إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

كتاب / نحن والغرب

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • كتاب / نحن والغرب


    كتاب / نحن والغرب
    د. يوسف القرضاوي



    بسم الله الرحمن الرحيم



    مقدمة
    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد خاتم النبيين، وعلى سائر إخوانه من الأنبياء والمرسلين، وعلى آلهم وأصحابهم أجمعين، ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
    أما بعد
    فهذه مجموعة من الحوارات بيننا وبين الغرب، ظهرت في صورة أسئلة محرجة، أو شائكة، رددت عليها بأجوبة بيّنة، بل حاسمة، سميناها: (نحن والغرب)، ولا بد لنا أن نحدد: من نحن؟ أو: ما نحن؟ ومن الغرب؟ أو: ما الغرب الذي يحاورنا ونحاوره؟
    و(الغرب) في اللغة هو: الجهة التي تغرب فيها الشمس، والبلاد الواقفة فيها، مقابل (الشرق) وهو الجهة التي تشرق منها الشمس، والبلاد الواقعة فيها، وقد يعبر عنهما بـ(المشرق) و(المغرب), وفي القرآن: رَبِّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً [المزمل:9].
    والغرب والشرق أمر نسبي، فكل بلد وكل مكان له غربه وشرقه. ووطننا العربي مقسم إلي : شرق وغرب ، وقد اصطلح علي أن الغرب يبدأ من ليبيا إلي موريتانيا مروراً بتونس والجزائر والمغرب الأقصى، وحين قسم الناس الكرة الأرضية إلى شرق وغرب، اضطروا أن يقسموا الشرق إلى أقسام بحسب موقعه، فهناك شرق أقصى، وهناك شرق أوسط، وهناك شرق أدنى.
    وقد اصطلح الناس على أن الغرب هو أوربة وأمريكا، أما آسيا وأفريقيا فهما شرق، وإن كان من أهل أفريقيا من يريد أن يلحق نفسه بالغرب، كما ذكر د.طه حسين، في كتابه (مستقبل الثقافية): أن مصر إلى اليونان وإيطاليا وفرنسا أقرب منها إلى الهند والصين واليابان. وكما ينادي بذلك كثيرون في شمال أفريقيا من دعاة الفرانكفونية ومن دار في فلكهم.
    هذا إذا نظرنا إلى الشرق والغرب من الناحية الجغرافية، ولكن الأهم والأخطر من ذلك هو الشرق والغرب من الناحية الثقافية والحضارية، وهي الناحية التي لأجلها حدث الصراع، ووقعت الحروب طوال التاريخ، وإن كان أغلب ما دارت رحى الصراع بين الغرب وبين الشرق الأوسط (الكبير) كما يسمونه اليوم.
    كانت قيادة عجلة الحضارة لقرون طويلة في يد الشرق، حين ظهور الحضارات الشرقية القديمة العريقة: الفينيقية والفرعونية والآشورية البابلية والفارسية والهندية والصينية.. وكان الشرق هو مصدر المعرفة والمدنية والصناعة والرقي.
    ثم انتقلت العجلة إلى الغرب لعدة قرون، حين ظهرت فلسفة اليونان، ومدينة الرومان، وبرزت الدولة الرومانية، وغزت أقطارا كثيرة من الشرق، وتركت أثارها في بلاد شتى.
    ثم عادت عجلة القيادة الحضارية إلى الشرق مرة أخرى على يد الحضارة العربية الإسلامية، التي قادت الدنيا بزمام الدين، وأقامت مدنية العلم والإيمان، وأنشأت حضارة ربانية إنسانية أخلاقية عالمية، ظل العالم يتعلم منها، ويأخذ عنها حوالي ثمانية قرون، وقد ظهر لها فرع في الغرب في الأندلس أضاء نوره في أوربا، واقتبس منه الكثيرون من أبنائها.
    ونام المسلمون، واستيقظ الغربيون، وتخلفوا وتقدم غيرهم، وكان لا بد لمن جد أن يجد، ولمن زرع أن يحصد، وأن يقبض الغرب على زمام الحضارة، ويهيمن على العالم، بخبرته العلمية، وبقدرته الاقتصادية، وبقوته العسكرية، وبقينا نحن معدودين في (العالم الثالث) أو في (البلاد النامية) أو في بلاد (الجنوب) العاجز المتخلف الفقير.
    ومنذ ظهر الإسلام قدر له أن يصطدم بالغرب الذي كان يمثله هرقل إمبراطور الدولة الرومانية (البيزنطية) والذي أرسل إليه الرسول الكريم رسالة يدعوه فيها إلى الإسلام، وختمها بالآية الكريمة: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران: 64].
    ولم يستجب هرقل للدعوة، رغم إيمانه في قرارة نفسه بأحقيتها وصدق صاحبها، وصمم على المواجهة، وبدأ أتباعه بقتل بعض الدعاة، وكان لا بد من الصدام، وإن كانت القوى العسكرية غير متكافئة، فكانت سرية مؤته، وكانت غزوة تبوك في العهد النبوي.
    وفي عهد أبي بكر استمرت المواجهة، وكانت موقعة (اليرموك) الشهيرة، وفتح بلاد الشام وفلسطين، ثم مصر وشمال أفريقيه، وهذه الفتوح والانتصارات كلها على حساب إمبراطورية الروم البيزنطية، وقد أصبحت هذه البلاد جزءا أصيلا وعزيزا من قلب ديار الإسلام، وقد كانت من قبل نصرانية الديانة.
    وكثيرا ما مرّت فترات طويلة من السلام والسكون والمهادنة بين الطرفين، لا يعكرها إلا بعض المناوشات على الحدود.
    ولكن الحدث الكبير الذي حرّك السواكن، وهاج الكوامن، وأثار الشجون، هو الحروب التي بدأها الغرب بحملات متتالية للهجوم على الشرق الإسلامي، مستغلين ما أصاب أهله من فرقة وتشرذم، نتيجة لما أصابهم من جهل وغفلة، ومن انحراف ديني، وفساد أخلاقي، فكانت الحروب الشهيرة التي عرفت عند مؤرخي المسلمين باسم (حروب الفرنجة) وعند الغربيين باسم (الحروب الصليبية)!.
    وقد وقع من الغربيين في هذه الحروب من سفك الدماء، وهتك الحرمات، واستباحة المقدسات والمحرمات، ما يندي له الجبين، وما تقشعر من ذكره الجلود، ولا سيما في معركة الاستيلاء على بيت المقدس، التي جرت فيها الدماء للركب حقيقة لا مجازا!!
    وانتهت هذه الحروب المؤسفة بانتصار المسلمين في النهاية، واستردادهم بلادهم، ورد الغزاة الطغاة على أعقابهم،بعد معارك حاسمة في حطين وفتح بيت المقدس ودمياط والمنصورة ، وغيرها. وقد بقيت في النفوس مرارات لا تزول بسهولة.
    ثم جاء عصر الاستعمار، ودخل الغرب بلاد الإسلام مرة أخرى، أخذا بثأره من نكسة الحروب الصليبية القديمة، فقال قائدهم الإنكليزي (اللنبي) الذي دخل القدس سنة 1917م: اليوم انتهت الحروب الصليبية! وقال القائد الفرنسي (غورو) أمام قبر صلاح الدين في دمشق: ها قد عدنا يا صلاح الدين!
    وبدخول عصر الاستعمار، عاد الصراع إلى أشده، فإن بلاد الإسلام رفضت الاستعمار، وقاومته كل بمفرده، وكان هذا سر ضعفها، فلم تقابله كتلة واحدة، بل فرادى مبعثرين، مع حالة الضعف والعجز والخلل والتخلف التي كانت عليها الأمة، وأعتقد أن حالة الضعف والعجز والخلل والتخلف هذه هي التي سماها مالك بن نبي (القابلية للاستعمار) وإن كان في النفس من هذه التسمية شيء؛ لأنها توحي بقبول الاستعمار والرضا عنه، والتهيؤ له، ولا أحسب هذا مقبولا ولا صحيحا بحال، وإنما هو الفساد والاختلال الذي يمهد للغزو والاحتلال، كما أشارت إلى ذلك أوائل سورة الإسراء، حين أفسد بنو إسرائيل في الأرض، فسلط الله عليهم من يجوس خلال ديارهم، ويتبروا ما علو تتبيرا.
    لقد قاومت بلاد الإسلام الاستعمار، لما يفرضه عليها دينها – فرض عين- من مقاومة الغزاة المحتلين بكل ما لديهم من قوة، ولكن الاستعمار كان له الغلبة وفق سنن الله: أن ينتصر العلم على الجهل، والنظام على الفوضى، والقدرة على العجز، والاتحاد على التفرق، والتقدم على التخلف، والقوة على الضعف.
    ولكن الهزيمة الأولى لم تكسر الإرادة نهائيا، فظلت الأمة تتربص وتنتهز الفرصة، وظل الرواد والأبطال يوقظونها، ويعدونها لليوم الموعود، حتى تحررت من الاستعمار، وكان آخرها الجزائر التي ظّلت تحت الاستعمار الفرنسي الاستيطاني قرنا وثلثا من الزمان، ثم عزمت على أن تتحرر، ودفعت الثمن غاليا: مليونا أو أكثر من الشهداء. وعادت الجزائر عربية مسلمة، بعد أن أرادوا أن يفقدوها هويتها بالفَرْنسة، حتى تنسى دينها ولغتها، وحتى كانت الأنشودة الجزائرية الشعبية بعد التحرير:
    يا محمد مبروك عليك! الجزائر رجعت إليك!
    ولكن الاستعمار قبل أن يرحل عن بلاد المسلمين،لم يتركها سالمة، بل إنه زرع فيها أمرين خطيرين:
    الأول: أنه زرع فيها شجرة شيطانية، لا تزال تنبت الشر والفساد، ألا وهي إسرائيل، التي انتزعت من بين ضلوعنا قطعة من لحمنا ودمنا، وغرست في صدورنا خنجرا لا زال جرحه يدمي، وأدخلت ضمن وطننا العربي المسلم، عدوا يتربص بنا الدوائر، ويكيد لنا المكايد، ولا يبني نفسه إلا على أنقاضنا، ولا يحيا إلا بموتنا، ولاينتصر إلا بهزيمتنا، ولا تقر له عين إلا بتركيعنا وتطويعنا و(تطبيعنا)!
    والثاني : أنه حين دخل بلادنا لم يكن همه الاستعمار العسكري وحده، كما فعل الصليبيون، بل خطط لانتصار ثقافي وتعليمي وتشريعي اجتماعي، يغير به الآن من داخلها، ونجح في ذلك إلى حد كبير. ووجد من أبناء المسلمين دعاة صرحاء إلى تغريب أمتهم والسير وراء الغرب شبراً بشبر ، وذراعاً بذراع. واطمئن الغرب عامة إلى أن غرسه لم يذهب سدى.
    وفي وقت من الأوقات، ظن الكثيرون: أن رياح الأطماع قد سكنت، وأن نيران الأحقاد قد خمدت، وأن موجات المخاوف قد ركدت، وأن العلاقات يمكن أن تتوطد فلا أطماع ولا مخاوف ولا أحقاد، وخصوصا بعد أن ولّى عصر الاستعمار، ولا سيما أن الغرب احتاج إلى أبناء المسلمين ليعملوا عنده، ففتح باب الهجرة إليه، فهاجرت ملايين من أبناء الشمال الأفريقي، وخصوصا إلى فرنسا، ومن أبناء تركيا، وخصوصا إلى ألمانيا، ومن أبناء الهند وباكستان، وخصوصا إلى بريطانيا.
    كما احتاج المسلمون إلى الغرب ليأخذوا منه العلم في مختلف ميادينه، فأرسلوا الألوف، بل عشرات الألوف من أبنائهم في كل اختصاص، ورأى الغرب أن يستفيد من ذلك فاجتذب إليه من هؤلاء أذكاهم وأنبغهم، فاستبقاهم عنده، وحرمت منهم ديارهم الأصلية.
    وشاء الله أن تقوم في بلاد الإسلام صحوة إسلامية هائلة، لم يحسب أحد لها حسابا، وهذا من عجائب هذا الدين، وقد أشار إلى ذلك (جب) في بعض كتبه بأنها تشبه (الانفجار) الذي لم يتوقعه أحد، قامت بعد أن ضربت الحركات الإسلامية ضربات وحشية موجعة، بل حسبها بعضهم قاتلة، ولكن رب ضارة نافعة، فقد نبهت هذه المحن الغافلين، وأيقظت النائمين، وحركت الساكنين، وظهرت في كل بلاد العرب والمسلمين صحوة شاملة، كانت صحوة عقول وأفكار، وكانت صحوة قلوب ومشاعر، وكانت صحوة إرادات وعزائم، وكانت صحوة التزام وسلوك، وكانت صحوة أخلاق وفضائل، وكانت صحوة نشاط وإبداع، وكانت صحوة دعوة وجهاد.
    برزت هذه الصحوة في بلاد العرب، وفي العالم الإسلامي، وفي خارج العالم الإسلامي حيث يعيش المسلمون أقليات بين ظهراني مجتمعات غير مسلمة.
    وتجلّى أثر هذه الصحوة في كل صعيد؛ الصعيد الثقافي (المكتبة الإسلامية) والصعيد الاجتماعي (الحجاب) والصعيد الاقتصادي (البنوك الإسلامية) والصعيد الجهادي (أفغانستان وفلسطين) والصعيد السياسي (التنادي بتطبيق الشريعة) والتنادي بـ(التضامن الإسلامي) طريقا إلى الوحدة الإسلامية.
    وأزعجت هذه الصحوة الغرب عامة، وأمريكا خاصة، فرصدت مئات الملايين، وجندت رجالها المدربين، واستعانت بالعملاء من بيننا والخائنين، لمحاصرة هذه الظاهرة الإسلامية التي فاجأت الجميع، بعد دراستها والإحاطة بأسبابها ومحركاتها وغاياتها، وعوامل قوتها وعوامل ضعفها.
    وفي هذه الفترة سقط أحد القطبين العظيمين المتنافسين على سيادة العالم: الاتحاد السوفيتي؛ وكان من أسباب سقوطه حرب أفغانستان؛ التي ساهم المسلمون فيها بالنصيب الأكبر، فقدموا خدمة مجانية للغرب، لم يقابلها بالاعتراف والشكران، بل قابلها بترشيح (الإسلام عدوا بديلا) للاتحاد السوفيتي.
    و كتب المفكرون الإستراتيجيون مثل: فوكوياما و هانتنجتون وغيرهما ، محذرين من خطر الحضارة الإسلامية (الناشزة) التي يصعب تطويعها ، و لاسيما إذا اتفقت وتقاربت مع الحضارة الكوفوشيوسية (الصينية) .
    و بدأ التحذير من ( الخطر الأخضر) يعنون( الخطر الإسلامي) الذي بالغوا في تضخيمه و تهديده للعالم ، بعد أن تقاربوا مع ( الخطر الأصفر) أي الخطر الصيني، و بعد سقوط الخطر الأحمر (الروسي) .
    و من الإنصاف أن نقول : أن بعض الأكاديميين المنصفين ، رفضوا هذا التهويل، وأثبتوا أن الإسلام ليس خطرا مخوفا كما يقال. و من هؤلاء البرفسور اسبوزيتو المعروف الذي كتب في ذلك كتابا ( الخطر الإسلامي : حقيقة أم أسطورة ؟ )
    و كانت أمريكا تعد العدة لتقوم بأدوار جديدة في الشرق الأوسط ، أو قل بصريح العبارة: في بلاد الإسلام. فكانت حرب الخليج الأولى ، التي دفعت بها (صّداما) للاعتداء على إيران . ثم كانت حرب الخليج الثانية ، التي دفعت فيها (صدّاما) أيضا بطريق خفي إلى غزو الكويت .
    و كان ذلك كله مقدمة لغزو العراق ، و الدخول العسكري إلى المنطقة ، و التحكم فيها بيد من حديد ، و محاولة تغييرها من داخلها تغييرا جذريا ، تغييرا يشمل التعليم و الثقافة والإعلام ، بحيث تتدخل أمريكا في كل شئ ، جهرة حينا ، و من وراء ستار أحيانا .
    و لم تعد تحتاج إلى لبس الأقنعة التي تخفي وجوهها ، بل رأيناها بأعين رؤوسنا تعمل على المكشوف ، و تدسّ أصابعها في كل شئ ، حتى في التعليم الدين ، تعليم العقائد و الفقه و التفسير و الحديث و غيرها .
    و كانت أحداث 11 سبتمبر 2001م من أبرز الأسباب التي أعطت أمريكا المبرر لهذا التدخل السافر ، و إن كان العارفون يعلمون أن هذه السياسة قد رسمت من قبل، و أن هناك وثائق و تقارير معروفه قد دلّت على ذلك بوضوح .
    شنت أمريكا حربا كونية كبرى على (الإرهاب) فيما زعمت، و لكن الدلائل كلها تنطق بأن هذه الحرب إنما هي على الإسلام و أمته و أوطانه ، بهدف الاستيلاء على كل مقدرات هذه الأمة ، و التمكين منها ، و الدخول إلى أعماقها ، و التحكم في مسيرتها ، حتى تملي عليها كيف تفكر إذا فكرت ، و كيف تتكلم إذا تكلمت ، و كيف تعمل إذا عملت . فهي ترسم لها طريق التفكير ، و طريق التدبير، وطريقة التنفيذ، بل تعلمها كيف تتدين ، وكيف تفهم دينها، و كيف تمارس الدين في حياتها ، بل أعلنوا بصراحة أنهم يريدون أن يصوغوا للمسلمين دينهم من جديد. أي صناعة ( إسلام أمريكاني ) بدل ( الإسلام القرآني ) أو (المحمدي).
    و لقد قال بوش في أول الأمر: إن هذه الحرب حرب صليبية طويلة الأمد، ونبهه خبراؤه إلى خطورة هذه الكلمة، و مدى أثرها على عقول المسلمين ونفوسهم، و ما لها من إيحاءات تاريخية ، فاعتذرعنها، وقال من قال: إنها زلة لسان، و زلات اللسان إنما تعبر عن مكنون نفس الإنسان.
    و لقد قال سيدنا علي رضي الله عنه : غش القلوب يظهر على صفحات الوجوه، وفلتات الألسن! ثم تلا قول الله تعالى: وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ [محمد:30].
    بعد الحادي عشر من سبتمبر شُنّت حملة إعلامية ضخمة على الإسلام ، بجوار الحملة العسكرية ، واعتبر الإسلام مصدر الإرهاب والعنف في العالم. وأصبح المسلمون يواجهون أسئلة شتّى من الغربيين في كل مكان، تكيل التهم للإسلام و لكتابه و نبيه و شريعته و حضارته و تاريخه و أمته، كيلاً جزافا.
    ووجهت إليّ -بصفة خاصة- عشرات من هذه الأسئلة من هنا وهناك، من المخلصين من المسلمين يطلبون الإجابة عنها ، بدل أن يرد على هذه الأسئلة العاجزون الذين يسيئون بإجابتهم أكثر مما يحسنون.
    جاءتني أسئلة من رئيس البنك الإسلامي للتنمية د. أحمد محمد علي ، وجاءتني أسئلة من بعض الإخوة الذين يعيشون في الغرب ، و منهم إخواننا في (ائتلاف الخير) من لندن وجاءتني أسئلة من بعض الصحف العربية. و حاورت بعض الصحفيين من أمريكا وإنجلترا وألمانيا.
    و رأيت أن أجمع ذلك كله بعضه إلى بعض لأقدمه للقارئ الكريم ، ليعرف عن بينة: موقفنا من الغرب و موقف الغرب منا ، على ضوء هُدَى القرآن ، وهَدْي السنة ، وتوجهات هذا الدين العظيم ، لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ. ومَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ .
    الدوحة في:
    15 جمادى الأولى 1426هـ = 2/6/2005م
    الفقير إلى عفو ربه

    يوسف القرضاوي


  • #2
    تمهيد



    بسم الله الرحمن الرحيم
    تمهيد
    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه.
    (وبعد)
    لقد فوجئنا وفوجئ العالم كله معنا بهجوم بابا الفاتيكان بنديكت السادس عشر في محاضرته التي ألقاها في جامعة (غوتيسبيرج) في ولاية بافاريا بجنوب ألمانيا، دون أن يكون هناك أدنى مبرر لهذا الهجوم. فلم يكن هناك أي توثر بين البابا وأي فئة من المسلمين، ولا وجد باعث يدعو إلى رمي هذه القذائف، إلا أن يكون البابا قد أراد أن يهدي إلى الرئيس الأمريكي بوش – ومعه اليمين المسيحي المتصهين- هدية تشد أزره في محاربة الإسلام تحت عنوان محاربة الإرهاب. فأراد البابا أن يمنحه غطاء دينيا – وإن كان كاتوليكيا – يسنده ويبرر تصرفاته في العراق وغيرها، ما دام يحارب الإسلام الذي يحمل بذور العنف في تعاليمه، والذي لم يجئ نبيه إلا بالأشياء الشريرة، واللاإنسانية، ومنها نشر دينه بالسيف.
    كما اتهم البابا الإسلام بأنه بفرضه الجهاد – أو الحرب المقدسة كما سماها– ينافي العقل، كما ينافي الطبيعة الإلهية.
    وزعم البابا أن المشيئة الإلهية عند المسلمين لا يحدها شيء، ولا يقيدها شيء، ولا تأبى نوع من المعقولية.
    واتكأ البابا على فقرة نقلها من كتاب للإمبراطور البيزنطي: مانويل الثاني الذي نشره رجل الدين الألماني اللبناني الأصل تيودور خوري: حوارات مع مسلم، وهي فقرة مسفة غاية الإسفاف، تتسم بالجهل الفاضح، والتحامل الواضح على الإسلام.
    وحين أظهر العالم الإسلامي غضبه على هذه الكلمات المسيئة، زعم البابا أنه ناقل، وكما يقول علماؤنا: ناقل الكفر ليس بكافر. ولكنه نقل هذا الكلام مستشهدا به، ولهذا لم يرد عليه.
    من هنا كان علينا أن نرد على الكلمات البذيئة التي أسائت إلى عقيدة الإسلام، وإلى شريعة الإسلام، وإلى نبي الإسلام ، وإلى كتاب الإسلام، وإلى حضارة الإسلام، وإلى أمة الإسلام.
    وسيكون ردنا ردا علميا موضوعيا موثقا بالأدلة القاطعة من نصوص الإسلام ومن تاريخ أمته ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيي عن بينة.
    لا ننكر أن في كلمة البابا في جامعة غوتنبورغ بعض الجوانب الإيجابية لا بد أن ننوه بها، إحقاقا للحق، وإنصافا للرجل، وقد علم الإسلام المسلم: أنه إذا غضب لم يخرجه غضبه عن الحق، وإذا رضي لم يدخله رضاه في الباطل، وقد قال تعالى في كتابه:يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8].
    فقد أكد البابا على ضرورة تعميق أطر الحوار بين العالمين المسيحي والإسلامي، معتبرا أن العالم الغربي، قد فقد الاعتقاد بالله في خضم النفعية العملية (وأزيد على هذا: في خضم المادية الحسية، الإباحية البهيمية)
    كما دعا البابا: الرئيس الألماني(هورسف كولر) إلى ضرورة أن تعمل الدولة الألمانية على تحقيق اندماج أفضل للمسلمين المقيمين داخلها، محذرا من الإفراط في التعقيدات تجاه أبناء الأقلية المسلمة.
    فهذا لا يسعفنا إلا أن نقدره للبابا ونشكره عليه. وقد علمنا ديننا: أنه لا يشكر الله من لا يشكر الناس.
    كما نقدر للبابا موقفه المحافظ من التيارات الإباحية المنتشرة في الغرب اليوم، والتي باركتها – للأسف – بعض الكنائس، مثل الزواج المثلي، وإباحة الإجهاض بإطلاق، ونزع أيدي الوالدين من تربية أولادهما، وهو ما وقف فيه الأزهر والجهات الإسلامية المختلفة مع الفاتيكان في موقف واحد، ضد هذه الاتجاهات المنحرفة، وذلك في مؤتمر السكان في القاهرة 1994م.
    وإلى القارئ الكريم بياننا الناصع حول هذا الموضوع.
    والله يقول الحق وهو يهدي السبيل

    الدوحة في: رمضان 1427هـ الفقير إلى عفو ربه
    سبتمبر 2006م يوسف القرضاوي

    تعليق


    • #3
      السلام والحرب بين شريعة القرآن وشريعة التوراة


      السلام والحرب
      بين شريعة القرآن وشريعة التوراة
      لقد كان أول ما شغل البابا[1] من أمر الإسلام -وهو الذي بنى عليه محاضرته- هو (العنف) الذي يظهر أنه يحسبه من طبيعة الإسلام، لماذا؟
      لأمور ثلاثة:
      الأول: أن العقيدة الإسلامية نفسها لا ترفض العنف، لأن الله يمكن أن يشاء أي شيء، ولو كان يجافيه العقل.
      الثاني: أن الإسلام فرض على أتباعه الجهاد، وهو لون من استخدام العنف في مواجهة الأعداء، وليس كالمسيحية التي تقول: من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر!
      الثالث: أن الإسلام لا يرفض أن يدخل فيه كرها، تحت بارقة السيف، ولهذا أمر محمد بنشر دينه بالسيف، أما آية: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ[البقرة:256]، فقد كانت حين كان محمد ضعيفا، وتحت سلطان غيره من المشركين.
      وهذه الأمور وغيرها من الشبهات التي تثار دائما -وخصوصا من الغربيين- لتشويه صورة الإسلام، وإظهاره بأنه دين العنف والحرب، وأنه عدو السلام، وأنه يتعطَّش للدماء، وأحب شيء إلى أبنائه قتل البشر وإكراههم على الدخول في الإسلام[2].
      وهذه كلها أباطيل تكذبها الحقائق العلمية التي لا ريب فيها، وسنرد عليها جميعا في الصفحات التالية.
      وهذه -والله- فرية ما فيها مرية، وكذب صريح على هذا الدين المظلوم المفترى عليه.

