لأن قادة الثورة وخاصة منهم الأوائل كانوا جميعاً متساوين تقريباً من حيث التكوين العسكري والسياسي، وعلى سبيل المثال فإن عبان رمضان الذي ينبعث بكونه سياسياً لا يختلف في شيء عن آيت أحمد وبن بلة أو من يسمونه بالباءات الثلاثة فقد كان مناضلاً في صفوف حزب الشعب الجزائري قبل الانتهاء من دراسته الثانوية. وفي داخل الحزب، وعلى مر السنين تقلد مسؤوليات متعددة وكان عضواً بارزاً في هيئات المنظمة الخاصة عندما ألقي عليه القبض 1950. فتكوينه إذن، كان سياسياً وعسكرياً مثل الآخرين لكنه كان يمتاز عن آرائه في تلك المرحلة الأولى بمستواه التعليمي والثقافي.‏
            (4) لقد كان حزب الشعب الجزائري ينادي بانتهاج الكفاح المسلح كوسيلة وحيدة لاسترجاع السيادة الوطنية، وكان مصالي الحاج يعمل في مقدمة القيادة السياسية على توفير الشروط اللازمة لانطلاق الأولى، لأجل ذلك فإن أعداداً كبيرة من المناضلين لم يصدقوا أن يكون مصالي أجنبياً عما وقع ليلة الفاتح من نوفمبر.‏
            (5) تجدر الإشارة خاصة إلى السيدين لخضر بن طوبال المدعو: سي عبد الله، وعبد الحفيظ بو الصوف المدعو: سي مبروك، وقد كان كل منهما عقيداً مسؤولاً عن ولاية قبل أن يعين عضواً بلجنة التنسيق والتنفيذ.‏
            (6) لقد كانت هنااك مناطق محررة بالفعل، لكن جيش التحرير الوطني لم يكن قادراً على الاحتفاظ بها خاصة عندما يجند العدو إمكانياته البرية والجوية.‏
            (7) هناك أقاويل كثيرة حول علاقات الرجلين اللذين يعتبران القدامى في صفوف حزب الشعب الجزائري. لكن بثقافة عبان رمضان كان سيتصغر كريم ويرى أنه أقل بكثير من المسؤولية المسندة إليه أما كريم فإنه كان معجباً بثقافة عبان وتكوينه السياسي. لكن إعجابه لم يمنعه من الاستكاء من الأصدقاء المشتركين، وقد وظف عبان انبهار كريم أمام شخصيته القوية لمحاولة السيطرة على كافة أجهزة الثورة، وظل كريم، المدرك لذلك، يتحين الفرص للتخلص من نفوذ عبان وقد تحقق له ذلك في شهر ديسمبر سنة 1957.‏
            (8) إن الثابت اليوم أن بلقاسم كريم ولخضر بن طوبال وعبد الحفيظ بو الصوف كانوا مجمعين على ضرورة إعدام عبان رمضان قصد التخلص من هيمنته الفكرية. لكن الحقيقة حول تنفيذ الإعدام سوف تظل مغيبة لأن الباءات الثلاث قرروا ذلك ولأن اثنين منهما قد انتقلا إلى رحمة الله ولم يبوحا بشيء من التفاصيل. يبقى فقط من المعلوم أنه اغتيل بالمغرب في شهر ديسمبر سنة 1957.‏
            (9) ذلك لأن لجنة التنسيق والتنفيذ قيادة جماعية المسؤوليات فيه موزعة بحيث لا يمكن لواحد فقط أن ينفرد بقيادة لجنة التنظيم العسكري. فكريم مكلف بمرفق الحرب، وبو الصوف بالاستعلامات والمواصلات العامة وواعمران بالتسليح والتموين وبن طوبال بالداخلية والتنظيم الإداري. وكل هذه المرافق تتحكم مباشرة في واقع الجيش وتسييره.‏
            (10) اسمه الحقيقي: محمد بو خروبة، جنده أحمد بن بلة في القاهرة ثم أرسله بعد تدريب عسكري إلى منطقة الخامسة حيث اتخذه بو الصوف نائباً له قبل أن تسند له كريم من جهته ليعين العقيد الصادق دهليس نائباً لبومدين على رأس الفرع المذكور. وقد كان دهليس قائد للولاية الرابعة سنة 1957.‏
            (11) هو قائد الولاية الثالثة بعد بلقاسم كريم الذي بذل كل ما في وسعه ليجعله على رأس الفرع الشرقي. وحرصاً على ترضية جميع الأطراف عين كنواب له: العقيد العموري عن الولاية الأولى والعقيد بن عودة عن الولاية والعقيد عمارة بوقلاز على القاعدة الشرقية.‏
            (12) العقيد العموري كان يشرف على الولاية الأولى ولم يكن يطمئن لأي واحد من الباءات الثلاث الذين كان يرى أنهم أقل بكثير من المسؤولية المسندة إليهم. وكذلك الأمر بالنسبة للعقيد بوقلاز الذي كان يشرف على القاعدة الشرقية. أما العقيد محمدي السعيد فإنه كان يشرف على الولاية الثالثة لكنه كان يأتمر بأوامر السيد كريم بلقاسم. وأما العقيد ابن عودة فإنه كان عضواً بقيادة الولاية الثانية وتابعاً للسيد عبد الله بن طوبال.‏
            (13) لقد أصدرت اللجنة عقوباتها كالآتي: أ- العقيد محمد لعموري ينزل إلى رتبة رائد ويمنع من كل نشاط رسمي مع تحديد إقامته بالقاهرة. ب-العقيد عمارة بوقلاز ينزل إلى رتبة جندي ويمنع من كل نشاط رسمي مع تحديد إقامته بالعراق ج- العقيد عمار بن عودة يعلق نشاطه لمدة ثلاثة أشهر يقضيها في سوريا. د- العقيد محمدي السعيد يعلق نشاطه لمدة شهر واحد يقضيه في القاهرة.‏
            وبديهي أن العقوبات موجهة خاصة ضد الولاية الأولى والقاعدة الشرقية وسوف يكون ذلك واحداً من الأسباب التي قادت إلى محاولة قلب الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية في إطارها ما أصبح يعرف بمؤامرة العقداء.‏
            (14) أعضاء هذه اللجنة أربعة وهم: بلقاسم كريم، لخضر بن طوبال، فرحات عباس وعمار واعمران، وقد اشتغل كل واحد منهم مع جماعته وقدم تقريراً مفصلاً حول المراحل المقطوعة والعمل المستقبلي انطلاقاً من القطاع الذي كان يشرف عليه.‏
            (15) هؤلاء القادة هم الذين اصطلح على تسميتهم بالباءات الثلاث باعتبار أن اسم كل واحد منهم أو لقبه يبدأ بحرف الباء.‏
            (16) حيث مقر قيادة أركان جيش التحرير الوطني.‏
            (17) هؤلاء الضباط من الجزائريين الذين ينتمون إلى عائلات كانت تحظى بمكانة مرموقة لدى سلطات الاستعمار نتيجة خدماتها في شتى المجالات. وقد تم اختيارهم صغاراً ثم أرسلوا إلى ما يسمى بمدرسة "أبناء الجيش" قصد مواصلة الدراسة العامة وتلقي المبادئ الأولى للفنون العسكرية. وعندما بلغوا سن الرشد حولوا إلى المدارس العسكرية فتخرجوا منها برتبة مرشح أو ملازم.‏
            (18) مساعدية محمد الشريف) لقاء أجريته معه في مكتبه بقصر الحكومة يوم 18/9/1988 وذكر لي فيه أن الرئيس بورقيبة اتصل بقيادة الحركة الإنقلابية في السجن وعرض عليهم إخراجهم بواسطة الجيش التونسي وتسفيرهم إلى سويسرا حيث يظلون على السفارة التونسية إلى أن تسترجع الجزائر استقلالها، لكن العقيد لعموري، ومن معه رفضوا، علماً بأن السيد مساعدية كان رائداً في ذلك الوقت وواحداً من أعضاء القيادة المذكورة.‏
            (19) ترأس المحكمة العقيد هواري بومدين وقام الرائد علي منجلي بدور النائب العام بينما تولى العقيد الصادق دهيلس مهمة الدفاع. أما الأحكام فكانت كالآتي: الإعدام بالنسبة للعقيدين: محمد لعموري وأحمد نواورة للرائدين عواشرية ومصطفى الأكحل وقد تم التنفيذ في شهر مارس سنة 1959. أما باقي الضباط وفي مقدمتهم الرواد: عبد الله بلهوشات، أحمد دراية، محمد الشريف مساعديه ولخضر بلحاج فقد حكم بالسجن المؤبد ثم استفادوا من العفو وأطلق سراحهم سنة 1960 وأعيدوا إلى صفوف جيش التحرير الوطني فنظموا الجبهة الجنوبية.‏
            (20) لقد كان السيد كريم يريد الاستحواذ على قيادة الثورة، ولذلك فإنه كان يستعمل جميع الحيل للتخلص من ذوي الكفاءات الذين قد يمنعونه من تحقيق طموحاته وأطماعه.‏
            (21) انظر وثيقة وادي الصومام المنشورة على أعمدة المجاهد، اللسان المركزي لجبهة التحرير الوطني، المجلد الأول، ص: 72.‏
            (22) في هذا الموضوع ينبغي الرجوع إلى المؤتمر الرابع لطلاب شمال إفريقيا الذي انعقد بتونس سنة 1934 والذي تبنى عقيدة التوحيد إلى وضعها مفدي زكريا والتي جاء في بندها الأول: آمنت بالله رباً، وبالإسلام ديناً وبالقرآن إماماً وبالكعبة قبلةً وبمحمد نبياً ورسولاً وشمال إفريقيا وطناً واحداً لا يتجزأ- أما البند العاشر فيقول: وطننا شمال إفريقيا جزء لا يتجزأ من جسم الشرق العربي نفرح لفرحه ونتألم لآلامه ونتحرك لتحركه ونسكن لسكونه تربطنا به إلى الأبد روابط اللغة والعروبة والإسلام انظر في هذا الموضوع كتابنا المثقفون الجزائريون والثورة، ص: 36 وما بعدها).‏
            (23) انظر الفصل الخامس.‏
            (24) أهم هذه المنظمات كانت: CGT أو الكونفدرالية العامة للعمال التي كانت مرتبطة عضوياً بالحزب الشيوعي الفرنسي، ثم CFTC أو الكونفدرالية الفرنسية للعمال المسيحيين وكانت تابعة للحركة الجمهورية الشعبية، ثم OF أو القوة العمالية وكانت تابعة للفرع الفرنسي اللممية العمالية وهي التسمية القديمة للاشتراكي الفرنسي، ثم CFDT أو الكونفدرالية الفرنسية الديمقراطية للعمل.‏
            (25) حدثني الرئيس ابن خدة في الموضوع وقال لي أنه اشتغل في بيت النقابي بوعلام بوروبية ليلة كاملة مع عبان رمضان، عيسات إيدير لوضع القانون الأساسي للاتحاد وإعداد كل عناصر الملف القانونية.‏
            (26) كان عاملاً بالورشات الصناعية للطيران ثم موظفاً بصندوق المنح العائلية لقطاع البناء وفي نفس الوقت كان عضواً باللجنة المركزية لحركة الانتصار للحريات الديمقراطية ومسؤولاً عن اللجنة العمالية التابعة للحزب. ألقي عليه القبض بأمر من ميتران نفسه يوم 5 نوفمبر وأطلق سراحه في ديسمبر 1954 ليلقي عليه القبض من جديد أثناء انعقاد مؤتمر وادي الصومام الذي عينه عضواً بلجنة التنسيق والتنفيذ. ولما وصل نبأ اعتقاله استبدل بالسيد ابن يوسف بن خدة. قامت السلطات الاستعمارية بإخراجه من المحتشد واغتالته سنة 1958.‏
            (27) هو التنظيم النقابي الذي أسسته الحركة الوطنية الجزائرية يوم 6 فيفري 956 والذي سوف لن يصمد أمام الاتحاد العام للعمال الجزائريين.‏
            (28) لقد كان هذا الاتحاد تابعاً للحزب الشيوعي الجزائري وحل نفسه في نوفمبر 957 ثم دعا أعضاء الالتحاق بالاتحاد النقابي للعمال الجزائريين دون الاتحاد العام للعمال الجزائريين.‏
            (29) المجاهد اللسان المركزي لجبهة التحرير الوطني، العدد 15، ص:257.‏
            (30) نذكر خاصة التربص الذي دام ثلاثة أشهر في بلجيكا والذي تضمنته الكونفدرالية العمالية للنقابات الحرة من 20 سبتمبر إلى 30 ديسمبر 1957 لفائدة نقابات شمال إفريقيا.‏
            (31) المجاهد، العدد 19 ص: 358.‏
            (32) نفس المصدر، العدد 16: 277.‏
            (33) نفس المصدر، العدد 28: 268.‏
            (34) نفس المصدر، العدد 21: 403 وعليها تصريح مطول للأمين العام المساعد السيد: ابن غازي الشيخ.‏
            (35) انعقد المؤتمر التأسيسي بباريس في الفترة ما بين 8 و 14 جويلية سنة 1955.‏
            (36) تم اعتقال زدور في وهران يوم 6/12/1955، بينما اعتقل عمارة رشيد في الجزائر العاصمة يوم 7/12/1955.‏
            (37) صدر المنشور ووزع على وسائل الإعلام بتاريخ 15/12/1955.‏
            (38) كان في ذلك الوقت هو السيد أحمد طالب الإبراهيمي نجل الشيخ البشير الإبراهيمي الذي أصبح في الثمانينات وزير خارجية الجزائر.‏
            (39) وقع التصريح يوم 20 جانفي 1956 بمناسبة إعلان قيادة الاتحاد عن تنظيم أسبوعين للتضامن مع المعتقلين على أن يكون اليوم الأول وهو يوم الإعلان عن القرار يوم توقف عن الدروس وعن الطعام.‏
            (40) المجاهد، العدد 18 ص: 333.‏
            (41) المجاهد، العدد 11: ص160.‏
            (42) المجاهد، العدد 18: ص333.‏
            (43) أما السيد تنكه Tanaka) مندوب الاتحاد العالمي للطلبة فإنه احتجز لمدة ساعات في مكاتب الاستعلامات الفرنسية، وأما السيد كليم مور Cliem Moore) المندوب الدائم في أوربا للاتحاد العام لطلبة الأمريكية فإنه طرد من التراب الفرنسي بسبب كلمته التي جاء فيها: "إن الحرية لا تتجزأ، وإن الطلبة الأمريكان قد فهموا حقيقة الاستعمار الفرنسي. وكما انهزم العذريون في مدينة ليتل روك، فإن المستعمرين الفرنسيين مضطرون للاعتراف باستقلال الجزائر". علماً بأن ليتل روك هي عاصمة الأركانزاس التي عرفت في تلك السنة أحداثاً خطيرة نتيجة المعارضة السياسية الاندماجية.‏
            (44) المجاهد، العدد11، ص158.‏
            (45) في مقدمة المعتقلين كان رئيس الاتحاد السيد عباس التركي.‏
            (46) مدينة تقع بولاية المدينة على بعد حوالي 100 كلم جنوب العاصمة في طريق الجلفة والأغواط.‏
            (47) وقع تأسيس هذه الهيئات العربية في بيروت سنة 1952، وكان من أهدافها المستعجلة إنشاء سوق عربية مشتركة لمواجهة ما قد يترتب عن إنشاء السوق الأوربية المشتركة.‏
            (48) انظر الملحق رقم 8.‏
            (49) حربي، جبهة التحرير الوطني، ص212‏
            (50) كانت بالإجماع المصادقة وتغيب فرنسا وجنوب إفريقيا عن التصويت وجاء في هذه اللائحة: أن الأمم المتحدة تسجل بارتياح الوساطة التونسية المغربية وتدعو إلى مفاوضات مباشرة.‏
            (51) بدأت الاتصالات بين جبهة التحرير الوطني وحكومة في مولي ببلغراد عاصمة يوغسلافيا في نهاية شهر جويلية سنة 1956 ثم استمرت بروما في شهر سبتمبر من نفس السنة. وقد كان يمثل جبهة التحرير الوطني في كل هذه اللقاءات وإلى غاية يوم 5 سبتمبر: السيد محمد خيضر مرفوقاً بالسيدين محمد يزيد وكيوان. أما الجانب الفرنسي فكان يمثله السيدان: بيار كومين وبيار هاربو وكلاهما أمين عام مساعد للفرع الفرنسي للدولة العمالية التي كان مولي نفسه هو أمينها العام. وأما آخر لقاء بين الطرفين فقد كان في بلغراد بتاريخ 22/9/1956 وكان رئيس وفد جبهة التحرير الوطني هو الدكتور محمد الأمين دباغين وفي جويلية سنة 1957 استؤنفت هذه الاتصالات عن طريق الآنسة جرمان تبون رئيسة دوان السيد جاك ستيل.‏
            (52) من مواليد واشنطن سنة 1888 وقد توفي بها سنة 1959 كان محامياً وسياسي، عينه الرئيس إيزنهاور كاتباً للدولة سنة 1952.‏
            (53) انظر المجاهد، اللسان المركزي لجبهة التحرير الوطني، العدد 18 الصادر بتاريخ 15/2/1958. ص:3 وما بعدها.‏
            (54) تلقى مجلس الأمن الرسالة لكنه أهملها ولم يتخذ أي إجراء من شأنه المساعدة على تسوية القضية الجزائرية.‏
            (55) لقد درست اللجنة العامة هذا الطلب لكنها رفضت إدراج القضية في جدول أعمال الدورة العاشرة، وعلى الرغم من ذلك فإن الجمعية العامة تجاوزت قرار لجنتها وشرع الأعضاء في مناقشة المشكل الجزائري، ثم تدخلت أطراف متعددة في مقدمتها أمريكا وبريطانيا وسحب الموضوع ترضية لفرنسا.‏
            (56) بعد البحث والدراسة الوافية للموضوع صادقت الجمعية العامة على لائحة تعرب فيها عن أملها في أن تحل القضية الجزائرية حلاً ديمقراطياً وعادلاً يتماشى مع قرارات الأمم المتحدة.‏
            (57) قرر المؤتمر أن يكون يوم 30 مارس من كل سنة هو يوم التضامن مع الشعب الجزائري وأوصى بأن يعمل كل بلد على:‏
            -تأسيس اللجان الوطنية من أجل تحرير الجزائر بواسطة جمع الأموال والأدوية والأغذية‏
            -توجيه نداء إلى شعوب العالم كله من أجل مساعدة الجزائر بجميع الوسائل‏
            - توجيه نداء إلى جميع الحكومات الآفرو آسيوية قصد تذكيرها بضرورة الدفاع عن القضية الجزائرية أمام سائر الهيئات الدولية.‏

            إذا الشعب يوما أراد الحياة
            فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
            و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
            و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

            تعليق


            • #7
              رد: تاريخ الجزائر المعاصر (1954-1962).الجزء الثاني

              - في اتجاه الحلف الأطلسي:
              تنص المادة الرابعة من ميثاق الحلف الأطلسي على أن المنظمة "تجتمع كلما بدا لواحد من أطرافها أن سلامة ترابه الوطني واستقلاله السياسي أو أمنه مهدد". ولقد تمكنت فرنسا أثناء وضع الميثاق المذكور سنة تسع وأربعين وتسعمائة وألف من أن تجعل المادة السادسة تنص بصريح العبارة على أن الاعتداء على الجزائر يعتبر اعتداء على فرنسا. ولقد استغل بعض السياسيين والبرلمانيين الفرنسيين وجود هذين النصين فراحوا يدفعون حكومتهم إلى المطالبة بتدخل الحلف مباشرة لخنق أنفاس الثورة في الجزائر.‏
              وكان أعضاء المنظمة يعرفون حقيقة ما يجري في الجزائر، ويدركون أنه يتنافى مع روح المادة السابقة من ميثاقهم التي تمنع المساس بالحقوق المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة وفي مقدمتها حق الشعوب في تقرير مصيرها، لكنهم، رغم ذلك، كانوا متعاطفين مع فرنسا بسبب ما يجمع بينهم من منطلقات استعمارية وإمبريالية، ولقد جاء التعاطف المذكور مجسداً في مواقف كل من أمريكا وبريطانيا على مستوى مجلس الأمن وكذلك في غض الطرف عن تحويل فرنسا لقواتها العسكرية من قواعد الحلف الأطلسي إلى داخل التراب الجزائري وهي محملة بأرقى ما أنتجته المصانع الحربية في الولايات المتحدة الأمريكية وفي إنكلترا.‏
              فأمام هذا الوضع المتحيز الصارخ، قرر المجلس الوطني للثورة الجزائرية تعبئة أقصى ما في حوزة جبهة التحرير الوطني من إمكانيات من أجل النفاذ إلى مختلف مستويات القرار في البلاد الغربية عامة وفي أمريكا وبريطانيا على وجه الخصوص، وبفضل تحركات الكتلة الآفرو آسيوية وبعض مواقف المعسكر الاشتراكي، استطاعت القضية الجزائرية أن تفرض نفسها على الساحة الدولية وبالتدريج أصبحت الشعوب الغربية نفسها تتحدى حكومة فرنسا وتعلن عن مواقفها المساندة لكفاح الشعب الجزائري بقيادة جبهة التحرير الوطني(1) .‏
              خلاصة الفصل:‏
              هكذا، إذن، يتضح من خلال هذا الفصل أن جبهة التحرير الوطني حاولت بالتوجيهات الرئيسية الواردة في مشروع المجتمع الذي تضمنته وثيقة وادي الصومام، وعلى الرغم من الصعوبات التي ظهرت في الميدان بالنسبة لجناحيها السياسي والعسكري، وعلى الرغم من أن فرنسا ألقت بكل ثقلها المادي والبشري في ميدان المعركة، فإن الثورة قد تجذرت في أوساط الجماهير الشعبية التي اطمأنت للتنظيم المحكم وللانتصارات الكثيرة والمتنوعة التي اطمأنت لم يعد قادراً على إخفائها.‏
              وأمام ذلك الوضع الجديد، ونظراً لقرار وادي الصومام المتعلق بإمكانية إسناد المناصب القيادية العليا إلى الإطارات القادمة من التشكيلات السياسية التي لم تكن تؤمن بضرورة انتهاج الكفاح المسلح كطريقة وحيدة لاسترجاع السيادة المغتصبة ونظراً، كذلك، للتكوين العالي والخبرة الواسعة التي كان يتمتع بها هؤلاء الإطارات بالمقارنة مع نظرائهم المكونين في صفوف حركة الانتصار للحريات الديمقراطية، فإن نوعاً من الانحراف قد بدأ يتسرب إلى المنطلقات الأيديولوجية نفسها(2) ، وساعد على ذلك ظهور التنافس على المسؤولية في أعلى هرم السلطة بالإضافة إلى تمكن الثقافة الغربية من ذهنيات عدد كبير من المسؤوليين القياديين في جبهة التحرير الوطني في الخارج لأن الداخل سيظل سليم التوجه بفعل تأثير القواعد التي لا يمكن أن ترضى بأي بديل عن عروبتها وإسلامها.‏
              وبالفعل، فإن أدبيات جبهة التحرير الوطني التي كانت تنشر على أعمدة لسانها المركزي أو في شكل منشورات وكتيبات قد تتلون بألوان مختلفة وتجندت جهتان على الأقل للتأثير في أيديولوجية الثورة الجزائرية، فمن ناحية، هناك ما يسمى بالتيار التحرري في فرنسا، فأصحاب هذا التيار هم الذين أطلقوا على أنفسهم هذه التسمية لإيهام الوطنيين الجزائريين والرأي العام العالمي بأن ثمة، في صفوف الشعب الفرنسي، من يرفض الاستعمار ويناهض ممارساته اللاإنسانية ولذلك فهم يساندون الكفاح الذي يخوضه الشعب الجزائري في سبيل استرجاع استقلاله الوطني، وفي الواقع فإنهم إنما يخططون لمستقبل بلادهم بواسطة العمل بجميع الوسائل على احتواء العناصر الأكثر تأثيراً في قيادات الثورة وجعلهم ينبهرون أمام شعارات جوفاء مثل الديمقراطية واللائكية والمبادئ الجمهورية وحقوق الإنسان وغيرها مما هو مستنبط من التاريخ الأوربي ولا علاقة له بالمجتمع العربي الإسلامي في الجزائر.‏
              أما الجهة الثانية فتتمثل في المعسكر الاشتراكي بزعامة الاتحاد السوفياتي الذي أدرك أن الحزب الشيوعي الجزائري قد أخفق في أن يجد لنفسه مكانة محترمة في قيادة الثورة فراح يجند الديمقراطيات الشعبية التي تدور في فلكه لمواجهة التوسع الرأسمالي في المنطقة.‏
              لقد كان من المفروض، في نظر الاتحاد السوفياتي، أن يكون الحزب الشيوعي الجزائري هو قائد الثورة أو، على الأقل، هو طليعتها التي بيدها التخطيط والتوجيه. لكن الحزب الشيوعي الجزائري عجز عن الإلتحام بالجماهير الشعبية وربح ثقتها وذلك بسبب الفكر الماركسي الذي ينطلق منه والذي يتنافى، في كثير من المواطن، مع الدين الإسلامي الذي هو دين الشعب الجزائري من جهة، وبسبب تبعية الشيوعيين الجزائريين للحزب الشيوعي الفرنسي الذي ينكر وجود الأمة الجزائرية بمفهومها الوطني ويرفض، عن قناعة، استقلال الجزائر عن الإمبراطورية الفرنسية(3) .‏

              لأن تحرك هذين التيارين من أجل النفاذ بقوة في أوساط الثورة الجزائرية بالخارج قد ولد بالتدريج مجموعة من المصطلحات والمفاهيم الغربية التي سوف تكون منطلقاً لكثير من الغموض الذي سيجعل الانحراف يبلغ أوجه في مؤتمر طرابلس سنة اثنين وستين وتسعمائة وألف. ومن جملة تلك المصطلحات والمفاهيم التي انتشرت بسرعة كبيرة كان لها مفعول سيئ على مسار الثورة نذكر على سبيل المثال: الباءات الثلاثة، العسكريون، المحافظون، المعتدلون، التقدميون، المتشددون الرجعيون العرب والقبائل(4) .‏
              ومما لا شك فيه أن تداول هذه المصطلحات وهذه المفاهيم المزيفة في وسائل الإعلام الفرنسية والغربية بصفة عامة قد رسخها في الأذهان وجعلها، شيئاً فشيئاً، تتحول إلى نوع من المعتقدات التي نخرت جسم الثورة وساعدت على تشتيت قواها الحقيقية بالإضافة إلى فتح أبواب واسعة أمام جحافل المخترقين من الأعداء والانتهازيين. لكن أول خطوة في طريق الانحراف الأيديولوجي القاتل تبقى هي إلغاء مبدأ العمل الجماعي من طرف أقوى عناصر لجنة التنسيق والتنفيذ عندما قرروا ثم نفذوا إعدام رفيقهم الشهيد عبان رمضان دون محاكمة وسبب معلوم وخاصة دون الرجوع إلى المجلس الوطني للثورة الجزائرية الذي هو وحده مؤهل للنظر في مثل هذه القضية. ولم تبق هذه الخطوة يتيمة بل تكررت بالنسبة لقرارين حاسمين في تاريخ الكفاح المسلح وهما: نقل الحرب إلى فرنسا وتأسيس الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية(5) .‏
              إن الأمر هنا، لا يتعلق بتقييم القرارين في حدهما إيجابيان ومفيدان للثورة ما في ذلك شك، وقد أثبت التاريخ ذلك، ولكن الطريقة المستعملة في اتخاذهما تشكل انتهاكاً صارخاً لصلاحيات المجلس الوطني للثورة الجزائرية، وسوف تتحول بالتدريج إلى قاعدة يلجأ إليها الأقوى كلما أراد الانفراد بالسلطة. وعندما نرجع الأمور إلى حقيقتها نقول بكل بساطة، إن الذين استعملوا هذه الطريقة أول مرة(6) هم الذين فتحوا باب الانقلابات العسكرية في تاريخ الثورة الجزائرية وقد كانوا هم أنفسهم ضحية لها سنة اثنين وستين وتسعمائة وألف..‏
              (1) تجلت هذه المواقف خاصة في نشاط الصليب الأحمر العالمي والحركات النقابية، وأهم ما تجدر الإشارة إليه نداء اتحادية نقابة العمال.‏
              (2) مثل التخلي بالتدريج، عن الإطار الإسلامي والعروبي الذي كان حزب الشعب الجزائري قد ضبطه وظل ملتزماً به لبناء الدولة الجزائرية المستقلة، ومثل اللجوء إلى بعض المصطلحات والمفاهيم المركزية التي سوف نتعرض لها بالتفصيل في الباب التالي، ومثل عدم السهر على تكوين إطارات جبهة وجيش وطني طبقاً لما تقتضيه أيديولوجية الحركة المصالية التي سبقت الإشارة إليها في الفصل الثالث.‏
              (3) thorez Maurice) textes choisis sur l,algerie, paris‏
              هناك نصان على الأقل يوضحان الموقف الشيوعي من جبهة التحرير الوطني ومن استرجاع الجزائر استقلالها. ففي الأول موريس توريز: إن الوسائل التي تستعملها جبهة التحرير الوطني في فرنسا لا تخدم قضية الشعب الجزائري، و إذا كانت جبهة التحرير الوطني تهدف إلى تثوير الرأي العام، فإنها قد أخطأت في الحساب لأنها إنما تثير العداوة ضدها"، توزير إلى الشيوعيين وأنصارهم ليقولوا "لا" للسؤال المطروح بواسطة استفتاء يوم 8/1/1961 والذي يقول: "هل توافقون على مشروع القانون المتعلق بتقرير الشعب الجزائري لمصيره: انظر كذلك اليتسر هورن تاريخ حرب الجزائر، ص. 333 وص.450.‏
              (4) لقد سبقت الإشارة إلى هذه المصطلحات والمفاهيم الزائفة في هذا الفصل.‏
              (5) اتخذ هذان القرارن أثناء اجتماع لجنة التنسيق والتنفيذ بتاريخ 9/9/1958.‏
              (6) هم الباءات الثلاث أو: ابن طبال لخضر المدعو سي عبد الله، بلقاسم كريم وعبد الحفيظ بو الصوف.‏
              إذا الشعب يوما أراد الحياة
              فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
              و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
              و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

