إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

الأبعاد الفكريّة والعلميّة -التقنيّة للصراع العربي الصهيوني

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الأبعاد الفكريّة والعلميّة -التقنيّة للصراع العربي الصهيوني

    الأبعاد الفكريّة والعلميّة -التقنيّة للصراع العربي -الصهيوني

    - د.خلف محمد الجراد-

    دراسة - من منشورات اتحاد الكتّاب العرب دمشق - 2000
    مقدمة
    الفصل الأول المرتكزات العنصريّة للفكر الصهيوني، وتجلياتها الإرهابيّة
    * الاستيطان الصهيوني ونظرية "أرض بلا شعب" العنصرية
    الفصل الثاني: مراكز الأبحاث والمؤسّسات العاملة في خدمة التطبيع والاستراتيجية الصهيونية
    <A href="http://www.awu-dam.org/book/00/study00/4-H-J/book00-sd005.htm">إضافة إلى مئات من المحاضرات والملتقيات والندوات، التي تدور في إطار هذه الخطّة الاستراتيجية الصهيونية، الرامية إلى تهويد تاريخ مصر وثقافتها وحضارتها، وترسيخ المزاعم الصهيونية، التي تحاول إقناع العالم "بدور اليهود... وتأثيرهم‏
    الفصل الثالث: الأمن القومي العربي والتحدّي العلمي - التقني(*)
    الفصل الرابع : الخيار النووي، وبناء قاعدة عربيّة للبحث العلمي والتكنولوجيا(*)
    ونشير أيضاً إلى الدور الهام الذي تقوم به "وكالة الفضاء الإسرائيلية". إذ أن إسرائيل هي البلد الثامن في العالم الذي طوّر قمره الاصطناعي الخاص، وأطلقه إلى الفضاء بوساطة منصة إطلاق أقمار اصطناعية إسرائيلية(37). فالبُنى التحتية‏

    إذا الشعب يوما أراد الحياة
    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

  • #2
    رد: الأبعاد الفكريّة والعلميّة -التقنيّة للصراع العربي الصهيوني

    مقدمة
    قامت إسرائيل على العنصرية والاستيطان والإرهاب والإجلاء، واعتمدت في إنشائها وصيرورتها وتوسّعها وعدوانيتها على الدعم المباشر والمطلق من العالم الغربي عامّة والقوى الكبرى خاصّة. ولذلك فهي مُرتبطة عضويّاً واستراتيجياً راهناً ومصيراً بمصالح تلك الدول والقوى العالميّة. وقد يكفي هنا التذكير بآخر خطاب للسيّد ساندي بيرغر مستشار الرئيس الأمريكي للأمن القومي (الذي ألقاه في الحادي والعشرين من تشرين الأول /أكتوبر 1999 في "منبر السياسة الإسرائيلية" في واشنطن) حول الأهمية الاستراتيجية الكبرى لمنطقة الشرق الأوسط، والذي قال فيه بالحرف الواحد: "الشرق الأوسط هو أيضاً موطن إسرائيل، وهي من أقرب حلفائنا إلينا، ودولة تربطنا بها علاقة خاصّة تضرب بجذورها في التاريخ، وتتميز بمصالح مشتركة وتدعمها قيم مشتركة بيننا. إنّ حماية أمن إسرائيل هو بمثابة "حماية أمننا نحن".‏
    وتشكيل العقدة الصهيونية بتيّاراتها وألوانها المختلفة، كالصهيونيّة الروحيّة، الصهيونية العمليّة، الصهيونيّة العمّالية، الصهيونيّة التوفيقيّة، الصهيونية التنقيحية، الصهيونية الدينيّة، الصهيونية الكولونياليّة، الصهيونيّة الإصلاحيّة والصهيونيّة السياسيّة.. الخ، تشكّل الأبعاد الفكرية- الثقافية والتاريخيّة الزائفة، أو الخلفية النظريّة والقاعدة الارتكازية لإسرائيل‏
    (أو "الأساطير المؤسّسة للسياسة الإسرائيلية") تبعاً لتسمية المفكّر الفرنسي روجيه غارودي).‏
    وقد كرسنا الفصل الأول من هذا الكتاب لتتبّع نشوء التيارات والاتجاهات الصهيونية، وأبرز مُنّظّريها و"آبائها الروحيّين" ودُعاتها، والأفكار والمكوّنات الفلسفيّة -اللاّهوتية الناظمة لأنشطتها وتحرّكاتها وأساليبها، بما في ذلك تنظيماتها وأعمالها الإرهابية ضد القرى والبلدات والمدنيّين الآمنين من عرب فلسطين، والتي نفّذتها بوحشية غير مسبوقة جماعات "الأرغون" وعصابات "الهاغاناه" و"شتيرن" حيث تفاخر بها قادتهم وزعماؤهم المعاصرون، مثل: بيغن وشامير وغولدامائير ودايان ورابين وغيرهم. مُظهرين التأثيرات الفكريّة للعنصريّة الصهيونيّة في تكوّن أنماط محدّدة من الشخصية العدوانية الإسرائيلية، التي تتسّم (وفق دراسات وأبحاث ميدانية أشرنا إلى مصادرها ونتائجها) بجملة من المآزق النفسيّة والاجتماعية والعصبيّة والأخلاقيّة، كمفرزات سلوكيّة للحركة الصهيونيّة، و"التربية" الإسرائيلية العدوانية على مدى حوالي قرن من الزمن. وهو ما دفع الباحث الأمريكي (اليهودي) باري بلخمان لوصف "الانتقامات الإسرائيلية بأنها "سلوك قومي إسرائيلي".‏
    ولكن في المقابل بدأت في إسرائيل (بعد اتفاقات كامب ديفيد) تتبلور حركة جديدة للتغلغل السلمي (ثقافياً وعلمياً) في الجسد العربي، ضمن استراتيجية مدروسة لزعزعة ثوابت الوجدان القومي ومكوّنات الذاكرة الجماعيّة لأمّتنا، بغية هزّ قناعات الأجيال الجديدة، واختراق المرتكزات والقناعات التاريخية والدينية والقومية والحضارية لهذه الأجيال، ومن ثم تحطيم إرادتها في البقاء والوجود المستقل، تمهيداً للإجهاز النهائي على هويّتها وشخصيّتها ومستقبلها برمّته، فقامت بالتخطيط والتنفيذ الدقيق والمبرمج مجموعة كبيرة من مراكز البحوث العلميّة والمعاهد والهيئات والجامعات الإسرائيلية في البلدان العربية، التي وقعت اتفاقات سلام مع إسرائيل. وقد تحدّث الفصل الثاني حول الأنشطة التجسسيّة والتخريبية لمراكز الأبحاث والمؤسّسات الإسرائيلية، خدمة للتطبيع والاستراتيجية الصهيونية. حيث تناولنا بالتفصيل واستناداً إلى أدقّ الوثائق والمصادر ما قامت وتقوم به الهيئات والمؤسّسات الأكاديمية‏
    الإسرائيلية، "كالمركز اليهودي- العربي في جامعة حيفا"، و"معهد العلاقات الإنسانية" (في جامعة حيفا)، و"قسم الدراسات الإسلامية والشرق أوسطية في الجامعة العبرية" ومركز يافي للدراسات الاستراتيجية في جامعة تل أبيب" و"المركز الدولي للسلام في الشرق الأوسط" و"المركز الأكاديمي الإسرائيلي بالقاهرة" وغيرها من المراكز والمؤسّسات البحثيّة -الاستخبارية الإسرائيلية.‏
    والحقيقة فإنّ هذه الدراسة من حيث مصادرها ومراجعها وتوثيقها وأهدافها، وكذلك استنتاجاتها تتقاطع مع عدد من المؤلّفات الجادّة والنادرة، التي نشرها باحثون عرب نعتزّ بوطنيتهم وغيرتهم وعلمهم وموضوعيتهم.. ونخصّ منهم في هذا المجال: الأستاذ مدحت أبو بكر وكتابه "محاولات تهويد الإنسان المصري" (مصر العربيّة للنشر والتوزيع، 1987)، والأستاذ عرفة عبده علي وكتابه "تهويد عقل مصر" (دار سينا للنشر، 1989)، والدكتور رفعت سيّد أحمد وكتابه الهام "علماء وجواسيس: التغلغل الأمريكي- الإسرائيلي في مصر"، وكتابه الوثائقي للملفّات السريّة "للمركز الأكاديمي الإسرائيلي بالقاهرة" والصادر تحت عنوان "وكر الجواسيس في مصر المحروسة" (القاهرة: مكتبة مدبولي، 1995)، وغير ذلك من مصادر أشارت إليها الدراسة بالتفصيل.‏
    أما الفصل الثالث فنناقش فيه تأثيرات التحدّي العلمي - التقني على الأمن القومي العربي، التي توظّفها إسرائيل في سياق استراتيجيتها العدوانيّة التوسّعية الشاملة في هذه المنطقة وما يتاخمها من أقاليم وبلدان ومناطق.‏
    وقد توقّفت الدراسة عند تحليل الأرقام والإحصاءات المتصلة بمراكز الأبحاث والتطوير، وأعداد الباحثين وتخصّصاتهم وإنتاجهم العلمي في البلدان العربية، مع مقارنتها بالأرقام العالمية والإسرائيلية على وجه التحديد. كما عرّجنا على مسألة في غاية الأهمية والخطورة، وتتمثّل في هجرة الأدمغة العربية، وما يقابلها من استقطاب إسرائيلي لأعداد ضخمة من الكفاءات والخبراء وأفضل الباحثين في العالم، ولا سيّما من دول وجمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق. وحاولت الدراسة تقديم تصوّرات واقعية لمواجهة المخاطر والتحدّيات التي تواجه أمننا القومي في المجال العلمي- التقني.‏
    أمّا الفصل الرابع والأخير فقد كرّس لمناقشة مسألة الخيار النووي، وبناء قاعدة عربية للبحث العلمي والتكنولوجيا. حيث استعرضنا عدداً من الآراء والاتجاهات العربيّة فيما يخصّ مسألة الخيار النووي. والتي يجمع معظمها على أنّ أمننا القومي لا يتحقق إلاّ عن طريق امتلاك القوّة الذاتية الرادعة، مع العمل الحثيث على نزع أسلحة الدمار الشامل من المنطقة. وإذا كنّا مع الاتجاه القائل بأنّ الاعتماد على الذات هو خيار استراتيجي لا نملك التخلّي عنه، إلا أنّنا في الوقت نفسه قمنا (في هذا الفصل) بتحليل واقعي وتفصيلي (استناداً إلى أحداث الأرقام والمعطيات المتوافرة) للقدرات الإسرائيلية والعربية، المستخدمة في ميدان العلم والتكنولوجيا. وفي هذا السياق جرى استعراض للمراحل والتطوّرات التي مرّت بها مؤسّسات الأبحاث الإسرائيلية بدءاً من عشرينيات هذا القرن (قبل قيام الدولة الصهيونية بأكثر من ربع قرن) وصولاً إلى الوضع الحالي، الذي يتميزّ بامتلاك إسرائيل للأسلحة النووية، والأسلحة الصاروخيّة. البالستية وأقمار التجسّس وأبحاث الفضاء، والصناعات الإلكترونية المعقدة وعالية التقانة. كما قدّمت الدراسة آخر الإحصاءات المتعلّقة بنفقات إسرائيل على البحث العلمي والتطوير في المجالات المختلفة، ومقارنة ذلك كلّه بما تخصّصه الأقطار العربية في هذا الميدان. ويتبيّن لنا من خلال هذه المقارنات حجم التحدّيات، التي سوف يحملها لنا القرن المقبل في حال تحقّق السلام مع إسرائيل. فالمواجهة العلميّة- التكنولوجية والاقتصادية لزمن السلم قد تكون أصعب بكثير من المواجهة في زمن الحرب. وإنه للوصول إلى هذه الغاية، لا بدّ من مراجعة شاملة وجدّية لإمكاناتنا وقدراتنا المبعثرة حالياً، والمفتقرة إلى التجميع والتنظيم العقلاني والتخطيط العلمي، والرؤية الاستراتيجية المستقبلية لأهمية وخطورة الأبعاد الفكريّة -الثقافية.. والعلميّة- التقنيّة في صراعنا المستمر مع الصهيونيّة وتجلّياتها العدوانيّة الإسرائيليّة.‏
    علماً أنه لا يمكن لأي صورة من الصور تحقيق الأمن الوطني الكامل لأية دولة عربيّة بمعزل عن الأمن القومي للدول العربية الأخرى.‏
    فلا خلاص لقطر عربي مهما كانت قوّته الاقتصادية أو العسكرية أو العلميّة بمعزل عن الأقطار الأخرى، وإن بلغ دخله السنوي مئات المليارات. لأنّ إقامة البُنية الاجتماعيّة -الاقتصادية والعلميّة والحضارية تحتاج إلى معونة وجهود وطاقات العرب كلّهم، الذين يشكّلون قوّة متكاملة -وإن كانت غير متحقّقة حالياً -ذات أبعاد جيو- استراتيجية شامية إقليمياً ودولياً وإنّ إعادة الاعتبار للعمل العربي المشترك (في المجالات كافة) من شأنه تمهيد الطريق لنهضة عربيّة كبيرة في الميادين الاقتصادية والعلميّة والتقنيّة، وبذلك نواجه التحدّيات العلميّة والعسكرية والتقنية الإسرائيلية كجزء من صراعنا الوجودي الشامل.‏
    دمشق: أوائل تشرين الثاني/ نوفمبر 1999‏
    خلف الجراد‏

    إذا الشعب يوما أراد الحياة
    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

    تعليق


    • #3
      رد: الأبعاد الفكريّة والعلميّة -التقنيّة للصراع العربي الصهيوني

      الفصل الأول المرتكزات العنصريّة للفكر الصهيوني، وتجلياتها الإرهابيّة
      الصهيونية دعوة وحركة عنصرية - دينية استيطانية إجلائية، مرتبطة نشأة وواقعاً ومصيراً بالإمبريالية العالمية، تطالب بإعادة توطين اليهود وتجميعهم وإقامة دولة خاصة بهم في فلسطين بواسطة الهجرة والغزو والعنف كحلّ "للمسألة اليهودية".‏
      والكلمة نسبة إلى صهيون، اشتقها ناتان برنباوم (1890) ليصف بها تحوّل تعلّق اليهود بجبل صهيون وأرض فلسطين من البُعد الديني "الماشيحاني" القديم إلى برنامج سياسي استعماري إقليمي يستهدف "عودة الشعب اليهودي" إلى فلسطين.‏
      تأثر العديد من المفكرين اليهود بالنزعة القومية العنصرية التوسعية التي سادت أوروبا في القرن التاسع عشر، مثل هيرش كالبشر (1795-1874) في كتابه "البحث عن صهيون" وموسى هس (1812-1875) في كتابه "روما والقدس" وليوبينسكر (1821-1891) في كتابه "التحرير الذاتي" وتيودور هرتزل (1860-1904) في كتابه "الدولة اليهودية".‏
      لا يدخل في عداد هذا البحث التأريخ للحركة الصهيونية وإنما تسليط الضوء على المرتكزات والمكوّنات العنصرية- العقيدية للفكر الصهيوني، والممارسات الإرهابية التي تستقي مفرداتها وأساليبها من تلك المنابع، أو المتفرعة عنها، كنماذج من شأنها إبراز الطبيعة العدوانية- الفاشية لهذه الأيديولوجيا (1)، وخطورة أعمالها وسياساتها الاستيطانية، الإحلالية -الحاقدة، ليس على الشعب العربي وحسب، بل على شعوب كثيرة في العالم. فالصهيونية بدلاً من أن تحلّ ما سُمّي بـ "المشكلة اليهودية" خلقت ما يمكن تسميته "المسألة الإسرائيلية"، التي أصبحت تشكّل عبئاً ماديّاً ومعنوياً ونفسياً كبيراً على اليهود. ونشير في هذا السياق إلى قرار الأمم المتحدة الصادر في العاشر من تشرين الثاني 1975 باعتبار الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية والتمييز العنصري، وضرورة معاملتها العالمية"، ودعا في نهاية السبعينيات إلى التخلّي عن الصهيونية كحلّ للمشكلة الإسرائيلية(2).‏
      فالصهيونية أكثر من قضية سياسية أو ثقافية، إنّها أيديولوجية استغلت الأفكار الدينية، الأفكار الراسخة في العقل الجمعي والمخيال العام لليهود، ومن السهل تحريكهم عن طريق ذلك الموروث. حيث ثبت عملياً أنّ القوى الصهيونية بتياراتها وفرقها المختلفة أدركت أهمية العقيدة الدينية، واستثمرت عناصرها لأبعد الحدود. فالدين هنا يساهم في تدعيم البنية الروحية -الذهنية لعامة الناس، وأداة لخدمة الاستراتيجية الصهيونية الشاملة.‏
      وعند صدور قرار الأمم المتحدة، الذي يدين الصهيونية بوصفها شكلاً من أشكال العنصرية، هبّ زعماء اليهود في مختلف أنحاء العالم لمجابهته، مدّعين بأنه "إعلان للحرب من جانب الأمم المتحدة على الشعب اليهودي واليهودية".‏
      وممّا قالوه فيه: "إنه ليس موجّهاً ضدّ الصهيونية وحدها. إنه موجّه ضد الشعب اليهودي، ضد اليهودية، لأنه ليس هناك من فرق بين الصهيونية وبين اليهودية"(3).‏
      فالواقع أنّ اليهود بغالبيتهم يعتقدون، كما يقول الكاتب اليهودي المعروف نعوم تشومسكي، بأنه "لا يمكن أن تكون هناك أمّة، أو دولة إسرائيل، بمعزل عن الشعب اليهودي. لأن الشعب اليهودي يتألف من اليهود المقيمين في إسرائيل، ومن يهود المنفى أيضاً"(4).‏
      ونشر المؤتمر اليهود الأميركي إعلاناً في صحيفة "نيويورك تايمز"، تضمّن عبارات من مثل: "نحن فخورون بأننا يهود. نحن فخورون بأننا صهيونيون"(5).‏
      ثم عقد مؤتمر "مؤتمر أورشليم لوحدة الشعب اليهودي" يوم 3/12/1975 في "الكنيست الإسرائيلي"، شارك فيه 170 من زعماء اليهود في العالم، ألقى فيه رئيس "دولة إسرائيل" أفرايم كاتسير، كلمة قال فيها: "إنّ هذا المؤتمر يشكّل رمزاً لوحدة إسرائيل واليهود والصهيونية"(6).‏
      وقبل ثلاثة عقود كان الحاخام يهودا ماغنس (7) قد أشار إلى هذه الوحدة في معرض تعليقه على جرائم الإرهابيين الصهاينة في الأيام الأولى من عمر الكيان الصهيوني، بقوله: "من السهل طبعاً أن نتهم الصهيونيين الإرهابيين بأنهم وحدهم المسؤولون عن هذه الجرائم الوحشية التي ارتكبت في الأرض المقدّسة. ولكن من هو المسؤول عن هؤلاء الإرهابيين؟ إنّ كلّ يهودي منّا يحمل نصيباً من المسؤولية. فمن السهل أن يتبرّأ كل يهودي من الصهيونية عند اللزوم، لكن كل يهودي في الواقع يُعَدّ مسؤولاً عن وجود الصهيونية نفسها". وأضاف ماغنس: "كيف نعفي من المسؤولية اليهود الذين يشتركون في خمسة آلاف جمعية يهودية في الولايات المتحدة، وكلّها تجمع التبرعات لإسرائيل؟ كيف نعفي من المسؤولية يهود العالم الذي لا يقولون كلمة واحدة ضد الصهيونية، ولا يبذلون أي مجهود حقيقي لمحاربتها؟ وأنهى تعليقه بقوله: "إنّ اليهودي الصهيوني، واليهودي الذي يسكت عن الصهيونية، هما شيء واحد، أشبه ما يكون بالعملة النقدية ذات الوجهين"(8).‏
      وبرأي بن غوريون، فإن "الصهيوني هو اليهودي الذي يحسّ ويعترف بأنه يعيش في منفى، إذا كان من مواطني أي بلد غير إسرائيل، ولذلك يقرّر العودة إلى جبل صهيون" (9).‏
      والواقع أنّ كلّ يهودي أو غير يهودي يؤمن بضرورة استمرار وجود "دولة إسرائيل"، ويساعدها بأي شكل من أشكال المساعدة، هو صهيوني، حتى وإن بقي في بلده: انجليزياً كان أم فرنسياً أم ألمانياً أم أمريكياً.. الخ.‏
      كما أنّ هناك ترابطاً عضوياً لا تنفصم عراه بين كلّ من اليهود والصهيونيّة وإسرائيل. فاليهود يعدّون أنّ كلّ يهودي في العالم هو جزء منهم، وأن لا فرق من الناحية القومية، بين اليهود الذين يعيشون في إسرائيل، وبين اليهود في أمريكا أو روسيا مثلاً، فالدين اليهودي بالنسبة إليهم يُعَدّ عنصراً أساسياً في القومية، خلافاً لكلّ النظريات والدراسات والأبحاث، التي أجمع عليها العالم كلّه في هذا السياق.‏
      والصهيونية تهدف إلى تطبيق التعاليم اليهودية، وتلتزم بالطابع الديني للدولة اليهودية، وتؤمن عموماً بأنّ الدين هو الدافع الأول لخلق الدولة اليهودية.‏
      فالدين في نظر المفكرين اليهود والصهاينة، "هو الأساس الذي تقوم عليه الأيديولوجية أو القومية اليهودية" (10) كما يقول البروفسور إسرائيل شاحاك- وهو القاسم المشترك بين اليهود، الذين يضمن "نقاءهم العنصري وولاءهم القومي" الأمر الذي عبّر عنه البروفسور يعقوب تالمون، أستاذ التاريخ في الجامعة العبرية، بقوله: "إنّ الكنيس اليهودي هو وحده محور الهويّة الذاتية في دول الغرب" (11).‏
      وإسرائيل تربط كيانها السياسي بالدين، وتجعل من الدين أساساً لوجودها وحجّة في اغتصاب الأرض ومن ثم استملاكها. فقد حُدّدت أهداف الدولة في "إعلان الاستقلال" بما يلي:‏
      "دولة إسرائيل ستكون مفتوحة أمام الهجرة اليهودية ولجمع الشتات وستعمل على تطوير البلاد لصالح كافة سكانها". كما جاء في البند الأول من "قانون العودة" لسنة 1950 ما يلي: "يحقّ لكلّ يهودي أن يهاجر إلى إسرائيل وأن يستقرّ بها". فالهدف الرئيس من إقامة إسرائيل هو جعلها دولة لليهود المقيمين فيها أو في أي مكان آخر في العالم، ولكل يهودي في العالم الحق في المجيء إلى إسرائيل ونيل الجنسية الإسرائيلية. وقد ألغى القانون الأول الذي أصدره مجلس الدولة جميع الأنظمة التي كانت تحدّ من دخول اليهود واستيطانهم في فلسطين، وأعطيت المواطنة الشرعية لكل يهودي داخل فلسطين قبل قيام "إسرائيل"، وفتحت أبواب فلسطين لدخول اليهود، وألغيت جميع القيود القانونية على تملكهم الأرض الفلسطينية. وقد فرضت هذه القوانين على جميع المناطق الفلسطينية التي سقطت تحت الاحتلال، بما فيها المناطق الخارجية عن حدود الدولة اليهودية المبينة في خريطة التقسيم.‏
      وفي الأعوام الأولى لقيامها، سنّت إسرائيل القوانين اللازمة لتثبيت كيانها وخدمة أهداف الحركة الصهيونية والهجرة اليهودية، ونزع ملكية العرب الذي غادروا البلاد وأصبحوا لاجئين، وتقليص ملكية العرب الذين صمدوا في أرضهم تحت الاحتلال. ومن أهم هذه القوانين: قانون العودة لسنة 1950، قانون أملاك الغائبين لسنة 1950، قانون أملاك الدولة لسنة 1951، قانون الجنسية لسنة 1952.‏
      وبمرور السنين، تقلّصت وأبطلت القوانين العثمانية والانكليزية (الانتدابية)،وازداد الاعتماد على مفاهيم و"تقاليد""الشرائع" اليهودية القديمة(12).‏
      وبناء عليه، فإنّ إسرائيل هي تجسيد جزئي للمشروع الصهيوني، الذي لم يستكمل بناءه الذاتي النهائي، ولم تصل إلى حدودها "التوراتية" المزعومة بعد وفي تصريح لرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو حول هذه المسألة قال "إنّ حدودنا النهائية حيث يقف الجنود الإسرائيليون ومنابع المياه". من هنا فإنّ إسرائيل كيان سياسي استيطاني- عنصري، بجميع الخصائص والسمات الجوهرية لمعنى الاستيطان العدواني والعنصرية الشوفينية. ولأنّ الصهيونية طرحت نفسها بصفة "حركة تحرر قومي" لما أسمته "الشعب اليهودي"، فصنيعتها أو ثمرتها -إسرائيل- ورثت هذا الدور والأيديولوجيا، وبالتالي حدّدت نفسها "دولة يهودية" في "إعلان الاستقلال" (4 أيّار مايو 1948). وبهذه الصفة، وعلى أرضية الواقع اليهودي القائم، فإنّ إسرائيل، وعلى أرضية الواقع اليهودي القائم، فإنّ إسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم التي لا تنظر إلى نفسها، بحسبانها ممثّلة للمستوطنين فيها فقط، وإنّما بوصفها دولة الشعب العربي كلّه، في بقاع العالم بأسرها. ووفق "قانون العودة" الإسرائيلي، يمكن لأيّ يهودي اكتساب الجنسية في إسرائيل بمجرّد الهجرة إليها بنيّة الاستيطان. ولأنها تمنح هذا الحقّ لليهود حصراً، وتحجبه عن سواهم، بمن فيهم أهل البلد الأصليون -الفلسطينيون- وتميز ضدّ من وقع منهم تحت احتلالها، فإنّ إسرائيل تُعدّ في الأعراف الدولية السائدة دولة عنصريّة، الأمر الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في قرارها رقم 3379 (لعام 1975)، الذي يحدّد صراحة "أنّ الصهيونية هي شكل من العنصرية والتمييز العرقي" فالتزام إسرائيل بالصهيونية، وبالتالي بيهودية الدولة، وعليه بالتمييز العنصري ضد غير اليهود فيها، راسخ إلى درجة منع طرحه للمناقشة في المؤسّسة الإسرائيلية الحاكمة، وذلك بموجب قانون أقرّه "الكنيست" (البرلمان) سنة 1985، يحظر طرح مشاريع قوانين "تنفي وجود إسرائيل كدولة للشعب اليهودي". وانطلاقاً من المبادئ الصهيونية التي تعتمدها إسرائيل، يعدّ الحكمُ فيها الأرضَ ملكاً جماعياً لما يسمّيه "الشعب اليهودي" وصاية الدولة أو "الصندوق القومي اليهودي"، وهما معاً يسيطران على نحو 92% من الأراضي الفلسطينية التي تم الاستيلاء عليها حتى نهاية 1948. وحكومة إسرائيل الأولى (المؤقتة التي ألفت فور إعلان الاستقلال سنة 1948)، لم تكن سوى "الوكالة اليهودية" (فرع فلسطين) بمختلف مؤسّساتها، مع تعدّد التسميات والعناوين.‏
      والكيان اليهودي الذي أقامه الصهاينة في أرض فلسطين يستند واقعاً وديماغوجياً (دعاويّاً، تضليلياً) إلى مجموعة من المرتكزات الدينية والعنصرية، والتزييف التاريخي الصريح والمكشوف. فهذا الكيان تجمعه رابطة أساسية هي الديانة اليهودية بفرقها وطوائفها ومذاهبها المختلفة، ويوحّده اعتقاد اليهود بأنهم يشكلون عنصراً جنسياً متميزاً. أمّا التاريخ فقد "أعادوا كتابته" لينسجم مع تلك الأكاذيب والأضاليل، بحيث يسهم في ترسيخ القناعات بأنهم إنّما ينفذون ما أملته عليهم الأحداث، وبذلك "يستعيدون حقوقهم التاريخية" التي سلبها "الأغيار". وهذه العوامل أو المرتكزات الثلاثة مترابطة، فعنصرهم "المتميّز" حدا بالإله "اليهودي "يهوه" كي يختارهم شعباً خاصاً به فهو "إلههم" وحدهم، وهو الذي حدّد لهم شريعتهم" وطقوسهم وخرافاتهم وفحشهم وعدوانيتهم، وهو الذي جعل من نصيبهم "أرض الميعاد"!!‏
      والواقع أنّ الولاء للدين والطقوس و"الشريعة" هي العناصر التي تجمع بين اليهود، في الظاهر على الأقل، وحجّة الآخذين بهذا الرأي تقوم على العناصر التالية (14):‏
      1-إنّ الحقّ التاريخي الذي يخوّل اليهود الاستيلاء على فلسطين، يستمدّ مقوماته الجوهرية من الديانة اليهودية.‏
      2-نّ البقاء اليهودي عبر العصور هو أشبه بالمعجزة، أو الأعجوبة، التي لا يمكن تفسيرها إلا على أساس الدين، الذي يُنظر إليه وكأنه قادر على التعويض عن غياب جميع العوامل الأخرى لحفظ التلاحم "القومي" اليهودي. وبهذا الصدد يقول أحاد هاعام: "لقد كنّا يهوداً لمدة ثلاثة آلاف سنة لأنه لم يكن بوسعنا أن نكون شيئاً آخر، ولأنّ قوة جبارة تربطنا بالديانة اليهودية وتفرض نفسها على قلوبنا، ولأنّ الديانة اليهودية تعيش فينا جنباً إلى جنب مع جميع الغرائز الطبيعية التي تنمو في الإنسان منذ ساعة ولادته("15).‏
      3-إنّ مبرّر وجود إسرائيل، لا بل "حقها في الوجود" يزعمون أنه مُستَمدٌّ من الدين (16). وإذا ما كانت إسرائيل قد أسّست من أجل يهود العالم. وإذا ما كانت غايتها لم شمل اليهود الذين تنتظمهم ديانة مشتركة، فهل يمكن فصل فكرة الوطن اليهودي عن الدين اليهودي؟"(17)، كما يتساءل أوري أفنيري.‏
      والحقيقة أنّ اليهود لا يشكّلون أمة واحدة، ولا يُكوّنون مجموعة قومية أو عرقية، وليس هناك تركيبة اثنية يهودية، ولا وجود لجنس يهودي متميّز، وإنّما هم عناصر بشرية تنتمي إلى جميع الأجناس، من أوروبا إلى أمريكا إلى آسيا وافريقيا. وليس لهم لغة واحدة، بل يتكلمون لغات الشعوب التي يعيشون بين ظهرانيها. وليس لليهود عادات مشتركة وتاريخ مشترك، فسلوكهم يعكس تقاليد وعادات المجتمعات في أوطانهم الأصليّة. و"الدولة اليهودية" القديمة، التي يشيرون إليها باستمرار لم تدم أكثر من 78 عاماً في عهدي داود وسليمان، وفي رقعة لا تتجاوز عشرة أميال مربعة (18). علماً أنه ظهرت في الآونة الأخيرة دراسات وأبحاث لمؤرخين إسرائيليين تشكّلت جذرياً بصحة تلك المزاعم.‏
      وكان قد عبّر عن هذا الرأي الوزير اليهودي في الحكومة البريطانية، السير أدوين مونتاجو، في مذكرة رسمية قدّمها إلى حكومته بعد إصدارها تصريح بلفور، بقوله: "لا توجد أمة يهودية. إنّ أفراد أسرتي مثلاً الذين عاشوا في هذا البلد (بريطانيا) عدّة أجيال، لا يربطهم بأيّ أسرة يهودية في أي بلد آخر أي اتفاق في رأي أو رغبة. ولا يجمعهم بها أي شيء آخر أكثر من كونهم يعتنقون بدرجات متفاوتة الديانة نفسها. ولا يصح القول إنّ اليهودي في إنجلترا واليهودي في المغرب ينتميان لأمة واحدة. كما لا يصح القول إنّ المسيحي في إنجلترا والمسيحي في فرنسا ينتميان لأمة واحدة. كما لا يصح القول إنّ المسيحي في إنجلترا والمسيحي في فرنسا ينتميان لأمة واحدة" (19).‏
      فالكيان الصهيوني، الذي أوجدته القوى الاستعمارية الكبرى في أرض فلسطين، يحمل في تركيبته الأثنية- القومية كل الخلافات العرقية. فما الذي يجمع قومياً اليهودي الروسي والألماني واليهودي المغربي واليهودي الأمريكي واليهودي الأثيوبي مع اليهودي الفرنسي.. الخ؟!‏
      الصهيونية بأحابيلها ودسائسها وتضليلها ومزاعمها ساقت الأفراد اليهود باسم "العودة إلى أرض الميعاد"، وباسم "الخلاص" و"التحرّر" من الاضطهاد وأوضاع "الجيتو" وتحت عنوان الهروب من "العداء للسامية" والتمييز العنصري إلى فلسطين بدعم مباشر من الدول الغربية الكبرى.. فجلبت إلى هذه الأرض العربية ملايين اليهود، الذين يتحدرون من مائة وخمسين بلداً، وينتمون إلى أكثر من ثمانين شعباً ولغة. ويتوزعون على اتجاهات فكرية وثقافية تتجاوز خمسين اتجاهاً متناحراً.‏
      واليوم بلغت الصراعات ذروتها، كالصراع بين الدينيّن والعلمانيّين، والصراع الطائفي والثقافي بين "الاشكنازيم" و"السفارديم" والمهاجرين الروس والإثيوبيين والصراع بين العقائد والتقاليد المبنية على الأساطير والموروث الجماعي من جهة، والتيارات والقوى السياسية البراغماتية من جهة أخرى، والصراع بين "مركزية الشتات" و"مركزية إسرائيل"، وغيرها. حيث أدّت هذه الصراعات إلى تفتت البُنية الاجتماعية -الثقافية والسياسية الإسرائيلية بين ثقافات وطوائف وقوميات ومواقف واتجاهات وقوى متصارعة حول ماهية "هويّة الدولة": هل هي كنعانية؟ أم يهودية دينيّة؟ أم يهودية علمانيّة؟ أم صهيونية؟ أم إسرائيلية؟ أم "صبّارية" عبرانية؟.. فإسرائيل المصطنعة تعيش إشكالية "اليوم السابع"، إشكالية الهوية التي لم تحسم بعد، ولن تحسم في المدى الزمني المنظور(20).‏
      فالرابطة الدينية بقيت وحدها التي تجمع، أو تحاول أن تجمع، في ما بين اليهود. مع أنّ ساحة الدين اليهودي، خصوصاً في إسرائيل أصبحت هي الأخرى في وضع صراعي محتدم، لا يقلّ تنافراً ومواجهات واتهامات متبادلة عن الساحتين الاجتماعية والسياسية -الثقافية (21).‏
      وإذا كان الصهيونيون المتدينّون لم يتمكنوا بعد من إقامة الدولة اليهودية الدينية، كما كانوا يأملون ويسعون، حيث أنّ أكثرية يهود إسرائيل هم من العلمانيين، لكنهم استطاعوا تثبيت قاعدة من مفاهيمهم وتصرّفاتهم وطقوسهم في واقع الصهاينة والإسرائيليين وفي وعيهم، حتى وإن لم يكونوا معتقدين بتلك الشعائر والمفاهيم. ويبرز هذا التأثير قوياً في مجالات التربية والتعليم والثقافة على الأقل. ومن أبرز تلك المفاهيم، القول بـ "العلاقة التاريخية بين اليهود وبين أرض إسرائيل"، الذي أصبح جزءاً لا يتجزأ من الوعي الصهيوني، متديناً كان أم علمانياً، ونقطة الانطلاق العقائدي الصهيوني المحورية التي لا تقبل المناقشة.‏
      ومن الواضح أن ترسيخ مثل هذه المفاهيم يلعب دوراً بالغ الأهميّة، في دعم التطرف والتصلب والإرهاب الصهيوني. وهم يزعمون - في هذا المنحى - أنّه إذا كانت "أرض إسرائيل" "ملكاً" لليهود، وعلاقتهم بها "تاريخية" و"أزلية" و"ربّانية"، مستمدة من اللّه والتوراة، فلا يجوز مطالبتهم بالانسحاب من أجزاء منها. وبالتالي فإنّ كل مطلب من هذا القبيل، هو -بحسب أضاليلهم- عمل "غير أخلاقي" (22).‏
      فالتراث اليهودي يشكّل المنبع الرئيس لمكوّنات الوجدان الصهيوني المعاصر، الذي تأثر به تأثراً عميقاً، ووظّفه مفكّرو الصهيونية وروّادها وقادتها ليصبّ في أهدافهم العنصرية الكبرى. ولذا فإنّ العلاقة بين اليهودية والصهيونية علاقة عضوية. حيث أنّ الاهتمام الصهيوني- الإسرائيلي باليهودية لا يعني البحث الحقيقي عن مُثل أو قيم روحية- أخلاقية قد توجد في هذا التراث، وإنما يعني الاهتمام بمدى تعبير اليهودية عن "الذات القومية"، التي يريدون لها "الانبعاث" في "أرض الميعاد".‏
      فالمعتقدات اليهودية تنطوي على انغلاق شوفيني وتعصّب عرقي وعنصرية حاقدة وأهداف سياسية خطيرة. حيث أنّ الفلسفة العنصرية تشكّل معيناً ينهل منها الصهاينة جميعاً، أفراداً وأحزاباً وتيّارات ومؤسّسات، فكراً وممارسة.‏
      وهذه العنصرية هي التي تقبع خلف المواقف والاتجاهات والأحزاب والسياسات المختلفة. وما الأفراد الصهاينة والجماعات الصهيونية غير تجليّات متنوعة لجوهر واحد، هو العنصرية.‏
      والخطورة تكمن في أنّ اليهود يؤمنون بدرجات ونسب متفاوتة، أنّهم عندما يبنون "دولة إسرائيل"، فإنما يحقّقون بذلك استرجاع الدولة اليهودية القديمة، التي تستوجب "إعادة" بناء هيكل سليمان. كما يعتقدون بأنّ "الربّ اختار بنفسه "صهيون" لتكون مسكناً له. فهي ليست عاصمة داود السياسية فحسب، وإنما هي العاصمة الدينية التي لا يمكن للإله أن يستقر، أو يسكن، أو يُعبَد، إلاّ فيها "الربّ اختار صهيون، اشتهاها مسكناً له" (مزمو ز132).‏
      والذات اليهودية مجبولة من مجموعة اعتقادات خلاصتها أنّ اليهود "يمثّلون دونما أدنى ريب، أنقى عرق وأعرق أمّة بين جميع الأمم‏
      المتمدّنة" (23).‏
      فالنفسية اليهودية مبنيّة على فكرة أسطورية بتفوّق اليهود، وتساميهم على الآخرين. "واليهود يشعرون بأنهم متفوقون أخلاقياً على جميع الأمم. وهذا الشعور يجسّد ذاته في فكرة الشعب المختار" (24) -كما يقول أحاد هاعام-. "وهذا الشعب يقول ناحوم غولدمان - هو شعب فريد في التاريخ. والشعور بالتفرد يستتبع الشعور بالتفوق على شعوب أخرى. ولا غرو فمفهوم "الشعب المختار" يشكل جانباً أساسيّاً من الدين اليهودي" (25).‏
      هذا الشعور التفوّقي متأصّلّ في وجدانهم وعقلهم الجمعي المشترك كشعب "مختار". فهم يؤمنون بخصوصيتهم وتفرّدهم وتفوّقهم على سائر الشعوب، لأنهم "خاصّة" الإله، وأقرب الناس إلى فؤاده. والزعم بالاختيار والتفوّق راسخ في نفوسهم بفعل نصوص التوراة "العهد القديم" التي يتشرّبها الطفل اليهودي مع نشأته في أحضان البيت والمدرسة والمعبد. وكتاب التوراة يزخر بالنصوص التي تضفي على عنصرهم صفات القداسة والتميّز. مثلاً قول "إلههم" لهم: "وأتخذكم لي شعباً وأكون لكم إلهاً" (الخروج، الأصحاح السادس: 7)، و".. تكونون لي خاصّة من بين جميع الشعوب.. وأنتم تكونون لي مملكة كهنة وأمّة مقدّسة" (الخروج، الأصحاح التاسع عشر: 5-69)، و"لأنّك أنتَ شعبُ مقدّس للرب إلهك. إياك قد اختار الربّ إلهك لتكون له شعباً أخصّ من جميع الشعوب الذين على وجه الأرض" (تثنية، الأصحاح السادس: 6).‏
      وكتبَ أحبارُهم على لسان "إلههم" (يهوه) مخاطباً "ابنته" - إسرائيل: "وبنو الغريب يبنون أسوارك وملوكهم يخدمونك.. ليُؤتى إليكِ بغنى الأمم وتُقاد ملوكهم.. وبنو الذين قهروك يسيرون إليك خاضعين وكلّ الذين أهانوك يسجدون لدى باطن قدميك.. وترضعين لبن الأمم وترضعين ثدي ملوكِ وتعرفين أنّي أنا الرب مخلصك.." (أشعياء، الأصحاح الستون: 10-16).‏
      وكتبوا على لسان (يهوه) مُخاطباً "شعبه المختار": "ويقف الأجانب ويرعون غنمكم ويكون بنو الغريب حرّاثيكم وكرّاميكم. أمّا أنتم فتّدعون كهنة الرب تُسَمّون خدام إلهنا. تأكلون ثروة الأمم وعلى مجدهم تتأمّرون (أشعيا، الأصحاح الحادي والستون: 5-6).‏
      هذه نماذج مما تحفل به "توراة اليهود" وهي كتابهم "المقدّس" غُرست عميقاً جداً في ذهنية اليهود، في وعيهم وفي عقلهم الجمعي، وموروثهم المتداول عبر آلاف السنين، فنبتت في نفوسهم وعقولهم ووجدانهم وغريزتهم وسلوكهم أفكارُ التميز ومشاعر التفوق والاختيار، والإيمان المطلق بالانتصار على الشعوب الأخرى، والنظر إليها نظرة استعلائية، عنصرية، احتقارية، نظرة الطاهر إلى أنجاس، نظرة السيّد إلى العبيد والخدم، والمقدّس إلى الأشرار. ورسّخت عصور الهزائم والضياع والنبذ جذور الانعزالية والتعصب العنصري، والشكّ بكلّ الأمم والشعوب، وشكّلت، بتقسيمها العالم إلى قسمين: الشعب اليهودي (المختار) والشعوب غير اليهودية (الأغيار)، شكلت المرتكزات الأساسية للذهنية العنصرية، المتداخلة مع قراءات منتقاة لنصوص مُعيّنة من دينهم اليهودي.‏
      ومن تلك النصوص والتفسيرات والاجتهادات انبثقت جملة من المقولات العنصرية، التي ترفعها الصهيونية شعارات "مقدّسة" لا تقبل التشكيك أو المناقشة، مثل مقولات الشعب المختار، الشعب المميّز، ورثة أمجاد الرّب، أرباب العهود مع اللّه، أمّة الكهنة والقديسين، "أنقى جنس خلقه اللّه" (26)، و"المخلوق الفريد" (27)، "المُحاط بهالة من أشعّة الأمجاد" (28) وغيرها وغيرها من مخزون الاستعلائية، الصهيونية الكريهة.‏
      فالقومية الصهيونية لا تنفصل بتاتاً عن العقيدة اليهودية ومفرداتها ومفاهيمها وتعاليمها، ومقولاتها، التي تنص صراحة على أنّ اليهود يشكلون عنصراً مميزاً على سائر العناصر البشرية، وشعباً متميزاً على الشعوب كافة، بخصائصه وفرادته، و"اختياره" من قبل "الربّ" ذاته. وهي بذلك تجعل من نظرّية الجنس، أو العرق، أساساً جوهرياً لها. وعلى هذا الأساس تقوم النظرية العنصرية في اليهودية -الصهيونية.‏
      يقول يئير بار إيلان زعيم منظمة "مزراحي" الصهيونية: "إنّ شعبنا وعقيدتنا الدينية يختلفان تماماً عن جميع الشعوب والأديان الأخرى" (29).‏
      ويقول ناحوم غولدمان: "إنّ محاولة وصف الشعب اليهودي بأنه جماعة تتميّز بالجنس والديانة، أو بالوحدة الثقافية والقومية، يُعدّ موضوعاً غير ذي أهمية. فتاريخه الفريد قد خلق وحدة جماعية فريدة". ويضيف: "إنّ الشعب اليهودي هو ظاهرة تاريخية فريدة. وهو في الوقت نفسه أمّة، ووحدة دينية كاملة، وعرق. وما من فكرة عن أمة أو شعب أو دين قادرة، إن لم تكن يهودية، على أن تشرح بدقة هذه الظاهرة التاريخية الفريدة. فنحن أمة عالمية تمثّل مجتمعاً خاصاً لا شبيه له في تاريخ الإنسانية" (30).‏
      و"الشعب اليهودي - يقول شموئيل أتينغر- احتفظ بتفرده التاريخي والثقافي والديني(31). لأنه "شعب يعيش وحده وبمفرده" (32) كما يقول بن غوريون وكان تيودور هرتزل يردّد دائماً: "إنّ اليهود بقوا شعباً واحداً وجنساً متميزاً" (33).‏
      من هنا فإنّ دراسة الصهيونية ومرتكزاتها العنصرية، تقتضي دراسة مقولات ومفاهيم العقيدة اليهودية، لأنها المنبع الرئيس، الذي تستمدّ الصهيونية منها توجهاتها وقيمها وديماغوجيتها العنصرية، الشوفينية، ومنه استقت الحركات والجماعات الصهيونية الإرهابية، المتطرفة بغضها للعرب وحقدها على الفلسطينيين وعلى الشعوب والأمم الأخرى.‏
      ولسنا من "اخترعوا" هذه العلاقة العنصرية - الجدليّة بين اليهودية والصهيونية، فقد أشرنا (ولو بصورة موجزة لأنّ المجال لا يسمح بالتوسّع والتفصيل) إلى آراء أبرز الشخصيات الصهيونية، ومفايهم مؤسّسي هذه الحركة العنصرية- الإرهابية حول التداخل، الذي لا ينفصم عراه بين الصهيونية والدين والتراث اليهودي- الأمر الذي يعني أنّ الصهيونية هي الوجه السياسي- الفكري والأيديولوجي لليهودية، كما أن اليهودية هي المرتكز الديني للصهيونية. أما "إسرائيل" فهي التجسيد العملي والسياسي والكياني للظاهرتين معاً. وفي هذا الإطار يقول الكاتب الصهيوني هيرمان ووك في كتابه "هذا هو إلهي": "إنّ دولة إسرائيل، التي هي أحدث تحقيق لأقدم حلم ديني في الأرض، وضع مُخَطّطها مؤسّس لا ديني، وأوجدها رجال هم بالأغلب لا يراعون أحكام العقيدة. ومع ذلك فإنّ الصهيونية التي ازدهرت حالياً في إسرائيل تقع بالتأكيد ضمن مجال النظر البعيد للديانة اليهودية" (34).‏
      من هنا لا تُفرّق أغلبية اليهود بين دينها وقوميتها. إنهما وجهان لأيديولوجية شاملة. فكلمة "يهودي" تشير إلى دين. وكلمة "صهيوني" تشير إلى أرض. وعليه فهناك وضع تلاحمي -تكاملي بين النواحي الدينية والقومية والأيديولوجية في فكر الصهاينة وممارساتهم العدوانية- الإرهابية. وهذا الحاخام الأكبر لتل أبيب، شلومو غوريون، يعلن أنه "لا يمكن الفصل بين أرض إسرائيل وبين تعاليم اليهودية، وإنّ فصل قيم التوراة عن وصايا استيطان البلد هو بمثابة فصل الروح عن الجسد" (35).‏
      وكان بن غوريون يرى أنّ أهم ركن من أركان الدين اليهودي هو الارتباط بالأرض "أرض الميعاد"، وأن تعلّق اليهودي "بأرض الميعاد" ناتج عن الصبغة القومية والإقليمية في الدين اليهودي. وأنّ اليهودي الحقيق هو الذي "يرجع إلى هذه الأرض. أمّا من يرفض "العودة" والاستيطان في فلسطين فيُعَد برأي بن غوريون خارجاً على الدين، تاركاً للّه، لأنّ الإله "يهوه" ظهر مرتبطاً بالأرض. أما موسى هس فكان يرى "أنّ الدين اليهودي هو المسوّغ الأول لولادة القومية اليهودية.. وأن المعتقدات اليهودية هي قبل كل شيء عقائد قومية ووطنية وكل من يدين بها هو قومي وطني" (36).‏
      وكان الحاخام أبراهام كوك (1865-1935) يرى أنّ "فصل الجانب الديني عن الجانب القومي في الروح اليهودية من المستحيلات المطلقة، لأنّ روح إسرائيل، على حد قوله، ملتصقة بروح الله، لدرجة أن أي قومي يهودي، بغض النظر عن مقدار علمانيّته، يجد النور والقدسية في الروح القومي" (37).‏
      وفي المؤتمر الصهيوني الثامن والعشرين، الذي عقد في القدس المحتلة، أعلن مناحيم بيغن أنه "لا يمكن الفصل بين القومية وبين الدين في‏
      اليهودية" (38).‏
      الصهيونية في جوهرها عقيدة متطرفة، استمدت أصولها من مفاهيم الديانة اليهودية وأساطير تعود إلى ثلاثة آلاف سنة، والتي تنصّ على أنّ إله اليهود "يهوه" قد وعد شعبه الخاص -بني إسرائيل، بأرض فلسطين، ملكاً أبدياً.. وخصّهم بها ميراثاً أزلياً. وجاءت الحركة الصهيونية فوظّفت تلك القصص والحكايات والأساطير، وتبنّت -وفق خطة استراتيجية متغيرة، متجدّدة -تحقق تلك التنبؤات والأحلام، القائمة في جذور الديانة اليهودية، وفي أعماق العقل الجمعي اليهودي. وبذلك أصبحت الحركة اليهودية، التجسيد العملي والواقعي للرؤى اليهودية. وهذا ما عبّر عنه بن غوريون بقوله: "إنّ الصهيونية تستمدّ وجودها وحيويتها وقوتها من مصدر عميق، عاطفي، دائم، مستقل عن الزمان والمكان، وقديم قدم الشعب اليهودي، هذا المصدر هو الوعد الإلهي، والأمل بالعودة" 039).‏
      ويُفهم من كلام معظم قادة الصهيونية أنّ هذه الحركة أقامت (بالتعاون الوثيق مع الدول الغربية الكبرى) "دولة إسرائيل في أرض فلسطين، استناداً إلى أساطير وتنبؤات "العهد القديم". ويُفهم أيضاً أن الصهيونية حركة قومية، عنصرية، إرهابية، لها جذورها العميقة في الديانة اليهودية. فلا صهيونية من دون يهودية، لأن الصهيونية ما فتئت تعمل، بجهود هائلة وأساليب شديدة التنويع والمكر، على تحويل التنبؤات والرؤى والأساطير والوعود إلى حقائق واقعية. وقد اتخذ قادة الصهيونية ومفكّروها من عقيدة "العودة" إلى "أرض الميعاد" وسيلة لإثارة حماس اليهود الديني والعاطفي، وتحشيدهم، ومن ثم استغلال ذلك كلّه لاقتلاع اليهود من مواطنهم الأصليّة، وشحنهم إلى فلسطين.‏
      ولهذا لا يمكن فهم أبعاد العنصرية الصهيونية، والتطرّف والإرهاب الإسرائيلي، ما لم تتم العودة إلى المنابع والمصادر والمرتكزات التي تقوم عليها وبها العنصرية الصهيونية، تلك القائمة على الروح العنصرية والتمايز العنصري والعقلية الاستعلائية الحاقدة. إذ أن عقليتهم الحاضرة، تضرب عميقاً في التراث الديني والتاريخي اليهودي، وتتعذّى من نزعة التفوق والشعور بالتميّز عن الآخرين، والتفرّد والاختيار.‏
      والتوراة هي الكتاب "المقدّس" الأول لدى اليهود، وهو المرآة التي أسقط عليها اليهود أخلاقهم ورؤيتهم وتطلعاتهم. وقد وضع عددٌ من الكتّاب مؤلفات وبحوث ودراسات، تحلّل الصلة الروحية والنفسيّة والذهنية بين نصوص التوراة وتصرفات اليهود الحاليين، والإرهاب الذي تمارسه الصهيونية، سواء في فلسطين والأراضي العربية المحتلة، أو في أنحاء العالم الأخرى. لكنّ الذي يعنينا هنا التأكيد على فكرة الترابط العضوي والتكاملي بين اليهودية والصهيونية والكيان الإسرائيلي من جهة، وبين الفلسفة العنصرية اليهودية -التراثية، وتجلياتها العديدة في الفكر الصهيوني الحديث والمعاصر، كأفراد أو مؤسّسات أو حركات وجماعات من جهة أخرى.‏
      فمن يستطيع محو الاعتقاد اليهودي بأنّ الإله "يهوه" هو الذي حذّرهم من مخالطة الشعوب، أو قطع العهود معها. ومن بإمكانه إلغاء الإيمان اليهودي المتوارث منذ آلاف السنين، بأنّ الربّ هو من فرض عليهم إبادة الشعوب المجاورة أو طردها. كقوله (أو قول قادتهم على لسان الربّ): "متى أتى بك الربّ إلهك إلى الأرض التي أنت داخل إليها لتمتلكها، وطرد شعوباً كثيرة من أمامك الحثيين والجرجاشيين والأموريين والكنعانيين والفرزيين والحوريين واليبوسيين. سبع شعوب أكثر وأعظم منك ودفعهم الربّ إلهك أمامك وضربتهم فإنك تحرّمهم. لا تقطع لهم عهداً ولا تشفق عليهم" (تثنية، الأصحاح السابع:‏
      1-2). وقوله (أو بالأصحّ قول قادتهم):" وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الربّ إلهك نصيباً فلا تستبق منها نسمة ما، بل تحرّمها تحريماً" (تثنية، الأصحاح العشرون: 16) ومئات غيرها من "الوصايا" و"التعاليم"، التي تنفجر حقداً وعنصرية ورُعْباً.‏
      ومن يقدر على إقناع اليهودي العاديّ أنّ الإله "يهوه" لن ينصرهم على "الأعداء"، ويمكّن "شعبه الخاص" من الاستيلاء على أراضي الشعوب ومدنها ومزارعها ومياهها. أليسوا مؤمنين بأنّ "يهوه" مقاتل باطش، مرعب، حقود، متنقم، يسير أمام المحاربين (اليهود) لأنه ربّ الجنود وهو الذي "أمرهم" بتدمير المدن وتذبيح البشر في هجمات وحشية صاعقة، كاسحة.‏
      ومنذ اتخذ بنو إسرائيل "يهوه" إلهاً لهم، جعلوه إلهاً غاضباً، ظالماً، قاسياً، متعطشاً لدماء الضحايا، حقوداً. فهو يأمر "شعبه المختار" بإبادة "كلّ ما في المدينة من رجل وامرأة، من طفل وشيخ، حتى البقر والغنم والحمير بحدّ السيف" (يشوع: الأصحاح السادس: 21).‏
      فهل يمكن للإله الرحيم أن يقول: "واقتل رجلاً وامرأة، طفلاً ورضيعاً، بقراً وغنماً، جملاً وحماراً" (سفر صموئيل الأول، الأصحاح الخامس‏
      عشر: 3)؟! وهل غير "ربّ اليهود" "يهوه" يمكن أن يأمر بقتل الأطفال والرضّع والحيوانات المسكينة؟!!‏