      [1]- ومنهم بابا الفاتيكان بينديكت السادس عشر في محاضرته بجامعة راتيسبون بألمانيا الثلاثاء 19 شعبان 1427هـ الموافق 12 سبتمبر (أيلول) 2006م، التي نقل فيها عن الامبراطور البيزنطي مانويل الثاني في كتابه: (حوارات مع مسلم – المحاورة السابعة) واتهم فيها الإسلام بأنه ما جاء إلا بالأشياء الشريرة، وأنه انتشر بالسيف، وأنه مجاف للعقل ... إلخ، فما يقول البابا بنديكت فيما سنعرض من نصوص من التوراه: هل ينكرها؟ كيف وهو يؤمن بقول المسيح: ما جئت لأنقض الناموس (التوراة)؟ وبعدها أين يجد البابا (العنف حقا)؟ أيجده في نصوص التوراة التي جاء بها موسى في زعمهم، أم يجده في نصوص القرآن؟
      [2]- ومنهم بابا الفاتيكان بينديكت السادس عشر في محاضرته بجامعة راتيسبون بألمانيا الثلاثاء 19 شعبان 1427هـ الموافق 12 سبتمبر (أيلول) 2006م، التي نقل فيها عن الامبراطور البيزنطي مانويل الثاني في كتابه: (حوارات مع مسلم – المحاورة السابعة) واتهم فيها الإسلام بأنه ما جاء إلا بالأشياء الشريرة، وأنه انتشر بالسيف، وأنه مجاف للعقل ... إلخ، فما يقول البابا بنديكت فيما سنعرض من نصوص من التوراه: هل ينكرها؟ كيف وهو يؤمن بقول المسيح: ما جئت لأنقض الناموس (التوراة)؟ وبعدها أين يجد البابا (العنف حقا)؟ أيجده في نصوص التوراة التي جاء بها موسى في زعمهم، أم يجده في نصوص القرآن؟

      تعليق


      • #4
        السلام في شريعة القرآن


        السلام في شريعة القرآن
        ومن اللازم هنا: أن نبيِّن أن الإسلام -على خلاف ما يتصوَّره أو يصوِّره بعض الناس- يرغِّب في السلام، ويحرص عليه، ويدعو إليه، ويعتبره هدفا أصيلا لدعوته، كما يتجلى ذلك في تعاليمه وأحكامه وآدابه.
        وهو أيضا يكره الحرب، وينفر منها، ويحرص على أن يتفاداها ما استطاع، وإذا وقعت حاول أن يضيِّق دائرتها، وأن يقلِّل خسائرها، ويخفِّف من آثارها، ما وجد إلى ذلك سبيلا.
        الإسلام والسلام من مادة واحدة:
        فالإسلام والسلام -أو السلم- من الناحية اللغوية مشتقان من مادة واحدة، هي: (س ل م)، وقد قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ[البقرة:208]، وقد فسرت كلمة السِّلْمِ في الآية بـ (السلام) المقابل للحرب، كما يفيده ظاهرها، وبهذا تكون الآية دعوة للمؤمنين أن يدخلوا في السلام جميعا، ولا يعرضوا عنه إذا دُعوا إليه. وفسرت أيضا كلمة السِّلْمِ بـ(الإسلام) أيْ ادخلوا في شُعَب الإسلام كافة: عقائده وعباداته وأخلاقياته وتشريعاته، فتدخلوا بذلك في السلم الحقيقي، السلام مع أنفسكم، ومع أُسركم، ومع مجتمعاتكم، ومع الناس كافة.
        إشاعة كلمة السلام في المجتمع وجعله تحية الإسلام:
        ومن روائع التوجيه والتربية هنا: أن الإسلام يُحبِّب إلى المسلم كلمة السلام، ومفهوم السلام بأساليب شتى، لا توجد في دين آخر، أو أيديولوجية أخرى.
        فالسلام من أسماء الله تعالى الحسنى، التي يدعو المسلم ربه بها، ويتقرب إلى الله بذكرها، كما قال تعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا[الأعراف:180].
        والمسلم يقرأ في القرآن: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ [الحشر:23].
        والمسلمون هم الأمة الوحيدة التي يوجد فيها اسم (عبد السلام) أي عبد الله.
        والجنة التي يتوق إليها كل مؤمن، ويعمل حثيثا ليكون من أهلها، تسمى (دار السلام)، كما قال تعالى: لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[الأنعام:127].
        وأكثر ما يسمع في هذه الجنة كلمة السلام، فهي تحية المؤمنين في الآخرة: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ[الأحزاب:44]، دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ[يونس:10]، لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً * إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً [الواقعة:25،26].
        وكما أن السلام تحية المؤمنين في الآخرة، فهو تحيتهم في الدنيا: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. و(إفشاء السلام) من أفضل خصال الإسلام. وقد جاء في جملة أحاديث: "أفشوا السلام"[1]
        المسلم لا يتمنى الحرب ويسأل الله العافية:
        والمسلم إذا جلس في صلاته للتشهد: يلقي السلام على نبيه محمد ، وعلى نفسه وأمته: "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين"[2]. ثم يخرج من الصلاة: بإلقاء تحية السلام عن يمينه وعن يساره، إيذانا بأنه كان في الصلاة في حالة سلام، فإذا انصرف من الصلاة استقبل الناس والحياة من حوله بالسلام. فهو سلام في عبادته، سلام في معاملته.
        والمسلم لا يتمنى الحرب ولا يحرص عليها لذاتها، بل يتمنى السلام والعافية، ولكن إذا فرضت عليه الحرب في سبيل الله خاضها بقوة وجسارة وصبر، مُوقنا أن له إحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة.
        يقول تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:216].
        ويقول النبي فيما رواه عنه عبد الله بن أبي أوفى: "لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموه فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف"[3]. وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ:
        والقرآن ُيعقِّب على غزوة الأحزاب، التي هاجمت جموع المشركين فيها من قريش وغطفان وأحابيشهما: الرسول والمؤمنين معه في عُقر دارهم بالمدينة بأعداد هائلة، يبتغون إبادتهم وتصفيتهم جسديا وماديا، حتى لا تبقى لهم باقية. لولا أن عين الله لم تغفل عن النبي وأصحابه، ويده سبحانه لم تتركهم وحدهم، ولا سيما أن يهود بني قريظة انضموا إلى المهاجمين، ونقضوا عهد الرسول في أحلك الأوقات وأحوجها إلى مساعدتهم: قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً[الأحزاب:9-11].
        والمقصود هنا: ما عقب به القرآن على هذه الغزوة حين قال: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ[الأحزاب:25].
        فانظر إلى هذه الكلمة المُعبِّرة: وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ، يذكرها تعالى في معرض الإنعام والامتنان على النبي والمؤمنين: أن المعركة انتهت بغير قتال، وبغير دماء، فقد كفى الله المؤمنين القتال. وهي نعمة جليلة تستحق الشكر لله تعالى. ولا يتصور أن يقول هذا دينٌ يتعطش للقتال، وإراقة الدماء.
        القرآن يسمي صلح الحديبية فَتْحاً مُبِيناً:
        وفي غزوة الحديبية التي بايع الصحابة فيها رسول الله ، على الموت، أي القتال حتى الموت، وعدم الاستسلام بحال، ثم شاء الله تعالى أن يتفاوض المسلمون والمشركون، وأن ينتهوا إلى الصلح المعروف بـ(صلح الحديبية) والذي يتضمن هدنة مدتها عشر سنوات، تُغمد فيها السيوف، ويكف كل فريق يده عن الآخر: ينزل هنا قرآن يُتلى، يسمي هذه الهدنة أو هذا الصلح: فَتْحاً مُبِيناً، وتنزل في ذلك سورة تسمى سورة (الفتح) تبدأ بقوله تعالى: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً[الفتح:1]، ويسأل أحد الصحابة رسول الله : أفتح هو يا رسول الله؟ فيقول: "نعم هو فتح"[4]. استبعدوا أن يكون فتح بغير حرب، ولكن الله تعالى سمَّاه فتحا، بل فتحا مبينا، وامتنَّ به على رسوله ، وأنزل في ذلك سورة سميت (سورة الفتح).
        وقال تعالى في هذه السورة مُمتنًّا: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ[الفتح:24]، فهو هنا لا يمتن بكف أيدي المشركين عن المؤمنين فقط، بل يمتن أيضا بكف أيدي المؤمنين عن المشركين أيضا: وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ، فهذا هو التعبير الحقيقي عن حب السلام الذي يسود الطرفين معا.
        وإذا اضطر المسلمون أن يخوضوا معركة فرضت عليهم، فإنهم مأمورون أن يُقلِّلوا من خسائرها البشرية والمادية ما أمكنهم، فلا يقتلون إلا مَن يقاتل: لا يقتلون امرأة ولا طفلا، ولا شيخا فانيا، ولا راهبا ولا فلاحا ولا تاجرا، إنما يقتلون مَن يقاتل فحسب. كما أنهم لا يقطعون شجرا، ولا يهدمون بناء، ولا يفسدون في الأرض، ولا يقومون إلا بما تقتضيه ضرورة الحرب، وللضرورات أحكامها، وهي تقدر بقدرها. فقد قيَّد القرآن ارتكاب الضرورة بعدم البغي والعدوان، حين قال بعد تحريم أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:173].
        الجنوح للسلم إذا جنح العدو إليها:
        ومع هذا كله، يأمر القرآن المسلمين أن يستجيبوا لدعوة السلم إذا دُعُوا لها، ولو بعد وقوع الحرب، واشتعال وقودها، يقول تعالى: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ[الأنفال:62،61].
        حتى مع احتمال إرادة الخداع منهم، لا ينبغي أن تُرفض دعوة السلم بإطلاق، وإنما يجب أن نجنح لها كما جنحوا. على أن يتم ذلك بشروطه وضوابطه الشرعية.
        فليس من الجنوح للسلم بحال: أن تغتصب أرضي بالسيف، ثم تفاوضني على أن أترك لك بالصلح ما أخذته مني بالسيف، وتسمِّي ذلك جنوحا للسلم، فهذا أبعد ما يكون عن الجنوح للسلم، كما يفعل ذلك الصهاينة اليوم[5]! والشرط أن يتوافر من العدو الجنوح للسلم، وأن تظهر دلائل ذلك في مواقفه.
        وهذا ما طبقه الرسول بالفعل، حين جنحت قريش إلى السلم يوم الحديبية، ولم يكن ذلك عن ضعف منه، ولا تقاعس من أصحابه، فقد بايعوه على الموت، ولكنه جنح للسلم، حين لمس من خصومه الجنوح إليها، فكان الصلح الشهير، والصلح خير. وقد تحقق من ورائه خير كثير لدعوة الإسلام، ودخل الكثيرون من القرشيين في دين الله، من أمثال خالد بن الوليد وعمرو بن العاص، وغيرهما.
        كراهة التسمية بـ(حرب):
        ومن دلائل حرص الإسلام على السلم، ونفوره من الحرب: هذا الحديث النبوي الذي يقول: "أحب الأسماء إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن، وأصدق الأسماء: حارث وهمام، وأقبح الأسماء: حرب ومرة"[6].
        حتى لفظة (حرب) من المفردات التي يكره الإسلام تكرارها على ألسنة الناس، ولهذا يكرهها محمد ، ويراها أقبح اسم يُسمَّى به إنسان، وقد كان العرب في الجاهلية يسمون أبناءهم بـ(حرب) مثل حرب بن أمية، والد (أبي سفيان بن حرب) وغيره.
        وروى الإمام مالك في (الموطأ) عن يحيى بن سعيد –مرسلا- أن رسول الله قال لِلَقْحَةٍ[7] (ناقة) تُحلب: "مَن يحلب هذه؟". فقام رجل فقال: "ما اسمك؟". قال: مرّة، قال: "اجلس". ثم قال: "مَن يحلب هذه؟". فقام رجل، فقال: "ما اسمك؟". قال: حرب. قال: "اجلس". ثم قال: "مَن يحلب هذه؟". فقام رجل، فقال: "ما اسمك؟". قال: يعيش! فقال له رسول الله : "احلب"[8].
        وروى الإمام أحمد في مسنده، وروى البخاري في الأدب المفرد، وغيرهما عن على رضي الله عنه قال: لما ولد الحسن سمَّيتُه حربا، فجاء رسول الله فقال: "أروني ابني ما سمَّيتموه؟". قال: قلت: حربا. قال: "بل هو حسن". فلما ولد الحسين سمَّيتُه حربا، فجاء رسول الله فقال: "أروني ابني ما سميتموه؟". قال: قلت: حربا. قال: "بل هو حسين". فلما ولد الثالث سمَّيتُه حربا، فجاء النبي فقال: "أروني ابني ما سميتموه؟". قلت: حربا. قال: "بل هو محسن"[9].
        وفي إحدى الروايات: أن عليا قال: كنت أحب أن أكتنى بـ(أبي حرب)[10].
        فهل يقول هذا إنسان متعطش للدماء، عاشق للحروب، كما تُصوِّره أقلام المتعصبين من المُنصِّرين والمُستشرقين وأمثالهم، ممَّن يقولون على الله وعلى رسله الكذب وهم يعلمون؟!
        ثلث العام هدنة إجبارية:
        ومن حرص الإسلام على السلم: أنه فرض على المسلمين هدنة إجبارية يمتنعون فيها عن القتال لمدة أربعة أشهر، أي ثلث العام، وهي الأشهر المعروفة بـ(الأشهر الحرم) وهي: ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب: ثلاثة سرد، وواحد فرد. أي ثلاثة متتابعة، وواحد منفرد عنها. قال تعالى في سورة المائدة، وهي من أواخر ما نزل من القرآن: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ [المائدة:2].
        وقال تعالى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ [المائدة:97]. وسياق الآية يجعل الشهر الحرام كالكعبة قياما للناس، فله من الثبوت ما للبيت الحرام، هذا في المكان، وهذا في الزمان.
        وقال تعالى: يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ...[البقرة:217]. فأقرَّ بأن القتال في الشهر الحرام ذنب كبير، وإن كان المشركون قد ارتكبوا ما هو أكبر منه عند الله.
        ولكن إذا قوتل المسلمون في الشهر الحرام قاتلوا فيه ردا للعدوان، وتأديبا للمعتدين، حتى لا يجترئوا على المسلمين، مستغلين تعظيمهم للشهر الحرام، يقول تعالى: الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ [البقرة:194].
        وقد ذهب الأئمة الأربعة والجمهور إلى أن تحريم القتال في الأشهر الحرم منسوخ. وذهب عطاء وغيره إلى أنه ثابت غير منسوخ. وكان عطاء يحلف بالله: ما يحل القتال في الشهر الحرام، ولا نسخ تحريمه شيء!
        وقد ردَّ العلامة ابن القيم على كل الأدلة التي استدل بها مَن قال بالنسخ، مُبيِّنا أن كل ما قيل فيه: إن النبي قد قاتل في الشهر الحرام، أنه كان قتال دفاع لما بدأه العدو من عدوان على المسلمين. قال ابن القيم: ولا خلاف في جواز القتال في الشهر الحرام إذا بدأ العدو، وإنما الخلاف أن يقاتل فيه ابتداء.
        وذكر ابن القيم آية [البقرة:217]، يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ...، وآية [المائدة:2] لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ، ثم قال: فهاتان آيتان مدنيتان، بينهما في النزول نحو ثمانية أعوام. وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله ناسخ لحكمهما، ولا أجمعت الأمة على نسخه. ومَن استدل على نسخه بقوله تعالى: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً[التوبة:36]، ونحوها من العمومات، فقد استدل على النسخ بما لا يدل عليه. ومن استدل بأن النبي بعث أبا عامر في سرية إلى أوطاس في ذي القعدة، فقد استدل بغير دليل، لأن ذلك كان من تمام الغزوة التي بدأ فيها المشركون بالقتال، ولم يكن ابتداء منه لقتالهم في الشهر الحرام[11] اهـ.
        الحج تدريب للمسلم على السلام:
        ومن عناية الإسلام بالسلام: أنه فرض على كل مسلم في العمر مرة عبادة خاصة، وهي حج البيت الحرام، وهي عبادة يتدرَّب المسلم فيها على السلام، فهي تتم عادة في الشهر الحرام في ذي الحجة، وفي البلد الحرام مكة المكرمة، وفي حالة الإحرام، فتحوطه حرمة الزمان، وحرمة المكان، وحرمة الحال، حال الإحرام، الذي يحظر عليه فيه كل قتل حتى قتل الصيد، كما قال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ ... [المائدة:95].
        فالمسلم في هذه الرحلة: سلام لكل مَن حوله، وكل ما حوله، حتى الأشجار والحشائش يحرم عليه أن يقطعها.
        وكل مسلم عليه أن يقوم برحلة السلام هذه مرة في عمره فرضا من الله، وله أن يحج ويعتمر تطوعا ما يسَّر الله له ذلك، ابتغاء مرضاة الله.
        ولو كان قتال جميع الكفار -أو غير المسلمين- في العالم فرضا على المسلمين، حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، ما رأينا أحاديث تأمرنا بترك الأعداء ما تركونا، والكف عنهم ما كفوا عنا.
        كما في حديث ابن عمر وغيره: "اتركوا الحبشة ما تركوكم"[12].
        وفي حديث آخر: "دعوا الحبشة ما ودعوكم، واتركوا الترك ما تركوكم"[13].
        واقعية الإسلام في الإقرار بسنة التدافع:
        لا يرغب الإسلام في الحرب لذات الحرب، ولا يخوضها إلا إذا فرضت عليه كرها، كما قال تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ[البقرة:216].
        إنما يخوض المسلمون الحرب والقتال إذا أجبرتهم عليها (سنة التدافع) وهي من السنن الكونية والبشرية العامة، التي أقام الله عليها هذا العالم. وإلى هذه السنة -أو هذا القانون العام- أشار القرآن الكريم في آيتين من آياته، ففي سورة البقرة: عقَّب القرآن على قصة طالوت، ومقاومته لجالوت الجبار، رغم قلة عدد المؤمنين المقاتلين مع طالوت، وكثرة عدد الكافرين المحاربين مع جالوت، ورغم عدم تكافؤ القوة بين الطرفين، انتصرت القلة المؤمنة الصابرة على الكثرة الكافرة المتجبرة. يقول تعالى عن طالوت ومجاوزته للنهر: فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة:249-251].
        بهذا التدافع -دفع الله الناس بعضهم ببعض- يحفظ الله الأرض ومَن عليها وما عليها من الفساد. وإلا لطغى الجبارون والمتكبرون في الأرض بغير الحق، وأصبح العالم غابة يفترس فيها القوي الضعيف.
        وفي هذه القصة -قصة طالوت- التي ذكرها القرآن عن بني إسرائيل، كان طالوت ومَن معه يدافعون عن ديارهم وأبنائهم. قالوا: وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا [البقرة:246]. فهيَّأ الله دَاوُدُ الشاب المؤمن ليقتل جَالُوتَ الطاغية المتجبر، وبهذا اندفع عن الأرض شر مستطير.
        والآية الثانية التي قرَّر القرآن فيها سنة التدافع في سورة الحج، حين أذن الله للجماعة المؤمنة المضطهدة أن تقاتل دفاعا عن نفسها وحرماتها وحريتها في التدين، بل عن حرمة الأديان الأخرى، قال تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ[الحج:39،40].
        وبهذا كان الإسلام (واقعيا) حين أقرَّ بشرعية القتال أو شرعية الحرب لضرورة التدافع، وبعبارة أخرى: دفاعا عن الدين والحق والحرمات والحريات، وعلى رأسها: حرية التدين، في مواجهة الطغاة الذين يصادرون حق الناس في الإيمان، ويفتنون المؤمنين عن دينهم. ولهذا لم يكن دفاع الإسلام عن المساجد وحدها، بل عنها وعن الصوامع والبِيَع والصلوات، أي عن معابد اليهود والنصارى، حتى لا يُمنع أحد من إقامة شعائر دينه، أو يُكره على تغيير دينه.
        وبعض النصارى يتهمون الإسلام بأنه (دين السيف) وأنه (دين الحرب) وأن رسول الإسلام حارب وقاتل، ولم يكن كالمسيح الذي دعا إلى السلام، وقال في تعاليمه: (من ضربك على خدك الأيمن، فأدر له خدك الأيسر)[14]!
        ونسي هؤلاء أو تناسوا ما سجله التاريخ: أن أتباع الديانة المسيحية -للأسف الشديد- هم أكثر أصحاب الأديان صراعا وحروبا فيما بين بعضهم وبعض، وفيما بينهم وبين غيرهم، فطالما أوقدوا نار الحرب أحيانا بدوافع دينية كما حدث بين الكاثوليك والبروتستانت من مذابح تشيب لهولها الولدان[15]، وأحيانا بدوافع قومية أو وطنية أو مصلحية. والتاريخ حافل بهذه الحروب، ولا سيما بين البلدان الأوربية بعضها وبعض، وآخرها الحربان العالميتان الشهيرتان التي قتل المسيحيون بعضهم من بعض: عشرات الملايين.
        حتى قال أحد الكتاب الأوربيين: ما صدقت بنبوءة من نبوءات المسيح، كما صدقت نبوءته حين قال: (ما جئت لأُرسي سلاما على الأرض، ما جئت لأرسي سلاما، بل سيفا)[16].
        وما ذكره المسيح في إدارة الخد الأيسر لمَن ضربك على الأيمن: يمثل درجة (الفضل) التي تصلح في بيئة محدودة، ولجماعة مثالية، ترنو إلى المُثُل العليا، ولكنها لا تصلح أن تكون قاعدة عامة للتعامل مع جميع الناس، في كل الأقطار، وفي كل الأعصار، ومع جميع الأصناف والطبقات، وفي كل الظروف والحالات. إنما الذي يصلح لعموم الناس في جميع الأمصار والأعصار والأحوال: هو إيجاب مبدأ (العدل)، والترغيب في مبدأ (الفضل)، وهو ما جاء به الإسلام، حيث قال تعالى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى:40]، وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ[الشورى:41-43].
        إن البشرية منذ فجر التاريخ، ومنذ كانت أسرة واحدة: آدم وبنوه: وُجِد فيها الشرير المعتدي، وبإزائه الخيِّر الطيِّب، وُجد فيها قابيل وهابيل، كما تسميهما (الإسرائيليات). وقد قصَّ علينا القرآن قصة الأخوين اللذين قتل أحدهما الآخر ظلما وعدوانا، بلا جُرم اقترفته يداه، ولم يكن هناك مجتمع أثَّر فيه -كما يقال اليوم- بل طاوع نفسه الأمارة بالسوء التي سولت له قتل أخيه فقتله. اقرأ هذه الآيات: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ [المائدة: 27-30].
        ماذا يفعل الناس إذا كثر أتباع قابيل الشِّرير، وكان لهم قوة وسلطان؟ هل يُتركون ليطغوا في البلاد، ويُكثروا فيها الفساد، دون أن يردعهم رادع، أو يقول لهم أحد: كفُّوا أيديكم، وقفوا عند حدِّكم؟
        هل يمكن أن يقف الناس جميعا موقف الأخ الطيِّب هابيل؟ ويَدَعوا لقابيل المُجرم فرصته ليمارس هوايته في القتل والتدمير؟
        إن مَن يستقريء واقع الناس، يتبين له أن كثيرا من الناس -بل ربما أكثرهم- هو من صنف قابيل، الذي يستخدم قوته في الشر. حتى قال بعض الفلاسفة: الإنسان ذئب مُقنَّع.
        بل وجدنا من الأدباء مَن يقول: الإنسان حيوان محارب! وقال مناحم بيجن في كتابه (الثورة) الذي ألَّفه قبل قيام دولة الكيان الصهيوني: أنا أحارب، إذن أنا موجود!
        وأبو الطيب المتنبي يقول:
        والظلم من شِيَم النفوس، فإن تجد ذا عفة، فلعلَّة لا يظلــم!
        فكيف يمكن تجاهل مثل هذه الفلسفات والنظريات التي تؤمن بمنطق القوة لا بقوة المنطق. وهؤلاء لا بد أن يُواجَهوا بنفس منطقهم. فالشر بالشر يحسم، والبادئ أظلم. ولله در شوقي حين قال في نهج البردة:
        قالوا: غزوتَ، ورسل الله ما بعثوا بقتل نفس ولا جاؤوا بسفـك دم
        إفك وتضليل أحـلام وسفسطـة فتحتَ بالسيف بعـد الفتح بالقلم!
        والشر إن تلــقه بالخير ضقت به ذرعـــا، وإن تلقه بالشر ينحسم
        وقال آخر:
        والناس إن ظلموا البرهان واعتسفوا فالحرب أجدى على الدنيا من السلم
        وقد أرشد القرآن إلى أن الله أنزل مع رسله: الكتاب والميزان، وأنزل الحديد فيه بأس شديد، فكأنه يشير إلى أن مَن لم ينفع في هدايته الكتاب والميزان، قُوِّم بالحديد. يقول تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ[الحديد:25].
        والواقع أن الحياة لا تستقيم بغير القوة، تحمي الحق، وتقاوم الباطل، وتفرض العدل، وتحارب الظلم، وتمنع قابيل من التعدي على هابيل. وهذه هي الواقعية المثالية التي جاءت بها أخلاق الإسلام[17]، وتشريعات الإسلام، وتوجيهات القرآن: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ[النحل:126].
        وقد عبَّر عن ذلك الشاعر العربي بقوله:
        إلى الجهل في بعض الأحايين أحوج
        ولي فرس للجهل بالجهـل مُسرَج
        ومن رام تعويجـــي فإني معوَّج
        ولكنني أرضى به حين أحـــرج



        لئن كنت محتاجا إلى الحلـــم إنني
        ولي فرس للحلـــم بالحلم مُلجَم
        فمن رام تقويمـــــي فإني مقوَّم
        وما كنت أرضى الجهل خِدْنا وصاحبا


        تعليق


        • #5
          الجهاد بين شريعة التوراة وشريعة القرآن



          الجهاد بين شريعة التوراة وشريعة القرآن
          ومن أراد أن يعرف فضل ما جاء به الإسلام من إصلاح وتجديد وتهذيب في أحكام الجهاد والقتال، وإقرار السلام في الأرض، بالنسبة لما كان عليه الوضع في الشرائع القديمة، والأمم السابقة، فعليه أن ينظر -ولو نظرة سريعة عاجلة- إلى ما اشتملت عليه (التوراة) الحالية، التي يؤمن بها اليهود والنصارى جميعا، على أنها الكتاب الإلهي الذي أنزله الله على موسى عليه السلام، وأعلن المسيح عيسى بن مريم عليه السلام: أنه ما جاء لينقض الناموس (الذي جاء به موسى)، بل جاء ليتممه[1].
          ولا أدري أقرأ الغربيون -المسيحيون في جملتهم- الذين يتهمون الإسلام بأنه (دين السيف)، والذين يزعمون أنهم يؤمنون بـ(الكتاب المقدس) ومنه التوراة: هذه النصوص التي سأوردها أقرأوها أم لم يقرأوها؟ وإذا قرأوها فهل وَعَوْها أو لم يعوها؟
          والآن أود أن نقف قليلا عند ما تقوله التوراة -التي نعتقد نحن المسلمين: أنها حُرِّفت وبُدِّلت لفظيا ومعنويا- والتي يؤمن بقدسيتها وإلهيتها: اليهود والمسيحيون جميعا، ومنهم المبشرون والمستشرقون المتحاملون، الذين شنوا الغارة على شريعة الجهاد في القرآن، وفي سنة محمد ، وبالمقارنة والموازنة تتبيَّن الحقائق، وبضدِّها تتميَّز الأشياء.
          فأنصت أخي القارئ المنصف لما تقوله التوراة في أمر الحرب والقتال.
          شرائع حصار وفتح المدن البعيدة:
          تقول التوراة في (سفر تثنية الاشتراع) في (الإصحاح العشرين) تحت عنوان (شرائع حصار وفتح المدن البعيدة) -وأعتقد أن هذا العنوان من وضع ناشري التوراة- في الفقرة العاشرة وما بعدها:
          (وحين تتقدمون لمحاربة مدينة فادعوها للصلح أولا. فإن أجابتكم إلى الصلح واستسلمت لكم، فكل الشعب الساكن فيها يصبح عبيدا لكم. وإن أبت الصلح وحاربتكم فحاصروها، فإذا أسقطها الرب إلهكم في أيديكم، فاقتلوا جميع ذكورها بحد السيف. وأما النساء والأطفال والبهائم، وكل ما في المدينة من أسلاب، فاغنموها لأنفسكم، وتمتعوا بغنائم أعدائكم التي وهبها الرب إلهكم لكم. هكذا تفعلون بكل المدن النائية عنكم التي ليست من مدن الأمم القاطنة هنا. انتهى.
          هذا أمر التوراة الصارم لبني إسرائيل، أو لليهود المؤمنين بشريعة موسى في شأن حصار المدن البعيدة وفتحها: إذا أجابت دعوة السلم والصلح، فجميع أهلها عبيد لهم بلا استثناء! وإذا لم تُسلِّم لهم فليحاربوا، وإذا سقطت في أيديهم، فعليهم أن (يقتلوا جميع ذكورها بحد السيف)، هكذا أمرهم (الرب الإله). ولم تقبل شريعة التوراة من هؤلاء بديلا لقتلهم بحد السيف: أن يدخلوا في دين اليهودية مثلا، أو يدفعوا لهم جزية، أو غير ذلك. ولم يستثن أمر (الرب الإله) أحدا من الذكور: لا شيخا كبيرا، ولا طفلا صغيرا.
          وقد قال القرآن هنا: فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا[محمد:4]، فاكتفى القرآن في قتال الأعداء: أن يُثخِنوهم، أي يُضعِفوهم، وفي هذه الحالة عليهم أن يشدوا الوَثَاق. أي: يأسروا بدل أن يقتلوا.
          وقال القرآن أيضا: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ[التوبة:29]، فجعل للأعداء المحاربين فرصة تُنجِّيهم من القتل، ومن الدخول في الإسلام جبرا، وهي إعطاء الجزية عَنْ يَدٍ: أي عن قدرة، وهي مبلغ زهيد في مقابل التكفُّل بحمايتهم والدفاع عنهم. وهذه الجزية يدفعها القادرون على القتال، والقادرون على الدفع، فلا تدفعها النساء ولا الصبيان ولا العَجَزة ولا العميان، ولا الرهبان، وأمثالهم.
          شرائع حصار وفتح مدن أرض الموعد:
          أما شعوب المنطقة التي يطلق عليها (أرض الميعاد) فتقول التوراة في شأنها: (أما مدن الشعوب التي يهبها الرب إلهكم لكم ميراثا، فلا تَسْتَبْقوا فيها نَسَمَة حية، بل دمروها عن بكرة أبيها، كمدن الحثِّيِّين والأموريين والكنعانيين والفرزيين والحويين واليبوسيين، كما أمركم الرب إلهكم، لكي لا يعلِّموكم رجاستهم التي مارسوها في عبادة آلهتهم، فتغووا وراءهم وتخطئوا إلى الرب إلهكم)[2] انتهى.
          هذه الشعوب الستة، يجب أن تباد إبادة تامة، دون أن يُبدأوا بالدعوة، أو تُقبل منهم جزية، أو يُعقد معهم صلح أو هدنة. ليس هناك إلا السيف، والسيف وحده. والموت والدمار الكامل هما نصيب هذه الشعوب المسكينة، ولا ذنب لها إلا أنها سكنت ما سمَّوه (أرض الميعاد) قبلهم.
          ويعلق شراح التوراة على هذه الفِقرة فيقولون: (كيف يمكن لإله رحيم أن يأمر بإهلاك كل المراكز الآهلة بالسكان؟ لقد فعل ذلك لحماية بني إسرائيل من عبادة الأوثان، التي كانت، ولا بد، ستجلب الخراب عليهم (20:18) وفي الحقيقة، لأن بني إسرائيل لم يقضوا تماما على هذه الشعوب الشريرة كما أمرهم الله، تعرضوا باستمرار لاضطهادهم، وإلى الكثير من سفك الدماء والتخريب، أكثر مما لو كانوا أطاعوا توجيهات الله قبل كل شيء)!! اهـ.
          وهكذا ترى هؤلاء الشراح برَّووا هذه الإبادة الكاملة لهذه الشعوب؛ بأمر الرب الإله! بل أظهروا الأسف على نجاة الشعوب التي لم يبدها سيف إسرائيل!
          فأين ما جاءت به التوراة هنا مما جاء به القرآن من أحكام؟
          إن البلاد القريبة -التي يطلق الشراح عليها (أرض الموعد)- (لا تُستبقى فيها نَسَمَة حية!) يعني: إبادة كاملة، الاستئصال لأهل هذه البلاد! فلا تستبعد ما صنعه الأوربيون النصارى حين نزلوا بأرض أمريكا الشمالية، من محاولة استئصال الهنود الحمر، أهل البلاد الأصليين!! ولا تستغرب ما صنعه البريطانيون وغيرهم حينما ذهبوا إلى (استراليا) واكتشفوها، وقضوا على سكانها الأصليين. وقد استخدم هؤلاء وأولئك في إبادة السكان الأصليين وسائل وأساليب لا تمت إلى الأخلاق، ولا إلى الإنسانية بصلة، ووصفها بـ(الوحشية) ظلم كبير للوحوش، لأن الوحوش لا تقتل من الحيوانات الأخرى إلا ما تحتاج إليه لأكلها. فإذا شبعت كفَّت. وهؤلاء لا يشبعون من قتل، ولا يرتوون من دماء، وإن سالت مدرارا.
          إن فكرة استئصال الأمم والشعوب والأخرى وإبادتها: (فكرة توراتية) أصيلة توارثها قراء التوراة من اليهود والنصارى. وهي فكرة مرفوضة تماما في الإسلام، ولقد رأينا القرآن الكريم كيف شدَّد النكير على فرعون في ظلمه لبني إسرائيل، لأنه أراد إبادتهم بطريق بطيء، حيث أمر بتذبيح أبناءهم واستحياء نسائهم. ومعنى تذبيح الذكور من المواليد وتقتيلهم: أن يباد الجنس بعد عقود من الزمان. قال تعالى: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ[القصص:4].
          وهي فكرة مرفوضة تماما في الإسلام، لا بالنسبة إلى (الأمم البشرية) فحسب، بل بالنسبة إلى (الأمم الحيوانية) أيضا. فلم يُجِز الإسلام إبادة نوع أو أمة من العجماوات لسبب من الأسباب، وقال في ذلك رسول الإسلام : "لولا أن الكلاب أمة من الأمم، لأمرت بقتلها"[3]، أي بإبادتها وتخليص الناس من أذاها.
          ولكن نظر إلى الأمر نظرة أعمق، فرأى أن هذه الكلاب -بتعبير القرآن- (أمة) لها خصائصها وصفاتها التي ميزتها عن غيرها من الأجناس التي خلقها الله، وإنما خلقها لحكمة، علمها مَن علمها، وجهلها مَن جهلها. وقد قال تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ [الأنعام:38].
          وبهذه النظرة المتسامية سبق الإسلام بنحو أربعة عشر قرنا: ما تنادت به البشرية اليوم من ضرورة الحفاظ على الأجناس الحية من الانقراض، وهو ما يسمونه (مبدأ نوح) عليه السلام[4].
          فانظر إلى هذا الأفق الرفيع الذي ارتقى الإسلام بالبشرية إليه، في المحافظة على أجناس الدواب والطيور وغيرها، واعتبارها (أمما أمثالنا) وقارن بينه وبين ذلك الحضيض الذي انحدر إليه الغربيون الذين رضعوا فكرة التوراة الاستئصالية مع لبان أمهاتهم. فاقترفوا من جرائم الإبادة ما يندى له جبين التاريخ.
          وقد رأينا بأعيننا ماذا فعلت العصابات اليهودية الصهيونية بأهل فلسطين، وشعب فلسطين؟ لقد قاموا بجملة مذابح بشرية رهيبة، من قتل النساء والأطفال والشيوخ والمدنيين العزل، بلا هوادة ولا رحمة، ولا مراعاة لأي اعتبار إنساني، كما فعلوا في (دير ياسين) وغيرها، حتى بقروا بطون الحوامل، وأخرجوا الأجنة من أحشائها، وعبثوا بها بسنان أسلحتهم، وهم يتضاحكون! وقتلوا الابن أمام عين أبيه، وعين أمه الوالهة! وذبحوا الأب والأم أمام أعين أبنائهما وبناتهما، وبهذه الوحشية أدخلوا الرعب في قلوب الفلسطينيين، ففروا من ديارهم مذعورين، وتركوها لهؤلاء السفاحين الإرهابيين.
          لقد كان هؤلاء المجرمون السفاحون يطبقون شريعة التوراة التي لُقِّنوها: ألا تدعوا فيها نَسَمَة حية!!
          هذه هي شريعة التوراة بالنسبة لهذه الشعوب: دمِّروها عن بكرة أبيها! لا تُبقوا فيها نَسَمَة حية! هكذا أمر الرب الإله موسى وقومه وأتباعه: أن يفعلوا بهذه المدن وأهلها حين تقع في أيديهم، وقد أُمروا أمرا ملزما: أن يبدأوا بقتالهم وقتلهم. لا يدعونهم إلى دين يعتنقونه، أو يقبلون منهم جزية يدفعونها، فليس لهم خيار إلا السيف.
          فأين هذا مما جاء به القرآن من قوله تعالى: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ[البقرة:190،191].
          وأين هذا مما جاء به القرآن -حتى بعد ما سموه (آية السيف) من سورة التوبة- من قوله تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ[التوبة:6]؟
          وأين هذا من قوله تعالى: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ[الآية:62،61].
          إن من يقرأ ما جاء في نصوص الكتابين (التوراه والقرآن) عن السلام والحرب: لا يسعه إلا أن يقرأ قول البوصيري رحمه الله:
          الله أكبر! إن دين محمـــــد وكتابه: أقوى وأقوم قيـــــلا!
          لا تذكروا الكتب السوالف عنده طلع الصباح فأطفئ القنديــلا!
          فما قول البابا بنديكت فيما أرينا من نصوص التوراه: هل ينكرها؟ كيف وهو يؤمن بقول المسيح: ما جئت لأنقض الناموس (التوراة)؟
          وأين يجد البابا (العنف حقا)؟ أيجده في نصوص التوراة التي جاء بها موسى في زعمهم، أم يجده في نصوص القرآن؟

