إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

يبحث الشاعر طالب عبدالعزيز في بكائية الأب عن فكرة العود الأبدي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • يبحث الشاعر طالب عبدالعزيز في بكائية الأب عن فكرة العود الأبدي

    طالب عبدالعزيز في بكائية

    الأب يبحث عن فكرة العود الأبدي

    العمر نخلة ومحيّاك مطر








    د. حاتم الصكَر
    حين قدمتُ للشاعر طالب عبدالعزيز (البصرة 1953) ديوانه “تاسوعاء” صنعاء 2003، أشرت إلى أسلوبية مميَّزة في شعره، جعلته بمنجاة من التماثل والتقليد التكراري الذي أصاب نصوصاً كثيرة في قصيدة النثر المعاصرة، تلك الميزة هي استمداده من التاريخ غير الرسمي، مقرونا بالمكان الذي غالبا ما يكون البصرة التي ولد وعاش في واحدة من اكثر أمكنتها احتشادا بغابات النخيل والجداول والأنهر الصغيرة هي (أبوالخصيب) حتى غدت قاموسا يحيل إلى مفرداته وصوره وإيقاعاته.
    يقرن طالب عبدالعزيز المكان بالزمن العابر فيه، ويتمثل شخصياته ويهجس بوقائعه، ولكن من خلال ذلك الهامش الذي لا ينصت له المؤرخون، ويتلقف نبضَه الشعراء وساردو الأمكنة المتحولة، ويعزز قطبيْ الزمان والمكان بلغة تتصاعد هادئة واصفة؛ لتتوهج من بعد وتحتوي تفاصيل النص بصور وإيقاعات ترتقي إلى ما أسميته: طباق الباطن والظاهر، والبهجة والألم، والطبيعة والإنسان؛ فتندمج كلها لتؤلف ما يشبه معزوفة متعددة الدرجات لكنها موحدة المركز.
    مرجعيات القصيدة