      * النزعة الفاشية -العنصرية في الفكر الصهيوني الاستيطاني‏
      ليس من أهداف هذا البحث التأريخ المفصل لآراء المفكرين الصهاينة أو الحركات الصهيونية، في إطار ما يُسمّى بالصهيونية السياسية، والتي نشأت في أواخر القرن الماضي، وأوائل القرن العشرين، وقد جسّد دعاواها ووضع الخطوط الأساسية لمشروعها مؤتمر "بال" 1897م، لسنا بحاجة إلى هذا الغرض لأنّ المكتبة العربية عامرة في هذا الجانب، وكذلك في ما يتّصل بالجذور الدينية (التوراتية والتلمودية) للفكر الصهيوني.‏
      إنّ ما يعنينا هنا الفلسفة العدوانية، والروح الحاقدة، والنزعة المتطرّفة والفوقية والإرهابية لعدد من مفكّري ومنظرّي الصهيونية من الاتجاهات والتّيارات المختلفة. كما هو معروف فإنّ الأغلبية الساحقة من هؤلاء الفلاسفة والمفكرين والدعاة (ولا سيما الأوائل) عاشوا في أوروبا الشرقية، التي كانت تغلي بالثورة، وتصاعد المدّ الاشتراكي والفكر الثوري، ونشاط الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي بوجه خاص. ولذلك فقد لبس معظمهم الأقنعة الثورية، وادّعى الانتماء لليسار والاشتراكية بل وللماركسية، لمداراة حقيقة فكرهم وانتمائهم للصهيونية الشوفينية، وجوهرها المعادي للإنسانية، وأهدافها العدوانية، وروحها العنصرية -التدميرية. وقد لجؤوا لتحقيق غرضهم هذا إلى المخاتلة والمناورة والتلفيق في الفكر، والمواقف حتى يجمعوا بين عرقيتهم الاستعلائية البغيضة ونزعتهم الشوفينية، ودعاواهم "الاشتراكية و"الاندماجية" و"الاصلاحية" و"التحررية". وذلك من أجل جذب وخداع الشباب اليهودي، الذي انخرط بغالبيته في النضال التحرري الديمقراطي والاشتراكي، وفي الحركات الثورية التي كانت تغطّي الساحة السياسية الأوروبية حينذاك(40).‏
      وقد أسفرت الصهيونية كما أسفرت الحركات الرجعية السوداء في أوروبا، عن حقيقتها- من خلال بروز تيار فاشي صريح- لا يتخفى وراء أقنعة أو شعارات اشتراكية زائفة، وهو ما يُدعى بالتيار "التنقيحي" بزعامة "فلاديمير جابوتنسكي" (1880-1940). وهو زعيم صهيوني متطرّف وقائد حركة "الصهيونيّين التنقيحيّين". ولد في روسيا من عائلة تنتمي إلى الطبقة الوسطى. شارك في المؤتمرات الصهيونية في مطلع القرن العشرين وانتقل إلى استانبول، حيث تولى مسؤولية الصحافة الصهيونية (1909-1911)، وعمل على المشاركة في تأسيس الصندوق القومي اليهودي والفيلق اليهودي. شارك مع وحدات "الهاغاناه" في ضرب المظاهرات العربية في القدس عام 1920. في عام 1921 أصبح عضواً في اللجنة التنفيذية للمنظمة الصهيونية العالمية، وعمل على محاربة البلاشفة بصفته الرسمية آنذاك. استقال في عام 1923 وأسّس حركة "بيتار" (أو بيطار) وفي عام 1925 أسّس اتحاداً عالمياً للتنقيحيّين، نظراً لخلافه مع القيادة الصهيونية، واتهامه لها بالتخاذل وعدم الحسم. كما أسس في الثلاثينيات منظمة صهيونية للعمّال تنافس الهستدروت، ومن مواقع مؤيدة للرأسمالية لإقامة مجتمع صهيوني رأسمالي. اشتهر جابوتنسكي بميوله الإرهابية وتمجيد العنف والقوّة، وقلّد الفاشية في الثلاثينيات وشجّع تهريب اليهود إلى فلسطين، ودعا صراحةً وعلانيةً إلى سياسة الإرهاب والقوّة والطرد والسحق للعرب، بغية إجبارهم على الاعتراف بالوجود الصهيوني، وبذلك يُعَدّ "رائداً" للفكر العنصري -الشوفيني، الذي تبنّته المؤسّسة العسكرية الإسرائيلية فيما بعد(41). وكان هذا التيّار، كما كشفت الأحداث اللاّحقة هو المعبّر الأصدق والأكثر أمانة وصراحة عن الفلسفة الصهيونية وأهدافها العدوانية -الاستيطانية. لقد كان الخلاف بين التيارين المتطرّف و"المعتدل" (بزعامة وايزمان والعناصر الاشتراكية -الصهيونية) خلافاً في التكتيك وفي أساليب العمل، ووسائل تحقيق المشروع الصهيوني، في إطار الظروف العالمية والإقليمية والمحلية السائدة في كل مرحلة. ففريق وايزمان والقيادة الصهيونية تصرّف وفق سياسة حاذفة، "سياسة الخطوة خطوة" في تنفيذ مشروع ما زال يحبو في المهد، ولا يعلن عن أهدافه الحقيقية، بل هو ينكرها أو يستنكرها أحياناً، في حين أعلن جابوتنسكي على الملأ دون لفّ و دوران الأهداف الاستيطانية -الإفنائية الحقيقية والبعيدة، والوسائل الإرهابية والعدوانية، التي ينبغي سلوكها مع العرب، أصحاب الأرض الأصليين.. للوصول إلى تلك الأهداف. فدعا صراحة ودون مواربة إلى تطبيق الأساليب الفاشية إزاء العرب. وهو بذلك يكاد يكون المفكّر والداعية الساسي الصهيوني الأوّل، الذي أفصح عن فلسفته العرقية والفاشية- الاستعلائية، مباشرة وصراحة، على غير عادة الجمهرة من هؤلاء المفكرين والمنظّرين، الذين كانوا يزعمون الانتماء للقوميات الأوربية الصاعدة، أو للحركات الديمقراطية والاشتراكية واليسارية ذات النزعة الإنسانية الأممية.‏
      وعلى خلاف وايزمان وقادة المنظمة الصهيونية، الذين يتهمهم بالضعف، كان جابوتنسكي يؤمن أنّ العسكرة وسياسة الأمر الواقع في تنفيذ الهجرة المكثفة على حساب السكّان العرب.. هي الاستراتيجية التي يجب أن يتبعها الصهاينة لتنفيذ أهدافهم التوسّعية- الاستيطانية. أمّا بن جوريون والقادة "الاشتراكيون" فلم يكونوا يعارضون تشكيل فرق القتل والإرهاب، ولكنهم كانوا يفضّلون التصرف بحذر خشية إثارة العرب قبل استكمال الاستعدادات.‏
      كان جابوتنسكي يطالب بكلّ فلسطين لليهود، كما طالب بضم أراضي شرق الأردن، "لأنها جزءٌ لا ينفصل عن فلسطين" (كما كان يؤكّد)، وأن تدخل في إطار الاستيطان اليهودي. هذا هو مفهومه عن "الوطن القومي" الوارد في وعد بلفور وفي صك الانتداب: دولة مستقلة يهودية على كل أرض فلسطين وشرق الأردن.‏
      وكان جابوتنسكي يرد على الآراء، التي ترى أنه لا يجوز الإعلان عن أهداف الصهيونية صراحة، بالقول: إنّ العرب قد اطلعوا على "الدولة اليهودية" بحسب هرتزل (1860-1904)، ويعرفون هدف اليهود الحقيقي، أما سياسات التآمر وإخفاء الأهداف الحقيقية للصهيونية، فإنها لا تخدع سوى أصدقاء الصهيونية، لا أعدائها، ولتوفير الأغلبية اليهودية لا بدّ من الهجرة بأعداد كافية، ونشر الاستيطان إلى شرق الأردن. أما عداوة العرب للصهيونية، وللاستيطان اليهودي، فهي أمر طبيعي ولا مندوحة عنه، وبما أنّ اليهود هم الذين "تهددهم الكارثة في أوروبا" فإن طلبهم الأمان "في وطنهم القومي" هو قضية عادلة تماماً وأخلاقية! ولا محل للتساهل أو التفاهم مع العرب في هذا الأمر، ولا مجال للتأخير أو الانتظار، لأن العرب سيستمرون في معارضتهم هذه، حتى يُفرض عليهم الأمر الواقع بالقوّة، وحتى يدركوا أن ليس هناك إمكانية لتدمير إسرائيل، وأنه لم يعد أمامهم سوى أنْ يتقبلوا العيش مع الأغلبية اليهودية، ومن هنا فإن وجود جيش يهودي هو الضرورة العاجلة، كما كان يصرّح دائماً وفي مناسبات كثيرة (42).‏
      إن جابوتنسكي يستمد عناصر فلسفته الصهيونية من نظريات "التفوق العرقي" والصورة المثالية "للأمة المطلقة" و"الشعب المختار" و"الأفكار والآراء والنماذج الفاشية والقومية المتعصبة في أوروبا. وقد تجلّت فلسفته العنصرية في كتاباته السياسية والأيديولوجية، وفي روايته "روما والقدس" (على لسان بطل الرواية شمشون)، وفي مقالاته حول منظمة "بيتار" "الشبابية -الصهيونية المتطرفة. وتتّسم فلسفته العنصرية -العدوانية بالانفعال والديماغوجية ومخاطية الغرائز، وإيقاظ مشاعر الكره والحقد والتعصّب. والواقع أنّ هذه السمات كلها تنطبق بشكل دقيق على البرنامج الصهيوني في مجموعة، وعلى الحركة الصهيونية بكل أحزابها وتفرعاتها، ولكنها أوضح وأصرح ما يكون في برنامج جابوتنسكي "التنقيحي" الذي لخّصه في جولة له في بلاد البلطيق في‏
      عام 1924 قائلاً:‏
      "برنامجنا ليس معقداً، فهدف الصهيونية خلق دولة يهودية، حدودها ضفتا الأردن، ونظامها: استيطان مكثّف ومشاكلها المالية تحل من خلال قرض قومي. هذه المبادئ الأربعة لا تتحقق دون قبول دولي، ولذا فإن شعار الساعة هو حملة عالمية جديدة، وعسكرة الشباب اليهودي في أرض إسرائيل وفي الدياسبورا" (43).‏
      والواقع أنّ جابوتنسكي وزملاءه في الحركة الصهيونية بتياراتها وتفرّعاتها المختلفة، يستمدون فلسفتهم العنصرية والإرهابية- العدوانية من تراثهم وعقلية الحقد والكراهية، التي ترعرعوا في محيطها، بل من كتبهم، التي (يقدسونها) ويلتزمون بتعاليمها، ومن "إلههم" القبلي، الذي ابتدعوه، ليتناسب مع نفسياتهم وأطماعهم وعجرفتهم.‏
      لن نطيل في هذه النقطة، التي شكّلت مادّة ضخمة لآلاف الدراسات والتحليلات والمقارنات، ويكفي هنا الإشارة السريعة إلى أن روح العنف والحقد والأنانية التي سيطرت على هذه الجماعة، أُلصقت بإلهها الخاص "يهوه". فإذا به إله قاس، مرعب، حقود، منتقم، غيور، طمّاع، وصاحب نفسية متعالية، تشتعل بالثأر والانتقام. يسير أمام القتلة لأنه "رب الجنود"، ويأمر بتدمير المدن، وذبح البشر، في هجمات وحشية ساحقة، دونما شعور بشفقة أو حنان.‏
      و"يهوه" يحثّ أتباعه على الإغارة على المدن الكنعانية العامرة بالحضارة الإنسانية، لتدميرها وإفناء ساكنيها. فهو يقول لموسى: "إنّ ملاكي يسير أمامك، ويجيء بك إلى الأموريين والحثّيين والفرزيين والكنعانيين والحويّين واليبوسيين، فأبيدهم.. أرسل هيبتي أمامك وازعج جميع الشعوب الذين تأتي عليهم وأعطيك جميع أعدائك مدبرين. وأرسل أمامك الزنابير. فتطرد الحويين والكنعانيين والحثّيين من أمامك لا أطردهم من أماكن في سنة واحدة لئلا تصير الأرض خربة فتكثر عليك وحوش البرية قليلاً قليلاً أطردهم من أمامك إلى أن تُثمر وتملك الأرض. وأجعل تخومك من بحر سوف إلى بحر فلسطين ومن البرية إلى النهر. فإني أدفع إلى أيديكم سكان الأرض فتطردهم من أمامك" (خروج 23: 23-32).‏
      والواقع أن جابوتنسكي استمدّ عناصر فلسفته الإرهابية- العدوانية من عقيدة العنصرية والكراهية والتطرف، التي زرعها أحبارُهم في كلّ عبارة من عبارات "التوراة" و"التلمود" ومن الروح "الجيتوية" الحاقدة على الشعوب المتحضّرة المنفتحة، وأيضاً من تحزّبه الصريح للفاشية الإيطالية، التي عايشها زمناً (في إيطاليا) إبان صعود الفاشية واستيلائها على السلطة. وقد عبّر عن هذه النزعة من خلال جملة من المقالات والخُطب النارية، كمقالة "الإنسان ذئب الإنسان" وفكرة البيتار (أو البيطار) و"عرض تاريخ اليهود" حيث يبشّر بالعرقية الشوفينية، مؤكداً أن اليهود، وليس غيرهم، هم العرق المتفوّق على الأعراق والأمم كلها.‏
      إنّ أهميّة جابوتنسكي في الحقيقة تتمثّل في طرحه لصهيونية عارية، بلا تجميل أو "رتوش" عناصرها ومقوماتها هي المرتكزات الجوهرية للصهيونية في مجموعها، برغم كل الصراعات الظاهرة والعنيفة التي فرّقت بينه وبين الأحزاب الأخرى، وخصوصاً الصهيونية العمّالية والاشتراكية. وهو لا يخفي مصادر فلسفته أو يزيّفها، فلا هي من ماركس ولا إنجلز ولا هيغل، ولا من الحركة الاشتراكية أو الفكر الليبرالي، بل من أسفار "التوراة" وكتب التلمود، ومن موسوليني والنازية. ففلسفته المتطرفة تتغذّى مباشرة وبلا مواربة من المنابع المسمومة، التي عاشت عليها أحياء اليهود المنعزلة، الحاقدة، ومن الأيديولوجيات القومية- الفاشية، التي سيطرت على أوروبا في العقود الأربعة الأولى من القرن الحالي.‏
      وكان أشمير Achmeir مُنظّر "الحركة الصهيونية التنقيحية" في فلسطين يرى أن موسوليني أكبر عبقرية سياسية عرفها عصره.‏
      وجاراه في هذه النزعة الفاشية "شاعر الصهيونية التنقيحية" زفي جرنبرج، الذي كان يرى في الحركة الاشتراكية العالمية العدو الأكبر، وأعلن صراحة أن كل نظام جديد في التاريخ ثبت نفسه انطلاقاً من تدمير أعدائه، ومعيار التغيير الوحيد هو كمية الدم المراق(44).‏
      وقد جسّد "الصهاينة التنقيحيون" بزعامة جابوتنسكي توجّهاتهم الفاشية- الإرهابية بتشكيل "منظمة الشباب التنقيحي" (بيتار أو بيطار) في عام 1923، لإعداد الشبيبة الصهيونية للحياة الجديدة في فلسطين، والتدرّب على العمل الزراعي والقتالي، وتعلّم العبرية، وتلقينها أيديولوجية فاشية تحت شعار "الغلبة أو الموت" وسبيلها إلى ذلك خلق الأساطير: "العودة، الدم والحديد.. "ملكوت إسرائيل".. الخ والشبه بين شعاراتها وشعارات الشبيبة الفاشستيّة في العشرينات والثلاثينيات لا يخفى.‏
      ولقد رفع جابوتنسكي الاستعراضات و"المارشات" العسكرية والروح الاحتفالية الشائعة في ذلك الحين بين الحركات الفاشيّة والقومية المتعصبة في أوروبا، إلى مستوى المبدأ الأعلى.‏
      استقلت منظمة "بيتار" في الثلاثينيات بقيادة جابوتنسكي عن المؤسسة الصهيونية الرسمية، لتصبح نواة "المنظمة الصهيونية الجديدة"، وهي المنظمة الأم لعصابة "الأرغون" الإرهابية، وهي التي أسّسها بيغن على خطى "معلّمه" وزميله و"مثله الأعلى" جابوتنسكي.‏
      ومع أنّ أعمال هذه المنظمة الإرهابية في فلسطين العربية معروفة للقاصي والداني، لكن لا بأس من التذكير بأنّ "أرغون" هو الاسم المختصر للمنظمة الصهيونية الإرهابية: "أرغون تسفاي لئمي بآرتس يسرائيل"، أي "المنظمة العسكرية القومية في أرض إسرائيل" تأسست هذه المنظّمة بالاشتراك مع جماعة مسلحة من "الهاغاناه". وكان جابوتنسكي هو الأب الروحي لهذه المنظمة، ودافيد رازيل القائد العسكري لها. بينما مثّل أبراهام شيترن قيادتها السياسية. وكان شعار المنظمة يداً تمسك بندقية مكتوباً تحتها "هكذا فقط". تعاونت مع المخابرات البريطانية بزعامة مناحيم بيغن الذي أخذ ينسق مع "الهاغاناه" أيضاً. لعبت هذه المنظمة دوراً كبيراً في تهجير اليهود إلى فلسطين والتجسّس على العرب. ولجأت إلى إرهاب العرب لإجبارهم على مغادرة البلاد، فهاجمت المدنيّين والسيارات العربية، وقامت بتنفيذ مذبحة دير ياسين بتنسيق سرّي مع "الهاغاناه". وبعد عام 1948 أُدمجت في الجيش الإسرائيلي، وأسّسَ بيغن حزب "حيروت" الذي حمل الأيديولوجية العنصرية الإرهابية نفسها. وفي عام 1968 كرّم رئيس الدولة الصهيونية قيادات "الأرغون" "لدورهم الكبير في خلق دولة إسرائيل" (45).‏
      أمّا مناحيم بيغن (المولود في عام 1913) فهو الزعيم الإرهابي الصهيوني ورئيس حزب "حيروت" الفاشي وتحالف "ليكود" والقائد السابق لمنظمة "الأرغون" الإرهابية، ورئيس وزراء الكيان الصهيوني السابق‏
      (1977-1983). بولندي المولد. انضم إلى منظمة "بيتار" (1929)، التي كان هدفها إعداد الشبيبة للهجرة إلى فلسطين والقتال في سبيل الصهيونية. واتّباع الإرهاب والعنف وسفك الدماء وطرد العرب وسحقهم وتشريدهم، كوسائل لتحقيق أهداف "الصهيونية التنقيحية" التي كان يبشّر بها جابوتنسكي، الموجّه العقائدي لـ "بيتار"، ومُلهِمَ بيغن ومنظمته الإرهابية "أرغون".‏
      اعتقلت السلطات السوفييتية بيغن سنة 1940 بتهمة التجسّس لحساب بريطانيا، وأطلقت سراحه بعد عام. ولدى وصوله إلى فلسطين بدأ نشاطه في الصفوف الصهيونية المتطرّفة. وتولى قيادة "المنظمة العسكرية القومية أرغون تسفاي ليئومي" الإرهابية عام 1943. وفي الفترة ما بين 1943-1948 مارس بيغن الإرهاب بأنواعه كافة ضد عرب فلسطين، وضد القوات والإدارة البريطانية (الجلد بالسياط وتفجير الأماكن العامة والقتل الجماعي.. الخ)، وكان ذلك بالتنسيق في غالب الأحيان مع القيادة الصهيونية و"الوكالة اليهودية". أما أشهر أعماله الإرهابية فكانت نسف فندق الملك داوود، مقر حكومة الانتداب، ومذبحة دير ياسين الرهيبة، التي نفّذتها قوات أرغون بالتعاون مع قيادة عصابات "الهاغاناه" في 9/4/1948 ضد أهالي قرية دير ياسين العربية، الواقعة على أطراف مدينة القدس، وأسفرت عن ذبح 250 عربياً وجرح عدد مماثل معظمهم من الأطفال والنساء والشيوخ العُزّل من السلاح. أما من لم يقتل من أهالي القرية فقد اقتيد في سيارات نقلتهم إلى الأحياء من القدس، حيث استعرضوا أمام الجمهور الصهيوني المتعطّش للقتل وسفك الدماء، حيث رماهم بالحجارة وكال لهم أقذع الشتائم والإهانات. وفي المؤتمر الصحفي المُغلق الذي عقدته قيادة "الأرغون" أُعلن أنّ مذبحة دير ياسين، تشكّل بداية تنفيذ المخطط الصهيوني للاستيلاء على فلسطين وشرقي الأردن. وكانت الأوساط الصهيونية حاولت في فترة من الزمن التقليل من أهمية واقعة المذبحة وعدد ضحاياها، وإظهارها كعمل قامت به مجموعة إرهابية "غير مسؤولة" لكنّ الكاتب والصحفي الإسرائيلي إيلان هاليفي، كشف في مؤلّفه الوثائقي -"إسرائيل من الإرهاب إلى المجزرة" (46) أنّ مذبحة دير ياسين نفّذتها بتنسيق سابق وحدتان تابعتان لتنظيمين سياسيّين -عسكريين، هما "منظمة الأرغون تسفاي ليئومي" أو "المنظمة العسكرية القومية" التي كان يرأسها مناحيم بيغن، و"منظمة ليهي" التي أطلق عليها اسم "لوهامي حيروت إسرائيل" أي "المقاتلين لتحرير إسرائيل"، والمعروفة أكثر في الغرب باسم مجموعة "شتيرن" (النجمة)، والرجل الثاني فيها كان هو إسحق شامير. وقد أورد هاليفي نصّ المقابلة، التي نشرتها الصحيفة الإسرائيلية (يديعوت أحرونوت) في الرابع من نيسان عام 1972 مع العقيد مائير بايل ضابط الاحتياط وأستاذ التاريخ العسكري في "جامعة تل أبيب"، حيث بيّن بالوثائق والقصص التي تحدّث بها المشاركون في المذبحة (من التنظيمين الإرهابيّين) كيف أنها نُفّذت بأوامر مباشرة من بيغن وشامير، اللّذين كان بن غوريون يُطلق عليهما لسنوات عديدة لقب "الفاشيّين".‏
      وقد دعّم شهادة بايل إسرائيليون آخرون، كمورخ "الأرغون" يهوشا أوفير في كتابه "المعاقل". واللافت للانتباه أن رؤساء هذين التنظيمين أصبحوا فيما بعد مؤسّسي "دولة إسرائيل"، وكانوا يشكّلون المعارضة البرلمانية قبل أن يتعاقبوا على رئاسة الوزراء(47).‏
      وبعد سرده لتفاصيل المذبحة، وطبيعة المناقشات التي دارت بين القادة الميدانيين الذين أشرفوا مباشرة على تنفيذها يقول مائير بايل: "إنّ الهجوم على دير ياسين وصمة عار سوداء في تاريخ الشعب اليهودي والمجتمع‏
      الإنساني"(48).‏
      وعودة إلى الاتهامات المتبادلة بين التنظيمات الإرهابية الصهيونية، في ما يخصّ الجهة التي قامت بالعملية، فإننا نقرأ في وثيقة "الليهي" الصادرة في شهر نيسان عام 1948 "رداً على إعلان الهاغاناه" (القطري /ضابط الارتباط) إلى قيادة هذين التنظيمين، والذي يشير إلى الأعمال التي قاموا بارتكابها، وجاء فيها: "إنكم عزمتم مهاجمة دير ياسين.. ضمن خطتنا العامة، وليس لدي أي اعتراض حول ما كلفتهم به من مهمة شرط إنشاء قوة كافية لمهاجمة القرية بعد أن تتم العملية.." (49).‏
      وكان لهذه المجزرة الأثر الكبير في هرب السكّان العرب من بيوتهم وقراهم، خصوصاً أنّ جهل الإعلام العربي الداخلي، أغفل ما للتركيز على نشر تفاصيل المذبحة من أثر نفسي سلبي خطير باتجاه تشجيع النزوح، والإسهام في تنفيذ الخطة الصهيونية العنصرية في هذا المجال، حيث قامت عصابات الهاغاناه والأرغون وشتيرن وبالماخ بتطبيق استراتيجيتها الكبرى، القائمة على طرد أكبر عدد من السكان العرب وإبادة من يرفض النزوح، وإقامة سلسلة من المستعمرات الاستيطانية اليهودية على امتداد الأراضي العربية المحتلة، وإذا كانت الأوساط الصهيونية حاولت في وقت إغفال حقيقة انضمام تلك المجموعات إلى كيان الجيش الإسرائيلي، إلاّ أنّ "الدولة الإسرائيلية" كرّمت تلك المجموعات الإجرامية بعد حوالي عشرين سنة من المذبحة، وأعادت تقييمها على أساس أنها "عمليات لا بدّ منها"، وأنّ الذين نفذوها "يستحقون الأوسمة والتكريم"، وفي مقدمتهم المجرمان مناحيم بيغن وإسحق شامير، اللّذان أسندت إليهما رئاسة الحكومة الإسرائيلية بعد حوالي ثلاثين عاماً من تلك المجازر الفظيعة.‏
      والواقع أنّ بيغن وشامير ورابين ودايان- ككلّ الصهاينة من مفكرين وعسكريين وساسة- كانوا دائماً منسجمين مع أيديولوجيتهم العنصرية والفاشية والإرهابية، عندما كانوا -وما يزالون- يمارسون القتل والعنف وذبح الأبرياء وتهجيرهم، وإزالة بلدات وقرىً ومزارع عربية من الوجود نهائياً.‏
      وهم لا يخفون تلك الوقائع الإجرامية، وإنما -على العكس من ذلك- يتفاخرون بها، بحسبانها "بطولات وتضحيات عظيمة" في سبيل إنشاء الكيان الصهيوني، وتحقيق أهدافه الاستراتيجية الكبرى. والدليل على ذلك مذكّراتهم ومؤلّفاتهم ومقالاتهم، المتداولة على نطاق واسع في الأوساط الإسرائيلية والصهيونية العالمية.‏
      وعلى سبيل المثال فإنّ بيغن كتب كثيراً من المقالات السياسية، التي تدافع بحرارة وتعصّب عن كلّ عمل إجرامي قامت به عصابات "الأرغون"، التي كان يقودها. وله "مذكرات" حول قيام هذه المنظمة الإرهابية ونشوئها والأعمال القذرة التي مارستها، وذلك تحت عنوان "الثورة". كما نشر كتاباً تناول فيه فترة اعتقاله (بتهمة التجسّس) في روسيا أسماه "الليالي البيضاء". وفيهما ما يكشف فلسفته العنصرية ومزاجه الإرهابي- العدواني. حيث يعترف مباشرة أنّ "الاستيلاء على دير ياسين والتمسّك بها، كانت واحدة من إحدى مراحل المخطط العام، وأن المجزرة قد تم تنفيذها "بعلم الهاغاناه وبموافقة قائدها"، بالرغم من الغضب الكاذب، الذي عبّر عنه المسؤولون في "الوكالة اليهودية" آنذاك، والمتحدثون الصهاينة إرضاءً للرأي العام العالمي.‏
      وعندما قام حاكم مصر أنور السادات بزيارته الشهيرة للقدس المحتلّة، وألقى خطابه المعروف أمام "الكنيست" ردّ عليه بيغن بعجرفة بالغة وحقد وعنصرية كريهة. وبالرغم من كلّ التنازلات التي قدّمها له حاكم مصر في "كامب ديفيد"، فإنه لم يتراجع خطوة واحدة عن مواقفه الصهيونية الحاقدة، لا بل استفاد من هذه التنازلات لتحقيق مكاسب إعلامية، كان أبرزها منحه مناصفة مع السادات "جائزة نوبل للسلام" وسط احتجاج واسع ضدّ هذا الإرهابي العنصري المفضوح.‏
      وقد أصبحت مذبحة "دير ياسين" نموذجاً نمطياً لعدد من المذابح الصهيونية الأخرى "الناجحة". فلقد ذكر يتشاكي في جريدة "يديعوت أحرونوت" الصادرة في 14 نيسان /أبريل عام 1972، أمثلة كثيرة لـ "دير ياسين" وقعت في عام 1948.‏
      واختار يتشاكي ما حدث في "اللّد" على أنه أشهر عملية قامت بها قوات "البالماخ" وقد تم تنفيذ عملية "اللّد"، المعروفة بـ "حملة داني"، لإخماد انتفاضة عربية شعبية قامت في تموز /يوليو عام 1948 ضد الاحتلال الإسرائيلي. فقد صدرت تعليمات بإطلاق الرصاص على أي شخص عربي يتحرّك في الشارع، وفتح جنود البالماخ نيران مدافعهم الثقيلة على جميع المشاة، وأخمدوا، بوحشية، هذا العصيان العفوي خلال ساعات قليلة، وأخذوا يتنقلون من منزل إلى آخر، يطلقون النار على أي هدف متحرّك ونتيجة لذلك لقي 250 عربياً مصرعهم (وفقاً لتقرير قائد اللواء). وذكر كينيت بيلبي، مراسل جريدة "الهيرالد تريبيون" الذي دخل "اللّد" يوم 12 تموز /يوليو، أنّ موشي دايان قاد طابوراً من سيارات الجيب، التي تقلّ عدداً من الجنود المسلحين بالبنادق والرشاشات من طراز ستين والمدافع الرشاشة ذات الكثافة النارية الكبيرة. وسار طابور العربات الجيب في الشوارع الرئيسية، يطلق النيران على كل شيء يتحرك، ولقد تناثرت جثث العرب، رجالاً ونساءً، بل وحتى جثث الأطفال في الشوارع.‏
      في أعقاب هذا الهجوم (50). وعندما تمّ الاستيلاء على "رام الله" في اليوم التالي، ألقي القبض على جميع من بلغوا سنّ التجنيد من العرب، وأودعوا في معتقلات خاصّة (51). ومرّة أخرى تجوّلت العربات في المدينتين، وأخذت تعلن، من خلال مكبرات الصوت، التحذيرات المعتادة، وفي يوم 13 تموز يوليو أصدرت مكبرات الصوت أوامر نهائية، حددت فيها أسماء جسور مُعينّة طريقاً للخروج(52).‏
      وقد علّق حاييم وايزمان على نتائج الإرهاب والمكر الصهيونيين قائلاً: إنّ خروج العرب بشكل جماعي كان تبسيطاً لمهمة إسرائيل ونجاحاً مزدوجاً: انتصار إقليمي، وحل ديموغرافي نهائي (53)، إنّ الأرض، بعد تفريغها من سكانها، أصبحت بلا شعب حتى يأتي الشعب الذي لا أرض له(54).‏
      ويعد عام 1948 أصبحت الفظائع الصهيونية والإرهاب الرسمي والقتل الجماعي والإبادة المنظمة، استراتيجية ثابتة اتّبعها الكيان الصهيوني ضد عرب الأراضي المحتلة، وضدّ الشعب اللبناني (مجازر صبرا وشاتيلا وتهجير القرويين جماعياً.. ومجزرة قانا)، وضد أبناء الجولان وغيرها من الأراضي العربية، الرازحة تحت نير الاحتلال، أو محاذية لقوّاته ذات الطابع العدواني- الإرهابي. (وهناك دراسات ووثائق حول هذه الفظائع، لذلك لن نتوقف عندها في بحثنا هذا). بل بلغت انتهاكات الصهاينة وجرائمهم وإرهابهم دولاً وشعوباً ليس لها حدود مشتركة معهم، مثل تونس وأوغندة والعراق وغيرها من الدول، ناهيك عن أعمال "الموساد"، التي شملت معظم أنحاء العالم، والحديث عنها يتطلّب دراسات خاصة. وقد كتب حول هذه الأعمال الإرهابية عشرات المؤلفات ومئات الوثائق والأدلّة القاطعة.‏

      إذا الشعب يوما أراد الحياة
      فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
      و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
      و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