              تعليق


              • #8
                رد: تاريخ الجزائر المعاصر (1954-1962).الجزء الثاني

                الباب الثالث التحولات الفكرية الكبرى الفصل الأول
                الإثراء الثالث لنصوص جبهة التحرير الوطني‏
                - الضباط الجزائريون القادمون من الجيش الاستعماري‏
                - مناورات الجنرال ديغول وحق الشعب الجزائري في تقرير مصيره بنفسه.‏
                - المجلس الوطني للثورة الجزائرية في دورته الثانية.‏
                - الضباط الجزائريون القادمون من الجيش الاستعماري‏
                خط موريس من أخطاء تجسدت، بالتدريج، في منع الإمدادات المادية والبشرية من الوصول إلى داخل الوطن حيث أصبحت كل الولايات في حاجة ماسة إليها نظراً للعمليات المكثفة(1) التي جند لها الجنرال شارل أكثر من نصف مليون جندي لتمشيط الجزائر من الغرب إلى الشرق.‏
                فهذان المبرران هما اللذان جعلا كريم يفصل لصالح أولئك الضباط في صراعهم مع خصومهم المشار إليهم أعلاه، وقد عبر في تحيزه لهم بواسطة تعيين الرائد مولود ايدير(2) رئيساً لديوانه العسكري وتكليفه بإعداد مشروع بناء نظامي على الحدود يتولى الإشراف عليه الضباط الجزائريون المكونون في صفوف الجيش الإستعماري.‏
                وعلى الرغم من أن الرائد مولود إيدير قدم مشروعه(3) إلى لجنة التنسيق والتنفيذ بتاريخ التاسع عشر من تاريخ جويلية سنة ثمان وخمسين وتسعمائة وألف، فإن كريم بلقاسم لم يتمكن من تمريره وجعله يحظى بالموافقة الجماعية، بل أن ضباط جيش التحرير الوطني قد وجدوا في ذلك عاملاً أساسياً للتضامن والتوحد اللذين مكنا في إجهاض المشروع وسدّ طريق المسؤولية الحقيقية في وجه الضباط القادمين من الجيش الفرنسي(4) وسوف يظل هذا الخلاف قائماً إلى أن يقع الإنقلاب التاسع عشر من شهر جوان سنة خمس وستين وتسعمائة وألف ويقوم العقيد هواري بومدين بترجيح كفة هؤلاء الأخيرين وتمكينهم من السلطة الفعلية التي ستساعدهم بالتدريج على تصفية الإطارات الذين قامت الثورة على أكتافهم(5) .‏
                ولقد كان الفصل في الموضوع بالكيفية التي لجأ إليها بلقاسم كريم. قد أفقد هذا الأخير سمعته الطيبة التي يتمتع بها في أوساط مختلف ولايات الوطن بالإضافة إلى أنه حول معظم ضباط جيش التحرير الوطني على الحدود الشرقية والغربية إلى خصوم صاروا يعملون بكل الوسائل على طرده ومن معه من القيادة العليا ودخلت الثورة في الأراضي التونسية خاصة مرحلة حرجة تميزت بالفوضى وعدم الإنضباط وبالاستعداد الفعلي للإنقلاب لكن الباءات الثلاث، وفي جو من التضامن بينهم، سبقوا الأحداث فتمردوا على المجلس الوطني للثورة وأعلنوا، باسم لجنة التنسيق والتنفيذ، عن ميلاد الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية كما أشرنا إلى ذلك في الفصل السابق.‏
                وعلى الرغم من تمكن الباءات الثلاث من إجهاض المحاولة التصحيحية التي قام بها كل من العقداء محمد(6) لعموري ومصطفى لكحل، فإن قيادات الداخل قد عقدت ندوة بأراضي الولاية استمرت من اليوم السادس إلى اليوم الثاني عشر من شهر ديسمبر سنة ثمان وخمسين وتسعمائة وألف(7) وصادقت على محضر جلساتها ثم أرسلته إلى الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية بواسطة الرائد عمر أو صديق(8) .‏
                ومن الجدير بالذكر أن هذا المحضر قد تضمن نقداً لاذعاً للطريقة التي تم بها تأسيس الحكومة، واشتمل على توبيخ للقيادة على تقاعسها وتهاونها بالنسبة لعملية التسليح التي توقفت نهائياً بسبب خطي موريس وشال. وورد في المحضر، دعوة إلى العودة للمبادئ التي وضعها مؤتمر وادي الصومام وخاصة منها أولوية الداخل على الخارج والقيادة الجماعية. وفي النهاية أعلن الحاضرون عن تأسيس لجنة التنسيق فيما بين الولايات لأن الثورة لا يمكن تسيّرها بقيادة أركان مقرها خارج الحدود)(9) .‏
                ففي الثاني عشر من شهر مارس سنة تسع وخمسين وتسعمائة وألف تسلمت الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية المحضر المذكور واستمعت إلى شروح وافية في الموضوع قدمها كاتب الدولة الرائد عمر أو صديق(10) . بعد ذلك بدأت المهمات في إتجاه عواصم الوطن العربي وآسيا وبعض البلدان الأوربية(11) . وفي التاسع والعشرين من شهر جوان عادت كل الوفود إلى القاهرة حيث اجتمعت الحكومة برئاسة السيد فرحات عباس، وفي أثناء الإجتماع وقع إصطدام حاد بين العقيدين كريم ومحمود شريف(12) كاد أن يقود إلى استعمال الأسلحة ثم رفعت الجلسة وتقرر إستدعاء المجالس التي أصبحت تعرقل حسن سير الثورة.‏
                مناورات الجنرال ديغول وحق الشعب الجزائري‏
                في تقرير المصير:‏
                لقد مرت الثورة الجزائرية بمرحلة حرجة خلال سنة ثمان وخمسين وتسعمائة وألف، وبدأ ذلك بالإعتداء على مبادئ التسيير التي وضعها مؤتمر وادي الصومام وخاصة مبدأ القيادة الجماعية عندما قرر ثلاثة من أعضاء لجنة التنسيق والتنفيذ إعدام رفيق لهم دون، الرجوع إلى باقي أعضاء اللجنة ودون تقديم أي مبرر غير الجري وراء السلطة.‏
                إن إغتيال عبان رمضان في شهر ديسمبر عام 1957 قد تسبب في تجميد نشاط لجنة التنسيق و التنفيذ لمدة تزيد عن ثلاثة أشهر، وفي زرع بذور الشك في أذهان مختلف العناصر القيادية إلى درجة أن الثقة المتبادلة اختفت نهائياً. وقد إنعكس ذلك سلباً على سائر نشاطات جبهة التحرير الوطني و جعل معظم الطاقات تتصرف إلى الإحتراس من الآخر والتفنن في إيجاد وسائل الأمن الفردية، وفي نفس الوقت كانت السلطات الاستعمارية تقيم حاجز موريس(13) وتعمل على دعمه بخط شال.‏
                وإبتداء من الفصل الأول لسنة ثمان وخمسين وتسعمائة وألف أصبح الحاجز مستحيل الإجتياز إلا إذا وافقت وحدات جيش التحرير الوطني على ترك ثلاثة أرباعها في الميدان مقابل ربع قد يصل إلى الأراضي الجزائرية، ورغم كل ذلك فإن السيد كريم بلقاسم ظل يوهم القيادة بأن الأسلاك المكهربة لا تشكل صعوبة تذكر في وجه قواتنا المقاتلة.(14)
                لكن ذلك لم يكن هو رأي مسؤول التسليح العقيد وأعمران الذي وجه إلى لجنة التنسيق والتنفيذ تقريراً يحمل تاريخ الثامن من شهر جويلية سنة ثمان وخمسين وتسعمائة وألف جاء فيه: "أن جيش التحرير الوطني الذي بلغ أوجه قوته من حيث العدد والسلاح يصاب حالياً بخسائر فادحة، إذ فقد في ظرف شهرين فقط أكثر من ستة آلاف مجاهد في منطقة عنابة وحدها. وإذا كنا في العام الماضي قد أوصلنا إلى الداخل أسلحة كثيرة، فإن تجديدها وتزويدها بالذخيرة قد أصبح الآن صعباً جدّاً بسبب الأسلاك المكهربة وما تتضمنه فجواتها من حقول الألغام"(15) .‏
                وإلى جانب خط موريس كانت هناك الظاهرة الديغولية التي عم مفعولها البسيكولوجي مختلف أنحاء الجزائر ابتداءً من الثالث عشر من ماي سنة ثمان وخمسين وتسعمائة وألف. فالدعاية الإستعمارية إستطاعت في ظرف قصير جداً أن تثبت في أذهان المواطنين الجزائريين عظمة الجنرال ديغول وقدرته على تسوية المشكل الجزائري واستعداده لتحقيق السلم في ربوع البلاد، ولم ينجوا من تأثير هذه الغاية حتى بعض كبار المسؤولين في جبهة التحرير الوطني وفي التنسيق والتنفيذ بالذات(16) .‏
                إن الجنرال ديغول يعدّ من أعظم الرؤوساء الذين عرفتهم فرنسا، ما في ذلك شك، و عظمته هي بالضبط ما يكذب الدعاية الاستعمارية المذكورة، وقد أورد هو نفسه في مذكراته ما يدعم قولنا هذا عندما توقف طويلاً عند المسألة الجزائية مؤكداً رجالاً تاريخيين أمثال دويرمون(17) وبيجو(18) وكلوزيل(19) وهم الذين بذلوا جهوداً جبارة من أجل إلحاق الجزائر بفرنسا. وليس من المعقول أن تضيع هذه المستعمرة في عهد حكومتنا))(20) . لأجل ذلك فإنه فكر وقدر ثم وضع بنفسه خطة للقضاء على الثورة ترتكز على دعائم أساسية هي:‏
                أ- التنمية الإقتصادية قصد تشغيل المواطنين وعزلهم عن جبهة التحرير الوطني وقد وظف لذلك أرصدة مالية كبيرة في إطار مايسمى بمشروع قسنطينة الذي أعلن عن ميلاده والشروع في تجسيده يوم الثالث من شهر أكتوبر سنة ثمان وخمسين وتسعمائة وألف.‏
                ب- إيهام الرأي الفرنسي والعالمي بالجنوح إلى السلم قصد الحد من الإنتصارات التي حققتها وتحققها جبهة التحرير الوطني في حظيرة الأمم المتحدة ولدى منظمات الجمهورية المختلفة.‏
                ففي هذا الإطار أعلن، في اليوم الرابع من أكتوبر من نفس السنة أنه يأمر العسكريين بمغادرة لجان السلامة العامة(21) وفي اليوم الثالث والعشرين من ذات الشهر عرض على جيش التحرير الوطني ما يسمى بسلام الشجعان.‏
                ج- إعادة تنظيم الجيش وتزويده بأحدث أنواع الأسلحة مع أمره بتكثيف العمليات العسكرية الهجومية، وبهذا الصدد استدعى الجنرال صالان إلى باريس واستبدله في اليوم الثاني من شهر ديسمبر بالجنرال شال كقائد عام للقوات المسلحة وبول دولوفريبي كمندوب عام لفرنسا في الجزائر.‏
                وإذا كان الجنرال ديغول في العلانية يبدي نفس الإهتمام بالدعائم الثلاث المذكورة، فإنه في الواقع، كان يراهن فقط على الدعامة الثالثة معتقداً أن الإستراتيجية الجديدة(22) التي بشربها الجنرال شال قادرة على إنهاء الثورة في أجل قريب.‏
                وبالفعل، لقد وضع تحت تصرف قائد القوات المسلحة الجديد إمكانيات ضخمة في المجالين المادي والبشري، ولمساعدته تم تعيين وترقية مجموعة من الجنرالات والعقداء الذين تخرجوا من المدارس العسكرية العليا أو الذين اكتسبوا في الميدان، خبرة واسعة في حرب الفيتنام وفي الجزائر نفسها(23) .‏
                ولم تكن استراتيجية شال مجرد حبر على ورق، بل أن كل المصادر تؤكد على أن كل العمليات العسكرية التي انطلقت مع بداية العام الجديد قد شكلت خطراً كبيراً على جبهة التحرير الوطني خاصة في الولايتين الثالثة والرابعة. أن هذه العمليات قد تواصلت إلى غاية عام ستين وتسعمائة وألف ملحقة اضراراً بالمدنيين وخسائر بجيش التحرير الوطني لم يعرف لها مثيل لا من قبل ولا من بعد(24) ، وهو الأمر الذي جعل فرحات عباس يقول في كتابه تشريح حرب)) إن الجزائر لم تعرف ثقل الحرب مثل ما عرفت ذلك في عهد الجنرال ديغول))(25) لكن، على الرغم من كل هذه الجهود، فإن الجنرال شال لم يحقق الإنتصارات العسكرية التي طلبها منه رئيس الدولة الفرنسية الذي اضطره الواقع إلى الحل المبني على التفاوض وهو الحل الذي شرع في تطبيقه منذ 16/05/1959 عندما صرح، باسم فرنسا، أنه يعترف للشعب الجزائري بحقه في تقرير مصيره.‏
                سياسة ديغول للقضاء على الثورة عسكرياً) وقبل ذلك، كان الجنرال ديغول، في اليوم السابع عشر من شهر أفريل، أي بعد المعركة التي استشهد فيها قائد الولاية الثالثة والولاية السادسة بحوالي أسبوعين فقط، قد وجه رسالة تهنئة إلى الجنرال شال جدد له فيها ثقته المطلقة في نجاح برنامجه الذي قال عنه إنه يستحق التهنئة الكاملة في الجزائر،(26) وزادت هذه التهاني من غرور الجنرال شال الذي أدلى بعدها بأيام فقط إلى جريدة لومند الفرنسية بحديث أكد فيه أنه "آخذ بزمام الأمور وأن الإنتصار العسكري لا شك فيه وهو قريب"(27) .‏
                ولم يلجأ الجنرال ديغول إلى تقرير المصير إلا عندما تأكد بنفسه من أن مخطط شال استهلك ولم يعد قادراً على التوصيل بسبب المقاومة غير المنتظرة التي أبدتها وحدات جيش التحرير الوطني التي عرفت كيف تتكيف مع الوضع الجديد من جهة(28) ونتيجة ظهور معارضة شديدة للمخطط المذكور في صفوف الضباط السامين في الجيش الفرنسي نفسه من جهة ثانية(29) فمن المعلوم أن شال أسس مخططه على النتائج المستخلصة من تجربة الجيش الاستعماري في الهند الصينية، محاولاً توظيف أساليب الحرب الثورية والدعاية النفسية التي طبقها القائد "هوشي منه" بعد أن اقتبسها من الزعيم الصيني "ماوتسي تونغ". لكنه لم يأخذ في الاعتبار شيئاً أساسياً هو أن تلك الأساليب الثورية والدعاية النفسية ما كانت لتنجح في تقويض أركان الاستعمار الفرنسي بالهند الصينية لولانبل الهدف المقصود وطبيعة التيار التحريري وتفاعل الشعب مع قيادته كلها عوامل لا يمكن للجنرال شال أن يتوفر عليها لإنجاز مخططه الذي لم يكن مصيره أحسن من مصير مخطط الجنرال نافار(30) في الهند الصينية.‏
                دوافع رضوخ ديغول للتفاوض مع G.P.R.A‏
                وفي مذكراته التي نشرت مطبوعة سنة سبعين وتسعمائة وألف، تعرض الجنرال ديغول إلى الأسباب الحقيقية التي جعلته يختار تقرير المصير كحل نهائي للمسألة الجزائرية فقال: "كما هي العادة، فإن الاتصال المباشر مع الناس في مواطن نشاطهم قد وضع في ذهني معطيات ما كانت جميع التقارير لتستطيع تبيانها، لقد تأكدت الآن أن الثورة قادرة وستبقى قادرة إلى ما نهاية على إبقاء المقاومة في المناطق خاصة وذلك بمساعدة السكان. ففي هذا الصدد لفتت انتباهي مجموعة من المؤشرات منها أنني، حينما حللت بالأرياف، فإن الفلاحين الذين يسوقهم العسكر للتحية، يقفون باحترام على حافتي الطريق لكنهم يفعلون ذلك في صمت رهيب. أما في تيزي وزو، مثلاً، حيث كثافة السكان لا تسمح للجيش بإجبار الناس على التجمع، فإنهم لم يأتوا للقائي رغم مكبرات الصوت التي كانت تعلن عن مقدمي، وفي قرية من قرى منطقة القبائل حاولت السلطات أن يكون الإستقبال نموذجياً، فحييت بحرارة عند مدخل البلدية واستمعت للأطفال ينشدون النشيد الوطني الفرنسي. لكن، عندما هممت بالخروج، تقدم مني كاتب البلدية المسلم منحنياً، مرتعشاً وقال لي: أيها الجنرال، لا تنخدعوا أن الجميع هنا يريدون الإستقلال، وفي مدينة سعيدة(31) حيث قدم لي البطل بيجار فرقة جورة "المكونة من الفلاقة المعتقلين والمستسلمين، وكان من بينهم طبيب عربي فسألته: "مارأيكم يا طبيب أجابني قائلاً وعيناه مغروقتان بالدموع: أن ما نريده، وما نحن بحاجة إليه هو أن نكون مسؤولين عن أنفسنا وأن لا يسأل عنا أحداً". إذن، أصبحت متأكداً أكثر من أي وقت مضى ورغم أننا نضيع الرجال والمال سدى في محاولتنا فرض الجزائر الفرنسية، وإن السلم لن يأتي إلا بمبادرات سياسية في اتجاه آخر وعلى فرنسا أن تفعل ذلك".‏
                * ومن جهة أخرى، استطعت أن تحقق من مواصلة حرب مستحيلة إلى ما لانهاية ستعرض جيشنا ومن خلال وحدتنا الوطنية إلى خطر، لأن طبيعة العمليات تؤدي حتماً إلى انقسام قواتنا".‏
                "لأجل ذلك، فإنني تعمدت مخاطبة الضباط المسؤولين عن العمليات قائلاً: إذا كان نجاح العمليات الجارية أساسي، فإن المشكل الجزائري لن يجد حله إلا إذا حصلنا على موافقة الجزائريين... وأن عهد الإدارة بواسطة الأوربيين قد انقضى... وإننا نواجه هذه الدراما في "الوقت الذي يتم فيه تحرير جميع الشعوب المستعمرة... أما أنتم، فاسمعوني جيداً إنكم لستم الجيش من أجل الجيش. إنكم جيش فرنسا. لا وجود لكم إلا بها ولها وأنتم في خدمتها. وإن المسؤولية التي أتقلدها لتوجب على الجيش طاعتي لتحيا فرنسا. وأني لمتأكد من أنكم تفعلون ذلك وباسم فرنسا فإنني أشكركم عليه"(32) .‏
                أن اعتراف فرنسا بحق الشعب الجزائري في تقرير مصيره بنفسه يعد إنتصاراً كبيراً بالنسبة لجبهة التحرير الوطني، لأنه يسحب ورقة أساسية من أيدي الديبلوماسية الفرنسية التي ما فتئت تشهر في وجه الجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة واقع الجزائر كجزء لا يتجزأ من الجمهورية الفرنسية، أما الآن وقد اعترف رئيس الدولة الفرنسية بتمايز الشعب الجزائري عن الشعب الفرنسي، فإن الأمر قد تغير، وسهلت مهمة الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية قصد تحقيق المزيد من الإنتصارات في المجال الديبلوماسي، بل أن طريق التفاوض قد أصبح مفتوحاً وخالياً من كل العراقيل.‏
                ولقد كان هذا هو رأي جبهة التحرير الوطني نفسها إذ في افتتاحية لسانها المركزي، العدد السادس والخمسين: "إن القضية التي حاربنا من أجلها خمس سنوات والتي سجلها أول بيان للثورة وهي قضية تقرير المصير قد حلت بموقفين متكاملين اتخذ أحدهما يوم 16 سبتمبر عندما أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، لأول مرة، عن اعتراف فرنسا بحق تقرير المصير للشعب الجزائري، واتخذ ثانيهما يوم 28 من نفس الشهر عندما أعلنت الحكومة الجزائرية قبولها لهذا المبدأ كأساس لتسوية المشكلة"(33) .‏
                لكن الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية كانت، في هذه الأثناء، تعاني أزمة السلطة والنفوذ نتيجة الأحداث التي سبق أن تعرضنا لها في بداية هذا الفصل وبسبب موقف، كريم بلقاسم الذي أصبح، أكثر من أي وقت مضى، يعمل على الإنفراد بالقيادة العليا شاهراً في وجه الجميع كونه الوحيد المتبقي طليقاً وعلى قيد الحياة من بين أعضاء القيادة التي أشعلت فتيل الثورة(34) ويذكر السيد فرحات عباس أن هذا الشعور بالتعالي الذي كان يحرك بلقاسم كريم قد قوبل بآخر لا يختلف عنه من طرف العقيدين بو الصوف وابن طوبال اللذين" لم يترددا في التذكر بأنهما شاركا في إجتماع الإثنين والعشرين عندما كان كريم ما يزال متعلقاً باهداب مصالي" وخوفاً من أن يشتد الصراع ويتحول إلى مالا يحمد عقباه يتحمل رئيس الحكومة.(35) مسؤولياته ووجه إستدعاء إلى مجلس الولايات للإجتماع من أجل الحلول اللازمة للمشاكل التي تراكمت ولكي تضع حداً للنزاعات الشخصية القائمة ليس بين الباءات الثلاثة فقط ولكن بينهم فرادى ومجتمعين وبين عدد آخر من الأعضاء الأساسين في القيادة(36) .‏
                وعندما ألقى الرئيس خطابه التاريخي في اليوم السادس عشر من شهر سبتمبر، كان بعض قادة الولايات قد وصلوا إلى تونس التي حددت كمرحلة أولى قبل الذهاب إلى طرابلس(37) ولم يكن بالإمكان تنقل مجالس الولايات لأسباب أمنية وعملية، ولذلك تم الإتفاق على أن تسند المهمة المحددة من طرف رئيس الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية إلى خمس عقداء الولايات بالإضافة إلى العقيدين المسؤولين عن قيادة الأركان والباءات الثلاث.(38)
                المجلس الوطني للثورة الجزائرية في دورته الثانية:‏
                كان الإجتماع ماراتونيا ومطبوعاً بكثير من الحدة والصراحة(39) ، أثيرت أثناءه جميع القضايا الأساسية مثل تمرير الأسلحة والذخيرة عبر خطي موريس وشال وضرورة دخول جيش الحدود وقيادته لتعزيز الولايات وكذلك رجوع القيادة العليا للثورة إلى أرض الوطن كما تقتضي ذلك المبادئ التنظيمية المنصوص عليها في وثيقة وادي الصومام. وعلى الرغم من أن أعضاء الحكومة كلهم في المجلس الوطني للثورة الجزائرية إلا أنه لم يسمح لهم بحضور الإجتماع الذي أعتبر عسكرياً بحتاً. ويذكر السيد فرحات عباس أن العقيد لطفي لم يرض، في بداية الأمر، حتى بمشاركة من يسمون بالباءات الثلاث(40) نظراً لكونهم طرف في النزاعات القائمة ولكونهم أعضاء في الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية.‏
                وبعد كثير من الأخذ والرد وتدخل العديد من الأوساط(41) لإصلاح ذات البين ولتقريب وجهات النظر، وبعد توقف الاجتماع مرات متعددة، توصل المجتمعون إلى الإتفاق على تركيبة جديدة للمجلس الوطني للثورة الجزائرية وحددوا له اليوم السادس عشر من شهر ديسمبر كبداية لأعماله في طرابلس.‏
                أستمع المجلس الوطني للثورة الجزائرية إلى البيانات المتعلقة بنشاط الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية ثم انصرف إلى بحث عميق ومستفيض للوضعية العسكرية، وأتخذ مجموعة من القرارات الرامية إلى جعل الأجهزة النظامية للثورة تتلاءم مع الأوضاع الجديدة كما أجري تعديلاً خفيفاً على تركيبة الحكومة وأوصى بتكوين لجنة وزارية، داخلها، تكون مسؤولة عن شؤون الحرب وتشرف مباشرة على هيئات الأركان(42) .‏
                ولئن كانت أشغال المجلس قد مكنت من التغلب على كل المشاكل الداخلية واتسمت بالحكمة التي ساعدت على تجاوز الحساسيات الشخصية وتحقيق المصالح بين سائر النزعات وإقناع السيد كريم على التخلي، بمحض إرادته، عن مشروعه الخاص بقيادة الثورة(43) ، فإن كل ذلك يبقى بسيطاً بالمقارنة مع الأهمية البالغة التي يكتسبها النصان الأساسيان اللذان تمت المصادقة عليهما بالإجماع واللذان يعتبران مكسباً إيديولوجياً جديداً(44) لقد وضع مشروع الوثيقتين من قبل لجنة ترأسها السيد ابن يوسف بن خده اشتغلت مدة أسبوعين بعضوية السادة عمر أو صديق(45) وفرانتز فانون أو عمر فانون كما كان يسمى نفسه) ومحمد الصديق بن يحيى وعبد الرزاق شنتوف، منطلقة من بيان أول نوفمبر ووثيقة وادي الصومام وموظفة التجربة الواسعة المكتسبة خلال خمس سنوات من ممارسة الكفاح المسلح والنضال السياسي والنشاط الديبلوماسي. (46)
                أما الوثيقة الأولى فتتعلق بمؤسسات الدولة الجزائرية أثناء فترة الكفاح المسلح وبعد استرجاع السيادة الوطنية، ولمن يقرأ بتمعن، فإنه لا يجد مفراً من التوقف عند مجموعة من الملاحظات يمكن حصر أهمها بالأتي:‏
                1- إن تراجعاً جوهرياً قد وقع بالنسبة لمفهوم الدولة الجزائرية التي تتعهد جبهة التحرير الوطني بإقامتها بعد وقف إطلاق النار واسترجاع الإستقلال الوطني للثورة الجزائرية قد صادق، من خلال الوثيقة المذكورة، على أن تكون الدولة الجزائرية ديمقراطية وإجتماعية وأن لا تكون مؤسساتها متناقضة مع المبادئ الإسلامية، أما بيان الفاتح من نوفمبر فيذكر بصريح العبارة إن إقامة الدولة الجزائرية الديمقراطية الإجتماعية ستكون "ضمن إطار المبادئ الإسلامية".‏
                من الواضح أن التعبيرين متناقضان ولا يمكن إيعاز ذلك إلى مجرد خطأ في الصياغة، عندما نعرف أن المجموعة التي أشرفت على التحرير مكونة، رغم قلة عددها، من أفضل ما في صفوف جبهة التحرير الوطني من فرسان القلم المسلم لها، في ذلك الوقت، بالقدرة الفائقة على ممارسة الكتابة باللغة الفرنسية، والمعروفين بكونهم الدماغ المفكر والمسؤول عملياً عن إعلام الثورة. وإذا كان جمهور المناضلين لا يعرفون عنهم سوى صفة الجهاد التي اكتسبوها بفضل مواقعهم في دواليب الثورة وبواسطة بعض السلوكات الفردية، فإن معظم المسؤولين السامين لم يكونوا يجهلون النزعة اليسارية والميولات الماركسية بالنسبة لأغلبيتهم، وكان من المفروض أن تكون هناك يقظة في إنشغال المؤتمرين بتسوية المشاكل الميدانية التي كانت تهدد الثورة بالإنفجار.‏
                ومما لا شك فيه أن تلك الغفلة أو تلك الثقة التي لم تكن في محلها قد أدت إلى تجسيد واحد من الإنحرافات الخطيرة التي ستكون أساساً للإنزلاقات التي سوف تقود بالتدريج إلى الخروج نهائياً عن الخط الأيديولوجي الذي سطرته جبهة التحرير الوطني ليلة الفاتح من نوفمبر.‏
                2- إن الوثيقة، قد أهملت، في عرضها للمبادئ الأساسية، التوقيف عند إبعاد الثورة المغربية والعربية والإسلامية طبقاً لما جاء في بيان أول نوفمبر، ومن أجل تجاوز النقص الذي تضمنته في المجال، وثيقة وادي الصومام والذي نددت به مجموعة كبيرة من أعضاء القيادة في مقدمتهم الرئيس أحمد بن بلة.‏