    من “تاريخ الأسى” ديوانه الأول و”تاسوعاء” وبينهما “ما لا يفضحه السراج” ثم نصوصه الأخيرة ستتجلى تلك النزعة المتشبثة بالمكان، والباحثة عما يؤثثه من مكملات تناسب السياق المهيمن على نصوص الشاعر والمتقدم لصدارة النص، كما يحتل بؤرته منتشرا إلى أطرافه.
    تلك الشعرية متنوعة المراجع: ريفية ـ بالنخيل وثقافته ومسمياته ـ والمكان وزمانه وشخصياته ولغته، لكنها تتآزر كلها لصنع قصيدة نثر فيها من بطاقات المعنى وشفرات الدلالة ما لايتركها معمّاة، أو مطلقة في فضاء عالٍ من اللغة المجردة غير المتعيّنة.
    وبهذا كانت انشغالات طالب عبدالعزيز ذات خصوصية انتبهتْ إليها القراءات النقدية، ونوهتْ بهويّة نصيّة وعلامة فارقة تسم شعره، وتتجلى في قصائده، يؤكدها بالنزعة السردية لديه انسجاما مع تاريخية خطابه وامكانياته، وكثرة الانزياحات التي تبدأ من قاموس يوصف بأنه نخلي أو شجري عام؛ ليستولد من بعد صوراً تبقي التلقي في دائرة الإيهام والإمكان لا التحقق الناجز، كقوله مثلا مستعرضا عراقة السوق وشعبيته بلقطات مجمعة ومنضمة لبعضها في قصيدة “سوق عثمان” وهو من أسواق البصرة القديمة.
    (سور من عبيد وآس لم تثلمه الدهور/ ورائحة انبثاق الشمس في المحاريب/ ورد بلاعطر، لكنك تشم رائحة الفتنة/ في ايدي الصبايا اللواتي يدرن به/ عند تمام الماء/ يقتعد بائع الشِباك خاصرة النخل/ وقد التحف برداء الآخرة/ رجل لا يبعد عن قبره ليلتين). فالمسافة بين الرجل وقبره قيست بالزمن: ليلتين، وصار للنخل خاصرة كالأحياء ـ كثيرا ما قدم طالب النخل حياً يحس ويحب ويتألم ـ وجعل هنا للورد رائحة الفتنة، كما انبثاق الشمس في مكان روحي، لذا يبدو البائع ملتحفاً برداء جاهز للموت.. قريباً من قبره، ومفارقة الصورة هنا أن هذا الرجل بثياب الآخرة أمسى صيداً لشِباك الموت، مع أنه يعمل بائعا لشِباك الصيد في السوق الذي يرد موازيا للحياة.
    غياب وحضور
    يرثي الشعراء سواهم. ويتفننون في نسبة المزايا والأوصاف لهم كي يشركونا في الألم والأسف لفقدهم. لكن الأب يحتل في المراثي مكانة خاصة.الحزن عليه يرتبط بالوفاء له والانتماء الذي يهتز بواقعة الموت. تظل منه في البيت الروائح والذكريات، وفي المخيلة صورته التي يحف بها التكوين والنشأة والحياة بتفاصيلها، يغدو رمزا لا تنطمس صورته ولا تبتعد حتى لحظة مراجعتها في الكبر والهرم.
    يختار طالب عبدالعزيز لمرثية أبيه عنوانا مباشرا مكثفا، يكتفي باسمه فحسب: عبدالعزيز، فكأنه يراجع صورته إنساناً لا أباً، ويحذف بسبب ذلك حضور ذاته ـ ذات الشاعر ـ كإبن؛ لينصرف لتقديم الأب فقيداً تستحق سيرته أن تُستعاد لمناسبة غيابه. هذا التبسط والقرب من الأب شخصا تحيل إلى اهتمام الشاعر بإنسان ريفه الذي ينتمي إليه، ويمده بخصوصيته عبر استرجاع تاريخه، وحين نعاين المفتتح نتعرف على موقع الشاعر في سرد ما اختار من وقائع، فهو خارج المحتوى السردي، مكتفٍ بالمخاطبة وإسناد الفعل للاب.
    العبيد والفلاحون، القارب والحقل، المكان ـ أبو الخصيب، هي الشفرات الأولى التي نتسلمها لنحدد السياق الذي وضع فيه الشاعر أباه وراح يخاطبه. وهي مفردات سياقية لا تخرج عن مألوف طالب وقاموسه النخلي، لذا سيكون حتى مديح الأب وذِكر سجاياه مقترنا بالنخل: كثير الفسيل أنت. ويقترح عليه ألّا يأخذ من الماء إلا ما يأخذه فسيل نخلة صغير، مادام شط العرب ـ وقد اتخذ هيئة إنسان ـ يمسّي الميت ويغمره بالماء. وهنا استرجاع لطقس عربي قديم يرد في المراثي، وهو الدعاء بالسقيا لقبر الميت.
    يدخل المرثي في لعبة الإيهام والإمكان الخيالي التي يتخذها طالب عبدالعزيز لتعيين الأمكنة او رسم الشخصيات لتأخذ بعدا روحيا، فنجد الأب فقيرا ثريا، ميتا لكنه مدعو للعودة إلى البيت حيث تنتظره سعفات خضر على الباب، عرشه على اليابسة هو كوخه المجدول من جريد النخل، وحضوره الخرافي سيقترن بحضور الأطياف والأرواح، يذرع الحياة بعيدا عن الموت، وكصوفي دائم الحضور وشاسع، تقتسمه الفيافي، وتتوزعه الدهور.
    لقد وجد طالب عبدالعزيز في واقعة غياب الأب فرصة لتطوير فكرة العود الأبدي؛ لتغدو حضورا أقل فضائية، فيقترح عودة الأب لبيته وحقله وذريته، كائناته التي امتلكها خرافية أيضا تقع في دائرة الإيهام، كصورة الماء الذي يمتلكه في كرخ البصرة: فحدوده تنزاح عن الخريطة والتجسم الأرضي، فيكون واقعا في مكان أوله الفجر ـ زمنا ـ وآخره بين قدميه ـ مكانا.