      تعليق


      • #4
        رد: الأبعاد الفكريّة والعلميّة -التقنيّة للصراع العربي الصهيوني

        * الاستيطان الصهيوني ونظرية "أرض بلا شعب" العنصرية
        لقد شبّه بن غوريون المعارك العنيفة، والمذابح الجماعية التي نفّذها الصهاينة ضد الفلسطينيين بتلك التي "شنّها المستوطنون البيض ضد الطبيعة الوحشية وضد الهنود الأكثر وحشية" (55).‏
        وقد وصف هرتزل (1860-1904) الفكرة الصهيونية بأنها "فكرة استعمارية"، ولذا أرسل بمشروعه للسير سيورودس ليضع ختم "شرعيته" على هذا المشروع (56). أمّا ناحوم سوكولوف، المنظّر والداعية والمؤرخ الصهيوني المعروف، فقد قرّر حسم التناقض بين الصهيونية كحركة انبعاث روحي والصهيونية كحركة استعمارية بأن قرّر أن "نكون صهيونيين في استعمارنا وروحنا وديننا" (57).‏
        وإذا كانت الصهيونية أيديولوجية عنصرية، استعمارية، إرهابية.. فإنّ كلّ مؤسّساتها وممارساتها وتربيتها وثقافتها لا بدّ وأن تتصف بهذه الصفة، القائمة على الحقد والكراهية والاستعلاء واستعباد السكّان الأصليّين. فاليهود - في فلسطين المحتلة- لم يكتفوا باحتلال الأرض، وإنما كانت استراتيجيتهم -وما زالت- تقوم على أخذ الأرض دون سكانها، ولذا كان لا بدّ من إرهاب الفلسطينيين وترويعهم، ومحاصرتهم، واقتلاعهم.. وإبادتهم. فالهدف من المذابح التي نفّذها الصهاينة من أربعينيات هذا القرن إلى هذه اللحظة يكمن في الإجهاز على عرب الأراضي المحتلة. وبهذا يسهل على الصهيونية الوصول إلى غايتها الكبرى، المتمثلة بالطرد والاقتلاع والإبادة، ومن ثم الإسكان والتوطين والإحلال.‏
        إنّ إحلالية الاستعمار الصهيونية هي نتيجة حتمية "لصهيونيته"، بل يمكن التأكيد أنّ الإحلالية والصهيونية هما مترادفان يعبّران عن الشيء ذاته. فالصهيونية تهدف لإقامة دولة يهودية خالصة، ووجود أي عنصر غير يهودي داخل هذه الدولة سيؤدي إلى فشل المشروع الصهيوني من أساسه، أي أنّ البرنامج الصهيوني، لأنه صهيوني، كان يتطلب إحلال اليهود محل العرب، وليس مجرّد استغلال هؤلاء العرب. وغالبية الصهاينة تدرك الطبيعة الاستعمارية، الاستيطانية، الإحلالية، العدوانية، الفاشية للمشروع الصهيوني، ولعل شعار "شعب بلا أرض لأرض بلا شعب" هو الجوهر الحقيقي لهذا المشروع الخطير. والنزعة الإحلالية واضحة في كتابات هرتزل من البداية، حينما تحدث عن استخدام "المواطنين الأصليين" في قتل الثعابين الكبيرة والحيوانات المفترسة الأخرى ثم إعطائهم وظائف في دول أخرى يقيمون فيها بصفة مؤقتة إلى أن يتم اختفاؤهم بشكل كامل(58).‏
        وقد ذكر جوزيف وايتنر، ممثّل "الوكالة اليهودية" المسؤول عن الاستيطان، في جريدة "دافار" (29/ أيلول/ سبتمبر 1967) إنه هو وغيره من الزعماء الصهاينة توصلوا في عام 1940 إلى نتيجة مفادها أنه ليس هناك "مكان يتسع لكلا الشعبين (العربي واليهودي) معاً في هذا البلد" وأنه لتحقيق الأهداف الصهيونية لا بد وأن تقام دولة غرب نهر الأردن ليس بها عرب، ولذا كان من الضروري -وفق قوله- "نقل العرب من هنا ومن الدول المجاورة.. نقلهم جميعاً، وبعد انتهاء عملية النقل هذه سيكون في مقدور الدولة (الصهيونية) استيعاب الملايين من إخواننا" (59).‏
        وقد اتفق جميع الزعماء الصهيونيين، باختلاف اتجاهاتهم السياسية، على إحلالية الاستعمار الصهيوني، سواء كان سوكولوف الصهيوني السياسي اليميني 60- أو بوروخوف، زعيم "اليسار" الصهيوني (61)، وكلّ التيارات والاتجاهات والقوى والأحزاب السياسية والدينية الصهيونية، التي ظهرت بعد إقامة الكيان الغاصب في أرضنا المحتلة.‏
        والواقع أنّ أبرز التّيارات المسيطرة في "إسرائيل" وبين يهود العالم، هو تيّار الصهيونية القومية، أو "الجابوتنسكية" في صيغتها المعاصرة أو "صهيونية الحدّ الأقصى"، التي يُعرّفها بعض الباحثين بأنها تمثّل "الدين المدني الجديد". وهي نزعة صهيونية تشدّد على العرقية، والعداء لغير اليهود، وعلى الأهمية الرمزية المتزايدة لأحداث النازية. وهي نظرة تبدو مُلائمة للأكثرية من كتلة "الليكود" ومعظم أعضاء "الحزب الديني القومي" (المفدال) وأعضاء حركة "جوش إيمونيم" (كتلة الإيمان) وترفض الصهيونية القومية إعادة الأراضي المحتلة للفلسطينيين، وكذلك الجولان لسورية، وترفض مبدأ إقامة "دولة فلسطينية" (مهما صغر حجمها وتضاءلت صلاحياتها)، وتسعى بعض الفصائل في هذا الاتجاه (مثل حزب "موليدت") وعدد من قادة "الليكود" (ارئيل شارون وبنيامين بيغن) إلى تحقيق عملية "ترحيل" (ترانسفير) كاملة للعرب، من المناطق الفلسطينية المحتلة، حفاظاً على الطابع اليهودي للدولة في حال ضم المناطق لإسرائيل.‏
        أما التيّار الآخر، الذي يصبّ في هذه الرؤية العنصرية- الاستئصالية، فهو يتمثل بالصهيونية القومية المتطرفة. ويشترك مع التيار السابق في تبنّي الشعارات العنصرية والانعزالية نفسها. وتستند هذه العقيدة الصهيونية إلى خليط من التراث اليهودي المتطرّف. وبالنسبة لهم يشكّل "شعب إسرائيل" و"أرض إسرائيل" و"التوراة" ثلاثية لا تنفصم عندما يتحقق اندماجها التام سيأتي "المسيح المخلّص"، لأنّ تخليص الأرض هو شرط مسبق لتحرير الشعب اليهودي، وتهويد الضفّة الغربية ثم الشرقية لنهر الأردن شرط أساسي لتحرير الشعب اليهودي، وهي مهمّة يزعمون أنها جاءت "بأمر الرب". وهم مستعدون لعمل أي شيء من أجل تحقيق أهدافهم ويلجؤون للقوة في سبيلها. وأكثر من يمثّل الصهيونية القومية المتطرفة حركة "جوش إيمونيم" وحركة "كاخ" وحركة "آيل" وحركة "دولة يهودا"، وكلها حركات تقوم بالاستيطان اليهودي في الضفة الغربية وبقية الأراضي العربية المحتلة، بالإضافة إلى أنها تحظى بالدعم ليس فقط من ممثلي "الصهيونية القومية" بل من عناصر علمانية كثيرة في أوساط "حزب العمل" الإسرائيلي، ومن الأحزاب الدينية سواء الصهيونية أو "الحريدية" (الاتجاه الديني)، وخاصة في مجال جهودها الاستيطانية(62).‏
        ولذلك لم يكن غريباً التقاء الأحزاب اليمينيّة المتطرفة- الفاشية مع الأحزاب والجماعات الدينية المتشدّدة، التي يجمعها مبدأ التوسع الإقليمي، وعدم التخلّي عن الأراضي العربية المحتلة، وأن ترتبط بها المؤسّسة العسكرية في إسرائيل، وهو ما شكّل دحضاً مباشراً وقوياً للصورة "الديمقراطية" الزائفة عن الحكم في "إسرائيل". وهكذا صبّ اليمين الصهيوني المتطرّف جام غضبه على اسحق رابين، الذي عَدّه المتطرفون "خائناً لأرض إسرائيل" لمجرّد أنه فكّر بإعادة بعض الأراضي للفلسطينيّين. ويعتقد "عامير" قاتل رابين ومؤيدوه، أنّ الربّ سيصب لعناته وغضبته على "شعب إسرائيل" لأنّ التخلّي عن جزء من إسرائيل الواردة في التوراة، ومنحه للفلسطينيّين لا يهدر من إسرائيل فحسب، بل يهدّد أيضاً روح الأمة وعلة وجودها. فالقضية بالنسبة إليهم قضية أمن، وهي القضية السياسية، التي عملت على انقسام الأجنحة الصهيونية المختلفة، وإنما القضيّة هي قضية لاهوتية.‏
        وممّا يؤكّد بصورة جليّة سيطرة القوى الدينية، وزعماء الطوائف اليهودية على اتجاهات "المجتمع" الصهيوني -الإسرائيلي، فقد "كشف النقاب عن أنّ عامير قد استفتى بعض الحاخامات لمعرفة رأي الدين اليهودي في اغتيال رابين، فأفتى اثنان منهم باستحلال دم رابين، لكنه رفض أن يعطي أسماء رجلي الدين، اللذين استند إليهما في تنفيذ عملية الاغتيال" (63)‏
        إنّ التعصّب المسيطر في "المجتمع الإسرائيلي" والتمييز العنصري داخل هذا الكيان إنّما يشكّلان في واقع الأمر ترجمة أمينة للصهيونية بحسبانها أيديولوجية عنصرية. فقد مورس التعصّب والتمييز بالعنصري في التجمع اليهودي في أرض فلسطين، بناء على تطبيق القوانين ذاتها(64). أو بعبارة عالم النفس الإسرائيلي جرجس تامارين أصبح هناك أسس قانونية لممارسة التعصب والتمييز العنصري في المجتمع الإسرائيلي(65).‏
        فالتعصب والعنف والإرهاب سمات وسلوك وممارسات يومية ضدّ العرب في "إسرائيل". وقد فضح هذه النزعات الخطيرة عددٌ من الباحثين والكتّاب والصحفيين الإسرائيليين، وفي مقدّمتهم البروفسور إسرائيل شاحاك في مقابلاته وفي بيانات "الرابطة الإسرائيلية لحقوق الإنسان والمواطن"، وفي كتابه "عنصرية دولة إسرائيل" الذي يزخر بمئات الحالات والنماذج من الاضطهاد العنصري، والعنف الصهيوني- الرسمي، والإرهاب المُنظّم ضدّ السكان العرب، الذين يخضعون للاحتلال الصهيوني، كالعقاب الجماعي، ونسف المنازل، والطرد والترحيل إلى ما وراء الحدود، والإقامة الجبرية، وإغلاق المؤسّسات التعليمية، والاستيلاء على الأحياء العربية، وإقفال المحلات التجارية، وامتهان كرامة الناس، عن طريق تحقيرهم وإذلالهم بوسائل كثيرة. فقد سرد داني روبنشتاين عدة حوادث "تتسّم بتحقير العرب"، منها مثلاً: إرغام قوّات الأمن الإسرائيلية بعض رجال الدين والمارّة على "تكنيس" الشوارع. وإيقاف مجموعات كبيرة من العرب ووجوههم إلى الجدران، وإرغامهم على خلع أحذيتهم، مع توجيه الشتائم والإهانات إليهم. وأضاف يقول: إنّ أعمال الضرب واللكم تتكرر يومياً وينتهي الأمر في بعض الحالات إلى الموت‏
        (دافار 30/3/1976).‏
        وأشارت "هاعولام هازيه" (1/4/1967) إلى أن قوات الأمن الإسرائيلية في الضفة الغربية "كانت تمسك أناساً في الشوارع، أو تدخل إلى المنازل العربية ليلاً لتخرج الرجال منها، وتأمرهم بالركض حول مكان ما في وسط المدينة. أو يرغمون الناس في نابلس على الرقص وسط الشارع على قدم واحدة. أو أن يركب واحد على ظهر الآخر في الشارع".‏
        وفي هذا المنحى تقول عضو "الكنيست" شولاميت آلوني": "إنّ الشباب المتعصب الذي يدين بالصهيونية الدينية، يعد سكان يهودا والسامرة كلاباً ويعاملهم بمنتهى الاحتقار والإزدراء"(66).‏
        * نظرة إجماليّة لتحليلات الشخصيّة الإسرائيليّة أو :‏
        النتائج العمليّة "للتربية" الصهيونيّة‏
        يُستخدم مصطلح الشخصية القومية - بوجه عام- لوصف السمات النفسية والاجتماعية والثقافية لأمة أو شعب ما، تلك التي تتّسم بثبات نسبي، والتي يمكن عن طريقها التمييز بين هذه الأمة وغيرها من الأمم، أو بين هذا الشعب وغيره من الشعوب (67). وقد بيّنت دراسات اجتماعية -نفسية كثيرة أن الناس في بيئة اجتماعية وثقافية معيّنة يميلون إلى أن يتشابهوا في شخصياتهم. وهناك شبه إجماع بين المتخصّصين في هذا الميدان أنّ "البناء الأساسي للشخصية يشير إلى تشكيل يشترك فيه غالبية أعضاء المجتمع، نتيجة للخبرات التي اكتسبوها معاً".‏
        ولا شكّ أنّ الشخصية يمكن أن تتشكّل (رغم الفروقات الفردية النفسية والعصبية والعقلية والجسمية) بتأثير قوي للأسرة والمدرسة والبيئة الاجتماعية والدينية والثقافية. وقد أدركت الصهيونية أهمية إعادة تربية وتكوين الفرد في "إسرائيل"، ليكون أداة فعّالة لتحقيق أهدافها العنصرية، التوسّعية المعروفة. فاعتمدت الصهيونية منذ نشأتها على إثارة النعرة الدينية والنزعة العرقية لدى اليهود وعلى بث وترويج فكرة العلاقة الوثيقة بين الدعوة الصهيونية وبين الديانة اليهودية. وأشاعت مقولة بين اليهود، مفادها أنّ الصهيونية إنْ هي إلا صيغة عصرية للديانة اليهودية. وقد بذلت جهود كبيرة وما تزال، لشحن اليهود بالأفكار العرقية، وتعزيز الحقد والكره والتعصب ضد العرب في نفوسهم. ولعبت التربية الدينية -اليهودية ولا تزال تلعب دوراً كبيراً في صياغة أنماط تفكير معظم مفكّري وقادة الصهيونية وإسرائيل، القدماء والمحدثين على حدّ سواء "فمنذ الأيام الأولى عمل الصهيونيون على إيقاظ طاقات التعصّب والعنصرية في نفوس اليهود. وكانت العبارات العنصرية من مثل "لا تعاملوا طبيباً عربياً"، "لا تشتروا من تاجر عربي" (عام 1904) تتكرر على مسامعنا- يقول موشيه منوحن -في كل اجتماع وكل حلقة في الكلية التي تخرّجت‏
        منها" (68).‏
        ويضيف منوحن: ".. كانوا يتوخّون من هذا الوعظ المتكرر تسميم أفكارنا لننقلب إلى يهود قوميين، حتى أصبح المعهد بؤرة للأفكار القومية السياسية المتطرفة المجنونة. كان عيشنا من نوع الحقن، والنفخة الفارغة، والشحن بالمبادئ المفتعلة، المصطنعة. كان علينا أن نفهم ونشعر بأن يهود العالم شعب خاص ومنفرد بذاته. الشعب المختار الذي عليه أن يستعيد أرض الآباء والأجداد.. وقد علّمونا أن نكره العرب، وأن نحتقرهم. وعلّمونا، فوق هذا كلّه، أن نطردهم من "أرتسينو" (أرضنا) على اعتبار أن فلسطين هي بلادنا، لا بلادهم. وأن بوسعنا الإطلاع على التوراة في هذا الصدد.. وقد ظلوا طوال خمس سنوات يشحنونني بأفكار القومية واليهودية والصهيونية. وظللت سنوات أعاني من شعور الكراهية ضد العرب، وخاصة عرب فلسطين. ذلك الشعور الذي غرس في قلوبنا الفتية" (69).‏
        إنّ التركيز على تدريس التوراة والتراث اليهودي وتاريخ القبائل اليهودية، إنّما يهدف لتحقيق أهداف الصهيونية، وتكوين شخصية الشبيبة الإسرائيلية بحسب منهجية هذه الدعوة العنصرية، وتوجيه ميولهم وتأطير سلوكهم إلى ما ينبغي أن يكون إزاء بعضهم وإزاء غيرهم من الأمم. وقد نشأ أغلب المفكرين والسياسيين والقادة الصهاينة على هذا التراث، وتشربوا بالقيم التي ينطوي عليها، وعملوا على تطويعها وتكييفها لخدمة الصهيونية، خاصة لجهة التربية العنصرية -العدوانية، وتسويغ الاستيلاء على فلسطين والأراضي العربية المحتلة. وهناك مجموعة مواد مدرسية إلزامية في جميع المدارس، وفي الصفوف والمراحل كافة، مثل مادّة "التوعية اليهودية"، التي يشتمل منهاجها على تلقين الطالب أمثولات في المعتقدات والشعائر والطقوس الدينية اليهودية، وتعليمه التوراة والتلمود، بالإضافة إلى إطلاعه على ما كتبه مفكّروهم وعلماؤهم. أي أنّ الغاية من إدراج هذه المواد في المناهج التدريسيّة، إعادة تكوين وعي الطلاب، وصياغته، وقولبته وفق نمط محدّد، وجعلهم يؤمنون بصورة مطلقة أنّ اليهودية "ظاهرة ثقافية خارقة" وأنّ اليهود أصحاب "رسالة روحية". وأنهم "أنقى جنس خلقه اللّه"، و"أنقى عرق وأعرق أمة". وأنّ "الشعب اليهودي من الشعوب الخالدة، يملك تراثاً عميقاً من الحياة الثقافية والقيم الروحية" (كما صرّح بالحرف كلّ من: شموئيل أتينغر ويهودا ماغنس وموسى هس وناحوم سوكولوف وأحاد هاعام).‏
        كلّ ذلك أدّى إلى ظهور مجتمع عنصري بكل ما في هذه الكلمة من معنى، أفرز مئات ألوف الناشئة والشباب، الذين تثقفوا وجرتْ "تربيتهم" على الأيديولوجية، الطافحة بالغيبيات والخرافات، والقائمة على التعصب الديني -الصهيوني المتطرّف. فما الذي سنتوقعه من شخص ترعرع في مثل هذه البيئة العدوانية، وآمن بقدسية التوراة والتلمود؟ هذا التراث الخفي، أو التعاليم والقوانين المتزمتة، التي قال عنها البروفسور إسرائيل شاحاك: "إنّ قوانين النازية أكثر اعتدالاً من قوانين التلمود" (معاريف: 8/4/1975).‏
        يضاف إلى ذلك أنّ ما تطبقه السلطات الإسرائيلية من قوانين عنصرية، دينية وثقافية وإجرائية، ضيّقة الأفق، وما تشيعه من مناخ شوفيني وتعصّب أيديولوجي، وما تمارسه من إجراءات إرهابية، قد أثر تأثيراً واضحاً على اتجاهات.اليهود إزاء العرب، ووسمها بطابع عنصري، عدواني، استعلائي. الأمر الذي جعل ألوف اليهود (إنْ لم نقل الملايين) مقتنعين وموقنين تماماً بأنّ "العرب منحطّي القيم والأخلاق، ضعيفي الذكاء، ليسوا في شجاعة الإسرائيليين، غير أمناء، وأدنى من الإسرائيليين"، وقد جاء ذلك إثر دراسات ميدانية قام بها علماء غربيون متخصّصون، ومعاهد استطلاع الرأي العام، مثل معهد "لويس هاريس" لقياس الرأي العام الإسرائيلي تجاه الحرب والسلام، وذلك لحساب مجلّة "التايمز"، ونشرت نتائجه في العدد الصادر في 12 نيسان /‏
        أبريل 1971. (69).‏
        وخلاصة "جهود" المؤسّسات التعليمية والدينية والعسكرية والإعلامية الإسرائيلية، أنّها "نجحت" إلى حد بعيد في أن تخلق لدى الإسرائيليين فكرة نمطية -عنصرية ثابتة عن العرب. حيث يعتقد غالبية الإسرائيليين (ما بين 66 و80 بالمئة) أنّ "العرب أدنى من الإسرائيليين". ولعبت أجهزة السلطة الإسرائيلية دوراً كبيراً في تدعيم هذه الصورة النمطية العنصرية تجاه العرب، التي تماثل اتجاهات التمييز العنصري السائدة لدى البيض الأمريكيين تجاه السود في الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ماساعد من طريق آخر على تدعيم اتجاهات العدوان لدى الإسرائيليين تجاه العرب. وأظهرت الاستطلاعات الميدانية، بما فيها تلك التي قام بها مختصون إسرائيليون ومعاهد إسرائيلية لدراسات الرأي العام، مثل "معهد يوري الإسرائيلي لقيام الرأي العام" و "معهد الأبحاث الاجتماعية التطبيقية" و"معهد العلاقات العامة في الجامعة العبرية".. أظهرت أنّ الوظيفة التي تقوم بها الأفكار والصور النمطية الزائفة عن العرب لدى الرأي العام الإسرائيلي، لا تقف عند حدود تشويه صورة العرب، ولكنها تستخدم كأسس لخلق وتدعيم الاتجاهات العدوانية، والتوسعية إزاء العرب لدى الرأي العام الإسرائيلي. كما كشفت بكل جلاء أنّ ملامح الصورة المتكوّنة عن العرب كما يلي:‏
        "العرب لا يفهمون سوى لغة القوة، ولذلك فاتباع سياسة الردع والعنف معهم هو الأسلوب الأمثل. وهو قوم فرديون، مفككون، يميلون إلى الكذب والمبالغة وخداع الذات. وهم بالمقارنة بالإسرائيليين كُسالى وجبناء وخونة، ومستوى ذكائهم منخفض، وعلى الجملة هم أدنى من الإسرائيليين" (70).‏
        وفي السياق ذاته، أشارت المحامية الإسرائيلية فليتسيا لانغر، إلى أنّ سياسة التربية الصهيونية تركّز على تعليم الطالب اليهودي فنون الحرب والقتل، وترسّخ لديه مشاعر التعصب القومي، والحقد على العرب، "لكي يحاربهم جيداً، ولكي لا ترتجف يداه عندما يهمّ بإطلاق النار عليهم"(71).‏
        وقد أظهرت الدراسة التي قام بها البروفسور الإسرائيلي جرجس (جورج) تامارين، لصالح "دائرة التربية في الجامعة العبرية" حول قيم الشباب في المدارس الإسرائيلية (لمن تتراوح أعمارهم بين 15 و 22 عاماً). وكانت صيغة الأسئلة تتعلّق بسفر "يشوع" في "التوراة"، الذي يدّرس في المدارس الإسرائيلية حيث جاء في الصيغة (72).‏
        "أنت تعرف جيّداً هذه المقاطع من "سفر يشوع": "فهتف الشعب، وضربوا بالأبواق. وكان حين سمع الشعب صوت البوق، أنّ الشعب هتف هتافاً عظيماً، فسقط السور في مكانه. وصعد الشعب إلى المدينة.. وحرّموا كل ما في المدينة، من رجل وامرأة. من طفل وشيخ. حتى البقر والغنم والحمير، بحدّ السيف (سفر يشوع، الأصحاح السادس: 20).‏
        "وأخذ يشوع مقيّدة في ذلك اليوم، وضربها بحدّ السيف، وحرّم ملكها هو وكل نفس بها. لم يبق شارد. وفعل بملك مقيدة كما فعل بملك أريحا.. وحارب لبنة.. فضربها بحد السيف، وكل نفس بها. لم يُبق شارداً. وفعل بملكها كما فعل بملك أريحا" (يشوع، الأصحاح العاشر: 28).‏
        وبناء على ماتقدم (أضاف تامارين)، أجب من فضلك على السؤالين التاليين:‏
        "1-هل ترى في تصرّف يشوع بن نون، والإسرائيليين، تصرّفاً صائباً، أم خاطئاً، ولماذا؟.‏
        2-لنفترض أنّ الجيش الإسرائيلي احتلّ قرية عربية في الحرب. وفعل بسكّانها مافعله يشوع بشعب أريحا، فهل يكون تصرّفه، برأيك، حسناً، أم سيّئاً؟ ولماذا؟".‏
        وكانت الإجابات، التي وردته بنسبة تتراوح بين 66-95 في المئة (بحسب موقع المدرسة: في الكيبوتس أم في المدينة) تقول مايلي: "لقد تصرّف يشوع بن نون تصرّفاً حسناً بقتله الناس في أريحا، لأنّ همه كان ينحصر في احتلال البلاد كلها. ولم يكن لديه وقت لينشغل بالأسرى".‏
        وعلى سؤال: "هل يمكن في أيامنا هذه القضاء التام على سكان قرية عربية محتلّة؟" أجاب 30 في المئة من التلاميذ، بشكل قطعي: "نعم".‏
        وقد كتب واحد من التلاميذ (كنموذج استشهد به الباحث): "أعتقد أن كل ما قام به يشوع كان صحيحاً. فنحن نريد قهر أعدائنا وتوسيع حدودنا. ولو كان الأمر بيدنا لفتكنا بالعرب جميعاً، كما فعل يشوع والإسرائيليون".‏
        وكتب تلميذ آخر: "في رأيي أنّ على جيشنا أن يفعل بالقرية العربية ما فعله يشوع بن نون، لأنّ العرب أعداؤنا" (73).‏
        وقد كان بن غوريون يقول: "إنّي أعدّ يشوع هو بطل التوراة، إنه لم‏
        يكن مجرّد قائد عسكري بل كان المرشد، لأنه توصل إلى توحيد قبائل‏
        إسرائيل"(74).‏
        فالحروب وطقوس العنف والكراهية والإرهاب، أصبحت بمثابة تجسيد ومتنفس حتمي، وتحصيل حاصل للروح العدوانية لدى الشخصية الإسرائيلية، مهما حاولت أجهزة الإعلام الصهيونية والموالية لها أن تلبسها من أردية الشرعية الزائفة.‏
        وتعبّر عالمة النفس الإسرائيلية عاميا ليبليخ عن هذه الظاهرة، التي لازمت الوجود الصهيوني على الأرض العربية بقولها:‏
        "إنّ التعايش مع الحرب، كان وما زال جزءاً رئيساً من حياتنا، منذ إقامة الدولة وكذلك في الفترة السابقة عليها. ولكن، الخوف من الهزيمة -الذي معناه موت الأعزاء علينا وربما هو أفظع من ذلك- قد زاد بعد حرب يوم‏
        الغفران" (75).‏
        لقد أصبحت الحروب والعسكرة والعنف سمات ملازمة للشخصية الإسرائيلية، وستظلّ تلازمها، لأنها تحوّلت إلى شخصية عدوانية، اكتئابية، متفجّرة.. نتيجة لوقوعها تحت تأثير جملة معقّدة من المآزق النفسيّة والاجتماعية والعصبية والأخلاقية، وضعتها فيها الحركة الصهيونية وإسرائيل وسط المحيط العربي الرافض لمقومات هذا الوجود العدواني. فالوجدان الإسرائيلي يرى حالة الحرب والعنف وسفك الدماء والدمار، كما لو كانت حالة نهائية ودائرة مغلقة، ولعنة أبدية. ومنذ بضع سنوات لاحظ الشاعر الإسرائيلي حاييم جوري بمرارة أنّ "هذا التراب (تراب إسرائيل) لا يرتوي، فهو يطالب دائماً بالمزيد من المدافن وصناديق الموتى، كما لو كانت أرض إسرائيل آلهة ثأر بذيئة، وليس مجرّد قطعة أرض أو إقليم" (76).‏
        وفي رسالة تقدم بها الباحث الأمريكي باري بلخمان (عام 1970) للحصول على درجة الدكتوراه في الآداب من جامعة "جورج تاون" الأمريكية، تحت عنوان: "الآثار المترتبة على الانتقامات الإسرائيلية: محاولة للتقييم"، وصف بلخمان "الانتقامات الإسرائيلية" بأنها "سلوك قومي إسرائيلي" (77)، وأن "إسرائيل لا تولي انتباهاً جاداً إلى شروط الشرعية سواء من حيث الواقع أو من حيث المظهر. إنها تعدّ الانتقام صورة شرعية من صور السلوك القومي"(78).‏
        وقد أشار في خلاصة بحثه إلى أنّ "ثمّة جوّ من الإحباط قد تكوّن في إسرائيل، وهو مايدركه صانعو السياسة الإسرائيلية. وتبدو الانتقامات كوسيلة اختاروها لتنفيس هذا الإحباط"(79).‏
        إذاً، فالشخصية العدوانية، العنصرية، الإرهابية، المسيطرة اليوم في "المجتمع الإسرائيلي" هي ثمرة طبيعية من ثمرات "التربية" الصهيونية منذ أكثر من مئة عام. ولهذا لايمكن أن نستغرب أن يجيب أطفالهم على سؤال "ماذا نفعل بالعرب؟" بالقول: "إنه يجب قتلهم وإبادتهم" كما رأينا.‏
        وإنّ دراسة الشخصية الصهيونية، تفرض على الباحث الموضوعي إظهار الجوانب العدوانية والعنصرية، التي جرى التركيز عليها في مدارسهم وثقافتهم وإعلامهم ومعابدهم دون غيرها. وبذلك تحوّلت في أذهانهم وعقلهم الواعي والباطن، وفي ممارستهم اليومية (في داخل مجتمعهم) ومع الآخرين إلى عقيدة راسخة، إلى سمة نمطية قولبت حياتهم ومسلكهم ومواقفهم. وبفهم ومعرفة الشخصية الصهيونية، يمكن فهم الأوضاع المأزقية، التي يعيشها الصهيوني بالنسبة لمحيطه الاجتماعي المتأزم، وكذلك بالنسبة إلى وعيه وسلوكه إزاء العرب، الذين جرى طردهم واحتلال أراضيهم، وشنّ حروب عدوانية عديدة ضدّهم، ومع ذلك فإنها لم تحقّق للشخصية الصهيونية الحدود المعقولة من الأمان النفسي والتوازن العصبي والسلوكي والأخلاقي.‏
        وبالرغم من ظهور قوىً وتيارات كثيرة في "المجتمع الإسرائيلي" تنادي بالسلام، مثل حركة "السلام الآن" (شالوم عكشاف) وغيرها، إلاّ أن هذه القوى التي تعكس حالة الإرهاق، التي أصابت مجتمعهم بسبب الحروب المتواصلة، مازالت غير مؤثرة على توجيه الأمور لصالح السلام، والحلّ الشرعي للقضية الفلسطينية، في حين أنّ القوى العدوانية الرافضة للسلام، وإعادة الأراضي المحتلّة لأصحابها... مازالت هي الأقوى في توجيه القرار السياسي، لأنها هي الدرع الوحيدة التي يثقون في قدرتها على الدفاع عن وجودهم، ولأنّها هي المعبّرة الحقيقية عن توجّهات مجتمعهم العنصرية والعدوانية والإرهابية.‏
        ***‏
        الحواشي‏
        1- للاطلاع المفصّل على الأيديولوجية الصهيونية يمكن مراجعة المؤلّفات المميزة، التي وضعها الباحث الدكتور عبد الوهاب محمد المسيري في هذه المسألة، ولا سيّما: موسوعة المفاهيم والمصطلحات الصهيونية، رؤية نقدية (القاهرة: مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية/الأهرام)، 1975؛ اليهودية والصهيونية وإسرائيل: دراسات في انتشار وانحسار الرؤية الصهيونية للواقع (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر 1975)؛ نهاية التاريخ، دراسة في بنية الفكر الصهيوني (بيروت: المؤسّسة العربية للدراسات والنشر، 1979)؛ الأيديولوجية الصهيونية، دراسة حالة في علم اجتماع المعرفة (في قسمين)، سلسلة عالم المعرفة، العددان 60-61 (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1982-183).‏
        2- انظر: الدكتور عبد الوهاب الكيالي (المؤلف الرئيسي، رئيس التحرير) ومجموعة من الكتّاب موسوعة السياسة (بيروت: المؤسّسة العربية للدراسات والنشر، ج3، ط1، 1983)، ص ص 659-661.‏
        3- -Jewish Telegraphic Agency, Daily News Bulletin, N.y.20,11,1975.‏
        4- -Naom Chomskyk ((Israeli Jews and Palestinian Arabs)) The Holy Cross Quarterly, Vol.5, No 2. Summer 1972. N.Y..‏
        5- New York Times, December 3, 1975.‏
        6- Jerusalem Post 3.12, 1975.‏
        7- يهودا ماغنس (1877-1948) حاخام أمريكا، وأول رئيس للجامعة العبرية في‏
        القدس (1935). انظر: الدكتور جورجي كنعان، العنصرية اليهودية (بيروت، دار النهار للنشر، ط1، 1983) ص12. وقد استندنا إليه في معطيات كثيرة وأساسية في هذا البحث. إذْ يُعَدّ -برأينا- من أبرز الكتّاب العرب، الذين ناقشوا الخلفية الدينية والعقيدية للأيديولوجية الصهيونية عن اطلاعٍ ووعي وتصور واضح.‏
        8- الدكتور جورجي كنعان، العنصريّة اليهوديّة، ص ص 12-13.‏
        9- -Ben Gurion Looks Back. In Talks with Moshe Pearlman. N.y. 1965.‏
        10- إسرائيل شاحاك. من مواليد بولونيا 1933.هاجر إلى فلسطين عام 1945. أستاذ الكيمياء في الجامعة العبرية في القدس، ورئيس الرابطة الإسرائيلية لحقوق الإنسان. انظر كتابه "عنصريّة دولة إسرائيلية"، باريس 1975؛ وانظر كتابه "الديانة اليهودية وموقعها من غير اليهود"، ترجمة حسن خضر (القاهرة: سينا للنشر، 1994)، والذي تُرجم في سورية تحت عنوان "التاريخ اليهودي المكشوف والمستور"، ترجمة عبد الكريم محفوض (دمشق: دار البعث، 1996).‏
        11- -Talmon, J.l,. The Unique and the Universal. London, 1965‏
        12- للتفصيل انظر: أنيس شقور، "النظام القانوني والنظام القضائي في إسرائيل" في "دليل إسرائيل العام"، تحرير: صبري جريس وأحمد خليفة وعدد من الباحثين المختصين (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ط2، 1996)، ص ص4-5 وما بعدهما.‏
        13- انظر: الياس شوفاني، "النظام الحكومي في إسرائيل"، في "دليل إسرائيل العام"، ص91.‏
        14- الدكتور جورجي كنعان، العنصريّة اليهوديّة، ص14.‏
        15- نقلاً عن المصدر السابق، ص ص15-16. وأحاد هاعام، الاسم المستعار لـ "أشربن غنربرغ" من مواليد أوكرانيا (1856-1927): زار فلسطين مرتين قبل أن يستقر في تل أبيب.‏
        16- -Georges Feridman. The End of the Jewish People. N.Y 1968.‏
        17- أوري أفنيري (أبنير). ولد في ألمانيا 1923. هاجرت أسرته إلى فلسطين في سنة 1933. انتخب عضواً في "الكنيسيت" الإسرائيلي في عام 1965. كما أصبح رئيساً لتحرير مجلّة "هاعولام هازيه". انظر كتابه "إسرائيل من دون صهاينة"، نيويورك‏
        1968.‏
        18- انظر: جورجي كنعان، سقوط الامبراطورية الإسرائيلية (بيروت: دار النهار، 1980).‏
        19- 0Lioyd Gerrge, David, The Truth About the Peace Treaties, London 1939.‏
        20- للاطلاع على تفصيلات هذه المسألة المعقّدة، يمكن الرجوع إلى الدراسة الموضوعية -الموثّقة والمعمقة للباحث العربي المتخصّص في حقل اللغة العبرية وفي ميدان القوى الدينية والتيارات الثقافيّة -الفكرية الصهيونية- الأستاذ الدكتور رشاد عبد الله الشامي، إشكالية الهويّة في إسرائيل، سلسلة "عالم المعرفة" (الكويت، العدد 224)، آب/ أغسطس 1997.‏
        21- انظر: الدكتور رشاد عبد الله الشامي، القوى الدينية في إسرائيل بين تكفير الدولة ولعبة السياسة، سلسلة عالم المعرفة (الكويت، العدد 186) حزيران/ يونيو 1994.‏
        22- جورجي كنعان، العنصرية اليهودية، ص16.‏
        23- -Nahum Sokolow, History of Zionism, London, 1919>‏
        24- نقلاً عن جورجي كنعان، العنصرية اليهوديّة، ص21.‏
        25- نقلاً عن جورجي كنعان، العنصرية اليهوديّة، ص21.‏
        26- Moses Hess, Rome and Jerusalem, N.y. 1945. هذا ماكتبه رائد الصهيونية العنصري موسى هس (1811-1875)، الذي عبّر عن صهيونيته العرقية، بعد أن بدأ حياته "ثورياً بارزاً" و "اشتراكياً رائداً"، وعرف أوّل ماعرف بإسهامه الهام في دفع الفكر الاشتراكي في ألمانيا وأوروبا، ثم انقلب وعاد إلى جذوره الرجعية والعرقية الصهيونية. فكتب مؤلفه الأشهر "روما والقدس" في عام 1862. وقد خط هس في هذا الكتاب أول معالم الصهيونية السياسية، بطريقها اللاعقلاني الظلامي والدموي، وأحد أخطر تيارات العرقية الفاشية في التاريخ المعاصر. انظر بخصوصه: أديب ديمتري، نفي العقل (دمشق: دار كنعان، 1993)، الفصل السادس.‏
        27- شمعون دوبنوف، تاريخ اليهود (تل أبيب: 1969).‏
        28- وهي عبارة ردّدها الزعيم الصهيوني -الروسي نحمان سيركين في كتاب "الفكرة الصهيونية" لهيرتزبرغ: Hertzberg, A,. The Zionist Idea, N.Y. 1959‏
        29- -Meir Bar- Ilan, ((What Kind of Life Should we Create in Eretzisrael?)). In ((The Zionist Idea)).‏
        30- -Temps Modernes. Paris, No 253 Bis 1967.‏
        31- شموئيل أتينغر. من مواليد روسيا. أستاذ التاريخ في الجامعة العبرية في القدس. انظر مقالته في المصدر السابق ("الأزمنة الحديثة").‏
        32- انظر: المصدر الوارد تحت الرقم (9) في قائمة "الحواشي".‏
        33- Theodor Herzl, The Jewish State, London, 1946. والمصادر السبعة الأخيرة، نقلاً عن جورجي كنعان، العنصرية اليهوديّة.‏
        34- -Herman Wouk, This is my God, London, 1973.‏
        35- هاتسوفيه، 21/1/1972.‏
        36- انظر: المصدر 26 من قائمة "الحواشي".‏
        37- هاتسوفيه، 21/1/1972.‏
        38- المصدر نفسه.‏
        39- -The Israel Goverment Year Book, 1967, Tel Aviv.‏
        40- انظر أديب ديمتري، نفي العقل (دمشق: دار كنعان، 1993)، ص145.‏
        41- الدكتور عبد الوهاب الكيالي (المؤلّف الرئيسي ورئيس التحرير) وآخرون، موسوعة السياسة (بيروت: المؤسّسة العربية للدراسات والنشر، 1981)، ج2، ص ص13-14.‏
        42- نقلاً عن أديب ديمتري، نفي العقل، ص148.‏
        43- المصدر نفسه، ص154.‏
        44- المصدر نفسه، ص155.‏
        45- الدكتور عبد الوهاب الكيالي وآخرون، موسوعة السياسة، ج1، ص ص149-150.‏
        46- انظر: إيلان هاليفي، إسرائيل من الإرهاب إلى المجزرة، ترجمة نخبة من الأساتذة بإشراف الأستاذ نبيل داهوك (دمشق، دار ابن هانئ، ط2، 1986).‏
        47- المصدر نفسه، ص84.‏
        48- المصدر، نفسه، ص85.‏
        49- المصدر نفسه، ص86‏
        50- نقلاً عن: الدكتور عبد الوهاب محمد المسيري، الأيديولوجية الصهيونية: دراسة حالة في اجتماع المعرفة (الكويت: سلسلة عالم المعرفة، العدد 61)، القسم الثاني، كانون الثاني/ يناير 1983، ص103.‏
        51- المصدر نفسه.‏
        52- المصدر نفسه.‏
        53- المصدر نفسه.‏
        54- المصدر نفسه.‏
        55- -David Ben Gurion, Rebirth and Desting of Israel (New York: philosophical Library, 1954), p.9.‏
        56- -Raphael Patai (Ed). The Complete Diaries of Theodore Herzl, (Herzl press and Thomas Yoseloff, 1960)), Vol. 3, p. 11194. From Nowon, it will be Referred to Diari.‏
        57- انظر: إميل توما، جذور القضية الفلسطينية (بيروت: مركز الأبحاث -منظمة التحرير الفلسطينية، 1961)، ص.‏
        58- -Diaries, Vol. 1. See Entry Dated June 12,1893,p. 80-90.‏
        59- -Machover, ((Rely to Sol Sten)) Israca, January 5,p p,.27-28.‏
        60- -Laqueur, A. History of Zionism (New York: Holt, Rinehart and Winston, 1972), p. 231.‏
        61- -Ahmed El -Kodsy and Eli Lobel, The Arab World and Israel (New York: Monthly Review Press, 1970), p. 116.‏
        62- الدكتور رشاد عبد الله الشامي، إشكالية الهويّة في إسرائيل، ص ص217-218.‏
        63- المصدر نفسه، ص233.‏
        64- إسرائيل، شاحاك، الديانة اليهودية وموقفها من غير اليهود، ص164.‏
        65- -Georges Tamarin, The Israeli Dilemma. Rotterdam, 1975.‏
        66- ورد ذلك في محاضرة أليزابيت ماثيو، في كتاب "الصهيونية والعنصرية"‏
        بيروت 1977.‏
        67- -انظر: السيّد يسين، الشخصية العربية بين صورة الذات ومفهوم الآخر (بيروت: دار التنوير، 1981)، ص45.‏
        68- Moshe Menuhin, The Decadence of Judasim in Our Time, N.Y. 1965. وأدلى منوحن بهذه الذكريات في "البرنامج لثاني"، الذي يقدّمه كولن إدوارد في "تلفزيون نيويورك" في 19/1/1972.‏
        69- انظر: النتائج التفصيلية لهذا لاستطلاع، التي عرضها "روبنز" في دراسة السيّد يسين، الشخصية العربية، ص ص134-137.‏
        70- المصدر نفسه، ص141؟‏
        71- فيلتسيا لانغر، بأم عيني، (تل أبيب: 1974).‏
        72- للاطلاع التفصيلي على الدراسات والبحوث الميدانية، التي أجريت في "المجتمع الإسرائيلي" لقياس اتجاهاته وتصوراته حول الذات وحول العرب، انظر: الدكتور رشاد عبد الله الشامي، الشخصية اليهودية الإسرائيلية والروح العدوانية. سلسلة "عالم المعرفة" (الكويت: العدد 102)، حزيران، 1986.‏
        73- المصدر نفسه، ص ص171-172؛ وجورجي كنعان: العنصرية اليهودية، ص ص 200-201.‏
        74- نقلاً عن: الشخصية اليهودية الإسرائيلية والروح العدوانية للدكتور رشاد عبد الله الشامي، مصدر سابق، ص172.‏
        75- المصدر نفسه، ص 172.‏
        76- المصدر نفسه، ص237.‏
        77- Blechman, B.M. ((The Consequences of the Israeli Reprisal, An Assessment)), Unpublished Dissertation, 1971. p.32.‏
        78- OP.Cit,.p.45.‏
        OP.cit, P.250.‏

        إذا الشعب يوما أراد الحياة
        فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
        و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
        و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