                هنا، أيضاً، نلحظ لمسات عمر أو صديق وفرانتز ومحمد الصديق بن يحيى الذين يرون أن مستقبل الجزائر لن يكون زاهراً في دائرة العروبة والإسلام التي تمثل، في نظرهم، بؤرة الرجعية والعصور المظلمة، وحتى المغرب العربي الذي ظل مركزاً إهتمامات الرواد من المناضلين، فإنه لا يؤمنون به إلا عندما نجرده من صفة العروبة ونحصره في إطار شمال إفريقيا الذي يربط بين أقطاره قاسم اللغة الفرنسية والثقافة الغربية اللتين أعتمد عليهما الاستعمار لتأييد حالة الإنسلاخ عن الذات الضرورية لديمومته.‏
                3- إن التطهير السياسي، في منظور جبهة التحرير الوطني، يعني إعادة الحركة الوطنية إلى نهجها الحقيقي بواسطة القضاء على مخلفات الفساد وروح الإصلاح التي تتناقض مع الروح الثورية وبواسطة إلغاء الروح الحزبية التي تقود فقط إلى التعصب وإلى تكريس التقسيم الذي يعمل الإستعمار على تحقيقه بجميع الوسائل. وبهذا المفهوم، فإن الجماعة المذكورة لا يمكن أن تكون راضية عن التطهير السياسي لأن الحزب الشيوعي الجزائري لا يعد من الحركة الوطنية نتيجة تبعية العضوية للحزب الشيوعي الفرنسي وانضوائه، إيديولوجياً، تحت لواء الشيوعية الأممية، هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فلأن الحزب الشيوعي الجزائري ظل دائماً يرفض حل نفسه لصالح جبهة التحرير الوطني، ويعتبر بقاءه كتنظيم سياسي مستقل مسألة أساسية مازال يدافع عنها إلى يومنا هذا(47) .‏
                إن هذه الملاحظات الثلاث تدل بما لا يدع أي مجال للشك على أن المباشرين لصياغة هذه الوثيقة لم يطبقوا توجيهات المجلس الوطني للثورة الجزائرية الذي ألزمهم بعدم الخروج عن الخطوط العريضة التي حددها نداء الفاتح من نوفمبر مع الأخذ في الإعتبار للتطورات التي عرفتها وتعرفها القضية الجزائرية في الداخل وفي الخارج. ويقول السيد ابن يوسف بن خده الذي سألناه في الموضوع(48) أنه لم ينتبه في حين إلى "هذه الأخطاء الفادحة "لأنه كان يعرف كفاءة أعضاء اللجنة ويعتقد أنهم تخلوا عن معتقداتهم الأيديولوجية بعد إلتحاقهم طوعاً بجبهة التحرير الوطني ولأنه هو الأهم في نظره كان مركزاً كل طاقاته الفكرية وموظفاً جميع إمكانياته المادية والأدبية من أجل إقناع أعضاء المجلس بضرورة تبني إقتراحه القاضي بحتمية رجوع القيادة العليا للثورة إلى أرض الوطن وهو الإقتراح الذي لم يتوقف عن الدفاع عنه منذ أكثر من ستة أشهر أي منذ الصراعات الشخصية على السلطة والتي بدأت تطغى على العمل في سبيل تطوير المعركة الوطنية وتوفير أسباب نجاحها.‏
                وأما الوثيقة الثانية فتتعلق بالقانون الأساسي لجبهة التحرير الوطني وهي مكونة من مدخل وثمانية فصول اشتملت على أربعين مادة ومن خلال القراءة الأولى يستطيع الباحث أن يستخرج مجموعة من الملاحظات أهمها.‏
                1- أن المشرفين على الصياغة قد اجتهدوا لبلورة الإنسجام بين الوثيقتين فيما يتعلق بمفهوم الدولة الجزائرية المنتظر إقامتها بعد إسترجاع الإستقلال الوطني. فهي طبقاً للمادة الثانية من القانون الأساسي "جمهورية ديمقراطية وإجتماعية لا تكون في تناقض مع المبادئ الإسلامية"(49) تماماً مثلما جاء التنصيص على ذلك في الوثيقة الأولى كما رأينا.‏
                2-إن المشرفين على الصياغة قد اضطروا لتكريس هذا الإنجراف في الوثيقتين إلى السكوت عن تثبيت مبدأ أساسي تألق بغيابه في الوثيقة الأولى وجاء في مدخل القانون الأساسي: "إن الجزائر جزء من المغرب العربي وهي تنتمي إلى الوطن العربي الذي تربطها به أربعة عشر قرناً من التاريخ والثقافة العربية الإسلامية وكذلك الكفاح ضد الظلم الإستعماري والامبريالية"(50) .‏
                ومن الجدير بالذكر أن هذا التعبير سيبقى كما هو ملازماً لجميع مواثيق الثورة الجزائرية إلى غاية أكتوبر سنة ثمان وثمانين وتسعمائة وألف.‏
                5- إن الوثيقة قد تضمنت، لأول مرة منذ إندلاع الثورة، تأكيداً بصريح العبارة على أن جبهة التحرير الوطني لا تكافح من أَجل إسترجاع الإستقلال الوطني فحسب بل أنها ستواصل مهمتها التاريخية بعد ذلك، كقائد ومنظم للأمة الجزائرية من أجل بناء الديمقراطية الحقة وتحقيق الإزدهار الإقتصادي والعدالة الاجتماعية"(51) إن هذا التنصيص الذي جاء ضمن المبادئ العامة يعتبر بداية القواعد الثابتة لما سيسمى فيما بعد بالمجتمع الاشتراكي، وسوف نرى أن المؤدلجين سوف لن يستقروا على صفة واحدة للديمقراطية(52) وذلك نظراً لعجزهم عن تبليغ مفهومها الصحيح للجماهير الشعبية الواسعة إن الوثيقة، ولأول مرة، أيضاً، لم تخف استعمال جبهة التحرير الوطني للأدبيات الماركسية. فالجماعية ومحاربة عبادة الشخصية ورفض الحكم الفردي كلها تجسدت في مبدأ المركزية الديمقراطية(53) الذي صارت جبهة التحرير الوطني تعتمد عليه في التسيير والتنظيم.‏
                وبالإضافة إلى هذين النصين، الذين حظيا بإجماع المشاركين في أشغال المجلس الوطني للثورة الجزائرية، فإن هذا الأخير قد أعاد النظر في تشكيل الحكومة للجمهورية الجزائرية وضبط الخطوط العريضة، لبرنامج عملها بالنسبة للفترة المقبلة.‏
                ففيما يتعلق بالحكومة رفض المجلس مشروع السيد بلقاسم كريم الرامي إلى إستبدالها بقيادة ثلاثية على غرار ماهو موجود في الإتحاد السوفياتي، ولم يكن الرفض وحده كافياً، بل أن أعضاء المجلس قد جددوا ثقتهم للرئيس فرحات عباس(54) وزحزحوا صاحب المشروع من وزارة الحربية بعد أن عبروا له عن لجنة مكونة من ثلاثة وزراء(55) على أن تتولى تسيير جيش التحرير الوطني بواسطة قيادة للأركان(56) تعينها الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية على هذا الأساس، فإن المجلس قد أثر وثيقة وادي الصومام التي نظمَّت جيش التحرير الوطني إلى غاية الولاية لكنها لم تزوده بقيادة عليا. ولم يبق إلا وضع هذه الوثيقة ولذلك، فإن العلاقة سرعان ما تدهورت بين قيادة الأركان واللجنة الوزارية.‏
                إن اللجنة الوزارية هي التي اقترحت، للتعيين، رئيس قيادة الأركان، وقد كان الباءات يعتقدون أن العقيد هواري بومدين المعروف بإنغلاقه على نفسه لن يخرج عن طاعتهم وسيكون مجرد منفذ لقراراتهم(57) أما أعضاء القيادة فقد روعيت في تعينهم مسألة التمثيل الجمهوري بحيث جاء الرائد أحمد قائد عن الغرب والرائد على منجلي عن الشرق والرائد رابح زراري "عز الدين" عن الوسط ولم يعين أحد عن الجنوب لأن الولاية السادسة لم تكن ممثلة على أعلى مستوى في جيش الحدود.‏
                وبمجرد التعيين والتنصيب تحركت قيادة الأركان لإعادة تنظيم الجيش على الحدود الشرقية والغربية، وكان أول إجراء لها إستدعاء الضباط القدامى وتسريح المعتقلين على إثر حركة العقيد محمد لعموري واستبعاد الضباط القادمين من الجيش الفرنسي عن الوحدات القتالية وقيادة الفيالق(58) . وحزت هذه التدابير في نفس الباءات الذين اعتبروا ذلك تحدياً لهم فلجأوا إلى المناورة واستصدروا من الحكومة أمراً لقيادة الأركان بالدخول إلى أرض الوطن للأشراف، هناك، على سير المعركة(59) .‏
                أما عن برنامج عمل الحكومة الذي ضبطه المجلس الوطني للثورة الجزائرية فيشتمل على مجموعة من النقاط أهمها مايلي:(60)
                - تكثيف العمليات العسكرية على الحدود الشرقية والغربية من أجل تخفيف الضغط على الولايات وتدويل الحرب، وبالموازات مع ذلك، أوصى المجلس بتصعيد العمل العسكري في فرنسا وباستهداف المؤسسات الإقتصادية الحساسة.‏
                - تخفيف الجهاز الإداري ووضع الإطارات المُسرّحة تحت تصرف جيش التحرير الوطني.‏
                - إنشاء لجنة للمحاسبة من أجل السهر على حسن سير مالية جبهة التحرير الوطني وعلى تطبيق توجيهات المجلس المتعلقة بالتقشف في مستوى المصالح الإدارية والديبلوماسية ورفع ميزانية التسيير بالنسبة للولايات.‏
                - العمل على تجسيد مبدأ تقرير المصير تحت رقابة الأمم المتحدة مع مواصلة المساعي من أجل إنجاح التفاوض مع فرنسا طبقاً لما جاء في نداء الفاتح من نوفمبر.‏
                - مواصلة العمل من أجل تحقيق الوحدة المغاربية وتجسيد التضامن الإفريقي وإقناع الصين والإتحاد السوفياتي بضرورة تقديم المعونة التقنية وإرسال المتطوعين لمساعدة جبهة التحرير الوطني على نسف خط موريس الذي صار يشكل سدادة منيعة يخشى أن تتحول إلى مخنقة لجيش التحرير الوطني في الداخل.‏
                (1) تعرف هذه العمليات إجمالاً بمخطط شال، وكانت في تفرعها تأخذ أسماء مختلفة مثل: اكلار البرق) وجيمال التوأمان) وقد استمرت من ديسمبر 1985 إلى فيفري 1960.‏
                (2) كان رائد في الجيش الفرنسي عندما التحق بجبهة التحرير الوطني وعين مسؤولاً عسكرياً عن الحدود الجزائرية الليبية ثم استدعاه كريم ليكون رئيساً لمكتبه العسكري سنة 1958. وعندما قوي جانب خصوم كريم عين سفيراً لدى الباكستان سنة 1960.‏
                (3) يحدد هذا المشروع رجال جيش التحرير بعدد 160000 جندي منهم 5000 ضابط و 16000 ضابط صف و 000و25 عريف، وفي جميع مستويات الجيش يطبق الإنضباط العسكري المعروف في صفوف الجيش الفرنسي. أما القادة المناضلون فيسرحون باعتبارهم ينطوون على بذور الفوضى.‏
                (4) حربي محمد) جبهة التحرير الوطني، ص 232و ما بعدها.‏
                (5) استطاع عبد القادر شابو الذي عينه بومدين أميناً عاماً لوزارة الدفاع أن يصفي صفوف الجيش الوطني الشعبي من ضباط جيش التحرير الوطني في ظرف خمس سنوات فقط وأسند كل مناصب الحل والربط لرفاقه القادمين من الجيش الفرنسي. لقاء مطول مع الرائد عبد المجيد كحل الرأس في بيته يوم 12/04/1972.‏
                (6) أنظر التفاصيل في الفصل السابق.‏
                (7) حضر هذه الندوة العقيد عميروش قائد الولاية الثالثة وهو صاحب الدعوة، والعقيد العبيدي الحاج لخضر قائد الولاية الأولى والعقيد أحمد بن عبد الرزاق، قائد الولاية السادسة، والعقيد بوقرة سي امحمد قائد الولاية الرابعة، حين لم يستجب للدعوة العقيد لطفي قائد الولاية الخامسة واعتذر عن المشاركة العقيد علي كافي قائد الولاية الثانية المستضيفة للندوة.‏
                (8) كان عضواً بمجلس الولاية الرابعة عندما تأسست الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية وعين بها كاتب للدولة.‏
                (9) فرحات عباس، تشريح حرب، الفجر، باريس 1980 ص: 256. يذكر الكاتب أن عمر أو صديق أسر له بأن عميروش عازم على أن لاتبقى في الخارج سوى مندوبية يسيرها شخص واحد هو فرحات عباس، أما في قيادة جبهة التحرير الوطني فإنهم سيجبرون على العودة إلى أرض الوطن وتسند القيادة العليا إلى ضباط برتبة جنرال قد يكون عميروش نفسه.‏
                (10) نفس المصدر، ص: 258، يذكر عباس أن عرض أو صديق أدخل الرعب على النفوس وحير قدماء قادة الولايات بإخبار مزعجة تتعلق بمخطط شارل وبعمليات التعذيب والتقتيل التي استهدفت إطارات الثورة خاصة في الولايتين الثالثة والرابعة نتيجة النشاط الذي قامت به مصالح الإستعملات الفرنسية.‏
                (11) بدأت هذه المهام بوفد رئاسي توجه إلى تونس يوم 22/03/59 ثم عاد إلى القاهرة ليقابل عبد الناصر قبل أن يتوجه إلى الهند والباكستان والعراق وغيرها من البلدان الشقيقة والصديقة وانتهت بزيارة يوغسلافيا حيث كان اللقاء مع المارشال تيتو يوم 12/02/1959.‏
                (12) فرحات عباس، تشريح حرب، ص 268 وما بعدها.‏
                (13) شرع في بناء خط موريس في شهر جوان 1957 وهو مزدوج من الأسلاك الشائكة المكهربة يمتد من البحر الشرقي في مدينة عنابة إلى قرية نقرين بوادي سوف على بعد حوالي عشرين كلم فقط من الأراضي التونسية ويهدف إلى سد المنافذ الجبلية المقابلة لقواعد جيش التحرير الوطني. وأما على الحدود الغربية فهو مقسم إلى شمالي بسد الأطلس التلي في مواجهة مدينة وجدة وجنوبي بسد الأطلس الصحراوي في مواجهة فقيق.‏
                (14) المجاهد، العدد 23 ص439 وما بعدها.‏
                (15) نجد تأكيداً لهذا التبرير في كتاب فليب تريبي: تشريح حرب الجزائر، ص 205 وما بعدها.‏
                (16) تشريح حرب، ص 241، يقول عباس فرحات: "من وجهة نظري فإن الجنرال كان قادراً على تسوية مشاكلنا إلا أنه لم يكن يمينياً ولا يسارياً، بل كان هو ضمير فرنسا.‏
                (17) من مواليد 1773. عين وزير للحربية الفرنسية سنة 1846 ثم قاد الحملة إلى الجزائر ووقع مع الداي وثيقة الإستسلام ورقي إلى رتبة مرشال فرنسا سنة 1832 وتوفي عام 1846 أنه لم يكن يمينياً ولا يسارياً بل هو ضمير فرنسا.‏
                (18) جنيرال فرنسي أرسل إلى الجزائر لمحاربة الأمير عبد القادر سنة 1836، وقع معاهدة التافنة سنة 1837 وفي سنة 1840 عين حاكماً عاماً للجزائر فمارس فيها سياسة الأرض المحروقة وإستقال من الجيش سنة 1847. ومات بعد ذلك بقليل مصاباً بمرض الطاعون.‏
                (19) عين حاكماً للجزائر بعدما أن خرج منها ديومون سنة 1830:هزيمة أحمد باي أمام قسنطينة 1836. توفي بعد أن عين مرشال فرنسا سنة 1842.‏
                (20) مذكرات الجنرال ديغول، الأمل، ص71.‏
                (21) تأسست هذه اللجان على أثر الحركة الثالث عشر من ماي سنة ثمان وخمسين وتسعمائة وألف، بمبادرة من غلاة المعمرين والمتطرفين من الضباط في الجيش: وكان الهدف منها تجنيد الرأي العام في الجزائر وفي فرنسا من أجل الحفاظ على الجزائر فرنسية، تشكلت لجنة أم في الجزائر العاصمة ثم تلتها لجان محلية في جميع المستويات متضمنة أعضاء من الأوربيين.ومن الجيش وآخرين من الجزائريين المتمردين على سلطة جبهة التحرير الوطني. وفي نظر فرحات عباس، فإن هذه اللجان كانت في بداية الأمر ضد الجزائريين وضد فرنسا اللبرالية، تشريح حرب ص: 240.‏
                (22) لقد عبر شال عن هذه الإستراتيجية الجديدة بقوله: أن تطويق الأماكن وتمشيطها لم يعد كافياً لأن الفلاقة)) يعرفون الأرض جيداً وهم ينتقلون بسرعة كبيرة، ولذلك يجب علينا، عندما نحتل منطقة أن نبقى فيها أطول مدة ممكنة حتى ندفع العدو إلى المجهول، فتواجدنا بالليل والنهار في الجبال وفي الأودية سيجعل المتردين يختفون، ونظراً إلى أنهم لا يستطيعون ذلك، لأنهم في حاجة ماسة إلى الإتصال بالسكان، فإن حياتهم ستتحول إلى جحيم وهذا ما ينبغي أن نحققه)).‏
                (23) من جملة الضباط السامين تجدر الإشارة خاصة إلى الجنرالات: ألار، قراسيو، قامبياز، فور، ماسي، موست، وغيرهم وإلى العقداء: بويس، بيجار، ترانكي، بروزا، ديكتس، جيرا، كوستو، قوداز، قادر، سيكالدي وغيرهم.‏
                (24) عرفت هذه العمليات نجاحاً كبيراً بفعل المحافظة على مناطق الطريق كما جاء ذلك في تعليمات الجنرال شارل وبفعل تكثيف الطلعات الجوية الموجهة للمراقبة والقصف، وليس أدل على ثقل خسائر جيش التحرير الوطني في هذه العمليات من كونها أدت في معركة واحدة إلى استشهاد قائدي الولاية الثالثة والسادسة العقيدين عميروش وسي الحواس والنائب الأول لقائد الولاية السادسة الرائد عمر ادريس ومجموعة كبيرة من مرافقيهم وقد حدث ذلك يوم 29/03/1959.‏
                (25) تشريح حرب، ص 252.‏
                (26) انظر جريدة: ليكون الجي العدد الصادر بتاريخ 17/04/1959، فإن البرقية قد نشرت على أعمدة الصفحة الأولى تحت عنوان: الجنرال ديغول يهنئ القادة العسكريين وتفوقهم.‏
                (27) انظر جريدة لوموند، الصفحة الثانية من العدد الصادر بتاريخ 26/ 04/ 1959.‏
                (28) بمجرد الشروع في تطبيق مخطط شال أعطيت الأوامر إلى فيالق جيش التحرير الوطني وكتائبه للإنقسام على وحدات خفيفة تخزن أسلحتها الثقيلة لتتمكن من التنقل بسرعة ومن خرق صفوف العدو بسهولة. وقد كان لهذا التكتيك مفعول جيد في الحفاظ على الأرواح والعتاد معاً.‏
                (29) من جملة هؤلاء الضباط العقيد بيجار الذي وجه تقريراً إلى الجنرال جاء فيه على الخصوص: "مخططكم لا يمكن أن يكتب له النجاح لأسباب كثيرة منها: إننا نسير أربع كلم في الساعة بينما يقطع الجزائريون سبعة كلم وفي هذه الحالة سيظل اللحاق بهم من باب المستحيلات، ثم أن كثرة السيارات والدبابات تعرقل الجيش وتعوقه في سرعة التنقل، بالإضافة إلى أننا نخصص لحراستها حوالي مائة ألف جندي من بين النصف مليون عسكري المعبئين لإنجاح هذا المخطط". أما العقيد قادر فيرى أن المخطط مصيره الفشل ويختم تقريره قائلاً" مافائدة الطائرات والدبابات في محاربة مقاومين مدربين على حرب العصابات ويختفون في الأحراش ووراء الصخور في الجبال؟ إنني أطرح هذا السؤال وأنا أعرف أن الطيران الفرنسي يقوم كل يوم بثلاثمائة عملية". أنظر هذه الوثائق المجاهد، العدد 41، ص: وما بعدها.‏
                (30) جنرال فرنسي من مواليد 1898. عين قائداً أعلى للقوات المسلحة في الهند الصينية في شهر ماي 1953 وضع هو أخر مخططاً عسكرياً وأدلى بتصريحات كثيرة يؤكد فيها قرب الإنتصار الذي تحقق له بطريقة أخرى في ديان بيان فو نشر كتاباً بعنوان "إختصار في الهند الصينية 1953/ 95415، صدر في باريس سنة 1956.‏
                (31) هي اليوم عاصمة واحدة من ولايات الجزائر الثماني والأربعين. تقع جنوب غربي العاصمة على بعد حوالي 600 كلم، مشهورة بنبات الحلفاء وبكونها منطقة رعوية غنية وبها منبع يحمل نفس الإسم وله شهرة عالمية، تقع سعيدة على سفح سلسلة من الجبال التي دوخت فرنسا أثناء ثورة التحرير.‏
                (32) شارل ديغول، مذكرات الأمل، التجديد 1958-1962، باريس 1970 ص: 78 وما بعدها.‏
                (33) المجاهد، اللسان المركزي لجبهة التحرير الوطني، وزارة الإعلام، الجزائر 1980، الجزء الثاني ص: 3 من العدد 56.‏
                (34) خمسة أعضاء من تلك القيادة كانوا بالسجن وهم: رابح بيطاط، محمد بوضياف، محمد خيضر، أحمد بن بلة، وحسين أيت أحمد، وثلاثة استشهدوا وهم: مراد يدوش في معركة بوكركر يوم 18/01/1957. مصطفى بن بولعيد نتيجة إنفجار راديو ملغم يوم 27 مارس 1975، فلم يبق سوى كريم بلقاسم طليقاً وعلى قيد الحياة.‏
                (35) تشريح حرب، ص:269.‏
                (36) تجدر الإشارة هنا إلى خاصة الصراع الحاد بين كريم بلقاسم ومحمود شريف الذي أتهم وزير الحرب بالعجز والتقصير وبأنه السبب في كل المشاكل التي تعرفها الثورة في الخارج وفي الداخل.‏
                (37) من بين هؤلاء القادة: العقيد لطفي قائد الولاية الخامسة والعقيد لعبيدي لخضر المدعو الحاج لخضر، قائد الولاية الأولى والعقيد علي كافي قائد الولاية الثانية.‏
                (38) أما مسؤولا قيادة الأركان فهما: العقيد هواري بومدين والعقيد محمدي السعيد، وأما قادة الولايات فهم العقيد علي كافي عن الثانية والعقيد الحاج لخضر عن الأولى والعقيد لطفي عن الخامسة، وعين لتمثيل الرابعة العقيد دهيلس سليمان.ولتمثيل الثالة الرائد يازورن لأن قائدي الولايتين لم يتمكنا من الخروج.‏
                (39) المجاهد، العدد 59 الصادر بتاريخ 05/02/1960 ص635 وما بعدها، حيث يقرأ أن الإجتماع إنعقد في طرابلس ودام من يوم 16/12/1959 ص إلى يوم 18/ 01/ 1960 من الخروج.‏
                (40) لقد قال لهم العقيد لطفي في أول إجتماع: إننا سننظر في مشاكل الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية وسنقيّم أعمالها وأنتم أعضاء في الهيئات: فكيف سيكون موقفكم وإذا وافقنا على مشاركتكم ألا يكون من العدل أن نسمح بذلك لباقي أعضاء الحكومة، وقد تسببت هذه الملاحظة المعقولة والمنطقية في إغضاب السيد كريم الذي كان يعتقد أنه الزعيم بلا منازع، وكاد اللقاء أن يتحول إلى أزمة أخرى لولا تدخل العديد من الضباط السامين لجيش التحرير الوطني ولولا ما كان للعقيد بو الصوف من سلطة أدبية على العقيد لطفي.‏
                (41) أهمهم كان هو السيد ابن يوسف بن خدة الذي كان بعيداً عن كل الشبهات في ذلك الحين نظراً لثباته على المبدأ واستمراره في المطالب بدخول الحكومة إلى أرض الوطن.‏
                (42) يذكر السيد عباس فرحات أن تاريخ انعقاد المجلس هو 13 ديسمبر انظر تشريح ص: 279)) لكن ذلك خطأ لأن محاضر جلسات الدورة تحمل تاريخ 16 ديسمبر 1959.‏
                (43) مقابلة أجريتها مع عبد الحفيظ بو الصوف، في بيته 1978، 02، 23. وما زال موضوعها مركوناً ينتظر النشر، وحسب السيد بو الصوف وهو ثقة في الموضوع، فإن المشروع المذكور يتخلص في إستبدال الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية بقيادة ثلاثة يرأسها هو بإعتباره أقدم الباءات مسؤولية.‏
                (44) أنظر نص الوثيقتين في الملحق رقم 10.‏
                (45) كان أو صديق سنة 1949 قد طرد من حركة الإنتصار للحريات الديمقراطية بسبب بربريته وتشيعه، الأمر الذي جعله ينضم إلى قيادة الحرب الشيوعي الجزائري، وبعد إندلاع الثورة إلتحق بالولاية الرابعة وقد كان مجلس الولاية بعد محاكمته عندما عين كاتب دولة في حكومة مؤقتة للجمهورية الجزائرية أنظر لمزيد من التفاصيل حول المسألة البربرية.‏
                (46) Les origines du ler novembre 1954 Editions Dahlefeb, Alger 1989, P169 et suivante. Ben Youcef) Ben Khedda.‏
                (47) إن الحزب الشيوعي نفسه لا يخفي ذلك ولمن يريد التأكد هناك مختلف الرسائل التي وجهها مكتبه السياسي في فترات مختلفة إلى الحكومات المؤقتة للجمهورية الجزائرية أنظر خاصة: Buy Francois) La republique Algerienne Democ- ratique et populaire- paris 1965, p. 217 et suivantes.‏
                (48) لقاء أجريناه معه يوم 31/03/1983 عندما كنا نستعد لإنجاز الطبعة الثانية من: الثورة الجزائرية في عامها الأول وكان ذلك في بيته بحي حيدرة في الجزائر العاصمة.‏
                (49) انظر المادة الثالثة من القانون الأساسي الملحق رقم7)‏
                (50) مدخل القانون الأساسي الملحق رقم7).‏
                (51) المادة الرابعة من القانون الأساسي الملحق رقم7)‏
                (52) لقد عرفت الجزائر المستقلة أنواعاً من الديمقراطيات منها: الديمقراطية المسؤولة، الديمقراطية الثورية، الديمقراطية المباشرة، الديمقراطية الشعبية إلخ....‏
                (53) هذا المبدأ مأخوذ من المادة 19 من القانون الأساسي للحزب الشيوعي السوفياتي في ذلك الحين.‏
                (54) تكونت هذه الحكومة من الرئيس والباءات ومن وزير الإعلام السيد محمد السعيد الذي كان يطمح أن يكون قائداً للأركان.‏
                (55) أهم الباءات الثلاث.‏
                (56) يذكر السيد فرحات عباس في تشريح حرب، ص: 281 أن الحكومة عينت العقيد هواري بومدين قائداً للأركان في أول مجلس لها 22/02/60. وفي نفس المجلس عينت نوابه.‏
                (57) مساعدية محمد الشريف) من جيش التحرير الوطني إلى الجيش الوطني الشعبي، المؤسسة الوطنية للطباعة، الجزائر، 1968، ص21.‏
                (58) لقائي مع عبد الحفيظ بو الصوف في بيته يوم 23/02/ 1978.‏
                (59) على أثر هذا الأمر دخلت مجموعة من الضباط السامين من بينهم العقيد لطفي والرواد: الطاهر الزبيري وأحمد بن الشريف وسواحي مبارك. ويذكر فرحات عباس في تشريح حرب ص: 283 أن العقيد لطفي مبارك استشهد يوم 30/03/1960 في نواحي بشار.‏
                (60) المجاهد، العدد 59 الصادر بتاريخ 05/02/1960 ص635 وما بعدها.‏