          نصوص مُعبِّرة من أسفار القوم:
          وأضيف إلى هذه الفقرات التي نقلناها من التوراة، فقرات أخرى من التوراة وملحقاتها من أسفار العهد القديم، نقلها العلامة الشيخ رحمة الله الهندي في كتابه الشهير: (إظهار الحق):
          1. في الباب الثالث والعشرين من (سفر الخروج) هكذا: (23) وينطلق ملاكي أمامك، فيدخلونك على الأموريين والحيثانيين والفرزانيين والكنعانيين والحوايين واليابوسيين الذين أنا أخرجهم (24) لا تسجدن لآلهتهم ولا تعبدها، ولا تعمل كأعمالهم، ولكن خربهم تخريبا، واكسر أوثانهم).
          2. في الباب الرابع والثلاثين من (سفر الخروج) في حق الأمم الست هكذا: (12) فاحذر أن تعاهد مطلقا سكان تلك الأرض الذين تأتيهم لئلا يكونوا لك عثرة (13) ولكن اهدم مذابحهم، وكسر أصنامهم، واقطع أنساكهم).
          3. في الباب الثالث والثلاثين من (سفر العدد): (51) مر بني إسرائيل وقل لهم: إذا عبرتم الأردن وأنتم داخلون أرض كنعان (25) فأبيدوا كل سكان تلك الأرض، واسحقوا مساجدهم، واكسروا أصنامهم المنحوتة جميعها، واعقروا مذابحها كلها (55) ثم أنتم إن لم تبيدوا سكان الأرض، فالذين يبقون منهم، يكونون لكم كأوتاد في أعينكم، ورماح في أجنابكم، ويشقون عليكم في الأرض التي تسكنونها (56) وما كنت عزمت أني أفعل بهم سأفعله بكم).
          4. في الباب السابع من سفر التثنية هكذا: (1) إذا أدخلك الرب إلهك الأرض التي تدخل لترثها، وتبيد الشعوب الكثيرة من قدامك: الحيثي والجرحيثاني والأموراني والكنعاني والفرراني والحواني واليبوساني، سبعة أمم أكثر منكم عددا وأشد منكم (2) وسلمهم الرب إلهك بيدك، فاضربهم حتى إنك لا تبقي منهم بقية، فلا تواثقهم ميثاقا ولا ترحمهم (3) ولكن فافعلوا بهم هكذا: خربوا مذابحهم، وكسروا أصنامهم، وقطعوا مناسكهم، وأوقدوا أوثانهم).
          قال صاحب (إظهار الحق):
          فعلم من هذه العبارات أن الله أمر بإهلاك كل ذي حياة من الأمم السبع، وعدم الشفقة عليهم، وعدم المعاهدة معهم، وتخريب مذابحهم، وكسر أصنامهم، وإحراق أوثانهم، وقطع مناسكهم، وشدَّد في إهلاكهم تشديدا بليغا، وقال: إن لم تهلكوهم أفعل بكم ما كنت عزمت أن أفعله بهم! ووقع في حق هذه الأمم السبعة (أنهم أكثر منكم عددا وأشد منكم). وقد ثبت في الباب الأول من (سفر العدد): أن عدد بني إسرائيل الذي كانوا صالحين لمباشرة الحروب، وكانوا أبناء عشرين سنة وما فوقها، كان: ستمائة ألف وثلاثة آلاف وخمسمائة وخمسين رجلا (603550)[5]، وأن اللاويين مطلقا ذكورا كانوا أو إناثا، وكذا إناث سائر الأسباط الإحدى عشر مطلقا، وكذا ذكورهم الذين لم يبلغوا العشرين سنة خارجون عن هذا العدد، ولو أخذنا عدد جميع بني إسرائيل، وضممنا المتروكين والمتروكات كلهم بالمعدودين، لا يكون الكل أقل من ألفي ألف وخمسمائة ألف، أعني مليونين ونصف مليون (2500000)، وهذه الأمم السبعة إذا كانت أكثر منهم عددا وأشد منهم، فلا بد أن يكون عدد هذه الأمم أكثر من عددهم.
          ونقل العلامة الشيخ رحمة الله من التوراة والعهد القديم من المذابح البشرية التي ارتكبها أنبياء بني إسرائيل تطبيقا لأحكام التوراة: ما تقشعر منه الأبدان، وتشيب له الولدان. ننقل بعضه هنا للموازنة والاعتبار.
          5. في الباب الثاني والثلاثين من سفر الخروج في حال عبادة العجل هكذا: (25) فنظر موسى عليه السلام العشب أنه صار عريانا إنما عراه هارون لعار النجاسة، وجعله عريانا بين الأعداء (26) فوقف في باب المحلة، وقال: من كان من حزب الرب فليقبل إليَّ، فاجتمع إليه جميع بني لاوي (27) وقال لهم: هذا ما يقول الرب إله إسرائيل: ليتقلد كل رجل منكم سيفه، فجوزوا في وسط المحلة من باب إلى باب، وارتدوا وليقتل الرجل منكم أخاه، وصاحبه، وقريبه (28) فصنع بنو لاوي كما أمرهم موسى عليه السلام، فقتلوا في ذلك اليوم من الشعب نحو ثلاثة وعشرين ألف رجل). فقتل موسى عليه السلام على عبادة العجل ثلاثة وعشرين ألفا.
          6. وفي الباب الخامس والعشرين من سفر العدد، أن بني إسرائيل لما زنوا ببنات المؤاب، وسجدوا لآلهتهن، أمر الرب بقتلهم. فقتل موسى أربعة وعشرين ألفا منهم.
          7. من طالع الباب الحادي والثلاثين من سفر العدد، ظهر له أن موسى عليه السلام لما أرسل اثني عشر ألف رجل مع فنيحاس بن العازار لمحاربة أهل مديان، فحاربوا وانتصروا عليهم، وقتلوا كل ذكر منهم، وخمسة ملوكهم وبلعام، وسبوا نساءهم، وأولادهم، ومواشيهم كلها، وأحرقوا القرى والدساكر والمدائن بالنار، فلما رجعوا غضب عليهم موسى عليه السلام، وقال: لم استحييتم النساء؟ ثم أمر بقتل كل طفل مذكر، وكل امرأة ثيِّب، وإبقاء الأبكار، ففعلوا كما أمر، وكانت الغنيمة من الغنم: ستمائة وخمسة وسبعين ألفا، ومن البقر: اثنين وسبعين ألفا، ومن الحمير: واحدا وستين ألفا، ومن الأبكار: اثنتين وثلاثين ألفا، وكان لكل مجاهد ما نهب من غير الدواب، والإنسان، وما بين مقداره في هذا الباب. غير أن رؤساء الألوف والمئين، أعطوا الذهب لموسى والعازار: ستة عشر ألفا وسبعمائة وخمسين مثقالا. وإذا كان عدد النساء الأبكار اثنتين وثلاثين ألفا، فكم يكون مقدار المقتولين من الذكور مطلقا، شيوخا كانوا أو شبانا أو صبيانا، ومن النساء الثيبات؟!
          8. عمل يوشع عليه السلام بعد موت موسى عليه السلام بالأحكام المندرجة في التوراة، فقتل (الملايين) الكثيرة، ومن شاء فليطالع هذا في كتابه من الباب الأول إلى الباب الحادي عشر، وقد صرَّح في الباب الثاني عشر من كتابه: أنه قتل واحدا وثلاثين سلطانا من سلاطين الكفار، وتسلط بنو إسرائيل على ممالكهم.
          9. في الباب الخامس عشر من سفر القضاة في حال شمشون هكذا: (ووجد فكًّا، أعني: خد حمار، فمد يده وأخذه، وقتل به ألف رجل)!
          10. في الباب السابع والعشرين من سفر صموئيل الأول: (8) وصعد داود ورجاله، وكانوا ينهبون أهل جاسور وجرز وعمالق، لأن هؤلاء كانوا سكان الأرض من الدهر من حد سورا حتى حد مصر (9) وكان يخرب داود كل الأرض، ولم يكن يُبقي منهم رجلا، ولا امرأة، ويأخذ الغنم، والبقر، والحمير، والجمال والأمتعة، وكان يرجع ويأتي إلى أخيس). انظروا إلى فعل داود عليه السلام: إنه كان يخرب الأرض، وما يُبقي رجلا، ولا امرأة من أهل جاسور، وجرز وعمالق، وينهب دوابهم وأمتعتهم!
          11. في الباب الثامن من سفر صموئيل الثاني: (2) وضرب المؤابيين وجرهم بالحبال، وأضجعهم على الأرض، وأعد حبلين للقتل، وحبلا واحدا للاستحياء، وكان المؤابيون عبيدا لداود يؤدون إليه الخراج (3) وضرب داود أيضا هدر عازار بن راحوب ملك صوبا ... إلخ (5) فأتت أرام دمشق، ليعينوا هدر عازار ملك صوبا، وضرب (أي بالسيف) داود من أرام اثنين وعشرين ألف رجل). فانظروا إلى فعل داود عليه السلام بالمؤابيين، وهدر عازار، وجيشه وجيش أرام.
          12. الآية الثامنة عشر من الباب العاشر من سفر صموئيل الثاني هكذا: (وهرب السريانيون من بين يدي إسرائيل، وقتل داود من السريانيين سبعمائة مربك، وأربعين ألف فارس، وسوباك رئيس الجيش ضربه فمات في ذلك المكان).
          13. وفي الباب الثاني عشر من سفر صموئيل الثاني هكذا: (19) فجمع داود جميع الشعب، وسار إلى راية فحارب أهلها، وفتحها (30) وأخذ تاج ملكها عن رأسه، وكان وزنه قنطارا من الذهب، وكان فيه جواهر مرتفعة، ووضعوه على داود، وغنيمة القرية أخرجها كثيرة جدا (31) والشعب الذي كانوا فيها أخذهم ونشرهم بالمناشير، وداسهم بموارج حديد، وقطعهم بالسكاكين، وأجازهم بقمين الأجاجر، كذلك صنع بجميع قرى بني عمون، ورجع داود وجميع الشعب إلى أورشليم). ونقلت هذه العبارة لفظا لفظا، عن الترجمة العربية المطبوعة سنة 1831م، وسنة 1844م. فانظروا كيف قتل داود عليه السلام بني عمون قتلا شنيعا، وأهلك جميع القرى بمثل هذا العذاب العظيم الذي لا يتصور فوقه[6] انتهى.
          هذا بعض ما نقله العلامة الشيخ رحمة الله في كتابه (إظهار الحق) من كتب القوم المقدسة، بنصوصه وحروفه، على ما فيها من ركاكة، وهو غيض من فيض، وقليل من كثير. وكل نص منها ينضح بالقسوة البالغة، والوحشية القاسية، التي لا تعرف الرحمة إليها سبيلا، بل إن الوحوش لا تقتل إلا ما تحتاج إليه لأكلها، أما تذبيح الألوف، وعشرات الألوف، بل مئات الألوف من البشر، بهذه الاستهانة والسهولة، كأنما تبيد صراصير، أو نملا، لا لسبب ولا لجرم إلا لأنهم مخالفون في الدين، أو لأنهم سكان أرض معينة، وأن يتم ذلك من رسل وأنبياء لهم مقام عند الله، مثل موسى ويوشع وداود وغيرهم، فهذا هو الذي يذر الحليم حيران[7]!
          ولا غرو أن تؤثر هذه القصص الإسرائيلية، والأخبار الدينية، المنقولة من أسفار التوراة، وملحقات التوراة، من أسفار الأنبياء، في نفوس قراء هذه النصوص المقدسة عندهم من اليهود والنصارى على السواء، وأن تنشئ فيهم تلك (النفسية المتوحشة) التي لا ترحم ولا ترق لضعيف ولا مسكين، وتستحل قتل النساء والولدان والشيوخ، الذين لا يستطيعون حيلة، ولا يهتدون سبيلا، ولا عجب أن وصف القرآن بني إسرائيل بهذا الوصف المعبر، فقال تعالى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:74].
          وفي مقام آخر قال تعالى عن بني إسرائيل بعد أن أخذ عليهم الميثاق أن يعملوا الصالحات، حتى يستحقوا مثوبة الله سبحانه وتعالى: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً [المائدة:13].

          تعليق


          • #6
            صفحات.. من مذابح النصارى بعضهم لبعض


            صفحات.. من مذابح النصارى بعضهم لبعض
            إن الذين يتهمون الإسلام بأنه (دين السيف) وأنه قهر الناس بالسيف، هم أول الناس وأكثر الناس استعمالا للسيف، بموجب وبغير موجب، ولا سيما فيما بين بعضهم وبعض.
            وأكتفي بأن أذكر هنا ما سجله العلامة الشيخ رحمه الله الهندي في كتابه القيم (إظهار الحق) الذي ردَّ فيه على المبشرين البروتستانت دعاواهم الكاذبة على الإسلام، ومن هذه الدعاوى: أن الإسلام انتشر بالسيف. وقد بيَّن الشيخ بالبراهين: أن هذا الادعاء غير صحيح كما أشار إليه في الأمر السابع من مقدمة الكتاب، كما بين أن أفعالهم تُكذِّب أقوالهم، وأنهم أكثر الناس استعمالا للسيف كما أن أسلافهم من أهل مِلتهم إذا تسلطوا تسلطا تاما، اجتهدوا في إبادة المخالفين. قال: وأنا أنقل بعض الحالات من كتبهم ورسائلهم، فأنقل حالهم بالنسبة إلى (اليهود) من كتاب (كشف الآثار في قصص أنبياء بني إسرائيل) الذي عرفته في بيان الأمر الثاني، فأقول:
            موقف المسيحيين من اليهود:
            قال صاحبه في الصفحة (27): (القسطنطين الأعظم -الذي كان قبل الهجرة بثلثمائة سنة تقريبا- أمر بقطع آذان اليهود، وإجلائهم إلى أقاليم مختلفة، ثم أمر ملك الملوك الرومي في القرن الخامس من القرون المسيحية، بإخراجهم من البلدة السكندرية التي كانت مأمنهم من مدة، وكانوا يجيئون إليها من كل جانب، فيستريحون فيها. وأمر بهدم كنائسهم، ومنع عبادتهم، وعدم قبول شهادتهم، وعدم نفاذ الوصية إن أوصى أحد منهم لأحد في ماله، ولما ظهرت منهم مقاومة، بسبب هذه الأحكام: نهب جميع أموالهم، وقتل كثيرا منهم، وسفك الدماء بظلم ارتعد له جميع يهود هذا الإقليم).
            ثم قال في الصفحة (28): (إن يهود البلد (انطيوح) لما أُسِروا بعد ما صاروا مغلوبين، قطَّع أعضاء البعض، وقتَّل البعض، وأجلى الباقين منهم كلهم، وظَلَم، ملكُ الملوك في جميع مملكته هؤلاء المشاركين بأنواع الظلم، ثم أجلاهم من مملكته آخرا.
            وهيج ولاة الممالك الأخرى على أن يعاملوا اليهود هذه المعاملة، فكان حالهم أنهم تحملوا الظلم من آسيا إلى أقصى حد أوربا، ثم بعد مدة قليلة كلفوا في مملكة إسبانيا لقبول شرط من الشروط الثلاثة: أن يقبلوا الملة المسيحية، فإن أبوا عن قبولها يكونوا محبوسين، وإن أبوا عن كليهما يُجْلَوا من أوطانهم.
            وصار مثل هذه المعاملة معهم في ديار فرنسا. فهؤلاء المساكين كانوا ينتقلون من إقليم إلى إقليم، ولا يحصل لهم موضع القرار، ولم يحصل لهم الأمن في آسيا أيضًا، بل قتلوا في كثير من الأوقات، كما قتلوا في ممالك الفرنج).
            ثم قال في الصفحة (29): (إن أهل مِلة الكاثوليك كانوا يظلمونهم باعتقاد أنهم كفار، وعظماء هذه الملة عقدوا مجلسا للمشورة، وأجروا عليهم عدة أحكام:

            (الأول): من حمى يهوديا ضد مسيحي يكون ذا خطأ، ويخرج عن الملة.
            (والثاني): أنه لا يُعطَى يهودي منصبا في دولة من الدول.
            (والثالث): لو كان مسيحي عبده فهو حر.
            (والرابع): لا يأكل أحد مع اليهودي، ولا يعامله.
            (والخامس): أن يُنـزع الأولاد منهم ويُربَّوْن في الملة المسيحية... وهكذا كان أحكام أخر).
            أقول: لا شك أن الحكم الخامس أشد أنواع الإكراه.
            ثم قال: (كانت عادة أهل البلدة ثولوس من إقليم فرنسا: أنهم كانوا يلطمون وجوه اليهود في عيد الفصح! وكان رسم البلدة بزيرس: أن أهلها من أول يوم الأحد من أيام العيد إلى يوم العيد، كانوا يرمون اليهود بالحجارة، وكان يكثر القتل أيضا في هذا الرمي، وكان حاكم البلدة المسيحي المذهب يحرض أهلها على هذا الفعل).
            ثم قال في الصفحة (30، 31): (دبر سلاطين فرنسا في حق اليهود أمرا، وهو أنهم كانوا يتركون اليهود إلى أن يصيروا متمولين بالكسب والتجارة، ثم يسلبون أموالهم، وبلغ هذا الظلم لأجل الطمع غايته.
            ثم لما صار (فيليب أوغسطس) سلطانا في فرنسا، أخذ أولاً الخمس من ديون اليهود التي كانت على المسيحيين، وأبرأ من الباقي ذمة المسيحيين، وما أعطى اليهود حبة، ثم أجلى اليهود كلهم من مملكته، ثم جلس على سرير السلطنة (سانت لويس) وهو يطلب اليهود مرتين في مملكته. وأجلاهم مرتين، ثم أجلى (جرلس السادس) اليهود من مملكة فرنسا.
            وقد ثبت من التواريخ: أن اليهود أجلوا من مملكة فرنسا سبع مرات، وعدد اليهود الذين أخرجوا من مملكة أسبانيا -لو فرض في جانب القلة- لا يكون أقل من ألف وسبعين ألف بيت!
            وفي مملكة (النمسا) قتل كثير منهم، ونهب كثير منهم، ونجا منهم قليل، وهم الذين تنصروا، ومات كثير منهم بأن سَدُّوا أولا أبوابهم، ثم أهلكوا أنفسهم وأولادهم وأزواجهم وأموالهم، إما بالإغراق في البحر، أو بالإحراق بالنار، وقتل غير المحصورين منهم في الجهاد المقدس.
            وكان الإنكليز اتفقوا على أن يظلموا اليهود، فلما حصل اليأس العظيم ليهود البلدة (يرك) بسبب الظلم، قتل بعضهم بعضا، فقتل ألف وخمسمائة من الرجال والنساء والأطفال، وصاروا أذلاء في هذه المملكة بحيث إذا بغى الأمراء على السلطان، قتلوا سبعمائة يهودي، ونهبوا أموالهم، لأجل أن يظهروا شوكتهم على الناس، وسلب (رجاردوجان) و(هنري الثالث) من سلاطين انكلتره مرارا: أموال اليهود ظلما سيما (هنري الثالث)، فإنه كانت عادته أنه كان ينهب اليهود بكل طريق على وجه الظلم، وعدم الرحمة. وقد جعل أغنياءهم الكبار فقراء وظلمهم، بحيث رضوا بالجلاء، واستجازوا أن يخرجوا من مملكته، لكنه ما قبل هذا الأمر منهم أيضًا. ولما جلس (ادورد الأول) على سرير السلطنة، ختم الأمر بأن نهب أموالهم كلها، ثم أجلاهم من مملكته، فأجلى أكثر من خمسة عشر ألف يهودي في غاية العسر).
            ثم قال في الصفحة (32): (نقل مسافر اسمه (سوتي): أنه كان حال قوم برتكال (البرتغال) قبل خمسين عاما: أنهم كانوا يأخذون اليهودي ويحرقونه بالنار، ويجتمع رجالهم ونساؤهم يوم إحراقه، كاجتماع يوم العيد، وكانوا يفرحون بذلك. وكانت النساء يصحن (أي يزغردن) وقت إحراقه فرحا)!
            ثم قال في الصفحة (33): (إن البابا الذي هو عظيم فرقة الكاثوليك قرر عدة قوانين شديدة في حق اليهود). انتهى كلام كشف الآثار في قصص أنبياء بني إسرائيل.
            وقال صاحب سير المتقدمين: (إن السلطان السادس (قسطنطين الأول)، أمر بمشورة أمرائه في سنة (379م) أن يتنصر كل من هو في السلطنة الرومية ويقتل مَن لم يتنصر) انتهى. قال: وأي إكراه أكثر من هذا؟!
            مذبحة الصليبيين في القدس:
            و(لطامس نيوتن) (تفسير) للأخبار عن الحوادث المستقلة المندرجة في الكتب المقدسة. وطبع هذا التفسير سنة 1803م في لندن. ففي الصفحة (65) من المجلد الثاني في بيان تسلط أهل التثليث على أورشليم هكذا: (فتحوا أورشليم (القدس) في الخامس عشر من شهر تموز الرومي سنة 1099م بعدما حاصروا خمسة أسابيع، وقتلوا غير المسيحيين، فقتلوا أكثر من سبعين ألفا من المسلمين، وجمعوا اليهود وأحرقوهم، ووجدوا في المساجد غنائم عظيمة) انتهى.
            بعض ما فعل الكاثوليك بالبروتستانت:
            قال: وإذا عرفت حال ظلمهم في حق اليهود خصوصا، وفي حق رعية السلطنة عموما، وما فعلوا عند تسلطهم على أورشليم، فالآن أذكر نبذا مما فعل الكاثوليك بالنسبة إلى غيرهم من المسيحيين، وأنقل هذه الحالات عن كتاب (الثلاث عشرة رسالة) الذي طبع في بيروت سنة 1849م من الميلاد باللسان العربي، فأقول:
            (قال في الصفحة (15، 16): (أما الكنيسة الرومانية، فقد استعملت مرات كثيرة الاضطهادات والطرد المزعج ضد البروتستانت، أي الشهود أو بالحري الشهداء، وذلك في ممالك أوربا. ويظن أنها أحرقت في النار أقل ما يكون: مائتين وثلاثين ألفا من الذين آمنوا بيسوع دون البابا، واتخذوا الكتب المقدسة وحدها هدى وإرشادا لإيمانهم وأعمالهم، وقد قتلت أيضًا منهم ألوفا وربوات بحد السيف والحبوس والكلبتين، وهي آلة لتخليع المفاصل بالجذب، وأفظع العذابات المتنوعة. ففي فرنسا قتل في يوم واحد ثلاثون ألف رجل، وذلك في اليوم الملقب بيوم ماريرثو لماوس، وعلى هذا الأسلوب أذيالها مختضبة بدماء القديسين) انتهى كلامه بلفظه.
            وفي الصفحة (338) في الرسالة الثانية عشرة من الكتاب المذكور: (يوجد قانون وضع في المجمع الملتئم في توليدو في أسبانيا يقول: إننا نضع قانونا: أن كل مَن يأتي إلى هذه المملكة فيما بعد، لا نأذن له أن يصعد إلى الكرسي إن لم يحلف أولا: أنه لا يترك أحدا غير كاثوليكي يعيش في مملكته، وإن كان بعد ما أخذ الحكم يخالف هذا العهد فليكن محروما، قدام الإله السرمدي، وليصر كالحطب للنار الأبدية). مجموع المجامع من كارتر أوجه 404.
            (والمجمع اللاتراني يقول: إن جميع الملوك والولاة وأرباب السلطنة فليحلفوا: أنهم بكل جهدهم وقلوبهم يستأصلون جميع رعاياهم المحكوم عليهم من رؤساء الكنيسة بأنهم هراطقة، ولا يتركون أحدا منهم في نواحيهم، ومن كانوا لا يحفظون هذه اليمين، فشعبهم في حِلٍّ من الطاعة لهم) رأس 3 (وهذا القانون قد ثبت أيضًا في مجمع قسطنطينية) جلسة 45.
            (ومن رسم البابا مرتينوس الخامس) عن ضلال فيكل. (وفي اليمين التي حلفت بها الأساقفة تحت رياسة البابا بولينوس الثالث سنة1551م يوجد هذا الكلام: أن الهراطقة وأهل الانشقاق والعصاة على سيدنا البابا وخلفائه، هؤلاء بكل قوتي أطردهم، أبيدهم).
            والمجمع اللاتراني ومجمع قسطنطينية يقولون: ( إن الذي يمسك الهراطقة له إذن وسلطة أن يأخذ منهم كل مالهم ويستعمله لنفسه من غير مانع) مجمع لاتراني 4 مجلد 2 فصل 1 وجه 152 ومجمع قسطنطينية جلسة 45 مجلد 7 (والبابا اينوشنيسوس الثالث يقول: إن هذا القصاص على الهرطقة نحن نأمر به كل الملوك والحكام، ونلزمهم إياه تحت القصاصات الكنائسية) رسم 7 كتاب 5.
            وفي سنة 1724م وضع الملك لويس الحادي عشر ثمانية عشر قانونًا.
            أولها: أننا نأمر أن الديانة الكاثوليكية وحدها، تكون مأذونة في مملكتنا، وأما الذين يتمسكون بديانة أخرى فليذهبوا إلى الاعتقال طول حياتهم، والنساء فلتقطع شعورهن ويحبسن إلى الموت!
            وثانيها: أننا نأمر أن جميع الواعظين الذين جمعوا جماعات على غير العقائد الكاثوليكية، والذين علموا أو مارسوا عبادة مخالفة لها يعاقبون بالموت. وفي مخاطبة الأساقفة في أسبانيا للملك سنة 1765م يقولون له: أعط الرسوم كل قوتها، والديانة كل مجدها، لكن تسبب هذه المقالة منا تجديد قوانين سنة 1724م المذكورة (وكان من جملة رسوم إنكلترا تحت رياسة البابا: أن كل مَن يقول إنه لا يجوز أن يسجد للأيقونات: يحبس في السجن الشديد، حتى يحلف أنه يسجد لها، والأسقف أو القاضي الكنائسي له سلطان أن يحضر إليه، أو يحبس كل من يقع عليه الشبهة: أنه هرطيقي، والهرطيقي العنيد فليحرق بالنار قدام الشعب، وجميع الحكام فليحلفوا أنهم يعينون هذا القاضي على استئصال الهراطقة الذين عندما تظهر هرطقتهم تسلب أموالهم ويسلمون إليه، وتمحى خطاياهم بلهيب النار). كوك فرائض عدد 3 وجه 40، 41 وأيضًا عدد 4 وجه 15 (وبارونيوس يقول: عن الملك كارلوس الخامس، كان يظن برأيه الباطل: أنه يستأصل الهراتقة ليس بالسيف، بل بالكلام، وفي فهرس الكتاب المقدس المطبوع في رومية باللاتيني والعربي تحت حرف الهاء يوجد هذا التعليم: أن الهراطقة ينبغي لنا أن نهلكهم، ويورد الإثبات على ذلك: أن الملك ياهو قتل الكهنة الكذبة، وإيليا ذبح كهنة باعل، وغير ذلك. فإذن هكذا ينبغي لأولاد الكنيسة أن يهلكوا الهراتقة).
            ثم في الصفحة (347، 348): (والمؤرخ منتوان المتقدم في رياسة الكرمليين مع غيره من المؤرخين، يخبرنا عن كاروز بالإنجيل معتبر، يقال له (ثوما) من رودن، أحرقه البابا بالنار، لأنه كرَّز ضد فسادات الكنسية الرومانية، والمؤرخون يدعونه قديسًا وشهيدًا حقيقيًا للمسيح).
            وفي الصفحة (350 إلى 355): (في سنة 1194م أمر الديفونسو ملك اراغون في أسبانيا بنفي الواضيين من بلاده، لأنهم هراطقة ... وفي سنة 1206م رغما عن الأمير رايمون والي مدينة ثولوس، أرسل البابا قضاة بيت التفتيش إلى تلك المدينة، لأن الأمير المذكور كان قد أبى أن ينفي هؤلاء الواضيين، ثم بعد قليل أرسل ملك فرنسا بطلب البابا إلى تلك المدينة ونواحيها عسكرًا، عدده ثلثمائة ألف، فحاصر الأمير رايمون في مدينته لأجل المحاماة عن نفسه، ولكي يدفع القوة بالقوة، فذُبح في ذلك القتال ألف ألف (مليون)، وانكسر أهل رايمون، وأحاط بهم كل صنف من الإهانات والعذابات، وكان البابا في حركة هذه الحروب يقول لقومه: إننا نعظكم ونحتم عليكم أن تجتهدوا في ملاشاة هذه الهرطقة الخبيثة: هرطقة الألبجيين أي الواضيين، وتطردوهم بيد قوية أشد مما يكون ضد الساراجين أي المسلمين ...
            وفي سنة 1400م في آخر شهر كانون الأول، قام أهل البابا بغتة على الواضيين في اوديابيت مونت بلاد ملك سردينيا، فهربوا من وجوههم بلا قتال، ولكن قتل كثيرون بالسيف، وكثيرون ماتوا بالثلج.
            ثم إن البابا بعد ذلك بسبع وثمانين سنة، كلف البرتوس ارشيديا كونوس في مدينة كريمونا: أن يحارب الواضيين في النواحي القبلية من فرنسا، وفي أوديابيت مونتن حيث بقي البعض منهم من الذين رجعوا بعد الحرب في سنة1400م، وهذا الرجل المذكور تقدم حالاً ومعه ثمانية عشر ألف محارب، وأقام تلك الحرب التي استمرت نحو ثلاثين سنة على المسيحيين الذين قالوا: نحن في كل وقت نكرم الملك ونؤدي الجزية، ولكن أرضنا وديانتنا التي ورثناها من الله ومن آبائنا لا نريد أن نتركها، وفي كالابريا من بلاد إيطاليا سنة 1560م قتل ألوف ألوف، من البروتستنتيين، بعضهم قتلهم العسكر، وبعضهم محكمة التفتيش.
            قال أحد المعلمين الرومانيين: إنني أرتعد كلما أفتكر بذلك الجلاد، والخنجر الدموي بين أسنانه، والمنديل يقطر دمًا بيده، وهو متلطخ بيديه إلى الأكارع، يسحب واحدًا بعد واحد من السجن، كما يفتك الجزار بالغنم!!
            وفي سنة 1601م نفى دوك السافوي خمسمائة عائلة من الواضيين ...
            وأيضًا سنة 1655م وسنة 1676م تجددت الاضطهادات عليهم في أوديابيد مونت، لأن الملك لويس الرابع عشر بإشارة من البابا تقدم إليهم بجيشه، وهم في بيوتهم بغاية الطمأنينة، فذبح العسكر خلقًا كثيرًا منهم، ووضعوا في الحبس أكثر من عشرة الآف، فمات كثير منهم من الزحام والجوع، والذين سلموا أخرجوهم لكي ينـزحوا من تلك البلاد، وكان ذلك اليوم شديد البرد والأرض مغطاة بالثلج. والجليد، فكان كثير من الأمهات وأولادهن في أحضانهن موتى على جانب الطريق من البرد..
            وكارلوس الخامس سنة 1521م، أخرج أمرًا في طرد البروتستنتيين في بلاد فلامنك عن رأي البابا، وبسبب ذلك قتل خمسمائة ألف نفر!!
            وبعد كارلوس تولى ابنه فيلبس، ولما ذهب إلى أسبانيا سنة 1559م، استخلف الأمير ألفا على طرد البروتستنتيين، والمذكور في أشهر قليلة قتل على يد الجلاد الملوكي الشرعي ثمانية عشر ألفًا، وبعد ذلك كان يفتخر بأنه قتل في كل المملكة ستة وثلاثين ألفا! والقتيل الذي يذكره المعلم كين في عيد مار برثولماوس، كان في آب سنة 1572م في وقت السلامة الكاملة، وكان الملك ملك فرنسا قد وعد بأخته لأمير نافار، وهو من علماء البروتستنتيين وأشرافهم، ثم اجتمع هو وأصدقاء أعيان كنيستهم في باريس لأجل إستتمام الوعد بالزواج، ولما ضربت النواقيس لأجل الصلاة الصباحية، قاموا بغتة حسب اتفاقهم السابق على الأمير وأصحابه، وعلى جميع البروتستنتيين في باريس، فذبحوا منهم عشرة آلاف شخص!
            وهكذا جرى أيضاً في روين وليون وأكثر المدن في تلك البلاد، حتى قال البعض من المؤرخين: إنه قتل نحو ستين ألفا.
            واستمر هذا الاضطهاد مدة ثلاثين سنة، لأن البروتستنتيين أمسكوا سلاحهم لكي يدفعوا القوة بالقوة، ومات في هذا الحرب منهم تسعمائة ألف.
            ولما سمع في رومية فعل ملك فرنسا في عيد مار برثولماوس، أطلقوا المدافع من الأبراج، وذهب البابا مع الكرديناليين ليرتل مزمور الشكر في كنيسة الرومانية بهذا العمل، فلما جلس الملك هنري الرابع على كرسي فرنسا قطع هذا الاضطهاد سنة 1593م. لكن يظن أنه قتل لأجل عدم تسليمه بالاغتصاب في أمر الدين.
            (ثم أنه في سنة 1675م تجدد الاضطهاد وبعدما قتل خلق كثير يقول المؤرخون: إن خمسين ألفا اضطروا أن يتركوا بلادهم لكي ينجوا من الموت) انتهى كلامه، ونقلت عبارة هذا الكتاب بألفاظها من الرسالة الثانية عشرة.
            بعض ما فعل البروتستانت انتقاما من الكاثوليك:
            وإذا عرفت حال ظلم فرقة الكاثوليك، فاعلم أن حال ظلم فرقة بروتستنت قريب منه، وأنقل هذا الحال عن كتاب (مـرآة الصدق) الذي ترجمه القسيس طامس انكلس من علماء الكاثوليك، من اللسان الإنكليزي إلى اردو، وطبع سنة 1851م من الميلاد. ويوجد هذا الكتاب عند أهل هذه الفرقة في الهند كثيرًا.
            وفي الصفحة (41، 42): (سلب بروتستنت في ابتداء أمـرهم ستمائة وخمسة وأربعين رباطا، وتسعين مدرسة، وألفين وثلاثمائة وستة وسبعين كنيسة، ومائة وعشر مارستانات من أملاكها، فباعوها بثمن بخس وتقاسمها الأمراء فيما بينهم، وأخرجوا ألوفا من المساكين المفلوكين عرايا من هذه الأمكنة).
            ثم قال في الصفحة (45): (امتد طمعهم أنهم ما تركوا الأموات أيضًا، بل آذوا أجسادهم في نوم العدم وسلبوا أكفانهم).
            ثم قال في الصفحة (48،49): (وضاعت في هذه الغنائم كتبخانات ذكرها جيء بيل متحسرا بهذه الألفاظ: إنهم سلبوا كتبا واستعملوا أوراقها في الشواء، وفي تطهير الشمعدانات والنعال، وباعوا بعض الكتب على العطارين وباعة الصابون، وباعوا كثيرا منها ما وراء البحر على أيدي المجلدين، وما كانت هذه الكتب مائة أو خمسين، بل المراكب كانت مملؤة منها، وأضاعوها بحيث تعجب الأقوام الأجنبية، وإني أعلم تاجرًا اشترى كتبخانتين كل منهما بعشرين رُبيَّة. وبعد هذه المظالم ما تركوا من خزائن الكنائس إلا جدرانًا عريانة، ثم ظنوا أنفسهم من أهل الوقار، وملأوا الكنائس من أناس من أهل ملتهم).
            ثم قال في الصفحة الثانية والخمسين إلى الصفحة السادسة والخمسين: (فلنلاحظ الآن أفعال الجور التي فعلها بروتستنت في حق فرقة الكاثوليك إلى هذا الحين، أنهم قرروا أكثر من مائة قانون كلها خـلاف العدل والرحمة، لأجل الظلم، ونحن نذكر عدة من هذه القوانين الجورية.
            1. لا يرث كاثوليكي تركة أبويه.
            2. لا يشتري واحد منهم أرضا بعد ما يجاوز عمره ثماني عشرة سنة إلا أن يصير بروتستنت.
            3. لا يكون لهم مكتب.
            4. لا يشتغل أحد منهم بالتعليم، ومَن خالف هذا الحكم يحبس دائما.
            5. مَن كان من هذه الملة يؤدي ضعف الخراج.
            6. إن صلى أحد من قسوسهم فعليه أداء ثلاثمائة وثلاثين ربية من ماله، وإن صلى أحد منهم ولا يكون قسيسا فعليه أداء سبعمائة ربية ويسجن سنة.
            7. إن أرسل أحد منهم ولده خارج إنكلترا للتعليم، يقتل هو وولده ويسلب أمواله ومواشيه كلها.
            8. لا يعطي لهم منصب في الدولة.
            9. مَن لم يحضر منهم يوم الأحد أو العيد في كنيسة بروتستنت، تؤخذ منه ألف ربية مصادرة.
            10. مَن ذهب منهم بعيدا من لندن مسافة خمسة أميال، يؤخذ منه ألف ربية مصادرة.
            11. لا يسمع استغاثة أحد منهم عند الحكام بحسب القانون.
            12. ما كان أحد منهم يسافر أكثر من خمسة أميال، مخافة أن ينهب ماله ومتاعه، وكذا ما كان أحد منهم يقدر على الاستغاثة في أمر عند الحكام، مخافة أن يؤخذ منه ألف ربية مصادرة.
            13. لا تنفذ أنكحتهم ولا تجهيز موتاهم ولا تكفين الموتى ولا تعميد أولادهم إلا إذا كانت هذه الأمور على طريقة كنيسة إنكلترا.
            14. إن تزوجت إحدى نساء هذه الملة، تأخذ الدولة من جهازها ثلثين، ولا ترث من تركة زوجها، ولا يوصي زوجها لها من تركته بشيء، ونساؤهم كن يحبسن إلى أن يعطي أزواجهن عشر ربيات في كل شهر أو يعطوا ثلث أراضيهم إلى الدولة.
            15. ثم صدر الحكم في نهاية الأمر إن لم يصر كلهم بروتستنت يسجنون ثم يجلون من أوطـانهم مدة حياتهم، وإن رفضوا الحكم أو رجعوا من الجلاء بدون الأمر كانوا ملزمين بإلزام عظيم.
            16. لا يحضر القسيس عند قتلهم ولا عند تجهيزهم وتكفينهم.
            17. لا يكون السلاح في بيت أحد منهم.
            18. لا يركب أحد منهم على حصان يكون ثمنه أكثر من خمسين ربية.
            19. إن أدى قسيس منهم خدمة من الخدمات المتعلقة به يسجن دائمًا.
            20. القسيس الذي يكون مولده إنكلترا، ولا يكون من ملة بروتستنت، إن أقام أكثر من ثلاثة أيام في إنكلترا يعتبر أنه غدار ويقتل.
            21. من أنزل القسيس المذكور من مكانه يقتل.
            22. لا تقبل شهادة كاثوليكي في العدالة.
            وقتل على هذه القوانين الجورية في عهد الملكة اليصابت مائتان وأربعة أشخاص. كان منهم قسيسون، والباقون من أهل الغنى، وما كان ذنبهم غير أنهم أقروا أنهم من ملة الكاثوليك، ومات تسعون قسيسا وكبار آخرون في السجن، وأجلي مائة وخمسة أشخاص مدة حياتهم، وضرب كثير منهم بالسياط، وصودروا وحرموا من أموالهم، حتى هلكت عشيرتهم، وقتلت ميري المشهورة ملكة أسكات، وكانت بنت الخالة للملكة اليصابت، بسبب كونها من مِلة الكاثوليك.
            ثم قال في الصفحة الحادية والستين إلى السادسة والستين: (حمل كثير من رهبانهم وعلمائهم بأمر الملكة اليصابت في المراكب، ثم أغرقوا في البحر. جاء عساكرها إلى إيرلاندا ليدخلوا أهل ملة كاثوليك في ملة بروتستنت، فأحرقوا كنائس الكاثوليك وقتلوا علماءهم، وكانوا يصطادونهم كاصطياد الوحوش البرية، وكانوا لا يؤمِّنون أحدًا وان أمَّنوا أحدًا قتلوه أيضًا بعد الأمان، وذبحوا العسكر الذي كان في حصن سمروك، وأحرقوا القرى والبلاد، وأفسدوا الحبوب والمواشي، وأَجْلَوْا أهلها بلا امتياز (أي اعتبار) المنزلة والعمر. ثم أرسل بارلمنت سنة 1643م وسنة 1644م اللوردات ليسلبوا جميع أموال الكاثوليك وأراضيهم بلا امتياز بينهم، وبقي أنواع الظلم إلى زمن الملك جيمس الأول، وحصل التخفيف في الظلم في عهده، ثم رحمهم الملك سنة 1778م، ولكن البروتستنتيين سخطوا عليه، وقدموا معروضًا إلى السلطان من جانب أربعة وأربعين ألفا من فرقة بروتستنت في ثاني حزيران سنة 1780م، واستدعوا أن يبقي بارلمنت القوانين الجورية في حق مِلة الكاثوليك كما كانت. لكن البرلمان ما التفتوا إليه، فاجتمع مائة ألف من بروتستنت في لـندن وأحرقوا الكنائس، وهدموا أمكنة الكاثوليك. وكان الحريق يرى من مـوضع واحد في ستة وثلاثين مكانا، وكانت هذه الفتنة قائمة إلى ستة أيام، ثم أوجد الملك قانونا آخر سنة 1791م وأعطى مِلة الكاثوليك حقوقا هي حاصلة لهم إلى هذا الحين).
            ثم قال في الصفحة (73، 74): (ما سمعتم حال جار تراسكول الذي هو في أيرلندا هذا الأمر محقق: أن بروتستنت يجمعون في كل سنة مقدار مائتي ألف وخمسين ألف ربية، وكراء أكثر المكانات الكبيرة، ويشترون بها أولاد فرقة الكاثوليك الذين هم من المساكين المفلوكين .
            ويرسلون بهم في العربات إلى إقليم آخر بالخفية، لئلا يرى آباؤهم وأمهاتهم، ويقع كثيرا أن هؤلاء الأشقياء إذا رجعوا إلى أوطانهم، تزوجوا بأخواتهم أو أخوتهم أو آبائهم أو أمهاتهم للجهل وعدم التمييز) انتهي كلامه.
            والظلم الذي صدر عن بعض فرق بروتستنت بالنسبة إلى بعض آخر، لا أنقله حذرًا من التطويل، وأكتفي بهذا القدر، وأقول: انظروا إلى هؤلاء الطاعنين على المِلة المحمدية كيف ملأوا ملتهم بالجور والظلم[1]؟! انتهى.
            وإن المرء المسلم ليقفَّ شعره، ويقشعر جلده، حينما يقرأ هذه الصفحات السود، التي تصور جانبا من المجازر البشرية، والمظالم الدينية، التي ارتكبها النصارى في حق اليهود، والتي ارتكبها المسيحيون الكاثوليك في حق فئة البروتستانت عند ظهورها، وبعد ظهورها بمئات السنين، والتي ردَّ عليهم البروتستانت بمثلها، أو أشد منها حين ظهروا عليهم، وآلت لهم السلطة.
            إن هذه الصفحات المظلمة من الإسراف البالغ في سفك الدماء: لم تكتبها أقلام مسلمة، بل سطرتها أقلام مسيحية، تتكلم بلغة الأرقام. ومع هذا نجد من المسيحيين المبشرين والمستشرقين – ومنهم البابا بنديكت السادس عشر- مَن يتهم المسلمين بأنهم متعصبون، واتهم دينهم إنما قام على السيف!
            حتى قال بعض أحرار الأوربيين: لم يصدق المسيح في نبوءة من نبوءاته، مثل ما صدق في قوله: ما جئت لألقي على الأرض سلاما، بل سيفا! إذ لم يعرف التاريخ عن مِلة قتل أهلها بعضهم بعضا مثل ما حدث في الملة المسيحية، أو عشر معشاره!
            ومَن نظر في تاريخ المسيحيين في مختلف الأطوار، وفي شتى الأقطار: تبيِّن لهم: أن فكرة (إبادة المخالفين واستئصالهم): فكرة أصيلة في ذهنيتهم وتربيتهم الدينية، ومواريثهم الثقافية. واستباحةُ الدماء بالألوف والملايين: أمر هين عليهم، لا يقلق ضمائرهم، ولا يؤرق جفونهم. فلا عجب أن رأينا الأوربيين من المسيحيين الذين ذهبوا إلى أمريكا، اجتهدوا أن يستأصلوا أهلها الأصليين من الهنود الحمر، واستحلوا كل حرام من أنواع القتل والإبادة في ذلك، حتى أبادوا الملايين منهم بأساليب وحشية لا يقرها دين ولا خلق.
            كما أن المسيحيين الذين ذهبوا إلى أستراليا فعلوا مثل ذلك بسكانها الأصليين، الذين أبادوهم، والمسلمون الذين بقوا في أسبانيا (الأندلس) ثمانية قرون أقاموا فيها حضارة شامخة متميزة، استنارتها واستفادت منها أوربا كلها، أبيدوا كلهم، إما بالإكراه على التنصر، أو الإجبار على الرحيل، أو مواجهة القتل، ولا عجب أن لم يبق منهم في أسبانيا ديار ولا نافخ نار!!

            تعليق


            • #7
              أكذوبة انتشار الإسلام بالسيف

              أكذوبة انتشار الإسلام بالسيف
              أشاع البابا بنديكت السادس عشر: أن الإسلام لم ينتشر في العالم إلا بحد السيف، وإخضاع الناس لعقيدته بالقوة العسكرية، ولولا هذا ما انفتحت له القلوب، ولا اقتنعت به العقول، ولكنها أكرهت عليه إكراها تحت بريق السيوف، فخيَّرهم بين الإسلام والقتل، فإما أن يسلم وإما أن يطير عنقه!
              وهذه فرية تكذبها تعاليم الإسلام القطعية، وتكذبها وقائعه التاريخيه، ويكذبها المنصفون من المؤرخين المستشرقين أنفسهم.
              فأما تعاليم الإسلام فهي تنفي الإكراه في الدين نفيا مطلقا عاما، بقوله تعالى في القرآن المدني: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ[البقرة:256].
              وهو يؤكد ما جاء في القرآن المكي من قوله تعالى بصيغة الاستفهام الإنكاري: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ[يونس:99]، وقوله تعالى على لسان نوح: أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ[هود:28].
              وأما دعوى تخيير الناس بين الإسلام والسيف، فهي كذبة أخرى: فالثابت بالنصوص الشرعية، والوقائع التاريخية: أن المسلمين كانوا يخيرون مَن يقاتلونهم -إذا كتب عليهم القتال- بين أمور ثلاثة: الإسلام أو دفع الجزية أو القتال. والجزية مبلغ زهيد يطلب من الرجال القادرين على القتال، ولا يؤخذ من امرأة، ولا صبي، ولا زَمِن، ولا أعمى، ولا فقير، ولا راهب في صومعته، وتتفاوت بتفاوت قدرات الناس، فكل على قدر طاقته، وطلب مثل هذا المبلغ -في مقابلة حمايته وكفالته والدفاع عنه- ليس شيئا باهظا يكره صاحبه على ترك دينه والدخول في الإسلام.
              كما تقول وقائع التاريخ أيضا: إن المسلمين حينما فتحوا البلاد، لم يتدخلوا قط في شؤون دينها، ولم يُرغموا أحدا قط على تغيير عقيدته، ولم يثبت التاريخ واقعة واحدة أكره فيها فرد غير مسلم، أو أسرة غير مسلمة، أو بلدة غير مسلمة، أو شعب غير مسلم، على الدخول في الإسلام.
              كما أثبت التاريخ أن كثيرا من البلاد الإسلامية التي نعرفها اليوم: لم يدخلها جيش مسلم، ولكنها دخلت في الإسلام بتأثير التجار وغيرهم من الناس الذين لم يكونوا علماء ولا دعاة محترفين، وإنما أحبهم الناس لما رأوا فيهم من صدق الإيمان، وحسن الخلق، وحب الخير للناس، فكانوا أسوة حسنة، فأحب الناس دينهم بحبهم، ودخلوا فيه أفرادا وجماعات. هكذا دخل الإسلام في ماليزيا وإندونيسيا والفلبين وغيرها: بوساطة تجار حضرموت وأمثالهم ممَّن جاءوا من جنوب اليمن، ضاربين في الأرض، مبتغين من فضل الله.
              وهناك بلاد كثيرة في إفريقيا انتشر فيها الإسلام عن طريق الطرق الصوفية، وعن طريق الاحتكاك بالمسلمين، والتأثر بسلوكياتهم وآدابهم وأفكارهم.
              وحتى البلاد التي دخلتها الجيوش: كان وجودها محصورا في العواصم والثغور، لا في كل المدن والقرى.
              لم تدخل الجيوش الإسلامية التي فتحت الهند الكبرى، إلا في دائرة محدودة، ولكن انتشار الإسلام في القارة الهندية، كان أبعد وأوسع بكثير مما دخلته الجيوش، وامتدت دعوته شمالا وجنوبا، وشرقا وغربا، حتى كان من تأثيرها: وجود دولتين إسلاميتين كبيرتين هما: باكستان وبنجلاديش، ووجود أكبر تجمع إسلامي للمسلمين في الهند بعد إندونيسيا، برغم شكوى كثير من العلماء والناقدين من تقصير المسلمين خلال حكمهم الطويل للهند، من توصيل الدعوة للهندوس، ولا سيما دعوة طائفة (المنبوذين) للإسلام دين الأخوة والعدالة والمساواة.
              السيف لا يفتح قلبا:
              ولقد اتخذ المبشرون والمستشرقون من الفتوح الإسلامية: دليلا على أن الإسلام إنما انتشر بهذه القوة والسرعة، نتيجة لأنه قهر الناس بالسيف، فدخل الناس تحت بريقه مذعنين طائعين.
              ونقول لأصحاب دعوى انتشار الإسلام بالسيف: إن السيف يمكنه أن يفتح أرضا، ويحتل بلدا، ولكن لا يمكنه أن يفتح قلبا. ففتح القلوب وإزالة أقفالها: تحتاج إلى عمل آخر، من إقناع العقل، واستمالة العواطف، والتأثير النفسي في الإنسان.
              بل أستطيع أن أقول: إن السيف المسلط على رقبة الإنسان، كثيرا ما يكون عقبة تحول بينه وبين قبول دعوة صاحب السيف. فالإنسان مجبول على النفور ممَّن يقهره ويُذلُّه.
              ومَن ينظر بعمق في تاريخ الإسلام ودعوته وانتشاره: يجد أن البلاد التي فتحها المسلمون، لم ينتشر فيها الإسلام إلا بعد مدة من الزمن، حين زالت الحواجز بين الناس والدعوة، واستمعوا إلى المسلمين في جو هادئ مسالم، بعيدا عن صليل السيوف، وقعقعة الرماح، ورأوا من أخلاق المسلمين في تعاملهم مع ربهم، وتعاملهم مع أنفسهم، وتعاملهم مع غيرهم: ما يحببهم إلى الناس، ويقربهم من دينهم، الذي رباهم على هذه المكارم والفضائل.
              وانظر إلى بلد كمصر، وقد فُتحت في عهد أمير المؤمنين الفاروق عمر بن الخطاب، ولكن ظلَّ الناس على دينهم النصراني عشرات السنين، لا يدخل فيه إلا الواحد بعد الواحد. حتى إن الرجل القبطي الذي أنصفه عمر، واقتص لابنه من ابن والي مصر: عمرو بن العاص، لم يدخل في الإسلام، رغم أنه شاهد من عدالته ما يُبهر الأبصار.
              وقد فنَّد الكاتب الكبير الأستاذ عباس العقاد هذه التهمة الباطلة في أكثر من كتاب له، ومما قاله:
              (شاع عن الإسلام أنه دين السيف، وهو قول يصح في هذا الدين إذا أراد قائله: أنه دين يفرض الجهاد ومنه الجهاد بالسلاح، ولكنه غلط بيِّن إذا أريد به أن الإسلام قد انتشر بحد السيف، أو أنه يضع القتال في موضع الإقناع.
              وقد فطِن لسخف هذا الادعاء كاتب غربي كبير، هو (توماس كارْلَيل) صاحب كتاب (الأبطال وعبادة البطولة) فإنه اتخد محمدا مثلا لبطولة النبوة، وقال ما معناه:
              (إن اتهامه بالتعويل على السيف في حمل الناس على الاستجابة لدعوته سخف غير مفهوم. إذ ليس مما يجوز في الفهم أن يشهر رجل فرد سيفه ليقتل به الناس، أو يستجيبوا لدعوته! فإذا آمن به مَن يقدرون على حرب خصومه، فقد آمنوا به طائعين مصدِّقين، وتعرضوا للحرب من أعدائهم قبل أن يقدروا عليها).
              قال العقاد:
              (والواقع الثابت في أخبار الدعوة الإسلامية: أن المسلمين كانوا هم ضحايا القسر والتعذيب، قبل أن يقدروا على دفع الأذى من مشركي قريش في مكة المكرمة، فهجروا ديارهم، وتغربوا مع أهليهم، حتى بلغوا إلى الحبشة في هجرتهم، فهل يأمنون على أنفسهم في مدينة عربية قبل التجائهم إلى (يثرب) وإقامتهم في جوار أخوال النبي ، مع ما بين المدينتين (يعني: مكة ويثرب) من التنافس الذي فتح للمسلمين بينهما ثغرة للأمان؟ ولم يكن أهل يثرب ليرحبوا بمقدمهم لولا ما بين القبيلتين الكبيرتين فيها (قبيلتي الأوس والخزرج) من نزاع على الإمارة فتح بينهما كذلك ثغرة أخرى يأوي إليها المسلمون بعد أن ضاق بهم جوار الكعبة، وهو الجوار الذي لم يضق من قبل بكل لائذيه في عهد الجاهلية.
              ولم يعمد المسلمون قط إلى القوة إلا لمحاربة القوة التي تصدُّهم عن الاقتناع، فإذا رصدت لهم الدولة القوية جنودها حاربوها؛ لأن القوة لا تحارب بالحجة والبينة، وإذا كفوا عنهم لم يتعرضوا لها بسوء.
              وقد بيَّن الأستاذ العقاد أن المسلمين سالموا الحبشة ولم يحاربوها، وإنما حاربوا الفرس، وحاربوا الروم؛ لأنهم هم الذين بدأوا بالعدوان على المسلمين.
              قال: ولم يفاتح النبي أحدا بالعداء في بلاد الدولتين. وإنما كتب إلى الملوك والأمراء يبلغهم دعوته بالحسنى، ولم تقع الحرب بعد هذا البلاغ بين المسلمين وجنود الفرس والروم، إلا بعد تحريضهم القبائل العربية في العراق والشام على غزو الحجاز، وإعدادهم العدة لقتال المسلمين. وقد علم المسلمون بإصرارهم على اغتنام الفرصة العاجلة لمباغتتهم بالحرب من أطراف الجزيرة، ولولا اشتغال كسرى وهرقل بالفتن الداخلية في بلادهما لبوغت المسلمون بتلك الحرب قبل أن يتأهبوا لمدافعتها والتحصن دونها)[1] اهـ.