        تعليق


        • #5
          رد: الأبعاد الفكريّة والعلميّة -التقنيّة للصراع العربي الصهيوني

          الفصل الثاني: مراكز الأبحاث والمؤسّسات العاملة في خدمة التطبيع والاستراتيجية الصهيونية
          (الأهداف- البرامج- الإشراف)*‏
          يُمثّل التطبيع الثقافي الدعامة الرئيسة للتغلغل "الإسرائيلي" في المنطقة، لأنه أعمق وأكثر استقراراً من أيّ ترتيبات أمنية، مثل: المناطق منزوعة السلاح، ووضع قوات دولية، وأجهزة أنذار إلكترونية وغيرها من الترتيبات. فالتطبيع الثقافي يظلّ العامل الحاسم على المدى البعيد، لأنّ الصراع يترسّخ في وعي الشعوب وثقافاتها وفي ذاكرتها الجمعيّة ووجدانها القومي، فتصعب عمليّة هز القناعات وتدمير مقوّمات الذاكرة الوطنية، واختراق الثوابت التاريخية، والدينيّة والحضاريّة دون إقامة جسور للتواصل والتطبيع الثقافي. ومن هنا، فقد قامت الاستراتيجية الصهيونية وتجليّاتُها المعاصرة على محاولة نزع العداء من الوجدان والعقل والذاكرة العربيّة، استكمالاً لنزع الأسلحة المقاومة، وهي المهمّة التي تضمنُها الاتفاقات السياسيّة والأمنية، وضرورة استراتيجيّة انعقد حولها الإجماع الفكري في إسرائيل ويلتفُّ خلفها المخطّطون والمنفذون.. فقامت بتأصيلها والتنظير لها مراكز بحوث عمليّة وجامعات ومعاهد وهيئات أكاديميّة إسرائيلية "كالمراكز اليهودي العربي في جامعة حيفا" و "معهد العلاقات الإنسانية" (في جامعة حيفا) و "معهد الدراسات العربية" في جفعات حفيفا، و"قسم الدراسات الإسلاميّة والشرق أوسطيّة في الجامعة العبرية" و "مركز الدراسات الاستراتيجية في جامعة تل أبيب (باسم جافي/ يافيه فيما بعد" و"المركز الدولي للسلام في الشرق الأوسط" و"المركز الأكاديمي الإسرائيلي بالقاهرة" وغيرها من المراكز والمؤسّسات البحثية المعروفة(1).‏
          ومن المعروف أن الإجراءات والنشاطات التطبيعية من المسائل والنقاط الأساسية، التي نصّت عليها اتفاقيات كامب ديفيد ووادي عربة وأوسلو.‏
          والتطبيع يعني الانتقال في العلاقات بين طرفين من مرحلة العداء إلى مرحلة طبيعية تقوم على أساس المصالح المتبادلة وحُسن الجوار والتعاون في الميادين والمجالات كافّة.‏
          فعلى سبيل المثال نصّت "المادة الثالثة" من اتفاقيات كامب ديفيد تحت عنوان "العلاقات الثقافية" (بين مصر وإسرائيل) على مايلي(2):‏
          1-يتّفق الطرفان على إقامة علاقات ثقافية عادية بعد إتمام الانسحاب المرحلي.‏
          2-يتّفق الطرفان على أنّ التبادل الثقافي في كافّة الميادين أمر مرغوب فيه، وعلى أن يدخلا في مفاوضات في أقرب وقت ممكن، وفي موعد لا يتجاوز ستّة أشهر بعد الانسحاب المرحلي، بغية عقد اتفاق ثقافي.‏
          كما نصّت "المادة الخامسة" من البند الثالث "على أن" "يعمل الطرفان على تشجيع التفاهم المتبادل والتسامح، ويمتنع كل طرف عن الدعاية تجاه الطرف الآخر..".‏
          أما "البند السادس" من "الملحق رقم 3" (الفقرة و) فقد نصّ على الاتفاق التالي:‏
          "مع استكمال الانسحاب المرحلي تقام بين الأطراف اتصالات عادية بريديّة وهاتفية وتلكس.. ومحطّات إرسال تلفزيوني بواسطة كابلات وراديو وأقمار صناعية، وفقاً للمعاهدات الدولية والقوانين الدولية ذات العلاقة بالأمر".‏
          إنّ إصرار العدوّ الصهيوني على التطبيع، خصوصاً في الميدان الثقافي، إنّما ينبع من إدراكه أنّ هذا الميدان هو المؤهّل والقادر على تلويث الفكر العربي والثقافة الشعبية -الوطنية، وضخّ المفاهيم والتصوّرات المّشوّهة لقيمه ومبادئه و"الشخصية القومية". فالتطبيع في المجال الثقافي، كما تنطوي عليه المخطّطات الاستراتيجية الصهيونية، يستهدف في التطبيق العملي(3).‏
          1-إعادة كتابة التاريخ الحضاري لمنطقتنا العربية، عبر تزييف العديد من الحقائق والبدهيات التاريخية المتعلقة بالطريقة الاستعمارية الاستيطانية، التي أقحمت الكيان الصهيوني في الوطن العربي، حيث أقامت دولته "إسرائيل" على الأرض العربية في فلسطين، مع تشريد أغلبية شعبها.‏
          2-التوقّف عن تدريس الأدبيّات والوثائق والنصوص المعادية لليهود والصهيونية ودولة "إسرائيل" بما في ذلك الوارد منها في بعض الكتب المقدّسة كالقرآن الكريم، تطبيقاً "للمادة الخامسة" من مواد اتفاقيات كامب ديفيد (البند الثالث). حيث كثّفت إسرائيل جهودها العلمية لرصد وتسجيل وتحليل المفاهيم الإسلامية المؤثّرة في الصراع مع الصهيونية، كأحد أبرز وجوده العناصر البنائية للذهنية العربية. ففي أثناء زيارة بيغن لمصر في 25 آب /أغسطس 1981 أعرب عن استيائه البالغ من استمرار الطلبة في مصر بدراسة كتب التاريخ التي تتحدث عن "اغتصاب إسرائيل لفلسطين" وكتب التربية الإسلامية التي تحتوي على آيات من القرآن الكريم تندّد باليهود وتلعنهم كالآية:‏
          "لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون" (المائدة: 75)، والآية التي تقول: "لتجدنّ أشدّ الناس عداوة للّذين آمنوا لليهود والذين أشركوا.." (الآية) (سورة المائدة: 82). وقد أشارت الصحف إلى أنّ السادات استجاب على الفور لطلب "صديقه بيغن"، فأصدر على الفور أوامره للمختصين في وزارة التربية لإعادة النظر في المناهج الدراسية بما يتلاءم مع طلبات بيغن واتفاقيات كامب ديفيد.‏
          ويندرج في هذا الضغط عدد من الندوات واللقاءات، التي نُظّمت في تل أبيب والقاهرة تحت شعار "دعم علاقة السلام بين مصر وإسرائيل". وكان الصهاينة يعربون في محاضراتهم عن "خيبة أمل كبيرة" لعدم انتشار الكتب المؤلّفات التي تتحدث عن "تاريخ اليهود وحضارتهم وثقافتهم" (وكأن لهم حضارة وثقافة!!).‏
          -كما صرّح بمرارة الدكتور حاييم بن شاهار في ندوة جامعة‏
          تل أبيب - (19 كانون الأول، ديسمبر 1980).‏
          أمّا الدكتور ساسون صوميخ أستاذ الأدب العربي بجامعة تل أبيب، فقال في السياق نفسه: لقد ساءني جداً خلال زيارتي لجامعة عين شمس، أن أجد مكتباتها مليئة بالكتب التي ألّفها متعصبون (كما يزعم!!) ضد اليهود، وهذه الكتب تباع في المكتبات وأكشاك الصحف بحريّة تامة، وإنني لا أعتب على أدباء مصر الذين "يعطفون" على "إسرائيل" كتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ، إذا لم يفعلا شيئاً لمنع هذه الكتب، ولكنني أعتب على المؤسّسات السياسية في مصر التي تستطيع "بجرّة قلم" أن تمنع كلّ هذه الكتب المناهضة "لإسرائيل" من التداول(4).‏
          3-أن تصبح جامعات العدوّ ومراكز أبحاثه ودراساته مرجعية علمية للمنطقة بأسرها، بحيث تؤسّس للمشروع الصهيوني، الموجّه لتدمير الثقافية والهويّة الحضارية للمنطقة العربية بأكملها، بل إحداث التفكيك والفوضى في داخل كل قطر عربي.. عبر إذكاء روح التناحر بين المنتمين للأديان والطوائف والمذاهب والجماعات المختلفة من جهة، وعبر محاولة تحقيق السيطرة الثقافية والعلمية والتقنية من جهة أخرى.‏
          وماعبّر عنه "بيريز" في كتابه "الشرق الأوسط الجديد" بأنّ "القوة في العقود القادمة في الجامعات وليس في الثكنات" يعد تلخيصاً مكثّفاً للاستراتيجية الصهيونية في هذا المجال، وتقوم هذه الاستراتيجية على "تجريد الأمّة من ثقافتها لكي تصبح شبيهة بثقافة الكيان القائم في قلبها، أي من دون ثقافة موحّدة"(5).‏
          والتطبيع الثقافي يستهدف تدمير المقوّمات الذاتية للثقافة والحضارة العربية، ولهذا فهو في نظر خبراء العدوّ وباحثيه وقادته العنصر الأهم والأكثر إلحاحاً في فرض الهيمنة الصهيونية على العرب، وجعلهم يستسلمون نهائياً تعبيراً عن الهزيمة الحضارية والانهيار القومي والانتحار الجماعي.‏
          وبالتالي فالمفهوم الصهيوني للتطبيع، هو المظلّة التي يُرتكب تحتها كلّ ما يضمن لها (أي للصهيونية) تحقيق أهدافها التوسّعيّة وأهدافها الاستراتيجية في نهب موارد الوطن العربي والسيطرة على مقدّراته وتفكيكه وإلغاء الهوية العربية، وتدمير تراثنا وتاريخنا ومستقبلنا.‏
          أمّا الأساليب والوسائل والبرامج الصهيونية المتّبعة لتحقيق هذه الأهداف الخطيرة، فهي شديدة الإشعاع والتنوع والتداخل والتجدّد.‏
          ويهمّنا في هذه الورقة كشف الحجاب عمّا تقوم به مراكز الأبحاث والمؤسّسات والهيئات الإسرائيلية والأمريكية في منطقتنا العربية تحت ستار البحث العلمي والتعاون الأكاديمي والتواصل الثقافي، وغير ذلك من الأقنعة والتمويهات.‏
          من المعروف أن التطبيع يأتي ضمن مخطّط دولي تشارك فيه الصهيونية العالمية وإسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية ومؤسّسات وهيئات غربية كثيرة، عبر التركيز الشديد على تقويض حقائق ظلّت لعقود متتالية قاعدة للثقافة القومية العربية. ولا يمكن دراسة الظاهرة الطائفية التي تصاعدت في السنوات الأخيرة في الوطن العربي، بمعزل عن تأثيرات تلك الجهات والدوائر المشبوهة، التي نشرت مايمكن تسميته بـ "الثقافة الفتنة"، لدرجة أنها ساهمت مباشرة في التمهيد لعدد من عناصر الانهيار والتردّي التي تخترق أوصال الأمة. و"ثقافة الفتنة" تقوم على نبش الأحقاد والضغائن وعناصر التوتر في المجتمع، ثقافة تعميق التضاد والتناحر والاختلاف والتقاتل بين الجماعات المختلفة داخل الأمة.. التي يعدّها أكثر من كاتب عربي -من أبرز العناصر الميُسّرة أو الخادمة للتطبيع الثقافي، وركناً رئيساً من أركان ثقافة التطبيع، لأنّ التطبيع مع أعداء الأمّة لا يستقيم إلا بالفتنة داخل صفوف الأمّة ذاتها(6).‏
          ويأخذ هذا الاختراق شكل الترويج لقيم وعلامات تصب مباشرة في تدمير المناعة الثقافية العربية، مثل مهاجمة "العقل العربي" و "الشخصية العربية" والتشكيك بالأمة العربية وهويّتها الحضارية، والترويج لمزاعم الصهيونية والتيّارات الشعوبية الحاقدة، التي تصرّ على مزاعم متجدّدة كالقول بأن "العرب نَقَلة للحضارة" أو "مترجمين" أو "لا يتمتعون بعقل علمي -تحليلي نقدي، أو الترويج لأطروحة "الشعوب والأقوام والقبائل الناطقة بالعربية.. وأنّ الثقافة العربية الواحدة والأمة العربية الواحدة مجرّد وهم وخرافة"(7).‏
          فالعقل الصهيوني بات يدرك أنه إذا كانت الثقافة العربة صعبة الاختراق لعراقة جذرها ومتانة مقاومتها، لذلك لجأ إلى وسيلة أيسر وأسهل، تتمثّل في اختراق بعض المثقفين العرب، الذين يمكن استخدامهم كأدوات لتفكيك حصن الثقافة العربية ودكّ أساسها من الداخل. ويأخذ هذا الاختراق أشكال وأساليب متنوعة من التطبيع وتصفية مصادر أو منابع العداء في الفكر السياسي العربي، ومحاولة إلغاء مايسمى بـ "الطابع السلبي" السائد في الأيديولوجية القومية العربية تجاه إسرائيل والصهيونية، وخلْق قاعدة فكرية للتواصل والتعامل المباشر مع بعض القوى والهيئات والجماعات والنخب الفكرية والسياسية القائمة. لذلك لم يكن مُستغرباً أن يكون العمل الأوّل الذي قام به أول سفير إسرائيلي في مصر، عقب تسلّم مهام عمله في 17 شباط، فبراير 1980، أنْ قدم "شيكاً" لتوفيق الحكيم، على أنه قيمة حقوقه الماديّة من ترجمة كتبه وطبعها في الكيان الصهيوني.‏
          وممّا يجدر ذكره أنّ جامعة تل أبيب وضعت "مشروعاً للسلام" جهّز لاتفاقيات كامب ديفيد مع مصر، أداره في بادئ الأمر البروفسور "أفيفي أفين" ثم تولاّه البروفسور "ديفيد هورن". وقد نشط مُعدّو "المشروع" في إجراء الاتصالات الشخصية بين أساتذة جامعة تل أبيب والمثقفين المصريين، كما أنشئ كرسي أستاذية لتاريخ مصر في جامعة تل أبيب، من وجهة نظر صهيونية.‏
          وفي إطار هذا "المشروع" تبارى المفكّرون والباحثون الإسرائيليون في إجراء الدراسات والحوار، وعقد الندوات حول مجالات التعاون الثقافي والعلمي بين إسرائيل والعرب.‏
          إذ أنّ المطلوب إسرائيلياً -تبديل مفاهيم العرب وقناعاتهم ومعتقداتهم ليتحولّوا إلى ما يطلق عليه الإسرائيليون "فهماً أفضل لحضارة وثقافة جيرانهم اليهود"‍‍!!.‏
          وفي إطار الاستراتيجية الصهيونية -الأمريكية- الإسرائيلية الهادفة إلى خلق بؤرة تابعة ثقافياً وسياسياً في الوطن العربي، ضعيفة العقيدة والولاء للوطن، لاهثة خلف إغراءات المال والشهرة وتوهّم العالمية والانفتاح الحضاري "على الآخر" (الصهيوني).. في هذا الإطار أقيمت في مصر ستّ وثلاثون مؤسّسة علمية أمريكية، وثقافية "إسرائيلية"، مثّلت وتمثّل مظلّة رسميّة لاختراق الشخصية العربية، والتجسّس على قطاعات المجتمع كافّة. ومن ذلك -مثلاً- النشاط الذي يقوم به "مركز البحوث السياسية" في كلية الاقتصاد وجامعة القاهرة، الذي يجري كثيراً من الأبحاث بتمويل من "مؤسّسة فورد"، وكذلك نشاط "مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية في الأهرام"، و"معهد التخطيط القومي" وغيرها من المؤسّسات العلمية والتي للأسف خدع بها كثيرون‏
          عربيا(ً8).‏
          وبغية اختراق العقل العربي وعناصر المجتمع العربي أُنشئ في مصر عام 1982 "المركز الأكاديمي الإسرائيلي بالقاهرة"، الذي لعب ويلعب دوراً خطيراً في مجال التمهيد للتطبيع وزرع بذور الصهيونية التدميرية، من خلال شبكة أبحاثه ورجال المخابرات الإسرائيلية، الذين يحتلّون مواقع قيادية فيه منذ بداياتها الأولى. ويجمع الكتّاب والباحثون الوطنيون في مصر الشقيقة على أنه يلعب دوراً رئيساً في جمع المعلومات واصطياد العملاء والتجسّس السياسي والثقافي على مصر والعرب.‏
          ونظراً لكون "المركز الأكاديمي الإسرائيلي بالقاهرة" الأخطر في ميدان استراتيجية العدو على الأصعدة الأمنية والثقافية والعلمية، فقد توالى على إدارته عدد من أبرز المتخصصين في الدراسات الشرقية والعربية، الذين يرتبطون بعلاقات عضويّة مع أجهزة المخابرات الإسرائيلية(9)، ومع مراكز التخطيط الاستراتيجي في الكيان الصهيوني.‏
          وللتمويه أعلنت مهامّه ضمن النقاط التالية:‏
          - رعاية البحث والدراسة في التربية والعلوم والثقافة والتكنولوجيا والآثار والفنون والتاريخ.‏
          - استضافة ومساعدة الباحثين الإسرائيلين، الذين يحصلون على منح دراسية، والعلماء الزائرين الذين يقيمون في مصر لأغراض الدراسة والبحث.‏
          - اتخاذ الترتيبات اللازمة مع السلطات المصرية ذات الشأن، لتمكن العلماء والباحثين الإسرائيليين من متابعة بحوثهم في المؤسسات الأكاديمية ودور الوثائق والمكتبات والمتاحف.‏
          - عقد دورات للعلماء والباحثين الزائرين، وإتاحة الفرصة لهم لمقابلة علماء وباحثين مصريين والتعاون معهم.‏
          والحقيقة فإنّ أهداف هذا المركز الحقيقية ونوعية نشاطاته وممارساته في السنوات السابقة، تجعله -كما قلنا في فقرات ماضية- من أخطر المواقع الهجومية المتقدمة في استراتيجية الغزو الفكري -الثقافي الإسرائيلي ضد العقل العربي، وشبكة متطوّرة لمؤسّسة الاستخبارات الخارجية الإسرائيلية (الموساد).. للتغلغل في مجالات البحث العلمي كافة، وفي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المصرية بوجه عام.‏
          يقع هذا المركز، الذي يطلق عليه المصريون "المستوطنة الإسرائيلية" في البناية رقم 92 ش. النيل (شقة رقم 33) بالقرب من "شيراتون القاهرة".‏
          -يضم المركز مكتبة وقاعة محاضرات صغيرة تكاد تستوعب خمسين شخصاً، ويعمل المركز بتنسيق كامل مع المستشار الثقافي والمستشار الإعلامي بالسفارة الإسرائيلية في القاهرة.‏
          -تشرف عليه علمياً "الأكاديمية الإسرائيلية للعلوم والآداب" بالاشتراك مع "الجمعية الشرقية الإسرائيلية". وفيما يلي عرض مختصر لأنشطة المركز المعلنة والمعروفة(10):‏
          أولاً: إصدار النشرات الدوريّة في مصر، ومنها نشرة دورية بالإنجليزية تحت عنوان "نشرة المركز الأكاديمي الإسرائيلي بالقاهرة" Academik of the Israeli -((Bulletion Center Cairo)).‏
          والتي أصبحت تصدر نسخة باللغة العربية، يغلب عليها الجانب الدعائي حول ما يسمّى بـ "التقدم العلمي والتكنولوجي" والأنشطة الجامعية في إسرائيل.‏
          - إبراز الميادين العلمية التي يمكن أن تشكّل ساحة للتعاون المشترك بين الباحثين المصريين والإسرائيليين وتقديم دراسات تاريخية متنوعة عن التأثيرات الثقافية بين مايزعم من "ثقافة يهودية" والثقافة العربية. ويتكون مجلس الإدارة الاستشاري من مناحيم بن ساسون، أفينوم دانين، يهودا فريد لاندر، شيمون شامبر وجبرائيل (كبرائيل) واربورغ.‏
          - إصدار مجلّة ضخمة بعنوان "لقاء الثقافتين العربية واليهودية" وتصدر باللغتين العربية والعبرية، ويتركز اهتمامها حول الدراسات المتصلة بما يسمّى العناصر المشتركة بين الفكر العربي والفكر اليهودي، كما تنشر ترجمات للأدب العبري وأعمال أدبية لكتّاب مجهولين في الوطن العربي.‏
          - ويقوم المركز بتوزيع مجلة بعنوان "التربية من أجل السلام".‏
          ثانياً: خدمات مكتبية وتعليمية ورحلات، إذ تمثّل مكتبة المركز مصدر جذب واسع لطلاّب وباحثي أقسام اللغة العبرية وآدابها في الجامعات المصرية، فهي حافلة بالمراجع اليهودية في شتى المجالات، ومكتبة فيديو لأفلام دعائية لإسرائيل، ويساعد المركز الباحثين المتعاملين معه في تأمين المراجع العلمية المطلوبة لأبحاثهم من "إسرائيل"؟.‏
          ثالثاً: تيسير مهمّة الباحثين الإسرائيليين في مصر، حيث يقوم المركز بتقديم العون والمساعدة للباحثين "الإسرائيليين" وإرشادهم إلى الأساتذة المصريين، الذين يقبلون التعاون في تقديم المعلومات وبحوث مشتركة في إطار مخطّط "مسح شامل" للمجتمع المصري، ورسم خارطة للاتجاهات السياسيّة والدينية والفكرية، ووضع تصور دقيق للأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في البلاد.‏
          رابعاً: ترتيب الندوات والمحاضرات، وهي إحدى وسائل الحرب الفكرية الصهيونية، حيث يقوم المركز بتنظيم المحاضرات للأكاديميين الإسرائيليين، وإتاحة الفرصة لهم للاحتكاك بنظرائهم المصريين، ويواظب على حضورها بعض أساتذة الجامعات وبعض العاملين في حقل الإعلام ومجموعة من الطلاّب والطالبات.‏
          - من أبرز مديري "المركز الأكاديمي الإسرائيلي بالقاهرة" شيمون شامير أوّل مدير للمركز، ولد في رومانيا في 15 كانون الأول/ ديسمبر 1933، هاجر مع أسرته إلى فلسطين عام 1940. درس الاستشراق في الجامعة العبرية بالقدس، وحاز درجة الدكتوراه من جامعة برنيستون الأمريكية.‏
          - في أوائل عام 1967 ترأس شامير "معهد شيلواح SHILOAH للدراسات الشرق أوسطية والأفريقية"، الذي يتبع جامعة تل أبيب، وهو معهد يهتم بإجراء دراسات حول مايسمى بـ "أوضاع الشرق الأوسط"، وحول التطورات التي يشهدها الوطن العربي بشكل أساس، ويستعين لهذه الغاية بجميع الأعداد اليومية لأكثر من مائتي صحيفة تصدر في الأقطار العربية وبعض الدول المجاورة لها.‏
          ويذكر أنّ "معهد شيلواح" حصل على كثير من الوثائق المهمّة، وصوّر غالبية المواد البحثية العائدة "لمركز الأبحاث الفلسطيني" (مركز أبحاث منظمة التحرير الفلسطينية) بعد أن اقتحمته القوات الإسرائيلية إبان غزو لبنان عام 1982، ونقلت موجوداته إلى فلسطين المحتلة.‏
          وكان شيمون شامير يشرف على دائرة مصر في المعهد المذكور(11)، قبل انتدابه لرئاسة "المركز الأكاديمي الإسرائيلي بالقاهرة"، حيث يعدّ من أبرز الخبراء الإسرائيليين بشؤون مصر، وهو مؤسّس قسم تاريخ مصر المعاصر بجامعة تل أبيب، إضافة إلى ارتباطه المعروف بدوائر الموساد(12).‏
          - استمرت فترة إدارته للمركز ثلاث سنوات، انتهت في تشرين الأول، أكتوبر 1984 وعاونته في أداء مهمته قرينُته "دانييلا شامير".‏
          - نُشرت له بحوث ودراسات كثيرة من بينها: تاريخ العرب الحديث في الشرق الأوسط، مصر تحت حكم السادات، رؤى الذات من منظور تاريخي لمصر وإسرائيل (بالاشتراك مع مجموعة باحثين إسرائيليين). وعمل أستاذاً زائراً في جامعات هارفارد وبنسلفانيا وكورنيل. وقد شارك في وضع التصوّر الإسرائيلي "لمعاهدة السلام" مع مصر وإخراجها من جبهة المواجهة المباشرة مع العدوّ.‏
          وقد زار شامير مصر 8 مرات قبل توليه إدارة المركز، وكان له لقاء في كل زيارة بالسادات، وارتبط بصداقات قويّة مع من يطلق عليهم المصريون "لوبي التطبيع" في أوساط المثقفين المصريّين. وفي أثناء تلك الزيارات قام بمسح شامل لمعظم محافظات مصر، تمهيداً لعمله الرسمي اللاحق في هذا المجال. وقد اتسمت إدارته للمركز بنشاط مكثّف تمثّل في إعداد الدراسات وجمع المعلومات، وكان يفاخر بأنّ مركزه "ليس مركزاً ثقافياً عادياً كتلك المراكز التابعة للسفارات"(13).‏
          وهذه بالفعل حقيقة المركز، المركز الجاسوسي الإسرائيلي الأول في مصر والمنطقة العربية.‏
          -بعد اغتيال "صديقه أنور السادات"، قام بإعداد مجموعة دراسات حول احتمالات تطور الأوضاع في مصر ("أبحاث مركز شيلواح لدراسات الشرق الأوسط وأفريقيا في جامعة تل أبيب"- "أوراق السلام" 1982)، تركزت على أهمية الخط السياسي للسادات، وضرورة إجهاض أية تطورات من شأنها أن تعيد مصر إلى مكانتها الاستراتيجية في الصراع العربي -الصهيوني.‏
          -كما شارك مع "جبرائيل فاربورغ" المدير الثاني للمركز في وضع دراسة عن "دور مصر في الصراع العربي الإسرائيلي"، ضمن سلسلة "أبحاث وحدة دراسات الشرق الأوسط التابعة لمعهد ترومان"، بالاشتراك مع "معهد شيلواح"، ركّزت على حقيقة أن مصر تشكّل عاملاً حاسماً في استمرار الصراع وتطوره، كما أوصت بضرورة الحد من فاعلية دور مصر المؤثّر في موازين القوى وعزلها عن دائرة الصراع.‏
          بعد عودته إلى فلسطين المحتلة ألقى سلسلة محاضرات في جامعة تل أبيب عن الفترة التي قضاها في مصر (مديراً للمركز الأكاديمي الإسرائيلي ثم سفيراً لبلده في القاهرة لاحقاً)، ونشرت له الصحف الإسرائيلية مقالات تتضمن رؤيته ومقترحاته لإنجاح التطبيع مع مصر.‏
          ومع ذلك، قال في إحدى محاضراته: "من ينظر إلى الشارع المصري يتّضح له على الفور أن السلام لم يصبح بارداً كما يقولون، بل أصبح في طيّ النسيان".‏
          ثم تولّى البروفسور "جبرائيل واربورغ" (Gabriel Warburg) إدارة المركز في تشرين الأول/ أكتوبر 1984، وهو من الخبراء، الصهاينة المعروفين في شؤون المنطقة العربية، خاصة مصر والسودان. ولد في برلين 12/تموز/ يوليون عام 1927، ورحل مع أسرته في سنّ السادسة إلى فلسطين حيث استقرت في مدينة حيفا.‏
          بعد إعلان قيام "دولة إسرائيل" عام 1948، التحق واربورغ بالجيش إلى سنة 1954، ثم عُيّن في جهاز الاستخبارات العسكرية "أمان"، وفي عام 1963 أصبح مسؤولاً عن "الشؤون المصرية" بقسم الأبحاث بهيئة الأركان العامّة.‏
          -في عام 1965 التحق "بقسم الدراسات الشرقية" في جامعة لندن، حيث نال درجة الدكتوراه، وكان موضوع رسالته "الحركة الوطنية في السودان الحديث"، وفي عام 1986 عمل أستاذاً في "قسم تاريخ الشرق الأوسط" بجامعة حيفا، وساهم في تأسيس "مركز دراسات الشرق الأوسط" بالجامعة، بناء على توصية للجنرال "أهارون ياريف" رئيس الاستخبارات العسكرية السابق، والرئيس الحالي "للمعهد الإسرائيلي للدراسات الاستراتيجية" ورئيس وفد إسرائيل إلى مايسمّى بمؤتمرات "الطب النفسي في خدمة السلام" الثلاثية (التي تضمّ متخصّصين من الولايات المتحدة ومصر وإسرائيل).‏
          و"مركز دراسات الشرق الأوسط"، بجامعة حيفا، يعمل بتنسيق كامل مع "عهد شيلواح لدراسات الشرق الأوسط وأفريقيا"، وكلاهما أنشئ بتوصية ودعم من الاستخبارات الإسرائيلية.‏
          قام الدكتور واربورغ بإعداد سلسلة دراسات عن مصر، تناول فيها الأوضاع السياسية والاقتصادية بعد حرب حزيران /يونيو 1967، وحرب الاستنزاف، ودراسة عن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر والسياسة الخارجية لمصر إبان حكمه.‏
          وواربورغ ذو تاريخ معروف في مجال جمع المعلومات لأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، فقام فورتولّيه منصبه باستقدام عدد كبير من الباحثين الإسرائيليين إلى القاهرة لإعداد البحوث والدراسات، وهي إحدى الوسائل التي تلجأ إليها الاستخبارات الإسرائيلية للحصول على المعلومات غير العسكرية، وهؤلاء الباحثون يتبعون أقسام الأبحاث وجمع المعلومات في "الموساد" ووزارة الخارجية الإسرائيلية. وكانوا يقومون فور وصولهم إلى مصر بجمع المعلومات السياسية والاقتصادية والعلمية.‏
          وفي هذا الإطار قام واربورغ بتكليف بعض الباحثين المصريين، بإعداد دراسات عن مصر تتعلق بالسياسة التعليمية والزراعية، والجوانب الاجتماعية والثقافية للتيارات السياسية والفكرية في مصرن خاصة عن التيار الديني والتيار الناصري.‏
          عمل واربورغ على اكتساب أصدقاء للمركز، عن طريق توجيه الدعوات لهم لحضور حفلات وندوات المركز ولزيارة الكيان الصهيوني، وهي وسيلة للتعرّف على أفراد لديهم استعداد للعمل من أجل التطبيع أو حتى لصالح الاستخبارات الإسرائيلية، بعد توريطهم ثم تجنيدهم بإغراءات كثيرة، كالدعوات والاستضافة في "إسرائيل"، والإغراءات المادية تحت ستار "مكافأة" البحوث والدراسات والمحاضرات، كما أمكن استقطاب عدد من طلاب وباحثي أقسام اللغة العبرية بالجامعات المصرية، الذين خضعوا لعملية "غسيل دماغ جمعي" باتت آثاره واضحة في آرائهم وكتاباتهم وسلوكياتهم.‏
          وقد عاونته في مهمته قرينته "راحيل ليفين واربورغ" وهي من مواليد الأرجنتين (18 أيلول، سبتمبر 1927).‏
          أمّا المدير الثالث "للمركز الأكاديمي الإسرائيلي بالقاهرة" فهو البروفيسور "أشير أوفاديا" الذي تولّى مهام منصبه في نيسان/أبريل 1987. وهو أساساً من مواليد 1937، يوناني الأصل، أمضى فترة طفولته في مقاطعة سالونيكا (باليونان) وهاجر إلى تل أبيب عام 1949، ودرس بالجامعة العبرية بالقدس، ثم عمل أستاذاً للعمارة الكلاسيكية وتاريخ الفن المسيحي القديم بجامعة تل أبيب.‏
          -زار أوفاديا مصر قبل توليه إدارة المركز نحو 17 مرة حيث صال وجال في جميع محافظاتها، وهو على دراية علمية واسعة بالحضارات المصرية المتعاقبة، وشديد الاهتمام بفنون العمارة الإسلامية والمصرية القديمة.‏
          -من مؤلّفاته: الكنيسة البيزنطية في الأراضي المقدّسة، النماذج الهندسية والنباتية في الفسيفساء القديمة. لديه ملكات الفنان، وسعى في فترة إدارته للمركز إلى اجتذاب الفنّانين التشكيليين المصريين، ونجح في تنظيم عدد من المعارض الخاصّة لبعضهم في فلسطين المحتلّة، ومعارض أخرى مشتركة مع فنانين "إسرائيليّين".‏
          وقد شهد "المركز الأكاديمي الإسرائيلي بالقاهرة" تطوراً كبيراً ونشاطاً واسعاً في أثناء إدارة أوفاديا (عوفاديا/ كما يطلق عليه أشقاؤنا المصريون)، وتجلّى هذا النشاط بعقد ندوة أسبوعية في مجال الترويج للتطبيع مساء كل يوم أربعاء. وكان من أبرز الوجوه الصهيونية المشاركة دائماً في هذه الندوات (التطبيعية):‏
          *"يورام ميتال" من جامعة حيفا، وهو صاحب الدراسة الشهيرة بعنوان: "العلاقات الاقتصادية بين مصر وإسرائيل في مجالات الزراعة والسياحة وتجارة النفط".‏
          *"يورام همزراحي" مراسل صحيفة "ها آرتس" الصهيونية في القاهرة، كان قائداً عسكرياً لمنطقة جنوب لبنان في عهد رئيس الأركان رفائيل إيتان، وقاد العديد من المذابح التي ارتكبت ضد الشعب العربي في لبنان وفلسطين، وهو يحمل الجنسية الأمريكية أيضاً، يقيم (همزراحي) في فندق (هيلتون -النيل)، ولكنه شبه مقيم في "المركز الأكاديمي الإسرائيلي"، ولم يترك في القاهرة حارة ولا شارعاً ولم يطرقه، من حلوان إلى عين شمس، يتحدّث مع كل من يقابله في كل شيء، ويجتمع بمن يوافق من الصحفيين والكتّاب.‏
          وقد كان "للمركز الأكاديمي" باع طويل في ميدان سرقة الآثار المصرية القديمة على اختلاف مراحلها التاريخية (فرعونية، قبطية، مملوكية، إسلامية)، وتعد سرقة وثائق "الجينيزاه" نموذجاً حياً ودليلاً قاطعاً لهذا الاتجاه الصهيوني. وقد لعب أوفاديا (عوفاديا) دوراً رئيساً في سرقة وثائق "الجينيزاه"، بالإضافة إلى تهريب مئات القطع الأثرية المصرية إلى فلسطين المحتلة، ويؤكد خبراء الآثار المصريون أن لمصر 572 قطعة أثرية في متاحف تل أبيب، وأن إسرائيل قد سرقت مالا يقل عن 50 قطعة أثرية من سيناء بعد اتفاقيات كامب ديفيد بل استخدمت طائرات الهليكوبتر في نقل أعمدة بعض المعابد والتماثيل إلى متاحف تل أبيب(51).‏
          ووسط تظاهرة صاخبة من الرقص والغناء من جانب حاخامات اليهود، افتتح نائب محافظ القاهرة والسفير الإسرائيلي شيمون شامير (الذي كان أول مدير للمركز الأكاديمي الإسرائيلي بالقاهرة) ورئيس المركز الأكاديمي الإسرائيلي أوشير عوفاديا في كانون الثاني/ يناير 1989 "مكتبة للتراث اليهودي"، والتي أقيمت داخل المعبد اليهودي في شارع عدلي بوسط القاهرة.‏
          وقال البيان الذي أصدره "المركز الأكاديمي الإسرائيلي"، وجرى توزيعه على الحاضرين، أنّ المشروع الذي تمّ بموافقة هيئة الآثار كان يهدف إلى جمع "60 ألف كتاب"، لكنه لم يتمكن من الحصول على أكثر من 9 آلاف كتاب تعبّر عن التراث اليهودي (وثائق ذات مضمون ديني بحت)، وكشف البيان عن استيلاء "مكتبة التراث اليهودي" على وثائق "الجينيزاه" القديمة، التي تعدّ جزءاً من التراث المصري، وقد استنكر بعض علماء التاريخ والآثار المصريين منح "المركز الأكاديمي الإسرائيلي" وما يتفرّع عنه من مكتبات وملاحق وأقسام حقّ جمع حزء من التراث التاريخي، والديني لمصرن وتأكيد المزاعم الصهيونية القائلة بأنّ إسرائيل هي ممثلة يهود العالم حديثاً وقديما(ً61).‏
          وقبل أيام من افتتاح مكتبة "التراث اليهودي" تمّ افتتاح فرع "للمركز الأكاديمي الإسرائيلي" بحي الظاهر في محاولة واضحة للوصول إلى عمق الأحياء الشعبية المصرية (في القاهرة). والأخطر من هذا عملية السطو الواسع، الذي يقوم به "الإسرائيليون" على التراث الموسيقي والفولكلوري العربي في مصر وبلاد الشام ونسبته مع كثير من الحرف اليدوية إلى تاريخهم وتراثهم (كما فعل الباحث اليهودي روبرت لخمان مع الفولكلور الموسيقي لمنطقة سيناء في عام 1932).‏
          وعلى سبيل المثال جمع الباحث "الإسرائيلي" دوف نيو 266 نموذجاً من موسيقى بدو سيناء، وتم تصنيفها زوراً ضمن مايُسمّى بـ "التراث اليهودي".‏
          وفي هذا السياق قام العاملون بمكتبة "التراث اليهودي" بالقاهرة -كما صرّح عبد الوهاب حنفي رئيس إدارة الفنون الشعبية بالثقافة الجماهيرية -بأنشطة تزويرية كثيرة، مثل دسّ النجمة السداسية، في العلامات التي تزيّن أثواب العرب البدو بسيناء، وإعطاء أسماء يهودية للأعشاب الطبية هناك، وشراء كميات كبيرة من الألبسة العربية البدوية لنساء واحة سيوه، بل قاموا بدسّ النجمة الإسرائيلية في الوشم البدوي في بعض مناطق سيناء، ضمن استراتيجية تدمير الفلوكلور العربي والثقافة الجمعية العربية، وتأسيس استمرارية حضارية يهودية زائفة مكانها، وتكوين تصميمات ناتجة عن جمالية فولكلورية يهودية مصطنعة.‏
          لقد أثبتت تقارير أجهزة الأمن المصرية، التي تذيع الصحف والمجلات بعض نتائجها وتحقيقاتها بين الفينة والأخرى، وجود صلة مباشرة بين "الموساد" و"المركز الأكاديمي الإسرائيلي بالقاهرة"، الذي يقوم بإعداد نوعين من التقارير والبحوث والدراسات، أوّلهما يقدّم بصفة دورية إلى "الموساد"، في حين أنّ العلني والعادي يذاع وينشر على الملأ بغرض التمويه والتغطية.‏
          وقد تفاخر "يوسف جينات" المدير الرابع "للمركز الأكاديمي الإسرائيلي بالقاهرة" أمام وسائل الإعلام المختلفة بأنه نجح "باستقطاب" عدد لابأس به من المصريين العاملين بأجهزة حكومية "ذات طبيعة خاصة"، لتزويد "المركز" بمعلومات تتعلّق بالأبحاث العسكرية والاقتصادية بدعوى "الاسترشاد" بها عند إعداد تقارير "المركز" وأبحاثه العلميّة..‏
          وممّا يجدر ذكره أن "المركز الأكاديمي الإسرائيلي" رتّب زيارات عديدة لوفود ضمت عدداً من أساتذة القسم العبري واللغات الشرقية بجامعتي القاهرة وعين شمس إلى "إسرائيل" بدءاً من عام 1993. وقد بحثت الوفود المصرية مع أساتذة أقسام الدراسات العربية والشرقية بجامعتي حيفا وتل أبيب وسائل تنسيق التعاون وتبادل الخبرات. علماً أن أعضاء الوفود المصرية يتم اختيارهم عن طريق "المركز الأكاديمي الإسرائيلي". من خلال معلومات يقدمها الباحثون "الإسرائيليون" في التخصّصات المشابهة عن الأساتذة المصريّين وخبراتهم ومؤلفاتهم التي يطلع عليها "الإسرائيليون" بانتظام.‏
          وضمن استراتيجيّة صهيونية شاملة في مجال إرساء دعائم التطبيع والتجسّس وإفساد النخب العلمية والثقافية، عمل "المركز الأكاديمي الإسرائيلي بالقاهرة" بدأب شديد على إقامة أوسع الاتصالات والعلاقات مع مراكز البحث العلمي في مصر (الرسميّة منها والأهلية)، مع التركيز على مسألة جمع المعلومات الدقيقة عن عناصر بنية المجتمع المصري، وتحويل تلك المعطيات والدراسات إلى "الموساد" وإلى دوائر صنع القرار في "إسرائيل" لاستخدامها في تخريب المجتمع المصري، وتدمير أسسه ومقومات وحدته الوطنية، ويترافق ذلك مع استدراج مئاتٍ من النخب السياسية والثقافية، بشراء ذممهم بآلاف الدولارات ثمناً لبحث يتكوّن من عدة صفحات، وليس شرطاً في بعض الأحيان مع ماتحويه هذه الصفحات من معلومات. ففي أحوال عديدة يبقى الهدف الرئيس هو الربط الوثيق للباحث بهذه الدوائر وإغراؤه بالدولارات حتى ينتقل انتماؤه من التمسك بلغة الوطن إلى الدفاع عن لغة الدولارات(17).‏
          ومن خلال متابعة ماتنشره الصحف والمجلاّت المصريّة، يتبيّن لنا أن "المركز الأكاديمي الإسرائيلي بالقاهرة" ركّز جهوده خلال العامين الماضيين للحصول على معلومات أكثر عن طلبة كلية العلوم والهندسة في جامعات مصر، لمعرفة آخر ما توصل إليه الطلبة النابغون من اختراعات جديدة، وهناك عشرة ملفات عن عشرة اختراعات وضعها "مدير المركز الأكاديمي الإسرائيلي بالقاهرة" تحت الميكروسكوب، ووجّه بشأنها رسالة إلى السفير "الإسرائيلي" بالقاهرة كتب فيها(18):‏
          "بناء على طلب تعليماتكم بإحضار ملفّات كاملة عن آخر اختراعات الشباب المصريين أرسلنا لكم عشرة ملفات عن اختراعات في مجال الزراعة وتحلية المياه والبلاستيك والكمبيوتر وإطارات العربات... ونودّ أن ننتبه أنّ معظم هذه الاختراعات قمنا بتجربتها وفحصها جيداً، وهي تعد من أنبغ ما توصل إليه العلم...".‏
          وأرسل السفير الإسرائيلي بالموافقة على شراء أربعة اختراعات وبأسرع وقت، أحدهما تحلية مياه البحر لطالب في كلية الهندسة. وقد توجّه باختراعه إلى وزير الزراعة المصري، لكنه منع من مقابلة الوزير، وعندما عرف أن "المركز الأكاديمي الإسرائيلي" يعرض أسعاراَ خيالية لشراء الاختراعات الجديدة، بل وهناك منح سفر للدراسة إلى الخارج، توجّه المخترع إلى المركز عن طريق أحد الباحثين ممّن لهم علاقة قوية بالمركز، وبعد فترة قابل مدير "المركز الأكاديمي" وقدّم له صورة بحث اختراع، وقدّم التجربة أمامه عملياً، وبعد نجاحها قالله "مدير المركز" مداعباً: "لابدّ أن تسافر لأمريكا أم الدنيا لترى كيف يعاملون هناك العلماء بدلاً من مكاتب الطعمية!!".‏
          وبعد ثلاثة أسابيع توجّه المخترع مباشرة إلى السفارة "الإسرائيلية" بالقاهرة وهناك باع اختراعه بمبلغ كبير.‏
          والاختراع الثاني الذي وافق عليه السفير "الإسرائيلي" هو إنتاج سماد جديد لخصوبة الأرض، وتحويل الأرض المالحة إلى أرض صالحة للزراعة، وهو اختراع لخرّيج كلية الزراعة، وهو صديق لأحد أساتذة الجامعة ممّن لهم علاقة مباشرة وأبحاث لدى "المركز الأكاديمي الإسرائيلي"، وفور عرض الطالب الاختراع على أستاذه نصحه بالتوجه "للمركز الأكاديمي" لأنهم يدفعون مبالغ كبيرة في الاختراعات الحديثة، ورفض الطالب في بداية الأمر، وبعد شهرين من محاولة بيع اختراعه لإحدى الشركات الاستثمارية في مجال الزراعة والأسمدة، عاد مرة أخرى ووافق على بيعه للمركز، وهو الوحيد الذي قابل "السفير الإسرائيلي" في اليوم التالي لتقديمه الاختراع، وعرض عليه السفر وتجربة الاختراع ذاته بطريقة عملية، شاملة تكاليف الإقامة ومكافآت كل يوم يقضيه في "إسرائيل" إضافة إلى حق شراء الاختراع نفسه ومدة الإقامة ثلاث سنوات، وسافر بالفعل بعدما وضع ثمن الاختراع في "البنك الأمريكي المصري" وهو الآن يقضي الشهر السادس في إسرائيل!!.‏
          أما الاختراع الثالث الذي وافقت عليه السفارة الإسرائيلية، فهو لمهندس ميكانيكي خرّيج كلية الهندسة بجامعة القاهرة، وكان يعمل معيداً بالكليّة، لكنه سافر في منحة إلى الولايات المتحدة الأمريكية عن طريق "السفارة الإسرائيلية" بالقاهرة، حيث تقدم المهندس باختراعه لعمل "خلطة" جديدة من "كاوتشوك العربات" تساعد السيارة على عدم الانقلاب في الحوادث بسبب التصاقها بالإسفلت، وشمل اختراعه إضافة مادة جديدة للقار المستخدم في الإسفلت تتفاعل مع مادة المطاط الجديدة تجعل من الصعب انقلاب السيارة لشدة تماسك المادتين.‏
          وعندما تقدم باختراعه هذا إلى "المركز الأكاديمي" كان شرطه الأول قبل المكافأة أن يسافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ويكمل دراسته هناك، وبعدما وافق السفير على الاختراع وشرائه وافق بالفعل على سفر المخترع إلى أميركا، وهناك التحق بجامعة "جورج واشنطن".‏
          والاختراع الرابع والأخير الذي اشترته السفارة الأمريكية (بالتعاون والتنسيق المطلق مع السفارة الإسرائيلية)، كان من باحث خريج كلية التجارة، وله ميول واهتمامات بمجال "البلاستيك"، وقد قدّم له "المركز الأكاديمي" مكافآت كثيرة عن أبحاثه في مجالات مختلفة، وأرسل إليه قبل أن يتقدم باختراعه برسالة تقول: "شكراً على تعاونك معنا في مركزنا، ونتمنى لك تعاوناً أفضل في مجال الأبحاث المطلوبة منك في رسالتنا الأخيرة، مرفق طيّه مبلغ خمسة آلاف جنيه لمساعدتك في اختراعك الأخير الذي تقدمت بفكرته ووافقنا عليها".‏
          وبعد ثلاثة أشهر تقدّم المذكور باختراعه كاملاً عن تركيب مادة جديدة تنتج بلاستيكاً يشبه الفخار، قوي التحمل... وبعد موافقة السفارة عليه اشترت حق الاختراع بمبلغ مائة وخمسين ألف جنيه بعدما رفض المخترع مائة ألف فقط، وهدّد بسحب اختراعه، وتقاضى المبلغ على دفعات بشيكات من أحد البنوك بالجيزة!!.‏
          من جهة ثالثة حصل "المركز الأكاديمي الإسرائيلي" على الملفات الكاملة لخمسة اختراعات مصرية جديدة، وقدّم للسفارة الإسرائيلية أسماء المخترعين الشباب، الذين تنقصهم الإمكانيات المادية والتكنولوجية لإتمام اختراعهم، حيث أن اختراعاتهم في مجال الماكينات الضخمة في المصانع والغزل والنسيج والحديد والصلب والقطارات.‏
          وحصل "المركز" على أسماء هؤلاء المخترعين عن طريق باحث مصري، وردّ عليه "مدير المركز" برسالة، جاء فيها:‏
          "السيّد/.. شكراً على حسن تعاونك معنا ومع مركزنا الموقّر، ونتمنى تعاوناً أفضل وأكثر في مجالات أخرى، مرفق طيّه مبلغ ألف جنيه مكافأة عن دورك الهام في إرشاد المخترعين الخمسة للجوء إلى المركز والتعاون معه، وشكراً".‏
          وبالفعل قابل مدير "المركز الأكاديمي" المخترعين الخمسة، ومنهم اثنان خريجا الجامعة الأمريكية، وبعدها حدّد لهم موعداً لمقابلة السفير "الإسرائيلي"، الذي قدّم إليهم صوراً للمصانع والمكائن الحديثة التي يمكن أن تساعدهم على اختراعاتهم. وقد وافقوا على السفر إلى "إسرائيل" وسافروا باستثناء باحث واحد، توفيت والدته قبل السفر بأيام، فأجّل سفره لبعض الوقت!!.‏
          وحول السؤال عن كيفية الوصول لهؤلاء المخترعين قال الدكتور رفعت سيّد أحمد "مدير مركز يافا للدراسات" (بالقاهرة): "المركز الأكاديمي الإسرائيلي منذ إنشائه في الثمانينات بعد معاهدة كامب ديفيد، وهو يعدّ بؤرة من بؤر التجسّس على مصر بطرق مباشرة أو غير مباشرة، والدليل على ذلك أنّ كلّ المتهمين بالتجسّس لصالح إسرائيل، الذين قبضت عليهم الأجهزة الأمنية المصرية كانت لهم صلة بالمركز الأكاديمي، وبعضهم كان يتلقى تعليماته من المركز نفسه، وبعضهم كان يزور المركز بشكل دائم ومنتظم، كما في قضية عزّام عزام الأخيرة.‏
          فالمركز الأكاديمي الإسرائيلي يركّز تركيزاً كبيراً على الشباب المصري في جميع المجالات، وهو يعطيهم الضوء الأخضر عن طريق أساتذة مصريّين وفنّانين ورجال أعلام وإعلام وصحافة تجعل الأمر شيئاً طبيعياً في حالة السلم التي نمرّ بها مع إسرائيل"(19).‏
          إن قراءة سريعة لعناوين المحاضرات التي ألقيت في "المركز الأكاديمي الإسرائيلي بالقاهرة" تظهر بصورة جليّة ملامح الاستراتيجية الصهيونية وأهداف "إسرائيل" الحقيقية من التطبيع والعلاقات الثقافية. وفيما يلي قائمة مختصرة لعناوين المحاضرات والندوات، المنظمة في إطار "المركز" المذكور:‏
          *"دور التواصل والتقليد في تشكيل مفاهيم المجتمعات الحديثة" للدكتور شوئيل أيزيشتاد أستاذ علم الاجتماع بالجامعة العبرية بالقدس وعضو الأكاديمية الإسرائيلية للعلوم والإنسانيات.‏
          *"وثائق الجينيزاه بالقاهرة كمصدر للتاريخ المصري" للدكتور مارك كوهين أُستاذ دراسات الشرق الأدنى بجامعة برنيستون وأستاذ زائر بالجامعة العبرية بالقدس، مزدوج الجنسية إسرائيلي/أمريكي.‏
          *"الآثار المسيحية القديمة في مصر" للدكتور آشير أوفاديا.‏
          *"التعليم في مصر" للدكتور ميشيل وينتر أستاذ تاريخ الشرق الأوسط والدراسات الإسلامية بجامعة تل أبيب.‏
          *"اليهودية والإسلام: علاقة بين الهالاخاة والشريعة الإسلامية" ألقتها هافا لازاروس يافيه، أستاذة الحضارة الإسلامية بالجامعة العبرية، لها دارسات معروفة عن التصوف الإسلامي، وفي بعض جوانب العقيدة الإسلامية، وأخرى في تاريخ العرب والإسلام.‏
          *"التفاعل الثقافي بين العرب واليهود في العصور الوسطى" للدكتور إسحاق أفيشور أستاذ اللغة العبرية وآدابها بجامعة حيفا ومدير "مركز تراث يهود بابل".‏
          *"حياة الطائفة اليهودية في الفسطاط: في العصور الوسطى" للدكتور مناحيم بن ساسون رئيس قسم تاريخ اليهودي بالجامعة العبرية، ونائب رئيس "معهد بن زفي لدراسات الطوائف اليهودية في الشرق".‏
          *"القراؤّون في مصر وتاريخهم عبر ألف عام" للدكتور تسفي انكوري الأستاذ بقسم التاريخ اليهودي بجامعة تل أبيب.‏
          *"يهود مصر في نهاية القرون الوسطى" للدكتور إبراهام دافيد الأستاذ بالجامعة العبرية.‏
          *"الفولكلور اليهودي بين الشرق والغرب" للدكتور دوف نوي، أستاذ الفولكلور في الجامعة العبرية بالقدس.‏
          *"اليهود في مصر" ليعقوب لنداو.‏
          *"اليهود في مصر -مجتمع شرق أوسطي في العصر الحاضر" للدكتور شيمون شامير.‏
          *"شخصيات يهودية في عالم الفكر والاقتصاد في العصر الحاضر" لموريس شمّاس.‏
          * في الأصل محاضرة ألقيت في "المؤتمر العام العشرين" للاتحاد العام للأدباء والكتّاب العرب، المنعقد بدمشق من 18-21 كانون الأول/ ديسمبر 1997.‏