                إذا الشعب يوما أراد الحياة
                فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                تعليق


                • #9
                  رد: تاريخ الجزائر المعاصر (1954-1962).الجزء الثاني

                  الفصل الثاني من ثورة التحرير إلى الثورة الديمقراطية الشعبية
                  الفعل ورد الفعل قبل التفاوض:‏
                  بعد إنتهاء أشغال المجلس الوطني في اليوم الثامن عشر من شهر جانفي سنة ستين وتسعمائة وألف. دخلت الثورة الجزائرية مرحلتها المتمثلة في تثوير الجماهير الشعبية ودفعها في اتجاه الانتفاضة الشاملة قصد إرغام العدو على قبول التفاوض كما حدده بيان الفاتح من نوفمبر أي على أساس الإعتراف بالسيادة الوطنية ووحدة التراب الوطني مع إطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين، ولإنجاز هذه المرحلة بنجاح وضع البرنامج الذي أوردنا أهم خطوطه العريضة في نهاية الفصل السابق.‏
                  وقبل الإسترسال في الحديث عن المرحلة الثالثة لا بد من الإشارة إلى أن المجلس الوطني، أثناء مداولاته التي دامت أكثر من شهر كامل(1) كان قد أبدى عدداً من الملاحظات حول المرحلة الثانية التي كانت تعني إقامة مناطق محررة على الحدود الجزائرية كمنطلق لإنهاك قوات العدو ولتوفير الإسناد الضروري لجبهة التحرير الوطني في عملية جر الجماهير الشعبية إلى خوض المعركة الحاسمة في شوارع كافة المدن الجزائرية.‏
                  إن هذه المناطق قد تأسست بالفعل على الحدود الشرقية والغربية، لكن المجلس لاحظ أن ثمة تقصيراً يتمثل في عدم التركيز على الجزء الداخلي من المنطقة، وقد كان من المفروض أن تمركز القيادات في أرض الوطن بدلاً من الأراضي التونسية والمغربية. ففي هذا الصدد أعطيت التعليمات لقيادة الأركان الجديدة كي تتدارك الوضع بجميع الوسائل. وقد فعلت ذلك بواسطة قرارين أساسين، يتعلق الأول منهما بإعطاء الأوامر الصارمة للضباط بتكوين وحدات طلائعية وتدريبها بطريقة مكثفة من أجل إجتياز خطي موريس وشال الجهنميين. أما القرار الثاني فخاض بتأسيس منطقتين محررتين في الجنوب تمتد إحداهما على الحدود المالية الجزائرية والثانية على الحدود الليبية الجزائرية.‏
                  وإذا كانت قيادة الأركان قد لقت صعوبات جمة في تطبيق القرار الأول لأن عدداً قليلاً جداً فقط من الضباط استطاع إجتياز خط موريس بنجاح في حين فشلت معظم المحاولات رغم أن بعض من قاموا بها كانوا ممن سبقت لهم تجربة الدخول مرات متعددة(2) ، فإن القرار الثاني قد تم تطبيقه بسهولة كبيرة، قد يكون ذلك راجعاً لكون الضباط الذين أسندت لهم مهمة الإنجاز ممن أطلق سراحهم حديثاً(3) فأرادوا الدليل على خطأ سجانيهم، ومن، الممكن أيضاً، أن سبب ذلك يعود لكون الحدود الجنوبية غير محصنة بالأسلاك الشائكة المكهربة وبحقول الألغام المحروسة ليلاً ونهاراً بالرادار والطيران.‏
                  فبالنظر إلى هذه الظروف وتقديراً للحملة الواسعة التي تقرر الشروع في القيام بها على الحدودين الشرقية والغربية من أجل إعادة لمّ وحدات وفيالق جيش التحرير الوطني التي كانت قد بدأت تتشتت بفعل الأزمات المتتالية التي تعرضنا إليها في الفصلين السابقين ولكي يعود الإنضباط من جديد إلى صفوف المجاهدين قررت قيادة الأركان المتمركزة بغار الدماء على الحدود التونسية وتأجيل الدخول لأرض الوطن إلى وقت لاحق وبالموازات مع هذا القرار شرعت قيادة الأركان في ربط العلاقات الطبيعية مع الولايات كخطوة أساسية في طريق توحيد جيش التحرير الوطني بفرنسا من أجل التخطيط والتنسيق للعمل الفدائي هناك.‏
                  كل هذه القرارات والتحركات التي تدل على وجود خطة مدروسة، لم ترضي اللجنة الوزارية لشؤون الحرب، التي خشيت أن يقود ذلك إلى تهميشها، فسارعت إلى الإتصال بمسؤولي الولايات واللإتحادية تحذرهم من التعامل مباشرة مع قيادة الأركان ثم أصدرت إلى هذه الأخيرة، باسم الحكومة، أمرها بالدخول إلى الأراضي الجزائرية قبل نهاية شهر مارس سنة واحدة وستين وتسعمائة وألف.‏
                  وعندما أثرت هذا الموضوع مع الرئيس الراحل هواري بومدين(4) أكد لي أن تصرفات اللجنة لم تكن إلا لتحقيق رغبة أعضائها في الإحتفاظ بالسلطة مهما كان الثمن، وقد كان هؤلاء الأعضاء يعتقدون أن دخول قيادة الأركان إلى الجزائر سيؤدي إلى إلغائها عملياً إما وهي تجتاز الأسلاك المكهربة وحقول الألغام أو بواسطة تكتل الولايات التي لن توافق على الإنضواء تحت لوائها، لأجل ذلك، فإن قيادة الأركان لم تطبق أوامر اللجنة في الموضوع، وراحت تواصل النشاط المكثف في سبيل إنجاز برنامج العمل الذي صادق عليه المجلس الوطني للثورة الجزائرية.‏
                  في هذه الأثناء، وبينما كانت الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية تواصل نشاطها من أجل إيجاد أفضل السبل للدخول في مفاوضات مع حكومة الجنرال ديغول على أساس حق الشعب الجزائري في تقرير مصيره بنفسه خاصة بعد أن تبنى ذلك المجلس الوطني للثورة الجزائرية كانت فرنسا تعيش أزمة في جميع المجالات بسبب الإنتصارات التي ما فتئت الثورة الجزائرية تحرز عليها في الميدانين العسكري والسياسي.‏
                  فتزايد العمليات في المدن، وإستمرار الجنرال ديغول في طريق التسوية على أساس تقرير المصير أغاظا دعاة الجزائر الفرنسية، إنصارها المدنيين والعسكريين على حد سواء، وقادا إلى ظهور بوادر التمرد على أعلى المستويات وخاصة في الجيش إذ تجرأ الجنرال ماسي على التصريح لإحدى الجرائد الألمانية بأنه يعارض هذه السياسة وهو على إستعداد لمقاومتها بجميع الوسائل عندما يقتضي الحل ذلك(5) .‏
                  ومما لاشك فيه أن تصريح ماسي لم يكن بريئاً ولا عفوياً ولكنه جاء نتيجة تشاور وتفاهم مع غلاة المعمرين الذين كان النائب لاقيارد يتزعم نشاطهم.‏
                  وفي الحقيقة، فإن ديغول لم يكن راضياً عن سياسته المفروضة عليه بواسطة ضغوطات الثورة السياسية العسكرية، نستخلص ذلك من مذكراته عندما يـتألم لسياستي، ولكن هل أنا سعيد بممارستها؟"(6)
                  رغم ذلك وحفاظاً على سمعته أمر ديغول بنقل ماسي إلى فرنسا يوم 22/01/1960 وكان الإجراء سبباً مباشراً ليعلن لاقيالارد LA GAILLARDE) يوم 22/01/1960 عن احتلاله لجامعة الجزائر على رأس مجموعات غفيرة من الأرجل السوداء ووحدات الدفاع المحلي. ووجه نداء إلى السكان الأوربيين ليتظاهروا عشية اليوم الذي بعده وهو يوم أحد للتدليل على تضامنهم مع المتمردين ولإرغام الحكومة الفرنسية على تغيير سياستها.‏
                  وبالفعل، فإن المظاهرات التي جرت صاخبة لكنها لم تمنع ديغول من توجيه أوامره إلى كل من دولوفريي وشال لإستعمال العنف في سبيل إسترجاع الهدوء ثم أخذ الكلمة، عن طريق الإذاعة، في اليوم الثالث للتمرد فوصف الأحداث بالعصيان الذي لا يمكن أن يثنيه عن الطريق التي اختارها لفرنسا في تعاملها مع القضية الجزائرية ولما أحس بأن ثمة تردداً في موقف القائد الأعلى للقوات المسلحة نفسه وخشي أن تسري العدوى إلى فرنسا ذاتها، ارتدى زيه العسكري في اليوم التاسع والعشرين من شهر جانفي ووجه خطاباً متلفزاً إلى الشعب الفرنسي للتأكيد على أن تقرير المصير "قرار حكومي صادق عليه البرلمان ووافقت الأمة الفرنسية على أنه المخرج الوحيد الذي بقي ممكناً"(7) . وبعد هذا الخطاب الذي كان شديد اللهجة تدخل الجيش بقوة في اليوم الموالي وقضى على التمرد برفع الحواجز وتنظيف الطرقات وإعتقال رؤوس الفتنة وفي مقدمتهم لاقيارد ودوسيزيني ودو ماركي في حين تمكن أورتيز من الفرار إلى إسبانيا في إنتظار تكوين منظمة الجيش السري المنظمة السرية المسلحة).‏
                  صحيح أن رئيس الدولة الفرنسية قد واجه، بحزم، هذا التمرد منذ بدايته(8) لكنه لم يفعل ذلك حباً في الجزائر أو رغبة في تمكين شعبها من ممارسة حقه في تقرير مصيره. لقد كان بإمكانه أن يفعل ذلك عندما كان قائد فرنسا بلا منازع خلال الحرب الإمبريالية الثانية، لكن قناعته الإستعمارية ووطنيته الضيقة منعته، في ذلك الوقت من القيام بأعمال العظماء الأحرار، وجعلته، في سنة ستين، يشتت صفوف المتمردين على سلطته ويعمل في ذات الوقت على تلبية مطالبهم لأنها هي نفس مطالبه وهي تتمثل، رغم التظاهر بالجنوح إلى السلم والتصريحات المتتالية الداعية جبهة التحرير الوطني إلى التفاوض، في التعجيل بإعدام أسرى الحرب والمعتقلين السياسيين وفي تكثيف العمل العسكري من أجل القضاء على جيش التحرير الوطني وإبراز قوة ثالثة تقبل بالحلول التي تمليها فرنسا والتي لا تكون متناقضة مع مصالحها في جميع الميادين.‏
                  إن الجنرال ديغول الذي يريد الحفاظ، بشتى الوسائل، على السمعة التي أكتسبها عالمياً، يقدم تفسيراً خاصاً لأوامره القاضية بتكثيف العمل العسكري في الوقت الذي كان يدعو فيه إلى السلم عن طريق التفاوض، ففي هذا الصدد يؤكد في مذكراته أنه مقتنع فعلاً، بضرورة إخراج فرنسا من هذه الحرب لكنه يريد قبل ذلك "أن تتمكن القوات الفرنسية من السيطرة على الميدان وتبقى كذلك إلى أن أرى الوقت مناسباً لأمرها بالإنسحاب(9) .‏
                  ففي هذا السياق قام بزيارة إلى الجزائر دامت من الثالث إلى السابع من مارس سنة ستين وتسعمائة وألف، تفقد خلالها، معظم المناطق التي تتمركز بها قواته المسلحة ثم جمع الضباط السامين المكونين لقيادات الأركان وخاطبهم قائلاً: "إن المعركة لم تنته، إنها قد تستمر أشهر وأشهراً، ومادامت مستمرة فإن الواجب يدعوكم إلى مغالبة العدو والتغلب عليه(10) .‏
                  ومن جهة أخرى، وجه رئيس الدولة الفرنسية اهتمامات بالغة بعملية زرع الشقاق في صفوف الثورة الجزائرية ومحاولة عزل بعض الولايات من أجل التفاهم معها في القوة الثالثة التي كان يعمل على إيجادها من أجل الضغط على جبهة التحرير الوطني. وسوف لن ينسى التاريخ زيارة مجالس الولاية الرابعة إلى فرنسا وإستقباله في قصر الإليزية من قبل الجنرال ديغول نفسه. لقد تم ذلك في سباق ما يسمى بسلام الشجعان وبواسطة المساعدين المقربين للجنرال وفي مقدمتهم الوزير الأول ميشال دويري وبانار تريكو والعقيد ماتهون.‏
                  ويذكر السيد فرحات عباس أن المقابلة مع الجنرال ديغول لم تكن من أجل إيجاد حل للقضية الجزائرية بل إن فرنسا كانت تهدف إلى ضرب وحدة الصف الجزائري(11) .‏
                  وقد أنتبه الرائد سي محمد بوعمامة إلى الخديعة، ولذلك، وبمجرد الرجوع، إلى الجزائر وتوجه العقيد سي صالح إلى الولاية الثالثة قصد إطلاع قائدها العقيد محمد أو الحاج على ما دار بينه وبين رئيس الدولة الفرنسية، فإنه أقدم على إعتقال جميع أعضاء الوفد ونفذ فيهم حكم الإعدام بتهمة المشاركة في الخيانة العظمى. وبما أن الحكومة المؤقتة هي التي تعين مسؤولي الولايات، فإنه أوفد العقيد سي صالح إلى تونس من أجل المحكمة(12) ، ثم راح يعيد تنظيم ولايته وينشط سائر مناطقها ونواحيها وأقسامها مركزاً على الكمائن والهجومات الخفيفة وعلى العمل الفدائي في المدن والقرى. ومن بين المدن كانت مدينة الجزائر التي استعادت أنفاسها وراحت تستعد للإنتفاضة الشعبية التي سوف تعم البلاد إبتداء من العاشر من ديسمبر سنة ستين وتسعمائة وألف.‏
                  إن هذه الهزيمة التي منيت بها سياسة الجنرال ديغول، مضافة إلى النتائج السلبية. التي توجت الإنتخابات الجهوية التي جرت في شهر ماي والتي كانت السلطات تراهن عليها لإبراز عناصر القوة الثالثة، كل ذلك قد فرض على رئيس الدولة الاستعمارية العودة إلى مبدأ حق الشعب الجزائري في تقرير مصيره، وقد جاء ذلك في خطاب توجه به إلى الأمة الفرنسية بتاريخ الرابع عشر من شهر جوان قال فيه على الخصوص.‏
                  "في السادس عشر من شهر ديسمبر فتحت طريق مستقيمة وواضحة، الطريق الموصلة إلى السلم... فحق الجزائريين في تقرير مصيرهم هو الوحيد ومن الدوامة المعقدة والمؤلمة... أنني، مرة أخرى، التفت باسم فرنسا إلى قادة الثورة إننا ننتظرهم هنا لنجد معهم نهاية مشرفة للمعارك التي تتواصل حتى الآن. بعد ذلك، سيتم كل شيء لكي تعطى الكلمة إلى الشعب الجزائري وهو مطمئن البال وسوف لن يكون القرار إلا ما يقرره هو بنفسه.(13)
                  بعد هذا الخطاب بأقل من أسبوع وصل إلى مولان(14) وفد الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية مكوناً من السيدين أحمد بومنجل(15) ومحمد الصديق بن يحيى(16) ، غير أن اللقاءات بين الطرفين لم تؤدِ سوى إلى كسر الحواجز النفسية وفتح الباب واسعة أمام المفاوضات الحقيقية التي سوف تنطلق بعد إستفتاء الشعب الفرنسي بتاريخ الثامن من شهر جانفي سنة واحدة وستين وتسعمائة وألف.‏
                  الثورة الجزائرية في مرحلتها الثالثة:‏
                  لقد كان الإستفتاء في الواقع تبريرياً فقط، أراد ديغول بواسطته إضفاء طابع الشرعية على سياسة مافتئ يمارسها بمفرده وبعيداً عن كل ديمقراطية، وقبل ذلك الإستفتاء بأقل من شهر واحد كانت جبهة التحرير الوطني قد أنزلت الجماهير الشعبية الواسعة إلى شوارع ومدن الجزائر وقراها معلنة عن بلوغ المرحلة الثالثة من الثورة أوجها ومؤكدة صحة التخطيط الذي وضعته القيادة التي قررت إشعال الفتيل ليلة أول نوفمبر(17) .‏
                  فالمجلس الوطني للثورة الجزائرية عندما أمر بالإنتقال إلى المرحلة الثالثة من الكفاح المسلح كان قد أسند إلى اللجنة الوزارية المكلفة بشؤون الحرب مهمة التنسيق بين الولايات من أجل تكوين لجان التحريض وإعداد الأعمال التحضيرية وإعداد فرق التأطير والتدخل السريع التي ستوكل لها مسؤولية تعبئة الجماهير الشعبية وتنظيمها في مظاهرات جبارة أيذانا بانطلاق الإنتفاضة الشعبية العارمة. ودامت الأعمال التحضرية أشهراً كاملة ثم جاءت الفرصة في ذلك اليوم التاسع من شهر ديسمبر سنة ستين وتسعمائة وألف. ففي ذلك التاريخ الذي أختاره رئيس الدولة الفرنسية لبدء زيارة أخرى للجزائر، قررت جبهة الجزائر الفرنسية،(18) شن إضراب عام في مدينة الجزائر ودعت الأوروبين إلى التظاهر في الشوارع للتعبير عن رفضهم للجزائر الجزائرية، ويذكر السيد فرحات عباس أن المظاهرات قد وقعت بالفعل وتميزت بمشادات عنيفة بين المتظاهرين والقوات الفرنسية التي لم تستعمل سوى القنابل المسيلة للدموع(19) .‏
                  وفي مساء ذلك اليوم، أصدرت جبهة الجزائر الفرنسية بياناً وصفت فيه المظاهرات بالإنتصار ودعت إلى الاستمرار في الإضراب العام وإلى مواصلة التظاهر بالنسبة لليوم العاشر من شهر ديسمبر(20) . ولم تكن تلك الجبهة تعرف أن إطارات جبهة التحرير الوطني قد حددت نفس ذلك اليوم لإحتلال الشارع الجزائري في كافة المدن والقرى ووزعت، للمناسبة، آلاف الأعلام الوطنية واللافتات المعبرة عن إلتحام الشعب بثورته وإستعداده للسير وراء القيادة الثورية حتى النصر أو الإستشهاد.‏
                  إن الشيوعيين اليوم، يحاولون التقليل من قدرات جبهة التحرير الوطني على التخطيط والتنظيم فيزعمون أن الإنتفاضة الشعبية التي بدأت في اليوم العاشر من شهر ديسمبر إنما كانت تلقائية وهي عبارة عن إنفجار الإحساس لدى الجماهير التي ملت المعاناة وكرهت إستمرار الحرب المدمرة. وهذا الزعم هو نفس إدعاء المؤرخين الفرنسيين وتلامذتهم من الجزائريين أنفسهم.‏
                  إنه نتاج العقدة بالنسبة للأولين ونتاج الحقد فيما يخص الأخيرين. فالشيوعيون بقلم دانيال مين، يقولون على سبيل المثال: "وفي ديسمبر سنة ستين وتسعمائة وألف، قامت نساء جزائريات غير منخرطات في جبهة التحرير الوطني بالمساهمة جماعياً في مظاهرات شعبية جاءت للتعبير عن نداء يائس من أجل إنهاء الحرب ولتحقيق الإستقلال... وفي يوم الإثنين، تواصلت المظاهرات بأهمية أقل.‏
                  ويبدو أن كل هذه المظاهرات كانت انفجاراً تلقائياً للإحساس الشعبي حتى ولو حاول مسؤولون محليون من جبهة التحرير الوطني تنظيمها والإشراف عليها"(21) .‏
                  أما الفرنسيون فآخذ عينة منهم السيد تريبي وهم أكثرهم إعتدالاً إذ يقول: "ومن جهة أخرى، فإن التجمعات والمظاهرات التي ضمت حشوداً غفيرة من المسلمين خاصة في العاصمة وفي وهران، قد شكلت مفاجأة بالنسبة للحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية التي لم تكن تتوقع ذلك ولم تكن على علم بما في داخل الجزائر... ونستطيع القول، على أية حال، إن ظاهرة الحرب التي ظلت مستمرة منذ سنوات قد تجلت عن وجود قوة جديدة هي قوة الجماهير المسلمة التي أصبحت قابلة للتنظيم والتي صار يحسب لها ألف حساب"(22) .‏
                  ومن بين تلامذة المؤرخين الفرنسيين نشير مع الأسف الشديد إلى الرئيس فرحات عباس الذي كتب: "أن بعض ضباط الأقسام الإدارية الحضرية الذين ساءتهم تجاوزات الأوربيين وهجوماتهم على رجال الشرطة والدرك قد أذنوا للمسلمين بالتظاهر لمساندة الجنرال ديغول"(23) .‏
                  إن قراءة متمعنة في هذه النماذج الثلاثة من الكتابة حول الإنتفاضة الشعبية التي بدأت، فعلاً، في شهر ديسمبر تقودنا حتماً إلى إبداء الملاحظات التالية:‏
                  1- إن دانيال مين لم تنتبه إلى أنها تكتب إلى جمهور قادر على التفكير وغير مستعد للتلقي دون فحص أو تمحيص، ولذلك فهي تزعم أن الجزائريات لم تكن منخرطات في جبهة التحرير الوطني لكنها لم تتساءل عن كيف وصلت أولئك النساء إلى الشارع ومن دفعهن للخروج وكيف تحصلن على الإعلام الوطنية التي كانت ترفرف بالآلاف النساء إلى الشارع ومن جاء باللافتات ووضع الشعارات المعبرة؟ وفوق كل هذا فإن الحزب الشيوعي الجزائري والحركة الوطنية الجزائرية تشكيلتان سياسيتان تنشطان بالتوازن مع جبهة التحرير الوطني وغير معترفين بتمثلها للشعب الجزائري، فلماذا لم ترفع المشاركات في المظاهرات سوى شعارات جبهة التحرير الوطني ولم يشرن في حماسهن إلى التشكيلتين المذكورتين؟‏
                  2- تذكر دانيال مين أن المظاهرات الشعبية جاءت للتعبير عن نداء يائس من أجل إنهاء الحرب ولتحقيق الاستقلال، وهي في ذلك تتناقض مع الجنرال ديغول الذي تعرض لموضوع الحرب في ندوة صحفية عقدها شهراً واحد قبل الإنتفاضة فقال: "لقد أنخفضت العمليات وكذلك عدد الضحايا المدنيين شهرياً إلى نصف ما كانت عليه قبل سنتين".‏
                  وفي ميدان الإستثمارات التي تمولها الخزينة الفرنسية، فإن الأرقام قد بلغت هذه السنة مائة مليار فرنك قديم وستكون ثلاثة مليارات في العام القادم.‏
                  وفيما يتعلق بتطوير البلاد بالمقارنة مع ماكانت عليه قبل التمرد، فإن الإنتاج الزراعي قد ازداد بنسبة 50% وتضاعف إستهلاك الكهرباء، وكذلك المبادلات الخارجية والتمدرس، وضرب في أربع عدد السكنات المبنية وفي خمس عدد الطرقات المشقوقة وفي عشر بناء المصانع ثم وصل أنبوب البترول الصحراوي الذي سيضمن مستقبلاً للجزائر مدخولات مالية معتبرة"(24) . إن عرض الجنرال هذا يدل على أن الحرب لم تعد ذلك الواقع الذي يدفع إلى اليأس، أما من وجهة النظر الجزائرية، فإن الحرب قد تطورت إيجابياً بفضل تمكن قيادة الأركان من إعادة تنظيم وحدات فيالق جيش التحرير الوطني في الخارج، وفتح جبهة الجنوب التي استطاعت سنة ستين وحدها، قلب الأوضاع في الصحراء وربطت قواعدها بمناطق الولايات المجاورة.‏
                  ومن جهة أخرى كيف يمكن أن تكون المظاهرات الشعبية تعبيراً عن نداء يائس لتحقيق هدفين متكاملين، ما في ذلك شك، ولكنهما لا يتحققان إلا بفعل قوي منتصر، لأن نداء اليائس إذا كان يستطيع إيقاف الحرب فإنه لا يستطيع أبداً إسترجاع الحق المغتصب.‏
                  3- إن دانيال مين تتناقض مع نفسها عندما تدعى أن المظاهرات كانت تلقائية وفي نفس الفقرة تذكر أنها امتدت إلى العديد من المدن والقرى، وتؤكد جميع المصادر(25) أن الإنتفاضة الشعبية قد تواصلت إلى غاية نهاية شهر جانفي سنة واحد وستين وتسعمائة وألف حيث هدأت لتستأنف من جديد في منتصف السنة وتبلغ أوجها في شهر أكتوبر بالنسبة لفرنسا ونوفمبر بالنسبة للجزائر.‏
                  4- يزعم السيد فيلب تريبي أن المظاهرات باغتت الحكومة المؤقتة التي كانت تعيش معزولة عن الداخل، وفي نفس الوقت يقرر أن تلك المظاهرات كشفت عن ظاهرة جديدة هي قوة الجماهير المسلمة "التي أصبحت قابلة للتنظيم وصار يحسب لها ألف حساب". ولو كان هذا الإدعاء صحيحاً أو فيه على الأقل جزء من الصحة لما ترك الجنرال ديغول الفرصة تمر دون توظيفها خاصة ونحن نعرف أنه كان، في تلك الفترة، يبحث عن القوة الثالثة التي تمكنه من الضغط على جبهة التحرير الوطني كي تتنازل عن بعض الشروط التي وضعتها كأساس لبدء المفاوضات.‏
                  5- إن السيد فرحات عباس، رغم تواجده على رأس الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية لم يكن مدركاً لحقيقة الثورة التي كانت تتواصل طبقاً لإيديولوجية كانت غريبة عنه ولم يتمكن من الإرتقاء إليها. ومن جهة أخرى، يبدو أن رئيس الحكومة لم يستفد من التحاقه بجبهة التحرير الوطني للتخلص من التبعية الذهنية التي سوف تظل ملازمة له إلى آخر رمق من حياته وأكبر دليل على ذلك كتابه الأخير الذي ألفه عندما بلغ سن الثمانين(26) . فالإنبهار أمام المستعمر هو الذي جعله يكتب دون تحليل، وإلاّ كيف يصف أمر ضباطاً صغاراً يأخذون على عاتقهم مسؤولية الترخيص للمسلمين بالتظاهر لصالح ديغول ولصالح جبهة التحرير الوطني. ألم يكن يعرف أن ثمة إنضباطاً عسكرياً وأن فعلاً من هذا النوع يدخل في إطار الخيانة العظمى؟‏
                  إلى جانب كل هذه الملاحظات هناك حقيقة بسيطة يجب التوقف عندها لفهم واقع الإنتفاضة وتفسير كل ما أحاط بها من غموض. وتتمثل هذه الحقيقة في كون المجلس الوطني للثورة الجزائرية، عندما وافق على الإنتقال إلى المرحلة الثالثة من مراحل الكفاح المسلح عين لجنة عليا(27) وأسند لها مهمة التحضير للإنتفاضة الشعبية التي كان من المفروض أن تبدأ بمناسبة إحياء ذكرى أول نوفمبر.‏
                  ولقد اشتغلت اللجنة مع جميع هيئات الثورة بعيداً عن الأضواء كما يتطلب ذلك العمل السري إذا أريد له النجاح. ووضع المخطط أولاً، وكان يشتمل على النقاط التالية:‏
                  1- تشكيل لجان التأطير والشروع، حيناً، في تكوين أعضائها سياسياً وعسكرياً.‏
                  2- تشكيل لجان الإسناد التي تتولى صناعة الأعلام الوطنية وإعداد اللافتات ثم خزنها في الأماكن القريبة من ساحات التجمع ومراكز الإنطلاق.‏
                  وبعد الاتفاق على هذا المخطط جرى الإتصال مع قيادات الولايات في الداخل وكذلك مع فيدرالية جبهة التحرير الوطني في أوربا وأنطلق العمل بثبات وجدية، وما كاد ينتهي شهر أوت حتى وضعت اللجنة تقريرها الإجمالي الذي ضمنته إستعداد مدن الجزائر وقراها لبدء المظاهرات الشعبية، لكن الإنتفاضة سوف تتأجل بسبب تصريحين صدرا عن الجنرال ديغول، الأول بتاريخ الخامس من شهر سبتمبر عندما قال: "أعتقد أن الجزائريين حينما يستشارون سوف يبدون رغبتهم في أن تكون الجزائر جزائرية. ويبقى فقط أن نعرف هل ستكون تلك الجزائر ضد فرنسا أو متعاونة معها(28) . أما التصريح الثاني فكان بتاريخ الرابع من شهر نوفمبر عندما قال في خطاب إلى الأمة الفرنسية: "لقد قررت، باسم فرنسا، أن أواصل الطريق الموصلة ليس إلى الجزائر التي تقودها فرنسا ولكن إلى جزائر جزائرية بحكومتها ومؤسساتها وقوانينها(29) .‏
                  المفاوضات ووقف إطلاق النار:‏
                  وفي نهاية شهر جوان سنة ستين وتسعمائة وألف فشل اللقاء الذي جرى في مدينة مولان بين وفد الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية ووفد الحكومة الفرنسية برئاسة السيد روجي موريس الأمين العام لوزارة الشؤون الخارجية. وعن ذلك الفشل كتب الجنرال ديغول مايلي: "إن شروط التفاوض التي نقلها الوفد الجزائري تتضمن ضرورة تنظيم محادثة مباشرة بين فرحات عباس والجنرال ديغول، والسماح للمتفاوضين الجزائريين بالإقامة في التراب الفرنسي وإستقبال ومقابلة من يريدون، والإدلاء بجميع التصريحات، وكذلك إطلاق سراح ابن بلة ورفاقه المعتقلين بجزيرة إيكس لينضموا إلى المتفاوضين، بالطبع، قيل للوفد الجزائري إن كل ذلك لن يكون مقبولاً إلا إذا توقفت المعارك والحوادث. وبصفة خاصة، فإن الجنرال ديغول لن يتحدث مع قائد المتمردين مادام الرصاص يطلق على جنوده في الجزائر ومادام المدنيون من مواطنيه يغتالون حتى في شوارع بباريس"(30) .‏
                  إن الإنتفاضة الشعبية قد غيرت هذه الغطرسة وجعلت الجنرال ديغول في شهر جانفي سنة واحد وستين وتسعمائة وألف يكتب: "أن الجزائر تكلفنا أكثر مما تدره علينا... ولذلك فإنني أكرر أن فرنسا تعمل على إيجاد حل يخلصها منها نهائياً. وسوف لن ترى مانعاً في أن يقرر السكان الجزائريون إقامة دولة تتولى تسيير شؤون بلادهم(31) .‏
                  لقد كان الجنرال ديغول، قبل هذا التاريخ، يراهن على إمكانية إخماد صوت الثورة بواسطة العمل العسكري حتى يعيد للجيش الفرنسي إعتباره بعد الهزيمة المنكرة التي لحقت به في ديان بيان فو، ولذلك رأيناه يختار الجنرال شال قائداً أعلى للقوات المسلحة ويأتي إلى الجزائر بأكبر عدد ممكن من الجنود تحت قيادة أفضل ما لفرنسا من ضباط سامين. ولتسهيل مهمة الجيش عمل جبهتين سياسيتين لإضعاف جبهة التحرير الوطني وليجعلها تنشغل بموضوعات أخرى غير التي تستلزمها المعركة. فمن جهة، جند كل أنواع المخابرات الفرنسية والمصالح السيكلوجية من أجل التوصل إلى زرع الشقاق في الأوساط القيادية للثورة وزعزعت الثقة السائدة على جميع المستويات. ومن جهة ثانية لم يترك محاولة واحدة دون إستعمالها لإيجاد قوة ثالثة بواسطة تشجيع الحركة الوطنية الجزائرية التي يتزعمها مصالي الحاج أو عن طريق دفع المنتخبين الجزائريين وبعض الشخصيات البارزة إلى تشكيل هيئات يمكن اللجوء إليها لأحكام الضغط على الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية.‏
                  كل هذه المساعي التي قام بها الجنرال ديغول مدة ثلاثين شهراً لم تحقق له ماكان ينتظر من نتائج، بل جعلته يلمس بنفسه أن الإنتصار مستحيل وأن مواصلة الحرب مستحيلة إلى مالا نهاية ستعرض الجيش الفرنسي إلى الإنقسام والوحدة الوطنية إلى الزوال كما أكد بنفسه في مذكراته(32) . وعليه، وخدمة لفرنسا، قرر الإلتفات إلى جهبة التحرير الوطني من أجل التفاوض الجدي وراح يبحث عن مبررات موقفه الجديد، وليلبسه الثوب الذي لا يشين سمعة الجنرال وسمعة فرنسا معاً.‏