    ولا تكون واقعة الموت نهائية مادام للغائب قدرة الحضور، لذا تقترن بالبهجة فالمرثي تتراخى عنه المنيّة، وكأنها أمسكت به فتخلص منها عائدا للحياة، ولكن مثل كائن نوراني تحف به الطبيعة التي تحددت بالنخل وتنويعات لوازمه: عرشه كوخ من الجريد، ولحزنه حديقة، له سعف وصفصاف، ولصمته شجرة، ولبهجته أفق من العشب، اما سنوات عمره فهي متسعة لحضوره لا يحددها الرحيل الجسدي؛ فتتشبه ممثلة بنخلة لا تنتهي ذؤاباتها في السماء.
    في الختام يتسلم المرثي دعاء: أن يكون وقته ـ زمنه القادم في رحلته ـ آساً، وان يكون محيّاه مطرا يسقي ذلك الزمن الموهوب عطاء لأب ما كانت أحلامه يسيرة أو متيسرة، تورق ولكن في صخر صلد، وكهولته دأب على تقليمها مثل كَرْم مورق، ويبدو أن الشاعر أحب الصورة التي مثل بها لمهمة تقليم شجر الكهولة، كتشذيب لزوائدها واستمرارا في الحياة برغمها، فهي ترد بنصّها في قصيدة أخرى له هي “سجيّة” (أقلّم كرْم الكهولة)، كما يعيد ترتيب صورة بائع الشباك، الشخص المنتظر موته والذي صادفناه في “سوق عثمان” ليقرنه بالأب في قصيدة “عبدالعزيز” (ألبستَ نفسك ثوب الرحيل)، فهل كان الشخصان واحدا، يخرجان من مخيلة الشاعر او يلتقط صورتهما ليقرنها في كائن واحد متكرر؟
    السرد والإيهام
    تجتمع في القصيدة أدوات كثيرة اهتم بها الشاعر مبكرا، ومنها إكساء قصيدة النثر بسرد متوازن لا يحجب الشعر فيها، فاختار الشخصية باسمها، ووضع لها أبعادا نفسية وجسدية وتاريخية واجتماعية، فعرفنا عمله ومرتبته الطبقية وسجاياه، ودلنا على مكانه ومحيطه، وأزمنة حياته وماضيه، كما اختار أن يكون ساردا خارجيا يكتفي بالمخاطبة لإنجاز أفعال السرد، وقدّم مثالا لتصاعد الشعور من التقرير بذكر واقع الشخصية تصاعدا إلى روحانيتها وشمولية حضورها وامتدادها بعد الغياب. وهو شبيه بما فعله في مرثية سابقة لأخ فقده في الحرب، فاستدار لرثائه بدءا من سياق موته: الحرب. فعنون المرثية “حرب أخي” وكانت له فيها معالجات قريبة من مرثية الأب هذه، لكنها تقترب من رثاء جلجامش لأنكيدو في الملحمة الخالدة، وفي كسرات معينة تؤطر الرثاء وتندب شابا أكلت الحرب عمره وأحلامه وظل الحقل والنخل والماء وأشياء الحياة والأسرة بانتظاره. ويقدم فيها انزياحات مشابهة تزاوج المكان بالزمن مثل (المسافة بين حياتك وموتك ستة أطفال).
    * أبو الخصيب: قضاء جنوب البصرة حيث يقيم الشاعر، دجلة العوراء: من أسماء شط العرب، رحبة بني مازن: من أخماس البصرة القديمة.
    عبدالعزيز
    العبيد يصلحون قاربك
    وفلاحون من (أبي الخصيب)
    يحرثون لك الأفق
    ..نهر ينزع من دجلة العوراء
    يمسّيك كل ليلة
    فلا تأخذْ من الماء
    أكثر مما يأخذه فسيلٌ منسيّ
    وحين يبعدك الفجر قليلا
    اجعل البنفسج على يمينك
    والرحبة (رحبة بني مازن)
    تحت شِلوك الحي
    وتعال:
    هذه أفنية السرور
    فضَّ غضارتَها الماء
    وهذه المنيّة تراخت عنك
    سبع سعفات خضر على الباب
    يومئن لك أن ادخل
    لتطلع المشارق على سباخك وبحرك
    كثيرُ الفسيل أنت
    وها قد ملأتَ خاصرةَ الأرض ذكورا
    ولكَ في كرخ البصرة ماء
    أوّلهُ الفجر
    وآخرهُ تحت قدميك
    لكأنك تذرع الحياة
    بعيدا عن الموت
    تقترح آساَ لحديقة حزنك
    قلَّمت كرْم الكهولة
    وألبستَ نفسك ثوب الرحيل
    ومثل شطآن منخورة قصيّة
    خلصتَ إلى الشجن
    جلبابك القديم..
    آويتَ فوانيس غربتك
    وانطبقتَ على أفراحها
    حتى وأنت تموت
    ينعم فتيلها في دنِّ قلبك
    أفق لبهجتك العشب
    وسماءٌ تتقلب في زرقتها لياليك
    كوخُك الجريد عرشُك على اليابسة
    كلابك مذعورة
    وأبناؤك نيام
    لكأنّ العمر نخلة لا تنتهي في السماء
    ليكنْ وقتك آساً
    ليكن محيّاكَ مطراً

  • #2
    رد: يبحث الشاعر طالب عبدالعزيز في بكائية الأب عن فكرة العود الأبدي

    تسلم الأيادي ويليام...

    تقرير رائع و يستحق القراءة...

    يسعد أوقاتك...

    تعليق

    يعمل...
    X