          إذا الشعب يوما أراد الحياة
          فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
          و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
          و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

          تعليق


          • #6
            رد: الأبعاد الفكريّة والعلميّة -التقنيّة للصراع العربي الصهيوني

            إضافة إلى مئات من المحاضرات والملتقيات والندوات، التي تدور في إطار هذه الخطّة الاستراتيجية الصهيونية، الرامية إلى تهويد تاريخ مصر وثقافتها وحضارتها، وترسيخ المزاعم الصهيونية، التي تحاول إقناع العالم "بدور اليهود... وتأثيرهم الكبير"؛ في الحياة الاجتماعية والثقافية والحضارية للمنطقة العربية. ولا نستبعد أن يطالب الصهاينة، بعد فترة من التهيئة الذهنية والنفسيّة بآثارٍ ومواقع تاريخية عربية، مثل "مزار أبو حصيرة" اليهودي، وغيره من المقامات والأضرحة والمقابر اليهودية.
            ونستطيع التأكيد بموضوعية تامّة أنّ أعضاء السفارة "الإسرائيلية" وإداريّي وباحثي "المركز الأكاديمي الإسرائيلي بالقاهرة" جميعهم من كوادر الاستخبارات وكلهم يجيدون اللهجة المصرية الدارجة، وذلك انطلاقاً من دور وزارة الخارجية الإسرائيلية ووزارة الحرب ومؤسسة "الموساد" في تنظيم التجسّس الخارجي.‏
            وفي هذا الاتجاه كان أول سفير "إسرائيلي" لدى مصر "إلياهو بن اليسار" واحداً من كبار ضباط "الموساد" وله تاريخ شائن في العمل الإرهابي(20). وبعد اتفاقيات كامب ديفيد ومانتج عنها من تطبيع رسمي وعلاقات دبلوماسية، كشفت المخابرات المصرية عدداً من شبكات التجسّس الإسرائيلية، أغلبها على صلة مباشرة بسفارة "إسرائيل" منها -على سبيل المثال- الشبكة التي كانت برئاسة المستشار العسكري الإسرائيلي بالسفارة، والتي كشفت في أوائل آب/ أغسطس 1985، وكانت تضم عدداً من أعضاء البعثة الدبلوماسية الإسرائيلية، وبعض الباحثين "بالمركز الأكاديمي الإسرائيلي"، وأمريكيين يعملان بهيئة المعونة الأمريكية، وسويدياً يعمل وسيطاً في صفقات الأسلحة، وثلاثة مصريين، وكانت هذه الشبكة تستخدم محطة لاسلكية متطورة داخل سفارة العدو، لتبليغ رسالة يومية عن أحوال مصر، بينما يتم نقل التقارير والأفلام والصور والخرائط إلى إسرائيل عبر الحقيبة الدبلوماسية.‏
            وقد قام ضباط "الموساد" بالسفارة الإسرائيلية بالقاهرة، بتجنيد عدد من الطلاب عن طريق بعض أقاربهم العاملين بالسفارة، وتشجيعهم على السفر إلى إسرائيل في رحلات، حصل مقابلها أقاربهم على مكافآت مجزية نظير تجنيدهم!!.‏
            وهناك قضية الإسرائيليين الأربعة الذين كانوا يحملون جوازات سفر إنجليزية مزوّرة، وتم ضبطهم عند خروجهم من إحدى نقاط المراقبة الخاصة بقوة حفظ السلام في جنوب سيناء، وبحوزتهم حقيبة تضم 7 وثائق شفرية و19 شريطاً ميكرو فيلم للمنشآت المصرية في سيناء ونُظم تسليحها(21).‏
            وفي كتابه المعنون بـ "لن تكون هناك حرب أخرى" (الصادر في تل أبيب في كانون الأول/ ديسمبر 1995) كشف إلياهو بن اليسار السفير الإسرائيلي الأول بالقاهرة... عن حقيقة استخدام "إسرائيل" لهويات الدبلوماسيّين ومستندات وزارة خارجيتها حتى يعمل تحت غطائها رجال المخابرات الإسرائيلية، وأهم حالة كانت للقنصل "الإسرائيلي" العام بالقاهرة "يعقوب بيري"، الذي كان قد أرسل لمصر متخفياً تحت ستار دبلوماسي، في حين أنه كان ساعتها رئيس فرع العمليات الخاصة في الأراضي العربية المحتلة بجهاز "الشين بيت" الإسرائيلي (الأمن الداخلي).‏
            ويضيف إلياهو بن اليسار أن بيري جاء ومعه عدد كبير من ضباط وعملاء "الشين بيت" و "الموساد" تحت اسم (عمّال فنيّين) جاؤوا للإعداد الفني وإجراء التصليحات لمقر السفارة، التي اختار "بيري" موقعها الحالي في "6 شارع ابن مالك بالجيزة".‏
            ويذكر إلياهو بن اليسار أنّ يعقوب بيري بصفته القنصل العام، كما اعتمد رسمياً كان موجوداً بشكل دائم في عمارة السفارة لإجراء الترتيبات (الأمنية) مع رجاله "العمّال"، وهم مجموعة من وحدة جمع المعلومات التابعة للموساد من الفرع الذي يضم شبكات الجواسيس في مصر والجزائر وقبرص وتركيا والمغرب، وأنهم كلّفوا مع ضباط آخرين من المخابرات العسكرية (امان) و "الشين بيت" للتجسّس في مصر وإحداث الفتن والاضطرابات والتخريب.‏
            والدور نفسه لعبه أهرون بارتياع، الرائد في المخابرات العسكرية الإسرائيلية الذي تسلّم عمله كأول ملحق إعلامي بالسفارة الإسرائيلية بالقاهرة في شباط/ فبراير 1980. وبعده جاءت في منصب الملحق الإعلامي لسفارة "إسرائيل" بالقاهرة مجموعة كبيرة كان أبرزهم مائير كوهين الذي عمل في قسم الشؤون المصرية بالتلفزيون الإسرائيلي، الناطق باللغة العربية بعد انتهاء خدمته بالقاهرة ثم حلّ بعده (كملحق إعلامي) يعقوب ستيا، الذي عاد إلى تل أبيب، وهو يخدم الآن في قسم تحليل المعلومات المصرية التابع لوزارة الدفاع الإسرائيلية، وهكذا فكلّهم يعملون بنفس الأسلوب ويخدمون الأهداف ذاتها والاستراتيجية عينها، من بن إليسار إلى موشي ساسون، الذي اتّضح أنه كان ضابطاً هو الآخر بجهاز "الموساد" الإسرائيلي، وقد أدرج على قوائم الممنوعين من دخول مصر عام 1993. والأمر ذاته في مايتصل بالسفراء الصهاينة الآخرين، مثل "شمعون شامير" و "ديفيد سلطان" وغيرهما. وحتى "ساسون سوميخ" الذي قلب الصالونات الثقافية تحت ادّعاءات أنه أقرب المقرّبين إلى قلب نجيب محفوظ، لأنه متخصّص بأدب محفوظ، كان ضابطاً في المخابرات العسكرية الإسرائيلية، وكان إخوتُه ضباطاً كباراً بالمخابرات الإسرائيلية، وأشهرهم "شمعون سوميخ"، الذي كانت جريدة "معاريف" الإسرائيلية قد نشرت صورته واسمه لأول مرة في عدد الأربعاء 24 تموز/ 1996 عندما تجمّع قدامى ضباط المخابرات الإسرائيلية للاحتفال في مكان النصب التذكاري لقتلى المخابرات الإسرائيلية في الدول العربية ممّن سقطوا من جواسيس‏
            تل أبيب(22).‏
            إنّ أنشطة السفارات والقنصليات "الإسرائيلية" تحت ستار التطبيع وإرساء أسس التعاون العلمي والثقافي والتقني، لم تتمكن من إخفاء أعمالها التجسسيّة والتخريبية، التي تتكشّف يومياً ويشعر بعدوانيتها وبصماتها الخطيرة كلّ مواطن عربي واعٍ، يملك حسّاً وطنياً وشعوراً بالكرامة والانتماء لأرضه وتاريخه وحضارته. ولو أنّ مراكز البحث الإسرائيلية والسفارات والمؤسسات كانت ثقافية أو علمية أو دبلوماسية (كما تعلن) لما اضطرّ السيد عمرو موسى وزير الخارجية المصري لأن يرسل في نيسان /أبريل 1996 خطاباً رسمياً نوهت عنه صحيفة "يديعوت أحرونوت" في 12 نيسان/ أبريل 1996 وفيه قال موسى لإسرائيل: "نريد دبلوماسياً، وليس جاسوساً" (23).‏
            وكانت القصة وقتها تخص مخاض تعيين سفير جديد "لإسرائيل" بعد رحيل "ديفيد سلطان" المفاجئ إلى تل أبيب. وفي السياق الصهيوني ذاته تعدّدت زيارات أساتذة الجامعات والباحثين الإسرائيليين إلى مصر، بل أصبح من الصعب تقديم لائحة شاملة بهذه الزيارات، أو الوقوف عند برامجها ومجالاتها ومارافقها من حفلات وملتقيات وأطروحات. لكننا استكمالاً لعناصر البحث وجدنا من المناسب استعراض "نماذج بعض الأستاذة والباحثين" الصهاينة، الذين زاروا مصر بدعوات رسمية(24).‏
            *"زيارة (أبا إيبان) عضو الكنيست ورئيس لجنة الشؤون الخارجية والأمن، ووزير الخارجية الأسبق، والندوة التي عقدها في 8آذار/ مارس 1986. وكان قد زار مصر عقب توقيع المعاهدة وقدّم بوصفه الأستاذ السابق للأدب العربي ومترجم "يوميات نائب في الأرياف".‏
            *زيارة "ليونارد بايندر" أستاذ العلوم السياسية بجامعة شيكاغو، والأستاذ الزائر بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، وزميل مركز البحوث الأمريكي بالقاهرة، مزدوج الجنسية "إسرائيلي" /أمريكي، عمل مستشاراً سياسياً لجولدامائير إبان حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، عميل معروف للاستخبارات المركزية الأمريكية والموساد، حيث تموّلان أبحاثه ودراسته عن الاقتصاد المصري ومستقبل الجماعات الإسلامية في مصر والتيارات الدينية في المنطقة العربية وإيران، وهو صديق لمعظم أساتذة علم الاجتماع والعلوم السياسية في مصر.‏
            *زيارة وفد من أساتذة الجامعات الإسرائيلية، متخصصين في تحليل "وثائق الجينيزاه"، وقد شملت زياراتهم المعابد اليهودية ودار الكتب، وقاموا بتصوير بعض المخطوطات. منهم إبراهام دافيد ومارك كوهين ويوسف سادان.‏
            *زيارة وفد من أساتذة جامعة بن غوريون، برئاسة "يوسف تكواه" رئيس الجامعة.‏
            *زيارة "حاييم شاكيد" عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية وهو من كبار المستشرقين الإسرائيلين، و"إيلي ويجي" مدير "معهد شيلواح" و"إيتمار رابينوفيتش" عضو مجلس إدارة مركز موشي ديان في "معهد شيلواح" (الخبير في الشؤون السورية رئيس الوفد الإسرائيلي المفاوض مع الوفد السوري برئاسة المرحوم الدكتور موفّق العلاف).‏
            *زيارة "لازاروس يافيه" أستاذه العلوم والحضارة الإسلامية في الجامعة العبرية بالقدس، وقد ألقت محاضرة في "المركز الأكاديمي الإسرائيلي" بعنوان "العلاقة بين الهالاخاه والشريعة الإسلامية".‏
            *زيارة "حاييم جوردون" أستاذ علم النفس بجامعة بئر السبع، ولقاءاته الدائمة بأساتذة الفلسفة وعلم النفس بالجامعات المصرية، وعلى رأسهم "صديقه" الدكتور محمد شعلان.‏
            *زيارات "يوسف سادان" أستاذ الأدب العربي القديم، بقسم اللغة العربية وآدابها، بجامعة تل أبيب.‏
            *زيارات "بورتون" أستاذ البرديات بالجامعة العبرية، وقد توثقت علاقاته ببعض أساتذة كلية الآداب بجامعة عين شمس.‏
            *زيارات "آمي إيلون" أستاذ تاريخ الشرق الأوسط "بمعهد شيلواح" متخصّص في شؤون مصر.‏
            *زيارات "إيمانويل ماركس" أستاذ الأنثروبولوجيا الاجتماعية بجامعة تل أبيب، ومعهد أبحاث الصحراء "بجامعة بن غوريون" المدير اللاحق "للمركز الأكاديمي الإسرائيلي بالقاهرة".‏
            لم يقف دور "المركز الأكاديمي الإسرائيلي" والملحقية الثقافية لسفارة العدو (في القاهرة) عند حدود تنظيم الندوات المشتركة والبحوث وتبادل الزيارات، وتوجيه الدعوات للباحثين والأدباء والأساتذة المصريين... الخ، وإنّما تعدّى ذلك إلى تنظيم تهريب الآثار المصرية، فبالإضافة إلى جريمة سرقة المخطوطات اليهودية المصرية القديمة "الجينيزاه" وتهريبها من "معبد بن عزرا" بمصر القديمة ومقابر اليهود بمنطقة "البساتين"، رتب المركز المذكور عمليات تهريب واسعة للآثار المصرية، من بينها واحدة بزعامة "الحاخام إيتان صبيح" كبير حاخامات مدينة بيت لحم بفلسطين المحتلة، حيث جاءت العصابة تحت اسم "وفد ديني" لزيارة المعابد اليهودية في القاهرة والإسكندرية، وعند مغادرتها بعد 15 يوماً ضبطت معها مجموعة كبيرة من الآثار المصرية مختلفة الأحجام والتواريخ. كما ضبطت شبكة أخرى جاءت تحت ستار "مجموعة سياحية" في أثناء محاولتها تهريب ثماني حقائب من المخطوطات النادرة، بعضها مكتوب على جلد الغزال.‏
            ومن "ثمار" العملية التطبيعية اعتراض سفارة العدو بالقاهرة على نقل بعض مقابر اليهود في منطقة البساتين، والزعم أن عملية نقل "موتاهم" إلى منطقة أخرى (مجاورة للمكان الأصلي ولا تبعد عنه سوى ثلاثين متراً) مستحيلة من وجهة نظر الشريعة اليهودية. بل حاولت الطائفة اليهودية استصدار قرار من هيئة الآثار باعتبار جميع مقابر اليهود في "البساتين" في عداد الآثار التي لايجوز التعدّي عليها، لكن الهيئة رفضت وقالت أنّ مقابر البساتين الخاصة باليهود لاتُعد من الآثار ولا تدخل بذلك في نطاق قانون‏
            حماية الآثار(25).‏
            وقد رفضت حكومة "إسرائيل" طلب الحكومة المصرية استرداد الآثار المسروقة، بل قامت ببيع جانب كبير منها إلى المتاحف العالمية.. متحدّية- كعادتها- القوانين والمواثيق الدولية التي تحرّم ذلك. علماً أن هيئة الآثار المصرية قامت بتقديم الوثائق والأدلة الدامغة التي تكشف جريمة الإسرائيليين.‏
            والأخطر من ذلك قيام مجموعات إسرائيلية بتزوير بعض الآثار المصرية (في مواقعها بأرض مصر)، حيث ألقت سلطات الأمن القبض على عدد من الإسرائيليين تسلّلوا إلى المقابر الفرعونية بالوادي الجديد وأسوان حاولوا تزوير بعض الحروف الهيروغليفية باللوحات الجدارية الموجودة بالمقابر لتغيير سياق ومضمون النصوص التاريخية، بحيث تثبت الدور المزعوم لليهود في الحضارة المصرية القديمة.‏
            وصرّح مصدر بهيئة الآثار المصرية أنّ هذه المجموعة التي تم ضبطها في شهر نيسان/ أبريل عام 1996 ليست الحالة الأولى، حيث تعدّدت خلال الشهور الأخيرة الحالات التي قام بها "الإسرائيليون" بنفس العمل، وقد تم ضبط مجموعة من أدوات الحفر والألوان المعدّة خصيصاً للتزوير والتي تقارب الألوان الأصلية. كما ضبطت معهم مجموعة من الصور للنصوص المراد تشويهها موضّحاً عليها أماكن التزوير المُستهدف.‏
            وقد وصف المصدر (من هيئة الآثار المصرية) بأنّ مايجري جريمة حقيقية، "مؤكّداً وجود جهات معيّنة في "إسرائيل" بينها مراكز بحثية وهيئات ثقافية يساندها جهاز المخابرات الإسرائيلي تهدف إلى تشويه النصوص التاريخية، كما تقوم هذه الجهات بتقليد الآثار القديمة لحضارة المنطقة العربية من وضع قطع أثرية مزورة أو رسوم وكتابات بأحرف عبرية ضمن المقابر والمخطوطات المصرية القديمة".‏
            وعبر استغلال التطبيع الثقافي، تحاول "إسرائيل" اختلاق جذور حضارية يهودية وانتحال تاريخ يهودي، حيث امتدّ اهتمام الإسرائيليين إلى مجال الفنون والمأثورات الشعبية، في محاولات دائبة لإثبات أن كثيراً من مظاهر الحياة الشعبية في المنطقة العربية، من لغة وتقاليد وسلوكيات ومأثورات، تعود بالأصل إلى جذور يهودية تضرب في عمق التاريخ.‏
            وضمن هذا المخطط جمعت "إسرائيل" الأغاني والموسيقى الفولكلورية، تحت إشراف "مركز البحوث الموسيقية بالجامعة العبرية" و"الأرشيف القومي الإسرائيلي للصوتيات" وترأس البعثة الأولى الدكتور "آمنون شيلواح" أستاذ فن الموسيقى، ورئيس "معهد اللغات والآداب والفنون بالجامعة العبرية" بالقدس، وكان معه بعض الباحثين الإسرائيليين: جرزون كيوى، هوفاف، هرتزج وفاينبرج.‏
            وترأس البعثة الثانية الدكتور "دوف نوي" مؤسّس "الأرشيف القومي الإسرائيلي للصوتيات"، وصحب معه طاقم تسجيل ومن الباحثين: بلي وجولدبرج وبن عامي، وقد أثمرت جهود البعثيّين، تسجيلات مدتها عشرون ساعة، جمعت من مناطق وادي فيران وجبل الطور وأبو رديس ومن بعض القبائل العربية في سيناء، حيث تولّى نشرها وفق رؤية صهيونية "المركز الإسرائيلي لجمع ودراسة الفلولكور"، لتكتمل دائرة سرقة التاريخ كأبرز مكونات الفكر الصهيوني(26).‏
            وفي إطار السطو على تاريخ العرب وحضارتهم. نجد أن منشورات الدعاية السياحية، التي تقوم بتوزيعها "إسرائيل" في أوروبا وأمريكا، تحمل عبارات مثل: "زوروا إسرائيل وشاهدوا الأهرامات" أو: "تعالوا لزيارة الأهرامات ومن بناها"...!!.‏
            هذه محصلة، بل لمحة موجزة عن الدور "الإسرائيلي" في مصر تحت مظلّة التعاون العلمي والثقافي. واستكمالاً لدور "مراكز البحث العلمي" الإسرائيلية العامة في خدمة التطبيع واستراتيجية السيطرة الصهيونية، ينشط عدد كبير من مراكز البحث والمؤسّسات العلمية والهيئات الأمريكية، التي تمثّل مع الجهات "الإسرائيلية" شبكة مترابطة الحلقات، متكاملة الأهداف والمهام والأدوار والأوجه. فللولايات المتحدة الأمريكية أهداف استراتيجية تجاه المجتمع المصري تصبّ في سياق استراتيجية أشمل... وهي الاستراتيجية الأمريكية -الإسرائيلية تجاه المنطقة العربية، إذ لايمكن عزل مايحدث في مصر أو الأردن أو الخليج العربي عما يحدث في بقية أقطار الوطن العربي، والعكس صحيح. ولكي تصل الاستراتيجية الأمريكية -الإسرائيلية إلى تحقيق أهدافها تجاه الوطن العربي، استخدمت وسائل وقنوات وأساليب كثيرة: اقتصادية وسياسية وعسكرية، وثقافية (وهي مايعنينا أساساً في هذه الورقة).‏
            الوسائل الاستراتيجية الأمريكية الثقافية تجاه مصر والمنطقة العربية كانت وستظل عديدة ومتنوعة، فهي تستند بالدرجة الأولى إلى المشروعات العلمية والبحثية والثقافية المشتركة، وتشمل الإعلام بأنواعه وتقسيماته المختلفة، والتبادل الثقافي الرسمي وشبه الرسمي... الخ.‏
            وسوف نحاول أن نقدّم هنا لمحة كافية لأبرز الوسائل الثقافية -العلمية المتّبعة من خلال المتوافر من المعلومات والحقائق، وبالقدر الذي يسمح به المقام وحجم البحث، مع التركيز على تداخل الأدوار والوظائف التي تقوم بها المؤسّسات الأمريكية في مصر مع عدد من مراكز البحث والهيئات الصهيونية المعروفة، حيث أن للولايات المتحدة الأمريكية ركائز للاختراق الثقافي داخل مصر والمنطقة العربية، ولهذه الركائز كما يجمع أغلب الباحثين في هذا المجال، وظيفتان: الأولى، الاختراق الثقافي-العلمي المنظم، ومحاولة فهم المجتمع المصري وتفاصيل عملياته السياسية والاجتماعية وتصديرها إلى واشنطن، حيث وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (C.I.A.) بهدف إعادة برمجتها، وفق أساليب ونظم علمية متطورة تمهيداً للتحكم في العقل وفي المجتمع ككل. والوظيفة الثانية: خدمة الاستراتيجية "الإسرائيلية" من خلال ممارسة دور "قناة الربط" بين الجهات المصرية الثقافية والعلمية، وبين الجهات الإسرائيلية، وأحياناً تمتد هذه الوظيفة إلى حيث تجنيد "عملاء جدد" لخدمة التطبيع مع العدوّ أولاً، ومن ثم لتوظيفهم في خدمة الاستراتيجية الصهيونية في المنطقة العربية ثانياً، فيتم "التجنيد" على مراحل ووفق وسائل متدرجة، يأتي التعامل مع المؤسّسات والهيئات البحثية والاجتماعية الأمريكية في مقدمتها، فإذا ما اطمأنّ "العميل الجديد" لها جرى ربطه عبر "قنوات" كثيرة بالجهات الإسرائيلية، التي تصب بدورها في جهاز المخابرات الإسرائيلية "الموساد".‏
            ولأنّ المؤسّسات والهيئات الأمريكية، التي تمثّل بؤراً صديدية في جسد المجتمع المصري، جهات وعناوية مسمّيات عديدة ولا حصر لها، فإننا سوف نقدّم هنا أكثر هذه المؤسّسات والهيئات شهرة وأكثرها خطراً وهي(27):‏
            الجامعة الأمريكية في القاهرة.‏
            مؤسّسة راندا الأمريكية.‏
            المركز الثقافي الأمريكي.‏
            مركز البحوث الأميركية (في شارع الدوبارة بالقاهرة).‏
            مؤسّسة فورد فاونديشن.‏
            هيئة المعونة الأميركية.‏
            مؤسّسة روكفلر للأبحاث.‏
            -معهد ماساشوستس وفروعه في القاهرة ومعهد الـ (ام-أي-تي" (في مبنى جامعة القاهرة).‏
            -مؤسّسة كارينجي.‏
            -معهد دراسات الشرق الأوسط الأميركي.‏
            -معهد التربية الدولية والمتخصص في منح السلام.‏
            -معهد بروكنجر.‏
            -معهد المشروع الأميركي.‏
            -الأكاديمية الدولية لبحوث السلام.‏
            -مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة "جورج تاون".‏
            مشروع ترابط الجامعات المصرية الأمريكية ومقره المجلس الأعلى للجامعات في القاهرة. (تبلغ ميزانيته السنوية 27 مليون دولار تقدّمها المخابرات الأمريكية وأجهزتها المعروفة).‏
            والجهات السابقة تترابط من خلال أجهزة المخابرات الأمريكية والإسرائيلية بالمراكز البحثية الإسرائيلية لتكوّن مجتمعة شبكة منشقة الأدوار وخطيرة الأهداف(28).‏
            وترتبط بالمؤسّسات السابقة قائمة أخرى من المؤسّسات التي تعمل تحت لواء المخابرات الأمريكية، التي تموّل هذه الهيئات والمؤسّسات بميزانيات ضخمة وهائلة.‏
            وقد موّلت "وكالة المخابرات المركزية الأمريكية" (C.I.A.) منذ عام 1982 خمسة وسبعين مؤتمراً سنوياً، إضافة إلى أنّ خبراء المخابرات ومحلّليها والأكاديميين المتعاملين معها يحضرون هذه المؤتمرات ويعقدون اللقاءات والعلاقات مع ألمع الشخصيات المشاركة وأبرزها وأكثرها فائدة للأهداف الأمريكية -الصهيونية أو الصهيونية- الأمريكية لا فرق.‏
            والمهم أنّ هذه المؤسسات والهيئات لعبت وتلعب دوراً بارزاً في إعداد الأبحاث والدراسات، التي تخدم عملية تطبيع العلاقات بين مصر وإسرائيل، تمهيداً لتعميم هذه التجربة على الأقطار العربية الأخرى.‏
            فمثلاً تقوم "جماعة دراسات الشرق الأوسط" MESA) بالتنسيق المعلوماتي مع "معهد ماسا شوستس للتكنولوجيا" و "معهد دراسات الشرق الأوسط" في ميدان دراسة التيارات الاجتماعية والفكرية في المنطقة. ويعمل في إطارها عدد من أساتذة العلوم الاجتماعية والسياسية منهم: "ليوناردو بايندر"، الذي أعدّ مجموعة من الأبحاث والدراسات وموّلتها الاستخبارات الأمريكية، أهمها: التيارات الأيديولوجية في الشرق الأوسط، النظرية السياسية الإسلامية، العوامل المؤثرة في إيران العالمي، تطورات الاقتصاد المصري، ودراسات عن ظاهرة الجماعات الإسلامية والتطرف الديني في مصر.‏
            و"مالكوم كير" المدير السابق للجامعة الأمريكية في بيروت، عميل معروف للاستخبارات الأمريكية، وقد أعدّ بعض الدراسات التي أصبحت أحد مكونات الاستراتيجية الأمريكية في البلدان العربية ومايجاورها، مثل: الحرب العربية الباردة، السياسات العربية المحلية والصراع في الشرق الأوسط، وقام بإجراء عدد من البحوث المشتركة مع أساتذة مصريين، اغتيل على أبواب الجامعة في بيروت عام 1984.‏
            ومنهم "برنارد لويس"، المستشرق اليهودي المعروف بدراساته المغرضة عن العرب والإسلام، سواء من خلال إلحاحه على الطوائف والانقسامات في المجتمعات الإسلامية، أو من خلال دفاعه عن اليهود والصهيونية، بالإضافة إلى حجم التأثير الذي يمارسه لويس على كثيرين ممّن تتلمذوا عليه. كما أنه يشغل حالياً منصب أستاذ الدراسات الشرق أوسطية في جامعة برنستون، وهو عضو دائم في "معهد الدراسات المتقدمة" وفي الجمعية الفلسفية الأمريكية(29).‏
            ومن أعضائها مجموعة من أساتذة "الجامعة العبرية"، وهم جميعاً يتمتعون بالعضوية الشرفية "لمركز البحوث الأمريكي" بالقاهرة، وتصدر عنها "المجلة الدولية لدراسات الشرق الأوسط".‏
            ويرى باحثون منصفون أنّ "مؤسّسة فورد"، من أخطر مؤسسات التجسس العلمي الأمريكية، وقد انفردت بتمويل "أبحاث ودراسات الشرق الأوسط وعبر هذه المؤسسة تقوم "وكالة التنمية الأمريكية" (AID) بتخصيص حوالي مائة مليون دولار سنوياً لمركز البحث العلمي والجامعات المصرية منذ نهاية السبعينات إلى اليوم. وفي هذا السياق يقول محمد حسنين هيكل إنّ أكثر الجهات المستفيدة من هذه الأموال، هي الولايات المتحدة الأمريكية و "إسرائيل" وأنه قرأ "دراسة من 260 صفحة تتحدث عن حزام الفقر المحيط بالقاهرة، وتركّز بالتحديد على معسكرات الأمن المركزي والقوات المسلّحة الموجودة في هذا النطاق، ثم تتحدّث عن التفاعل بين الناس وهذه القوات في إطار هذا الحزام من الفقر..". ويضيف حرفياً: "إنّني معتقد أن هذا كلام في منتهى الخطورة (100) مليون دولار كل سنة تدخل لاستكشاف وتقصّي مايدور داخل العقل‏
            المصري"(30).‏
            وبالإضافة إلى قيام "مؤسسة فورد" بتمويل المنح الدراسية، حيث يجري "تطويع أدمغة" مئات الباحثين في مجالات البحوث الاجتماعية والدينية والثقافية والتنموية.. تقوم أيضاً بتمويل كثير من الأبحاث المشتركة في مصر، ومنها: التغيّر الاجتماعي في بلدان الشرق الأوسط، المرأة الفلسطينية ومعدّلات الخصوبة لديها، دور السلام في التغيير الاجتماعي.. الخ.‏
            وقد شارك في هذه الصفقات البحثية، بعض أساتذة الجامعات ومراكز البحوث السياسية والاجتماعية بمصر. وتعدّ "الجامعة الأمريكية" بالقاهرة إحدى أدوات تحقيق الاستراتيجية الأمريكية وقاعدة متقدمة للتغلغل داخل خلايا المجتمع، مع الأخذ بالحسبان "الساتر الفولاذي" الذي تفرضه على نشاطها وأبحاثها ودورها السياسي.. وهي بلا شكّ تخدم أهدافاً أمريكية محددة وبعيدة المدى، أكبر من الأهداف المعلنة(31). ويمثل الدارسون فيها شريحة كبيرة من أبناء الطبقة الغنية والنخبة الحاكمة، وهؤلاء يشكّلون "قاعدة مناسبة" لصفوة جديدة تدعم سياسة التبعية للولايات المتحدة، بحكم أنهم مرشحون بعد إتمام دراساتهم، لتولي مواقع متقدمة في الأجهزة التنفيذية وفي المؤسّسات الاقتصادية وإدارة الأعمال وقطاع السياحة. وتبرز في رحابها أقسام الاقتصاد والعلوم السياسية والتاريخ بأنشطتها المتميزة -خاصة في مجال البحوث المشتركة والممولة- وقسم الخدمة العامة وقسم خدمة الإدارة الموسعة ودورهما البارز في تشكيل وتدريب الصفوة المصرية الناشئة، ثم "مركز البحوث الاجتماعية" ودوره الكبير في تطوير شبكة واسعة من علماء الاجتماع الأمريكيين والمصريين، خدمة للتطبيع والأمركة واختراق خلايا المجتمع وفئاته وشرائحه.‏
            وتقوم جهات عديدة بتمويل أنشطة الجامعة المتنوعة، على شكل "هبات" و"تبرعات" بملايين الدولارات.. منها "مؤسسة فورد"، وبعض الشركات العالمية مثل: وستنجاوس وفايزر، بعض الخدمات الأمريكية مثل جامعة هارفارد، وبعض المراكز والمعاهد مثل: "مركز الإدارة الدولي" و"المعهد الدولي للإدارة والتنمية".‏