                  وكانت أول خطوة في الطريق الجديد هي إستفتاء الشعب الفرنسي حول موافقته أو عدم موافقته على تمكين الجزائريين من تقرير مصيرهم، ولم يكن ذلك في الحقيقة سوى تمثيل لأن الإعلان عن حق الشعب الجزائري في تقرير مصيره بنفسه قد تم باسم فرنسا في اليوم السادس عشر من شهر سبتمبر سنة تسع وخمسين وتسعمائة وألف. ويومها أعطى الجنرال ديغول شرحاً وافياً لمعنى تقرير المصير إذ قال: إن الجزائريين بممارستهم لهذا الحق سيفضلون فيما إذا كانوا يريدون الإنفصال الكلي عن فرنسا التي هي في هذه الحالة ستتوقف عن تزويد الجزائر بالخير العميم وبمليارات الفرنكات وعن فعل أي شيء لتجنيبها الفاقة والفوضى. أو هم يريدون الفرنسة التي يصبحون بموجبها جزءاً لا يتجزأ من الشعب الفرنسي يتمتعون بكامل المساواة في ممارسة الحقوق السياسية والإقتصادية والإجتماعية(33) .‏
                  وتتمثل الخطوة الثانية في فتح التفاوض مع الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية بعد أن فشلت جميع محاولات الجنرال ديغول الرامية إلى إيجاد مسلك آخر يجنبه ذلك. فمن ناحية التوصيل إلى القضاء عسكرياً على جبهة التحرير الوطني وجد الجنرال نفسه، كما رأينا، مضطراً للإعتراف بالواقع الذي أثبت تجذر جيش التحرير الوطني وإنتشاره في مختلف أنحاء الوطن بحيث لم يعد في مقدور أية قوة التغلب عليه(34) . وفيما يتعلق بتكوين القوة الثالثة.‏
                  أيقن الجنرال ديغول أن كل بناء ينجزه في هذا المجال يتحول تلقائياً لفائدة جبهة التحرير الوطني(35) ، ومن ذلك أن البرلمانيين الجزائريين المسلمين الذي شجعوا على تأسيس حزب وطني يكون بديلاً لجبهة التحرير الوطني قد شكلوا، بالفعل، التجمع الديمقراطي الجزائري، ولكن ليطالبوا الحكومة الفرنسية بفتح مفاوضات عاجلة ومباشرة مع الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية.‏
                  أما الخطوة الثالثة فقد قطعها الجنرال ديغول في شهر أفريل(36) عندما وجه خطاباً للأمة الفرنسية ذكرها فيه بمواقفه الهادفة لإزالة الإستعمار وهي مواقف ظلت تلازمه من أكثر منذ عشرين سنة ولم يكن متمسكاً بها بسبب حركة التحرير التي تولدت عن الحرب العالمية الثانية بل لأنها تخدم مصلحة فرنسا وتساعدها على التخلص من الكوابح التي تمنعها من التقدم والتطور، وعندما تطرق للقضية الجزائرية قال: "وبهذا الصدد، فإن أي تصور أو أي إنتخاب لن يكون واقعياً إلا إذا ساهم فيه، بالمقام الأول، الذين يحاربون من أجل الإستقلال وذلك لأن الأغلبية الساحقة من الجزائريين، في الوقت الحاضر، يجدون فيهم تعبيراً عن أنفسهم. وعليه أصبح الأمر اليوم، يتعلق بحمل جبهة التحرير الوطني على الإتفاق معنا. وحينما تتوقف المعارك يقترح على مواطني البلدين أن يقرروا، بواسطة الإقتراع، بناء الجزائر المستقلة وتنظيم علاقاتها مع فرنسا(37) .‏
                  هكذا، إذن، جعل الجنرال ديغول اللجوء إلى التفاوض مطلباً حيوياً لم تفرضه عليه الثورة الجزائرية، ولكنه يندرج ضمن مبادئ التحرر والإنعتاق التي زعم أنها ظلت دائماً ملازمة له، وفي إطار تلبية رغبة السكان الجزائريين وتمشياً مع إرادة الشعب الفرنسي التي عبر عنها بواسطة استفتاء الثامن من شهر جانفي سنة واحدة وستين وتسعمائة وألف.‏
                  ولقد وجد من بين المؤرخين ورجال السياسة من صدق هذا الإدعاء نسي الجميع مختلف التصريحات التي كان الجنرال يدلي بها والتي كان ينكر فيها على جبهة التحرير الوطني حق التفاوض باسم الشعب الجزائري ويلوح بضرورة إشراك أطراف أخرى لتسوية المشكل الجزائري على أساس "التهدئة والتحول الإقتصادي والعمل من أجل تكوين الشخصية الجزائرية الجديدة(38) . أما مسألة إسترجاع الإستقلال الوطني فلم تكن مطروحة على الإطلاق. ففي اليوم التاسع والعشرين من شهر جانفي سنة ستين وتسعمائة وألف قال ديغول: "إن منظمة المتمردين تزعم أنها لا توقف القتال إلا إذا تحادثت معها حول مصير الجزائر، وذلك يعني أننا نعترف بها المنظمة الوحيدة التي تمثل الشعب الجزائري، ونعترف بها مسبقاً كحكومة للجزائر. وهذا ما لن أفعله أبداً". وقبل الإنتفاضة الشعبية بحوالي شهر فقط(39) كرر ذلك بصيغة أخرى إذ صرح: "إنهم يزعمون أن وقف القتال لن يتم إلا إذا ضبطوا معنا شروط الإستفتاء كأنهم يمثلون الجزائر جميعها".‏
                  ومهما يكن من أمر، فإن الإتصالات السرية قد أستؤنفت جدية بين الطرفين مباشرة بعد إستفتاء الثامن من جانفي سنة واحدة وستين وتسعمائة وألف ثم تعثرت بسبب محاولة الحكومة الفرنسية من جديد إقحام أطراف أخرى في المحادثات(40) وبسبب الإنقلاب(41) العسكري الفاشل الذي وقع ليلة الثاني والعشرين من شهر ماي سنة واحدة وستين وتسعمائة وألف ثم تعثرت بسبب محاولة الحكومة الفرنسية من جديد اقحام أطراف أخرى في المحادثات وبسبب الانقلاب العسكري الفاشل الذي وقع ليلة الثاني والعشرين من شهر ماي سنة واحد وستين وتسعمائة وألف، إنما كان ذلك بالنسبة لجبهة التحرير الوطني على أساس الشروط الواردة في نداء الفاتح من نوفمبر عام أربعة وخمسين وتسعمائة وألف وهي حرفياً كما يلي(42) :‏
                  1- الإعتراف بالجنسية الجزائرية بطريقة علنية ورسمية، ملغية بذلك كل الأقاويل والقرارات والقوانين التي تجعل من الجزائر أرضاً فرنسية رغم التاريخ والجغرافيا واللغة والدين والعادات للشعب الجزائري.‏
                  2- فتح مفاوضات مع الممثلين المفاوضين من طرف الشعب الجزائري على أساس الإعتراف بالسيادة الجزائرية للشعب واحدة لا تتجزأ.‏
                  3- خلق جو من الثقة وذلك بإطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين ورفع كل الإجراءات الخاصة وإيقاف كل مطاردة ضد القوات المكافحة.‏
                  من هذا المنطلق، وفي نفس اليوم الذي بدأت فيه المفاوضات أعلنت الحكومة الفرنسية عن إطلاق سراح ستة آلاف معتقل سياسي ونقل القياديين الخمسة إلى قصر توركان وعن هدنة عسكرية من طرف واحد لأن الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية اعتبرت ذلك في غير أوانه، ولأنها لو فعلت لوقعت في الفخ المنصوب لها وتم وقف إطلاق النار قبل كل تسوية سياسية وهو ما ظلت تدعو إليه الحكومات الفرنسية منذ سنة ست وخمسين وتسعمائة وألف.‏
                  وكان التفاوض صعباً. فالجانب الفرنسي رغم الضمانات الشكلية المذكورة أعلاه لم يغير موقفه الأساسي المتناقض تماماً مع جبهة التحرير الوطني. لم يكن الجانب الجزائري، فيما يخصه، قادراً على تجاوز الشروط الوارد ذكرها ضمن النصوص الأساسية للثورة. وبقيت المحادثات تدور في حلقة مفرغة مدة خمسة وعشرين يوماً وقد توقفت بطلب من الحكومة الفرنسية في اليوم الثالث عشر من شهر جوان سنة واحد وستين وتسعمائة وألف.‏
                  وعلى الرغم من تمسك كل طرف بموقفه، فإن الوفدين قررا مواصلة الإتصال فيما بينهما ولم يكن من السهل، في ذلك الوقت، التكهن بإمكانات التوصل بسرعة إلى تقريب وجهات النظر.‏
                  فالحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية تريد من فرنسا أن تعترف للجزائر بالسيادة المطلقة وبسلامة التراب الوطني وبوحدة الشعب ذي الثقافة العربية والإسلامية إلى جانب أقلية أوروبية وبجبهة التحرير الوطني كممثل وحيد للشعب الجزائري. أما فرنسا فتزيد حسب الترتيب الإستقلال الداخلي، وفصل الصحراء عن الجزائر وتجزئة الشعب على أساس عرقي وتنظيم طاولة مستديرة تشارك فيها أطراف أخرى وهدنة فقط، وأدى تواصل الإتصالات السرية بين الطرفين إلى تنظيم لقاء جديد في مدينة لوقران الفرنسية دام أسبوعاً كاملاً ولم تدرس فيه سوى مسألة الصحراء التي أقترح الوفد الفرنسي تسويتها بواسطة ندوة مشتركة بين جميع البلدان المجاورة لها. وأمام الوفد الجزائري علقت المفاوضات من جديد وكان ذلك في اليوم الثامن والعشرين من شهر جويلية سنة واحدة وستين وتسعمائة وألف.‏
                  في كل هذه الأثناء كانت الساحة الجزائرية قد عرفت تطورات خطيرة تتمثل خاصة في ظهور المنظمة السرية المسلحة(43) إبتداء من مستهل شهر مارس وشروعها في العمل التخريبي بواسطة التقتيل ونسف المؤسسات الإقتصادية، وقد توج ذلك بإنقلاب الجنرالات الأربعة صبيحة اليوم الثاني والعشرين من شهر أفريل. وفي داخل قيادة الثورة توترت العلاقات بين الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية وبين قيادة الأركان التي قدمت إستقالتها بواسطة رسالة تحمل تاريخ الخامس عشر من شهر جويلية، ضمنتها مآخذ كثيرة في مقدمتها التهاون والفوضى والرشوة.‏
                  وأمام هذه الأوضاع كلها، ونظراً لكون المجلس الوطني للثورة الجزائرية لم يجتمع في دورته العادية فإنه إستدعى لذلك، وأنطلقت إشغاله بطرابلس في اليوم الخامس من شهر أوت سنة واحدة وستين وتسعمائة وألف.‏
                  تواصلت أشغال المجلس مدة بين أعضاء قيادة الأركان وأعضاء الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية وخاصة منهم السيدين فرحات عباس وكريم بلقاسم، فبالنسبة للأول، يرى قادة الجيش أنه غير متشبع بإيديولوجية الثورة وأنه معتدل أكثر مما ينبغي وغير قادر على مواجهة الحكومة الفرنسية، ويرون بالنسبة للثاني أنه لم يحسن الدفاع عن الملف الجزائري في مختلف اللقاءات مع الجانب الفرنسي، وأنه قدم كثيراً من التنازلات بدون فائدة تذكر. ورداً على هذه الإتهامات التي لا تستند على دليل مادي، وزعت على المشاركين في الدورة محاضر جلسات التفاوض، وعمل رئيس الحكومة ونائبه على التشهير بقيادة الأركان التي "اتصلت بكل الأموال التي طلبتها وجلبنا لها كميات هائلة من الأسلحة المتطورة والذخيرة. وبدلاً من إمداد الداخل بما يحتاج إليه راحت تشغل نفسها بأمور سياسية لاناقة لها فيها ولا جمل(44) .‏
                  ويبدو للوهلة الأولى أن المجلس الوطني للثورة الجزائرية إنتصر لقيادة الأركان إذ صادق بالإجماع على إستبدال السيد ابن يوسف بن خدة الذي كان واحداً من القادة الأساسيين للحركة الثورية وواحداً من المساعدين الرئيسيين للشهيد العربي بن المهدي أثناء توليه إعادة تنظيم المنطقة الرابعة(45) والإعداد لمؤتمر وادي الصومام. وتجدر الإشارة إلى أن الرئيس ابن خدة الذي عين عضواً بأول لجنة التنسيق والتنفيذ قد ظل وفياً للخط الإيديولوجي ولم يفتأ ينادي بضرورة عودة القيادة العليا للثورة إلى أرض الوطن، عملاً بأولوية الداخل على الخارج. لكن السيد فرحات عباس لم ينظر إلى عملية إستبداله بهذا المنظار، بل رأى في الأمر إنحرافاً خطيراً لجبهة التحرير الوطني التي بعد هذا التعديل الجديد، قد أصبحت حكراً على عناصر حركة الإنتصار للحريات الديمقراطية يقول: "يظهر جلياً، بعد التحليل أن الحكومة المؤقتة الجديدة لم تعد تمثل جبهة التحرير الوطني في مجموعها، بل حركة الإنتصار للحريات الديمقراطية وحدها، فالمؤامرات التي حيكت في تونس قد أدت إلى إبعاد ممثلي الإتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين. ومع إقتراب موعد الإستقلال تجمع المركزون(46) واعتلوا الصدارة متهمين إيانا بالإنتهازيين والمتطفلين في حين أن الإتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري قد إنضم قبلهم إلى جبهة التحرير الوطني(47) . إن فرحات عباس، في تحليله هذا، لم يكن واقعياً ولا منطقياً، فمن جهة يؤكد إنضمام الإتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري إلى جبهة التحرير الوطني سنة ست وخمسين وتسعمائة وألف وطبقاً للشروط المعمول بها في ذلك الوقت أي حل التنظيم والإلتحاق الفردي والتخلي عن الإيديولوجية السابقة، ومن جهة أخرى يعلل إبعاده عن رئاسة الحكومة بكونه فقط من الإتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري، أما جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، فإن ممثلهم، أن صح هذا التعبير، قد أزيح عن التشكيلة الثانية التي كان يرأسها عباس نفسه، ولم ير داعياً يومها، للتعليق على الإجراء الذي اعتبر عملاً طبيعياً.‏
                  وبالنسبة للسيد كريم بلقاسم، فإن المجلس الوطني للثورة الجزائرية قد أبقاه نائباً للرئيس وعوضه عن الخارجية بوزارة الداخلية التي تركها، لخضر بن طوبال ليتولى، من منصب وزير الدولة، مهمة إعادة تنظيم جبهة التحرير الوطني وتحضيرها لقيادة الشعب بعد إسترجاع الإستقلال الوطني. وقد أسندت وزارة الشؤون الخارجية إلى السيد دحلب وهو الوزير الوحيد الذي يعين لأول مرة رغم عضويته للجنة التنسيق والتنفيذ منذ أشهرها الأولى(48) .‏
                  وإلى جانب تعديل الحكومة، قام المجلس الوطني للثورة الجزائرية بدراسة أوضاع جيش التحرير الوطني في الخارج وفي الداخل وأمر قيادة الأركان بالتراجع عن إستقالتها وأوصاها بمضاعفة الجهود من أجل تزويد الولايات بكل ما تحتاج إليه قصد تمكينها من الإستجابة لمتطلبات المرحلة الثالثة من مراحل الثورة، كما أنه ناقش الرسالة التي وجهها له القياديون المعتقلون الخمسة وتوقف، ملياً، عند مختلف المراحل التي قطعتها المفاوضات وأصدر تعليمات لمواجهة المراحل المقبلة.‏
                  وبينما كان المجلس الوطني للثورة الجزائرية يراجع إمكانياته، ويعيد ترتيب صفوفه، كان الجنرال ديغول يستمع إلى مستشاريه وفي مقدمتهم السيد بارنادر تريكو(49) الذي تجرأ على مصارحته بما يجري في الجزائر وما ترتب عنه من عواقب وخيمة بالنسبة للشعب الفرنسي، أما عن الجزائر، فقد توقف تريكو طويلاً عند المظاهرات الشعبية التي نظمتها جبهة التحرير الوطني بمناسبتي الفاتح والخامس من شهر جويلية سنة واحدة وستين وتسعمائة وألف، وقدم شروحاً وافية عن اللافتات والشعارات التي كانت كلها تنادي بوحدة الشعب ووحدة التراب الوطني، وتعبر عن مساندة الجماهير لسياسة الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، وتطالب بالتفاوض معها على أساس الإستقلال لكامل الوطن بما في ذلك الصحراء. ولم ينس المستشار تذكير الجنرال بأن تلك المظاهرات قد كلفت الشعب الجزائري حوالي مئة قتيل وأزيد من أربعمائة جريح(50) ، كما أنهى إلى مسامعه تصاعد العمل العسكري والفدائي الذي تقوم به جبهة التحرير الوطني التي أصبحت بالفعل تسيطر على كافة التراب الجزائري.‏
                  ومن جهة أخرى، فإنه لم يخف عليه تزايد النشاط التخريبي الذي تقوم به منظمة الجيش السري المنظمة السرية المسلحة) وأما عن فرنسا، فإن التقارير كلها أجمعت على أن أغلبية الشعب فيها أصبحت لا تخفي تذمرها من سياسة الجنرال ديغول التي طغت عليها حرب الجزائر بما فيها من تقتيل وتعذيب وتمرد الجنرالات ومن إدانات صادرة عن الأمم المتحدة وعن غيرها من المنظمات الدولية، كل ذلك في الوقت الذي تزيد فيه الأوضاع تدهوراً في المجالين الإقتصادي والإجتماعي خاصة.‏
                  لم يكن الجنرال متعوداً على سماع مثل هذه الحقائق المزعجة التي تجب إضافتها إلى الإنفجارات التي تستهدف، يومياً حياة الفرنسيين وممتلكاتهم في العاصمة الفرنسية نفسها ثم تلك الحادثة التي كادت تذهب بحياته ليلة التاسع من شهر سبتمبر سنة واحدة وستين وتسعمائة وألف(51) وما كان قبلها موجها ضد شخصيات فكرية وسياسية بارزة مثل أندري مالرو(52) وكنيل بلان رئيس بلدية إيفيان(53) . وتتويجاً للكل، تناقلت وكالات الأنباء في اليوم السابع والعشرين من شهر أوت تعيين السيد ابن يوسف بن خدة "الإرهابي" على رئاسة الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية خلفاً للسيد فرحات عباس المعتدل".‏
                  لقد قضى الجنرال ديغول أربعين شهراً في الحكم الذي ماكان يحلم بالعودة إليه لو لم تكن هناك ثورة الجزائر.‏
                  وخلال كل هذه الفترة لجأ إلى سائر الحيل، وإستعمل جميع الوسائل للقضاء، بقوة السلاح، على جبهة التحرير الوطني. عزز خط موريس بخط شال وأقام بينهما حقول الألغام، وعين الجنرال شال قائد أعلى للقوات المسلحة ووضع تحت تصرفه جميع إمكانيات الجيش الفرنسي لتطبيق مخططه المشتمل على العديد من العمليات التي قيل إنها ستمسح جبال الجزائر مسحاً لا يبقي ولا يذر، وإستعمل سلام الشجعان وحاول تكوين قوة ثالثة بواسطة مجموعة من المنتخبين الجزائريين وبعض التشكيلات السياسية، لكنه في النهاية إكتشف أن كل هذه المساعي لم تمكنه من إيجاد السبيل إلى الإحتفاظ بالجزائر الفرنسية، وأيقن أن الحال الوحيد للأزمة القاتلة التي تتخبط فيها فرنسا يكمن في التفاوض مع قيادة الثورة الجزائرية على أساس الشروط المسطورة في بيان الفاتح من نوفمبر.‏
                  فعلى هذا الأساس، ورغبة منه في طمأنة الحكومة الجزائرية الجديدة ودعوتها إلى إستئناف المفاوضات، شرع الجنرال ديغول في سلسلة من الزيارات إلى مختلف قطاعات فرنسا وفي كل مناسبة كان يتطرق إلى الحوار. وفي مستهل شهر سبتمبر عقد ندوة صحفية تعرض فيها لمسألة الصحراء بكيفية لم تكن متوقعة إذا أعترف، علنا، بسيادة الجزائر عليها، واعتبر ذلك من البديهيات التي لاتقبل المناقشة. ومما جاء في تلك الندوة الصحفية" أن سياستنا لن تكون إلا إستغلال البترول والغاز اللذين اكتشفناهما، وفي أن تكون لنا مطارات وحقوق للتنقل، وأما الواقع فإنه لا يوجد جزائري واحد لا يفكر في كون الصحراء جزء لا يتجزأ من الجزائر... معنى ذلك أن مسألة السيادة على الصحراء أمر مفروغ منه"(54) .‏
                  هكذا، إذن، لم يعد هناك ما يحول دون تقديم المفاوضات ولما يمنع إستئنافها خاصة وأن ديغول أكد في نفس الندوة الصحفية "ان الإستفتاء سيقود إلى تأسيس الدولة الجزائرية، بعد ذلك الإنتخابات التي ستنبثق عنها الحكومة النهائية... ومن الممكن أن تتولى سلطة جزائرية مؤقتة تسيير البلاد إلى أن يتحقق تقرير المصير وتتم الإنتخابات المذكورة"(55) .‏
                  (1) انظر الفصل السابق.‏
                  (2) مقابلة أجريتها 07/03/1984 مع الرائد مصطفى بن نوي وهي ما تزال مخطوطة ومحفوظة لديّ جاء في تلك المقابلة أن: من جملة الذين حاولوا ولم يحالفهم النجاح العقيد على كافي قائد الولاية الثانية سابقاً والرائد مصطفى بن نوي. عضو مجلس الولاية الأولى، علماً بأن الإثنين سبق لهما أن خرجا ودخلا مرات عديدة.‏
                  (3) أسندت هذه المهمة لمرافقة العقيد الشهيد محمد لعموري الرواد: عبد الله بن الهوشات وأحمد دراية ومحمد الشريف مساعدية الذين أطلق سراحهم وأرسلوا مع النقيب عبد العزيز بوتفليقة إلى الحدود الجزائرية- المالية.‏
                  (4) وخاصة منهم بلقاسم كريم وعبد الله بن طوبال أجريت الحديث معه يوم 17 أكتوبر سنة 1976 عندما كنت مسؤولاً عن الأمانة المركزية لحزب جبهة التحرير الوطني.‏
                  (5) مذكرات الجنرال، الجزء الأول، ص: 85 وكذلك المجاهد، العدد60 ص:5 وما بعدها.‏
                  (6) مذكرات الجنرال، الجزء الأول، ص ك 83.‏
                  (7) نفس المصدر، ص: 86.‏
                  (8) HORNE ALISTAITR) HISTORI DE GUERRE DALGERIRE, P. 370 ET‏
                  (9) الجنرال مذكرات، ص 92.‏
                  (10) نفس المصدر، ص:90.‏
                  (11) تشريح حرب، ص: 286.‏
                  (12) عندما وصل إلى مقربة من مدينة الأخضرية إشتبك سي صالح مع دورية للجيش الإستعماري فقاتل وأستشهد يوم 08/07/1960.‏
                  (13) مذكرات الجنرال، ص: 94.‏
                  (14) مدينة صناعية في فرنسا تقع على نهر السين جنوب شرقي باريس التي تبعد عنها بحوالي 45 كلم عدد سكانها حالياً لا يزيد عن أربعين ألف نسمة.‏
                  (15) من المحامين الجزائريين الأوائل، دافع عن مصالي الحاج في الثلاثينات ثم أصبح سنة 1944 واحداً من المسؤولين البارزين في الحركة أحباب البيان والحرية. وفي سنة 1946 أصبح نائباً لفرحات عباس على رأس الإتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري وقد ظل كذلك إلى غاية إندلاع الثورة فلازم الحياد ثم التحق بصفوف فدرالية جبهة التحرير الوطني بفرنسا والتي أصبح عضواً قيادياً فيها سنة 1957 وهي نفس السنة التي عين فيها عضواً بالمجلس الوطني للثورة الجزائرية. قام بدور أساسي في الميدان الديبلوماسي وفي سنة إثنتين وستين وتسعمائة وألف عين وزيراً للأشغال العمومية بأولى حكومة للجزائر المستقلة.‏
                  (16) من مواليد مدينة جيجل بالشرق الجزائري، ناضل في صفوف حركة الإنتصار للحريات الديموقراطية التي أسندت إليه مهمة تنظيم الطلبة إلتحق بجبهة التحرير الوطني سنة 1955 وعين عضواً بأول مجلس وطني للثورة الجزائرية. لمع كواحد من التقنيين الماهرين في فن المفاوضات أشتغل رئيساً لديوان السيد فرحات عباس في الحكومة الأولى. كان من المفاوضين في إيفيان، وفي سنة ثلاث وستين وتسعمائة وألف عين سفيراً للجزائر في الإتحاد السوفياتي ثم سفيراً في لندن سنتي 65/66 قبل أن يستدعيه هواري بومدين كوزير للإعلام ثم للتعليم العالي فالمالية. وفي سنة 1979 عين عضواً بالمكتب السياسي ووزيراً للخارجية، توفي على إثر حادث طائرة كانت تنقله إلى طهران سنة 1980.‏
                  (17) قبل إنطلاق الرصاصة الأولى حددت قيادة جبهة التحرير الوطني مراحل الثورة بثلاث هي على التوالي: مرحلة تعفن الأوضاع ونشر الوعي، مرحلة إنشاء المناطق المحررة على حدود الجزائر لضمان تزويد جيش التحرير الوطني، ومرحلة الإنتفاضة الشعبية مقتطف من الحديث الذي أجريته مع العقيد عبد الحفيظ بو الصوف يوم 23/02/ 1978).‏
                  (18) على إثر هزيمة المتطرفين الفرنسيين في الأسبوع الأخير من شهر جانفي سنة 1960 وإعتقال عدد من مسؤوليهم ظهرت إلى الوجود حركة سرية تحت إسم: "جبهة الجزائر الفرنسية" وبدأت تنشط رسمياً في شهر جوان من نفس السنة تحت الزعامة السياسية لكل من: JEAN MARIE LEPEN, SOUSTELLè BIDAULT LEPEN بمساعدة الباشاغة بوعلام الذي كان يقود حوالي 6000 من الجزائريين المسلحين ضد الثورة في منطقة الورشنيس. إنضم إلى هذه الجبهة كل من الجنرال SALAN و الجنرال JOUHAUD .‏
                  (19) تشريح حرب، ص: 296.‏
                  (20) نفس المصدر.‏
                  (21) دانيال جميلة عمران، حرب الجزائر 1954-1962) النساء في معركة الجزائر 1993ص: 203 وما بعدها.‏
                  (22) تريبي، ص: 506 وما بعدها.‏
                  (23) تشريح حرب، ص: 297.‏
                  (24) مذكرات الجنرال، الجزء الأول، 81 وما بعدها.‏
                  (25) انظر دراستنا حول هذا الموضوع في مجلة الجيش، العدد 19 الصادر بتاريخ 18/03/ 1972.‏
                  (26) ABBAS FE RHAT) LINDEPENDANCE CONFISQUEE, FLAMMARION LE 20/09/1984‏
                  (27) تكونت هذه اللجنة من السادة عبد الحفيظ بو الصوف ولخضر بن طوبال، المدعو سي عبد الله وعبد الحميد مهري وكريم باقاسم.‏
                  (28) مذكرات الجنرال، ص: 95.‏
                  (29) نفس المصدر، ص: 96.‏
                  (30) مذكرات الجنرال، الجزء الأول ص: 94.‏
                  (31) نفس المصدر، ص: 110.‏
                  (32) مذكرات الجنرال، ص: 97.‏
                  (33) نفس المصدر، ص: 80.‏
                  (34) السيتر هورن، تاريخ حرب الجزائر، ص 430 وما بعدها.‏
                  (35) CAHLLES MAURICE) NOTRE REVOLTE. PARIS 1968, P. 46 يقول المؤلف أن الحكومة الفرنسية والتشكيلة السياسية المساندة لها قد حاولتها طلبة سنة ستين بأكملها، تأسيس حزب حيادي يتبنى السياسة الديغولية المبنية على المشاركة. ورغم كل المجهودات المعتبرة المبذولة من طرف الإدارة، فإن القوة الثالثة لم تقف على رجليها بل ولم ترى النور بالكيفية التي كان يدعو إليها الجنرال ديغول.‏
                  (36) ألقي هذا الخطاب يوم 11 أفريل سنة واحدة وستين وتسعمائة وألف.‏
                  (37) مذكرات الجنرال الجزء الأول، ص103.‏
                  (38) مذكرات الجنرال، ص: 75.‏
                  (39) المقصود هنا هو الخطاب الذي ألقاه الجنرال ديغول يوم 04/11/1960.‏
                  (40) كان الطرفان الفرنسي بواسطة جورج بومبيدو والجزائري بواسطة أحمد بومنجل قد أعلنا يوم 30/03/1961 أن المفاوضات ستنطلق بإيفيان يوم 07/04/1961، لكن الحكومة الجزائرية أجلت ذلك التاريخ بسبب تصريح السيد لوس جوكس الذي جاء فيه أن فرنسا ستتفاوض كذلك مع الحركة الوطنية الجزائرية التي يتزعمها السيد الحاج مصالي.‏
                  (41) هو الإنقلاب الذي تزعمه الجنرال شال بمعية الجنرالات جوهر، زلروسالان وبمشاركة مجموعة من العقداء أمثال قارد، آركو وكان الهدف من الإنقلاب فصل الجزائر عن فرنسا لمدة ثلاثة أشهر يتولى خلالها القضاء على جيش التحرير الوطني وعلى شبح الجزائر المستقلة كي لا يبقى في التاريخ سوى الجزائر الفرنسية. لكن الجنرال ديغول قاوم المتآمرين واستطاع أن يفشل حركتهم في ثلاثة أيام اليستر هورن، ص464 وما بعدها).‏
                  (42) انظر الملحق رقم: 8.‏
                  (43) أول بيان نشر يوم 05/03/1961، قد ذكر فيه أنها تعمل من أجل الحفاظ على الجزائر فرنسية وهي مستعدة لتجنيد مائة ألف رجل ولها من الإمكانيات المادية ما يكفي لتحقيق أهدافها. ويذكر السيد محمد حربي في جبهة التحرير الوطني، ص 321 أن هذه المنظمة تأسست في شهر جانفي سنة 1961 لكن السيد اليستر هورن ص 456 يؤكد أن المحامي PIERRE POPIE قد أغتيل يوم 25/01/1961 من طرف المتطرفين الكولون وأن ذلك الإغتيال هو الذي أوحى لكل من لاقيارد وسورزيني بتكوين منظمة سرية مسلحة هي التي عرفت خطأ بمنظمة الجيش السري.‏
                  (44) فرحات عباس، تشريح الحرب، ص: 317.‏
                  (45) كان ذلك بعد إعتقال قائدها السيد رابح بيطاط.‏
                  (46) هم أعضاء اللجنة المركزية لحركة الإنتصار للحريات الديمقراطية المنشقة عن المكتب السياسي والمتمردة زعيمها مصالي.‏
                  (47) فرحات عباس، ص 318.‏
                  (48) انظر الفصل الثالث من الباب الثاني حول إستخلاف الشهيد زيغود بالسيد سعد دحلب.‏
                  (49) اليستار هورن تاريخ حرب الجزائر، ترجمة عن الإنكليزية أيف دي قارني، باريس 1980، ص: 495.‏
                  (50) نفس المصدر، ص: 490 وكذلك المجاهد، العدد 83 الصادر بتاريخ 19/07/ 1961، ص: 535 وما بعدها.‏
                  (51) مذكرات الجنرال، الجزء1، ص: 129.‏
                  (52) ضابط عسكري ورجل فكر وسياسة فرنسي من مواليد سنة 1901، له مؤلفات عديدة وحائز على جائرة قاتكور، شارك كطيار في صفوف الجيش الجمهوري أثناء الحرب الأهلية في إسبانيا، قام الإحتلال الألماني تحت قيادة الجنرال ديغول الذي قربه إليه وتصادق معه. وفي سنة 1947 إنتخب أميناً عاماً للتشكيلة السياسية الجديدة المسماة بجمع الشعب الفرنسي، عينة الجنرال ديغول وزيراً منتدباً لدى الرئاسة سنة 1985 وبعد ذلك بسنة عينه وزيراً للدولة مكلفاً بشؤون الثقافة.‏
                  (53) أغتالته منظمة الجيش السري يوم 19/05/1961 عشية إنطلاق مفاوضات إيفيان الأولى.‏
                  (54) مذكرات الجنرال، ص: 130.‏
                  (55) نفس المصدر.‏