              تعليق


              • #8
                أهداف القتال في الإسلام


                أهداف القتال في الإسلام
                لقد كان من الخير أن تعترف المثالية الإسلامية والشريعة الإسلامية بإمكان وقوع الحرب والقتال بين البشر، وإذا كان وقوع الحرب غير مستبعَد، فلا بد أن نستعد لها حتى لا يستباح حِمانا، ولا بد أن نحوط هذه الحرب بسياج من التشريعات القانونية والتوجيهات الأخلاقية، حتى لا تخرج عن قوانين العدل والرحمة، ولا تحكمها غرائز الغضب وحدها، أو (القوة السبُعية) في الإنسان، ولا بد أن نحدد أهدافها بوضوح، حتى نقف عندها، ولا نسمح لأطماعنا أو مخاوفنا أو انفعالاتنا أن تتعدى حدودها. ولا نستطيع أن نُحدِّد هذه الأهداف حقا، إلا من خلال مُحكمات النصوص، التي لا يملك المؤمن إزاءها إلا أن يقول: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [البقرة:285]. فلنتحدَّث عن هذه الأهداف.
                1ـ رد الاعتداء:
                أول أهداف القتال والحرب في الإسلام: دفع الاعتداء وردُّه بالقوة، سواء كان هذا الاعتداء واقعا على الدين أم على الوطن والأرض.
                فأما الاعتداء على الدين، فيتمثل في فتنة المسلمين عن دينهم، واضطهادهم من أجل عقيدتهم، أو الوقوف في وجه الدعوة ومنعها، والصد عنها، والتعرض لدعاتها بالأذى إلى حد القتل.
                ومثل ذلك: الاعتداء على أرض الإسلام، ووطن المسلمين، وما يتضمن ذلك من عدوان على دماء الناس وأموالهم وممتلكاتهم وحرماتهم ومقدساتهم. والإسلام يعتبر بلاد المسلمين كلها وطنا واحدا، أو دارا واحدة، هي (دار الإسلام)، فالاعتداء على جزء منها اعتداء على جميعها، ومسؤولية الدفاع عنها تقع على الأمة كلها: المقصودين بالأصالة، والآخرين بالمساندة والمشاركة عند اللزوم.
                وكذلك الاعتداء على حرمات الأفراد: في أنفسهم، أو في أموالهم وممتلكاتهم، أو في أهليهم وذراريهم.
                كما يعتبر الإسلام الاعتداء على (أهل الذمة) من غير المسلمين اعتداء على المسلمين أنفسهم، فهم من أهل دار الإسلام، وحرمتهم من حرمة المسلمين. وعقد الذمة يوجب على المسلمين الدفاع عنهم، وبذل الأنفس والأموال لحمايتهم، كما يدافعون عن المسلمين، سواء بسواء[1].
                ونحو ذلك العدوان على حلفاء المسلمين، لأن الحلف يقضي بالتعاون في السراء والضراء، والتضامن في السلم والحرب. ولهذا حينما غدرت قريش بقبيلة خزاغة حلفاء رسول الله : اعتبر الرسول ذلك نقضا لعهده، واعتداء عليه وعلى أصحابه، ولأجله جيش الجيوش لفتح مكة.
                وهنا يوجب الإسلام على المسلمين: أن يقفوا في وجه الاعتداء، أيا ما كان المعتدون أو المعتدى عليهم، ويتصدوا له ليدفعوه عنهم، ويردوه عن حرماتهم بسيف القوة، وقوة السيف.
                يقول تعالى: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ * الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ[البقرة:190-194].
                قرَّرت هذه الآيات جملة أحكام:
                1. الأمر بقتال الذين يقاتلون المسلمين، أي يبدأونهم بالقتال، على أن يكون قتالهم في سبيل الله، أي لتكون كلمة الله هي العليا.
                2. النهي عن الاعتداء بصفة مطلقة، وتعليل ذلك بأن الله لا يحب المعتدين، وهذا دليل على أنه حكم مُستقر مُحْكم غير قابل للنسخ. كما أن فيه تنفيرا للمسلم منه، فإن كل مسلم حريص على أن يكون ممَّن يحبهم الله، لا ممَّن لا يحبهم الله.
                3. تشريع معاملة هؤلاء المعتدين على المسلمين بمثل أعمالهم من القتل والإخراج.
                4. تقرير أن الفتنة في الدين أشد من القتل، لأن القتل اعتداء على الكيان المادي للإنسان: الجسد، والفتنة اعتداء على الكيان المعنوي: الروح والعقل والإرادة.
                5. تقرير حرمة المسجد الحرام الذي مَن دخله كان آمنا، والنهي عن قتالهم فيه، ما لم يبدأوا هم بالقتال، فإن فعلوا، فحرمة المؤمنين أهم من حرمة المسجد الحرام، وجاز قتالهم وقتلهم فيه، حتى ينتهوا.
                6. تقرير غاية القتال، وهو: اتقاء الفتنة، وتوطيد حرية الإيمان للناس، بكسر شوكة المتجبرين في الأرض الذين يفتنون الناس عن دينهم. وبهذا يكون الدين لله، يدخله مَن شاء بإرادته، لا يُكره عليه، ولا يُصَدّ عنه من أحد.
                7. شرعية مقابلة العدوان بمثله، وقد سمَّاه القرآن اعتداء، من باب المشاكلة اللفظية، وإلا فالرد على الاعتداء في الحقيقة ليس اعتداء.
                2ـ منع الفتنة أو تأمين حرية الدعوة:
                ومن أهداف القتال التي نصَّ عليها القرآن: منع الفتنة في الدين، وهذا ما صرَّح به القرآن الكريم في آيتين من كتاب الله، إحداهما في سورة البقرة في قوله تعالى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ[البقرة:193].
                والثانية في سورة الأنفال في قوله تعالى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ[الأنفال:39].
                فقد حدَّدت الآيتان كلتاهما غاية القتال بأنها: منع الفتنة: حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ، وهذه نكرة في سياق النفي تعمُّ كل فتنة يمكن أن تتصوَّر هنا: فتنة الإنسان في نفسه، أو في أهله، أو فيمَن يحب من الناس.
                والفتنة في اللغة: الاختبار والامتحان[2]، مثل قولهم: فتن الذهب: أي وضعه على النار ليعرف خالصه من زيفه. فالفتنة تعني: الاضطهاد والإيذاء والتعذيب لمَن دخل في الإسلام حتى يرجع عن دينه. وفي هذا يقول القرآن: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا[النحل:110].
                وحينما اشتد الأذى والتنكيل بالمؤمنين في مكة، نزل القرآن ليواسيهم ويثبتهم، كما تجلَّى ذلك في أوائل سورة العنكبوت: ألم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ * أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ[العنكبوت:1-3]. فبيَّن القرآن أن فتنة المؤمنين بالإيذاء والتنكيل: سنة ماضية في الأمم من قبلنا.
                وفي السورة نفسها يقول تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ[العنكبوت:10].
                وهذا الأسلوب -فتنة المؤمنين عن دينهم بالأذى والعذاب حتى يرتدوا عنه- أسلوب قديم اتَّبعه الكفرة والطغاة مع أهل الإيمان، كما حكى القرآن ذلك في سورة البروج، التي حدثتنا عن الجبابرة الذين خدُّوا الأخاديد، وملأوها نارا، وألقوا فيها كل مؤمن أصرَّ على عقيدته. يقول تعالى: قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ[البروج:4-10]، فواضح كل الوضوح من الآيات الكريمة: أن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات هم الذين عذَّبوهم بالنار.
                ومن هنا كانت هذه (الفتنة في الدين) أشد شيء خطرا على الإنسان، وعلى حرية اختيار الإنسان، فأن أهل القوة والجبروت يريدون أن يتحكموا في ضمائر الناس، فليس لهم حق الإيمان بما اقتنعت به عقولهم، أو اطمأنت إليه قلوبهم، إلا بإذن الجبابرة وموافقتهم، كما قال فرعون من قديم مُنكرا على السحرة من أبناء مصر: إيمانهم برب موسى وهارون: آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ[طـه:71، الشعراء:49، الأعراف:123]، معنى ذلك: أنه لا يجوز لعقل أن يقتنع بفكرة، ولا لقلب أن يؤمن بعقيدة إلا بإذن فرعون!!
                فإذا خالف وآمن، تعرَّض لبطش فرعون، وتهديده بالتنكيل والتصليب في جذوع النخل، وغيره من ألوان العذاب.
                ولا غرو أن اعتبر القرآن الـفِتْنَةٌ: أشد من القتل، وأكبر من القتل، فإذا نظرنا إليها من ناحية (الكيف) فهي: {أَشَدُّ} أومن ناحية (الكم) فهي: {أَكْبَرُ}.
                يقول تعالى: يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ[البقرة:217].
                ضخَّم المشركون واقعة قَتَلَ فيها بعضُ المسلمين واحدا من المشركين خطأ في الشهر الحرام، وأبْدأوا وأعادوا وزادوا في القول، والقرآن أقرَّ بأن القتال في الشهر الحرام ذنب كبير، ولكن ما فعلوه من الصد عن سبيل الله والكفر به، وبحرمة المسجد الحرام، وإخراج أهله منه: أكبر عند الله مما وقع من المسلمين. ثم قال: وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ: أيْ والفتنة التي يوقعها المشركون عمدا بالمؤمنين الجُدد بالإسلام: أكبر وأعظم إثما من القتل الذي وقع من المسلمين خطأ في الشهر الحرام.
                ومن البيِّن الواضح: أن الفتنة في الآيتين هي الاضطهاد في الدين، وتعذيب المؤمنين، كما وضَّحناه في الآيات السابقة، وكما يدل عليه السياق بجلاء. فهم الذين آذوا المؤمنين طوال ثلاثة عشر عاما في مكة، وأنزلوا بهم صنوف العذاب، وحاصروهم اقتصاديا واجتماعيا، حتى أكلوا أوراق الشجر، وعذَّبوا المستضعفين منهم، حتى مات بعضهم تحت التعذيب، واستمر هذا التنكيل حتى اضطروهم للخروج من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا: ربنا الله. فهاجر بعضهم مرتين، ثم هاجروا جميعا -إلا مَن عجز- إلى يثرب. ومن المتفق عليه: أن أفضل ما يفسر القرآن بالقرآن. وهذا معنى الفتنة في القرآن.
                وإنما كانت الفتنة: أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ و أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ، لأن القتل جناية على (جسم) الإنسان وحياته المادية، أما الفتنة، فهي جناية على (ضمير) الإنسان، وحياته الروحية والفكرية. والجناية الثانية أعظم بلا ريب من الجناية الأولى.
                والخلاصة هنا: أن القتال مشروع لغاية، وهي منع الفتنة والاضطهاد في الدين، ورفع أساليب الضغط والإكراه المادي والأدبي عن الناس، وتأمين الحرية للدعوة والدعاة، ليؤمن مَن آمن بحريته، ويكفر مَن كفر باختياره، إذ لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ[البقرة:256]، فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا [يونس:108].
                وأما ما ورد عن بعض مفسري السلف، الذين فسروا الفتنة بأنها: (الشرك) أو (الكفر)، فهو خروج عن ظاهر المعنى الذي يؤدِّيه اللفظ، وهو تفسيرُ غيرِ معصوم، ولا حجة في قول أحد إلا قول رسول الله . ولا يوجد عنه نص في ذلك. ولعل مرادهم: أن الشرك في ذلك الوقت وفي أرض العرب خاصة، كان مرتعا للشر، ومباءة للإثم والعدوان، وأن بقاء الشرك بقوته: مُهدِّد للإسلام الناشئ، وللمسلمين الجُدد بطبيعته العدوانية. فمعنى (حتى لا يكون شرك): أيْ شرك متجبِّر في الأرض، أي حتى تقلَّم أظفار العدوان، وتخلع أنيابه المفترسة، ولا يبقى مَن يفتن الناس. وذكر في (تفسير المنار) ما قاله بعض المفسرين القدامى: أن الفتنة هي الشرك. قال: وردَّه الأستاذ الإمام (محمد عبده) بأنه يُخرج الآيات عن سياقها. وذكره البيضاوي هنا بصيغة التضعيف (قيل)[3].
                وقال في معنى قوله تعالى:حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ: أي حتى لا تكون لهم قوة يفتنونكم بها ويؤذونكم لأجل الدين، ويمنعونكم من إظهاره أو الدعوة إليه.
                ومعنى قوله وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ، وفي سورة الأنفال: وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ: أي يكون دين كل شخص خالصا لله، لا أثر لخشية غيره فيه، فلا يُفتن لصدِّه عنه، ولا يؤذَى فيه، ولا يحتاج فيه إلى المداهنة والمداراة، أو الاستخفاء أو المحاباة، وقد كانت مكة إلى هذا العهد قرار الشرك، والكعبة مستودع الأصنام، فالمشرك فيها حر في ضلالته، والمؤمن مغلوب على هدايته[4].
                على أن هناك من المفسرين مَن أبقى لفظ الـفِتْنَةٌ على معناه الأصلي المتبادر منه، ولم يَمِل به عن أصله.
                ذكر الإمام فخر الدين الرازي في تفسير معنى الـفِتْنَةٌ في قوله تعالى: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ: وجوها، فكان الوجه الثاني منها: أن الفتنة أصلها عرض الذهب على النار لاستخلاصه من الغش. ثم صار اسما لكل ما كان سببا للامتحان تشبيها بهذا الأصل. والمعنى: أن إقدام الكفار على الكفر وعلى تخويف المؤمنين، وعلى تشديد الأمر عليهم، بحيث صاروا مُلجَئين إلى ترك الأهل والوطن، هربا من إضلالهم في الدين، وتخليصا للنفس مما يخافون ويحذرون: فتنة شديدة، بل هي أشد من القتل الذي يقتضي التخلص من عموم تلك الفتنة[5].
                وفي تفسير قوله تعالى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ، قال: في المراد بالفتنة هنا وجوه: أحدها: أنها الشرك والكفر، ثم فسَّر ذلك فقال: قالوا: كانت فتنتهم أنهم كانوا يضربون ويؤذون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، حتى ذهبوا إلى الحبشة، ثم واظبوا على ذلك الإيذاء حتى ذهبوا إلى المدينة، وكان غرضهم من إثارة تلك الفتنة: أن يتركوا دينهم ويرجعوا كفارا. فأنزل الله هذه الآية. والمعنى: قاتلوهم حتى تظهروا عليهم، فلا يفتنوكم عن دينكم، فلا تقعوا في الشرك[6]
                3ـ إنقاذ المستضعفين:
                ومن أهداف القتال في الإسلام: إنقاذ المستضعفين من خلق الله، من ظلم الجبَّارين، وتسلُّط المستكبرين في الأرض بغير الحق، الذين يستخفُّون بحرمات الضعفاء، ويسومونهم سوء العذاب، ويُهْدرون إنسانيتهم، لأن في أيديهم القوة المادية التي تمنع الأيدي أن تُدافع، وتُخرس الألسنة أن تتكلم، وتُكره الناس على أن يسكتوا عن الحق أو ينطقوا بالباطل.
                فعلى المسلمين واجب النَّجدة لتحرير هؤلاء المستعبدين، وإغاثة هؤلاء الملهوفين، وإنقاذ هؤلاء المستضعفين من الرجال والنساء والولدان، الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، ولا يملكون إلا الدعاء إلى الله تعالى أن يُنجِّيهم من عدوهم، ويُهيِّئ لهم مَن ينصرهم ويأخذ بأيديهم.
                يقول تعالى: فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً * وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً [النساء:74،75].
                فانظر إلى هذا الأسلوب التحريضي البليغ الذي يستثير الهمم، ويحرِّك العزائم، وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ؟فجعل القتال في سبيل المستضعفين قرين القتال في سبيل الله، إذ عطفه عليه بالواو بلا فاصل. بل هو عند التأمل جزء من القتال في سبيل الله، لأن القتال إنما يكون في سبيل الله إذا كانت الغاية: أن تكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الله هي كلمة الحق الذي يواجه الباطل، والعدل الذي يواجه الظلم. وإنقاذ المستضعفين إنما هو لإقامة عدل الله في الأرض. ولهذا قالت الآية التالية لهذه الآية: الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً [النساء:76]، فقرَّرت الآية أن شأن الذين آمنوا: أن يكون قتالهم في سبيل الله، هكذا بإطلاق وتعميم، وإن كان من أجل المستضعفين، فهو أيضا في سبيل الله. بخلاف الذين كفروا، فإن لهم غاية غير غاية المؤمنين، وهي أنهم يقاتلون في سبيل الطاغوت. وهو: كل ما يُعظَّم ويعبد ويطاع طاعة مطلقة من دون الله، وهو مصدر كل شر وطغيان. ولهذا بعث الله رسله لتحرير الأمم من عبادة الطاغوت أيا كان اسمه ونوعه: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36].
                والظاهر: أن المسلمين مدعوون لإغاثة الملهوفين، وإنقاذ المستضعفين في الأرض من خلق الله، وإن لم يكونوا مسلمين، لأن رفع الظلم والأذى عن جميع الناس مطلوب من المسلم إذا كان قادرا عليه، ما لم يكونوا محاربين للمسلمين.
                بل المسلم مطلوب منه أن يرفع الأذى عن الحيوان الأعجم إذا قدر عليه، سواء كان هذا الأذى ناشئا عن ظلم إنسان له، أو أسباب طبيعية أخرى، كأن يصيبه العطش أو غيره من ألوان الأذى.

                تعليق


                • #9
                  قدرة الإسلام على الانتشار السلمي




                  قدرة الإسلام على الانتشار السلمي
                  ومن مآثر تاريخنا: أنه سجَّل لديننا قدرته على الانتشار السريع، ودخول الأمم فيه أفواجا، بأدنى دعوة إليه، وإن لم يَقُم بهذه الدعوة أناس محترفون متخصصون في التبشير به، متفرغون له.