            أما "مركز البحوث الأمريكي" بالقاهرة، فيتركّز نشاطه في مجال الدراسات الاجتماعية، إلى جانب البحوث الاقتصادية والتاريخية والأثرية.. ويحظى بعضويته الشرفية "الزمالة" عدد من الأساتذة المصريين ومزدوجي الجنسية أمريكي/ مصري، وأمريكي/إسرائيلي مثلما هو الحال بالنسبة للأساتذة الزائرين بالجامعة الأمريكية بالقاهرة.‏
            كما ينشط في مجال البحوث المشتركة والمموّلة..‏
            وللتدليل على توجّهات المركز المذكور نشير إلى أنّ مديره الدكتور "روبرت بوب بتيز" متخصص في العلاقات الدولية ودراسات الشرق الأوسط، وكان موضوع رسالته "الأقليّات العربية المسيحية ودورها السياسي والاقتصادي والثقافي في مجتمعات الشرق الأوسط". وبعد عمله "كمُحلّل" للغة العربية في مكتبة الكونغرس، اشتغل بسفارات أمريكا في عدّة دول، ثم أسّس "المركز الدولي الإغريقي- الأمريكي" وظل مديراً له عشر سنوات.‏
            ويصدر "مركز البحوث الأمريكي" بالقاهرة مجلتين للبحوث العلميّة هما:‏
            1-"Journal of the American Research Center in Egypt".‏
            2-"News Letter of the American Research Center in Egypt".‏
            وفيما يلي بعض عناوين البحوث والدراسات التي أجراها "مركز البحوث الأمريكي" بالقاهرة:‏
            -بحث فاليري هوفمان: "الحياة الدينية للمرأة المسلمة في مصر المعاصرة".‏
            -دراسة وولفهارت هينريك: عن "تاريخ الآداب والعلوم العربية".‏
            -دراسة ليونارد بايندر حول "حرية الفكر الإسلامي في مصر المعاصرة".‏
            -دراسة شاهروف أخافي: "مفهوم الاشتراكية لدى العمال المصريين".‏
            -دراسة آرثر كريس عن: "الجهاد الإسلامي والاتجاهات الفكرية المختلفة".‏
            ومنذ منتصف الثمانينات كثّف "مركز البحوث الأمريكي" نشاطه في مجال التطبيع والتجسّس العلمي على المجتمع المصري.. تمثّل في عشرات الأبحاث المموّلة من بينها - مثلاً: دراسة عن العادات والتقاليد المتوارثة للأسرة المصرية، الموالد الشعبية المصرية، تقصي ظاهرة التطرف في الحياة المصرية الحديثة، الإسلام والثورة.. إلخ.‏
            ولدينا قائمة تضم عشرات العناوين للدراسات والبحوث، التي قامت وتقوم بها المؤسّسات الأمريكية لتشمل المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في مصر. ومن اللاّفت للانتباه أنّ المؤسّسات الأمريكية والإسرائيلية تبحث في "كل الموضوعات وفي كل مكان، وباستقلالية كاملة.. أو في إطار بحوث مشتركة ومموّلة كوّنت "بنوك معلومات متكاملة"... إلى الحدّ الذي دفع بعض الباحثين المصريين إلى القول بأن "كمية المعلومات التي حصلت عليها هذه المؤسّسات تفوق تماماً ما تعرفه القيادة السياسية وتفوق ما يعرفه علماؤنا"(32). ويؤكّد الرأي السابق الإعلان التالي، الذي نشر في جريدة جامعة أمريكية تحت عنوان "فرص بحث"(33):‏
            "تحتاج وزارة الخارجية لأبحاث عن الوجود الأمريكي في مصر، على ألاّ تتعدّى تكاليف مشروع البحث 25 ألف دولار.. اتصل بوزارة الخارجية- فرع العقود- ص. ب 9244، روزين ستيشن، فيرجينيا 22209".‏
            هذا بالإضافة إلى عشرات المؤتمرات الأمريكية - المصرية في مختلف الفروع والميادين العلمية، كالطب والزراعة والصيدلة والجيولوجيا والكيمياء والأمراض البيئية. وقد شارك "الإسرائيليون" في هذه المؤتمرات، ومنها مؤتمر "السلام من خلال القانون" (القاهرة من 26- 30 أيلول/ سبتمبر 1983)، تحت إشراف "مركز السلام العالمي من خلال القانون" بواشنطن.‏
            وفي مجال مؤتمرات "الفكر السياسي" عقد عدد من المؤتمرات بتنظيم من "مركز البحوث السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية" وبدعم من بعض المؤسّسات الأمريكية المشبوهة. منها - على سبيل المثال - مؤتمر: "الثقافة السياسية والممارسة الديمقراطية" بفندق شيراتون الجزيرة يومي 25و 26 تشرين الثاني/ نوفمبر 1987، تحت إشراف "الجمعية المصرية للعلوم السياسية" وبمشاركة وتمويل "مؤسّسة فريدريش إيبرت في مصر"... وخصص المؤتمر معظم أبحاثه عن: "دور الأحزاب والنقابات والتنظيمات الشعبية في الثقافة السياسية" و "الثقافة السياسية على مستوى المحليات".‏
            وقد عقد مدير "مركز البحوث السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية" اتفاقية مع مكتب "مؤسّسة فورد" بالقاهرة، خاصة بإعداد برنامج بحث يستمر ثلاث سنوات تتخللها مؤتمرات وندوات علمية حول تطور تدريس العلوم السياسية في الجامعات المصرية. وتقوم "مؤسّسة فورد" بتمويل البرنامج بمبلغ 600 ألف دولار (34).‏
            لكن إقحام "العامل النفسي" شكّل وسيلة أكاديمية "لتحقيق المخططات الصهيونية- الأمريكية" لإعادة تشكيل "العقل العربي"... كمدخل لتسوية الصراع العربي- الصهيوني وفق الرؤية والاستراتيجية "الإسرائيلية".‏
            وكانت صياغة "العامل النفسي" موضع جهود تنسيقية مشتركة بين هيئات ومؤسّسات أمريكية وإسرائيلية ومصرية، سواء من خلال المؤتمرات الثلاثية، أو الندوات والأبحاث المشتركة، أو من خلال الدراسات الميدانية، التي قام بها علماء الطب النفسي والباحثون الاجتماعيون والمؤرخون والدبلوماسيون من الأطراف الثلاثة.‏
            وادّعاء الأساس النفسي لهذا الصراع الجذري يقفز فوق المشكلة الأساسية المتمثلة بطرد أصحاب الأرض واقتلاعهم وسحقهم وإلحاق أفدح أنواع التدمير والتشريد بهم، وهو محاولة مكشوفة لاختراق الوعي العربي لصالح الفكر الصهيوني - اللاّ إنساني، انطلاقاً من مقولات ومزاعم "الحاجز النفسي"، التي جرى تعميمها أمريكياً، وتلقّفها أنور السادات وردّدها في مستهل "مبادرته التاريخية" الخطيرة. وقد رسم دور محدّد للدكتور محمد شعلان والدكتور جمال ماضي أبو العزايم والدكتور عبد العظيم رمضان، من خلال مؤتمرات الطب النفسي (في ووتر غيت في لندن ومؤتمر لوزان بسويسرا ومؤتمر القاهرة العالمي للصحة النفسيّة ومؤتمر الإسكندرية)، وكتاباتهم، التي تتلخّص في "ترسيخ المفاهيم والتصورات الإسرائيلية في الذهن العربي، وإيجاد مسوّغات سيكولوجية للسلوك الإسرائيلي". وقد برزت أهداف هذه الحملة في مشاريع "البحث العلمي" المشتركة، مثل مشروع بحث: "الأبعاد الاجتماعية والنفسية للصراع العربي- الإسرائيلي" برئاسة الدكتور هربرت كلمان أستاذ العلوم الاجتماعية بجامعة هارفارد، وشاركه في إنجازه باحثون مصريون وصهاينة، منهم الدكتور "ستيفن كوهين" من الجامعة العبرية، وحسين توما من المركز الوطني المصري للصحة النفسية. وقدمت نتائج البحث في ندوة (لمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية) بجريدة الأهرام، في 11 كانون الأول/ ديسمبر 1977.‏
            وقد عقد الدكتور "ستيفن كوهين" اتفاقاً في القاهرة للقيام بسلسلة بحوث تحت عنوان "رؤى الصراع" حيث يشرف عليها "معهد الشرق الأوسط للسلام والتنمية" بتمويل من "وكالة التنمية الدولية" (A. I.D.) ورصد لمشروع البحث مبلغ مليون دولار، وشارك فيه من المصريين الدكتور قدري حفني والدكتور محمد شعلان، ومن الصهاينة "ميشيل إنبار" الأستاذ بالجامعة العبرية و "إفرايم يا آر" من جامعة تل أبيب، ومن الفلسطينيين الدكتور نديم روحانة الأستاذ بجامعة هارفارد، والدكتور شريف كنعان الأستاذ بجامعة النجاح.‏
            وقد تصدّى لهذه المؤتمرات المشبوهة والأبحاث الزائفة، والكتابات المتصهينة عدد كبير من العلماء المصريين والكتّاب الوطنيين، منهم على سبيل المثال لا الحصر الدكتور محمد عودة رئيس قسم الاجتماع بكلية الآداب بجامعة عين شمس، الدكتور يحيى الرخاوي، الدكتور عبد الرحمن العيسوي أستاذ علم النفس بجامعة الاسكندرية، والدكتورة لطيفة الزيات والدكتور أشرف بيومي والدكتور جلال أمين وفريدة النقاش ومحسن عوض وغيرهم (35).‏
            وفي إطار العمل الصهيوني المستمر من أجل استحداث "مؤسّسات" وهيئات وجماعات وملتقيات" تصب في مشروعها الاستيطاني -التفكيكي- التدميري الشامل... تكوّنت "مؤسّسة المبادرة من أجل السلام والتعاون في الشرق الأوسط" في أيلول/ سبتمبر 1991. وهي تضمّ نخبة من الشخصيات الأمريكية و "الإسرائيلية" والعربية، وتعدّ أحد المطابخ الرئيسة في طرح الأفكار والتصوّرات والسيناريوهات، الممّهدة لتأسيس "نظام الشرق أوسطي" على أنقاض النظام العربي، تقوم "إسرائيل" فيه بدور القيادة وتتمحور من حول مصالحها واستراتيجيتها شبكة التفاعلات الإقليمية الجديدة (36).‏
            ويترأسها "جون ماركس" بصفته من الخبراء الأمريكييّن في شؤون المنطقة على مدى العقود الأربعة الماضية، ومن أهم الشخصيات التي تضمّنها "ألفريد أثرتون" مساعد وزير الخارجية الأمريكية الأسبق و "ريتشارد ميرفي"، وسفراء أمريكيون سابقون في المنطقة العربية، ووزير الدفاع الأمريكي الأسبق - رئيس البنك الدولي السابق روبرت مكنمارا، ونائب وكيل وزارة الدفاع الأمريكية السابق دوف زاخم ويعمل في إطار هذه "المؤسّسة المبادرة" خمسة وعشرون شخصاً من الأمريكيين والعرب و "الإسرائيليين". وقد برزت أخبار هذه "المؤسّسة" إثر اجتماعها السرّي السادس الذي عقد في مراكش بالمغرب (في الفترة من 18-22 آذار/ مارس 1994). وقد شارك بأعمال هذه "المؤسّسة" "شلوموجازيت" مدير الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية السابق، وجوزيف ألفر من "مركز دايان للدراسات الاستراتيجية" في تل أبيب، وضمّ الاجتماع أيضاً عضوين برلمانيين، وأساتذة جامعات وسفراء ومدراء ومعاهد بحثية، ومدراء تنفيذيين، ونشطاء في المجال العام وجنرالات. وكان المشاركون العرب ينتمون إلى تسع دول عربية. وقد نشرت الصحافة المغربية عدداً من أسمائهم، وقال البيان الذي وزّعته "مؤسّسة المبادرة من أجل السلام والتعاون في الشرق الأوسط" وعلى نطاق محدد إن مستشار الملك المغربي (الحسن الثاني) "أندريه أزولاي" -وهو أحد اليهود المغاربة- قد رحب بالمجتمعين، وقدّم كلّ خبرته من أجل إنجاح "خلوة مراكش"، خاصة أنه الاجتماع الأول الذي يعقد في مدينة عربية، حيث عقدت الاجتماعات الخمسة السابقة خارج المنطقة العربية في أمريكا ودول أوروبية.‏
            وقد اعترف المجتمعون (أصحاب خلوة مراكش) أن هدف اجتماعاتهم هو إعداد الجماهير العربية لقبول "السلام" بشروطه الحالية (الصهيونية)، وفرض هذا "السلام" طوعاً بإرادتها، أو رغماً عنها عن طريق تزييف وعي الناس وإرادتهم، المقاومة للعدوان والاستيطان والعنصرية الصهيونية. ولتحقيق برنامجها، قررت المجموعة الاهتداء بإجراءات وتحركات واسعة، تتمثّل خطوطُها العامة بما يلي:‏
            -لن يتماسك السلام النهائي في المنطقة إذا لم يكن هناك ثقافة للسلام تدعمه وتحافظ عليه.‏
            -ينبغي إحداث تحولات في التوجهات والإدراك في الشرق الأوسط إذا أريد للمنطقة الانتقال من ثقافة المواجهة والحرب إلى ثقافة السلام.‏
            -لتحقيق ذلك ينبغي كسر الأنماط القديمة، وجعل المتشدّدين (وهو مصطلح يُطلق على الوطنيين) معتدلين على امتداد المنطقة.‏
            -هناك حاجة إلى تطوير ونشر مصطلحات ومفردات سياسية جديدة ونسق جديد من الاستعارات المجازية، لتقديم محتوى اجتماعي لثقافة السلام.‏
            -يمكن للإعلام أن يلعب دوراً أساسياً في بناء السلام لتجاوز القيود الحكومية والثقافية السائدة، التي تضع عقبات مانعة أمام تقدم السلام.‏
            ولهذه الغاية، شكّل المجتمعون "ورشات عمل" تخصصيّة، وتقرّر أن تقوم بالأنشطة التالية:‏
            ورشات عمل "لحل النزاع" تعقد في الأردن، وفي تركيا "بمعدل مرتين في ستة أشهر".‏
            تدريب وتطوير مناهج في هذا المجال في جامعة بيت لحم بالضفّة الغربية.‏
            إقامة برامج تدريب للمدرّبين في مصر.‏
            عقد اجتماع تشاوري للجنة الإقليمية لتسوية النزاع، التي كانت قد شكلت في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 1993 في المؤتمر الإقليمي في الأناضول.‏
            وفي حال توافر تمويل إضافي في غزّة، وأخرى في الضفة الغربية، وواحدة في تركيا، إلى جانب، ورشة عمل إسرائيلية -فلسطينية مشتركة، وجولة دراسية لأربعة مشاركين من الشرق الأوسط في الولايات المتحدة.‏
            سوف يُفحص مشروع "صور الآخرين" التابع لمجموعة الأنماط السلبية لوضع الخطوط العريضة لحملة واسعة في المنطقة لإزالة النمطية واللا إنسانية، والهدف من ذلك العمل باتجاه التركيز إلى إعادة تنشئة وتعليم الأطفال في مراحل طفولتهم المبكرة.‏
            هذا وفي الاتجاه "التطبيعي- التفكيكي" ذاته، وعبر "الاجتماعات" و "الندوات" و "الملتقيات" "ذاتها"، وباستخدام الاصطلاحات والتعابير نفسها عُقدت في أيلول، سبتمبر من عام 1994، "خلوة أنقرة" التي أشرفت عليها ونظمت أعمالها وأسماء المدعوّين إليها... وموّلتها المؤسّسة الأمريكية الصهيونية المعروفة بـ "مشروع البحث عن أرضية مشتركة" وقد استمرت أعمالها ثلاثة أيام تحت شعار "نحو ثقافة سلام بالشرق الأوسط"(37). وما حدث هو البدء بتنفيذ برنامج العمل المستقبلي، الذي كانت أقرته في الاجتماع السادس بمراكش (آذار/ مارس 1994)، مجموعة العمل الأساسية في إطار "المبادرة" من أجل السلام والتعاون في الشرق الأوسط، وقد ساهم بدور واضح في "خلوة أنقرة" "مركز تاتي ستينمتيز الإسرائيلي لأبحاث السلام" في تل أبيب، الذي يترأسه "شمعون شامير" (الذي كان مديراً للمركز الأكاديمي الإسرائيلي بالقاهرة)، مؤسّسة "وقف الأمل" التركيّة بأنقرة وجمعية إعلام العالم بباريس، إضافة إلى تسعة صحفيين عرب يمثّلون "وكالة الأنباء الكويتية"، وجريدة "القدس" الصادرة في الأرض المحتلة، وجريدة "النهار" و "الحياة" ومجلة "المصوّر" (القاهرية).. وأربعة صحفيين "إسرائيليين"، وعدد من الدبلوماسيين -سابقين وحاليّين -من بينهم- مثلاً تحسين بشير الناطق باسم وزارة الخارجية المصرية إبان عهد السادات وعضو "مركز دراسات الشرق الأوسط" بالقاهرة، وصموئيل لويس مدير التخطيط السياسي السابق بوزارة الخارجية الأمريكية، والسفير الأمريكي السابق لدى الكيان الصهيوني، والصهيونيان عوزي بارمان وإسرائيل سيبال، ومن تركيا ميهّمت غير كانياك، وكل من سفير الاتحاد الأوروبي لدى تركيا، ومنسّق البرامج الإعلامية في الاتحاد الأوروبي، إضافة إلى المدير السابق "للمركز الأكاديمي الإسرائيلي" بالقاهرة "شمعون (شيمون) شامير" (الذي تحدثنا عن نشاطاته التجسّسية في مصر في موضع آخر من هذه الورقة)، وريتشارد ميرفي مساعد وزير الخارجية الأمريكية لشؤون الشرق الأوسط إبان رئاسة رونالد ريجان. وقد شارك في افتتاح الاجتماع المدير العام للمكتب الصحفي لرئيس الوزراء التركي، إضافة إلى "جون ماركس" المسؤول السابق في الاستخبارات الأمريكية ومؤسّس ورئيس "مشروع البحث عن أرضية مشتركة".‏
            وقد أجمع المشاركون على ضرورة اتخاذ الخطوات التالية:‏
            -ينبغي على صحف المنطقة نشر مقالات وزوايا دائمة من دول أخرى، وقد قبل أكثر من صحفي عربي دعوة المساهمة في كتابة مقالات في الصحف الإسرائيلية.‏
            -أن يتم ترجمة وتوزيع المقالات الرئيسة التي تصدر في الصحف الإسرائيلية، التي لا يسمح بدخولها إلى الدول العربية من قبل المشاركين، كما يتم ترجمة وتوزيع المقالات الرئيسة، التي تصدر في الصحف الأخرى التي لا تتوافر للإسرائيليين، والهدف من ذلك هو رفع مستوى العلاقات وتمتينها بين الصحفيين العرب والإسرائيليين.‏
            -ينبغي على الصحفيين المشاركين في دول مختلفة أن يكتبوا مقالات مشتركة، وهذا من شأنه أن يتبنّوا ذات الأفكار والمفاهيم، وقد وافقت (ر.د) مراسلة جريدة "الحياة" مشاركة صحفي إسرائيلي في كتابه مقالات مشتركة.‏
            أعلن المشاركون عن تشكيل شبكة مهنية لصحافة الشرق الأوسط، ودعوا إلى ضرورة توسيعها والنشر عنها، لضمّ أكبر عدد ممكن من الصحفيين العرب والإسرائيليين وغيرهم إليها، وتقديم إرشادات حول أية مقالات يريدون كتابتها.‏
            وافق المشاركون على دعوة منظمي الاجتماع بضرورة عقد مزيد من الاجتماعات المتخصّصة، تستهدف ضمّ ناشرين، رؤساء ومدراء تحرير الصحف ومدراء الإعلام الإلكتروني في المنطقة.‏
            ينبغي على منظمي الاجتماع وضع دليل يتضمن أسماء المهنيين العاملين في مجال الإعلام في المنطقة لتسهيل الاتصال.‏
            ينبغي على منظمي الاجتماع تنظيم لجنة من صحفيي المنطقة، للإشراف على العملية التي بدأت مع اجتماع أنقرة.‏
            ودعا "شيمون شامير" الصحفيين العرب إلى "عدم العودة إلى ملفّات الماضي، والتطلع فقط إلى المستقبل"، وقد اختتمت صحفية عربية (تعمل في إحدى وكالات الأنباء العربية)، مناقشات الجلسة الختامية للاجتماع بالقول: إنه من خلال هذه الاجتماعات "فإننا نكسب بُعْد نظر والعلاج النفسي لكسر الحواجز التي تفصل بيننا" مشيرة إلى أن صحيفة تصدرها في بلادها قد باشرت مثل تلك المهمة عندما أجرت مقابلات صحفية مباشرة مع مسؤولين إسرائيليين!!.‏
            لن نتوقف كثيراً عند "مجموعة كوبنهاغن" التي أثارت بدورها استياءاً واسعاً في الأوساط الثقافية والسياسية والشعبية، عند قيامها بمحاولة إقامة "تحالف للسلام مع إسرائيل" تحت شعار "تحالف شعبي للسلام" لكون التطبيع ما زال مرفوضاً شعبياً رفضاً عارماً.. إلاّ أنّ المجموعة ذاتها ورغم رفض الصهاينة تنفيذ أي بند من بنود الاتفاق مع الفلسطينيين، ورغم ما تقوم به "إسرائيل" من توسّع في بناء المستوطنات وقتل وتدمير وترويع وإرهاب ضد العرب، خصوصاً في الأراضي المحتلة، وجنوب لبنان... رغم ذلك كلّه تسعى المجموعة نفسها لإقامة جمعية في مصر تحمل اسم "حركة القاهرة للسلام"، على غرار "حركة السلام الآن" الإسرائيلية.‏
            فقد تقدم المحامي علي الشلقاني بطلب إلى الجهات المسؤولة لتأسيس الجمعية، وذكرت التقارير الصحفية أنّ بين المؤسّسين لطفي الخولي (توفي عام 1999) والدكتور عبد المنعم سعيد والسفير صلاح بسيوني الذي يتولّى إشهار الجمعية، بينما يتولى الشلقاني الإجراءات القانونية.‏
            كما ضمت قائمةُ المؤسّسين عدداً من الذين سبق لهم المشاركة في مبادرة كوبنهاغن، بالإضافة إلى عدد آخر من الشخصيات مثل الدكتور مراد وهبة والمصوّر السينمائي رمسيس مرزوق ومحمد عبد المنعم، ومنير فخري عبد النور وطارق علي حسن والدكتور أحمد رضا محرم وأحمد نافع(38).‏
            وتشير المعلومات المتوافرة إلى التزام الدكتور عبد المنعم سعيد ولطفي الخولي الصمت التام حيال الأنباء التي تؤكد حصولهما من "جهات ما" على مبلغ 18 مليون دولار لدعم جماعة كوبنهاغن، التي تمخض عنها إعلان تأسيس ما يسمى بـ "حركة القاهرة للسلام".‏
            وإذا كانت هذه المساهمة المتواضعة قد كشفت جزءاً من ملف الفضائح الخطيرة، التي تُمارس باسم "الأبحاث العلمية" و "الدراسات الميدانية المشتركة" و "مبادرات السلام" و "مشاريع التعاون الأكاديمي" و "هيئات المعونة" و "مراكز الأبحاث والدراسات الاستراتيجية" و "خلوات الأرضية المشتركة"... إلخ، فإننا -مع ذلك- نعتقد بصورة جازمة أنَّ الأجهزة المختصة في البلدان صاحبة العلاقة تملك من المعلومات والأدلّة والوثائق عن هذه "المراكز" و "المؤسّسات" و "الجماعات" ما يُشكل جبلاً هائلاً، بل قوّة محرِّضة لمقاومة أي شكل من أشكال التطبيع، الذي أبدعت جموح الشعب العربي في مصر والأردن في مقاومته، ناهلة من تراثها الوطني الطويل في مكافحة الغزاة والمستعمرين بكافة صورهم للحفاظ على هويتها ووجودها.‏
            وما نقترحه هنا، هو رفض التعايش مع العدو الصهيوني رفضاً قاطعاً، والاستمرار في حصاره وعزله وإبعاده عن المحيط العربي- الإسلامي، من خلال تعميم النموذج الشعبي المصري في مقاومة التطبيع، لأنَّ هذا النموذج قد أثبت أولاً نجاحه إلى حد كبير في عزل العدو الصهيوني رغم عنف وضراوة واتساع حملة التطبيع، ووفر ثانياً قدراً كبيراً ومتنوعاً من وسائل وأدوات المقاطعة الشعبية، إضافة إلى الخبرة في مواجهة وإفشال المخططات الصهيونية والأمريكية للتطبيع فتحيّة لشعبنا العربي العظيم، السدّ المقاوم للأخطبوط الصهيوني وعملائه وأدواته في المنطقة العربية.‏
            الحواشي‏
            1. إبراهيم عبد الكريم، الاستشراق وأبحاث الصراع لدى إسرائيل، عمّان: دار الجليل للدراسات والنشر والدراسات والأبحاث الفلسطينية، ط1، 1993.‏
            2. الدكتور أحمد أبو مطر، الثقافة المصرية في زمن التطبيع، عمّان: منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتّاب العرب، ط1، 1994، ص 40-44.‏
            3. المصدر نفسه، ص 44- 46.‏
            4. عرفه عبده علي، تهويد عقل مصر، القاهرة: دار سينا للنشر، ط1، 1989، ص 18.‏
            5. معن بشّور، "السلام والتطبيع الثقافي"، المستقبل العربي، السنة 19، العدد 209/ (تموز/ يوليو 1996)، ص 7.‏
            6. المصدر نفسه، ص 9.‏
            7. انظر ما كتبه محمود التهامي رئيس تحرير مجلّة "روز اليوسف" تحت عنوان "الأمة العربية: الذين صنعوا الوهم وصدّقوه" العدد "3597" تاريخ 19/ 5/ 1997، ص 7، وانظر ردّنا على هذه الأطروحة الخطيرة، المنشور في جريدة "الأسبوع الأدبي" العدد رقم "567"، تاريخ 22 صفر 1418هـ، الموافق 28/ 6/ 1997، ص 4، وص 13.‏
            8. انظر: رفعت سيّد أحمد، علماء وجواسيس (التغلغل الأمريكي- الإسرائيلي في مصر)، لندن رياض الريّس للكتب والنشر (د.ت)، الفصل الأول، هامش 18، ص 80.‏
            9. المصدر نفسه، ص 162- 163.‏
            10. عرفة عبده علي، تهويد عقل مصر، ص 21.‏
            11. نقلاً عن إبراهيم عبد الكريم، الاستشراق وأبحاث الصراع لدى إسرائيل، ص 120- 121.‏
            12. عرفه عبده علي، تهويد عقل مصر، ص 23.‏
            13. المصدر نفسه، ص 24.‏
            14. رفعت سيّد أحمد، علماء وجواسيس، ص 164- 165.‏
            15. المصدر نفسه، ص 170.‏
            16. صحيفة "الشعب" القاهرة، عدد 31/ 1/ 1988.‏
            17. عادل السنهوري وسعيد الشحّات، "تجسس اسمه البحث العلمي"، صحيفة "العربي" القاهرة، العدد 59 - 15 أغسطس / آب 1994، ص 6.‏
            18. انظر: مقالة طارق رضوان، "اختراعات شباب مصر تشتريها إسرائيل" في مجلّة "صباح الخير" الصادرة في القاهرة، العدد 2184، الخميس 13 نوفمبر/ تشرين الثاني 1997، الموافق في 13 رجب 1418هـ، ص 10-11.‏
            19. المصدر نفسه.‏
            20. عرفة عبده علي، تهويد عقل مصر، ص 54.‏
            21. المصدر نفسه، ص 55.‏
            22. انظر: تقرير توحيد مجدي، المنشور في مجلّة "روز اليوسف" العدد " 3620" تاريخ 27/ 10/ 1997، ص 22- 24.‏
            23. المصدر نفسه، ص 24.‏
            24. عرفة عبده علي، تهويد عقل مصر ص 30-35.‏
            25. رفعت سيّد أحمد، علماء وجواسيس، ص 149- 150.‏
            26. عرفة عبده علي، تهويد عقل مصر ص 104.‏
            27. لمزيد من التفصيل حول أهداف الاستراتيجية الأمريكية لتطبيع العلاقات بين مصر و "إسرائيل" تحت مظلّة المؤسّسات العلمية وهيئات التعاون الإقليمي انظر: رفعت سيّد أحمد: اختراق العقل المصري: دراسة ووثائق، القاهرة، التوني للطباعة والنشر، ط 2، 1986، وله أيضاً علماء وجواسيس مصدر سابق (خصوصاً من ص 43 - 141) وقد استفدنا من معطياته ومعلوماته الغزيرة في هذه المسألة بصورة كبيرة حيث يُعد مرجعاً لا غنى عنه لكل دراسة تعالج مشكلة التغلغل الثقافي- التجسسي الأمريكي في مصر، وكذلك: نبيل محمد عبد الغفار: السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربي الإسرائيلي، الهيئة العامة للكتاب، 1983.‏
            28. انظر رؤية نقدية لهذه الدراسات في كتاب محسن عوض: "الاستراتيجية الإسرائيلية لتطبيع العلاقات مع البلاد العربية"، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1988.‏
            29. إبراهيم عبد الكريم، الاستشراق وأبحاث الصراع لدى إسرائيل، ص 53- 56.‏
            30. محمد حسنين هيكل، "هذا العبث بوجدان مصر"، في صحيفة "العربي"، السنة الأولى، العدد "46" الاثنين 5 ذو الحجة، 1414هـ- 16 مايو (أيار) 1994.‏
            31. في ما يخص أنشطة المؤسّسات البحثية الأمريكية العاملة في مصر، اعتمدنا هنا بصورة أساسية على دراسة عرفة عبده علي: "تهويد عقل مصر" ص 65- 90.‏
            32. المصدر نفسه، ص 85.‏
            33. ((Research Opporunities)) Michigan State univ News Bulletin. August 2. 1984.‏
            34. صحيفة "الأهالي" عدد 26، تشرين الأول، أكتوبر، 1988.‏
            35. لمزيد من التفصيل، انظر: محسن عوض: الطب النفسي في الصراع العربي- الإسرائيلي، في "المواجهة -الكتاب الثاني" 1984، وكذلك بحث "الطب النفسي... والمؤتمرات المشبوهة" للباحث عرفة عبده علي، من ضمن كتابه "تهويد عق مصر"، ص 91-9.‏
            36. انظر: مقالة أسرار وخبايا مطبخ الشرق أوسطية، في صحيفة "العربي" السنة الأولى، العدد 43، الاثنين 25 نيسان/ إبريل/ 1994. ص 14.‏
            37. انظر: مقالة "وثائق خلوة أنقرة"، في جريدة "العربي"، السنة الثانية، العدد 63، الاثنين 12 أيلول/ سبتمبر 1994، ص 9.‏
            نقلاً عن مجموعة صحف ومجلاّت مصرية، بينها مجلّة "روز اليوسف" العدد "3620" تاريخ 27/ 10/ 1997، ص 17.‏