                  إذا الشعب يوما أراد الحياة
                  فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                  و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                  و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                  تعليق


                  • #10
                    رد: تاريخ الجزائر المعاصر (1954-1962).الجزء الثاني

                    الحزب والمنظمات الجماهيرية:
                    وبعد تحديد المهام الأساسية للثورة الديمقراطية الشعبية وضبط محاوره الكبرى وحصر أساليب إنجازها، انتقل المؤتمرون إلى أداة التخطيط والتوجيه والمراقبة. وإذا كان الجميع متفقاً على أن هذه الأداة لايمكن إلا أن تكون هي جبهة التحرير الوطني(1) التي قادت الكفاح المسلح وحققت جميع الانتصارات التي قادت إلى اتفاقيات إيفيان، فإن الخلافات قد بدت واضحة عندما تعلق الأمر بتعريفها كتنظيم سياسي تسند إليه هذه المهمة الجديدة.‏
                    فحسب النصوص الأساسية السابقة لوقف إطلاق النار، فإن جبهة التحرير الوطني "مرشد الشعب ومحرك الثورة، وهي المنظمة التي تقوم بالكفاح المسلح من أجل محو النظام الاستعماري وبعث الدولة الجزائرية ذات السيادة وإقامة جمهورية ديمقراطية اجتماعية في إطار المبادئ الإسلامية، أو لاتكون مؤسساتها متناقضة مع المبادئ الإسلامية(2) .‏
                    إن جبهة التحرير الوطني، في ميثاق وادي الصومام، هي الهيئة الوحيدة التي تمثل الشعب الجزائري والمؤهلة للتفاوض باسمه ولإقرار وقف القتال(3) ، ولذلك فهي تنظيم ثوري وحركة جهادية مفتوحة لجميع الجزائريين الذين يتبنون برنامجها ويبدون، عملياً، استعدادهم للتضحية القصوى من أجل تجسيده على أرض الواقع.‏
                    ولقد كان برنامج جبهة التحرير الوطني، في بداية الأمر، بسيطاً وواضحاً إذ يتمثل في ممارسة الكفاح المسلح والعمل السياسي، بهدف استرجاع السيادة الوطنية وإقامة الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الاجتماعية في إطار المبادئ الإسلامية. وهذه البساطة وهذا الوضوح جعلا أغلبية الشعب الجزائري تتعاطف مع الثورة وتزودها بما تحتاج إليه من إمكانيات بشرية ومادية.‏
                    وبعد حوالي عام من انطلاق الرصاصة أعلنت أهم التشكيلات السياسية الوطنية عن حل نفسها وأمرت مريديها ومناضليها بالانضمام فرادى إلى صفوف جبهة التحرير الوطني التي تحولت، نتيجة لذلك، إلى حركة جماهيرية ترفع لواء الجهاد في سبيل الله وفي سبيل الوطن.‏
                    لكن السنوات الأخيرة من الكفاح المسلح عرفت تطوراً غير معهود ولا منتظر خارج حدود الجزائر، إذ تجمع عدد من المثقفين المعروفين بنزعتهم اليسارية في إطار أسرة تحرير اللسان المركزي لجبهة التحرير الوطني وراحوا يفلسفون الثورة انطلاقاً من مشاربهم الماركسية والغربية غير آبهين بواقع الشعب العربي المسلم الذي يخوض المعركة الحقيقية في داخل الوطن. وبينما كان جيش التحرير الوطني في مختلف الولايات يمارس الجهاد ويطبق الشريعة الإسلامية حسب المستطاع، كان أولئك المثقفون يكتبون على الورق أن الثورة الجزائرية لا يمكن إلا أن تكون اشتراكية، وأنها ديمقراطية شعبية، وأن جبهة التحرير الوطني منظمة لائكية إلى غير ذلك من الانحرافات التي ستكون بعد سنة اثنتين وستين وتسعمائة وألف، سبباً رئيسياً في تشتيت الصف وحرمان الثورة من العديد من طاقتها الحية.‏
                    وأثناء صياغة برنامج طرابلس اختلف أولئك المثقفون فيما بينهم حول مستقبل جبهة التحرير الوطني كتنظيم. فهناك من نادى بها منظمة جاهرية تتشكل صفوفها من الفلاحين والعمال والطلبة والشباب والمثقفين الثوريين(4) ، وهناك من دعا إلى جعلها حزباً طلائعياً يضم في صفوفه فقط العناصر الواعية والمؤمنة بمهام الثورة الديمقراطية الشعبية ومحاورها الكبرى وأساليب إنجازها ونظراً إلى أن الوقت لم يكن كافياً للفصل في الموضوع، ولأن المسؤولين الذين بيدهم سلطة القرار كانوا مشغولين بمسألة تشكيل المكتب السياسي، وحيث أن مجموعة العمل رغم يسارية أعضائها لم تكن قادرة على تجاوز خلافاتها المذهبية(5) ، فإن التعريف الذي تضمنه برنامج طرابلس قد جاء غامضاً وغير من مضمونه الإيديولوجي.‏
                    هكذا، وبدون سابق إنذار، أضيف إلى الوثيقة الأساسية المقدمة للمجلس الوطني للثورة الجزائرية ملحق بعنوان: الحزب. وكأنما للإجابة على تساؤلات القارئ الخالي الذهن استهل الملحق المذكور بما يلي: "لتحقيق أهداف ثورة ديمقراطية شعبية لابد من حزب جماهيري واع"(6) .‏
                    إن الحزبية في ذلك الوقت تتناقض جوهرياً مع حقيقة جبهة التحرير الوطني التي تأسست على أنقاض الأحزاب التي برهنت على فشلها في قيادة الشعب نحو توحيد واسترجاع الاستقلال الوطني، ولقد كان أعضاء المجموعة يعرفون ذلك ويعرفون، أيضاً أن الحزب الشيوعي هو من بين التشكيلات السياسية التي كانت تنشط في الجزائر قبل الفاتح من نوفمبر عام أربعة وخمسين وتسعمائة وألف، وهو التشكيلة الوحيدة التي رفضت حل نفسها وظلت تنافس جبهة التحرير الوطني وتتحداها إلى غاية وقف إطلاق النار، وعليه فإن اعتبار جبهة التحرير الوطني حزباً يقلل كثيراً من أخطاء القيادة الشيوعية ويفتح لها الأبواب واسعة للعودة إلى العمل كتنظيم مستقل بعد الاستفتاء والإعلان عن بعث الدولة الجزائرية من جديد.‏
                    وزيادة في الإبهام، جاء في الملحق أن "حزب جبهة التحرير الوطني ولد في خضم المعركة وهو ليس تجمعاً، لكنه تنظيم يضم كل الجزائريين الواعيين الذين يناضلون لصالح الثورة الديمقراطية الشعبية"(7) . وإذ هو يشتمل على طليعة القوى الثورية في البلاد، فإنه مطالب بأن يبعد من صفوفه كل تواجد أيديولوجي مخالف معنى ذلك أن المناضلين المسلحين وغير المسلحين الذين يظلون أوفياء لأيديولوجية الحركة الوطنية التي هي في أساس أيديولوجية جبهة التحرير الوطني يقصون من الصوف ويستبدلونك بآخرين يكونون متشبعين بالأيديولوجية الماركسية.‏
                    من هذا المنطلق نؤكد أن إعداد الملحق بهذه الصيغة كان مقصوداً من أجل دفع الثورة في طريق الانحراف بواسطة عزل القواعد النضالية والمنظمات الجماهيرية عن أيديولوجية الحزب وبالفعل، فإن الملحق يذكر أن التركيبة الاجتماعية للحزب تتكون من الفلاحين والعمال والشباب والمثقفين الثوريين، وأن الأغلبية الساحقة لهذه التركيبة من الأمنيين الذين ليس من السهل جعلهم يفهمون حقيقة الثورة الديمقراطية الشعبية كما هو محددة في الوثيقة المصادق عليها وعندما يتعذر عليهم الفهم كيف يمكن أن تطالبهم بالالتزام وبالعمل الميداني على تجسيد مشروع المجتمع الجديد.‏
                    ولأن مجموعة العمل كانت تعرف كل ذلك، فإنها لجأت إلى خلط الأوراق وتأجيل التوضيح الأيديولوجي إلى مابعد الدخول إلى أرض الوطن للتمكن من الاستحواذ على المرافق الأساسية في الحزب وخاصة منها مرافق التكوين والثقافة والإعلام.‏
                    وعلى الرغم من الغموض المقصود والتذبذب الناتج عن ذلك، فإن الملحق قد ضبط المبادئ الميسرة للحزب وفي مقدمتها المركزية الديمقراطية وانتخاب المسؤولين على جميع المستويات وتنظيم الاجتماعات دورياً وبانتظام والإكثار من اللقاءات بين القاعدة والقمة حتى يسهل فتح القنوات في اتجاه الجماهيرية الشعبية بعد ذلك حدد العلاقة بين الغرب والدولة وهي نقل يكاد يكون حرفياً عما كان موجوداً في الاتحاد السوفياتي.‏
                    أما عن المنظمات الجماهيرية، فإنها تعبر عن تنوع احتياجات الوطن وهي تتكفل بتنظيم الشباب والطلبة والنساء والعمال وتدافع عن مصالحهم الخاصة، وفي نفس الوقت تضمن مشاركتهم الفعلية في إنجاز مهام الثورة. ومهمة الحزب في هذا المجال تنحصر في المساعدة على إنشاء هذه المنظمات وتنشيطها في إطار برنامجه الشامل. ومما لاشك فيه أن نجاح هذه المهمة يتوقف نجاح تعبئة الجماهير الشعبية التي هي شرط لابد منه لجعل الجزائر قوية وعصرية.‏
                    وفيما يخص القانون الأساسي للحزب، فإن المجلس الوطني للثورة الجزائرية قد تبنى الوثيقة التي صادق عليها في دورته المنعقدة بطرابلس في الفترة مابين السادس عشر من شهر ديسمبر سنة تسع وخمسين وتسعمائة وألف والثامن عشر من شهر جانفي سنة ستين وتسعمائة وألف. وبهذا الصدد تجدر الإشارة إلى أن هذه الوثيقة كانت خاصة بجبهة التحرير الوطني وليس بحزب جبهة التحرير الوطني. ولكن يبدو أن ضيق الوقت هو الذي جعل المجموعة تكتفي بنقلها كماهي على القيام بالتغيير اللازم في المستقبل وسوف يكون ذلك المستقبل هو المؤتمر الأول للحزب في شهر أبريل سنة أربع وستين وتسعمائة وألف.‏
                    (1) لقد رجع المؤتمرون حول هذا الموضع إلى الوثيقة التي صادق عليها المجلس الوطني في دورته المنعقدة بطرابلس في الفترة مابين 16/12/1959 و 13/01/1960 والتي جاء في مادتها الرابعة: "بعد استقلال البلاد، فإن جبهة التحرير الوطني ستواصل مهمتها التاريخية كفائدة ومنظم للأمة الجزائرية من أجل الديمقراطية الحقة وتحقيق الازدهار الاقتصادي والعدالة الاجتماعية.‏
                    (2) انظر نفس المصدر وكذلك نداء أول نوفمبر.‏
                    (3) النصوص الأساسية لجبهة التحرير الوطني، ص ك 22 وما بعدها.‏
                    (4) مازالت جبهة التحرير الوطني محافظة على التعريف إلى غاية اليوم ورغم كل ماوقع من أحداث وتغيير.‏
                    (5) بعض أعضاء المجموعة مثل السيد محمد حربي، كانو تروسكيين، بينما كان بعضهم الآخر مثل مصطفى الأشرف ورضا مالك ومحمد بن يحيى ماركسيين ومتأثرين بقرانتز فانون، والوحيد الذي كان متشبعاً بأيديولوجيا الحركة الوطنية فهو عبد المالك تمام الذي لم يطلق سراحه إلا بعد وقف إطلاق النار.‏
                    (6) النصوص الأساسية لجبهة التحرير الوطني، ص93.‏
                    (7) نفس المصدر.‏