                  وسر ذلك: أن هذا الدين -بعقائده وعباداته وأخلاقياته وتشريعاته- تتوافر فيه: موافقة الفطرة، وملاءمة العقل، وتزكية النفس، وسمو الروح، وصحة الجسم، وتماسك الأسرة، وترابط المجتمع، وتحقيق العدل، وجلب المصالح، ودرء المفاسد، وإشاعة الخيرات، ومكافحة الشرور بقدر الإمكان.
                  وأبرز ما في هذا الدين سهولة عقائده التي ليس فيها غموض ولا التواء ولا تناقض، تقبلها الفطرة السليمة، ويسلم لها العقل المستقيم.
                  فلا غرو أن انتشر دين الإسلام انتشار أضواء الصباح، فملأ الآفاق، ومحا الظلام، واستنارت به الأبصار والبصائر، ورحب الناس به في عامة الأقطار.
                  لم يكن (السيف) هو الذي أدخل الناس في الإسلام، كما زعم بعض خصوم الإسلام، فإن السيف قد يفتح أرضا للاحتلال، ولكنه لا يفتح قلبا للهداية.
                  بل إن الإنسان -بطبعه- يأبى أن يدخل في دين مَن يقهره عليه بالسيف.
                  على أن الإسلام ذاته ينكر إكراه الناس على الإيمان، ففي القرآن المكي يخاطب الله رسوله فيقول: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يونس:99].
                  وفي القرآن المدني يقول: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ[البقرة:256].
                  بل إن القرآن لا يعتدُّ بإيمان مَن لم يؤمن عن طواعية واختيار حر، لا تشوبه أي شائبة من ضغط أو إكراه، ولهذا لم يقبل إيمان فرعون ساعة الغرق، حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس:90]، فكان الجواب الإلهي عليه: آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [يونس:91].
                  وقال عن قوم مكذبين نزل عليهم عذاب الله: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ [غافر:84،85].
                  الحق أن سهولة تعاليم الإسلام، وسمو أخلاق المسلمين: هما اللذان مهدا السبيل لدخول الأمم في الإسلام، وليس السيف، كما تقوَّل المتقولون.
                  انتشار الإسلام بفضائله وقوته الذاتية:
                  ولقد ألَّف المؤرخ المعروف الدكتور حسين مؤنس كتابا أسماه (الإسلام الفاتح)، وقال عنه: أنه دراسة في تاريخ البلاد التي فتحها الإسلام بفضائله وقوته الذاتية، دون أن يوجف عليها بخيل ولا ركاب . وقد تتبَّع انتشار الإسلام في هذه البلاد، وبيَّن كيف دخل الإسلام إليه، بما يقطع كل شك، ويردُّ على كل تخرُّص بأن المسلمين استخدموا القوة في نشر دينهم . يقول د. مؤنس رحمه الله:
                  (لم يسبق فيما مضى أن كانت للمسلمين سياسة موضوعة لنشر الإسلام، يقوم عليها رجال متخصصون يجرون في أعمالهم على مناهج مقررة، كما هي الحال في النصرانية مثلا، حيث نجد البابوية الكاثوليكية، وما تبعها من منظمات كهنوتية كالفرنشسكية والدومينيكية والجزويت، وكذلك يما تنظمه الهيئات البروتستانتية من حملات تبشير، تعد رجالها في معاهد متخصصة، وتنفق عليها المال الوفير، ثم ترسلهم إلى البلاد البعيدة لدعوة الناس إلى أديانها بأساليب علمية مدروسة، لإقناع من يصادفونه من الناس بصدق ما يدعون إليه، وإدخالهم في العقيدة، ويبلغ الأمر أن يطلّق أولئك الدعاة الدنيا، ليخلصوا للدعوة خلوصا تاما، كما نعرفه في جماعات الرهبان المسيحية والبوذية أحيانا.
                  في الإسلام لا نجد شيئا من هذا إلا في عصرنا اليوم، عندما تزايدت تيارات التبشير غير الإسلامية، ولم يعد هناك مناص من أن يُعنَى المسلمون بالدعوة وتنظيمها، وإعداد الرجال القادرين عليها، فيما عدا ذلك كان الإسلام هو الذي نشر نفسه بنفسه: هو الذي دعا لنفسه واجتذب قلوب الناس؛ فاسلموا حبا في الإسلام وإعجابا به والتماسا لرحمة الله وهداه.
                  وإنه لمما يستوقف النظر أن قوة الإسلام الذاتية قد غلبت تنظيمات الدعاة، وأثبتت أنها أفعل وأبعد أثرا من المال الذي أنفقه الآخرون على دعاواهم، فانتشر واتسع مداه، ودخلت فيه الأمم بعد الأمم، من تلقاء نفسها بمجرد وصول الدعوة إليها. ولقد كان العرب يفتحون البلد من البلاد، ويعرضون الإسلام على أهله، ثم يدعونهم وشانهم ؛ حتى يقتنعوا بفضائله الإنسانية في تمهل ، حتى لقد ذهب بعض الشانئين للعرب إلى أنهم لم يكونوا يهتمون بنشر دينهم ، وأن الجزية كانت أحب إليهم من الإسلام ، وما إلى ذلك مما نجده مسطورا في كتب أعداء الملة.
                  وما كان ذلك عن عدم حرص من العرب على نشر الإسلام ، وإنما كان سيرا على أسلوب الدعوة في عهدها الأول: أسلوب عرض الدين على الناس ، وتركهم بعد ذلك أحرارا إلى أن يهدي الله منهم من يشاء.
                  ومن غريب ما حدث في بلاد مصر والأندلس: أن كان مسلك العرب هذا أدعى إلى دخول الناس في الإسلام، لأنهم تعودوا ممن يتغلب على بلادهم: أن يكون شديد الحرص على إدخالهم في دينه، فما بال أولئك العرب لا يلحون على الناس في الدخول في الإسلام، ولا يستخدمون القوة في ذلك، كما كان رجال دولتي الرومان والروم يفعلون؟.
                  قال يولوج الراهب القرطبي المبغض للإسلام: " فكان من مكر العرب أن تظاهروا بأنهم لا يهتمون بدخول الناس في الإسلام ، فتطلعت نفوس الناس إلى ذلك الإسلام يتعرفون عليه، لعلهم يعرفون السبب في اختصاص العرب أنفسهم به، وضنهم به على غيرهم، فما زالوا يفعلون ذلك ، ويسألون عن الإسلام ويستفسرون، حتى وجدوا أنفسهم مسلمين دون أن يدروا".
                  ولقد قال الراهب القبطي يوحنا النقبوس شيئا من ذلك، وكان متأسفا: لأن العرب لم يلجئوا إلى القوة في فرض الإسلام ، إذ لو أنهم فعلوا ذلك لزاد تمسك الأقباط بعقيدتهم على مذهب العناد وإباء كل ما يفرض بالقوة ، ولما وجد الإسلام هذا الطريق السهل الميسر إلى القلوب في مصر والأندلس.
                  وإنك لتحاول أن تدرس كيف أسلم أقباط مصر ، وكانوا من أشد الناس استمساكا بعقيدتهم، حتى لقد استشهدت في سبيلها منهم جماعات بعد جماعات، على أيدي عتاة الرومان من أمثال دقلديانوس، وطغاة الروم من أمثال قيرس، فلا تجد لتساؤلك جوابا؛ لأن التحول إلى الإسلام في هذين البلدين –مصر والأندلس- تم في هدوء وسكون: انسابت العقيدة في قلوب الناس ، كما ينساب الماء في أرض الزرع، فتخضر وتزهر وتثمر بإذن ربها.
                  وفي بلاد المغرب أسلمت قبائل البربر مبهورة بما رأت من روعة إيمان عقبة بن نافع وأصحابه، فهذا الرجل الفريد في بابه ، الذي وهب نفسه للإسلام، كان يلقى رئيس القبيلة ، ويحدثه ، ثم يدعوه إلى الإسلام؛ فيسارع إلى الإيمان ليكون من قوم عقبة، ثم يتبعه بعد ذلك قومه.
                  إن مداخل الإسلام إلى القلوب ، هي سماحته وبساطته وإنسانيته. إنه يقدم للمؤمن به الاطمئنان وهدوء البال، ويفتح له إلى الله سبحانه بابا واسعا للمغفرة والأمل وثواب الآخرة ، وكل ذلك دون مقابل. في أديان أخرى تفرض عليه أموال وهدايا وقرابين ، ويلزم بطاعة رهبان وقساوسة ، ويراقب ويعاقب ويحرم من نعمة الله بقرار.. لا شيء من هذا في الإسلام، من هنا كان مدخله إلى النفوس سهلا ذلولا.
                  أما مسالك الإسلام، فهي ضروب الأرض جميعا: لقد انتشر الإسلام بالبر والبحر ، بالحرب والسلم، لقد اخترق الجبال والشعاب، وأوجد لنفسه طرقا ومسالك لا تخطر على بال أحد. لقد اشترك في نقل الإسلام حتى الكفار، ومن بين المستشرقين رجل -سنتحدث عنه – نصح حكومته بترك الإسلام ينتشر، حتى يشتغل به الناس ، ويتركوا التجارة والأموال للهولنديين، وأخذت الدولة بكلامه.
                  وانساح الإسلام في إندونيسيا حتى عمها كلها. وحدث أن دخلت الإسلام قبيلة من قبائل الونقارة في غرب أفريقية على سبيل العناد مع جارتها ، فلما دخلت فيه سعدت وارتقت وسادت وتبعتها خصمتها الأولى… بفضل هذه العداوة –التي أصبحت صداقة- اخترق الإسلام مائتي كيلومتر من الغابات الاستوائية التي لا يخترقها أحد إلا بمشقة، وهذه القبيلة –وتسمى الونقارا آيا- تعتبر في مقدمة قبائل داهومي، منها اليوم أطباء ومهندسون ومدرسون وقضاة. لقد دخلت الإسلام دون أن تدري أي حظ كتبه الله لها عن طريق هذا الدين.
                  الإسلام دين طيار:
                  والخلاصة أن داعية الإسلام الأكبر هو الإسلام نفسه، فقد تضمنت عقيدته وشريعته من الفضائل ما يجعل الناس يحرصون أشد الحرص على أن يدخلوا فيها، ثم إن الإسلام يعطي الداخل فيه كل شيء ولا ينتقصه شيئا، فإن الإنسان يكسب الصلة المباشرة بالله سبحانه ونتعالى، ويجد الطريق إليه فيقف بين يديه خمس مرات في اليوم، ويدعوه دون حجاب، ويكسب الأمل في حياة أسعد وأرغد في هذه الحياة الدنيا، ثم حياة الخلود في دار البقاء، ولا يكلفه ذلك إلا النطق بالشهادتين، واتباع شريعة الإسلام، وكلها خير ومساواة وعدل، في حين يتقاضاه رجال الدين في الأديان الأخرى-كما قلنا- الإتاوات في كل مناسبة، فهو يؤدي مالا إذا تزوج ، ويؤدي مالا كلما أنجب ولدا، ويؤدي مالا ليعمِّد الطفل الوليد، ثم مالا آخر ليثبته في الجماعة المسيحية إذا ضرب في مداخل الشباب، بل يؤدي مالا إذا مات له ميت لكي تصلى عليه صلاة الجنازة، وبالإضافة إلى ذلك يظل عمره كله تابعا لرجل الدين في كل ما يتصل بالله سبحانه، فإذا أراد الصلاة صلى عنه القس، ووقف هو يسمع ولا يملك إلا أن يقول: آمين، ولكن المسلمين وحدهم من دون أهل الأديان هم الذين يقوم كل واحد منهم بصلاته بنفسه، حتى لو كانت صلاة الجماعة، وفي غير الإسلام يصلى القس مع مساعديه نيابة عن الناس.
                  والحق أن أصدق وصف يطلق على الإسلام في هذا المقام، أنه( دين طيار) ينتقل من إنسان إلى إنسان ومن أمة لأمة في سهولة ويسر ، كأن له أجنحة قدسية تحمله وتجري به مجرى الريح! وإنك لتنظر إلى خريطة الأرض، وتتأمل مدى انتشار الإسلام ، فتتعجب من سعته، ويزداد عجبك عندما تتبين أن ثلث هذه المساحة فحسب هي المساحة التي فتحتها الدول وأدخلت الجيوش فيها الإسلام. أما الباقية فقد دخلها الإسلام ، وملأ قلوب أهلها دون جيش منظم ، أو سياسة مرسومة لذلك!!، إنما هو الإسلام نفسه ، جعله الله خفيفا على القلوب، قريبا إلى النفوس ، ما تكاد كلمة الحق تصافح أذن الرجل حتى يصل الإيمان إلى قلبه، فإذا استقر في قلبه لم يكن هناك قط سبيل إلى إخراجه منه، فهو الريء الذي تظمأ إليه النفوس وتستقي منه، وهو الأمل الذي يخفف على الإنسان وطأة المسير في هذه الدنيا، ويهون عليه الموت، فالموت ليس آخر رحلة الإنسان مع الحياة بل هو المدخل إلى الحياة فحسب، وبعد هذه الحياة حياة هي أسعد وأبقى لمن صدق إيمانه واتقى.
                  ولعل أكبر أسباب خفة الإسلام على القلوب هو: وضوحه وصدقه، فإنك إذ تؤمن بالإسلام لا تؤمن بأسرار أو أمور لا يقبلها عقلك، كما ترى في الأديان الأخرى، حتى الغيب الذي تؤمن به في الإسلام حقيقة ، فإن الإنسان لا يرى الله بالعين المبصرة، وإنما يحس به في نفسه، وفي كل ما حوله بالبصيرة المنيرة، والحقيقة الكبرى في هذا الكون هي خالقه، فهو الحق ولا حق غيره، وأنت لا تؤمن بالله ؛ لأن داعيك إليه يأتي بمعجزات أو خوارق، وإنما هو يلفت نظرك إلى عجائب الخلق، وكلُّ ما فيه معجز وخارق، وأنت تراه رأي العين في شخصك الذي يعيش ويتحرك ويفهم، لا تدري كيف ، فإذا لم تؤمن بالله فكيف فكيف تعلل حياتك، وحركة حسدك ، ونبض قلبك ؟ فإذا آمنت بالله لم يكن لك مفر من أن تؤمن بنبيه الذي حمل إليك رسالته ، فالله سبحانه حق، ونبيه صدق، وكل ما يعدك به القرآن حق وصدق، ولست تحتاج إلى من يشرح لك حقيقة الإسلام حتى في نفسك، وغاية ما تحتاج إليه من يذكرك بها ، وهذا معنى من معاني تسمية الله سبحانه للقرآن بالذكر والذكر الحكيم[1] . أ.هـ .
                  شهادة غوستان لوبون:
                  هذه شهادة مؤرخ كبير مثل الدكتور حسين مؤنس ، ولكن قد يقال: إنها شهادة مسلم لدينه. فهذه شهادة من مؤرخ غير مسلم ، وهو المؤرخ الفيلسوف الاجتماعي الفرنسي الشهير (غوستان لوبون) في كتابه (حضارة العرب) الذي نقله إلى العربية الأستاذ عادل زعيتر.
                  فلسفة القرآن وانتشاره في العالم:
                  يقول لوبون تحت عنوان (فلسفة القرآن وانتشاره في العالم):
                  إذا أرجعنا القرآن إلى عقائده الرئيسة: أمكننا عدُّ الإسلام صورة مبسطة عن النصرانية، ومع ذلك فإن الإسلام يختلف عن النصرانية في كثير من الأصول، ولا سيما في التوحيد المطلق الذي هو أصل أساسي، وذلك أن الإله الواحد ، الذي دعا إليه الإسلام ، مهيمن على كل شيء ، ولا تحفّ به الملائكة والقديسون وغيرهم ممن يفرض تقديسهم . (أي كما في النصرانية) وللإسلام وحده أن يباهي بأنه أول دين أدخل التوحيد إلى العالم.
                  ويشير لوبون إلى يسر الإسلام، وسهولته البالغة والتي تتمثل في عقيدة التوحيد الخالص، وفي هذه السهولة سر قوة الإسلام ، وهي التي تجعل إدراك الإسلام سهلا على كل إنسان، فليس في الإسلام غموض ولا تعقيد، مما نراه في الأديان الأخرى وتأباه الفطرة السليمة، من المتناقضات والغوامض.
                  قال: ولا شيء أكثر وضوحا، وأقل غموضا ، من أصول الإسلام القائلة بوجود إله واحد ، وبمساواة جميع الناس أمام الله . وببضعة فروض يدخل الجنة من يقوم بها ، ويدخل النار من يعرض عنها . وإنك ، إذا ما اجتمعت بأي مسلم من أية طبقة ، رأيته يعرف ما يجب عليه أن يعتقده، ويسرد لك أصول الإسلام في بضع كلمات بسهولة . وهو بذلك على عكس النصراني الذي لا يستطيع حديثا عن التثليث ، والاستحالة، وما ماثلهما من الغوامض، من غير أن يكون من علماء اللاهوت الواقفين على دقائق الجدل!
                  وساعد وضوح الإسلام البالغ: ما أمر به من العدل والإحسان كل المساعدة، على انتشاره في العالم ، ونفسر بهذه المزايا سبب اعتناق كثير من الشعوب النصرانية للإسلام، كالمصريين الذين كانوا نصارى أيام حكم قياصرة القسطنطينية، فأصبحوا مسلمين حين عرفوا أصول الإسلام ، كما نفسر السبب في عدم تنصر أية أمة ، بعد أن رضيت بالإسلام دينا، سواء أكانت هذه الأمة غالبة أم مغلوبة.
                  ويجب على من يرغب في الحكم بفائدة كتاب ديني: ألا ينظر إلى قواعده الفلسفية الضعيفة على العموم، بل إلى مدى تأثير عقائده . والإسلام إذا ما نظر إليه من هذه الناحية: وجد أنه من أشد الأديان تأثيرا في الناس، وهو- مع مماثلته لأكثر الأديان في الأمر بالعدل والإحسان والصلاة ، إلخ- يعلِّم هذه الأمور بسهولة يستمرئها الجميع، وهو يعرف ، فضلا عن ذلك، أن يصبّ في النفوس إيمانا ثابتا لا تزعزعه الشبهات.
                  ولا ريب في أن نفوذ الإسلام السياسي والمدني كان عظيما إلى الغاية، فقد كانت بلاد العرب قبل محمد مؤلفة من إمارات مستقلة وقبائل متقاتلة دائما ، فلما ظهر محمد، ومضى على ظهوره قرن واحد، كانت دولة العرب ممتدة من الهند إلى إسبانية ، وكانت الحضارة تسطع بنورها الوهاج في جميع المدن التي خفقت راية النبي فوقها.
                  والإسلام من أكثر الديانات ملاءمة لاكتشافات العلم ، ومن أعظمها تهذيبا للنفوس، وحملا على العدل والإحسان والتسامح ، والبُدّهِيةُ ، وإن فاقت جميع الأديان السامية فلسفة، تراها مضطرة أن تتحول تحولا تاما لتستمرئها الجموع، وهي، لا شك ، دون الإسلام في شكلها المعدّل هذا.
                  وجرت حضارة العرب ، التي أوجدها أتباع محمد ، على سنة جميع الحضارات التي ظهرت في الدنيا: نشوء فاعتلاء فهبوط فموت، ومع ما أصاب حضارة العرب من الدُّثور ، كالحضارات التي ظهرت قبلها، لم يمس الزمن دين النبي الذي له من النفوذ ماله في الماضي، والذي لا يزال ذا سلطان كبير على النفوس، مع أن الأديان الأخرى التي هي أقدم منه تخسر كل يوم شيئا من قوتها.
                  ويدين بالإسلام في الوقت الحاضر أكثر من مائة مليون شخص[2] ، واعتنقته جزيرة العرب ومصر وسورية وفلسطين وآسية الصغرى وجزء كبير من الهند وروسية والصين، ثم جميع إفريقية إلى ما تحت خط الاستواء تقريبا.
                  وتجمع بين مختلف الشعوب التي اتخذت القرآن دستورا لها وحدة اللغة والصلات التي يسر عنها مجيء الحجيج إلى مكة من جميع بلاد العالم الإسلامي.
                  وتجب على جميع أتباع محمد تلاوة القرآن باللغة العربية بقدر الإمكان ، واللغة العربية هي لذلك أكثر لغات العالم انتشارا على ما يحتمل ، وعلى ما بين الشعوب الإسلامية من الفروق العنصرية ترى بينها من التضامن الكبير ما يُمكِن جمعها به تحت علم واحد في أحد الأيام.
                  وقضى أعداء الإسلام من المؤرخين العجب من سرعة انتشار القرآن العظيمة، فعزوها إلى ما زعموه من تحلل محمد وبطشه، ويسهل علينا أن نُثبت أن هذه المزاعم لا تقوم على أساس، فنقول: إن من يقرأ القرآن يجد فيه ما في الأديان الأخرى من الصرامة ، وإن ما أباحه القرآن من تعدد الزوجات لم يكن غريبا على الشعوب المسلمة التي عرفته قبل ظهور محمد، وإن هذه الشعوب لم تجد نفعا جديدا في القرآن لهذا السبب.
                  وما قيل من دليل حول تحلل محمد نقضه العلامة الفيلسوف (بيل) منذ زمن طويل. وقال بيل، بعد أن أثبت أن ما أمر النبي بالتزامه من قيود الصيام وتحريم الخمر ومبادئ الأخلاق هو أشد مما أمر به النصارى:
                  " إن من الضلال ، إذن ، أن يُعزى انتشار الإسلام السريع في أنحاء الدنيا إلى أنه يلقي عن كاهل الإنسان ما شق من التكاليف والأعمال الصالحة، وأنه يبيح له البقاء على سيئ الأخلاق، وقد دوَّن (هوتنجر) قائمة طويلة بالأخلاق الكريمة والآداب الحميدة عند المسلمين، فأرى مع القصد في مدح الإسلام- أن هذه القائمة تحتوي أقصى ما يمكن أن يؤمر به إنسان من التحلي بمكارم الأخلاق ، والابتعاد عن العيوب والآثام"[3].
                  ومما نبه إليه العلامة (بيل ): أن ملاذ الجنة التي وعد بها المسلمون لا تزيد على ما وعد به النصارى في الإنجيل . جاء في الإنجيل: "لم تر عين ، ولم تسمع أذن ، ولم يخطر على قلب إنسان: ما أعده الله للذين يحبونه".
                  وسيرى القارئ ، حين نبحث في فتح العرب وأسباب انتصاراتهم: أن القوة لم تكن عاملا في انتشار القرآن ، فقد ترك العرب المغلوبين أحرارا في أديانهم ، فإذا حدث أن اعتنق بعض الأقوام النصرانية الإسلام ، واتخذوا العربية لغة لهم ، فذلك لما رأوا من عدل العرب الغالبين ما لم يروا مثله من سادتهم السابقين، ولما كان عليه الإسلام من السهولة التي لم يعرفوها من قبل.
                  وقد أثبت التاريخ أن الأديان لا تفرض بالقوة ، فلما قهر النصارى عرب الأندلس فضل هؤلاء القتل والطرد عن آخرهم على ترك الإسلام.
                  ولم ينتشر القرآن بالسيف إذن، بل انتشر بالدعوة وحدها ، وبالدعوة وحدها اعتنقته الشعوب التي قهرت العرب مؤخرا كالترك والمغول، وبلغ القرآن من الانتشار في الهند ، التي لم يكن العرب فيها غير عابري سبيل ما زاد معه عدد المسلمين على خمسين مليون نفس فيها[4]، ويزيد عدد مسلمي الهند اليوم يوما فيوما، مع أن الإنجليز ، الذين هم سادة الهند في الوقت الحاضر ، يجهِّزون البعثات التبشيرية ويرسلونها تباعا إلى الهند لتنصير مسلميها على غير جدوى.
                  ولم يكن القرآن أقل انتشارا في الصين التي لم يفتح العرب أي جزء منها قط، وسترى في فصل آخر سرعة الدعوة الإسلامية فيها، ويزيد عدد مسلميها على عشرين مليونا[5] في الوقت الحاضر.
                  وليس فيما يوصم به الإسلام من الجَبْرية ما يزيد خطرا على ما رددنا عليه، وليس في آي القرآن التي ذكرناها آنفا من الجَبْرية ما ليس في كتب الأديان الأخرى كالتوراة مثلا[6]. وهناك فلاسفة وعلماء لاهوت يعترفون بأن مجرى الحوادث تابع لسنة لا تتبدل، قال المصلح الديني القدير لوثر: "يحتج على اختيار الإنسان وإرادته بنصوص الكتاب المقدس التي لا تحصى ، وإن شئت فقل بكل ما ورد في الكتاب المقدس".
                  وكتب جميع الأمم الدينية مُفَعَّمَة بالجَبْرية التي يسميها القدماء بالقدر، ووضع القدماء القدر، الذي لا راد لحكمه ، على رأس كل أمر، عادِّين إياه سلطة مطلقة لا مناص للناس والآلهة من إطاعتها، وحاول (إديب) على غير جدوى ، أن يضرع إلى هاتف الغيب الذي أخبره بأنه سيقتل أباه ويتزوج أمه ، فلم يستطع ردا لحكم القدر الجبار.
                  ولم يكن محمد ، إذن جَبْريا أكثر من مؤسسي الأديان الذين ظهروا قبله ، ولم يسبق محمد في جبريته علماء الوقت الحاضر الذين أيدوا مع العلامة لابلاس رأي الفيلسوف ليبنتز في القول: " إنه إذا وجد ذكاء يعرف ، لوقت ، جميع قوى العالم، ومواضع ما فيه من الموجودات ، ويستطيع أن يحللها ، ويحيط بمحركات أعظم أجرام العالم وأصغر ذراته ، فإنه لا يبقى عنده شيء غير معين، ويصبح الماضي والمستقبل حالا في نظره ".
                  والجَبْرية الشرقية التي قامت عليها فلسفة العرب، ويستند إليها كثير من مفكري العصر الحاضر هي نوع من التسليم الهادئ الذي يعلم به الإنسان كيف يخضع لحكم القدر من غير تبرٌّم وملاومة، وتسليم مثل هذا هو وليد مزاج أكثر من أن يكون وليد عقيدة، وقد كان العرب جبريين في مزاجهم قبل ظهور محمد، فلم يكن لجربيتهم تأثير في ارتقائهم ، كما أنها لم تؤد إلى انحطاطهم.[7] أ. هـ.
                  توماس أرنولد ينصف الإسلام:
                  وإذا كان غوستاف لوبون الفرنسي قد أنصف الإسلام وتاريخ المسلمين في كتابه، فقد جاء بعده المستشرق البريطاني البحاثة الشهير(توماس أرنولد) الذي كان يعرف العربية والفارسية وعددا من اللغات الأوربية ، والذي أصدر كتابه القيم (الدعوة إلى الإسلام: بحث في تاريخ نشر العقيدة الإسلامية) وكان ذلك في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، (1896م).
                  وقد طبع الكتاب بالإنجليزية عدة طبعات ، ونقله إلى العربية د. حسن إبراهيم حسن وزميلاه ، ونشر عدة مرات ابتداء من سنة 1947م .
                  والكتاب جدير بأن يقرأ ، لما فيه من وقائع وأحداث مأخوذة من مصادر عدة وموثقة ، ومكتوبة بلغات شتى ، عكف الرجل عليها، حتى استخرجها من مظانها وحشدها في كتابه العلمي الموثق.

                  تعليق


                  • #10
                    حول مشروع " إئتلاف الخير " والموقف من اليهود


                    حول مشروع " إئتلاف الخير " والموقف من اليهود



                    بسم الله الرحمن الرحيم

                    مقدمة

                    الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وحجة على الناس أجمعين، سيدنا وإمامنا وأسوتنا وحبيبنا محمد بن عبد الله، وعلى سائر إخوانه من الأنبياء والمرسلين ، وعلى آلهم وأصحابهم ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
                    (أما بعد)
                    فقد شغلتني قضية فلسطين - أو مأساة فلسطين - منذ صباي وبواكير شبابي، وأنا في المرحلة الابتدائية من دراستي الأزهرية، ثم ازددت انشغالا واهتماما بها كلما نضجت وعرفت الحياة أكثر فأكثر . وذلك لعدة أسباب:
                    1. أنها تتعلق بجزء من أرض الإسلام ، وقد تعلمنا في الأزهر : أن أي جزء من أرض الإسلام يغزوه غاز، يفرض - فرض عين - على أهله جميعا مقاومته، كل بما يقدر عليه من رجل وامرأة. وأن على المسلمين في أنحاء العالم أن يعاونوهم بكل ما يحتاجون إليه من مال وعتاد ورجال.
                    2. أنها ليست جزءا عاديا من أرض الإسلام ، بل هي جزء عزيز له خصوصية، لا تتوافر لغيره، فهي أرض الإسراء والمعراج ، وهي القبلة الأولى للمسلمين ، وبها المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله، وهو أحد المساجد الثلاثة التي لا تشد الرحال إلا إليها للتعبد فيها.
                    3. أنها قضية تجلى فيها الظلم المبين الواقع على أهلها ، فقد تآمر عليهم الانتداب البريطاني والمكر الصهيوني، على حين غفلة ووهن من العرب والمسلمين، واستخدم معهم أقسى أنواع العنف، وأقيمت المجازر البشرية لأهل البلاد، حتى أخرجوا من ديارهم بغير حق، وشردوا في الآفاق. وحل محلهم الغرباء الوافدون من هنا وهناك. وحصر أهل فلسطين في رقعة ضيقة هي الضفة الغربية وقطاع غزة. وقيل لهم: هذه لكم، ليس لكم حق في غيرها. ثم لم يدعوها لهم ، بل احتلوها بالحديد والنار. ولازالوا يذيقون أهلها الويلات، وينزلون بهم الخراب والموت كل يوم.
                    فلا يزال أهل فلسطين يصبحون ويمسون على أطفال تيتم ، وأمهات تثكل ، ونساء ترمل، وأسر كاملة تفقد عائلها أو بيوت تهدم ويترك أهلها في العراء ، وأراض تجرف بالقوة وتضم إلى الدولة الغازية ، ومزارع تحرق وتترك أرضا سوداء! وأشجار زيتون معمرة من مئات السنين تقلع، وحصار اقتصادي كاد الناس معه لا يجدون القوت.
                    لهذا كان إخواننا من أهل فلسطين أحوج ما يكونون إلى المعونة من أهل الخير من إخوانهم من العرب والمسلمين ، ومن الخيرين والرحماء من أنحاء العالم.
                    ومن هنا أصبحت إغاثة هؤلاء المساكين المستضعفين المكروبين المحاصرين : فريضة على كل من يقدر أن يقدم إليهم شيئا أو يساعدهم على ذلك.
                    ونحن المسلمين مأمورون - بحكم إيماننا - أن نحض على طعام المسكين كما قال تعالى: أرأيت الذي يكذب بالدين . فذلك الذي يدع اليتيم. ولا يحض على طعام المسكين الماعون 1 - 3 .
                    وقد ذم الله أهل الجاهلية بقوله: كلا بل لا تكرمون اليتيم . ولا تحاضون على طعام المسكين الفجر : 17، 18 .
                    من أجل هذا : ناديت أنا وبعض الفضلاء والشرفاء من محبي الخير، وأصحاب الهمم العالية، والنيات الصادقة، بالعمل على إنشاء مشروع إنساني خيري ، يعمل بقدر الجهد على سد حاجة المحتاجين من أبنائنا في فلسطين: من إطعام جائع ، أو كسوة عار ، أو إيواء متشرد، أو رعاية أرملة أو كفالة يتيم ، أو علاج مريض ، أو ترميم مستشفى أو مدرسة أو مسجد ، أو إنشائه عند اللزوم. وأطلقنا على هذا المشروع اسم (ائتلاف الخير) لأنه يتكون من عدد من الجمعيات والهيئات الخيرية، التي تتعاون في سد هذه الثغرة ، كما قال تعالى : وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان المائدة : 2 . وقوله : "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا". [1]
                    وقد شرفني الإخوة الذين اجتمعوا على هذه المبادرة بأن أكون على رأس هذا الائتلاف الخيّر، الذي كتب الله التوفيق للقائمين عليه، واستطاع أن يقوم بمهمات جليلة داخل أرض فلسطين، مما دل على أن أهل الخير والراغبين فيه ابتغاء مرضاة الله تعالى ومثوبته: لا زالوا كثيرين والحمد لله.
                    ومن المؤكد: أن هذا الائتلاف لا علاقة له إطلاقا بالعمل العسكري، ولا العمل السياسي، ولا يمت إليهما بصلة. وهذا واضح وضوح الشمس، منذ نشأة الائتلاف وإلى اليوم. واضح في أهدافه، وواضح في برامجه، وواضح في مشروعاته وأعماله. وهو يعمل على المكشوف، وليس يعمل في سراديب تحت الأرض، ويعرض ما يقوم به على الناس جهارا نهارا، حتى لا يشك شاك، أو يرتاب مرتاب.
                    ومع هذا نجد الذين في قلوبهم مرض ينشرون القيل والقال، حول هذا الائتلاف، والقائمين عليه، وحول رئيسه (القرضاوي) الذين يتهمه الأفّاكون بمساندة الإرهاب، وهو أول من يستنكر الإرهاب، ويدعو إلى التسامح لا التعصب، والحب لا الكراهية، والرفق لا العنف، والحوار لا الصدام، والسلام لا الحرب.
                    والحمد لله هذه كتبي ورسائلي ومقالاتي وفتاواي ومحاضراتي وخطبي وموقعي على الإنترنت : كلها تشهد بذلك.
                    وقد أرسل إليّ الإخوة القائمون على الائتلاف في لندن هذه الأسئلة التي أثارها من أثارها، يرجون مني الإجابة عنها. إحقاقا للحق، وإبطالا للباطل.
                    ولم يسعني - رغم أعبائي وأشغالي وزحمة أوقاتي - إلا أن أجيب عنها ، بقدر ما أسعفني الوقت، وأيدني التوفيق من الله تعالى. وعند إجابتي عن هذه الاسئلة إنما أوضح موقف الشرع الإسلامي فيما يجيزه او لا يجيزه في شأن هذه القضايا حسب النصوص الشرعية القرآنية والنبوية،وعالم الدين المسلم إذا قصد بالسؤال لا بد أن يجيب السائل، ولا يدعه حيران، وإلا كان من الذي يكتمون العلم، وهو ما حذر منه النبي حين قال:"من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار يوم القيامة".[2] وإنما يجيب العالم المسلم حسب فهمه واجتهاده في الدين، وفق النصوص الشرعية، من الكتاب والسنة، مستفيدا من أقوال العلماء الثقات. وهو لا يدّعي العصمة، ولكن يجتهد وفق الضوابط الشرعية، والأصول المرعية.
                    والمفتي في فتواه ليس كالقاضي في حكمه، لأن القاضي يلزم بحكمه، والمفتي لا يلزم بحكمه أحدا، إنما هو يجيب عمن سأله، والمستفتي حر بعد ذلك.
                    وإني لأرجو أن أكون بهذه الإجابات قد وضحت موقفي ، وأقمت الحجة على المفترين علي، وأعذرت إلى ربي ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة .
                    ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء.
                    الفقير إليه تعالى
                    يوسف القرضاوي
                    الدوحة : المحرم 1426هـ -فبراير2006م