            إذا الشعب يوما أراد الحياة
            فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
            و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
            و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

            تعليق


            • #7
              رد: الأبعاد الفكريّة والعلميّة -التقنيّة للصراع العربي الصهيوني

              الفصل الثالث: الأمن القومي العربي والتحدّي العلمي - التقني(*)
              كان الأمن القومي وما يزال المسألة التي تشغل بال الأمم والحكومات مهما بلغ حجم القوّة التي تحت تصرّفها ونوعها. وتوفير الأمن على نسبيّته يشير إلى نجاح السياسة الخارجية للدولة وقدرة أجهزتها المختصّة على بلوغ الأهداف المرسومة، وذلك من منطلق أن الأهداف السياسية الخارجية تُحدّد وفقاً لاعتبارات الأمن القومي(1).‏
              والحقيقة ما يزال الحديث عن "أمن قومي عربي" حديثاً عن أمن يفترض السعي إليه وإيجاده، ويناضل من أجله طلائعيون من أصحاب الوعي القومي، لذلك قد يكون الحديث مزيجاً من الواقع والأمل، وفيه الحقائق والأمنيات والمخاوف والطموحات.‏
              ونحن هنا نعترف مع المختصيّن العرب(2) أنّ الأمن القومي العربي مازال مفهوماً مُتحرّكاً من حيث الاتفاق مع تعريفه وتحديده ورسم معالمه. وما زالت صلته بالأمن القطري ضبابية غائمة. فأين يبدأ القومي وينتهي، وأين أوّل القطري وأين آخره؟!.. وما هي معايير الخطر القومي، وما هي حدود السيادة القطرية في تجاوز مفهوم الأمن القومي؟!.. وأين هذه الحدود، هل رُسمت، ومن يرسمها؟! ما هي القوى القطرية التي يمكن احتسابها في خانة الأمن القومي، وكيف يمكن تحويل هذه القوى القطرية إلى قدرات قومية تنظمها وتعبئها وتطوّرها وتستخدمها قيادات قومية متخصّصة؟!. وما هي القيادات والمؤسّسات والأجهزة التي يجب أنْ تتولى شؤون الأمن القومي بجوانبه السياسيّة والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلميّة؟!.‏
              كيف يمكن الانتقال من الأمن القومي كأمل منشود وجهد فكر مبذول إلى الأمن القومي كسياسات واستراتيجيات وخطط وبرامج؟!. ثمّة إشكاليات وتساؤلات كثيرة وهامّة مطروحة أمام الباحثين والمفكّرين والسياسيّين والمختصّين بشؤون الأمن القومي العربي. ولا تدّعي هذه الدراسة أنها ستجيب على جميع هذه التساؤلات، أو تقدّم حلولاً ناجزة لمسائل التحدّي العلمي التقني الذي يواجه الأمن العربي بوصفه أحد أشكال التحدّيات الضخمة في بداية القرن القادم. وكلّ ما تطمح الدراسة إليه، أن تساعد في عرض أبرز الرؤى والأطروحات والأفكار والمعطيات، التي من شأنها إعطاء تصوّر أقرب إلى الواقع، وتحفيز الأذهان للتفكير في مسألة تُعدّ من أخطر المسائل، التي تواجه الأمّة العربيّة في صراعها الاستراتيجي مع الصهيونية العالمية، وقاعدتها الإقليمية الاستيطانية -التوسّعية- "إسرائيل".‏
              وإذا عدنا إلى بعض الوثائق الرسميّة مثل معاهدة "الدفاع المشترك" والتعاون الاقتصادي المبرمة في حزيران / يونيو عام 1950 في الإسكندرية، وميثاق التضامن العربي الذي تم التوصّل إليه في أيلول/ سبتمبر عام 1965 في الدار البيضاء، فإننا سنلاحظ أن مسألة الأمن القومي ليست بعيدة عن أذهان القادة العرب. بيد أن التساؤلات تنصرف إلى الممارسات العملية ومدى الجديّة في التطبيق.‏
              ولكن ما هو المفهوم العربي للأمن القومي؟! وما نوع التحدّي العلمي التقني الذي يواجهه؟!.‏
              أوّلاً: المفهوم العربي للأمن القومي‏
              ما زال الفكر السياسي العربي بعيداً عن صياغة محدّدة لمفهوم الأمن القومي في الوقت الذي باتت مفاهيم كثيرة للأمن القومي في كثير من الدول واضحة ومحدّدة، كالأمن القومي الأمريكي والفرنسي والإسرائيلي. فقد تعدّدت الآراء في هذا الخصوص، ودون الدخول في التفصيلات نستطيع أن نحدّد ثلاثة اتجاهات متباينة. الأول يتجاهل فكرة الأمن القومي العربي، والثاني ينظر إلى المفهوم في إطار ما يجب أن يكون، في حين ينظر إليه الاتجاه الثالث كمرادف لمفهوم الأمن الإقليمي.‏
              1- الأمن القومي كمرادف للأمن الوطني:‏
              يركّز هذا الاتجاه على الأمن القومي، ويستخدم مصطلح الأمن القومي للإشارة إليه. ويبدو هذا المنهج واضحاً في عدد كبير من الكتابات وبخاصّة المصرية، كالحديث عن الأمن القومي المصري(3).‏
              وقد أخذ أصحاب هذا الاتجاه مصطلح الأمن القومي عن الفكر الأمريكي، حيث وجد المفهوم صياغته الأولى في آراء عدد من الكتّاب ذوي الاتجاهات المختلفة. فقد رأى العسكريون أنّ الأمن القومي يعني القدرة العسكرية على حماية الدولة والدفاع عنها إزاء أي عدوان خارجي. ورأى السياسيون أنه مجموعة المبادئ التي تفرضها أبعاد التكامل القومي في نطاق التحرّك الخارجي. ورأى علماء الاجتماع أنه يمثّل قدرة الدولة على حماية قيمها الداخلية من أي تهديد خارجي. وبالتالي فإنّ مفهوم الأمن القومي بهذا التحديد يقترن بالدولة وجوداً وعدماً.‏
              2-الأمن القومي كمطلب قومي:‏
              يركز هذا الاتجاه على الفكرة القومية رغم غياب الدولة العربية الواحدة من جهة، ووجود الأقطار العربية وما يسودها من تناقضات من جهة أخرى. فالأمن القومي العربي يتمثّل هنا في: "قدرة الأمة العربية من خلال نظامها السياسي الواحد -المفترض- على حماية الكيان الذاتي العربي، ونظام القيم العربية التاريخية، المادية والمعنوية، من خلال منظومة الوسائل الاقتصادية والسياسية والعسكريّة، حمايتها من خطر التهديد المباشر أو غير المباشر خارج الحدود أي دولياً أو داخل الحدود بدءاً بالتخلف وحالات التبعية وانتهاءً بإسرائيل. وهو التهديد الذي سبّب ولا يزال حالة من الهزيمة والانكسار العربي تمثلت مظاهره في فقدان الإرادة العربية لاستقلاليتها وفي تعطيل عمليات التنمية، وبروز دور الشركات متعددة الجنسية، وفي تضخيم الظاهرة الصهيونية إلى حد الاعتراف بشرعيتها وهي المظاهر التي قد تنتهي بتهديد حق البقاء الإرادي للجسد العربي"(4).‏
              وبهذا يصبح الأمن القومي تعبيراً عن ثلاثة مطالب لا بدّ للأمة العربية من تحقيقها، الأول فكرة "الضرورة" التي تعني حق الدفاع عن النفس وما يرتبط بها من حشد للقدرات العلمية والتقنية والعسكرية ذات مواصفات عالية.‏
              والثاني "وحدة الإرادة" في مواجهة "قوة الخطر" ونقصد بها الوحدة العربية النابعة من خصائص الوجود القومي. والثالث حق التنمية وبناء الذات انطلاقاً من حقيقة التكامل بين مختلف أجزاء الوطن العربي، وبتفاعل هذه المطالب وتحويلها إلى متغيّرات إجرائية نكون أمام أوجه القوّة وأوجه الضعف في الجسد العربي5-.‏
              3-الأمن القومي كبديل للأمن الإقليمي:‏
              يركّز هذا الاتجاه على فكرة الأمن المشترك للأقطار العربية بحيث يصبح الأمن القومي مرادفاً للأمن الإقليمي. وهو أكثر شيوعاً، بين المهتمّين بقضايا الأمن القومي، من الاتجاهين السابقين.‏
              فمثلاً يؤكّد الباحثان محمد عنتر وعفاف الباز أنّ "الأمن العربي ينطبق عليه مفهوم الأمن الإقليمي، فالمفهوم هنا يشمل أكثر من دولة واحدة في منطقة جغرافية معيّنة تربطها روابط وصلات مُعيّنة. وفي معناه العام ينصرف الأمن العربي إلى تلك الحالة من الاستقرار الذي يشمل المنطقة العربية كلها بعيداً عن أي نوع من أنواع التهديد سواء من الداخل أم من الخارج"(6).‏
              ويرى باحثٌ عربيٌ متخصّص أنّ الأمن القومي ".. ما تقوم به الدولة أو مجموعة الدول التي يضمّها نظام جماعي واحد من إجراءات في حدود طاقتها، للحفاظ على كيانها ومصالحها في الحاضر والمستقبل مع مراعاة المتغيرات المحليّة والدوليّة". ويرى "أنّ الأمن الجماعي ضرورة حتمية لتحقيق الأمن العربي لما له من فوائد عديدة، على أن يتم الالتزام بقواعد وأصول العمل الجماعي"(7).‏
              ومن خلال إدراك طبيعة الاختلاف بين مفهوم الأمن القومي كما عرفه الفكر الغربي ومفهوم الأمن القومي العربي وفقاً لخصائص الواقع العربي، يرى عددٌ من الباحثين العرب: "أنّه تأمين المناعة الإقليمية والاستقرار السياسي والتكامل الاقتصادي بين أجزاء الوطن العربي، وتعزيز آليات وقواعد العمل المشترك بما فيها القدرة الدفاعية لوقف الاختراقات الخارجية للجسم العربي... وتصليب العلاقة التي تبدو هلامية في الوقت الراهن بين وحدات النظام العربي وما يتطلّبه ذلك من اعتماد الحوار والتفاوض لإنهاء الخلافات والصراعات الدائرة بين هذه الوحدات"(8).‏
              ومن الطبيعي أنّ مأخذنا على الاتجاه الأوّل أنّه يقف عند الحدود السياسيّة، لكلّ قطر عربي باعتبارها الصورة المثالية للتطوّر السياسي المطلوب. ويبدو واضحاً أنَّ هذا الاتجاه يغفل:‏
              أ- الوجود القومي وما يترتب عليه من تمييز بين أمن وطني خاص بكلّ قطر عربي وبين أمن قومي عربي شامل، وما يرتبط بذلك من تحديد للعلاقة بينهما على أساس التكامل الوظيفي، حيث إن تجاهل الوجود القومي لا بدّ أن يتضمن تهديداً للأمن الوطني بشكل أو بآخر(9).‏
              ب- إنّ حركة المجتمع في أي قطر عربي تتم في ضوء حركة تطوّر الأمة العربية وليس بمعزل عنها. أي أنها حركة الجزء في الكل.‏
              ج- إنّ الأخطار التي يتعرض لها أي قطر عربي تصيب بصورة مباشرة أو غير مباشرة الأقطار العربية الأخرى، لأنها تتجه في حقيقة الأمر إلى الأمة العربية ككل لتنال من الوجود القومي برمته. فالوجود الإسرائيلي القوي يشكّل تهديداً مباشراً لأمن الأقطار العربية وقدرتها على المواجهة العديد من التحدّيات. وليس هناك قطر عربي في منأى عن الأخطار التي قد تتعرّض لها أقطار عربية أخرى. والتحرك الإسرائيلي في المنطقة يؤكّد ذلك.‏
              د- إنّه في إطار النظرة الضيّقة للأمن القومي لم يعد ممكناً تحقيق الأمن، ليس لأن العصر الذي نعيش فيه هو عصر التكتلات فقط، وإنما لأن العالم أضحى اليوم مترابطاً إلى الحد الذي لم تعد فيه أية دولة بمنأى عن تأثير التوترات الناجمة عن حركة الدول الأخرى في سعيها نحو بلوغ أهدافها وتأمين مصالحها.‏
              أمّا النظر إلى الأمن القومي العربي على أنه أمن إقليمي ينطوي على خلط بين مفهومين مختلفين ليس من الناحية النظرية العامة فقط، وإنما فيما يخص الوضع العربي أيضاً. يؤكّد ذلك أكثر من مفكر عربي، فالدكتور حامد عبد الله ربيع يقول في هذا الخصوص: "... إنّ تصوّر الأمن العربي على أنه أساساً أمن إقليمي هو تعبير بعيد عن الصواب. إنّه البديل للأمن القومي وليس مجرد تطبيق لمفهوم الأمن القومي"(10). ويقول الدكتور عليّ الدين هلال: ".. الأمن القومي ليس مجرّد صورة من صور الأمن الإقليمي وحق الدفاع الشرعي الجماعي عن النفس وفقاً للمادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة.. ففي هذه النظرة تهوين من حجم الروابط التي تجمع بين البلاد العربية وقصرها على رابطة الجوار الجغرافي. فالأمن القومي العربي يستند في الأساس إلى وحدة الأمة العربية وإلى وحدة الانتماء وإلى مفهومي الأمّة الواحدة والمصير الواحد، والأمن العربي كذلك ليس مجرّد حاصل جمع الأمن الوطني للبلاد العربية المختلفة، بل إنه مفهوم يأخذ في اعتباره الأخطار والتهديدات الموجّهة إلى هذه البلاد ويتخطّاها ويتجاوزها(11) إن أية صياغة لمفهوم الأمن القومي(12) ينبغي أن تأخذ في الحسبان الأمور التالية:‏
              (أ) عدم الخلط بين مفهوم الأمن القومي ومفاهيم الأمن الأخرى.‏
              (ب) إدراك حقيقة الوجود القومي من جهة ومتابعة تطوّر الفكرة القومية من جهة أخرى.‏
              (ج) التصدّي للإجابة عن عدد من التساؤلات التي قد تثار في هذا الخصوص. من ذلك مثلاً: أين يقع مفهوم الأمن القومي في الفكر العربي؟ هل يدخل في إطار المبادئ فيكون متمشّياً مع المفهوم العربي للأمن القومي؟ أم أنّه في إطار القيم فيكون متمشّياً مع مفهوم المصلحة القومية؟.‏
              يمكن القول بأن الأمن القومي العربي يعني تلك الحالة التي تكون فيها الأمّة العربية، ضمن الوعاء الجغرافي الذي يحتضن أبناءها، بعيداً عن أي تهديد داخلي أو خارجي، مباشر أو غير مباشر، لوجودها القومي أو لحركة تطوّرها وقدرتها على القيام بدورها الحضاري.‏
              الأمن القومي يرتبط بحقيقة مزدوجة: الأوضاع الراهنة من جانب، والمستقبل من جانب آخر، الحاضر باعتباره إحدى مراحل التطور العربي، ممّا يعني النظر إلى الأمن القومي كتطبيق مؤقت للأمن القومي وليس كبديل له؛ والمستقبل باعتباره يتضمّن المراحل الأخرى ومن بينها الوحدة013).‏
              يدور مفهوم الأمن القومي العربي في المرحلة الراهنة حول مجموعة المبادئ التي تضمن قدرة الدول العربية على حماية الكيان الذاتي للأمّة العربية من أية أخطار قائمة أو محتملة، وقدرتها على تحقيق الفكرة القومية. ولما كان هذا المفهوم يتضمّن تخطّي الأوضاع الراهنة، حيث التفسّخ والتجزئة والضعف، إلى وضع أفضل يلبّي احتياجات الطموح القومي، فإنّ الأمن القومي العربي يدخل في إطار ما ينبغي أن يكون. وهذا يعني أنّ ننظر إليه ضمن نطاق المصالح القومية الشاملة.‏
              وبناءً على ما تقدم فإنّنا لا يمكن أن نفهم وجود أمن قومي للعراق مستقل عن الأمن القومي السوري أو الأردني، أو أمن قومي للسودان مستقل عن الأمن القومي المصري، وهكذا فإنه لا يمكن بأية صورة من الصور تحقيق الأمن القومي لأية دولة عربية بمعزل عن الدول العربية الأخرى، ويمكن أن نطلق على هذا المفهوم للأمن مصطلح "الأمن الجماعي المشترك"، الذي يشتمل على شقّين:‏
              الأول وقائي: يتمثّل في الإجراءات الكفيلة بالحيلولة دون وقوع العدوان أو تهديد الأمن القومي.‏
              والثاني يتضمّن التوازن والاستقرار: ويشمل الدول التي تواجه تهديداً مباشراً لوجودها، الأمر الذي يمكنها من توظيف مواردها وطاقاتها لتقوية قدرات الدول المجابهة (طموحات غير متحققة واقعياً).‏
              إنّ النظر إلى كلّ قطر عربي بوصفه مكمِّلاً للقطر المجاور (أو الأقطار العربية المجاورة)، وساعياً نحو تحقيق التنسيق والتكامل معه ومع بقية الأقطار العربية يقودنا إلى تعريف الأمن القومي العربي "بأنّه قدرة الأمة العربية مجتمعة على التصدي لكلّ التحديات والأخطار الداخلية والخارجية التي تواجهها والتغلّب عليها، وصيانة استقلال ووحدة الأمة العربية، وزيادة متانتها العسكرية والاقتصادية والثقافية (والاجتماعية) في وجه التحدّيات التي قد تظهر في المستقبل"(14).‏
              والواقع إنّ المعضلة الرئيسة التي تواجه العمل القومي العربي المشترك في الميادين والمجالات والهياكل كافة تتمثّل في التناقض الكبير القائم بين قومية التهديدات والتحدّيات والمهام المطروحة على العرب (جماعياً) من جهة، وبين انفرادية كل قطر عربي برسم سياسته الإقليمية والعربية والدولية وتنفيذها على مستواه الخاص، وقد أدّت هذه الازدواجية (التي بلغت درجة التناقض في أحيان كثيرة) إلى تراجع واضح في مكتسبات العمل القومي العربي على صعيد الممارسة الواقعية، حتى وصل الوضع إلى مرحلة مأسويّة تجسّدت (وما زالت للأسف) باستقواء أقطار عربيّة بالأجنبي على أقطار عربية شقيقة. وقد خلص تقريرٌ أنجزه فريق علمي عربي في إطار "مركز دراسات الوحدة العربية" إلى استشراف واقع مستقبلي خطير للعرب فيما لو استمرّت الأوضاع العربية الراهنة، وقال التقرير حرفياً: "إنّ كل الأقطار العربية، غنيّها وفقيرها، كبيرها وصغيرها، تواجه إما أزمة بقاء أو بقاء أزمة إذا استمرّ واقع التجزئة الراهن".‏
              وقد أشار السيد الرئيس حافظ الأسد في كلمته أمام السادة أعضاء مجلس الشعب عند أدائه اليمين لولاية رئاسية خامسة في 11/ آذار من العام الحالي 1999 إلى وضع الأمة العربية المفكّك أمام التحدّيات الخطيرة، فقال: "إنّ ما يقلقنا اليوم هو حالة الأمّة العربية ومعاناتها من الوهن والضعف والانقسام والصراعات، وخوف البعض من البعض الآخر، وخوف الجميع من أخطار تهدّد الجميع وتسعى للسيطرة والهيمنة على الوطن كلّه إلى جانب العدوان الإسرائيلي.‏
              لقد تجذّرت المصالح القطريّة الضيّقة، وغاب الأفق القومي الرحب، ممّا أتاح للقوى الأجنبية سهولة الهيمنة، ولإسرائيل سهولة الاستمرار بالعدوان، ممّا يكاد أن يفقد العرب جميعاً القدرة على النهوض والتقدّم.‏
              في عقدي الأربعينات والخمسينات كان طموح العرب التحرّر من الأجنبي وتحقيق الوحدة العربية، في الستينات ومطلع السبعينات كان طموح العرب تحقيق التضامن العربي، وبعد ذلك إنّ الطموح اليوم هو وقف حالة الاقتتال والتنازع والصراع. [ويتساءل الرئيس الأسد مستنكراً]: "فأيّ عربي، مسؤولاً كان أو مواطناً عادياً، يستطيع القول إنّ هذه الحالة المؤلمة توفّرله الأمن والاستقرار والتمتع بالموارد والعيش الكريم...؟"(15).‏
              ثانياً: التحديات المُهدِّدة للأمن القومي العربي‏
              ثمّة أخطار وتحدّيات داخليّة وخارجية عديدة تُهدّد الأمن القومي العربي وترتبط بالطاقات والثروات والخصائص الجيوبوليتيكية للوطن العربي، والتي جعلت منه منطقة هامّة جدّاً اقتصادياً وسياسياً واستراتيجياً وحضارياً، ومن هذه التحدّيات:‏
              وجود الكيان الصهيوني: يُعدّ وجود إسرائيل في قلب الوطن العربي، وفي منطقة هامة وحيوية جداً تصل بين مشرق الوطن العربي ومغربه، من أشدّ ما يتهدّد الأمن القومي العربي من تحدّيات. وخطر إسرائيل لا يتوقّف عند احتلالها لأجزاء من الوطن العربي فحسب، بل في أهداف الحركة الصهيونية التوسعية والعدوانية، المهدّدة عملياً لأقطار الوطن العربي كافّة (بل لأقطار إسلامية كإيران وحتى باكستان). والمخطّطات الإسرائيلية لا تتوقف عند حدود إسرائيل الحالية، بل تتجاوزها لتشمل رقعة أوسع من ذلك بكثير. ويمكن أن نضيف إلى التهديدات العسكرية الإسرائيلية المباشرة، تلك المشاريع التي تقوم إسرائيل بتنفيذها من أجل تضييق الخناق على الأقطار العربية المحاذية لها مباشرة، مثل سورية ولبنان والأردن ومصر.‏
              ونشير هنا إلى أطماعها بالمياه العربية، واستيلائها على منابع المياه كاستراتيجية بعيدة المدى، إضافة إلى تمتين علاقاتها مع تركيا وعقد اتفاقيات تعاون وتنسيق مشترك بينهما على الصُعد كافة: عسكرياً وأمنياً واقتصادياً وسياحياً (وهو موضوع يتطلب دراسة منفصلة لضخامته ومخاطره). وتدعم إسرائيل المشاريع المائية التركية الضخمة على نهري دجلة والفرات ضمن مشروع "الشرق أوسطيّة" المعروف، الأمر الذي يتهدّد كلاً من سورية والعراق بكوارث غذائية وزراعية واجتماعية. كما أنّها تعمل منذ فترة ليست قصيرة على تمتين علاقاتها مع إثيوبيا وتنفذ في هذا الإطار مشروعات مائية مشتركة.كالمساعدة في إقامة سدود مائية على النيل الأزرق لنقل المياه عبر قناة مغطاة أو على نهر وناقلات مائية تجتاز البحر الأحمر وصولاً إلى إيلات، مقابل تقديم مساعدات عسكرية ومالية إلى الحكومة الأثيوبية، كما قامت إسرائيل بتمتين علاقاتها العسكرية والأمنية مع أرتيريا، بغية التوغل في جنوب البحر الأحمر الذي يُعدّ ذا أهمية استراتيجية خطيرة.‏
              ثمة أخطار وتحدّيات عديدة تُهدِّد الأمن القومي العربي ناشئة من الداخل، وهذا ما يجعلها أشدّ خطورة على المستقبل العربي، لأنها ستتحول إلى عوامل ضعف، من شأنها التهيئة البنيوية للانقضاض الخارجي على الوطن العربي بصورة جماعية أو عبر الاستفراد بكل قطر أو مجموعة على حدة.‏
              أ- في المجال السياسي: تُعاني الأقطار العربية من مظاهر التوتر وعدم الاستقرار الداخلي، الناتج عن التجزئة الإقليمية والسياسيّة والبشريّة والاقتصادية التي فرضتها القوى الأجنبية، وكذلك بسبب انتشار أغلبية من الحكومات التابعة، وغياب الحسّ القومي لديها، إضافة إلى الخلافات العربيّة، التي أصبحت- بكل أسف - سمة ملازمة للواقع العربي الراهن.‏
              وهو ما أشار إليه السيد الرئيس حافظ الأسد في كلمته المذكورة، حيث قال: "لقد وقعت أخطاء كبيرة من هذا الشقيق أو ذلك، وتركت آلاماً عميقة وهذا أمرٌ حدث بالفعل، ولكن إلى متى وإلى أين...؟ هل من مصلحة أي مسؤول عربي أن يورث الأجيال القادمة هذه الصراعات...؟ وما هو الثمن الذي دفعناه والذي ستدفعه الأجيال القادمة، هذا إنْ بقي لها شيءٌ تدفع منه...؟.‏
              يتكلّم البعض عن السلام مع إسرائيل في الوقت الذي نرفض فيه السلام فيما بيننا، ولن يتحقّق السلام مع إسرائيل موضوعياً، إلا إذا تحقق السلام بين العرب أنفسهم (16).‏
              ب- في المجال الاقتصادي: مازال الحديث عن اقتصاد عربي واحد أو حتى عن تكامل اقتصادي عربي(17) أمراً غير واقعي. فالوضع الاقتصادي السائد في الوطن العربي تسوده مظاهر القطرية المتخبطة، ويغيب عنه التخطيط القومي المتكامل الشامل، الذي نصّ عليه ميثاق جامعة الدول العربية والاتفاقيات الاقتصادية العربية. ودون الخوض في هذه المسألة يمكن إبراز العديد من الإشكاليات المتعلّقة بالجانب الاقتصادي للأمن القومي العربي، والتي تتمثّل في:‏
              - التبعية العربيّة للاقتصاد العالمي، وبطء عملية التنمية الاقتصادية واتخاذها طابعاً قطرياً.‏
              - غياب التطوّر الشامل، وغياب التنسيق التجاري والإنتاجي بين هذه الأقطار.‏
              - توظيف رؤوس الأموال العربية وهروبها إلى خارج الوطن العربي، وتشير بعض الإحصاءات إلى أنّ ما يزيد عن 800 مليار دولار (من أموال العرب) موظفة في الخارج، وأنه مقابل كل دولار عربي يستثمر داخل الوطن العربي، يُستثمر 75 دولار عربي في الخارج، وهو ما يؤدي إلى حرمان الاقتصاد العربي من أموال هائلة يمكن الاستفادة منها لتدعيم البُنية الاقتصادية والعسكرية للأمن القومي العربي.‏
              - يعاني الوطن العربي من أزمة حقيقية في مجال أمنه الغذائي، وتتضخّم هذه المشكلة يوماً بعد يوم نتيجة الازدياد الكبير في عدد سكان الوطن العربي، والذي يترافق بتناقص واضح في الإنتاج، ولا سيّما المواد الغذائية‏
              الضروريّة(18).‏
              حيث تبيّن الدراسات المتخصّصة أنّ الوطن العربي بجميع أقطاره شهد في العقود الثلاثة الأخيرة زيادة كبيرة في الهجرة من الأرياف إلى المدن، كما أنّ الأقطار العربية أصبحت مع أوائل السبعينات، من أكبر مناطق العالم استيراداً للمنتجات الزراعيّة، وأكثرها اعتماداً على الخارج في توفير احتياجات السكان من الغذاء (يُستثنى من ذلك القطر العربي السوري، الذي زاد إنتاجه الكلي للغذاء إلى أكثر من ثلاثة أمثال ما بين 1970 و 1993)(19). وقد جاء في دراسة "للمنظمة العربية للتنمية الزراعية" أنّ: الزراعة لا تزال تعاني من التخلف في كثير من جوانبها، ويعتبر العالم العربي منطقة العجز الغذائي الأوّل في العالم"(20).‏
              وعموماً فقد لاحظ المجتمعون، المشاركون في الدورة التاسعة للمؤتمر القومي العربي، المنعقدة ما بين 15-18 آذار (مارس) 1999 في بيروت، لدى استعراض الأوضاع الاقتصادية العربيّة، لاحظوا تدهور مؤشّرات التنمية البشرية، الذي "يعود بشكل رئيس إلى السياسات الاقتصادية والمالية والاجتماعية، التي أدّت إلى زيادة الاستقطاب في المجتمع إلى درجة التشرذم الاجتماعي، واستبعاد أشدّ الفئات الاجتماعيّة حرماناً، واستمرار تهميش دور المرأة العربية، بل وتراجع مكانتها أحياناً. وقد لاحظ المؤتمر اتساع دائرة الفقر والحرمان وتزايد مؤشّرات البطالة، في الوقت الذي تؤكّد الإحصاءات تصاعد ثروات قلّة من المواطنين العرب.‏
              كما لاحظ المؤتمرون لدى استعراض التحدّيات التي ستواجهها الاقتصادات العربيّة في القرن المقبل، وخاصة في مواجهة إخفاق عملية التنمية، ومأزق العمل العربي المشترك، والمشروعات الإقليمية المشبوهة وقضايا السكان والبيئة، وتحدّيات الأمن المائي والغذائي.. إلخ، أنّ مواجهة هذه التحدّيات لن يكتب لها النجاح ما لم تعمل الدول العربية على إحداث إصلاحات أساسيّة في القواعد الاجتماعية التي تحكم توزيع الدخل وتشكّل الاستهلاك وامتلاك قرار الاستثمار. مما يعني وجود مشروع اجتماعي- اقتصادي متناسق يقوم على أسس التنمية المستقلّة الشاملة والتكاملية ضمن خلفيات من الديمقراطية والشفافية، تضمن استخدام الشعوب العربية جميع وسائل الضغط الشعبي الذي يسمح بإقامة اقتصاد عربي قومي ومتين، يعزّز الموقف العربي التفاوضي تجاه التكتّلات الداخليّة والمؤسّسات الدولية، ويجعل الدول العربية قادرة على التعامل مع مختلف الجهات من موقع التكافؤ والنديّة(21).‏
              ثالثاً: التحدّي العلمي- التقني‏
              وتأثيراته على الأمن القومي العربي‏
              إنّ التقدم العلمي والتقني في كل مجتمع مرتبط بشكل عضوي بالنهوض العام لهذا المجتمع، ولهذا نلاحظ تباطؤاً ملحوظاً في النهوض العلمي والتقني في الأقطار العربية، في الوقت التي تتسارع فيه مستجدّات العلم والتقانة في العالم بشكل انفجاري متصاعد وبوتيرة متسارعة.‏
              ويُلاحظ أنّ معظم مؤشّرات التقدّم العلمي والتقاني العملية وبشكل خاص في الإنتاج والخدمات راوحت مكانها تقريباً خلال العقد الماضي، وتكفي الإشارة إلى أنه لم يتم سوى تسجيل عدد نادر جداً من براءات الاختراع من مبدعين عرب، وعدد نادر جداً من سلع جديدة أو طرائق إنتاج جديدة في الأقطار العربية، كما لم يسجّل الإنفاق على البحث والتطوير سوى زيادة‏
              طفيفة(22).‏
              ويتبيّن من تتبع حجم المنشورات والأبحاث العلمية العربية الصادرة في دوريات عالميّة23- أنّ معظم الأقطار العربية استمرّ في أدائه الضئيل المخيّب للآمال. فمثلاً في عام 1984 وظّفت مراكز البحث والتطوير 3745 عالماً أو مهندساً من حملة الدكتوراه و 4378 من حملة الماجستير. وكان ذلك ما معدّله 1,7 باحث خارج الجامعات (و 2,7 إذا ما أضفنا باحثي الجامعات) لكن 10,000 قدرة بشرية اقتصادية متوفرة في الوطن العربي؛ وبالمقابل كانت الأرقام في بعض البلدان منتقاة كالتالي: 66 (الولايات المتحدة)، 39 (فرنسا)‏
              (24). وقد تركّز نصف البحوث العربية على الزراعة والطب والعلوم النظرية والاقتصادية والصيدلة. وبالرغم من الجهود الشجاعة لعدد من العلماء إلاّ أن البحوث الأساسية مازالت في نطاق ضيّق إلى حد يمكن اعتبارها من الناحية العملية غير موجودة(25).‏
              ففي أوائل الثمانينات بلغ عدد النشرات العلمية العالمية بحسب معطيات "معهد المعلومات العلميّة" (الولايات المتحدة الأمريكية) كالتالي (لكل مليون مواطن): 1020 (الولايات المتحدة)، 450 (فرنسا)، 18 (البرازيل)، 16 (الهند) و 15 (الوطن العربي).‏
              ويُعدّ انتشار المعرفة العلمية والخبرات البحثية في أقطار الوطن العربي أبطأ مما هو في البرازيل والهند، وذلك بسبب الاتصالات الضعيفة في ما بين العلماء العرب، وكذلك بسبب غياب المجاميع العلمية الفاعلة والاعتماد الكبير على الاستيراد المباشر للتقانة. والحكومات العربية من أضعف الداعمين لبحوث الإنتاج وتطويره (معظم المعامل مستوردة على أساس وتسليم المفتاح) إذ هي تخصّص 0,2 بالمئة فقط من الناتج الوطني الإجمالي للبحث والتطوير، بالمقارنة، مع الهند التي تخصّص 0,7 بالمئة، والبرازيل 0,6 بالمئة، بينما تخصّص البلدان الصناعية من 2 إلى 3 بالمئة(26).‏
              وتبدو الحكومات العربية عاجزة عن تطوير نظمها الخاصة ومؤسّساتها لجعلها قادرة على الإفادة من العلوم لخدمة المجتمع، إذ يتطلب إدخال العلوم والتقانة إلى الاقتصاد العربي تغييرات بنيوية وسياسية ومجتمعية كبيرة.‏
              فالتحديّات الاقتصادية والعسكرية والسياسية التي تواجه الوطن العربي اليوم تتشابك مع معطيات العلوم والتقانة، وكلّها تنعكس على الأوضاع الاقتصادية- الاجتماعية والثقافية، وعلى صراعنا الوجودي مع العدوّ الصهيوني. وبالتالي فإنّ التحدّي اليوم ومستقبلاً سيتركز على مدى قدرة كل طرف على الاستفادة القصوى من العلوم والتقانة المعاصرة، ودمج نتائجها في عملية إعادة البناء وتحرير الأرض والتنمية الشاملة.‏
              من زاوية كميّة، يوجد في الوطن العربي إلى الآن ما يقارب من مئتي جامعة، إضافة إلى عدد غير قليل من مراكز البحوث، وما يقرب من خمسين ألف عربي يعملون كأساتذة أو كأعضاء في معاهد أبحاث عربيّة أو أجنبية. أمّا من الزاوية النوعية وحتى الكميّة فإنّ إنتاج العلماء والمفكرين العرب مجتمعين يقل عن إنتاج الفئة نفسها في "إسرائيل" قبل "البريسترويكا" (التي حققت هجرة واسعة للعلماء السوفييت إلى الكيان الصهيوني، وهو ما سنتوقف عنده لاحقاً)، على رغم تساوي أعداد فئة الباحثين في "إسرائيل" ودولة عربية واحدة مثل مصر (في عام 1985). ولدى مقارنة عدد البحوث والدراسات المنشورة في العلوم الطبيعية في ثلاثة عشر قطراً عربياً (الأردن، تونس، الجزائر، ليبيا، السعودية، السودان، سوريّة، العراق، الكويت، لبنان، مصر، المغرب، اليمن)، و "إسرائيل" من عام 1967 إلى عام 1983، يتبيّن أنّ مجموع ما أنتجه الباحثون العرب في مجال العلوم الطبيعية 2616 بحثاً في تلك الفترة، في حين أن إجمالي ما أنتجه الإسرائيليون في المجال نفسه 4661 بحثا(ً27).‏
              وقد ورد في منشورات "معهد المعلومات العلمية" (isi) أنّ إنتاجية الباحث العربي تعادل 10 بالمئة من المعدّل العادي لغيره من العلماء لغاية عام 1973. وممّا يعاب على حركة البحث العلمي في الوطن العربي ندرة البحوث ذات الطابع القومي في معالجة القضايا والمشكلات ذات الطبيعة المشتركة، والتي قد يساهم حلّها في إيجاد مؤسّسة علمية عربية تهدف إلى النهوض بالمستوى العلمي والتقني وتنمية المهارات والخبرات المشتركة وإنضاجها(28).‏
              فالأزمة هنا تتجلّى في غياب منظومة عربية لنقل المعرفة واستغلالها في التنمية، ورفع القدرات الدفاعية، وتقليل الفجوة العلمية- التقنية بين العرب والعدو الصهيوني. وتكاد معظم الأدبيات تجمع في تحليلها الواقع الراهن لمشكلة البحث العلمي والتخلّف التقاني في الوطن العربي على الأمور أو التحديات التالية: انخفاض عدد الباحثين بالمقارنة مع البلدان المتقدمة ومع المعدّل الوسطي العالمي؛ ضعف البُنية المؤسسية العلميّة (قطرياً وقومياً)؛ نقص مردودية الباحثين العرب؛ هجرة الأدمغة العربية إلى الدول المتقدمة؛ وأخيراً غياب استراتيجية عربيّة قومية شاملة لمعالجة هذه المشكلات، ووضع تصورات واقعية لمجابهة هذه التحدّيات الكبيرة.‏
              ففي دراسة نُشرت في العام 1998 (29)، قُدّر عدد الباحثين في مؤسسات البحث العلمي العربية عام 1984 بـ 31118 باحثاً. وإذا أضفنا إليهم عدد الباحثين من الجامعيين، الذي يقدّر عددهم بـ 10 بالمئة من عدد العاملين في سلك التعليم العالي، حصلنا على 81113، وهو ما يعطي نسبة 2,7 باحثاً لكل عشرة آلاف من اليد العاملة. وهي نسبة، ضئيلة إذا ما قوبلت بمثيلتها في الولايات المتحدة وهي 66 بالمئة، واليابان 58 بالمئة وبريطانيا 36 بالمئة. وهي تمثّل 44،6 باحثاً لكل مليون نسمة من السكان.‏
              وبالنسبة لنوعية مؤسّسات البحث العلمي الموجودة في الأقطار العربية، فإنه على الرغم من المحاولات الجادة التي قامت بها البلدان العربية لإنشاء وتطوير مؤسسات مركزية ومراكز بحث علمية وتقانية حديثة، لا تزال هذه المؤسسات تواجه مشكلات كبيرة تمنعها من الانطلاق والعمل المنتج، وأبرزها غياب سياسة علمية واضحة ومتسقة، تحدّد أهداف واقعية وعلمية ومجدية للبحث العلمي، تصب في التنمية الاجتماعية- الاقتصادية، وفي تأسيس قاعدة علمية- تقانيّة قوميّة مستقلّة، لا تخضع لابتزاز القوى والشركات الدولية ولا تتأثر بالمتغيرات السياسيّة الإقليمية والعالمية، وبسبب جملة المشكلات التي تواجه البحث العلمي العربي يسود مراكز البحث العلمي العربيّة أجواء متشابهة من حيث التخبّط والتردّد، وتحكّم القوانين البيروقراطية، والافتقار للتراكم والتقدّم، والشعور بعدم الجدوى، وعدم توافر المناخ الملائم للعمل البحث، ناهيك عن "ضعف المجتمع العلمي والثقافي وأحياناً عزلته عن النشاط الوطني" و "ضعف مراكز المعلومات العلمية، وخدمات التوثيق والمكتبات، وقلّة الحوافز، والتبعية العلمية والتقانية للخارج، وضعف البُنيات الأساسية".‏
              وينجم عن ذلك نقص كبير في الإنتاج العلمي العربي من حيث الكميّة والنوعيّة معاً. فمتوسط إنتاج العلماء العرب يتراوح حول 0.4 بحث في العام.‏
              وفي ما يتعلّق بالإنتاجية العربية في هذا المجال مقارنة بإسرائيل والدول المتقدمة، فإنّ الناتج العربي لا يزيد عن 1 بالمئة من الناتج الإسرائيلي، وأقلّ من ذلك للدول المتقدّمة. وتشير أرقام اليونسكو إلى أنّ إنتاج الباحثين العرب قياساً لعددهم الرسمي لم يبلغ سوى أقل من 20 بالمئة من المعدّل الدولي. وهذا يعني أن هناك حاجة لعشرة باحثين عرب في المتوسط لإنتاج ما ينشره باحث واحد في المتوسط الدولي.‏
              وفي مقابلة صحفية أُجريت مع الدكتور طه النعيمي الأمين العام لاتحاد مجالس البحث العلمي العربية في شهر شباط (فبراير) 1999 (30) ذكر أن ميزانية البحث العلمي في أمريكا حوالي 3,2 % من الناتج القومي الإجمالي، وفي أوروبا هناك معدل عام لميزانية البحث العلمي يقدّر بـ 2,5 من الناتج القومي الإجمالي، وفي اليابان 3% وفي كوريا الجنوبية 1,91 ومن المتوقع أن تصل إلى 5 % خلال السنوات القادمة.‏
              أمّا في الدول العربية فميزانية البحث العلمي تتراوح بين الصفر وبين 0,5% من الناتج القومي الإجمالي، وبعض الخبراء يصل بهذه النسبة إلى 0.7% وهي كلّها أرقام ضئيلة جداً إذا ما قورنت بميزانيات البحث العلمي في الدول المتقدمة. والمفترض أن تكون ميزانية البحث العلمي لدينا أكثر من الدول المتقدمة، لأنّنا نحتاج إلى دفعتين: الدفعة الأولى لتقليص الفجوة التي تفصلنا عن الدول المتقدمة، والثانية للإسراع بالتنمية واللحاق بكرب الدول المتقدمة.‏
              وقد أشار الأمين العام لاتحاد مجالس البحث العلمي العربية (في المقابلة ذاتها) إلى الصلة المباشرة بين البحث العلمي والأمن القومي العربي، فقال: إنّ الحصار المفروض على العراق إذا كان معني به شيء فهو العلم والتقنية، لأنّ العراق نجح في عبور الخطوط الحمراء المرسومة للبلاد العربيّة، لأنّ الدول الغربيّة والقوى الكبرى رسمت خطوطاً لا يجوز للدول العربية أن تتجاوزها خاصة في مجالات التقنيات المتقدمة والبحوث التكنولوجية والبيولوجيّة والليزر والطاقة النووية، حتى كمجالات بحث أساسي وليست كصناعات معيّنة. فقد وصل الأمر بالقوى الكبرى إلى درجة منع حتى المجلة العلمية من الوصول إلى العراق، وكذلك منع وصول المعلومات والأجهزة المتقدمة من أجل القضاء على التطور والتقدم في مهده، والقوى الكبرى تخاف من العقل العربي سواء في العراق أو في سورية أو في مصر أو في الجزائر أو في غيرها. فالعقل العربي هو المحاصر وليس شعب العراق وحده(31).‏
              من ناحية أخرى، نشير في هذا المجال إلى مشكلة خطيرة تتمثّل في تصاعد معدّلات هجرة الأدمغة العربية (32) إلى الغرب الصناعي، برغم الحاجة العربية الماسّة لهذه الكفاءات والطاقات العربية المتقدمة، التي يُفترض أنها هي التي تقود التنمية الشاملة، وتقلّص الفجوة العلمية- التقانية مع العدوّ الصهيوني.‏
              فقد أشارت آخر الدراسات المنشورة(33) في هذه المسألة إلى أنّ عدد الأدمغة العربيّة المهاجرة إلى المجتمعات الغربية، وخاصة إلى الولايات المتحدة الأمريكية بلغ نحو 450 ألف نسمة. وهي خسارة فادحة لموارد بشرية عالية المستوى (حملة ماجستير ودكتوراه وهندسة واختصاصات نادرة أو المدرّبة تدريباً تقنياً رفيع المستوى)، والضرورية جدّاً لتحقيق النمو الاقتصادي ودفع عجلته إلى الأمام.‏
              وهجرة الأدمغة مظهر من مظاهر الخلل الاجتماعي والثقافي الاقتصادي والسياسي والحضاري بشكل عام. وأسباب هجرة الكفاءات (الأدمغة) من أقطار الوطن العربي إلى خارج حدوده كثيرة ومتشعّبة، ولا مجال هنا للتفصيل فيها. ولكن يمكن الإشارة بصورة موجزة إلى مجموعتين من العوامل المؤثّرة، هما مجموعة العوامل أو القوى "الدامغة" أو "الطاردة"، ومجموعة العوامل أو القوى "الجاذبة" الموجودة أو المعروضة في البلدان المُضيفة، التي تسهم في خسائر بشريّة وخبرات يزيد حجمها عن مائتي مليار دولار. وأبرز العوامل "الدافعة" أو "الطاردة" تتجلّى في(34):‏
              أ- المحيط السياسي.‏
              ب- محيط العمل والوضع المعاشي.‏
              ج- أنظمة التعليم العالي والبيروقراطية.‏
              د- السياسات التقانية المختلفة.‏
              أما العوامل "الجاذبة" فهي عكس العوامل "الدافعة" أو "الطاردة"، وأهمّها:‏
              أ- المحيط العلمي المناسب.‏
              ب- توافر المناخ الملائم فكرياً واجتماعياً وسياسياً.‏
              ج- المستوى المعاشي اللائق لهذه الفئة المتخصّصة والشعور بالأمان والرفاه المادي والتسهيلات المختلفة.‏
              وبشكل عام يمكن القول إنّ كثيراً من الدول العربيّة أهملت أدمغتها (علماءها وخبراءها وباحثيها) فلم تُخصّص لهم الرواتب الضرورية لتحقيق الحدّ الأدنى من المعيشة الكريمة- هذا إذا توفرت الوظيفة المناسبة للاختصاص والكفاءة- فرواتب ومستويات معيشة العلماء العرب في أقطارهم - باستثناء دول مجلس التعاون الخليجي حالياً- لا توفر الشعور بالرضى والاستقرار النفسي والضمان الاجتماعي والتفرغ للابتكار والإبداع (والدليل على ذلك أن العلماء والباحثين العرب يبدعون ويتفوقون في شتى الميادين في الغرب لتوفر الإمكانات والحوافز المادية والمعنوية والمناخ الاجتماعي المواتي للبروز والإنتاج والإبداع) وفي وقت تُقيّد فيه حرية الباحث العربي، وعدم تخصيص سنوات تفرّغ مدفوعة الأجر المجزي للبحث العلمي في الوطن العربي، نجد أن الباحث نفسه يحصل على كل هذه المزايا في الدول المتقدّمة.‏
              وهكذا، فإنّ عوامل "الجذب" في البلدان الغربية مختلفة ومتنوعة، منها العلمية، والسياسيّة، والاجتماعية، والفكرية، (مناخ التسامح العام) وغيرها. وتبقى العوامل والمحفّزات الاقتصادية تحتل مكانة مؤثرة في هجرة الكفاءات العلمية- الفنية، والاختصاصية في الأقطار العربية الأكثر فقراً، والأشخاص الأكثر تأثراً بهذه العوامل هم الأفضل إعداداً وتأهيلاً، والأكثر خبرة في الإنتاج والتدريب والبحث في بلدانهم الأصلية.‏
              ويرى دارسو هذه المشكلة أن الآثار المترتبة على "نزيف الأدمغة" أو "هجرة الأدمغة" كبيرة، وباهظة التكاليف بالنسبة للأقطار العربية حاضراً ومستقبلاً، ومنها:‏
              1- إنّ خسارة الطاقات البشرية المتخصّصة تشلّ الجهود الوطنية (قطرياً وقوميّاً) لحلّ المشكلات التنموية المعقدة، وتفقد العرب مورداً خلاقاً وحيوياً وأساسياً بالنسبة إلى تطويرها علمياً وثقافياً وحضارياً.‏
              2- إنّ تزايد البطالة في أوساط ذوي الطاقة العلمية الرفيعة، وحملة الإجازات الجامعية (والماجستير والدكتوراه أيضاً)، والتي بلغت 35 بالمئة أو اكثر (من حملة خريجي الجامعات العربية)، ستضاعف من حجم التوترات الاجتماعية والسياسية، وستدفع بقسم كبير من هؤلاء إلى العمل من أجل الهروب أو حتى للانخراط في جماعات وتيّارات معادية لبلدانهم الأصلية، الأمر الذي يزعزع الاستقرار الوطني ويهزّ الأمن القومي العربي عموماً.‏
              3- ضياع الجهود والطاقات الإنتاجية والعلمية لهذه الكفاءات العربية التي تغذّي شرايين البلدان الغربية (وبعضها تعمل مباشرة في أجهزة ومؤسسات وشركات موجّهة ضدّ الأمن القومي العربي)، بينما تحتاج التنمية العربية وتطوير الإنتاج والصناعة الحديثة والزراعة المتقدّمة إلى مثل هذه الكفاءات في الميادين المختلفة، ولا سيّما في الاقتصاد والتعليم، والصحة، والتخطيط الحضري، والبحث العلمي، والتقانة، والصناعات العسكرية الذاتية.‏
              4- تبديد الموارد والطاقات البشرية المتخصّصة والموارد المالية العربية الضخمة، التي أنفقت في تعليم هذه الكفاءات وتدريبها، والتي يحصل عليها البلدان الغربيّة من دون مقابل تقريباً.‏
              ففي دراسة عربية قُدرت تكاليف إعداد المهندس بنحو 227 ألف دولار، و 198 ألف دولار لعالم الطبيعة، و 535 ألف دولار للطبيب. وبالإمكان أن تحسب وفق هذه المعطيات الحجم الهائل للخسائر العربيّة والنزيف السنوي المستمر لأفضل وأهم الطاقات والكفاءات العربية.‏
              5- في وقت هاجر فيه أو "طُفِّشَ" قسرياً حوالي 500 ألف كفاءة عربية من حملة الشهادات العالية إلى الولايات المتحدة وأوروبا الغربيّة، تشير بعض الدراسات العربية إلى دفع الأقطار العربية أموالاً طائلة للخبرات الدوليّة، وهو ما يحمّل المشروعات الصناعية العربية تكاليف إضافية (للخدمات الاستشارية والعمولات والرشاوي) بنسبة تتراوح بين 200-300% مقارنة بالتكاليف الدولية، وأنّ قيمة الارتفاع في هذه التكاليف خلال المدة ما بين 1975- 1980 (خمس سنوات فقط) بلغت 25 مليار دولار، أي أكثر من إجمالي الإنفاق العربي في مجالات التعليم والبحوث والتقانة في المدّة من 1960 إلى 1984( 35).‏
              وبذلك يتحمّل الوطن العربي بسبب هذه الهجرة خسائر مزدوجة، تتمثّل في ضياع ما أنفقته من أموال وجهود في تعليم وتدريبات الكفاءات العربية (المهاجرة) وإعدادها من جهة، وفي نقص الكفاءات وسوء استغلالها والإفادة منها، بل واستيراد الكفاءات أو الخبرات الغربية المماثلة بتكاليف كبيرة. وفي هذا السياق يقول باحث عربي تعقيباً على هذا الهدر الهائل: "لا بدّ أنّ أصحاب القرار والبيروقراطيين المعاونين لهم يشعرون شعوراً عميقاً بالنشوة عندما يتمكنون بجرّة قلم واحد، من إجراء صفقات عن طريق عقود "تسليم المفتاح" أو "سلعة في اليد" لشراء معمل فوسفات بقيمة 400 مليون دولار، أو مرفأ بقيمة ملياري دولار، أو معمل للغاز الطبيعي السائل بمليار دولار.. إلخ. ويمكن لهؤلاء الذين يعقدون الصفقات جني ثروات هائلة وسريعة عن طريق تسهيل منح هذه العقود‏
              الضخمة(36).‏
              6- الظاهرة المستجدّة والتي تنعكس بشكل خطير على الأمن القومي العربي وعلى مستقبل الصراع العربي- الصهيوني، تتمثّل في أنه وفي وقت ازدياد معدّلات هجرة الكفاءات العربية من الاختصاصات العلمية الهامة والحساسة باتجاه البلدان الغربيّة، فإنّ "إسرائيل" تستقطب آلاف العلماء من الاتحاد السوفييتي السابق، والذي قدّرت دراسة عددهم بأكثر من 70 ألفاً من المهندسين، وقرابة 20 ألفاً من الأطباء والممرّضين والفنانين، وحوالي 40 ألفاً من المدرسين، وقسمٌ كبير من هؤلاء حملوا معهم كثيراً من أسرار التطوّر العلمي (37)، والأسرار الأخرى.‏
              وإذا كان عدد المهاجرين من يهود روسيا (ودول الاتحاد السوفييتي السابق) إلى "إسرائيل" منذ أواسط سنة 1989 إلى نهاية عام 1998 قد بلغ حوالي 800 ألف مهاجر، فإنّها تخطّط لـ "استقبال" 1,2 مليون مهاجر جديد حتى عام 2002.‏
              وطبقاً لمعلومات "عوزي غدور"، مدير قسم خدمات الاستيعاب في "وزارة الاستيعاب"، فإنّه منذ بداية الهجرة الواسعة (سنة 1989) إلى نهاية عام 1991، كان في "إسرائيل" بين المهاجرين الجدد: 10 آلاف عالم، 87 ألف مهندس، 45 ألف هندسي وتقاني، 38 ألف معلم، 21 ألف طبيب، 18 ألف من رجال الفن، 20 ألف أكاديمي في العلوم الاجتماعية(38). وبحسب البروفسور "يرمياهو برنوبر"، من جامعة تل أبيب ورئيس قسم الأبحاث الإسرائيلية، في مجال الطاقة، فإنّ 20 % من المهاجرين الجدد هم من حملة الشهادات العلمية في مجالات الهندسة والفيزياء والكيمياء والتكنولوجيا. وفي إمكان طاقة كهذه أن تحول إسرائيل إلى ما يشبه اليابان من الناحية التكنولوجية(39).‏
              وفي ما يتعلق بتعرّض الأمن القومي لخطر مؤكّد نتيجة هذه الاستراتيجية من الهجرة في حال استكمالها، فإنّ الأمر لا يحتاج إلى شرح أو توضيح أو براهين.‏