                    إذا الشعب يوما أراد الحياة
                    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                    تعليق


                    • #11
                      رد: تاريخ الجزائر المعاصر (1954-1962).الجزء الثاني

                      الفصـــــل الثالـــث أوضاع الجزائر غداة استرجاع السيادة الوطنية
                      المنافذ الاستعمارية:‏
                      لقد تعرضنا، في الفصل السابق، إلى تقييم الانتصارات التي حققتها اتفاقيات إيفيان بالنسبة لجبهة التحرير الوطني، وذكرنا أن الأهداف التي سطرتها هذه الأخيرة أنجزت في مجملها، وإذا كان المتفاوضون الفرنسيون لم يتمكنوا من المس بسلامة التراب الوطني ووحدة الشعب الجزائري رغم محاولاتهم المتعددة وإمكانياتهم المتنوعة فإنهم توصلوا، في نهاية الأمر، إلى فتح بعض المنافذ لإرساء قواعد الاستعمار الجديد ومنع الثورة من التواصل في الطريق المؤدية إلى استكمال تحرير الإنسان وأهم هذه المنافذ، في نظرنا، هي:‏
                      1)-تمكين الأوربيين من وضع خاص يجعلهم يستفيدون من الجنسيتين الجزائرية والفرنسية لمدة ثلاث سنوات، تحترم خلالها خاصيتهم الغربية واللغوية والدينية. وتباعاً لذلك، فإن المدن ذات الأغلبية الأوربية تكون متميزة عن سائر المدن الجزائرية، وتتعهد السلطات الجزائرية بعدم الاقتصاص من الفرنسيين والجزائريين الذين ناهضوا الثورة بأشكال وطرائق مختلفة.‏
                      لقد كانت السلطات الفرنسية تعتقد أن هذا البند، من اتفاقيات إيفيان، سوف يبقي الجزائر في أسر فرنسا لأن الأوربيين والعملاء من الجزائرين كانوا يشغلون على الأقل تسعين بالمائة من مناصب المسؤولية في مجالات الإدارة والاقتصاد والقضاء، وبالتالي فإن جبهة التحرير الوطني لن تتمكن من بناء المجتمع وإقامة الدولة المذكورين في نصوصها الأساسية، إذ من المستحيل مواصلة العمل الثوري بواسطة الإمكانيات البشرية التي أعدتها السلطات الاستعمارية بهدف الإبقاء على مصالحها وإلا كانت الثورة والاستعمار شيئاً واحداً.‏
                      ودائماً في إطار هذه النقطة، تشير اتفاقيات إيفيان إلى أن الجزائر المستقلة ملزمة باحترام ملكيات هذا الصنف من السكان وبعدم اتخاذ أي إجراء يجردهم من أملاكهم بتعويض عادل يحدد مسبقاً ويكون مقبولاً. معنى ذلك أن الأوربيين والعملاء يظلون محتفظين بكل ماهو بحوزتهم من مكتسبات بجميع أنواعها، وإذ أرادت جبهة التحرير الوطني أن تكون وفية للأهداف المنصوص عليها في المواثيق القديمة والجديدة فإنها تكون مجبرة على تقديم أموال طائلة لايمكن للخزينة العامة توفيرها.‏
                      ويحاول بعض المؤرخين والسياسيين الذين عالجوا هذا الموضوع التقليل من أهمية هذا المنفذ معتمدين على كون الأغلبية من الأوربيين قد رحلوا بمحض إرادتهم وتخلوا عن ممتلكاتهم بما في ذلك أراضيهم الخصبة الشاسعة. فرحيل الأوربيين هو في واقع الأمر، قرار لم يحل المشكل بل زاده تعقيداً لأنه أوجد وضعاً قانونياً جديداً لم تتعرض له اتفاقيات إيفيان وسوف تتخذ منه فرنسا وسيلة ضاغطة إلى أبعد الحدود من أجل تثبيت قواعد الاستعمار الجديد.‏
                      إن الأملاك الشاغرة في جميع الميادين ستظل موضوع نزاع الجزائر وفرنسا إلى غاية الثمانينات، بل إن بعض السياسيين الفرنسيين مازالوا حتى الآن ينادون بضرورة إعادة فتح ملف التعويضات، بينما لم تلجأ السلطات الجزائرية إلى المطالبة بالتعويض عن الإهمال المقصود الذي لايختلف في الحقيقة، عن عمليات التخريب المنظمة.‏
                      وإضافة إلى هذا الوضع القانوني الجديد، فإن رحيل الأوربيين قد أفاد العملاء الجزائريين الذين انشغلت عنهم السلطات الجزائرية بالعمل على سد الفراغ المهول الذي أحدثه ذلك الفرار المفاجئ، وسوف يستفيد الاستعمار الجديد كثيراً من السكوت عن هؤلاء العملاء وإحلالهم، فيما بعد، محل الفرنسيين الفارين.‏
                      هكذا، إذن، فإن جبهة التحرير الوطني التي اعترفت بها فرنسا ممثلاً وحيداً شرعياً للشعب الجزائري والتي أجمع المجلس الوطني للثورة الجزائرية على إبقائها قائداً ومرشداً للثورة الجزائرية، سوف تكون مضطرة للاعتماد على إدارة استعمارية يسيرها، عملياً، إطارات وموظفون جزائريون، ما في ذلك شك، ولكنهم معدون لمناهضة الثورة وليس لخدمتها. ولقد كان قبول هذا الوضع المحتوم تنازلاً خطيراً لأنه سوف يمكن أعداء الثورة من توظيف الإجراء الإداري بجميع أنواعه لعرقلة القرار الثوري ومنعه من التطبيق.‏
                      2)- تشكيل القوة المحلية من الجنود الجزائريين الذين يسرحون من صفوف الجيش الفرنسي أو من وحدات الحركة(1) و "القومية"(2) ويبلغ عدد أفرادها أربعين ألف رجل يقودهم ضباط جزائريون ينتقون من داخل الجيش الاستعماري، وتكلف هذه القوة بالحفاظ على الأمن وتوضع تحت تصرف الهيئات التنفيذية المؤقتة التي اتفق الطرفان الجزائري والفرنسي على إسناد رئاستها إلى الموثق الجزائري السيد عبد الرحمن فارس(3) .‏
                      لقد كانت الحكومة الفرنسية تراهن أن تكون القوة المحلية نواة الجيش الجزائري بعد الإعلان عن الاسترجاع للسيادة الوطنية، ولعلها تتحول بالتدريج إلى واحدة من المصادر الأساسية للسلطة نظراً للصراع القائم بين الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية المدعوة ببعض الولايات(4) وبين قيادة الأركان العامة التي أصبحت تستفيد من مساندة أحمد بن بلة وجماعته(5) ومن دعم الولايتين الأولى والسادسة.‏
                      إن فرنسا لم تعد ترتكب خطأ كبيراً في تقديراتها لأن الصراع القائم بين الحكومة المؤقتة وأفراد القوة المحلية يلتحقون بها جماعات وواحدنا، جنوداً وضباطاً وبذلك ضاعت إلى الأبد إمكانية المحاسبة، واختلط الحابل بالنابل وأصبح من المستحيل اعتماد الجيش كقوة وطنية متجانسة، خاصة وأن ضباط القوة المحليون لم يجدوا أية صعوبة في الربط مع زملائهم الذين سبقوهم إلى الحدود الشرقية والغربية ابتداء من مجيء الجنرال ديغول إلى الحكم.‏
                      إن اختراق جيش التحرير الوطني بهذه الطريقة وعلى مراحل مختلفة هو الذي مهد، شيئاً فشيئاً إلى إقصاء الضباط الوطنيين الذين لن يتكونوا في صفوف الجيش الاستعماري. فكلما أبعدت مجموعة كانت جبهة التحرير الوطني تخسر معركة وتفقد سنداً، ولقد كانت الأسباب كثيرة حتى لاتبدو عملية التصفية مقصودة. فأحياناً تثار مسألة التشبيب(6) وأحياناً أخرى تستعمل الترقية وسائر الإغراءات والاعتراف بالجهد المبذول إلى غير ذلك من الحجج التي في ظاهرها العفوية والنية الصادقة وفي باطنها يمكن التخطيط للتخلص من جميع الضباط المتشبعين بأيديولوجية الثورة حتى ينفرد بالسلطة المكونون في صفوف الجيش التي تتناقص تماماً مع الأهداف المسطورة الأساسية للثورة.‏
                      وإلى جانب القوة المحلية عمل بعض الضباط الساميون في الجيش الفرنسي، بالتعاون مع قيادة منظمة الجيش السري، على تشجيع عدد من الضباط الجزائريين العاملين في الجيش الاستعماري على التمرد بجنودهم وتكوين جيوش مستقلة من أجل محاربة جيش التحرير الوطني وإشعال نار الحرب الأهلية في الجزائر. وعلى سبيل المثال، تجدر الإشارة إلى حركة العقيد سي الشريف على رأس حوالي ألف مقاتل بناحية عين بوسيف الكائنة في ولاية المدية(7) وحركة عبد الله المصالي على رأس ثمانمائة مقاتل بناحية بوسعادة الكائنة في ولاية المسيلة(8) .‏
                      3)-ازدواجية اللغة في التعليم والإدارة والقضاء فصل الجزائر عن عروبته وإبقائها في دائرة الفرانكفونية التي هي مذهب سياسي يرمي إلى نشر الفكر الاستعماري في البلدان التي لها استعداد طبيعي لقبول التبعية بجميع أنواعها، ومما شك فيه أن نشر الفكر الاستعماري في حد ذاته، وسيلة لقولبة الذهنيات طبقاً لمتطلبات الاستعمار الجديد من جهة ولتعميم أنماط الحياة المؤدية إلى سلخ المجتمع عن أصالته وربطه بظروف الحياة السائدة في فرنسا التي هي مصدر ذلك الفكر من جهة ثانية.‏
                      إن هذه المهمة التي تبدو ثقافية في ظاهرها، أخطر بكثير من العمل العسكري الذي يهدف إلى فرض الاستعمار الاستيطاني. ولقد كانت فرنسا تدرك هذه الحقيقة وأبعادها، وتعرف أيضاً أن اللغة لايمكن أن تكون محايدة كما أنها لايمكن أن تكون مجرد وسيلة تبليغ، بل إنها وعاء حضاري وثقافي وعنصر أساسي من مقومات الشخصية بالإضافة إلى كونها أداة فعالة لاكتساب المعرفة ولصياغة نمط الحياة المميز للفرد والمجتمع على حد سواء.‏
                      ففي هذا السياق عملت اتفاقيات إيفيان على تكريس اللغة الفرنسية ضرة للغة العربية تحجبها عن الظهور متى شاءت، وتمنعها من التطور الحقيقي الذي يسمح لها بأن ترقى في وطنها على الأقل، إلى مصاف لغات العلم والتكنولوجية، وبأن تؤدي دورها الطبيعي في بناء الدولة المستقلة استقلالاً كاملاً.‏
                      وإذا كان المفاوضون الفرنسيون لم يتمكنوا من تثبيت اللغة الفرنسية كلغة رسمية في الجزائر فإنهم عملياً قد أعطوها مكانة أفضل، إذ جاء في البند الحادي عشر من وثيقة الضمانات: إن النصوص الرسمية تنشر أو تبلغ باللغة الفرنسية كما هو الشأن باللغة الوطنية وتستعمل اللغة الفرنسية في التعامل مع المصالح العمومية للجزائريين، من أصل أوربي، الحق في استعمالها خاصة في الحياة السياسية والإدارية القضائية(9) . وفي مجال التعليم تنص نفس المادة على أن الجزائريين من أصل أوربي أحرار في فتح وتسيير مؤسسات التعليم. وفي المادة الثانية من الوثيقة بالتعاون الثقافي تنص اتفاقيات إيفيان على كل واحد من البلدين يستطيع أن تفتح في البلد الثاني المدارس والمعاهد الجامعية التي يجري فيها التعليم طبقاً لبرامجه الخاصة ولتوقيته ومناهجه البيداغوجية. وتكون كل هذه المؤسسات مفتوحة لمواطني البلدين(10) . أما المادة التاسعة فهي تجعل كل واحد من البلدين يسهل دخول ونشر وتوزيع وسائل التعبير والتفكير القادمة من البلد الثاني، ويشجع، في كامل ترابه تعليم لغة البلد الآخر وتاريخه وحضارته وكذلك تنظيم التظاهرات الثقافية.‏
                      هكذا، إذن، تكون اتفاقيات إيفيان قد مهدت لتكريس الغزو الثقافي في الجزائر. ولقد كانت فرنسا تدرك أن الجزائر المسترجعة حديثاً لاستقلالها لايمكن أن تسمح لنفسها ببناء المؤسسات التعليمية والمراكز الثقافية والمعاهد الجامعية خارج ترابها الوطني. وحتى لو فرضنا أنها تستطيع ذلك فإن الذين يقبلون هذه المنشآت لن يكونوا سوى من أبناء المغتربين، في حين أن جميع الإمكانيات متوفرة لدى فرنسا لفتح ماتريد من المدارس والمعاهد والمراكز الثقافية التي ترتادها أعداد غفيرة من الجزائريين الذين نهلوا من ينبوع الثقافة الفرنسية أثناء ليل الاستعمار الطويل.‏
                      وتطبيقاً لاتفاقيات إيفيان فإن التعليم في الجزائر، لم يكن مزدوجاً رغم التنصيص على ذلك ولكنه بدأ فرنسياً محضاً لأن جميع المواد كانت تدرس باللغة الفرنسية حسب البرامج الفرنسية وبمعلمين وأساتذة إن لم يكونوا فرنسيين فممن تكونوا بواسطة مختلف الترقيات الاستعمارية وزودوا بذهنيات ترفض فكرة السيادة لأنها تفصلها عن الوطن الأم). أما اللغة الوطنية، فكانت تدرس شكلياً وكلغة فقط، الأمر الذي جعل السلطات المختصة تستغني عن وضع برنامج علمي لتدريسها ومخطط مضبوط يهدف بالتدريج إلى إحلالها محل لغة المغتصب السابق(11) .‏
                      ونظراً إلى المجهودات الجبارة التي بذلتها الدولة الجزائرية الفتية في قطاع التربية والتعليم، نستطيع القول إن اتفاقيات إيفيان قد رسخت اللغة الفرنسية ومكنت من نشرها عبر مختلف أنحاء الوطن ولم تترك حتى الأرياف والصحاري القاحلة وهي الأماكن التي عجز الاستعمار عن إيصال سمومه إليها أثناء ليله المظلم الطويل.‏
                      التسابق إلى السلطة:‏
                      كل هذه المنافذ وغيرها وظفت إلى أبعد الحدود من طرف فرنسا الاستعمارية التي وجدت لتأدية مهامها مساعدة غير منتظرة في تسابق القيادات الجزائرية نحو السلطة وفي تناقض تلك القيادات من حيث التكوين الأيديولوجي والمنطلقات الحضارية والفكرية والثقافية.‏
                      فالتسابق نحو السلطة لم يكن جديداً كما أنه لم يكن وليد وقف إطلاق النار، بل إنه بدأ مباشرة مع تكوين الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية كما سبقت الإشارة إلى ذلك في الفصل الثالث من الباب الثاني، وبلغ أوجه عندما تشكلت الحكومة الجديدة برئاسة السيد بن يوسف بن خدة الذي أقدم في السابع والعشرين من شهر سبتمبر سنة واحدة وستين وتسعمائة وألف على أمر الولايات بقطع جميع العلاقات مع قيادة الأركان العامة التي رغم استقالتها، لم تفقد سيطرتها الفعلية على جيش التحرير الوطني المرابط على الحدودين الشرقية والغربية(12) .‏
                      ولقد ازداد الخلاف حدة مع مطلع السنة الجديدة عندما عادت قيادة الأركان العامة إلى نشاطها وهي أكثر قوة من أي وقت مضى وعندما فشل السيد بلقاسم كريم في مسعاه المتعلق بتقسيم أعضائها(13) ثم عندما تقدمت المفاوضات مع فرنسا ولاح في الأفق تحالف محتمل بين أحمد بن بلة وقيادة الأركان العامة. صحيح أن السلطة كانت هي الهدف الأسمى الذي كانت جميع الأطراف تسعى إلى تحقيقه، ولكن المتصارعين عليها كانوا في جريهم وراءها ينطلقون من مواقف أيديولوجية مختلفة يمكن حصر أهمها في الآتي:‏
                      1-الموقف الرافض الذي يرى أن حل القضية الجزائرية يكمن، أولاً، في إلحاق هزيمة عسكرية بالجيش الاستعماري، وعليه فإن التفاوض مع العدو يعد تنازلاً خطيراً ونوعاً من الخيانة التي يجب التصدي لها بكل حزم وصرامة. وصاحبة هذا الموقف هي قيادات الأركان العامة التي تعتبر اتفاقيات إيفيان إجهاضاً للثورة وإرساء لقواعد الدولة الليبرالية في الجزائر(14) .‏
                      2-موقف القبول يرى أن الحل العسكري مستحيل، وأن التفاوض مع فرنسا هو الطريق الأوحد والأسلم لوقف إطلاق النار وتمكين البلاد من استرجاع استقلالها وبالطبع، فإن الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية هي صاحبة هذا الموقف وهي تعترف أن اتفاقيات إيفيان، على ما فيها من نواقص، صالحة لأن تكون قاعدة متينة لبناء الدولة الجزائرية كما هي محددة في النصوص الأساسية للثورة(15) .‏
                      وإذا كان الموقف الأول متأثراً بالثورية التي تريد أن تكون محصلة للتجربتين الكوبية والصينية وهو، من ثم، يشترط أن تنتقل السيادة الجزائرية مباشرة من الحكومة الفرنسية إلى الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، ويدعو إلى بناء مجتمع اشتراكي في الجزائر متمايز عن المجتمعات الاشتراكية الأخرى بارتكازه على أبناء الريف ورفضه لمبدأ الصراع الطبقي، فإن الموقف الثاني، في الظاهر، بنداء أول نوفمبر الذي اكتفى بالتفاوض مع فرنسا على أساس اعتراف هذه الأخيرة باستقلال الجزائر وبأن لا يتوقف إطلاق النار إلا بعد تسوية جميع القضايا السياسية. وفي الحقيقة فإن هذا الموقف متأثر برغبة ملحة لدى أعضاء الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية في إنهاء حالة الحرب "خوفاً من أن تعطي لفرنسا فرصة توظيف(16) الخلافات الداخلية لإجهاض الثورة". كما جاء في التفسيرات التي قدمها السيد ابن يوسف بن خدة.‏
                      وعلى الرغم من أن ثورية الموقف الأول إلا أن أصحابه لم يكونوا معروفين على الساحة السياسية، ولذلك توجهوا إلى قصر أولنوي(17) ووقع اختيارهم في بادئ الأمر، على السيد محمد بوضياف لما اشتهر عنه من قدرة التنظيم على محاربته لعبادة الشخصية وتشبع بالمبادئ اليسارية لكن بوضياف رفض عرض مبعوث قيادة الأركان العامة السيد عبد العزيز بوتفليقة نظراً لارتباطه مع الحكومة المؤقتة وبالضبط مع السيد بلقاسم كريم الذي كان قد تحالف معه من قبل ضد السيد أحمد بن بلة. ولقد تبنى هذا الأخير موقف قيادة الأركان العامة بدون أدنى تردد وأعلن عن انضمامه إليها من أجل فرض حلها للأزمة والمتمثل في تشكيل مكتب سياسي يكون مسؤولاً عن الحكومة المؤقتة وفي وضع مشروع جديد للمجتمع الجزائري(18) .‏
                      ومما لاشك فيه أن قبول السيد أحمد بن بلة هذا التحالف مدفوع في جزء منه بمصالح الشخصية ولكنه، أيضاً جاء نتيجة تكوينه السياسي والأيديولوجي خاصة عندما نعرف أن فكرة الثورة بواسطة الأرياف تحتل مكانة رئيسية في برنامج نجم شمال إفريقيا ومن بعده حزب الشعب الجزائري وحركة الانتصار للحريات الديمقراطية، في هذا الجو المكهرب اجتمع المجلس الوطني للثورة الجزائرية وصادق، كما ذكرنا على برنامج طرابلس ثم لم ينه أشغاله، بل توقف عند مسألة تشكيل الهيئات العليا التي تسند إليها مسوؤلية تسيير شؤون البلاد بعد اتفاق الجميع على أن "جبهة التحرير الوطني ستواصل مهمتها التاريخية في قيادة الثورة(19) .‏
                      وتعبيراً عن الموقفين المذكورين أعلاه تبلورت في داخل المجلس نزعتان رئيسيتان. إحداهما بزعامة السيد أحمد بن بلة وهي ترى أن المكتب السياسي المزمع انتخابه يجب أن يتكون من سبعة أعضاء وأن تعطى له كل الصلاحيات اللازمة لقيادة البلاد إلى أن يتم تزويدها بالمؤسسات الشرعية المنتخبة، واقترح السيد أحمد بن بلة إلى جانب اسمه كلاً من السادة: محمد خيضر، محمد بوضياف، حسين آيت أحمد، رابح بيطاط، محمدي السعيد والحاج بن عله. أما النزعة الثانية فقد تزعمها السيد كريم بلقاسم، الذي اقترح مكتباً سياسياً من تسعة أشخاص وهم بالإضافة إلى اسمه: حسين أحمد، محمد بوضياف، محمد خيضر، رابح بيطاط، عبد الله بن طوبال، عبد الحفيظ بوالصوف، أحمد بن بلة، وسعد دحلب.‏
                      وعلى إثر مشاورات فردية قامت بها لجنة(20) عينها المجلس لهذا الغرض، تبين أن قائمة ابن بلة تحظى بتأييد ثلاثة وثلاثين عضواً بينما لم يؤيد قائمة السيد كريم سوى واحد وثلاثون عضواً فالفارق إذن، كان ضئيلاً جداً وهو معرضاً للزوال لأن من المؤتمرين لم يعبرا عن رأيهما. وزيادة على ذلك، فإن تشكيليتين لم يراع فيهم التجانس، بل أن آيات أحمد ومحمد بوضياف قد صرح أنهما يرفضان مشاركة في هيئة عليا يشرف عليها السيد أحمد بن بلة، وذلك بحجة أنهما لم يتفقا معه طيلة سنوات السجن وأن نظرتهما للجزائر تختلف كلية عن نظرته.‏
                      وعندما نراجع قائمة التشكليتين نستثني الحاج بن علة، فإننا نجد كل العناصر المقترحة لعضوية المكتب السياسي كانوا وزراء في الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية ووقعوا قبل غيرهم، على اتفاقيات إيفيان وبالتالي فهم يكادون يمثلون توجه واحد ولاتفارق بينهم سوى الحساسيات الشخصية والحزازات التي لاعلاقة لها بأيديولوجية جبهة التحرير الوطني. وإذا تعمقنا أكثر في التحليل، فإننا نجد أن الخلاف بين السيدين أحمد بن بلة وبلقاسم كريم لايعود إلى أشياء جدية ولكنه، فقط، ينطلق من اعتقاد كل واحد منهما أنه أحق من الآخر لقيادة الثورة.‏
                      فالسيد بلقاسم كريم يرى أنه التاريخي الوحيد من بين مفجري الثورة الذي ظل طليقاً وعلى قيد الحياة، ولم يتوقف لحظة واحدة عن نشاطه كمسؤول في أعلى قمة الهرم القيادي، وعليه فهو أولى من غيره وخاصة من ابن بلة الذي لم يعش الثورة من الداخل ولم ينشط لفائدتها في الخارج سوى أشهر معدودة اعتقل بعدها ولم يستعمل السلاح الذي كان معه يوم اعتقاله ثم ظل يتابع الأحداث وفي مأمن من أخطارها(21) .‏
                      أما السيد ابن بلة فيرى أنه أولى بقيادة الثورة لأنه كان مسؤولاً عن المنظمة الخاصة التي كانت في أساس اندلاعها في حين أن السيد كريم من أنصار الكتلة المصالية إلى غاية الأيام الأخيرة التي سبقت بدء الكفاح المسلح، وإضافة إلى ذلك، فإن السيد كريم يتحمل مسؤولية كبرى في عقد مؤتمر وادي الصومام الذي يصفه السيد أحمد بن بلة بالمنعطف الخطير في طريق انحراف الثورة.‏
                      ومهما يكن الأمر، وأمام عدم ظهور أغلبية حقيقية لصالح واحد من الاقتراحيين فإن أطرافاً كثيرة قد حاولت تقريب وجهات النظر وكان من الممكن أن يتفق الجميع على مكتب سياسي مكون من أحد عشر عضواً ويكون متضمناً لكل الأسماء الواردة في القائمتين. لكن ذلك لم يحدث بسبب تعنت السيد أحمد بن بلة الذي رفض عضوية الباءات الثلاث. ويقول السيد ابن يوسف بن خدة أنه خشي على الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، المسؤولة مباشرة على توقيع اتفاقيات إيفيان، وخشي أيضاً، أن يقود استمرار الخلاف إلى تفجير الأوضاع، فتحمل مسؤولية كاملة وغادر طرابلس إلى تونس في اليوم السابع من شهر جوان مرفوقاً بالسيد محمد بوضياف وآخرين(22) .‏
                      هكذا، فإن المجلس الوطني للثورة الجزائرية لم يختتم أشغاله رسمياً ولم ينتخب أية هيئة سياسية عليا أو دنيا كما أنه لم يجدد ثقته للحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، معنى ذلك أن الأزمة ازدادت حدة وأن الأمل في تسويتها بالطرق السلمية لم يعد وارداً، وراح كل طرف يبحث عن أنصار أقوياء يستعين بهم للاستيلاء على السلطة، ومعلوم أن الأنصار الأقوياء موجودين فقط على رأس القوات المسلحة.‏
                      أما أحمد بن بلة، فإنه ضمن، تأييد قيادة الأركان العامة والولايتين الأولى والسادسة ثم راح يجمع، حوله، الإطارات السياسية التي تريد تصفية حساباتها مع الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية أو مع الباءات الثلاث. وأما ابن يوسف بن خدة، فإنه استمال الولايات الرابعة والخامسة والثانية والثالثة بالإضافة إلى منطقة العاصمة وفيدرالية جبهة التحرير الوطني في أوربا ثم أعلن، باسم الحكومة، عن حل قيادة الأركان العامة وراح يبحث في الحدود الشرقية والغربية عن بديل لها(23) .‏
                      وفي نفس هذا الإطار، ومخالفة للاتفاق المبرم مع فرنسا، دخل السيدان محمد بوضياف وبلقاسم كريم إلى الجزائر خفية في اليوم التاسع من شهر جوان(24) . لقد كان دخولهما بالاتفاق مع رئيس الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية من أجل حمل الولايات على تنسيق حركتها وتكوين هيئة موحدة لمواجهة قيادة الأركان العامة التي رفضت الامتثال لقرار حلها وشرعت في الإعداد لإدخال جيش التحرير الوطني إلى أرض الوطن. وكما كان منتظراً انعقد في زموره بالولاية الثالثة، اجتماع دام يومي الرابع والعشرين والخامس والعشرين من نفس الشهر وشارك فيه ممثلون عن الولايات الثانية والثالثة والرابعة وعن منطقة العاصمة وفيدرالية فرنسا. وبعد التداول حول مجمل القضايا المطروحة على الساحة الوطنية، لاحظ المجتمعون أن الحكومة فقدت هيبتها ولجنة التنسيق تسند إليها مهمة وضع قوائم المرشحين للمجلس التأسيسي، وضبط الشروط الموضعية اللازمة لعقد المؤتمر الوطني، وتنظيم عملية إدماج وحدات جيش التحرير الوطني المرابطة على الحدود في ولايتها الأصلية وتوفير الوسائل الضرورية لإدخال الأسلحة والذخيرة المخزونة في الخارج(25) .‏
                      ولقد كان من الممكن أن تؤدي هذه اللجنة التنسيقية دوراً بالغ الأهمية في تغيير موازين القوة لو أنشأت قبل إطلاق النار، وحظيت بمشاركة باقي الولايات. لكن ظهورها عشية الاستفتاء أضفى عليها طابع المحاولة اليائسة لسد الطريق في وجه قيادة الأركان العامة التي لم تكن بحاجة إلى أراضي كل الولايات لإدخال الجيوش المرابطة على الحدود.‏
                      فالولايات التي لم تستجب لنائبي رئيس الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية هي التي كانت تتحكم في جميع البوابات الحدودية المعينة لتحقيق العودة إلى البلاد. فالحدود الغربية كلها تقع في أراضي الولاية الخامسة بينما تمتد معظم الحدود الشرقية على أراضي الولاية الأولى والقاعدة الشرقية أما اللجنة التنسيقية التي أدانت أعضاء قيادة الأركان العامة قد طلبت من الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية أن تبقى موحدة وأن تستمر في التحضير لما بعد الثاني من شهر جويليه سنة اثنتين وستين وتسعمائة وألف، كما أنها شرعت في تنظيم الحملات الدعائية ضد مناورات السيد بن بلة وجماعته، لكن مجرد الكلام لم يعد يجدي نفعاً بل لابد للتخطيط النظري أن يكون مدعوماً بالقوة العسكرية وهو ماكان ينقص الحكومة المؤقتة.‏
                      أما السيد أحمد بن بلة الذي تأكد من أن الوضع العسكري كان لصالحه وأن قيادة الأركان العامة تتحكم في الميدان كما ينبغي، فإنه تفرغ للتعبئة السياسية واستطاع في ظرف قصير جداً أن يجمع حوله عدداً كبيراً من المسؤولين الممثلين فعلاً، لتوجيهات مختلفة لكنهم موحدون من أجل إسقاط الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، وتجاوز المجلس الوطني للثورة الجزائرية.‏
                      ومن بين المسؤولين البارزين الذين أضفوا على حركة ابن بلة طابع الشمولية والشرعية والوحدة تجدر الإشارة إلى السيد فرحات عباس الذي كان محاطاً بالإطارات القيادية في الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري(26) . ولو كان الأمر يتعلق بصراع أيديولوجي لتموين عباس في الجانب الآخر الذي يعود إلى احترام اتفاقيات إيفيان التي خططت للنظر الليبرالي في الجزائر. وهناك أيضاً مجموعة من الإطارات الذين شاركوا في اجتماع الاثنين والعشرين والذين تم اعتقالهم في فترات متفاوتة وأَهملوا مدة حبسهم من طرف القيادة العليا ممثلة في شخص الباءات الثلاث(27) .‏
                      وإذا كان السيد بن خدة قد طار إلى تونس حيث استأنف مهامه كرئيس للحكومة المؤقتة المسؤولة تجاه فرنسا عن تطبيق اتفاقيات إيفيان، فإن السيد أحمد بن بلة قد توجه إلى القاهرة معلناً عن شق عصى الطاعة مدعياً فيما بعد، أن الحكومة المؤقتة التي كان هو أحد نواب رئيسها قد حلت بمجرد انعقاد المجلس الوطني للثورة الجزائرية، لكن ذلك غير صحيح، لأن المجلس رفض بالإجماع استقالة الحكومة ولم يعين أخرى بديلة لها. وحينما ألح السيد ابن خدة على تقديم استقالته، فإن السيد ابن بلة قد قاد حملة واسعة النطاق من أجل إرغامه على سحبها(28) . ويبدو أنه إنما فعل ذلك، فقط، ليسد طريق الرئاسة في وجه السيد بلقاسم كريم الذي كان يسعى جاهداً للحصول عليها.‏
                      فذهاب ابن بلة إلى القاهرة بدون استشارة أحد كان، إذن، دليلاً على بدء الصراع العلني. وقد كان من المفروض أن يلتحق بتونس من أجل اجتماع توضيحي ومن أجل لم شمل الحكومة وإجراء التحليلات اللازمة بحثاً عن عدم قدرته على الارتقاء إلى مستوى عظمة الحركة الجهادية في الجزائر.‏
                      وبينما كانت الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية تواصل نشاطها كسلطة تنفيذية عليا لجبهة التحرير الوطني، كان ابن بلة في القاهرة يدعو إلى عدم الاعتراف بقراراتها ويندد بسلوكات أعضائها الذين هم في الواقع زملاؤه في النضال ولهم فضل البقاء خارج المعتقلات لضمان مواصلة الكفاح المسلح.‏
                      ولقد كانت الثورة الجزائرية تستفيد أكثر لو أن أعضاء الحكومة كلهم اجتمعوا في تونس برنامج طرابلس على ضوء وثيقة وادي الصومام ومن أجل الاستعداد ميدانياً لما بعد الإعلان عن استرجاع السيادة الوطنية ولمواجهة آثار التخريب الذي قامت به منظمة الجيش السري(29) .‏
                      وبفضل وساطات متعددة قامت بها جهات مختلفة وخاصة منها الحكومة المصرية وفي مقدمتها الرئيس جمال عبد الناصر رجع ابن بلة إلى تونس وعقدت الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية اجتماعاً مطولاً في اليوم السادس والعشرين من شهر جوان. لكن الأمور ازدادت تعقيداً عندما حضر الاجتماع المذكور ممثلون عن اللجنة التنسيقية للولايات(30) ، ومعهم اقتراح بفصل رئيس وأعضاء قيادة الأركان العامة.‏
                      يقول السيد محمد حربي: إن الاقتراح كان من وحي السيدين كريم بلقاسم ومحمد بوضياف)(31) لكنه لايقدم أي دليل على ذلك. وقد اعتبره السيد أحمد بن بلة إجراءاً استفزازياً ورفض حتى مجرد مناقشته ثم غادر قاعة الاجتماع. أما السيدان آيت أحمد وبوضياف فإنهما وجدا فيه حلاً صائباً للأزمة القائمة بين الحكومة وقيادة الأركان العامة في حين أبدى السيد محمد خيضر معارضة شديدة له، وعلى سبيل الاحتجاج قدم استقالته التي كانت إيذاناً بانتهاء الحكومة وإعلاناً عن وقوفه رسمياً إلى جانب ابن بلة وقيادة الأركان العامة.‏
                      لم تكن لهذا الصراع أسس أيديولوجية، ولم يكن من أجل الدفاع عن مصالح الثورة، ولذلك فإن المساعي باءت بالفشل، واليوم، وبعد أكثر من ثلاثين سنة من وقوع الحادث نستطيع الجزم بأنه، في لحظة من اللاوعي واللاشعور، تمكن من القضاء على مكتسبات وطنية تطلب تحقيقها كثير من التضحية، وفي مقدمة تلك المكتسبات وجود وحدة الشعب الجزائري التي لم يجبر كسرها بعد ذلك الحين. ومن جهة ثانية أن الصراع على السلطة قد أهمل الجانب الأيديولوجي وحرم الجماهير الشعبية الواسعة من المشاركة الفعلية في مناقشة مشروع المجتمع المزمع تجسيده على أرض الواقع.‏
                      إن المعتقلين التاريخيين الأربعة(32) يتحملون أكبر قسط من المسؤولية فيما وقع من مشاكل زائفة أفرغت الثورة من محتواها الحقيقي وفتحت أبواب القيادة واسعة للخونة والانتهازيين على اختلاف أنواعهم. وأول مايعاب على أولئك التاريخيين عجزهم عن التفاهم فيما بينهم وهم في سجن واحد وأمام عدو واحد ومصير واحد ورغم تشبعهم بأيديولوجية واحدة.‏
                      أما عيبهم الثاني فيتمثل في عدم قدرتهم على توظيف فترة اعتقالهم التي بلغت خمسة وستين شهراً لوضع مشروع مجتمع متكامل وبرنامج عمل شامل قصد مواجهة الفترة الموالية لوقف إطلاق النار واسترجاع الاستقلال الوطني، وإذ لم يفعلوا كل ذلك فإنه كان عليهم أن يتعففوا ويتركوا مسؤولية القيادة لمن برهنوا على أنهم أهل لها.‏
                      وعلى إثر انفضاض اجتماع الحكومة المؤقتة بالطريقة المشار إليها أعلاه، توجه السيد محمد خيضر في اليوم السابع والعشرين من شهر جوان إلى الرباط، وفي اليوم الموالي طار ابن بلة إلى القاهرة التي لن يغادرها إلا ليلتحق بصاحبه في اليوم التاسع من شهر جويلية. أما الحكومة المؤقتة فإنها دخلت إلى العاصمة يوم الإعلان عن استرجاع الاستقلال الوطني وهي مبتورة الأعضاء بفعل تمرد بعضهم واستقالة بعضهم الآخر(33) .‏
                      وبعد ذلك التاريخ بأسبوع، شرع السيد أحمد بن بلة في تنفيذ انقلابه الذي كلف الجزائر آلاف القتلى والجرحى بالإضافة إلى تهميش مئات الإطارات ممن دللوا، في الميدان وفي وقت الشدة، على تحليهم بالكفاءة والنزاهة والالتزام. وكانت أول محطة هي تلمسان التي بدأت تستقبل أنصاره منذ اليوم الحادي عشر من شهر جويلية والتي وقع عليها الاختيار لكونها الولاية التي بها مسقط رأسه(34) ولأن واليها السيد أحمد مدغري الذي يعتبر من العناصر الأكثر وفاء للعقيد هواري بومدين. وفي اليوم السابع عشر من نفس الشهر اجتمع بقادة الولايات في مدينة الشلف الحالية وطلب منهم تزكية المكتب السياسي الذي اقترحه على المجلس الوطني ولم يحصل إلا على واحد وثلاثين صوتاً من جملة ستة وستين.‏
                      ومن الجدير بالذكر أن الولاية الثالثة أعطت موافقتها شريطة استبدال السيد محمدي سعيد بالسيد بلقاسم كريم(35) . وبينما اقترحت الولاية الرابعة تكوين المكتب السياسي مؤقتاً من قادة الولايات وتكليفها فقط بتحضير المؤتمر الوطني الذي ينتخب المؤسسات والهيئات الوطنية القارة، فإن الولايات الأولى والخامسة والسادسة قد طلبت مهلة للتشاور مع مجالسها. لكن ابن بلة الذي استجاب لرغبتهم لم ينتظر عودتهم إلى تلمسان وفاجأ الجميع في اليوم الثاني والعشرين من الشهر ذاته بالإعلان عن تأسيس المكتب السياسي مشكل من سبعة أعضاء هم: أحمد بن بلة، محمد خيضر، رابح بيطاط، حسين آيت أحمد، محمد بوضياف، محمدي السعيد والحاج بن عله.‏
                      ورغم المفاجأة والإعلان الأحادي، فإن موقف الحكومة المؤقتة والولايات كان متزناً إلى أبعد الحدود إذ لم يشترط سوى استدعاء المجلس الوطني للثورة الجزائرية وإنهاء حالة الحصار المفروضة على قسنطينة. لكن ابن بلة كان يعرف عواقب ذلك الشرط، وعليه فإنه أمر باحتلال قسنطينة بواسطة جيش الحدود وقرر أن المكتب السياسي هو البديل للمجلس الوطني للثورة الجزائرية(36) .‏
                      وفي اليوم الموالي وهو اليوم السادس والعشرون من شهر جويلية أعلن السيدان محمد بوضياف وبلقاسم كريم عن معارضتهما، وشكلا، في تيزي أوزور، اللجنة الوطنية للدفاع عن الثورة محددين لها مهمة التحضير للمؤتمر وللانتخابات التشريعية.‏
                      وترتب عن الإعلان المذكور دخول الطرفين في مفاوضات تخللتها أحداث كثيرة وقادت في النهاية إلى إبرام اتفاق بين المعنيين في اليوم الثاني من شهر أوت. وبمقتضى ذلك الاتفاق تراجع السيد بوضياف عن استقالته من المكتب السياسي الذي كلف، دون غيره، بإعداد قوائم الانتخابات وبتولي المهام التي كانت مسندة إلى الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية. وفي اليوم العشرين من شهر سبتمبر توجه الشعب الجزائري إلى صناديق الاقتراع وزكى القوائم المقدمة له والمكون لأول مجلس تأسيسي ترأسه السيد فرحات عباس، وانبثقت عنه أول حكومة برئاسة السيد أحمد بن بلة.‏
                      (1) الحركة هم الجزائريون سلحهم الجيش الفرنسي ونظمهم في وحدات صغيرة وضع على رأسها ضباطاً وصف ضباط.من الفرنسيين قصد استعمالهم لمحاربة جيش التحرير الوطني. ولقد أدت الحركة ادوراً خطيرة خاصة في الأرياف حيث كانوا أكثر شراسة من الاستعماريين أنفسهم.‏
                      (2) القومية هم الجزائريون الذين جندهم القواد والباشغوات لمحاربة جيش التحرير الوطني. وفي كثير من الأحيان فإنهم لم يكونوا مدركين لخيانتهم.‏
                      (3) من المواليد أقبوا منطقة مايسمى بالقبائل الصغرى سنة 1911. أنهى دراسته الابتدائية في بجاية ثم في مسابقة المحضرين القضائيين واشتغل ككاتب ضبط في سبدو بالغرب الجزائري ثم عمل موثقاً في القل على الساحل الشمالي الشرقي. وعندما عاد إلى العاصمة التحق بصفوف الحزب الاشتراكي الفرنسي وانتخب سنة 1945 نائباً بالمجلس التأسيسي. وفي سنة 1948 الإذاعة يدعو فيه الهدوء ويطالب بالاندماج الكامل، وعلى إثر ذلك حكمت عليه جبهة التحرير الوطني بالإعدام. أنضم إلى جبهة التحرير الوطني سنة 1957 ويذكر أنه رفض المشاركة في حكومة الجنرال ديغول سنة 1958. ألقي عليه القبض سنة 1961 ولم يطلق سراحه إلا ليرأس الهيئة التنفيذية المؤقتة.‏
                      (4) الولايات التي تدعم الحكومة المؤقتة هي: الثانية، الثالثة، الرابعة، والخامسة بالإضافة إلى فيدرالية جبهة التحرير الوطني بفرنسا.‏
                      (5) تتكون هذه المجموعة خاصة من: محمد خيضر. رابح بيطاط، فرحات عباس والحاح بن علة.‏
                      (6) علماً بأن الذين كانوا يحالون على التقاعد، كانوا في كثير من الأحيان أقل سناً وأكثر علماً من الآمرين بإحالتهم على المعاش.‏
                      (7) كانت هذه الولاية الإدارية للولاية الرابعة. وتقع المدية على بعد حوالي سبعين كلم جنوبي العاصمة.‏
                      (8) تقع مدينة بوسعادة على بعد مئتين وخمسين كلم جنوبي شرقي العاصمة، وفي أثناء الثورة تابعة للولاية السادسة.‏
                      (9) عبد الرحمن فارس، الجزائر من سنة 1945 إلى الاستقلال، باريس 1982، الملحق رقم4 ص185 ومابعدها.‏
                      (10) انظر الملحق رقم 12 الوثيقة المتعلقة بالتعاون الثقافي.‏
                      (11) المعهد التربوي، برنامج التعليم الابتدائي والمتوسط والثانوي، وزارة التربية الوطنية، مديرية البرامج، سبتمبر 1972.‏
                      (12) حربي محمد) جبهة التحرير الوطني، ص286.‏
                      (13) ذكر السيد عبد الحفيظ بو الصوف أن كريم عرض على بومدين رتبة جنرال. وأن هذا الأخير سجل عرضه على غير علم منه ووزعه على إطارات جيش التحرير الوطني للتقليل من شأنه.‏
                      (14) ابن بلة احمد) حديث في بيته يوم 24/06/1991 ويؤكد الرئيس بن بلة تأييده لهذا الموقف وهو مابعد يقبل التحالف مع قيادة الأركان ضد الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية.‏
                      (15) بن يوسف بن خدة، اتفاقيات إيفيان، ص26.‏
                      (16) المصدر نفسه.‏
                      (17) حيث كان القادة الأربعة معتقلين وهو كائن ببلدية أولنوي في شمال فرنسا.‏
                      (18) بوتفليقة عبد العزيز) حديث أجريته معه يوم 16/04/1991 في بيت السيد محمد الشريف مساعديه.‏
                      (19) حزب جبهة التحرير الوطني، الأمانة الدائمة للجنة المركزية، النصوص الأساسية لجبهة التحرير الوطني 1954-1962. نشر وتوزيع قطاع الإعلام والثقافة، الجزائر 1987 ص53. ومابعدها.‏
                      (20) تشكلت هذه اللجنة من العقيد محمد يزوران والرائد أحمد ومحمد بن يحيى والحاج بن عله.‏
                      (21) بو الصوف عبد الحفيظ) اللقاء المشار إليه سابقاً.‏
                      (22) ابن خدة ابن يوسف) اتفاقيات إيفيان، ص21.‏
                      (23) حربي محمد) جبهة التحرير الوطني، ص288.‏
                      (24) Fares Abderrahmune) la Cruelle veise, L'Agerie 1954 a l,inaependance plon, paris 1982 p.126‏
                      (25) Ben Khedda Ben Youcef) Historique FLN, Alger, 1964. P.197.‏
                      (26) خاصة منهم أحمد فرانسيس وأحمد بومنجل بالإضافة إلى السيد قائد أحمد.‏
                      (27) من بين هؤلاء الإطارات تجدر الإشارة إلى: الزبير بوعجاج، أحمد بوشعيب، محمد مرزوقي، وعثمان بلوزاداد.‏
                      (28) النصوص الأساسية لجبهة التحرير الوطني، ص49.‏
                      (29) ابن طوبال لخضر) الحديث المذكور سابقاً.‏
                      (30) هؤلاء الممثلون هم الدكتور سعيد حرموش، الرائد رابح زراري والرائد عبد المجيد كحل الرأس.‏
                      (31) حربي، ج ت والسراب والواقع، ص352.‏
                      (32) لأن الخامس وهو السيد رابح بيطاط كان معتقلاً في الجزائر ولم ينضم إليهم إلا في الأشهر الأخيرة.‏
                      (33) فارس عبد الرحمن)، ص135.‏
                      (34) السيد أحمد بن بلة من مواليد مدينة مغنية الواقعة في ولاية تلمسان على الحدود الجزائرية المغربية.‏
                      (35) حربي محمد) جبهة التحرير الوطني، ص359.‏
                      (36) بوبنيدر صالح صوت العرب) مقابلة أجريتها معه في بيته يوم 21/05/1985.‏