                    تعليق


                    • #11
                      موقفنا من اليهود



                      موقفنا من اليهود
                      1 ـ ما هو موقفكم من اليهود بالعموم ؟
                      ج : أما عن موقفي من اليهود، فهو معلوم لكل من طالع كتبي ، أو استمع إلى محاضراتي وخطبي ، وهو موقف الإسلام الذي أدين الله تعالى به ، وأعني به الإسلام الوسط ، الذي يمثل المنهج الوسط للأمة الوسط ، الذي يقف وسطاً بين المتحللين والمتزمتين ، و بين التفريط والإفراط . وهو منهجي الذي آمنت به ، ونذرت نفسي للدعوة إليه، وهو الإحسان إلى الجميع، والدعوة إلى التعارف والتعايش السلمي بين الناس كافة، دون عدوان على حق احد، أو انتهاك لحرمته؛ مع الإيمان بحق كل إنسان في المحافظة على دينه وعقيدته، قال تعالى: لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي البقرة: 255.
                      ولا شك أن اليهود هم أتباع موسى بن عمران عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، وقد تحدث القرآن عن موسى عليه السلام وعن قومه في سور كثيرة، حتى قال بعض علمائنا: كاد القرآن يكون لموسى وقومه! وحسبنا أن موسى ذكر في القرآن (136) مائة وستا وثلاثين مرة ، وموسى يعتبر من أولي العزم من الرسل ، وهم خمسة: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام، وهم المذكورون في قوله تعالى: وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم، ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا الأحزاب : 7 . وفي قوله تعالى : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى: أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه الشورى : 13.
                      وموسى هو الذي خصه الله تعالى بكلامه المباشر دون رسل الله جميعا. يقول تعالى: قال: يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين الأعراف: 144 . وقال تعالى : وكلم الله موسى تكليما النساء : 164 .
                      ويتحدث القرآن عن كتاب اليهود – وهو التوراة- حديثا ينم عن الاحترام والتبجيل، فيقول: إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء المائدة : 44 .
                      واعتبر الإسلام اليهودية ديانة سماوية ، وسمى أهلها (أهل الكتاب) وهو اسم يشملهم ويشمل النصارى معهم. ويناديهم بهذا اللقب المعبر: ( يا أهل الكتاب).
                      وجعل لهم من الأحكام ما يميزهم عن غيرهم، مثل أكل ذبائحهم، وتزوج نسائهم، كما قال تعالى في سورة المائدة: وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم، وطعامكم حل لهم، والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان المائدة:5 .
                      وهذه قمة في التسامح : أن يجيز الإسلام للمسلم أن يتزوج يهودية ، فتصبح ربة بيته، وشريكة حياته ، وموضع سره، وأم أولاده، مع ما في الزواج من المودة والرحمة كما قال الله تعالى : وجعل بينكم مودة ورحمة الروم: 21 .
                      وهذا الزواج ينشئ رابطة المصاهرة التي هي قرينة رابطة النسب ، كما قال تعالى: وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا الفرقان: 54 . وبذلك يصبح أهل الزوجة أجداد الأولاد وجداتهم، وأخوالهم وخالاتهم، ويقر لهم حقوق ذوي القربى ، وأولي الأرحام ، وقد قال تعالى : وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض الأنفال : 75 .
                      ومعنى هذا كله: أن أهل الكتاب أقرب إلينا من غيرهم من سائر الملل، ولهذا نهانا القرآن أن نجادلهم إلا بالتي هي أحسن، وذلك في قوله سبحانه: ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم، وقولوا: آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم، وإلهنا إلهكم واحد، ونحن له مسلمون العنكبوت:46.
                      فهذا هو موقفي وموقف كل المسلمين عموما من اليهود بوصفهم يهودا. وهذا ما لم يقاتلونا في الدين ، أو يخرجونا من ديارنا، أو يظاهروا على إخراجنا ؛ فإن فعلوا ذلك ؛ فلا ولاء ولا مسالمة بيننا وبينهم حتى يعودوا عن عدوانهم ويجنحوا إلى السلم، وهو الذي نؤمن به ونسعى إليه. وهذا ما وضحته آيتان محكمتان في كتاب الله : لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين. إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون الممتحنة: 8.
                      فقسم الله تعالى غير المسلمين ـ ومنهم اليهود ـ إلى مسالمين للمسلمين، وغير مسالمين لهم، وجعل للأولين البر والقسط ، وحرم الولاء للآخرين .
                      2 ـ هل أنتم ضد اليهود لكونهم يهودا ؟
                      ج : الحق الذي يجب أن يعلمه الناس ، كل الناس : أنني - وغيري من المسلمين - لا نكره اليهود لكونهم يهودا ، ولهذا قلت مرارا : إن (اليهودية) باعتبارها ديانة ليست هي السبب في المعركة بيننا وبين دولة إسرائيل .
                      والقرآن اختار لليهود - و كذلك النصارى - (لقبًا) يوحي بالقرب والإيناس منهم، وهو (أهلالكتاب) ويناديهم بذلك (يا أهل الكتاب) ويعنى به: التوراة والإنجيل، إشعارًا بأنهم -في الأصل - أهل دين سماوي، وإن حرفوا فيه وبدلـوا .
                      اليهود أقرب إلى ملة إبراهيم من النصارى:
                      بل أزيد على ذلك فأقول: إن اليهود - منالناحية الدينية - أقرب إلى المسلمين في كثير من الأمور، من النصارى المسيحيين،لأنهم أقرب منهم إلى ملة إبراهيم عليه السلام، سواء في العقيدة أم فيالشريعة.
                      على أن كل ما يؤمن به اليهودفيما يتعلق بالألوهية والنبوة، يؤمن به المسيحيون، لأن التوراة وملحقاتها من (الكتاب المقدس) عندهم . ويزيدون على اليهود ما انفردوا به من تأليه المسيح أو القولبالتثليث.
                      فلو كنا نحارب اليهود من أجل العقيدة،لحاربنا النصارى المسيحيين أيضًا.
                      ومن أجل هذا يتبين لنا خطأ بعض عوام المتدينين الذين يتوهمون أن الحرب القائمة بيننا وبين اليهود حرب من أجل العقيدة.
                      وهذه النظرة التي قد تخطر فيبال بعض الناس : خاطئة تمامًا، فاليهود ـ كما رأينا ـ يعتبرهم الإسلام أهل كتاب، يبيحمؤاكلتهم، ويبيح مصاهرتهم،وقد كانوا على معتقداتهم هذه ، وقد عاشوا قرونًا بين ظهراني المسلمين، لهم ذمة اللهتعالى، وذمة رسوله، وذمة جماعة المسلمين، وقد طردهم العالم، ولفظهم لفظ النواة، منأسبانيا وغيرها، ولم يجدوا صدرًا حنونًا، إلا في دار الإسلام، وأوطان المسلمين، ولميفكر المسلمون يومًا أن يحاربوا اليهود ، أو يمسوهم بأذى . مع أنهم كانوا في تلك الأزمنة كلها متمسكين بعقيدتهم اليهودية ، لأن دين المسلمين يحرم عليهم ذلك .
                      لا نعادي إسرائيل لأنهاسامّية:
                      وأحب أن أنبه هنا إلى نقطة تتعلق بالنقطة السابقة ، وهي :هل سبب العداوة والحرب المستعرة بيننا ـ نحن العرب والمسلمين ـوبين إسرائيل: أنها دولة سامية؟
                      والجواب: أن هذا أبعد ما يكون عن تفكيرالمسلمين، ولا يتصور أن يرد هذا بخواطرهم؛ لسببين أساسيين:
                      الأول: أننا ـ نحنالعرب ـ ساميون، ونحن مع بني إسرائيل في هذه القضية أبناء عمومة، فإذا كانوا همأبناء إسرائيل ـ وهو يعقوب ـ بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، فنحن أبناءإسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام.
                      ولا تستطيع إسرائيل أن تزايد علينا في ذلك،ولا أن تتهمنا بأننا أعداء (السامية) التي تتاجر بها في الغرب، وتشهرها سيفًا فيوجه كل من يعارض سياستها، أو ينـتقد سلوكياتها العدوانية واللاأخلاقية ، بل اعتبرالقرآن المسلمين كافة أبناء إبراهيم هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملةأبيكم إبراهيم الحج:78 .
                      والثاني: أن المسلمين عالميون إنسانيون بحكم تكوينهمالعقدي والفكري، وليسوا ضد أي عرق من العروق أو نسب من الأنساب، وقد علمهم دينهم أنالبشرية كلها أسرة واحدة، تجمعهم العبودية لله، والبنوة لآدم، كما قال تعالى: ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكمعند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير الحجرات:13 . وقال رسولهم الكريم : " أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم منتراب " . [1]
                      على أن اليهود اليوم لم يعودوا كلهم ساميين، كمايزعمون، فقد دخل فيهم عناصر شتى من سائر أمم الأرض، كما هو معروف عن يهود (مملكة الخزر) ويهود الفلاشا، وغيرهم. وهذا طبيعي، فاليهودية ديانة، وليست جنسية .
                      3 ـ هل تحثون سماحتكم على قتال اليهود وقتلهم لكونهم يهودا؟
                      ج ـ كلا ، أنا لا أفتي بهذا ولا أحث عليه بالمرة. وذلك لعدة أسباب:
                      أولا: إن اليهود ـ باعتبارهم يهودا ـ هم عندنا أهل كتاب، كما بينت ذلك بالأدلة، ونعتبر ديانتهم ديانة سماوية، وتوراتهم كتابا سماويا، وإن كنا نعتقد أنهم حرفوا فيه وبدلوا. ولكنه يبقى في أصله سماويا، كما نعتقد أن نبيهم موسى من أنبياء الله ورسله، وقد كلمه الله تكليما. وله منزلة عظيمة في الإسلام، ولقصته مع فرعون، ومع قومه: مساحة واسعة في القرآن.
                      وقد أجاز الإسلام أن نأكل من ذبائح اليهود، وأن نصاهرهم، ونتزوج من نسائهم، مع ما يفرضه الإسلام في العلاقات الزوجية من سكون ومودة ورحمة، وما توجبه روابط المصاهرة من ترابط وتقارب، وحقوق للأمومة والخؤلة وغيرها.
                      ثانيا: إن الإسلام يكره الظلم، والظالمين، ويوجب العدل لكل الناس، من أي دين كانوا، ومن أي عرق كانوا، ومن أي إقليم كانوا، ولا يتحيز لأحد ضد أحد، ولا لطائفة ضد طائفة، وإنما يتحيز للحق وحده. فعدل الله لخلق الله جميعا.
                      وقد نزلت تسع آيات من القرآن الكريم في سورة النساء ، تدافع عن يهودي اتهم ظلما بالسرقة، وكان السارق مسلما من المنافقين أو ضعاف الإيمان، أراد قومه أن يبرئوه ويلصقوا التهمة باليهودي البريء، وكاد الرسول يصدقهم، ويدافع عنهم، لولا أن نزل الوحي القرآني يحامي عن اليهودي المتهم ظلما، ويلحق التهمة بأهلها، ويعاتب الرسول صلى الله عليه وسلم على تصديقه لهؤلاء.
                      يقول تعالى في سورة: إنّا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما. واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما . ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما [النساء: 104-113].
                      ثالثا: يجب أن نبين هنا: أننا في واقع الأمر لم نقاتل اليهود، أعني: لم نبدأهم بحرب أو قتال، أو نُسلّ في وجوههم السيوف، ونرفع عليهم البنادق والرشاشات، حتى يقال لنا: لماذا تقاتلون اليهود؟ أو تحثون على قتلهم؟
                      والواقع أن اليهود هم الذين بدأونا بالقتال، بعد أن كانوا يعيشون بين ظهرانيا آمنين مطمئنين، متمتعين برغد العيش، وسعة الرزق، ورفاهية الحياة، ولهم جاههم ومنزلتهم في المجتمع، نتيجة حصولهم على الثروات، وتمكنهم من التجارات، وإتقانهم لكثير من الصناعات، فلم يبخل المجتمع الإسلامي عليهم بالثروة المالية، والمنزلة الاجتماعية، بل المكانة السياسية. حتى حسدهم كثير من المسلمين على ما وصلوا إليه من غنى وجاه ومنصب، وحتى قال الشاعر المصري الساخر الحسن بن خاقان، يصف يهود زمانه:
                      يهود هـذا الزمان قد بلـغوا غاية آمالهم وقد ملـكوا
                      المجد فيهم، والمـال عندهمو ومنهم المستشار والملك!
                      يا أهل مصر، إني نصحت لكم تهوّدوا، قد تهودّ الفـلك!
                      أنا في الحقيقة لا أحث على قتل اليهود، ولكني أتمنى أن يكف اليهود ـ أعني الصهاينة ـ عن قتلنا وتدمير ديارنا صباح مساء !
                      4- هل ترون سماحتكم قتل يهودي بريء : حراما وجرما؟ ولماذا؟
                      ج- نعم أرى قتل أي إنسان بريء حراما وجرما وظلما. سواء كان يهوديا أم غير يهودي، فالأصل في الإسلام : أنه يحّرم الدماء، ويحمي حق الحياة لكل إنسان ولو كان جنينا في بطن أمه، ولا يجيز لأمه التي حملته أن تجهضه. ويجرم الإسلام قتل النفس البشرية، حتى إن القرآن ليقرر مع الكتب السماوية: أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا المائدة: 32 .
                      فمن لم يقتل نفسا متعمدا، أو يفسد في الأرض كقطاع الطريق وأمثالهم، فلا يحل قتله ، ومن اعتدى عليه فقتله بغير حق ، فكأنما قتل الناس جميعا، لأن الاعتداء على نفس معصومة بمثابة الاعتداء على جنس البشر جميعا.
                      بل الإسلام يُحرِِّم قتل الحيوانات والطيور عبثا، أي لغير منفعة ينشدها الإنسان من وراء القتل. ولذا جاء في الحديث : "من قتل عصفورا عبثا جاء إلى الله يوم القيامة ، يقول: يا رب : إن فلانا قتلني عبثا، ولم يقتلني لمنفعة" . [2]
                      5 ـ هل سبق أن دعوتم إلى قتل اليهود أينما كانوا وحيثما كانوا ؟
                      ج : لا . لم يحدث هذا من قبل ، ومن قرأ لي ، أو استمع إليّ: يعلم ذلك جيدا .
                      وأؤكد هنا : أنه لا يتصور من مثلي أن يدعو إلى قتل اليهود – باعتبارهم يهودا- حيثما كانوا.
                      وذلك لأمرين:
                      الأول: أن من اليهود من يعارض قيام إسرائيل، ويتعاطف مع العرب، وينكر قيام الحركة الصهيونية وأهدافها. وقد رأيت عددا من هؤلاء في لندن، في الصيف الماضي (2004 م ) ومنهم : من حضر معنا جلسة افتتاح المجلس الأوروبي للإفتاء في قاعة بلدية لندن، وعلق على كلامي مؤيدا ومرحبا.
                      وقد ودعني منهم ثمانية من الحاخامات والأحبار إلى مطار لندن، وظلوا واقفين معي ، وأبوا أن ينصرفوا حتى دخلت إلى الطائرة . فكيف أفتي بقتل هؤلاء الأصدقاء ؟
                      الثاني: أنني لا أفتي الا بقتال من يقاتلنا، فأما من لا يقاتلنا، ولا يعين على قتالنا، فليس لنا عليه سبيل: كما قال تعالى: فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً [النساء: من الآية90].مع التركيز في كل الاحوال على تجنب الابرياء والمسالمين من المدنيين وغيرهم.
                      6 ـ هل تدينون قتل المدنيين الأبرياء من اليهود ؟ وهل تعتبرون ذلك من الإثم والعدوان ؟
                      ج : هذا السؤال مكرر ، والإجابة عنه ستكون مكررة أيضا ، نعم أنا أدين وبلا تردد قتل الأبرياء من اليهود، أو غيرهم من الابرياء والمسالمين، فقتل البريء محرم تحريما شديدا في الإسلام ، سواء كان مسلما أم غير مسلم ، والقرآن يقرر مع الكتب السماوية قبله : أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا المائدة: 32 .
                      واليهود شأنهم شأن غيرهم من الأبرياء المسالمين، لا يحل سفك دمائهم بغير حق، بل إن اليهود بوصفهم ( أهل كتاب) في نظر المسلمين ، لهم حرمة أعظم من حرمة غيرهم ممن لا كتاب لهم ولايعني هذا بحال التهوين من جريمة قتل غيرهم، فكل عدوان على نفس آدمية يعد من المحرمات؛ بل يُحرم الإسلام العدوان على الحيوانات نفسها ، ويجعله سببا لدخول النار.
                      7 ـ هل تدعون سماحتكم وتفتون بقتل المدنيين الأبرياء وحتى لو كانوا من الإسرائيليين المسالمين ؟
                      ج ـ أؤكد ما قلته من قبل: أن من ثبتت مسالمته من الإسرائيليين، فلا يجيز شرعنا لنا ـ نحن المسلمين ـ أن نقتله، لأنّا لا نقتل إلا من يقاتلنا، أو يشارك في العدوان علينا، أما المسالم حقا، فلا أفتي بقتله، بل أحرم قتله، وأجرّم فعله، وأؤثم من فعل ذلك.
                      المهم أن يثبت لنا مسالمته؛ وإذا ثبت لنا ذلك، فلا يجوز أن نقصده بقتل ولا قتال، ما دام يمكن فصله عن غيره ، كما قال تعالى في شأن قوم من المشركين:فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم. فما جعل الله لكم عليهم سبيلا النساء: 90.
                      وقد ذكرنا قبل ذلك قوله تعالى: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين الممتحنة: 8.
                      8 ـ عندما تفتون سماحتكم بجواز العمليات الانتحارية للفلسطينيين ضد الاحتلال الإسرائيلي ؟ على ماذا تستندون ؟ وكيف تبررون ذلك ؟ وهل ذلك دعوة لقتل الأبرياء المسالمين ؟
                      ج : لا بد أن أوضح بداية أن هذه العمليات ليست عمليات ( انتحارية ) كما يحلو للبعض أن يسميها ، ولكنها عمليات للدفاع عن النفس والوطن ضد الاحتلال الإسرائيلي المتجبر الظالم.
                      وتسمية هذه العمليات (انتحارية) تسمية خاطئة ومضللة، فهي عمليات فدائية. وهي أبعد ما تكون عن الانتحار، ومن يقوم بها أبعد ما يكون عن نفسية المنتحر.
                      إن المنتحر يقتل نفسه من أجل نفسه، وهذا يقدم نفسه ضحية من أجل دينه ووطنه وأمته. والمنتحر إنسان بائس من نفسه ومن رَوْح الله. وهذا المجاهد إنسان كله أمل في رَوْح الله تعالى ورحمته. المنتحر يتخلص من نفسه ومن همومه بقتل نفسه، والمجاهد يقاتل عدو الله وعدوه بهذا السلاح الجديد، الذي وضعه القدر في يد المستضعفين ليقاوموا به جبروت الأقوياء المستكبرين.
                      فهؤلاء الشباب الذين يدافعون عن أرضهم هم ليسوا بمنتحرين، وليسوا بإرهابيين، فهم يقاومون ـ مقاومة شرعية ـ من احتل أرضهم ، وشردهم وشرد أهلهم، واغتصب حقهم، وصادر مستقبلهم، ولا زال يمارس عدوانه عليهم كل يوم: يدمر منازلهم، ويحرق مزارعهم، ويقلع أشجارهم، ويجرف أرضهم ، ويهدم مساجدهم ، ويمزق شملهم بجداره العازل، ودينهم يفرض عليهم الدفاع عن أنفسهم، ولا يجيز لهم التنازل باختيارهم عن ديارهم، التي هي جزء من دار الإسلام وهو عمل من أعمال المخاطرة المشروعة والمحمودة في الجهاد، يقصد به النكاية في العدو المقاتل، وقتل بعض أفراده، وقذف الرعب في قلوب الآخرين طالما أن هذا العمل لايقصد به بحال الابرياء والمسالمين سواء كانوا مدنيين أو غير ذلك.
                      و ليس في هذا أي دعوة لقتل المسالمين الأبرياء، وإذا قتل طفل أو شيخ في هذه العمليات، فهو لم يقصد بالقتل، بل عن طريق الخطأ، وبحكم الضرورات الحربية، التي قد يصاب فيها الأبناء بسبب الآباء ، ومن القواعد الفقهية: الضرورات تبيح المحظورات. ولكن هذه القاعدة تكملها وتضبطها قاعدة أخرى، هي: أن ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها . وذلك حتى لا يتوسع الناس في الضرورة، وتظل استثناء.
                      وإذا وجدوا الخير في الكف والإحجام: أحجموا، لأنه لا مصلحة خاصة للفدائيين إلا رضوان الله تعالى وابتغاء مثوبته، ونصرة قضيتهم العادلة، فإذا لم تخدم القضية بهذا الأسلوب ،وكان ضرره أكبر من نفعه ترك، وبحث عن أسلوب آخر ، وآلية أخرى. (وإنما لكل امرئ ما نوى) .
                      وقد وجد الإخوة في حماس والجهاد الإسلامي ومن وافقهم من فصائل المقاومة : أن يوقفوا العمليات الاستشهادية في الوقت الحاضر ، وأن يستبدلوا بها ضرب المستوطنات ونحوها من الأهداف العسكرية ، ما داموا قادرين على ذلك ، ولذلك مرت شهور ، ولم نقرأ ولم نسمع عن عملية من هذه العمليات . فهم لا يلجأون إليها إلا للضرورة كما قلت ، فإذا زالت الضرورة ، توقفت هذه العمليات .
                      وهناك سعي من رئيس السلطة الفلسطينية الجديد محمود عباس (أبي مازن) للسير فيما سموه ( الحل السلمي) والاتفاق على وقف إطلاق النار من الجانبين ، بحثا عن الوصول إلى حلول عملية لإنهاء الصراع بطريق المفاوضات ، وقد وافقت فصائل المقاومة الفلسطينية ـ إسلامية ووطنية ـ أبا مازن على (هدنة مشروطة) على أن تُوقَف الاعتداءات من قبل الإسرائيليين ، مساهمة في إنجاح المسعى الذي اختارته السلطة. والتزمت الفصائل الإسلامية بهذه الهدنة ، وبخاصة حركة المقاومة الإسلامية حماس ) . ونأمل ألا تستفزهم إسرائيل ومستوطنوها بالغدر والعدوان .
                      9 ـ هل تدعون سماحتكم وتحثون على القيام بعمليات انتحارية ضد الإسرائيليين ؟ أم أنكم تقولون بأن ذلك من الناحية الشرعية والدينية مبرر ضد الظلم والاحتلال إذا لم يتوفر وسيلة أخرى لمقاومة الاحتلال ؟
                      ج : أود أن أؤكد هنا: أن هذه العمليات الفدائية ليست هي الأصل في مقاومة الاحتلال، وإنما لجأ إليها شباب الانتفاضة والمقاومة لأنهم مضطرون إليها، وما داموا مضطرين لهذا الطريق للدفاع عن أنفسهم، وتحرير وطنهم، وإرعاب أعدائهم، المصرين على عدوانهم، المغرورين بقوتهم، وبمساندة القوى الكبرى لهم ، فليس لهم خيار، والأمر كما قال الشاعر العربي قديما:
                      إذا لم يكن إلا الأسنةَ مركبٌ فما حيلة المضطر إلا ركوبها!
                      ولا بد أن ننوه هنا إلى أن الأحكام نوعان :
                      الأول : أحكام في حالة السعة والاختيار .
                      الثاني : أحكام في حالة الضيق والاضطرار .
                      والمسلم يجوز له في حالة الاضطرار ما لا يجوز له في حالة الاختيار ، ولهذا حرم الله تعالى في كتابه في أربع آيات : الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله ، ثم قال : فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم البقرة: 173.
                      ومن هنا أخذ الفقهاء قاعدة : الضرورات تبيح المحظورات ، وإخوتنا في فلسطين في حالة ضرورة لا شك فيها ، بل هي ضرورة ماسة وقاهرة ، للقيام بهذه العمليات الاستشهادية ، لإقلاق أعدائهم ومحتلّي أرضهم ، وبث الرعب في قلوبهم ، حتى لا يهنأ لهم عيش ، ولا يقر لهم قرار ، فيعزموا على الرحيل ، ويعودوا من حيث جاءوا. ولولا ذلك لكان عليهم أن يستسلموا لما تفرضه عليهم الدولة الصهيونية من مذلة وهوان ، يفقدهم كل شيء، ولا تكاد تعطيهم شيئا!
                      أعطوهم عشر معشار ما لدى إسرائيل من دبابات ومجنزرات ، وصواريخ وطائرات ، وسفن وآليات ، ليقاتلوا بها . وسيدعون حينئذ هذه العمليات الاستشهادية . وإلا فليس لهم من سلاح يؤذي خصمهم ، ويقض مضجعهم ، ويحرمهم لذة الأمن وشعور الاستقرار ، إلا هذه (القنابل البشرية) : أن (يقَنْبل ) الفتى أو الفتاة نفسه ، ويفجرها في الغازي المحتل لأرضه مضحيا بروحه في سبيل الله، مؤثرا حياة وطنه على حياته الشخصية. فهذا هو السلاح الذي لا يستطيع عدوه - وان أمدته أمريكا بالمليارات وبأقوى الأسلحة- أن يملكه ، فهو سلاح متفرد ، ملكه الله تعالى لأهل الإيمان وحدهم ، وهو لون من العدل الإلهي في الأرض لا يدركه إلا أولو الأبصار . فهو سلاح الضعيف المغلوب في مواجهة القوي المتجبر، وما يعلم جنود ربك إلا هو المدثر: 31.
                      10 ـ هل ترون سماحتكم أنه إذا ما وقع يهود تحت الاحتلال: هل يكون من حقهم القيام بعمليات انتحارية للدفاع عن أنفسهم ضد المحتل ، كما ترون أنه من حق الفلسطنيين ؟
                      ج : كل من كان له وطن شرعي غير مغتصب ولا منتزع من أرض الآخرين بالحديد والنار: جاز دفاعه عنه من غير شك، فإن هذا حق كفلته كل الشرائع السماوية وأقرته القيم الأخلاقية ، كما كفلته كذلك كل القوانيين والمواثيق الدولية ، وأعني به حق الدفاع عن النفس والوطن. إذا غزاه غاز أجنبي .
                      بل هذا ما تقضي به قوانين الفطرة، فإننا نجد في داخل الجسم البشري: جندا مجندا يقاوم كل جسم غريب ، حفاظا على الحياة من تلك الجراثيم والأجسام الغازية من خارج الجسم.
                      وإذا كنا أجزنا للفلسطينيين أن يدافعوا عن وطنهم – الذي احتل- بهذه العمليات الفدائية، فيلزمنا أن نجيز لليهود وغيرهم أن يقوموا بمثلها إذا غزي وطنهم الشرعي واحتلت أرضهم. ولسنا من أصحاب ازدواج المعايير، ولا ممن يكيل بكيلين : كيل للأصدقاء ، وكيل للخصوم. بل نحن مأمورون بالعدل مع من نحب ومن نكره . قال تعالى: ولا يجرمنكم شنآن قوم – أي شدة بغضهم لكم أو بغضكم لهم- على ألا تعدلوا ، اعدلوا هو أقرب للتقوى المائدة: 8 .
                      وجوابنا هنا مؤسس على افتراض أن لليهود وطنا خاصا لهم الحق في استيطانه وامتلاكه ، لا وطن انتزعوه من أرض غيرهم بالعنف والإرهاب .
                      11 ـ هل تفتون سماحتكم أنه من حق جميع من وقع تحت الاحتلال استخدام العمليات الانتحارية ضد المحتل ، سواء كان ذلك مسلماً أو غير مسلم , طالما هذه العمليات لا تقع بحق أبرياء مسالمين ؟
                      ج : نعم . كل من يحتل الأرض ظالما بغير حق ، سواء كان عربيا أو عجميا، مسلما أو غير مسلم : تجب مقاومته وتحرير الأرض من شره بشتى الطرق المتاحة .
                      ولهذا وقفت ضد غزو (صدام) للكويت بقوة، وكانت خطبتي بعد الغزو من جامع عمر بن الخطاب في قطر ضد هذا الغزو الظالم هي: المادة الأولى لإذاعة الكويت الحرة، التي ظلت عدة أيام تكررها كل يوم عدة مرات. وإذا ضاقت لمن يقاومون الاحتلال السبل، ولم يجدوا غير العمليات الفدائية سبيلا للتخلص من الاحتلال الغاشم وجبروته، فمن حقهم أن يستخدموها دفاعا عن وطنهم، ووصولا إلى حقهم، ما دامت هذه العمليات لا تقع في حق أبرياء مسالمين، كما في السؤال.
                      12 ـ هل تفتون بجواز القيام بعمليات انتحارية ضد الأبرياء والمسالمين والذين لا علاقة لهم بالجيش سواء كانوا يهوداً أو إسرائيليين أو غير ذلك ؟ ولماذا ؟
                      ج : أنا أفتي بمشروعية العمليات الفدائية ضد الغزاة المحتلين ومن يعاونهم، ومن حق المغزوين أن يقاوموا غزاتهم ويطاردوهم بكل ما يستطيعون من قوة، سواء كان هؤلاء المغزوون فلسطينيين أم لبنانين أم مصرين أم عراقيين أم هنودا، أم يهودا، أم أي شعب كان.
                      وهذا في نظر الإسلام ليس أمرا مشروعا فقط، بل هو واجب وفريضة، وتركه يوقع في الإثم والمخالفة الشرعية. لأنه تفريط في أرض الإسلام، التي يجب على المسلمين أن يدافعوا عنها بالأنفس والأموال. وهو كذلك تجريء للطغاة والمتجبرين على افتراس الضعفاء إذا لم يجدوا من يقاومهم ويصد عدوانهم .
                      أما الأبرياء والمسالمون حقا، الذين اثبتوا لنا مسالمتهم بالبينة، وأنهم ينكرون على قومهم ما يقترفون كل صباح ومساء من مظالم ومذابح ومآسٍ، فهؤلاء لا نقاتلهم ولا نقتلهم، ولا نأخذهم بذنب حكومتهم، وهم يبرأون من فعلها، إذ لا تـزر ( وازرة وزر أخرى ) ، و ( كل امرئ بما كسب رهين ) .
                      على أن هناك من الفقهاء من يقول : إن على هؤلاء أن يتحملوا نتيجة وجودهم في وطن مغتصب من أهله ، وإلا كان عليهم أن يخرجوا من هذا الوطن، ويعودوا من حيث جاءوا أو جاء آباؤهم .
                      13ـ هل تعادون السلام ولا تؤمنون به ؟
                      ج : كثيرا ما يقع عند البعض خلط في بعض المبادئ والمفاهيم ، ومن هذا تصور البعض أنني حين أؤيد العمليات الاستشهادية ضد المحتل، فمعنى ذلك عندهم أنني ضد السلام . وهذا هو الخطأ والخلط بعينه .
                      والحق أنني أرى أن الإسلام ـ الذي أدين الله به ، والذي أدعو إليه ـ لا يتشوف إلى القتال، ولا يتطلع إلى سفك الدماء، بل إذا انتهت الأزمة بين المسلمين وخصومهم بغير دماء ولا قتال، عقب القرآن بمثل هذه الكلمة المعبرة: ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا، وكفى الله المؤمنين القتال، وكان الله قويا عزيزا الأحزاب: 35 . فما أبلغ هذه الكلمة وما أصدقها تعبيرا عن روح الإسلام السلمية وكفى الله المؤمنين القتال.
                      وحين انتهت غزوة الحديبية بالصلح مع قريش، وإقامة الهدنة بين الفريقين، نزلت في ذلك سورة الفتح: إنا فتحنا لك فتحا مبينا الفتح: 1، وقال بعض الصحابة: أفتح هو يا رسول الله؟ قال: " نعم هو فتح " فلم يتصوروا فتحا بغير حرب.
                      وفي هذه السورة امتن الله على المؤمنين فقال: وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم الفتح: 24 . فانظر: كيف امتن بكف أيدي المؤمنين عن أعدائهم!
                      وكان الرسول الكريم ـ وهو أشجع الناس ـ لا يحب الحرب، ويقول لأصحابه: "لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموه فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف". [3]
                      وكان يقول: "أحب الأسماء إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن… وأقبح الأسماء: حرب ومرة". [4]
                      حتى لفظة (حرب) يكرهها، ولا يحب التسمية بها ، كما كان يفعل العرب في الجاهلية، مثل حرب بن أمية.
                      إلا أن الإسلام يحرض على القتال، وبذل النفس والنفيس، إذا فرض القتال على المسلمين على كره منهم، إذا انتهكت حرمات الإسلام، أو غزيت أرضه، أو دنس عرضه، بمثل هذه الآيات: ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول، وهم بدأوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين. قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين [التوبة: 13] ، وقوله : كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون [البقرة: 216].
                      ومع هذا لا يغلق الأبواب في وجه المسالمة والمصالحة، إذا تهيأت أسبابها، فقال تعالى: وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله [الأنفال: 61] .
                      والجهاد في الإسلام تحكمه (أخلاقيات) صارمة ملزمة، فلا يجيز إلا قتل من يقاتل، ولا تُُقتَل النساء ولا الولدان ولا الشيوخ الكبار، ولا الرهبان ولا الفلاحون أو التجار، ولا يجيز الغدر ولا التمثيل بالجثث، ولا قطع الأشجار، ولا هدم الأبنية، ولا تسميم الآبار، ولا يتبع ما يسمونه: سياسة الأرض المحروقة، أي التي تدع كل ما وراءها خرابا يبابا.
                      وهذا ما شهد به المؤرخون للمسلمين في فتوحهم ـ التي كانت في حقيقتها تحريرا للشعوب من طغيان الإمبراطوريات القديمة (الفرس والروم) ـ وقالوا: ما عرف التاريخ فاتحا أعدل ولا أرحم من العرب، أي المسلمين .
                      14- هل تدعون سماحتكم إلى كراهية اليهود، وبث مشاعر البغض ضدهم وضد كل من ليس بمسلم من أصحاب الديانات الأخرى كالمسيحية؟
                      ج – يشهد الله جل جلاله، كما يشهد كل من سمع خطبي ، وقرأ كتبي: أني من دعاة الأخوة الإنسانية، وأؤمن أن البشر جميعا عائلة واحدة، تنتمي من ناحية الخلق إلى رب واحد هو خالق الجميع، ومن ناحية النسب إلى أب واحد، هو أو أبو الجميع آدم. وأدعو الناس جميعا إلى الحب لا البغض، والتسامح لا التعصب، والرفق لا العنف، والرحمة لا القسوة، والسلام لا الحرب.
                      الأدعية الاستفزازية
                      ومن أكبر الدلائل على أن منهجي الذي أدعو إليه منهج يدعو إلى إشاعة السلام والحب ، ويدعو إلى التسامح مع المخالفين: أنني ناديت بالابتعاد عن ما أسميته: الأدعية الاستفزازية ، وقلت : ليس من الموعظة الحسنة: اتخاذ الأدعية الاستفزازية في صلوات الجمع ، وفي قنوت النوازل وغيرها.
                      ومما أنكرته في هذا المجال : أن بعض الوعاظ والخطباء يدعون الله تعالى: أن يهلك اليهود والنصارى جميعا، وأن ييتم أطفالهم، ويرمل نساءهم، ويجعلهم وأموالهم وأولادهم غنيمة للمسلمين.
                      ومن المعلوم: أن في كثير من بلاد المسلمين توجد أقليات من النصارى ـ وربما من اليهود ـ وهم مواطنون يشاركون المسلمين في المواطنة، وليس من اللائق أن ندعو بدعوة تشمل هؤلاء بالهلاك والدمار. إنما اللائق والمناسب: أن ندعو على اليهود الغاصبين المعتدين، وأن ندعو على الصليبيين الحاقدين الظالمين، لا على كل اليهود والنصارى. كما ندعو على الظالمين والطغاة من المسلمين أنفسهم. نسأل الله تعالى أن يريح البشرية من الظالمين من كل الديانات .
                      على أني لم أجد في أدعية القرآن، ولا في أدعية الرسول، ولا في أدعية الصحابة: مثل هذه الدعوات المثيرة: يتم أطفالهم، ورمل نساءهم، وأمثالها. بل أدعية القرآن في المعركة مثل: ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين البقرة: 250 .
                      ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين. ونجنا برحمتك من القوم الكافرين [يونس: 85 ، 86 ].
                      ومن أدعية الرسول في وقت الحرب والقتال : "اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب: اهزمهم وانصرنا عليهم" .[5]
                      "اللهم إنا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم". [6]
                      وقد قال تعالى: ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين الأعراف: 55. أي لا يحب الذين يعتدون ويتجاوزون في دعائهم.
                      غير المسلمين بدل الكفار
                      ومن أكبر الدلائل أيضا على أن منهجي الذي أدعو إليه ـ منهج الإسلام الوسط ـ منهج يدعو إلى إشاعة السلام والحب : ألا نخاطب المخالفين لنا باسم الكفار، ولا سيما مخالفونا من أهل الكتاب.
                      وذلك لأمرين:
                      أولهما: إن كلمة (كفار) لها عدة معان، بعضها غير مراد لنا يقينا من هذه المعاني: الجحود بالله تعالى وبرسله وبالدار الآخرة، كما هو شأن الماديين الذين لا يؤمنون بأي شيء وراء الحس، فلا يؤمنون بإله، ولا بنبوة، ولا بآخرة.
                      ونحن إذا تحدثنا عن أهل الكتاب لا نريد وصفهم بالكفر بهذا المعنى، إنما نقصد أنهم كفار برسالة محمد وبدينه. وهذا حق، كما أنهم يعتقدون أننا كفار بدينهم الذي هم عليه الآن وهذا حق أيضا.
                      والثاني: أن القرآن علمنا ألا نخاطب الناس ـ وإن كانوا كفارا ـ باسم الكفر، فخطاب الناس ـ غير المؤمنين ـ في القرآن، إما أن يكون بهذا النداء يا أيها الناس أو يا بني آدم أو يا عبادي أو يا أهل الكتاب.
                      ولم يجئ في القرآن خطاب بعنوان الكفر إلا في آيتين: إحداهما خطاب لهم يوم القيامة: يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون [لتحريم: 7].
                      والأخرى قوله تعالى: قل يا أيها الكافرون. لا أعبد ما تعبدون. ولا أنتم عابدون ما أعبد. ولا أنا عابد ما عبدتم. ولا أنتم عابدون ما أعبد. لكم دينكم ولي دين الكافرون : 1 – 6 . فكان هذا خطابا للمشركين الوثنيين الذين كانوا يساومون الرسول الكريم على أن يعبد آلهتهم سنة، ويعبدوا إلهه سنة، فأرادت قطع هذه المحاولات بأسلوب صارم، وبخطاب حاسم، لا يبقي مجالا لهذه المماحكات.
                      ولهذا آثرت من قديم أن أعبر عن مخالفينا من أهل الأديان الأخرى بعبارة (غير المسلمين). وأصدرت من قديم كتابي (غير المسلمين في المجتمع الإسلامي). وقد طبع مرات ومرات، وترجم إلى عدة لغات.
                      مواطنون بدل أهل الذمة:
                      ومن أكبر الدلائل كذلك على أن منهجي الذي أدعو إليه ـ منهج الإسلام الوسط ـ منهج يدعو إلى إشاعة السلام والحب : أنني أتوقف إزاء بعض الكلمات التي لم تعد مقبولة لدى إخواننا من الأقليات غير المسلمة داخل المجتمع المسلم، مثل الأقباط في مصر، وأمثالهم في البلاد العربية والإسلامية الأخرى، وهي مصطلح (أهل الذمة) مع أن مدلول هذا المصطلح مدلول إيجابي، لأنه يعني: أن لهم ذمة الله ورسوله وجماعة المسلمين. وهذا مدلول له وقعه وتأثيره في نفس المسلم، فإنه لا يقبل أن تخفر ذمة الله ورسوله بحال، ومن فعل ذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
                      ولكن إذا كان مواطنونا من غير المسلمين يتأذون من هذا الاصطلاح، فلا أجد مانعا من استخدام كلمة (المواطنة) و(المواطن) فإن الفقهاء متفقون على أن أهل الذمة من (أهل دار الإسلام) فهم من أهل الدار، وإن لم يكونوا من أهل الملة. و(أهل الدار) تعني بالتعبير العصري: مواطنين.
                      وأسوتنا هنا ما صنعه الفاروق عمر ـ ووافقه الصحابة رضي الله عنهم ـ مع عرب بني تغلب، وكانوا نصارى منذ عهد الجاهلية. وقد طلبوا إلى عمر أن يأخذ ما يأخذه منهم باسم الزكاة أو الصدقة، ولو كان مضاعفا، ولا يأخذه باسم الجزية، وقالوا: إننا قوم عرب، ونأنف من كلمة جزية.
                      تردد عمر في أول الأمر أن يجيبهم إلى طلبهم، ثم نصحه بعض مشيريه أن يستجيب لهم، قائلا: إنهم قوم لهم بأس وقوة، ونخشى أن يلحقوا بالروم، ففكر عمر في الأمر، ورأى أن ينفذ لهم ما أرادوا، وقال: سمّوها ما شئتم، وقال لمن حوله: هؤلاء القوم حمقى، رضوا المعنى وأبَوْا الاسم!
                      التعبير بالأخوة عن العلاقات الإنسانية:
                      ومن أكبر الدلائل أيضا على أن منهجي الذي أدعو إليه ـ منهج الإسلام الوسط ـ منهج يدعو إلى إشاعة السلام والحب :أنني دعوت إلى التعبير بالإخوة عن العلاقة بين البشر كافة، والمراد بها (الإخوة الإنسانية) العامة، على اعتبار أن البشرية كلها أسرة واحدة، تشترك في العبودية لله، والبنوة لآدم، وهذا ما قرره حديث نبوي شريف، خاطب به رسول الإسلام الجموع الحاشدة في حجة الوداع، فكان مما قاله في هذا المقام:
                      "أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأبيض على أسود إلى بالتقوى" . [7]
                      وهذا الحديث يؤكد قول الله تعالى في مطلع سورة النساء: يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان بكم رحيما. والأرحام هنا: تشمل الأرحام الخاصة ، والأرحام العامة ، كما يدل سياق الخطاب القرآني وفي ذلك يقول شاعر مسلم:
                      إذا كان أصلي من تراب فكلها بلادي، وكل العالمين أقاربي!
                      وفي حديث رواه أحمد وأبو داود عن زيد بن أرقم مرفوعا: "اللهم ربنا ورب كل شيء ومليكه: أنا شهيد أن العباد كلهم إخوة".
                      ومن هنا لم أر حرجا في التعبير عن العلاقة بين المسلمين ومواطنيهم من غير المسلمين بـ (الأخوّة).
                      والمراد بها: الأخوة الوطنية أو القومية. فليست (الأخوة الدينية) هي الأخوة الوحيدة التي تصل بين البشر. إنها لا شك أعمق ألوان الأخوة وأوثقها رباطا، ولكنها لا تنفي أن هناك أنواعا أخرى من الأخوات .
                      ودليلنا على ذلك: ما جاء في القرآن الكريم من حديث عن الأنبياء وصلتهم بأقوامهم المكذبين لهم، واعتبار القرآن كل نبي هؤلاء (أخا) لقومه، وإن عصوه وكذبوه وكفروا برسالته.
                      اقرأ معي قول الله تعالى في سورة الشعراء: كذبت قوم نوح المرسلين. إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون. إني لكم رسول أمين… الشعراء : 104 – 107 .
                      فانظر كيف أثبت أخوة نوح لهم، مع أنهم كذبوه، لأنهم قومه، وهو منهم، فهي أخوة قومية لا شك فيها.
                      ومثل ذلك قوله تعالى: كذبت عاد المرسلين. إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون [الشعراء : 123 ، 124] . وقال مثل ذلك عن : صالح ولوط ، ولكنه حين تحدث عن شعيب قال : كذب أصحاب الأيكة المرسلين . إذ قال لهم شعيب : ألا تتقون [الشعراء 176 ، 177] . ولم يقل: أخوهم شعيب ، لأنه لم يكن منهم ، وإنما كان من مدين ، ولذا قال في سورة أخرى : وإلى مدين أخاهم شعيب .. [هود : 84] .
                      ومثل هذه التعبيرات تقرب الآخرين منا، وتزيل الفجوة بيننا وبينهم، وهذا ما يبطل كيد الأعداء المتربصين بنا، والذين يريدون أن يشعلوا فتيل الفتنة بين أبناء الوطن الواحد، ليصطادوا في الماء العكر، ويتخذوا من ذلك ذريعة للتدخل في شؤوننا، والتسلط علينا، والتحكم في رقابنا، وأولى بنا أن نرد كيدهم في نحورهم ، بمثل هذه المواقف التي تجعل قوى الأمة كلها جبهة متراصة في مواجهة مكرهم وعدوانهم.
                      15 ـ هل ترون في السلام العادل حلا وضرورة ؟
                      ج: إذا كان السلام عادلا وشاملا، فأنا أول من يرحب به، فديننا دين السلام، وربنا من أسمائه (السلام) ومن أسمائنا المشهورة (عبد السلام) وتحيتنا في الدنيا والآخرة : السلام.
                      ولكن المشكلة هنا : أن إسرائيل تريد أن تفسر السلام على هواها، وتريد أن تملي شروطها ، وتفرض على الفلسطينيين والعرب ما تريد.
                      إن السلام العادل ـ في حده الأدنى الآن ـ هو الذي يقيم للفلسطينيين دولة مستقلة استقلالا حقيقيا لا صوريا، يملكون أرضها وسماءها ومياهها، ويعرفون حدودها، وعاصمتها القدس.
                      ويضمن حق العودة للاجئين الذين شردتهم إسرائيل في الأرض.
                      ويضمن تعويضا عادلا للفلسطينيين عما لحق بهم من أضرار ، ممن هدمت بيوتهم ، وأحرقت مزارعهم، وأتلفت أشجارهم.
                      إذا طرح هذا السلام بحق، ولم يكن مجرد مناورة وكسب للوقت، على حين تعمل الآلة العسكرية عملها في قتل الفلسطينيين وتدمير بنيتهم التحتية، فأهلا وسهلا به، وقد قال تعالى في شأن المحاربين للمسلمين: وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم. وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله الأنفال: 61،62 .
                      فهنا يغلب حسن النية على سوء الظن، ترغيبا في السلام، وحرصا عليه، واستمساكا به.

                      تعليق


                      • #12
                        حول ائتلاف الخير



                        حول ائتلاف الخير
                        16 ـ بصفتكم رئيسا لائتلاف الخير هل ترون من أهداف الائتلاف : أنه يدعم المقاومة المسلحة ، وحتى ولو كانت مشروعة ؟
                        ج : لا . ليس من أهداف ائتلاف الخير : أن يدعم المقاومة، وإن كنا نراها مشروعة، لأن للمقاومة أهلها، وللعمل الخيري و الإغاثي أهله. وقد حصرنا هدفنا في الجانب الإنساني وحده: أن نطعم الجائع، وأن نكسو العريان، وأن نداوي المريض، وان نؤوي المشرد، وأن نمسح دمعة اليتيم، وأن نأخذ بيد الضعيف ، ونعتبر هذا من أعظم الجهاد في سبيل الله.
                        17 ـ هل ترون من أهداف ائتلاف الخير شراء السلاح ودعم المقاومة ؟
                        ج : لا. نحن نرى شراء الرغيف للجائع مقدم على شراء البندقية للمقاتل. والذين تبرعوا لنا بالمال إنما تبرعوا به لينفق في عمل الخير، فلا يجوز لنا شرعا أن نصرفه في غير ما تبرعوا لنا به، وقد سألني مسؤول كبير في دولة خليجية، وقال لي: أريد أن تجيبني بصراحة: هل أموال ائتلاف الخير تذهب كلها أو جزء منها لحماس؟ فإنا نستطيع أن نساعدكم بالكثير إذا تأكدنا من نفي ذلك. قلت له : أؤكد لك أن فلسا واحدا مما نجمعه لا يذهب لحماس ولا لغيرها من فصائل المقاومة. وهل نحن حمقى إلى هذه الدرجة: أن نجمع أموالا علنا من الناس باسم الخير لنرسلها إلى حماس ؟!!
                        ومع هذا أطلب منكم أن تُعيّنوا أفرادا ثقات من عندكم ، يشرفون على هذا العمل ، ويذهبون إلى داخل فلسطين، ويشاهدون بأعينهم كيف توزع الأموال.
                        18 ـ هل ترون ائتلاف الخير واجهة لأية جهة سياسية أو عسكرية فلسطينية أو غير فلسطينية ؟
                        ج : لا ثم لا. ولن أمل من تكرار (لا) لأنها الحق . والحق يعلو ولا يُعلى .
                        وإنما قلت : لا .لأن " ائتلاف الخير " له أهداف محدودة ومعلومة أعلنا عنها عند إنشائه , وهي :
                        · التنسيق بين المؤسسات الخيرية العاملة لفلسطين بما يعود بالخير والمنفعة على الشعب الفلسطيني.
                        · التخفيف من معاناة وآلام المجتمع الفلسطيني بجميع طبقاته ، وعلى وجه الخصوص الفقراء والعمال العاطلين عن العمل.
                        · الحفاظ على مقدرات الشعب الفلسطيني وإعادة تأهيل البنية التحتية له .
                        · بناء الإنسان المنتج القادر على إعالة نفسه وذويه.
                        · إعادة رسم أولويات العمل الخيري وصياغة فلسفته بناءً على الواقع.
                        وقد وضع الائتلاف شروطا لقبول المشاريع التي كتبناها، وهي:
                        1. أن لا يقبل أي مشروع إلا عن طريق لجنة التنسيق الخاصة بالائتلاف الموجودة داخل فلسطين.
                        2. أن تكون المشاريع ذات طابع إنساني، ترفد الجوانب التعليمية والصحية والتنموية والاجتماعية .
                        3. أن يتماشى المشروع مع الأهداف والخطوط العريضة للائتلاف.
                        · أن تحتوي المشاريع على العناصر التالية :
                        · اسم المشروع .
                        · الجهة المنفذة .
                        · المدة الزمنية .
                        · جدوى المشروع .
                        · أعداد المستفيدين .
                        4. يشترط إرسال تقرير بعد الانتهاء من تنفيذ المشروع يحتوي على الأوراق الثبوتية اللازمة لجميع مراحل تنفيذ المشروع مع الصور .
                        19 ـ هل ائتلاف الخير ملزم لأصحابه في طبيعة المشاريع التي يدعمها أم هو بالخيار ؟
                        ج. لا ، ليس ائتلاف الخير ملزما لأصحابه بشيء إلا ما يقررون اختياره بأنفسهم. فإن أصل الائتلاف إنما هو عمل تنسيقي بين الهيئات والجمعيات الخيرية، والمؤسسات الإغاثية الإنسانية، ولكل واحدة منها أن تقبل هذا المشروع أو ذاك، وأن ترفض هذا المشروع أو ذاك ، وأن تتبنى مشروعا بأكمله أو تساهم فيه، حسب رؤيتها وقدرتها.
                        20 ـ هل لائتلاف الخير أية أعمال غير خيرية أو إنسانية ؟
                        ج : لا . كل عمل ائتلاف الخير محصور في الأعمال الخيرية والإنسانية. وكفى بها مأثرة له. وندعو الله أن يعينه على مهمته الفضيلة.
                        21 ـ هل سبق أن سماحتكم ادعيتم أو قلتم بأن ائتلاف الخير واجهة لحماس ، أو من يدعم حماس ، أو غيرها من المؤسسات ؟
                        ج : لا . وليس يتصور أن أقول هذا، لأنه كذب على الواقع، فائتلاف الخير يخدم أهل فلسطين، لا يستثني أحدا، ولا يحابي أحدا.
                        22 ـ هل ائتلاف الخير يدعم أو يقدم مساعدات لمؤسسات غير خيرية أو إنسانية ؟
                        ج : لا . ثم لا... إن ائتلاف الخير لا يدعم ولا يساعد إلا الأعمال الخيرية والإنسانية، وهو يقدم أعماله علانية في وسط النهار، وليس عنده شيء سري.
                        23 ـ هل ائتلاف الخير مفتوح لجميع المؤسسات الخيرية ؟
                        ج : نعم . وهو يرحب بكل جمعية أو مؤسسة تعمل في المجال الخيري والإنساني، وتريد أن تنضم إليه، فهو يزداد بها قوة إلى قوته ، كما قال الله تعالى : ( سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ)(القصص: من الآية35) .
                        24 ـ هل قمتم بإدانة العمليات الإرهابية ضد مدنيين أو مسالمين أو أبرياء مهما كانت ديانتهم أو جنسهم ؟
                        ج : نعم دنت ذلك وأنكرته مرات كثيرة ، وفي مناسبات شتى:
                        1- دنت خطف الطائرات، وأصدرت فتوى بتحريمها منذ خطف الطائرة الكويتية منذ نحو ثمانية عشر عاما.
                        ودنت خطف الرهائن، بعد ما فعلته جماعة أبو سياف في الفلبين من خطف بعض الغربيين، والتهديد بقتلهم إذا لم يدفع لهم مبلغ معين.
                        ودنت مذبحة الأقصر في صعيد مصر. وخطبت خطبة شهيرة في ذلك ، أذاعتها الفضائية القطرية في حينها .
                        ودنت قتل الرهبان في الجزائر من فعل الجماعة المسلحة.
                        ودنت قتل السياح في جزيرة بالي بإندونيسيا.
                        ودنت قتل التلاميذ الذين حاصرهم الشيشان في مدرسة في روسيا .
                        ودنت قتل النيباليين في العراق.
                        ودنت خطف الرهينتين الفرنسيين ، وطالبت بالإفراج عنهما.
                        ودنت خطف الرهينتين الإيطاليتن ، وطالبت بالإفراج عنهما.
                        وفي أعقاب تفجيرات ( 11 سبتمبر ) دعوت المسلمين للتبرع بالدم لصالح ضحايا البرجين في الولايات المتحدة الأمريكية، ومما قلته : إن تبرع المسلم بالدم والمال وأشكال العون المختلفة هو صدقة محمودة، "وفي كل ذات كبد رطبة أجر".
                        وأكدت أن ما حدث لا يمكن بحال من الأحوال أن يصدر عن مسلم عاقل يلتزم بدينه، ونفيت شرعية مثل هذه العمليات التي تستهدف المدنيين.
                        وأوضحت أن العدوان على الإنسان البريء إثم وجرم وظلم، أيًا كان دين المعتدى عليه، ووطنه وقومه، وأيًا كان المعتدي ، فإن الله لا يحب المعتدين، ولا يحب الظالمين ، والقرآن الكريم يقرر مع غيره: أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا [المائدة : 32] .
                        وبينت أن الانحياز الأمريكي السافر للعدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين وإن كان يشكل نوعاً من الخلل في ميزان العدالة : لا يجيز لنا أن نضرب الأبراج السكنية والتجارية ، ولا الاعتداء على الأبرياء.
                        وأكدت أن فلسطين هي ساحة المواجهة مع العدو الصهيوني، وليست أمريكا ولا أوربا ولا آسيا ولا إفريقيا. وإذا كانت الولايات المتحدة تكيل بمكيالين فإن الإسلام لا ينتهج هذا الأسلوب ويرفضه، كما أننا لا نضمر عداوة للشعب الأمريكي مهما اختلفنا مع نظامه الحاكم".
                        ومما نبهت وأكدت عليه: أنه حتى في حال الحرب والقتال، لم يجز الإسلام قتل من لا يقاتل، من النساء والصبيان والشيوخ، حتى الرهبان المتفرغون للعبادة في صوامعهم لا يقتلون، بل يتركون وما فرغوا أنفسهم له. وأكدت على أن الإسلام لا يتنازل عن مبدأ ألا تزر وازرة وزر أخرى.
                        واعتبرت أن كل إنسان مسئول عن عمله هو، وليس عن عمل غيره، ولا يحمل أحد وزر أحد ، وأن الكتاب والسنة وفقه أئمة المسلمين، وروح الحضارة الإسلامية، ينكر كل الإنكار أي عمل يتسم بالقسوة والوحشية، ويفتقد الإنسانية والأخلاقية.
                        25 ـ ما هو رأي سماحتكم بأحداث 11 سبتمبر ؟ وهل تعتبرونها من الأعمال الإرهابية ضد المسالمين الأبرياء ؟
                        ج : أما رأيي في أحداث 11 سبتمبر فقد أعلنته صراحة ، وبعد الأحداث مباشرة ، بل كان بياني الذي استنكرت فيه العدوان من أوائل البيانات التي أدانت هذا الفعل الإجرامي الوحشي ؛ إن لم يكن أولها .
                        وقد أكدت في هذا البيان على عدة أمور أهمها :
                        1. احترام الإسلام للنفس البشرية .
                        2. أن الأصل في الحرب الإسلامية المشروعة: أن لا يُقتل فيها إلا من يقاتل بالفعل.
                        3. أن قتل آلاف الناس من المدنيين المسالمين الذين لا ذنب لهم، ولا دور لهم في اتخاذ القرار السياسي، يعتبر جريمة كبيرة في نظر الإسلام .
                        4. التحذير ـ أيا كان الفاعل ـ من أن تؤخذ أمةٌ بأسرها بجريمة أفراد محدودين، أو يتهم دين عالمي بأنه دين العنف والإرهاب .
                        5. أن هذا الحادث الفظيع لا يستفيد منه فلسطيني ولا عربي ولا مسلم. بل هو يشوّه صورة الإسلام إذا صدر عن مسلم، ولا يستفيد من هذا العمل غير إسرائيل وحدها .
                        6. دعوة المسلمين في أمريكا أن يسارعوا بأداء واجبهم في إنقاذ المصابين وفي التبرع بالدم، فهو من أعظم الصدقات عند الله، لما فيه من إحياء نفس بشرية .
                        7. دعوة الإدارة الأمريكية لتراجع سياستها الخارجية ، التي أوجدت لها العديد من الأعداء حول العالم، ولتراجع كذلك موقفها المنحاز أبدًا لإسرائيل .
                        26 ـ ما هو رأي سماحتكم بأعمال الخطف للأبرياء المسالمين ؟
                        ج : رأيي في هذا السؤال ـ كما هو الحال في كثير من المسائل السابقة ـ رأي معروف من قديم ، وقد كانت لي فتوى - منذ بضعة عشر عاما- في كتابي " فتاوى معاصرة " تحرم هذه الأعمال التي تتضمن ترويع الآمنين ، وهي بعنوان (خطف الطائرات) وذلك بعد حادثة خطف الطائرة الكويتية، وبقاء ركابها فيها محبوسين ستة عشر يوما، كما قتلوا واحدا أو اثنين من ركابها.
                        والذي أقوله : إن استخدام القوة التي لا تبالي بقتل من يقتل من الناس ولو كانوا مسالمين برآء ، أو تستخدم العنف فيمن ليس بينك وبينه قضية ولا مشكلة إنما هي: وسيلة لإرهاب الآخرين وتخويفهم وإيذائهم بوجه من الوجوه ، وإجبارهم على أن يخضعوا لمطالبك، هذا إرهاب مرفوض مهما كانت عدالة القضية التي يدافع عنها مستخدمو العنف .
                        ويدخل في ذلك: خطف الطائرات ، فليس بين الخاطف وركاب الطائرة عادة أية قضية ، ولا خلاف بينه وبينهم، إنما يتخذهم وسيلة للضغط على جهة معينة؛ مثل: حكومة الطائرة المخطوفة، أو حكومة الركاب المخطوفين؛ لتحقيق مطالب له؛ كإطلاق مساجين أو دفع فدية، أو نحو ذلك، وإلا قتلوا من قتلوا من ركاب الطائرة، أو فجروها بمن فيها.
                        كما يدخل في ذلك احتجاز رهائن لديه، لا يعرفهم ولا يعرفونه ، ولكن يتخذهم وسيلة ضغط لتحقيق مطالبه أو يقتل منهم من يقتل، كما تفعل جماعة أبو سياف في جنوب الفلبين وغيرهم من الجماعات المماثلة.
                        ومن ذلك: قتل السياح في مصر، كما في مذبحة الأقصر؛ لضرب الاقتصاد المصري، للضغط على الحكومة المصرية.
                        ومن ذلك: ما حدث في 11 سبتمبر 2001 في نيويورك وواشنطن، من اختطاف الطائرات المدنية بركابها من المدنيين الذين ليس بينهم وبين خاطفيها مشكلة أو نزاع، واستخدامها (آلة هجوم) وتفجيرها بمن فيها؛ للضغط والتأثير على السياسة الأمريكية.
                        وكذلك ضرب المدنيين البرآء في برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك، وهم أناس ليس بينهم وبين ضاربي البرجين مشكلة، ولا علاقة لهم بصنع القرار السياسي، وكلهم موظفون عاديون في شركات يؤدون عملهم اليومي الذي يعيشون منه، ومنهم مسلمون وغيرهم.
                        وبنيت هذه الفتوى على ثلاثة أمور:
                        الأمر الأول: هو تحريم العدوان على الحياة الإنسانية ، بمعنى أن حياة الناس وحرمات الناس وحريات الناس لا يجوز لأحد أنيعتدي عليها بغير حق.
                        الأمر الثاني : أن الإسلام يقرر بوضوح : المسؤولية الفرديـة لكل شخص كل نفس بما كسبت رهينة [المدثر: 38]. و( لا تزر وازرة وزر أخرى) الأنعام: 164 . وهو يحرم تحميل وزر إنسان لإنسان آخر.. والقرآن الكريم يقول : أم لم ينبأ بما فيصحف موسى وإبراهيم الذي وفَّى ألا تذر وازرةٌ وزر أخرى[النجم: 36 – 38] . وهذا يعني أنه أمر قررتهكتب السماء من عهد إبراهيم إلى موسى إلى محمد ألا تزر وازرةٌ وزر أخرى.
                        الأمر الثالث: هو أن الغاية في الإسلاملا تبرر الوسيلة ، قد يكون لهؤلاء أهداف نبيلة، أو غايات شريفة ، ولكن لا يجوز تحقيق الأهداف النبيلة بوسائل غير نبيلة ، فالإسلام لا يصل إلى الغاية الشريفة إلا بالوسيلةالنظيفة ، لابد من شرف الغاية وطهر الوسيلة معاً، لا يجيز أن يأخذ المرء الرشوة ليبني مسجدا ولذلك قال النبي : " إن الله طيبٌ لا يقبل إلا طيباً " .[1]
                        27 ـ ما هو رأي سماحتكم في عمليات اختطاف المدنيين الأبرياء المسالمين ؟
                        ج : رأيي وضحته كما في إجابة السؤال السابق وهو التحريم المطلق ، وقد كررت مرارا أنه لا يجوز للمسلم أن يخطف الأبرياء الذين ليس لهم علاقة بالحرب .
                        و لما قام مسلحون في العراق باقتحام مقر منظمة أون بونتي بير بغداد (جسر من أجل بغداد) الإنسانية الإيطالية يوم 7-9-2004 واختطفوا امرأتين إيطاليتين تعملان بالمنظمة هما: سيمونا توريتا، وسيمونا باري. قلت وقتها: لا يجوز خطف هاتين الرهينتين، وهما لا ذنب لهما، ولم يقترفا جرما . وأضفت بأنه إذا كانت الحكومة الإيطالية قد أرسلت جنودا من جيشها للعراق، فلا بد أن نذكر موقف الشعب الإيطالي الذي خرج بالملايين ضد الحرب على العراق ، ويجب أن نقدر له هذا الموقف ، وهاتان المرأتان لا تعملان في شيء يتعلق بالحرب، إنهما تعملان في عمل إنساني خيري إغاثي".
                        كما اعترضت أيضا على خطف واعتقال الرهينتين الفرنسيتين ، وطالبت من بادئ الأمر بإطلاق سراحهما .
                        وقد حرص وزير الخارجية الفرنسي ميشيل برنيه على أن يلقاني في القاهرة من أجل ذلك، ورحبت بلقائه، وجلست معه ما يقارب من الساعة. تبادلنا فيها الأحاديث حول علاقة فرنسا بالعالم العربي، وأنها في جملتها علاقة جيدة ، ونوهت باستقلال الموقف الفرنسي عن أمريكا، وتحرره من التبعية لها. وإن كان لنا تحفظ على الموقف الفرنسي في الشأن الداخلي ، ولا سيما في تدخلها في الشأن الديني والشخصي للمسلمين فيما يتعلق بالحجاب، وهو ما يتنافى مع مبدأ العلمانية الليبرالية، التي تقف من الدين موقفا محايدا ، لا معاديا ولا مؤيدا.
                        وقد طلبت في قناة (الجزيرة) المختطفين أن يفكوا أسر الرهينتين الفرنسيين، فقد كانا يعملان في خدمة القضية العربية ، ويكسران احتكار أمريكا للجانب الإعلامي كله.
                        وعندما عاد الوزير الفرنسي إلى باريس : أرسل إليّ كتاب شكر وتقدير.
                        وكذلك فعل وزير الخارجية الإيطالي الذي زارني في بيتي في قطر، وطلب مني أن أتعاون معه في سبيل تحرير الرهينتين الإيطاليتين. وقد فعلت. وأرسل لي سفير إيطاليا في الدوحة يبلغني شكر الوزير وشكر الدولة على موقفي.
                        هذا وقد أصدر الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الذي أتشرف برئاسته فتوى مفصلة في منع اختطاف الرهائن من المدنيين الذين لا علاقة لهم بالحرب، وعند اختطافهم –فرضا- يجب أن نحسن معاملتهم ، وأن يعاملوا معاملة الأسرى، الذين قال الله فيهم : حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء هذا وهم في الأصل محاربون أخذوا من ساحة القتال، فما بالك بهؤلاء الذين لم يقاتلوا ولم يشاركوا في قتال؟!

                        انتهى

                        تعليق

                        يعمل...
                        X