                      إذا الشعب يوما أراد الحياة
                      فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                      و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                      و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                      تعليق


                      • #12
                        رد: تاريخ الجزائر المعاصر (1954-1962).الجزء الثاني

                        مواجهة الأوضاع الموروثة عن الاستعمار:
                        إن مائة واثنتين وثلاثين سنة من الاستعمار الاستيطاني لاتمحي آثارها بكل سهولة ولا تمحي آثارها السلبية سوى ثورة مستمرة لاتتوقف حتى بعد وقف إطلاق النار لأن الأمر لم يكن يتعلق بتحرير الأرض ولكنه كان يعني الإنسان فوق كل شيء. فتحرير الإنسان أكثر أهمية ويتطلب مجهوداً ونفساً أطول.‏
                        فالاستعمار الفرنسي، كما أشرنا إلى ذلك في الفصل الأول من الباب الأول، قد ركز، منذ العشرينات من هذا القرن خاصة، على تكوين إنسان متشبع بالثقافة الغربية ومجرد من كل عناصر الشخصية الوطنية. وتضاعف ذلك التركيز بعد أن وضعت الحرب الامبريالية الثانية أوزارها، وكذلك أثناء فترة الكفاح المسلح ليصل إلى أوج مايمكن أن يصل إليه عند وقف إطلاق النار. وصحب هذه العملية توسيع شبكة تعليم اللغة الفرنسية وتمكين متعلميها من التمتع بكثير من الامتيازات الاقتصادية والاجتماعية. ولا يخفى على أحد أن اللغة ليست مجرد ناقل محايد أو وسيلة تبليغ لاغير، لكنها وعاء حضاري وأيديولوجي من الطراز الأول.‏
                        وعندما أعلن المجلس الوطني التأسيسي عن ميلاد الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية في اليوم الخامس والعشرين من شهر سبتمبر سنة اثنين وستين وتسعمائة وألف كان الوضع في الجزائر يتميز بخاصيات من أهمها مايلي:‏
                        1-نسبة مرتفعة من الأمية قدرت بأكثر من 80%(1) . أما الخمس الباقي فجله من انصاف المتعلمين الذين صنعهم الاستعمار على عجل ليكونوا امتداده الطبيعي الذي يعتمد عليه في مواصلة عملية المسخ والتشويه والتنزيف.‏
                        2-إسلام مشوه غلبت عليه الخرافة والدروشة(2) ولم يبق منه سوى جانب العبادات الذي تعرض بدوره إلى كثير من التحريف بحيث لم تعد الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر، ولا شهادة تسمح بتوحيد الإله ولا الصوم قادر على أداء وظيفته الاجتماعية. أما الحج فحدث ولاحرج، وأقل مايقال عنه أنه أصبح وسيلة تجارية وسياحية في أحسن الحالات.‏
                        3-تقاليد وعادات ونمط وسلوكات يومية لاعلاقة لها بشخصيتنا الوطنية.‏
                        4-لغة وطنية مهملة، ممقوتة ومطاردة على الرغم من حيويتها وقدرتها على التكيف وتمكنها من استيعاب العلوم بأنواعها والتقنيات المختلفة.‏
                        5-علاقات اجتماعية مهلهلة أساسها الخوف والنفاق والمراوغة والمداهنة.‏
                        6-إدارة معظم إطاراتها فطموا على لبان الاستعمار الجديد الذي بدأ يستعد للمرحلة التالية من السيطرة، وتعلموا أن فنون التسيير التي قد تأتي من غير الوطن الأم لايمكن أن تكون في المستوى الحضاري الذي استولى على عقليتهم. أما الموظفون البسطاء والعمال، فإن سذاجتهم وانخفاض مستواهم التعليمي الذي لايتجاوز الأمية المركبة في غالب الأحيان قد يعتقدون أن الاستقلال عن فرنسا العظمى لايمكن أن يكون مصحوباً إلا بكافة أنواع التخلف والهمجية. وأما الإدارة التي كونتها جبهة التحرير الوطني خلال فترة الكفاح واستطاعت أن تقدم الدليل على نجاعتها في الميدان، فإنها استبعدت وفقاً لما نصت عليه اتفاقيات إيفيان.‏
                        7-اقتصاد تابع للاقتصاد في فرنسا. مساحات شاسعة من الأراضي الخصبة التي كانت قبل الاحتلال، تنتج أجود أنواع الأرز وكميات هائلة من الحبوب التي كانت تصدر لبلدان كثيرة مثل أوروبا وأفريقيا والوطن العربي، وتحولت إلى مغارس كروم تعطي الخمور الممتازة التي يخصص جزء كبير منها لتحسين الخمور الفرنسية أو لتزويد السوق العالمية. وكانت الصناعة التقليدية فقط فروعاً مكملة لبعض المصانع المتناثرة في مختلف أنحاء فرنسا(3)
                        لم تكن في الجزائر، غداة استرجاع السيادة الوطنية، هياكل اقتصادية ثابتة(4) ولم تكن فيها نواة صالحة للتنمية الدائمة التي تأخذ في الاعتبار تطور الزمان وتطور السكان. وزيادة على ذلك، فإن الامكانيات القليلة -وهي بالمقارنة مع حاجيات الكولون- قد تعرضت لتخريب مهول بسبب الغلاة عندما اقترب أجل الاستعمار.‏
                        8-تصاعد ديمغرافي مخيف زاد من حدته، عشية استرجاع السيادة الوطنية، رجوع حوالي مليون من الجزائريين الذين لجأوا إلى تونس والمغرب الأقصى أثناء فترة الكفاح المسلح، وكذلك تسريح حوالي مليونين من المواطنين الذين كانوا يقيمون بالمعسكرات والمحتشدات(5) .‏
                        9-انتشار البطالة الناتجة عن قلة التنظيم والإهمال الاقتصادي الذي فرض على الجزائريين بسبب الخوف وعمليات التخريب.‏
                        10-تزايد أعداد المغتربين في أوربا وفرنسا على وجه الخصوص. ولقد ازداد هذا المشكل خطورة عندما بدأت الأسر الجزائرية، لأسباب مختلفة ترحل للإقامة هناك(6) .‏
                        هذا الوضع عشية استرجاع الاستقلال الوطني وغداته مباشرة هو الذي كان على أول حكومة جزائرية أتت تواجهه. وكان نجاح تلك المواجهة مرهوناً بمدى قدرة الرئيس الجديد على جمع كل الطاقات الحية في البلاد وعدم الانسياق للأحقاد الدفينة التي ظلت تتراكم منذ انعقاد مؤتمر وادي الصومام، وكان النجاح، أيضاً، يتوقف على مراجعة برنامج طرابلس بحيث يظهر من تشكل مواطن اختلاف من شأنها إضعاف المد الثوري وتعريضه للإنقسام والتصادم بين المعركة الوحيدة.‏
                        المفاهيم والمصطلحات التي لا علاقة لها بالواقع الجزائري إن المكتب السياسي الذي استولى على مهام الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية بالطريقة التي أشرنا إليها أعلاه، لم يعرف كيف يحافظ على الوحدة الوطنية، بل إنه عندما وضع قوائم الانتخابات التشريعية التي جرت في اليوم العشرين من شهر سبتمبر قد ألغى كل من اشتم فيهم رائحة المعارضة لما يسمى بمجموعة تلمسان(7) . وبذلك أعطى الإشارة لبدء الصراع بجميع أنواعه في الوقت الذي كانت الثورة في أحوج ماتكون إلى تضافر الجهود وتوحيد الصفوف.‏
                        وبالإضافة إلى كثير من القياديين الذين كانوا مازالوا قادرين على العطاء في مجالات التعبئة والتوجيه نظراً لما كانت لهم من سلطة أدبية في أوساط المناضلين والإطارات، فإن الحكومة الجديدة قد جاءت في تشكيلتها البشرية عبارة عن خليط من تيارات سياسية يستحيل توحيدها ولايمكن أن ينتظر منها تطبيق برنامج طرابلس الذي كان يتناقض تماماً مع المشارب الأيديولوجية لمعظم أعضائها.‏
                        وإذا استثنينا الرئيس أحمد بن بلة، ووزير العمل السيد بومعزة، فإن حركة الانتصار للحريات الديمقراطية التي هي مصدر الثورة لم تكن ممثلة في تلك الحكومة بينما أعطيت للاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري أربع وزارات ووزارة واحدة لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين ووزعت باقي الحقائب على إطارات شابة لم يسبق لها أن تشبعت بواحدة من الأيديولوجيات الوطنية(8) .‏
                        لهذه الأسباب مجتمعة، فإن برنامج طرابلس قد وضع على الرف وراحت الحكومة تطبق سياسة ارتجالية تخضع في مجملها إلى تطور الأحداث وإلى تأثير المحيط وفي كثير من الأحيان إلى مزاج الرجل الأول في الدولة الذي لم يكن هو الأمين العام لجبهة التحرير الوطني ولكن فقط رئيس الحكومة أحمد بن بلة.‏
                        إن برنامج طرابلس ينص بصريح العبارة أن جبهة التحرير الوطني ستظل هي مصدر السلطة الوحيد في البلاد لأنها كلفت من طرف المجلس الوطني للثورة الجزائرية بمواصلة مهمتها التاريخية(9) . لكن المكتب الذي تشكل في تلمسان لم يكن شرعياً، بل أتفقت جميع الأطراف على أن يكون هيئة سياسية وتنفيذية تقوم مقام الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية في توفير الشروط الموضوعية اللازمة لإجراء الانتخابات التشريعية وتحضير المؤتمر الوطني، وفي أثناء توزيع المهام أسندت الأمانة العامة لجبهة التحرير الوطني إلى السيد محمد خيضر في حين تكفل السيد محمد بوضياف بالعلاقة الخارجية والعقيد محمدي السعيد(10) بالتربية الوطنية والحاج بن علة بالجيش الوطني الشعبي ورابح بيطاط برئاسة الحزب وأحمد بن بلة بمراقبة الهيئة التنفيذية المؤقتة. أما السيد حسن آيت أحمد، فإنه رفض الالتحاق بالمكتب السياسي.‏
                        وعلى الرغم من صعوبة العمل في هذه الظروف، فإنه تم تنصيب اتحادية لجبهة التحرير الوطني في كل واحدة من عمالات الوطن(11) كما تم تنصيب جميع الدوائر والقسمات في ظروف قصيرة جداً ودون أن يقع الحسم فيما يتعلق بالأولوية والسلطة هل تكونان للهيئات السياسية أم للهيئات التنفيذية، ولقد قاد الخلاف حول هذه المسألة إلى استقالة الأمين العام في شهر ماي سنة ثلاث وستين وتسعمائة وألف(12) .‏
                        إن رئيس الحكومة لم يكن يجهل أهمية التنظيم السياسي بل إنه كان يدرك جيداً أن إقامة الدولة لن يكون متأنياً إلا بوجود حزب قوي بمناضليه المهيكلين والمتواجدين على رأس جميع المناصب الحساسة، وإيمانه بهذه الضرورة هو الذي جعله يقول ذات يوم لوزير الدفاع العقيد هواري بومدين: إنك لن تكون كل شيء بفضل الحزب، ولن تكون شيئاً بدونه(13) .‏
                        لكن هذه الأداة التي يتوقف عليها مصير الحكم لايجب أن تكون بأيادي أخرى وعليه، فإن الرئيس بن بلة لم يتردد في صنع الظروف التي أدت، بالتدريج، إلى استقالة رئيس جبهة التحرير الوطني وأمينها العام وفي نفس الوقت أسندت مسؤولية المنظمات الوطنية إلى السيد الحاج بن عله الذي تم تعيينه وزيراً للدولة حتى يسهل ابتلاعه.‏
                        إن الرغبة في جمع كل السلطات قد حجبت عن الرئيس أحمد بن بلة مخاطر ماكان يقوم به. لقد أدت قراراته الارتجالية إلى إبقاء المكتب السياسي محصوراً في شخصيتين اثنتين(14) لم يسبق لهما أن مارسا مسؤوليات سياسية ودفعت برفاق النضال والمعتقل إلى المعارضة التي سوف تتخذ أشكالاً متعددة، كما أنها همشت نظام الولايات الذي برهن على فعاليته أثناء المعركة(15) وجعلت من الإدارة منافساً قوياً رغم أن معظم إطاراتها كانوا من نتاج الترقيات الاستعمارية المختلفة وبالتالي فهم أقرب إلى مصالح الاستعمار منهم إلى المصلحة الوطنية.‏
                        ففي مثل هذا الجو المكهرب شرع في تجنيد القواعد النضالية لمناقشة مشروع الدستور الذي أعدته الحكومة والذي يعطي لرئيس الجمهورية جميع السلطات بما في ذلك القيادة العليا للجيش. وكانت أربعة أيام كافية للاثراء ولإجراء جميع التعديلات ثم صادقت الإطارات السياسية على المشروع وقدم للتزكية إلى المجلس الوطني مما أثار سخط مجموعة من النواب وقاد إلى استقالة الرئيس فرحات عباس في مستهل شهر أوت(16) .‏
                        وبعد أسبوع من الاستفتاء الذي جرى في اليوم الثامن من شهر سبتمبر، استدعى المواطنون من جديد لانتخاب المرشح الوحيد لرئاسة الجمهورية.‏
                        هكذا، إذن، استطاع السيد أحمد بن بلة، في ظرف عام واحد، أن يقضي على كل خصومه وأن ينفرد للحكم، لكنه في نفس الوقت أحدث حوله فراغاً سياسياً وأيديولوجياً مهولاً وشتت الطاقات الحية في البلاد وأرغمها على اللجوء إلى تشكيل معارضات سياسية وأخرى مسلحة، وبذلك يكون قد تسبب من حيث لايدري في إيقاف قطار الثورة وأرسى قواعد الفوضى والاضطراب في الجزائر وفتح فيها الأبواب للانقلابات تتواصل متشابهة إلى أن وقع إجهاض الثورة في اليوم الخامس من شهر أكتوبر سنة ثمان وثمانين وتسعمائة وألف.‏
                        وكان الحزب الشيوعي الجزائري هو المستفيد الوحيد من كل هذه الأوضاع إذ تمكن، رغم عدم الانصهار في الثورة طيلة فترة الكفاح المسلح ورغم معارضته الشديدة لمنطلقاتها الأيديولوجية، أن يظل محتفظاً بوجوده طبقاً لتوجيهات لينين(17) . وأن يعود للنشاط العلني كقوة دافعة تقف إلى جانب الرئيس أحمد بن بلة. وحتى عندما منع في اليوم التاسع والعشرين من شهر نوفمبر سنة ثلاث وستين وتسعمائة وألف عن الظهور ولم تتعرض إطاراته لأية ملاحقة أو مكروه، وهو الأمر الذي جعل أمينه العام السيد العربي بوهالي يصرح بأنه لايوجد أي نص رسمي فيما يتعلق بحله أو بمنعه من مواصلة تحركاته السياسية.‏
                        لقد كان الحزب الشيوعي الجزائري يدفع إلى التعفن في الجزائر كما صرح بذلك السيد آيت أحمد عندما لاحظ في شهر أكتوبر(18) أن مواقفه من المعارضة مزدوجة وغير واضحة، وبالفعل، فإنه كان يعلن عن مساندته لجبهة التحرير الوطني وفي نفس الوقت يَعِدْ، سراً، بالوقوف إلى جانب القوات المعارضة لها والعاملة على تغيير نظام الحكم.‏
                        وكانت أهم القوات المعارضة وأخطرها متجمعة حول اثنين ويدعو إلى إقامة نظام ديمقراطي وثوري في الجزائر، وكلاهما، أيضاً، عين لعضوية المكتب السياسي.‏
                        أما الرفيق الأول فهو السيد محمد بوضياف الذي كان من المفروض أن يشرف على العلاقات الخارجية ضمن تشكيلة المكتب السياسي لكنه لم يلبث أن قدم استقالته وأعلن غداة انتخاب المجلس التأسيسي عن ميلاد حزب الثورة الاشتراكية معللاً إقدامه على ذلك بانتشار الفوضى وانعدام الأمن وإفلاس جبهة التحرير الوطني التي لايمكن أن تكون حزباً ثورياً بسبب تركيبتها البشرية ونتيجة تحالفها مع الرأسمالية العالمية(19) .‏
                        لقد ذكر مؤسسوا حزب يناضل من أجل القضاء على استغلال الإنسان ابن بلة مجانب للديمقراطية والشعبية والاشتراكية في آن واحد، ودعا إلى التنكر لاتفاقيات إيفيان باعتبارها مجهضة للثورة الجزائرية. وقد قابل رئيس الحكومة نشر هذا المشروع باعتقال السيد محمد بوضياف في اليوم السادس من شهر جوان 1963 ومعه مجموعة من الإطارات السياسية.‏
                        وأما الرفيق الثاني فهو السيد آيت أحمد الذي رفض عضوية المكتب السياسي من البداية لكنه قبل المشاركة في أعمال المجلس التأسيسي، وفي إطار هذا الأخير أعرب عن استنكاره للاعتقال المذكور أعلاه وقرر الانسحاب إلى عين الحمام(20) مسقط رأسه استعداداً للمرحلة المقبلة التي استهلها في اليوم التاسع والعشرين من شهر أوت سنة 1963 بالإعلان عن ميلاد جبهة القوى الاشتراكية التي قررت حمل السلاح لإسقاط النظام القائم وبذلك اندلعت حرب أهلية فيما يسمى بمنطقة القبائل، ولم تتوقف إلا بعد إلقاء القبض على آيت أحمد في اليوم الثامن عشر من شهر أكتوبر.‏
                        وعلى عكس هاتين التشكيلتين السياسيتين، فإن الحزب الشيوعي الجزائري قد أعلن عن وقوفه إلى جانب الحكومة لكنه ظل متمسكاً بآرائه واستقلاليته ومن الغريب في الأمر أن كل من هذه الأطراف الأربعة يدعي لنفسه الثورية هذه التشكيلات لم تكن سوى منابر مستعملة لأغراض شخصية وبقصد الوصول إلى الحكم أو المحافظة عليه. ولو لم تكن كذلك لاستطاعت أن تجد أرضية للتفاهم فيما بينها من أجل إقامة جبهة وطنية تتضافر جهودها لتجسيد ما يمكن من تحسين برنامج طرابلس على أرض الواقع في انتظار المؤتمر الوطني الذي من حقه التعديل والتغيير.‏
                        ولأن الصراع لم يكن سياسياً ولا أيديولوجياً، فإن الشعب ظل ينظر إليه من بعيد، ووظفت الحكومة قوات الجيش الوطني الشعبي، فظهرت جبال القبائل من مراكز التمرد وقررت منع جميع الأحزاب من النشاط، معتمدة على قرارات طرابلس الأخيرة ولكون "الاشتراكية التي تعني انصهار جميع الفئات الاجتماعية في واحدة، تتطلب الحزب الواحد كأداة، وإذا كان هناك معارضون فيكون عليهم أن يتحركوا في إطار ذلك الحزب، والمطالبة بالتعددية الحزبية جزء من عقلية البرجوازية الليبرالية".‏
                        الانزلاق نحو الحكم الفردي:‏
                        إن القيادة الجماعية مبدأ في التسيير يحتل مكانة رئيسية في أيديولوجية الحركة الوطنية، ولقد أدى عدم احترامه والتهاون في تطبيقه إلى تمرد اللجنة المركزية لحركة الانتصار والحريات الديمقراطية على زعيم الحركة السيد مصالي الحاج وإلى انقسام جبهة التحرير الوطني.‏
                        وإذا كانت جبهة التحرير الوطني قد أحرزت على مجموعة الانتصارات قادت بالتدريج إلى تحقيق الأهداف المسطورة في بيان أول نوفمبر، فلأن القيادة المختلفة قد وقعت في أزمة ووجدت نفسها مضطرة لأن تقدم تضحيات جساماً من أجل تجاوزها(21) . إن الزعماء الخمسة لم يستفيدوا من هذه التجربة، ربما لبقائهم مدة طويلة في المعتقل بعيداً عن ممارسة المسؤولية على أرض الواقع وتحت تأثير الإشهار الإعلامي الغربي الذي لم يتأخر عن استعمال شتى الوسائل لتغذية روح الانقسام بينهم. وفي تلك الصائفة من سنة اثنين وستين وتسعمائة وألف، ضاعفت وسائل الإعلام المذكورة حملاتها المسمومة التي قادت شيئاً فشيئاً، إلى توسيع الهوة بين الأشقاء الذين أصبح كل واحد منهم يبحث عن أنصار يستعين بهم ضد الآخرين حتى ولو كان أولئك الأنصار من بين أعداء الأمس وطلقاء اليوم.‏
                        فالتخلي عن مبدأ القيادة الجماعية هو الذي دفع ابن بلة إلى العمل من أجل الانفراد بالمكتب السياسي، وجعل محمد بوضياف يؤسس حزب الثورة الاشتراكية وآيت أحمد يتزعم واحداً من أخطر التمردات المسلحة في الجزائر، وحتم على فرحات عباس الاستقالة من رئاسة المجلس الوطني التأسيسي وأخطر من كل ذلك شتت أفضل الطاقات الحية في البلاد والمتمثلة في إطارات وجنود جيش التحرير الوطني الذين لم يغادروا ولاياتهم طيلة فترة الكفاح المسلح معبرين بذلك عن إخلاصهم للوطن وتفانيهم في الدفاع عنه.‏
                        لأجل كل ذلك، فإن انتصار الحكومة برئاسة السيد بن بلة، كان في الواقع، هزيمة بالنسبة لجبهة التحرير الوطني وللجزائر بصفة عامة، وتتمثل هذه الهزيمة، بالإضافة إلى ماذكرنا أعلاه، في تمكين الإطارات المتشبعة بالفكر الماركسي والبعيدة كل البعد عن واقع الشعب، من اختراق الصفوف والارتقاء إلى مناصب الحل والربط في سائر قطاعات الدولة الجزائرية الفتية، ومع تمكن تلك الإطارات ظهرت قوات سياسية جديدة لاعلاقة لها بأيديولوجية الثورة وهي نفس القوات التي سوف تستولي بالتدريج على زمام السلطة في البلاد.‏
                        وهناك وجه آخر للهزيمة التي منيت بها جبهة التحرير الوطني ويتمثل في فتح الأبواب واسعة للانقلابات العسكرية التي سوف تتواصل في جزائر مابعد إجهاض الثورة. وفي الحقيقة، فإن الإطاحة بالحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية لايوجد له اسم آخر غير الانقلاب العسكري، لأن القيادة العليا الشرعية التي هي المجلس الوطني للثورة الجزائرية لم يسمح لها بالاجتماع للنظر في شأنها قانونياً.‏
                        هكذا، إذن، فإن الحكومة المنبثقة عن المجلس الوطني التأسيسي المنتخب في اليوم العشرين من شهر سبتمبر سنة اثنين وستين وتسعمائة وألف، لايمكن أن نقول عنها أنها حكومة جبهة التحرير الوطني ولايمكن أن تحظى بتأييد المناضلين الحقيقيين الذين يرفضون الصراعات والانقسامات من أجل السلطة. ولأنها لم تكن حكومة جبهة التحرير الوطني، فإنها وضعت برنامج طرابلس على الرفوف وأدارت الظهر لنصوص الثورة الأساسية ثم راحت ترتجل البرامج المتناقضة وتقضي جل الوقت في سد الثغرات ومغازلة المشاكل العويصة التي تكمن حلولها في وحدة الصف وفي الالتزام بأيديولوجية أثبتت، على الميدان، نجاعتها وجدواها.‏
                        ومن سوء حظ الجزائر أن هذه الحكومة هي التي استطاعت أن تستولي على السلطة بعد أن ألغت كل من حاول معارضة سياستها. ولم يكن الإلغاء مقصوراً على الشخصيات والتشكيلات السياسية، بل تعداها إلى المنظمات الوطنية التي صيغت، بمختلف الوسائل، من جميع العناصر التي أبدت بطريقة أو بأخرى، مناهضتها لسلوكيات ابن بلة وتصرفاته.‏
                        ومن جديد، أقيمت المحتشدات في الجنوب الجزائري لاستقبال المخلصين من أبناء الشعب، وفتحت السجون أبوابها لإيواء المئات من المناضلات والمناضلين، وعادت عمليات القمع والتعذيب ضد الوطنيين بواسطة نفس الجلادين الذين كانوا يعملون في إطار الأجهزة الاستعمارية. ولم يكن ذلك غريباً، لأن الحكومة الجزائرية أسندت مهمة تكوين ضباط شرطتها لقيادة الشرطة الفرنسية كما أنها في اليوم السادس والعشرين من شهر سبتمبر، أي مباشرة بعد تشكيلها، طلبت من الجنرال الفرنسي قائد الجندرمة أن يسرح جميع الضباط وصف الضباط الجزائريين ليشكلوا النواة الأولى لسلك الدرك الوطني في الجزائر، ثم التمست منه اتخاذ الإجراءات اللازمة لتكوين أعداد كبيرة من الدرك الجزائريين.‏
                        وإذا أضفنا إلى تنظيم الشرطة وتكوين ضباطها وإنشاء سلك الدرك الوطني من أوله إلى آخره، واستقدام مجموعة من الضباط السامين في الجيش الفرنسي لاستكمال تكوين ضباط الجيش الوطني الشعبي ومباركة الرئيس أحمد بن بلة لكل ذلك، أصبح جلياً أن الجزائر قد تخلت نهائياً عن خطها الثوري الذي يدعو إلى ضرورة قطع جميع العلاقات مع المستعمر السابق(22) ، وصارت تطبق سياسة الاستعمار الجديد التي ترمي إلى إسناد المناصب الأساسية في الدولة إلى إطارات كونتهم المدرسة الاستعمارية من أجل الحفاظ على مصلحة فرنسا.‏
                        ففي هذه الأجواء المشحونة بالضغائن والأحقاد والمليئة بالتناقضات ومختلف أنواع اللامعقول، والمتميزة بالفوضى وانعدام الأمن والاستقرار، أعطت الإشارة الخضراء لتكوين اللجنة الوطنية لتحضير المؤتمر الأول لجهة التحرير الوطني، وأطلقت نفس الأيادي الماركسية تعبث من جديد بالنصوص الأساسية للثورة.‏
                        ومرة أخرى تكونت لجنة صياغة مشروع المجتمع تحت إشراف أهم العناصر الماركسية التي كانت هي أساس الانحرافات الأيديولوجية الأولى. ورغم مقاومة العناصر الوطنية، صادق المؤتمر الذي أنهى أشغاله في اليوم الواحد والعشرين من شهر أبريل سنة أَربع وستين وتسعمائة وألف على ميثاق الجزائر الذي اعتبر تعميقاً لبرنامج طرابلس ومرجعاً أيديولوجياً وحيداً للثورة الجزائرية.‏
                        إن المؤتمرين الذين دامت أشغالهم ستة أيام قد حللوا أوضاع البلاد التاريخية والسياسية والاقتصادية والثقافية، ثم صادقوا على عدد من المقررات: تحويل جبهة التحرير الوطني إلى حزب طلائعي في الحكم يسير وفقاً لمبدأ المركزية الديمقراطية ويهدف إلى بناء الدولة الاشتراكية في الجزائر، وينتهج سياسة عدم الانحياز ويعمل على تدعيم القضايا العادلة ومساندة حركات الشعوب المناضلة في العالم أجمع.‏
                        إن تحويل جبهة التحرير إلى حزب طلائعي في مثل هذه الظروف يُعّد انقلاباً سياسياً لامبرر له، خاصة وأن الحزب لايمكن أن يكون في الحكم بإدارة موروثة عن الاستعمار وإطارات مسيِّرين مكوِّنين وفقاً لبرامج استعمارية وبواسطة مكونين لاعلاقة لهم بالأيديولوجية الثورية، وحتى العناصر التي تكونت في صفوف جبهة التحرير الوطني فإنها، في معظمها كي لانقول في مجملها، ترفض بناء الدولة الاشتراكية لأنها لم تنته بعد من إقامة الدولة الديمقراطية الاجتماعية في إطار المبادئ الإسلامية التي حددها بيان أول نوفمبر كهدف رئيسي.‏
                        فالحزب الطلائعي بدون إمكانيات بشرية يظل حبراً على ورق بل يتحول بالتدريج، إلى مجرد جهاز يوظف لخدمة الأغراض الشخصية ولمنع الشرائح الوطنية في المجتمع من التصدي بحزم وجد للقوات المناهضة للثورة.‏
                        قراءة فاحصة لميثاق الجزائر:‏
                        وعندما نعود، اليوم، إلى ميثاق الجزائر، نلاحظ بكل سهولة أنه مليء بالمغالطات التاريخية والتناقضات السياسية والطموحات اللامشروعة، غير أن كل ذلك لايعني أنه خال من بعض التحاليل الصحيحة والمقررات الموضوعية التي تأخذ في الاعتبار الإمكانيات الحقيقية من أجل تغيير الواقع.‏
                        فالجزائر بلد إسلامي، هذه حقيقة تضمنتها كل الوثائق الأساسية لجميع الأيديولوجيات الوطنية. لكن الذي يشكل مغالطة تاريخية هو تأكيد ميثاق الجزائر على أن الجماهير الجزائرية كانت عميقة الإيمان وأنها "قاومت بصلابة لتخليص الإسلام من كل الشوائب والخرافات التي شوهته أو خنقته، كما أنها لم تناهض الدجالين الذين كانوا يريدون أن يجعلوا منه مذهباً للخشوع والتوكل، وتسعى لربطه بإرادتها في إنهاء استغلال الإنسان للإنسان"(23) والواقع، أن الذي قام بهذا الدور هم العلماء سواء كأفراد منذ أن وضعت الحرب الامبريالية الأولى أوزارها أو كتنظيم بعد أن تأسست جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في اليوم الخامس من شهر ماي سنة واحد وثلاثين وتسعمائة وألف. ولم يكن ذلك بالأمر الخفي على الذين صاغوا الميثاق، لكنهم كتبوا بعواطفهم فضيعوا على البلاد فرصة ثمينة كان يمكن أن تكون منطلقاً لتحقيق مصالحة وطنية جديدة تعيد الثقة إلى شريحة واسعة من المجتمع الجزائري في تلك الظروف التي كان أحوج ما يكون فيها إلى وحدة وتجاوز الحزازات السياسية.‏
                        فالاعتراف بدور العلماء في تخليص الإسلام من الشوائب التي علقت به وفي تحرير الإنسان الجزائري من المعتقدات الفاسدة كان من شأنه أن يقود إلى تقييم الإصلاح الديني في الجزائر وهو إصلاح يختلف كلية عن الإصلاح الديني في المشرق العربي وفي العالم الإسلامي عامة، وبعد التقييم الموضوعي، كان لإيديولوجية جبهة التحرير الوطني أن تخصص مكانة مرموقة للجانب الروحي الذي يستحيل بدونه التوصل إلى تعبئة جماهير الشعب الجزائري. لكن ميثاق الجزائر تعمد عدم الاعتراف بأهمية ذلك الدور، وراح ينسبه، تعسفاً، لغير أصحابه حتى يهمش الإسلام ويمنع الفكر الإسلامي من الانتشار في جميع الأوساط المؤثرة في عمليات البناء والتشييد، وبذلك تعطى الغلبة للنظام الاشتراكي في بناء الدولة(24) .‏
                        ولقد أخطأ ميثاق الجزائر في تقديره، لأن تحييد العلماء وتهميش دورهم في إطار منظم، قد جعلهم يجنحون، شيئاً فشيئاً، إلى العمل السري دفاعاً عن العقيدة وحماية لها من الاعتداءات التي تريد محاصرتها في المسجد وإبقائها مقصورة على العلاقة بين الإنسان وربه كما هو الأمر بالنسبة للديانات الأخرى، ووفاء لأرواح الشهداء الذين ضحوا بأنفسهم من أجل إقامة الدولة الديمقراطية الاجتماعية في إطار المبادئ الإسلامية(25) .‏
                        والمغالطة التاريخية الثانية تتمثل بأن الكفاح من أجل انتصار المبادئ الديمقراطية قد تغلغل في أوساط الجماهير الشعبية وحفز عملها وحدد سلوكها وآفاقها(26) . وفي الحقيقة، فإن اندلاع الثورة من نوفمبر إنما كان من أجل التحرير الوطني الذي يشمل تحرير الإنسان وهو أكثر قيمة من انتصار المبادئ الديمقراطية التي أراد ميثاق الجزائر أن يجعلها منطلقاً أساسياً لبناء الدولة الاشتراكية.‏
                        إن جبهة التحرير الوطني لم تقرر الكفاح من أجل انتصار المبادئ الديمقراطية ولكنها أعلنت عن ميلاد حركة جهادية دعت إليها جماهير الشعب من أجل استرجاع السيادة الوطنية المغتصبة، وعلى هذا الأساس يجب على الدارس أن يتوقف عند الملاحظات التالية:‏
                        1-إن جماهير الشعب التي وجه إليها النداء لم تتجاوب معه في اللحظات الأولى، بل كان لابد من مرور وقت يتفاوت من حيث الطول بين منطقة وأخرى وحسب وعي الفئات الاجتماعية المختلفة(27) . وهناك شرائح واسعة من الشعب الجزائري قد ظلت موالية للنظام الاستعماري وتتعامل معه بكل ثقة إلى أن تأكد من عجزه عن حمايتها ولاحظت أنه اعترف لجبهة التحرير الوطني بحق تقرير المصير على أساس الاستقلال الوطني. إن هذه الشرائح الواسعة جزء من الجماهير الشعبية ولايمكن أن نقول أن المبادئ الديمقراطية قد تغلغلت إلى أوساطها أثناء فترة الكفاح المسلح وإلا أصبح الاستعمار هو داعية الحرية والديمقراطية.‏
                        2-إن الكفاح من أجل انتصار المبادئ الديمقراطية لايكون إلا بعد استرجاع الاستقلال الوطني ولذلك فإن جبهة التحرير الوطني لم تجعله من أهدافها الرئيسية أثناء فترة الكفاح المسلح خاصة وأن متطلبات الحرب كثيراً ماتتناقض مع الممارسة الديمقراطية.‏
                        3-لقد كانت السيادة الوطنية المغتصبة مبنية على مجموعة من الثوابت أهمها الإسلام ولغة القرآن.‏
                        وأن الكفاح من أجل استرجاعها يعني بالدرجة الأولى السعي بجميع الوسائل لإعادة تأهيل تلك الثوابت التي عملت السلطات الاستعمارية على تشويهها أو إلغائها تماماً كما كان الأمر للغة العربية، وبدلاً من أن يهتم ميثاق الجزائر بدين الجزائريين ولغتهم باعتبارهما أفضل وسيلة لتكوين الإنسان، فإنه انطلق من النظرة الماركسية للديانات السماوية وراح يخطط لتهميش الإسلام، ولعزل اللغة العربية عن ميادين الإدارة والعلم والتكنولوجيا.‏
                        4-إن ميثاق الجزائر لم يزد عن تقليد الحلول النظرية التي أوجدتها الثورة الروسية لمشاكل المجتمع السوفياتي. ولو أن المشرفين على الصياغة لم يكونوا متشبعين بالفكر الماركسي دون غيره، لانطلقوا، في تحليلاتهم، من الفكر السياسي الإسلامي ومن الواقع الجديد الذي أحدثته الثورة في الجزائر ثم أوجدوا نظاماً للحكم مستقلاً ومتطابقاً مع المنطلقات الأيديولوجية لجبهة التحرير الوطني.‏
                        أما المغالطة التاريخية الثالثة فتتعلق بمجموعة من التفسيرات للمراحل التي قطعتها ثورة نوفمبر منذ اندلاعها. وهذه التفسيرات تبدأ من برنامج طرابلس الذي أشار إلى أن وعي الجماهير قد جعل الثورة تتحول من ديمقراطية اجتماعية إلى ديمقراطية شعبية وأن هذه الأخيرة عبارة عن تشييد واع للبلاد في إطار المبادئ الاشتراكية(28) .‏
                        إن برنامج طرابلس، إذن جعل المبادئ الاشتراكية تحل محل المبادئ الإسلامية، ولقد فعل ذلك خلسة ولم يطلب رأي الجماهير الشعبية التي ما كانت لتوافق لو استشيرت. ثم جاء ميثاق الجزائر ليؤكد أن "الكفاح من أجل تدعيم الاستقلال والكفاح من أجل انتصار الخيار الاشتراكي لا انفصام بينهما، والفصل بينهما يعد تذويباً للدور القيادي لجماهير العمال والفلاحين(29) .‏
                        فبهذه الكيفية تجاهل ميثاق الجزائر المكانة التي مافتئ الإسلام يحتلها في مسيرة الجزائر التاريخية، وكذلك الدور الحاسم الذي أداه في تشكيل الشخصية الوطنية أولاً، وصيانتها ضد محاولات المسخ والتشويه ثانياً، وتمكينها في نهاية المطاف من أن تتحرك من جديد لتقويض الأركان الاستعمارية وتؤكد الهوية الوطنية وتطلق العنان لثورة أصيلة إسلامية الروح عربية اللسان وإنسانية المسعى.‏
                        إن الربط بين الكفاح من أجل تدعيم الاستقلال والكفاح من أجل انتصار التيار الاشتراكي عمل نظري ينطلق من دوغمائية عميقة ولا يأخذ في الاعتبار بعدين أساسيين لابد منهما لكل حركة تريد أن تصل إلى مداها دون انحراف ولاجمود، وهما بعد الاستمرارية وبعد التجديد والإبداع.‏
                        وإذا كانت الاستمرارية تعني المحافظة على خيوط التواصل التي ظلت تنظم مسيرة الشعب الجزائري، فإن التجديد والإبداع يعطيان للمسؤول والمناضل قدرة التحلي بالمرونة اللازمة لتكييف عملية الانتقال من المجال النظري إلى دائرة الفعل حسب الظروف والإمكانيات التي تتحكم في تشكيل الواقع.‏
                        ومغالطة تاريخية رابعة وتتمثل في اعتبار أن البؤس المدقع الذي كانت تعيش فيه الأغلبية الساحقة من الفلاحين والعمال كافة لجعل هذه الأخيرة "تناضل من أجل تحويل المجتمع تحويلاً جذرياً"(30) في اتجاه البناء الاشتراكي. ولو كان هذا الادعاء صحيحاً لما انتظرت الجزائر سنة أربع وخمسين لإشعال فتيل الثورة ولما لاقت في فترتها الأولى تلك الصعوبات الكبيرة في جعل جماهير الشعب تقبل فكرة التغيير وتساهم بأشكال مختلفة في الكفاح المسلح.‏
                        ويزعم ميثاق الجزائر، أيضاً، أن التسيير الذاتي الذي لجأت إليه الثورة الجزائرية في العام الأول بعد استرجاع الاستقلال هو تعبير عن إرادة الفئات الكادحة في البلاد في الصعود إلى المسرح السياسي الاقتصادي وفي أن تتشكل كقوة قيادية. وهذا التعبير يدل، مرة أخرى، على أن الذين تولوا صياغة ميثاق الجزائر لم يكونوا يعرفون الواقع الجزائري، لأن التسيير الذاتي في الواقع لم يكن نتيجة تخطيط مدروس، ولكنه فرض على السلطات الجزائرية الفتية بسبب رحيل الجالية الأوربية التي كانت تمتلك وسائل الانتاج وفي مقدمتها المساحات الشاسعة من الأراضي الخصبة، ولكي لاتبقى تلك الوسائل مهملة، وحتى تتم عمليات الحرث والبذر في خريف تلك السنة والتي أعطيت الإشارة الخضراء إلى الفلاحين والعمال فانتظموا في لجان للتسيير الذاتي ثم جاءت قرارات مارس ثلاث وستين وتسعمائة وألف لتجعل من المبادرة إجراءات رسمية(31) .‏
                        إن لجان التسيير الذاتي لم تكن، كما توهم المنظرون الماركسيون، استمرارية للثورة ولا واحدة من الخاصيات الرئيسية للانفتاح نحو الاشتراكية، لكنها كانت حتمية وكانت من البداية مبنية على أسس غير سليمة لأن تركيبتها البشرية لم تكن لتساعد على تحويله إلى أداة ثورية، ذلك أن أعضاء لجان التسيير لم يكونوا سوى نفس العمال والفلاحين الذي ظلوا في معظمهم أوفياء للكلون الذين كانوا يستغلون الجزائر، إذا كانت جبهة التحرير الوطني، لم تتمكن، طيلة سنوات الكفاح المسلح، من فصلهم نهائياً عن مستغليهم ومؤيدي السيطرة الأجنبية في بلادهم، فإن من المستحيل على قرارات مارس المرتجلة أن تحولهم إلى قوة قيادية.‏
                        وإلى جانب هذه المغالطات التاريخية وغيرها هناك التناقضات السياسية التي لم تتفطن إليها لجنة صياغة ميثاق الجزائر والتي سوف تكون هي أساس جزء من الانحرافات التي وقعت فيه أيديولوجية جبهة التحرير الوطني والتي شكلت بالتدريج، واحداً من العراقيل الرئيسية التي منعت الثورة من التقدم في انتظار إجهاضها. ومن جملة هذه التناقضات مايلي:‏
                        1-إن ميثاق الجزائر، عندما يتحدث عن بنية المجتمع واتجاهه، يذكر أن "نواة برجوازية أكثر أهمية قد تشكلت في نهاية مائة وثلاثين سنة من الاستعمار، من كبار التجار وبالأخص من كبار ومتوسطي ملاك الأراضي، ولم تكن الفئات البرجوازية بمعناها الحقيقي تتجاوز 2.5% من عدد السكان العاملين(32) ويرى أن هذه البرجوازية كانت مؤثرة في الميدان الاقتصادي" وكان لها نفوذ أيديولوجي وثقافي وسياسي في أوساط العمال والفلاحين(33) .‏
                        إن هذا الكلام يتناقض في جوهره مع ماورد في الباب الخاص بالأسس الإيديولوجية للثورة الجزائرية والذي جاء فيه "إن الكفاح من أجل انتصار المبادئ الديمقراطية قد تغلغل بين الجماهير وحفز عملها وحدد سلوكها وآفاقها ومن خلال المقاومة المسلحة ضد الامبريالية الفرنسية أصبحت الجماهير واعية بقوتها وقدرتها على حل مشاكلها بنفسها(34) . فإذا كان الأمر قد وصل فعلاً إلى هذا الحد، فإن تأثير البرجوازية غير ذي بال خاصة وأن التحليل يتعلق بفترة زمنية واحدة هي نهاية النظام الاستعماري.‏
                        (1) الزبيري محمد العربي) الغزو الثقافي في الجزائر من سنة 1962 إلى سنة 1982، الطبعة الأولى المؤسسة الجزائرية للطباعة، الجزائر 1983، ص21.‏
                        (2) الإبراهيمي محمد البشير) عيون البصائر، ص128، ومابعدها.‏
                        (3) حزب جبهة التحرير الوطني، المسيرة، من مطبوعات قسم النشر والتوثيق، المؤسسة الجزائرية للطباعة، الجزائر 1980، ص113، ومابعدها.‏
                        (4) Abbas Ferhat) I'inedpendanc confisque Flammarion, Paris 1948? P.117 et suivantes.‏
                        (5) المنظمة الوطنية للمجاهدين، المؤتمر الأول لكتابة التاريخ، ج2 ص175.‏
                        (6) الزبيري محمد العربي) "أوضاع المغتربين الجزائريين" أشغال ملتقى الفكر الإسلامي المنعقد بيتيزي وزو سنة 1973، وزارة التعليم الأصلي والشؤون الدينية، الجزائر 1973 ج3، ص175.‏
                        (7) عباس فرحات) الاستقلال، المصادر، ص86.‏
                        (8) نفس المصدر، انظر قائمة أعضاء الحكومة في الصفحة 87.‏
                        (9) النصوص، الأساسية لجبهة التحرير الوطني 1954-1962)، ص53.‏
                        (10) حديث أجريته يوم 04/07/1984 مع العقيد محمدي السعيد في بيته بالقبة.‏
                        (11) العمالة هي الترجمة العربية لكلمة D'epartement وقد أصبحت فيما بعد استرجاع الاستقلال تسمى الولاية.‏
                        (12) خيضر محمد) الحديث المشار إليه سابقاً.‏
                        (13) فرانكوس أنيا) وسيريني جب) جزائري يسمى بومدين، باريس 1976، ص154.‏
                        (14) .هما العقيد محمدي العيد والسيد الحاج بن علة.‏
                        (15) انظر الباب الثاني وخاصة منه الفصل الثاني‏
                        (16) الاستقلال المصارد ص62 لقد نشر السيد فرحات عباس ابتداء من هذه الصفحة نص الرسالة التي ضمنها أسباب استقالته من رئاسة المجلس الوطني التأسيسي،وهي مؤرخة بيوم 12 آوت 1963.‏
                        (17) بوي فرانسوا) الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية، باريس 1965، ص47.‏
                        (18) نفس المصدر، ص54.‏
                        (19) Boudefa Mohamed) Ou val'Algerie? Librairie de I etoile, Paris 1964. P172.‏
                        (20) مدينة صغيرة تقع على قمة جبل جرجرة على بعد 40 من مدينة تيزي وزو بدورها إلى بعدها 30 كلم شمال شرقي العاصمة.‏
                        (21) إن عودة سريعة إلى سائر الأزمات التي عرفتها جبهة التحرير الوطني خلال فترة الكفاح المسلح تدل بما لا يدع المجال للشك على أن التخلي عن مبدأ القيادة الجماعية هو الأساس في جميع الخلافات مهما كان شأنها.‏
                        (22) ليس هذا رأي الدكتور بوريلا أستاذ القانون بكلية حقوق الجزائر الذي شارك يوم 24/01/1963 في ملتقى تصنيع شمال أفريقيا وأكد على ضرورة تعامل البلد المستقل حديثاً مع البلد المستعمر سابقاً لأنه الوحيد الذي يفهمه جيداً انظر: الجمهورية الجزائرية الديمقراطيةأف الشعبية، ص79.‏
                        (23) جبهة التحرير الوطني، اللجنة المركزية للتوجيه، ميثاق الجزائر، مجموع النصوص المصادق عليها من طرف المؤتمر الأول لحزب جبهة التحرير الوطني 16-21 أبريل 1964، الجزائر 1965، ص35.‏
                        (24) عباس فرحات) الاستقلال المصادر، ص124، يقول السيد عباس: إنني، فيما يخصني، آمل أن تتخلى الجزائر عن النهج الاشتراكي حتى تتمكن من أن تستعيد شخصيتها وتبني من جديد وحدتها الروحية والاقتصادية والاجتماعية. وسوف يكون ذلك أفضل الحلول لأنه يتلاءم مع مفهومها للمغرب الواحد كما وضعت معالمه ندوتا طنجة وتونس سنة 1958.‏
                        (25) انظر الملحق رقم 8.‏
                        (26) جبهة التحرير الوطني، اللجنة المركزية للتوجيه، ميثاق الجزائر، ص36.‏
                        (27) عباس فرحات) الاستقلال المصادر، ص31، ومابعدها.‏
                        (28) النصوص الأساسية لجبهة التحرير الوطني 1954-1962، ص71.‏
                        (29) ميثاق الجزائر، ص36.‏
                        (30) المصدر نفسه، ص40.‏
                        (31) Benamrane Djillai) Agriculture et debeloppement en Algerie, SNED, Alger 1980-101 et suivantes.‏
                        (32) نفس المصدر، ص38.‏
                        (33) نفس المصدر، ص39.‏
                        (34) نفس المصدر، ص36.‏

                        إذا الشعب يوما أراد الحياة
                        فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                        و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                        و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                        تعليق

                        يعمل...
                        X