              7- لقد كتب الصحافي الأمريكي "توماس فريدمان" في مقال بعنوان: "ما الذي يحدث عندما تهيمن إسرائيل على أمن الإنترنت؟" (في صحيفة "نيويورك تايمز")(40)، قائلاً، إنّ إسرائيل تصنف الآن في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة من حيث عدد الشركات الجديدة ذات الصلة بالكمبيوتر، التي انتشرت في التسعينات (في بورصة نيويورك تم تداول أسهم أكثر من مائة شركة إسرائيلية عاملة في هذا المجال، ووحدها الشركات الأمريكية المسجّلة في البورصة هي التي تجاوزت هذا الرقم).‏
              تساءل "فريدمان" بعد ذلك: ماذا سيحدث عندما تكون هناك شركة إسرائيلية بالقرب من طبريا الوحيدة في العالم التي تصنع رقاقة تحويل رئيسية للإنترنت؟ وماذا سيحدث عندما تبدأ الشركات الإسرائيلية في الهيمنة على قطاع تكنولوجي أساسي وحسّاس للغاية مثل الأدوات المخصصة لأمن الإنترنت؟.‏
              في التعقيب قال: الذي سيحدث أنّ الكل سوف يخطب "ودّ إسرائيل" بغض النظر عن مصير عملية السلام، فاليابان التي كانت تبتعد دائماً عن إسرائيل وتتعامل معها بمنتهى الحذر، خشية ردّ الفعل العربي، هي الآن ثاني أكبر مستثمر لرأس المال في المشاريع الإسرائيلية بعد الولايات المتحدة، لذلك فإنها تبادر إلى التهام شركات برامج الكمبيوتر الإسرائيلية. ولدى الصين الآن 52 عالماً يقومون بأبحاثهم في "معهد وايزمان" المعروف بإسرائيل. وللهند 52 عالماً أيضاً ونقل الكاتب عن باحث اقتصادي إسرائيلي قوله: "إذا كنت تملك التكنولوجيا التي يحتاجها الآخرون، فمن يعبأ إذا كنت تقمع الفلسطينيين؟".‏
              هذا الإدراك لمدى التفوق الإسرائيلي في مجال التقنية العالية تباهى به رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو في حديث أمام المؤتمر الاقتصادي الإسرائيلي السنوي، الذي عقد في شهر حزيران 1998، وقال فيه إنه لا يضع قضية السلام مع العرب في رأس سلّم اهتماماته. مسوغاً ذلك بقوله: إنّ إسرائيل في المرتبة (24) بين الدول المتقدمة، فهي في المرتبة الثانية في العالم بعد الولايات المتحدة، من حيث معاهد الأبحاث أو العلوم، وفي المرتبة الثانية بعد ألمانيا في عدد المهندسين قياساً إلى السكان، وفي المرتبة الرابعة بعد اليابان والولايات المتحدة وفنلندا من حيث استيعاب التطورات التكنولوجية والدخل القومي.‏
              وخلص من ذلك إلى النتيجة التي تعزّز وجهة نظره، في أن مستقبل "إسرائيل" ليس مرهوناً بالوطن العربي، وإنما بتعميق علاقاتها مع الغرب ودول شرق آسيا(41).‏
              8- تنفق الأقطار العربية على البحث والتطوير ما يعادل 0,2% من ناتجها الإجمالي (أي سُبع المتوسط العالمي الذي يفترض أن يعادل 1,4 %)، وفي المقابل يرتفع المؤشر في "إسرائيل" عن المتوسط العالمي، فيتجاوز 2% أي أكثر من عشرة أمثال العرب، وإذا أدخلنا في الحسبان التفاوت في عدد السكان وفي حجم الناتج سنوياً (لاحظوا أنّنا نتحدث عن المجالات المدنية فقط)، لارتفعت الفجوة بين العرب و "إسرائيل" في الإنفاق على البحث والتطوير إلى أكثر من ثلاثين‏
              مثلا(ً42).‏
              9- من الأرقام الدالة على إمكانات المعرفة والبحث، أنّ عدد وصلات شبكة الإنترنت في منطقة الشرق الأوسط في مطلع عام 1998 تجاوز نصف مليون وصلة، نصفها في إسرائيل، وبذلك تصبح حصّة إسرائيل نسبة إلى عدد السكان خمسين مثل حصة الوطن‏
              العربي(43).‏
              10- في مجال براءات الاختراع والعلاقات التجارية، فإنّ بيانات "مكتب العلامات التجارية الأمريكية" (هي الأدق في هذا المجال) تشير إلى أن المقيمين في البلدان العربية سجّلوا في العام الماضي 24 علامة تجارية، بمعدّل عُشْر علامة تقريباً لكل مليون نسمة من السكان، أي أنّ معدّل التسجيل في إسرائيل نسبة للسكان، يتعدّى ألف مثل لمجمل الأقطار العربية(44).‏
              11- إذا أردنا أن نجمل مؤشرات تفوق "إسرائيل" على العرب، نسبة إلى عدد السكان، فسنجد أنّها تتفوّق بمعدّل عشر مرات في الأفراد العلميّين، وأكثر من ثلاثين مرّة في الإنفاق والبحث والتطوير، وأكثر من خمسين مرّة في وصلات الإنترنت، وأكثر من سبعين مرّة في النشر العلمي، وقرابة ألف مرّة في براءات الاختراع(45).‏
              ونحن نتحدّث على التفوق العلمي والتقني الإسرائيلي لا نغفل طبعاً التمويل الغربي الهائل ودعم المنظمات والتجمّعات اليهودية في العالم، لكنّنا يجب أنّ نقرّ في الوقت نفسه أنّ ثقافة العلم ومراكز الأبحاث تمثّل مكوّناً جوهرياً لطبيعة الدولة والمجتمع في "إسرائيل"، مذكّرين بأنّ أوّل رئيس دولة في "إسرائيل" (حاييم وايزمان كان عالماً بارزاً في الكيمياء)، وأنّ جزءاً هاماً من المعاهد العلمية ومراكز الأبحاث جرى تأسيسه قبل قيام الكيان الصهيوني‏
              سنة 1948 (46).‏
              من اللافت للنظر في هذا السياق كم وتعدّد الآليات التي وفّرتها "إسرائيل" لدعم البحث والتطوير، فهناك لجنة دائمة للعلم والتقانة تتفرّع عن مجلس الوزراء، ويرأسها وزير العلم. وتتعاون في هذه المهمّة وزارة الصناعة والتجارة مع وزارة العلم، وثمة تنسيق بين الوزارتين وبين الجامعات ومراكز الأبحاث الصناعية والزراعية.‏
              ومنذ عام 1968، أنشأت الحكومة منصب "كبير العلماء" في ستّ وزارات. والآن يوجد "كبير العلماء" في كل الوزارات تقريباً (باستثناء وزارتي الاستيعاب والخارجية)، وشاغل هذا المنصب يتولى صوغ السياسات وتحديد الأولويات وتوفير الدعم والتدريب اللازمين لجهود البحث والتطوير في كل وزارة، ويضم كبار العلماء والباحثين في الوزارات المختلفة منتدى خاص بهم يرأسه وزير العلم.‏
              البحوث النووية والبيولوجية تابعة لرئيس الوزراء، بسبب وضعها الدقيق والخاص. أمّا المراكز البحثية المتخصّصة ومؤسسات التطوير، وتلك التي تعمل بدعم وتمويل دول أجنبية، تغطي مختلف المجالات وتعمل بالتنسيق الدقيق مع بقية أجهزة الدولة.‏
              رابعاً: ما العمل؟!‏
              حاولنا في ما مرّ من صفحات تشخيص أبرز ما يتعرّض له الأمن القومي العربي من مخاطر وتحدّيات في المجال العلمي- التقني (وإن كان بصورة مختصرة) لقناعتنا المؤكدة بأنّ مواجهة الحقائق مهما كانت مريرة وصادمة، تظلّ هي الأسلوب الأجدى والأمثل لتشخيص الأمراض ومواضع الخلل والأخطاء القائمة والمحتملة، وعندئذ تتجه الأنظار والعقول والقدرات للبحث عن الحلول والمعالجات الناجحة، فأمتنا تمتلك طاقات مادية وبشرية وفكرية هائلة، ينقصها التنسيق والعقلانية والتخطيط والحشد والتوجيه الصحيح، والإرادة القومية الجماعية الصادقة والحرّة.‏
              إنّ مواجهة الأخطار والتحدّيات لن تكون مثمرة وقويّة وجذريّة إن بقيت على مستوى قطري أو إقليمي ضيق، وإنّ تسرّع بضع الأقطار العربية وتلهّفها لإقامة علاقات مع الكيان الصهيوني، الذي يعبر كلّ يوم عن عدوانيته المتأصّلة ويكشف عن مخططاته الاستراتيجية، التي تستهدف الوجود العربي برمته، عدا عن رفضه الصريح للسلام الحقيقي، ورفضه تطبيق قرارات الشرعية الدولية، وتـحوّله إلى ترسانة هائلة لأسلحة الدمار الشامل والتجسّس وللأسلحة التقليدية الأكثر تطوّراً.. كلّ ذلك يجعل التلهّف لإقامة علاقات معه يمثّل منتهى التخاذل واللا مسؤولية، ويلحق أفدح الأضرار بالتضامن العربي وبالأمن القومي العربي الجماعي. وإنّ ما يُسمّى بـ "السوق الشرق أوسطيّة" يعني غزواً اقتصادياً وسياسياً وثقافياً وعلمياً إسرائيلياً للمنطقة العربية، بعد الربط الثنائي بين كل دولة عربية على حدة بجملة من الاتفاقيات مع "إسرائيل"، وبذلك يجري تفتيت الفضاء (أو المجال) الاقتصادي العربي إلى مناطق منعزلة ومفصولة عن بعضها من خلال مجموعة من المشروعات العربية- الإسرائيلية المشتركة (وقد صدرت مؤلّفات ودراسات وأبحاث كثيرة حول السوق الشرق أوسطية ومخاطرها المستقبلية)، التي ستقود إلى تصفية ما تبقى من مؤسسات الدولة في الأقطار العربية، وتحميل العرب تكاليف سيطرة الولايات المتحدة الأمريكية و "إسرائيل" عليهم، عبر نهب الأموال العربية، وهدر إمكانياتنا الماديّة، وتحطيم إرادتنا القومية المستقلّة، وإشعال النزاعات بيننا.‏
              ويكفي القول إن "إسرائيل" تخطّط في إطار الشرق أوسطية لإنشاء عشر جامعات (إسرائيلية) متخصصة في ميادين الإنتاج والتكنولوجيا، لتكون المسيطرة علمياً وتقنياً على المنطقة(47).‏
              ويجمع الباحثون والمختصون، أنّ العرب يمتلكون مخزوناً بشرياً ومالياً هائلاً في مواجهة التحدّي العلمي، التقني المعاصر، يؤهّلهم (عند الاستخدام العقلاني المدروس) للقضاء على الفقر ونقص الأغذية والتبعية الاقتصادية.‏
              إنّ ما يسهم إسهاماً خطيراً في تبعيتنا الاقتصادية والعلمية والتقنيّة، إنما يتجلّى في الانقسام والفُرقة والتركيز على الناحية القطرية، وتجنّب العمل العربي المشترك، مع أنّ العالم المعاصر يتّجه كلّه للتقارب والتكتّل وإزالة الحواجز الاقتصادية والجمركية وحتى السياسية والحدوديّة (وهو ما حصل في الاتحاد الأوروبي). فلا خلاص لقطر عربي مهما كانت قوته الاقتصاديّة أو العسكرية أو العلميّة بمعزل عن الأقطار الأخرى، وإن بلغ دخله السنوي مئات المليارات، لأنّ إقامة البُنية الاجتماعية- الاقتصادية والعلميّة والحضاريّة تحتاج إلى معونة وجهود وطاقات كل العرب، الذين يشكّلون كتلة متكاملة ذات أبعاد جيو- استراتيجية شاملة وقادرة إقليمياً ودولياً. فالمشكلة ليست مشكلة علم وتقانة، بل هي قاعدة مجتمعية من شأنها استيعاب معطيات العلوم المعاصرة وإدخالها في نسيج المجتمع.‏
              إنّ النهضة العلمية- التقنية لن تحصل في غياب الاستراتيجية القومية الشاملة لمواجهة أمراض البيئة المستوطنة، وإيقاف زحف التصحّر، وشحّ المياه الصالحة للشرب، واستيعاب الطاقات البشريّة النازحة إلى المدن، والبطالة المتفاقمة والنسبة العالية من الأميّة (رغم مئات الندوات و "الاحتفالات" العربية السنوية بمحو الأميّة!!).‏
              أمّا بالنسبة إلى مواجهة سلبيات البحث العلمي العربي وهجرة الأدمغة والكفاءات العربية فيمكن القيام بالخطوات التالية:‏
              أ- تخصيص 2,5-3% من ميزانية كل قطر عربي لصالح البحث العلمي، وتقديم الامتيازات المالية والاجتماعية للعلماء والباحثين كأفراد ومؤسسات، وهو اتجاه أخذت تنتهجه بنجاح ملحوظ دولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية.‏
              ب- الاستفادة النسبية من الكفاءات والأُطر العلمية المهاجرة، من خلال تنظيم مؤتمرات للمغتربين في الوطن الأم (وهو ما تقوم به سورية في العقد الأخير بصورة دوريّة وفعّالة)، وطلب مساعدتهم وخبراتهم، وتبادل المشورة معهم، سواء بصدد الإطلاع على أحدث وسائل المعالجات الطبية والدوائية، أو بشأن نقل الخبرات العلمية والتقانة، أو حتى بغرض المشاركة المالية والاقتصادية في تنفيذ المشاريع الحيوية.‏
              ج- التعاون العربي- لإقامة مشروعات ومراكز أبحاث علميّة وجامعية تطبيقية، بغرض تكوين كفاءات عربية خبيرة للتخفيف من حدّة سلبيات هجرة الأدمغة والكفاءات العربيّة إلى البلدان الغربية، وكذلك لتبادل الخبرات واجتذاب الكفاءات المهاجرة للإشراف على البحوث وإنشاء المراكز العلمية وفق الأساليب العلمية المتطورة.‏
              د- التركيز على توفير المتطلبات والظروف الاجتماعية والاقتصادية والعلمية والسياسية اللازمة، لخلق بيئة ملائمة لربط العلم وأطره البشريّة المؤهّلة بسياسات تنموية شاملة، تقوم أساساً على الإفادة القصوى من الطاقات والكفاءات العربية، التي ما تزال موجودة بالوطن العربي، ومنحها الفرصة الكاملة للمشاركة الحقيقية في جهود التنمية كي لا تلحق بالكفاءات العربيّة التي هاجرت إلى البلدان الغربية، وبما أنه لا يمكن لأي قطر عربي أن يكون مكتفياً بذاته في ما يتعلّق بمتطلبات طاقته العلمية والاختصاصيّة والتقنية، فإنّ ذلك من شأنه أن يلزم البلدان العربيّة بالتنسيق والتعاون فيما بينها، ولا سيّما في ميدان البحث العلمي والإفادة القصوى من الكفاءات والقدرات العلميّة والعربيّة، التي تبحث عن عمل مناسب لاختصاصاتها وظروف معيشيّة وإنسانية مُلائمة. فالحلّ ليس بإنشاء مؤسسات بأبنية فخمة وتأثيث غال، أو تجهيزات تقنية حديثة، وليس في استيراد التكنولوجيا المتقدّمة، وإنّما في نهضة حضارية تنموية مدروسة على أساس قومي، انطلاقاً من وحدة التاريخ والجغرافيا والظروف الاجتماعية والاقتصادية والهوية المشتركة والتحدّيات الواحدة، الموجّهة ضد العرب جميعاً، فالبعد القومي للنهضة المجتمعيّة- الاقتصادية، والاستثمار العربي المشترك لمواردنا الضخمة، هما العاملان اللّذان يمهّدان الطريق لإبداع عربي كبير في مختلف المجالات الاقتصادية والعلمية والتقنية، دون تجاهل تجارب المجتمعات الأخرى. وبذلك نواجه التحدّي العلمي- التقني الراهن كجزء من التحدي الحضاري الشامل.‏
              والضرورة تقتضي أن تنزع الأمّة نفسها من فكرة الهزيمة التي أصبحت وسيلة متعمدة لإخماد حيويّتها، وبحيث أصبح تخليد وترسيخ الهزيمة وسيلة لتبرير العجز والقعود، إنّ رجلاً يمكن أن ينهزم، وجيشاً يمكن أن يهزم، ونظاماً يمكن أن ينهزم، ومرحلة يمكن أن تنهزم، ولكنّ الأمم لا تنهزم إلا في انهزام إرادتها، وتلك هي العبرة الأهم والأكبر في كل صراعات التاريخ قديماً وحديثاً.‏
              ولا شكّ أنّ استعادة ثقة الأمّة في نفسها وثقتها بمستقبلها المشترك، وإعادة الاعتبار للعمل القومي... هي في حدّ ذاتها المعادل السياسي للترسانة النووية الإسرائيليّة، ولقدرات العدوّ العلميّة والتقنية(49).‏
              الحواشي‏
              1. انظر على سبيل المثال: د. عطا محمد صالح زهرة، "الأمن القومي والعمل العربي المشترك"، "المستقبل العربي" السنة التاسعة، العدد 94 (كانون الأول/ ديسمبر 1968)، ص 16-35.‏
              2. لمزيد من التفصيل، انظر: د. هيثم الكيلاني، "مفهوم الأمن القومي العربي- دراسة في جانبيه السياسي والعسكري"، ضمن كتاب - الأمن القومي: التحدّيات الراهنة والتطلعات المستقبلية (أعمال ندوة مركز الدراسات العربي الأوروبي. من 9 إلى 11/ 1/ 1996)، ص 53- 78.‏
              3. حسن نافعة، مصر والصراع العربي الإسرائيلي: من الصراع المحتوم إلى التسوية المستحيلة (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1984)، ص 16، 17، 116، 117.‏
              4. رفعت سيّد أحمد، "الأمن القومي بعد حرب لبنان"، - "شؤون عربيّة"، العدد 35 (كانون الثاني/ يناير 1984)، ص 82.‏
              5. المصدر نفسه، ص 83.‏
              6. حامد عبد الله ربيع، (مشرف)، المضمون السياسي للحوار العربي الأوروبي (القاهرة: معهد البحوث والدراسات العربيّة، 1979)، ص 220.‏
              7. انظر: أمين هويدي: الأمن العربي في مواجهة الأمن الإسرائيلي (بيروت: دار الطليعة للطباعة والنشر: 1975)؛ وله أيضاً: في السياسة والأمن (بيروت: معهد الإنماء العربي، 1982)، ص 27.‏
              8. انظر: محمد صالحة، "مسألة الأمن العربي بين المفاهيم، الواقع، النصوص"، -"شؤون عربيّة"، العدد 35 (كانون الثاني/ يناير 1984)، ص 27.‏
              9. انظر: "6 أكتوبر والأمن القومي"، إعداد وحدة البحوث الدولية بمركز الدراسات السياسيّة بالأهرام، - "الأهرام"، 8/ 10/ 1975.‏
              10. انظر: حامد عبد الله ربيع (مشرف) المضمون السياسي للحوار العربي الأوروبي، ص 186.‏
              11. علي الدين هلال، "الأمن القومي العربي: دراسة في الأحوال"، - "شؤون عربية"، العدد 35 (كانون الثاني/ يناير 1984)، ص 21.‏
              12. انظر حامد عبد الله ربيع، "مفهوم الأمن القومي العربي والتعريف بمتغيّراته"، - "شؤون عربية"، العدد 2 (نيسان/ أبريل 1983)، ص 306- 309؛ سمير خيري، انظر: الأمن القومي العربي (بغداد: دار القادسيّة للطباعة، 1983)، ص 18 وما بعدها، وعبد المنعم المشاط "نحو صياغة عربيّة لنظرية الأمن القومي"، - "المستقبل العربي"، السنة 6، العدد 54 (آب/ أغسطس 1983)، ص 15 وما بعدها.‏
              13. قارن: أسامة غزالي حرب، "أمن الخليج والأمن القومي العربي"، - "شؤون عربية"، العدد 35 (كانون الثاني/ يناير 1984)، ص 59- 60.‏
              14. أيهم سهيل الملاذي، "الأمن القومي العربي وتحدّيات القرن الواحد والعشرون"، - "أوروبا والعرب"، العدد 173 (آذار/ مارس 1998)، ص 19.‏
              15. انظر: نص الكلمة الخطيّة للسيّد الرئيس حافظ الأسد، التي وزّعت على السادة أعضاء مجلس الشعب عند أداء سيادته اليمين الدستورية أمام المجلس في 11/ آذار/ 1999 (المنشورة في الصحف السوريّة ووكالات الأنباء وللسادة أعضاء مجلس الشعب ومراسلي الصحف العربية والأجنبية في القطر العربي السوري).‏
              16. المصدر نفسه.‏
              17. عالجنا هذه المسألة بالتفصيل في دراسة بعنوان: "التكامل الاقتصادي العربي: طموح وعقبات" نشرت في كتاب لنا تحت عنوان: "معضلات التجزئة والتأخّر وآفاق التكامل والتطوّر" دمشق: منشورات اتحاد الكتاب العرب، 1998.‏
              18. لمزيد من المعطيات المتعلقة باحتياجات العرب الغذائية، انظر: الدكتور محمد السيّد عبد السلام، الأمن الغذائي للوطن العربي، سلسلة "عالم المعرفة"، العدد 230 (الكويت: شوّال 1418 هـ - فبراير/ شباط 1998).‏
              19. المصدر نفسه، ص 65.‏
              20. المنظمة العربية للتنمية الزراعية (1990). "دراسة إنشاء الصندوق العربي للتنمية الزراعية"، الخرطوم، مايو.‏
              21. انظر: النص الكامل لبيان المؤتمر القومي التاسع، المنشور في صحيفة "القدس العربي"، السنة العاشرة، العدد 3076، 30 آذار (مارس) 1999، ص 17.‏
              22. المصدر نفسه.‏
              23. انظر مفصّلاً للمنشورات العلمية العربية الصادر في دوريات عالمية (1989) في دراسة الخبير العربي الدكتور أنطوان زحلان، "التحدّي والاستجابة: مساهمة العلوم والتقانة العربية في تحديث الوطن العربي"، - "المستقبل العربي"، السنة الثالثة عشرة، العدد 146 (نيسان/ أبريل 1991)، ص 4- 17.‏
              24. المنطقة العربية للتربية والثقافة والعلوم، لجنة استراتيجية تطوير العلوم والتقانة في الوطن العربي، استراتيجية تطوير العلوم والتقانة في الوطن العربي: التقرير العام والاستراتيجيات الفرعية.‏
              25. المصدر نفسه.‏
              26. أنطوان زحلان، "التحدّي والاستجابة: مساهمة العلوم والتقانة العربية في تحديث الوطن العربي"، مصدر سابق، ص 16.‏
              27. أنطوان زحلان، "الإنتاج العلمي العربي"، ورقة قدّمت إلى تهيئة الإنسان العربي للعطاء العلمي: بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظّمها مركز دراسات الوحدة العربيّة بالتعاون مع مؤسسة عبد الحميد شومان (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية: 1985)، ص 119.‏
              28. انظر: موسى النبهان وزيد ممدوح أبو حسّان، "البحث العلمي بين الضرورة الإنسانية والحصانة القومية"، - "المستقبل العربي"، السنة 19، العدد 212 (تشرين الأول/ أكتوبر 1996)، ص 102.‏
              29. انظر: برهان غليون، "الوطن العربي أمام تحدّيات القرن الواحد والعشرين: تحدّيات كبيرة وهمم صغيرة"، - "المستقبل العربي"، السنة 19، العدد 232 (حزيران، يونيو 1998)، ص 22- 24.‏
              30. انظر: نصّ المقابلة المنشور في صحيفة "البيان"، الصادرة في أبو ظبي، يوم الخميس 3 ذو القعدة 1419هـ/ فبراير (شباط) 1999، العدد 6819، ص 25.‏
              31. المصدر نفسه.‏
              32. عالجنا هذه المسألة في دراستنا المعنونة بـ "هجرة الأدمغة العربية إلى متى؟"- في مجلة "الفيصل"، العدد 240، جمادى الآخرة 1417هـ- أكتوبر/ نوفمبر (تشرين الأول/ تشرين الثاني) 1996، ص 46- 50.‏
              33. انظر: الدكتور معين القدومي، "الأدمغة العربية بين الهجرة والتهجير"، - صحيفة "البيان" الصادرة في أبو ظبي، الخميس 8 ذو الحجة 1419هـ/ 25 مارس (آذار) 1999، العدد 6854، ص 10.‏
              34. لمزيد من التفصيل، انظر، أنطوان زحلان، "هجرة الكفاءات العربيّة: السياق القومي والدولي"، - "المستقبل العربي"، السنة 15، العدد 150 (أيار/ مايو 1992)،‏
              ص 4- 19.‏
              35. د. محمد رضا محرّم، تعريب التكنولوجيا، "المستقبل العربي"، السنة 6، العدد 61 (آذار/ ماس 1984)، ص 77.‏
              36. أنطوان زحلان، التحدي والاستجابة: مساهمة العلوم والتقانة العربية في تحديث الوطن العربي"، - "المستقبل العربي"، السنة 13، العدد 146 (نيسان/ أبريل 1999)، ص 17.‏
              37. انظر: فهمي هويدي، "بلاغ لمن يهمّه الأمر" - "الأهرام"، الثلاثاء 4 ربيع الآخر 1419هـ- 28 يوليو (تموز) 1998، العدد 20776، ص 11.‏
              38. نقلاً عن: أحمد سعد، "الهجرة اليهودية الراهنة في موازنة التطوّر الاقتصادي- الاجتماعي في إسرائيل"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 8، خريف 1991،‏
              ص 296.‏
              39. المصدر نفسه، ص 298.‏
              40. نقلاً عن: فهمي هويدي، "بلاغ لمن يهمّه الأمر"- صحيفة "الأهرام"، 4 ربيع الآخر 1419هـ- 28 يوليو (تموز) 1998، العدد 20776، ص11.‏
              41. المصدر نفسه.‏
              42. المصدر نفسه.‏
              43. المصدر نفسه.‏
              44. المصدر نفسه.‏
              45. المصدر نفسه.‏
              46. عالج هذه المسألة بتفصيل دقيق وتوثيق كبير الباحث إبراهيم عبد الكريم في كتابه الهام: الاستشراق وأبحاث الصراع لدى إسرائيل (عمّان: دار الجليل، 1992).‏
              47. انظر على سبيل المثال: كمال شاتيلا، "سوق شرق أوسطيّة.. أم سوق عربية مشتركة، التحدّي المصيري والحل العربي"، -بحث في ندوة "الأمن العربي: التحديات الراهنة والتطلعات المستقبلية"، الصادرة في كتاب تحت العنوان نفسه عن "مركز الدراسات العربي- الأوروبي"، طبعة أولى (باريس، 1996)، ص 313- 340.‏
              48. المصدر نفسه، ص 322.‏
              انظر: "تقرير حال الأمة 1998"، تقرير الأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي التاسع، المنشور في مجلّة "المستقبل العربي"، السنة 21 العدد 242، (نيسان/ أبريل 1999)، ص 67- 147.‏
              (*) نُشِرت هذه الدراسة في مجلة "الفكر السياسي"، الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق، السنة الثانية، العدد السابع، صيف 1999، ص: 32- 51.‏

              إذا الشعب يوما أراد الحياة
              فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
              و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
              و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

              تعليق


              • #8
                رد: الأبعاد الفكريّة والعلميّة -التقنيّة للصراع العربي الصهيوني

                الفصل الرابع : الخيار النووي، وبناء قاعدة عربيّة للبحث العلمي والتكنولوجيا(*)
                أوّلاً: مسألة الخيار النووي‏
                يسود اتجاهٌ لدى عدد من الباحثين والعلماء والمفكّرين العرب، مفاده أنّه لولا التفوق الإسرائيلي في السلاح التقليدي، ماظهر الاستفزاز والتحدّي الإسرائيلي للعرب، وهضم حقوقهم القومية والوطنية قطعة.. قطعة وبصورة فظّة صارخة. والوجه الآخر لهذه الأطروحة، يقول: "إنّه لولا الضعف واختلال التوازن لغير صالح العرب، لما خسروا حقوقهم على مدى الخمسين عاماً الماضية.. هل مازالت الفرصة قائمة لتعويض مافات... وبالتحديد في المجال النووي: هل يستطيع العرب امتلاك رادع نووي في مواجهة الرادع الإسرائيلي؟... هل تتوافر لديهم القدرات العلميّة والفنية ـ التكنولوجية و"الاستراتيجية" .. أم أنّ المسألة تتوقف على قرار سياسي فقط؟!.. وهل لديهم بدائل للسلاح النووي.؟... وهل تكفي هذه البدائل؟.. هل بإمكان دولة عربيّة واحدة أن تقوم بمهمة التوازن مع القدرات الإسرائيلية المتطورة؟ وهل كانت استراتيجية المنطقة ستتغيّر لو امتلكت البلدان العربية قدرات نووية متقدّمة؟.. وإذا كان القطار"قد فات"، في الستينيّات عندما كانت الظروف الدولية مهيّأة لتطوير قدرات نووية استراتيجية مصريّة... وهل تكفي الضغوط الدبلوماسيّة المكثّفة والمعاهدات.. والاتفاقيات لنزع أسلحة الدمار الشامل في المنطقة(1)؟!‏
                وفي المنحى نفسه (وتعقيباً على التغيرات النووية للهند وباكستان) يتساءل باحثٌ عربي بلسان عدد كبير من المثّقفين وأصحاب الفكر والرأي العام العربي2-، يتساءل هل نحن العرب ـ أصبحنا على مفترق طرق؟.. وهل بات يتحتم علينا أن نعتمد على أنفسنا كل الاعتماد لنستطيع أن نضع قدرنا بأيدينا، ونختار بين أمرين: إمّا أن نبقى على مانحن عليه في قائمة الدول الضعيفة، وسط غابة من الأنظمة النووية المخيفة.. وإما أن ننتشل أنفسنا من بؤرة الاستسلام لواقعنا ونقتحم بوحدة إرادتنا آفاق المستقبل؟! ويضيف قائلاً: ماذا نحن فاعلون؟ هل نبقى على حالنا في قبول سياسة الكيل بمكيالين، والتعامل بسياستين مختلفتين؟.‏
                * فيباح لدول امتلاك أسلحة الموت والدمار!‏
                * وتُعاقَب دول سعت لحماية أمنها من ذلك الدمار!.‏
                * ويُسكت عن نظام عنصري مثل إسرائيل امتلكت مثل هذه الأسلحة، ولها جرائمها المعروفة؟!..‏
                * وتتوالى التحذيرات لدول حاولت أن تمتلك مثل هذه الأسلحة كإيران! تُرى.. لو أنَّ دولة في المشرق العربي كمصر وسورية مثلاً، أو في المغرب العربي كالمملكة المغربية مثلاً أو الجماهيرية الليبية، مثلما فعلت إسرائيل بإقامة نظام نووي حتى ولو كان وقائياً.. هل تقبل الولايات المتحدة بمبدأ المساواة بين الشعوب.. فتسمح لهذه الدول بامتلاك مايحقّق لها أمنها الوطني ودفع الأخطار عنها؟..‏
                ويؤكّد أصحاب هذه الرؤية أنّه لم يعد هناك من خيار أمام العرب سوى أن يعيدوا من جديد تخطيط مناهجهم المستقبليّة، بحيث يبنون قاعدة اقتصادية عصريّة، تحميها قاعدة أمن رادعة. لأنّ إسرائيل عندما بدأت ببناء اقتصادها وتطوير صناعاتها المتقدمة، خاصة الصناعات الإلكترونية، وانتشارها في الأسواق الخارجية وخاصة الأسواق الأوروبية، لم توقف مشروعاتها النووية، بل كثّفت من نشاطها التقني في هذا الاتجاه إلى أن أصبحت من الدول النووية الخطيرة‍‍!!...‏
                ونحن العرب.. عندما ننادي بالتعامل مع لغة العصر، الذي اتسعت فيه رقعة الأنظمة النووية الدفاعيّة، وذلك بالسعي إلى إقامة "نظام عربي نووي" لم يكن القصد من ذلك النداء ـ ونحن طلاب سلام ـ سوى العمل على إيجاد "نظام دفاعي وقائي"، يردع أيّ مغامر من التفكير في استخدام هذا السلاح المدمِّر ضدَّنا..‏
                أليس من حقّنا نحن العرب أن نكون مثل إسرائيل أو الهند أو باكستان أو لا نكون(3)؟!..‏
                وفي مقابل هذه الدعوات الصريحة لامتلاك القوّة النووية على الجانب العربي، يشدّد باحثون آخرون(4)، على أنّ الخيار النووي ليس مثل أيّ خيار آخر، وأنّ القضيّة لم تكن أبداً القدرة على بناء القنبلة الذريّة، والحصول على الفرح الشعبي كما حدث في الهند، وباكستان، وإنما كان ماسوف يأتي بعد ذلك من خطوات وتكاليف بعد أن ينتهي الاحتفاء والاحتفال.. وفوق ذلك فإن مصر كان لها أسبابها الخاصّة فيما يتعلق بالتوازن النووي مع إسرائيل، ففضلاً عن أنّ تحقيق التكافؤ الكامل معها غير ممكن في ظل علاقات الطرفين الخارجية، فإن تحقيق التكافؤ لا يعني إلا تجميد الأوضاع تماماً عند النقطة التي وصلت إليها في عام 1967 نتيجة الردع النووي المتبادل، وفي كلّ الأحوال فإنه سوف يبقى لإسرائيل مزية إضافية وهي مصداقية قدرتها على الاستخدام لأنها تستطيع ضرب عواصم عربية بعيدة دون أن تتأثر هي بالإشعاع أو الغبار النووي، أمّا في حالة إسرائيل ونتيجة ضيقها الجغرافي وتداخلها مع تجمعات سكانية عربيّة، وقربها من تجمعات عربية أخرى فإنه يستحيل لأي قيادة مصرية إصدار قرار استخدام هذا السلاح، فمصر (يضيف كاتب المقال/ الدكتور عبد المنعم سعيد)، حتى ولو تعرّضت لضربة نووية لا تستطيع قصف القدس بما فيها من مقدّسات و180 ألف فلسطيني، أو حتى تل أبيب اللصيقة بيافا حيث عشرات الألوف من العرب، فضلاً عن امتداد آثار التفجير حتى عمّان وبيروت ودمشق، ومع غياب هذه المصداقية ينتفي أي أساس للردع النووي الذي يقوم في جوهره على وجود الإمكانية للاستخدام إذا ما تعدّى الطرف الآخر خطوطاً حمراء بعينها.‏
                وباتجاه مضاد يتساءل باحثون مهتمّون بالشؤون الاستراتيجيّة: كيف نسعى نحن الذين لا نملك قوة الردع النووي لتقييد حركتنا بأنفسنا، من خلال الموافقة على معاهدة تعزّز أوضاعاً مواتية لمن يملك، وتحرم على من لا يملك أن يملك؟..‏
                كيف يمكن لمن لا يملك أن يطمئن على أمنه بجوار من يملك، وبخاصة إذا كان هذا الجار دولة مثل إسرائيل بتاريخها العدواني الإرهابي المعروف؟‏
                ويرى القادة والمسؤولون العرب علاج هذه المسألة الخطيرة بالمطالبة بنزع السلاح النووي(5).‏
                وتمضي الأسئلة: لنفترض أنه تم الاتفاق بين دول المنطقة (بما في ذلك إسرائيل) على نزع الأسلحة النووية ووسائل إطلاقها، وأنه تقرّر نزعها وتدميرها بالفعل، فكم من الوقت تستغرق هذه العملية.. عشرين، ثلاثين عاماً؟.. فماذا نفعل في هذه الفترة، ونحن نعيش في ظلّ الاحتكار النووي؟ ولو قفزنا فوق هذا الوضع كما يحلو لنا دائماً في علاج مشاكلنا (يقول وزير الحربية المصرية الأسبق الباحث أمين هويدي).. ألا يبقى لإسرائيل الاحتكار في مجال المعرفة التقنية النووية، ما يعني أن الاحتكار النووي سيظلّ قائماً عن طريق احتكار هذه المعرفة(6).‏
                ويرى عددٌ من الاستراتيجيين ـ ونحن أْمَيل إلى هذا الرأي ـ أنَّ أمننا القومي لا يتحقق إلاّ عن طريق امتلاك القوة الذاتية الرادعة، أو الردع المتبادل وبالتالي، فإنّ محاولات نزع الأسلحة شديدة التدمير وتطبيق نظام الضمانات الدولية هي محاولات خيّرة يجب تشجيعها. ولكنّها لا تغني أبداً عن امتلاك القوة الرادعة. وعلينا أن نسير في الغابة العالمية بقدمين: قدم تساعد على نزع السلاح شديد التدمير؛ بما في ذلك الأسلحة النووية، شرط أن تكون هناك مساواة في التعامل معها في ظلّ نظام تفتيشي فعّال، وتطبيق الضمانات التي تضعها الوكالة الدولية للطاقة الذريّة على كامل دورة الوقود من المنجم حتى تضيع المواد النووية. والقدم الأخرى هي امتلاك الرادع القادر على توقيع العقاب. ولابدّ أن نعرف أنه في ظل نادي لندن منذ إنشائه عام 1974، وفي ظل قائمة زنجر" التي وضعت للمواد والمعدّات المخالفة لمعاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، وفي ظل قرارات الأمم المتحدة واللجان التي شكّلتها للبحث في النشاط الذرّي في المنطقة، مازال الانتشار النووي مستمراً. ولذلك إذا اقتصرت محاولاتنا لإعادة التوازن على النواحي القانونية، فلن نحافظ على أمننا القومي، لأنّ القانون الذي لا يستند إلى القوّة لا قيمة حقيقية له(7).‏
                ومن تتبّع الجدل العربي الدائر في أوساط الباحثين الاستراتيجيتين، والمفكّرين والصحفيّين وعدد كبير من الكتّاب (أما المواقف الرسمية العربية تجاه أسلحة الدمار الشامل والمعاهدات الدولية فهي تناقش في محاور ودراسات أخرى)، يُلاحظ تركيزها على ضرورة المراجعة الشاملة والجديّة لأوضاعنا المبعثرة، والمفتقرة إلى العقلانية والتخطيط والرؤية الاستراتيجية المستقبلية للبحث العلمي والتكنولوجيا المتقدمة، بحيث نتمكّن من الاعتماد على الذات ومواجهة الاستراتيجية النووية الإسرائيلية واستحقاقات المستقبل، السلميّة أو غير السلميّة، وفق نظرة عربية متكاملة لقدراتنا الفعلية المُتحقَّقة والممكنة (واقعياً) في ميادين العلم والعلماء، والصناعات المعقّدة، واقتحام مجالات المعلوماتية والتكنولوجيا النووية وأبحاث الفضاء والعلوم الدقيقة.‏
                ونحن إذ نميل إلى الرأي القائل بضرورة تطوير الجهود الذاتية‏
                العربية(8)، في مجال الاستخدامات المتعددة للذّرة والطاقة النووية، وأبحاث الليزر، والعلوم المتصلة بالحواسيب والإلكترونيات، فإننا نؤكّد أن الاعتماد على الذات هو خيار استراتيجي لا نملك التخلّي عنه، وفي الوقت نفسه، فإنّ سلوك هذا الخيار يجب أن يسبقه إدراك تمام ودقيق وتفصيلي لواقع القدرات العربية، المستخدمة في ميدان العلوم والتكنولوجيا، وحجم الصعوبات والتكاليف الاقتصادية الباهظة لهذا الخيار.‏
                ورغم اتفاقيات السلام المعقودة بين بعض الدول العربية وإسرائيل، ورغم أنَّ العرب لا يمتلكون الأسلحة النووية، ومبادراتهم العديدة في مجالات إخلاء المنطقة من أسلحة الدمار الشامل ورغم إعلان العرب "أنَّ السلام يشكّل خياراً استراتيجياً"، فإنَّ الصدام يبقى قائماً ومحتملاً بين العرب وإسرائيل، إذا ما استمرّ التعنّت والرفض الإسرائيلي المراوغ للسلام الحقيقي، بل إنّها ما زالت تتمسّك بسياسة فرض الأمر الواقع على العرب، وعدم الاعتراف بالحقوق المشروعة، التي أقرّتها الشرعية الدولية، ابتداءً من قرار الأمم المتحدة عام 1947 بتقسيم فلسطين إلى دولتين منفصلتين (إسرائيلية وفلسطينية)، إلى قرارات مجلس الأمن 242، 338 و425 وغيرها من القرارات.‏
                بل يقول المحلِّلون الاستراتيجيون المصريّون: إنّ إسرائيل، وقد هزَّتها من العمق مفاجأة حرب أكتوبر 1973، عمدت وعلى مدى ربع قرن إلى ترسيخ عقيدتها العسكرية العدوانيّة المعروفة، وذلك بتطوير هائل لآلتها وقدراتها الحربيّة التسلّحية، سواء في الأسلحة التقليدية أو فوق التقليديّة (الكيميائية والجرثومية)، أو الأسلحة النووية التي تنفرد بها في المنطقة (وهناك شبه إجماع على تقديرها بأكثر من مائتي قنبلة نووية)، بتطوير منظومة صواريخها المضادة للصواريخ (آرو ـ 2)، واكبه تطوير آخر في مجال إنتاج الصواريخ أرض/ أرض البالستية سواء من مجموعة أو عائلة "أريحا" أو "شافت" الذي يستخدم في إطلاق أقمار التجسس من طراز "أفق" والذي وصل مداه إلى 4500 كم، ويقال أنّه تم تطويره إلى 7500كم(9)، إضافة إلى نظام متكامل من أسلحة تقوم على الطاقة الإشعاعيّة الموجّهة (كأشعة ليزر إكس، وأشعة الجسيمات المشحونة، وأشعة الجسيمات المتعادلة)(10)، وقد أكّدت تقارير معاهد ومراكز الأبحاث والدراسات الاستراتيجية الدولية المعروفة أنَّ لدى إسرائيل برنامجاً سرّياً متطوّراً للأسلحة الجرثوميّة والكيماوية، وأن تل أبيب تنتج وتخزن كميات هائلة من هذه الأسلحة، حيث وصفتها بعض التقارير بأنها "تترّبع على بحيرة من الأسلحة الجرثومية والكيماوية". كما جهزت طائرات "إف 16" بالأسلحة الكيماوية، وقد أجرت تجارب ناجحة بهذا الخصوص، وبات بإمكان المؤسّسة العسكرية الإسرائيلية تركيب قنابل تحتوي على مواد كيماوية وبيولوجية على متن طائراتها الحربية في غضون دقائق في حال تسلّم أوامر بذلك للقيام بمهام عدوانية مُعيّنة(11)، وكلّ تحرّكاتها مسنودة بمنظومة معلومات واستطلاع، أصبحت تعتمد على الأقمار الصناعية التي تمتلكها (من سلسلة أُفق ـ "أوفك")، وتطوّر تقنياتها كل فترة، وفق المعلومات القادمة إليها من الأصدقاء والحلفاء، وخصوصاً من حليفها الاستراتيجي الأوّل ـ الولايات المتحدة.‏
                إنّ من السخرية حقاً، أنّه في الوقت الذي "تشنّ" فيه أبواق الإعلام الإسرائيلي حملة غير مسبوقة للإيحاء بأنّ السلامَ أصبح قاب قوسين أو أدنى، مع تحرّكات (باراك) الواسعة بين عواصم العالم المختلفة.. في ظلّ هذه الأجواء (الكرنفاليّة) تؤكّد الولايات المتحدة الأمريكية التزامها الرسمي والصريح بـ"تعزيز قدرات إسرائيل الدفاعية والرادعة"، وهو تعبير يشير منذ زمن طويل (كما يقول المحلّل الاستراتيجي جيفري أرونسون) إلى "قدرات إسرائيل النووية"، وأن ذلك يمثّل اعترافاً أمريكياً صريحاً بأهمية قدرات إسرائيل غير التقليدية لمخططات واشنطن الاستراتيجية في المنطقة(12).‏
                وفي الحادي عشر من آب / أغسطس الماضي (1999)، قال رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك في معرض تعليقه على تسلّم إسرائيل (في شهر تموز 1999)، الغوّاصة الذريّة الأولى من ثلاث غواصات ألمانيّة الصنع من طراز "دولفين" بكلفة ثلاثمائة مليون دولار للغواصة، قال (باراك): إنَّ هذه الغواصات تضيف عنصراً جديداً مهمّاً إلى ذراع إسرائيل الطويلة". ولا غرو في ماقاله باراك (يعقّب جيفري أرونسون)، لأنَّ هذه الغواصات ستساعد إسرائيل بما لديها من صواريخ باليستية وطائرات "إف ـ 15"، الأميركية الجديدة الطويلة المدى.. على استعراض قوتها من باكستان حتى المغرب. وستضيف الغواصات الألمانية بصورة خاصة بُعداً آخر إلى قوة الردع الإسرائيلية (أي القدرة على توجيه ضربة ثانية) عند مواجهة خطر الأسلحة غير التقليدية التي يمكن أن تستخدمها الدولة المعادية لإسرائيل في القرن الحادي والعشرين، سواء أكانت تلك الدول في العالم العربي أو جنوب آسيا أو في أواسط آسيا(13).‏
                ويزعم عددٌ من المحلّلين العسكريّين والأمنيين في الصحافة الإسرائيلية أنَّ إسرائيل في ظلّ إمكانية تجدّد مفاوضات السلام مع الأطراف العربية ـ سوريّة ولبنان الفلسطينيّين، والتوقيع على اتفاقيات سلام (مع هذه الأطراف ومع العرب بعامّة)، "ستحتاج إلى السلاح النووي الرادع أكثر من أيّ وقت مضى"!!..‏
                والحقيقة فإنّ إسرائيل مستمرة في تطوير ترسانتها لأسلحة الدمار الشامل، النووية والجرثومية والكيماوية، مع قدرتها المتطورة في أساليب نقلها بالطائرات والصواريخ، وهي ـ بدعم مطلق من الولايات المتحدة ـ رفضت وترفض أي تفتيش على منشآتها ومخازنها، المعَدّة لهذه الأسلحة الفتّاكة. فتحت عنوان "لا ولن تدخلوا "المخزن" كتب المحلّل الإسرائيلي ألوف بن يقول: إنّ إسرائيل منزعجة من المعاهدات الدولية الجديدة، التي ما زالت تتبلور، لتجميد إنتاج المواد المشعّة، التي تعد بوساطتها الأسلحة النووية، والدول التي ستنضم للمعاهدة ستضطر لفتح منشآتها النووية أمام المراقبة. وسيطلب من إسرائيل" إذا ما انضمت، أن تدعو المراقبين إلى قدس أقداس الأمن الإسرائيلي، إلى المفاعل النووي في ديمونا، من أجل أن يتجولوا في منشآتها ويتأكدوا من وقف إنتاج البلوتونيوم.. (ويضيف الكاتب) أما باراك الذي يؤمن أنه ليس هناك في الشرق الأوسط فرصة للضعفاء، فإنه لا ينوي تغيير سياسة أسلافه، وهو يرى في الردع النووي لبنة مركزية في نظرية الأمن، وهو القائل (في تصريحاته كوزير للخارجية) ـ "السياسة النووية الإسرائيلية لم تتغيّر، ولا يمكنها أن تتغير"(14).‏
                ولذلك فإننا يمكن أن نتوقّع مع عدد من الخبراء السياسيّين والمحلّلين الاستراتيجيّين والعسكريّين المصريّين الثقات الذين شاركوا في الندوة الاستراتيجية المهمة التي نظمتها القوات المسلّحة المصرية بمناسبة العيد الفضي لانتصارات أكتوبر/تشرين الأول 1973، وهي توقّعات قائمة على خبرات عميقة ومعرفة أكاديمية وميدانية دقيقة، بأنّ احتمالات نشوب حرب جديدة، محدودة أو شاملة، احتمالات قائمة مادام السلام العادل والشامل بعيد المنال، ومادام الطرف المقابل (إسرائيل) لا يؤمن بالسلام الحقيقي، وما دامت استراتيجيته تقوم على فرض الأمر الواقع بالقوة المسلحة وبالردع النووي. وهو ما تؤكّده التقارير الخاصّة بالصناعات الاستراتيجية الإسرائيلية، ونظم التسلّح لديها، وحجم الإنفاق المالي (المعلن) المخصص لتطوير أسلحتها الصاروخية وطيرانها وأقمارها الصناعية التجسسية ... الخ(15).‏
                أما القرار الذي اتخذه العرب بالقبول بمبدأ السلام كخيار استراتيجي، فإنه يجب ألا يمنعنا من بناء قوة قادرة مقابلة ومقاومة ورادعة(16).‏
                والقوّة القادرة الرادعة في مفهومنا، ليست القوة العسكرية فقط، لكنّها قوة المجتمع والدولة بآنٍ معاً، القائمة على التنمية المتكاملة (اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً..الخ)، والقدرة العسكرية الرادعة، والاستغلال الأقصى والأمثل للطاقات العلميّة والفنيّة والبحثية والمالية المتوافرة لتقليص الفجوة بين العرب وإسرائيل، وصولاً إلى التوازن الحضاري الشامل، الذي يصنع سلاماً حقيقياً بين دول المنطقة وشعوبها، وعندئذ فقط يزول التهديد بالسلاح النووي وغيره من أسلحة الدمار الشامل.‏
                إنّ ماتقدّم يقودنا إلى النقطة التالية من هذه الورقة، ونعني بها مسألة بناء القاعدة العربية للبحث العلمي والتكنولوجيا، مع المقارنة الرقميّة والإحصائية بالمعطيات، المتوافرة على المستويات التي وصلت إليها إسرائيل في هذا المجال.‏
                ثانياً: القدرات العلمية والتكنولوجية،‏
                المستخدمة لدى الجانبين الإسرائيلي والعربي‏
                لن نتطرق هنا إلى تاريخ ومراحل بناء القدرة النووية الإسرائيلية، والوسائل التي اتّبعتها (بمعونة حاسمة من حلفائها الاستراتيجيّين في الغرب) لتبقى الطرف الوحيد، الذي يحتكر السلاح النووي في الشرق الأوسط، فقد كتب حول هذه المسألة كمٌّ كبير من المؤلفات والدراسات والأبحاث والمقالات والتحليلات، عدا أنَّها تشكّل مادة لـ"أوراق" ومحاور أخرى في مؤتمرنا هذا. ولكنْ مايهمّنا في هذه المسألة، الجانب المتصل بالقاعدة البحثية والعلمية والتقنية، التي استطاعت إسرائيل من خلال توظيفها واستثمارها للوصول إلى ما وصلت إليه في حيازة التكنولوجيا النووية.‏
                فالمعروف أنَّ أية دولة تفكر في بلوغ التكنولوجيا النووية واستخدام الطاقة الذرية في المجالات السلمية أو الحربيّة، لابدّ لها من أن تمتلك‏
                مايلي(17):‏
                1 ـ بناء تحتي صناعي متقدم في مختلف المجالات.‏
                2 ـ معاهد، أو مراكز للبحوث النووية تضم مجموعة من العلماء والكوادر الفنية القادرة على إدارة المفاعلات النووية والقيام بالعمليات الضرورية في دورة الوقود النووي للحصول على البلوتونيوم، الذي يستخدم كوقود في المفاعلات أو في صنع السلاح النووي.‏
                3 ـ رأس المال الكافي لإقامة المفاعلات النووية وبعد ذلك صنع السلاح النووي. وهنالك تقديرات لمختلف أنواع المفاعلات(18)، وهي تقديرات تتغير مع الزمن بناء على اعتبارات اقتصادية وسياسية.‏
                4 ـ مفاعلات لحرق الوقود النووي، وهذه المفاعلات إما أن تكون مفاعلات أبحاث "أي تخصّص للبحث العلمي في مجال استخدامات الطاقة النووية، أو مفاعلات القوى والتي يكون الغرض منها توليد الطاقة الكهربائية. ومن الضروري أن تكون قدرة هذه المفاعلات عالية من أجل أن يكون الحصول على الطاقة الكهربائية اقتصادياً".‏
                أ ـ على الجانب الإسرائيلي:‏
                لقد أدرك قادة ومؤسّسو "إسرائيل" الأهمية القصوى للعلم والتكنولوجيا تجاه المحيط العربي، الرافض للعدوان والاحتلال واقتلاع الشعب الفلسطيني لإحلال جماعات غريبة محلّه. فقد صرّح بن غوريون في هذا المجال بالقول: "إنَّ العلم في أيامنا مفتاح القوة العسكرية، وشبابنا الموهوبون الذين يدرسون القانون بدلاً من العلم والتكنولوجيا إنّما يضيّعون رأس مال بشري يشكّل عند الشعب قيمة لا تقدّر بثمن"(19).‏
                ومن هنا أولت القيادة الصهيونية اهتماماً فعلياً وحقيقياً للعلم. فوضع الحجر الأساس لـ "معهد التخنيون" عام 1912، وبدأ يستقبل الطلبة عام 1924. أمّا "الجامعة العبرية"، فقد وضع الحجر الأساس لها عام 1918 وبدأت تستقبل الطلبة عام 1925. ولعبت المؤسّسة العسكرية دوراً كبيراً في تنشيط البحوث ضمن مؤسّساتها وضمن الجامعات ومراكز الأبحاث المنتشرة في المدن والبلدات والمستوطنات اليهودية، وأصبح العلم حتى قبل الكيان الصهيوني جزءاً أساسياً من استراتيجية الحركة الصهيونية. فمنذ عام 1947 نظمت "الهاجانا" وحدات علميّة بحثيّة ضمّت أفضل العلماء، فكانت النواة الأولى للمؤسّسات العلمية لاحقاً، سواء داخل المؤسسة العسكرية أو خارجها. ولقد ساعد إسرائيل على إقامة القاعدة العلمية المتينة، العدد الهائل من العلماء الأوروبيين الذين هاجروا إليها. وقد أشارت دراسة أكاديمية على أن نسبة العلماء المهاجرين إلى إسرائيل بلغت في عام 1968 حوالي 33 بالمائة من مجموع الهجرة(20)، وأنّ حوالي 86 بالمائة من العاملين في الحقل الطبي هم من المهاجرين‏
                الوافدين(21)، وأنّ نسبة الكفاءات الأوروبية تساوي 65 بالمائة من أساتذة "الجامعة العبرية"(22). وفي عام 1963 كان هنالك 457 أستاذاً في "الجامعة العبرية"، منهم 54 فقط ولدوا في فلسطين، وفي عام 1966 كان هنالك 721 أستاذاً في الجامعة منهم 105 ولدوا في فلسطين أما في معهد "التخنيون" ففي عام 1964 كان يوجد 255 أستاذاً، منهم 34 فقط ولدوا في فلسطين. كما اهتمت المؤسّسة الإسرائيلية بإرسال العلماء لقضاء فترات مختلفة، وللقيام ببحوث مشتركة مع مختلف جامعات ومعاهد ومراكز البحث في العالم، الأمر الذي منحها امتداداً وشبكة علمية لا يوجد لها مثيل في أي بلد من بلدان الشرق الأوسط.‏
                ولقد ساعدت الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا إسرائيل بقوّة وبخط بياني متصاعد لأجل بناء القاعدة العلمية ـ التكنولوجية الأساسية، حيث منحتها الأموال الطائلة ووقعت عقوداً مع علماء وجامعات ومراكز إسرائيلية لإجراء بحوث مشتركة. ومنذ الأيام الأولى لقيام إسرائيل شجّعت الحكومات الأمريكية ومجالسها التشريعية الشركات الأمريكية لتوظيف خبراتها (في إسرائيل)، وإقامة شركات أو فروع للشركات الأمريكية داخل إسرائيل. وهذه السياسة لم تكن بمعزل عن استراتيجية الولايات المتحدة بجعل إسرائيل امتداداً لها في الشرق الأوسط. فالولايات المتحدة تموّل وحدها أكثر من 20 بالمائة من ميزانية البحث العلمي في إسرائيل، وأنَّ أكثر من 40 بالمائة من العدد الكلّي للبحوث، التي أجريت في إسرائيل والتي نشرت في الخارج كانت مموّلة من جانب الولايات المتحدة والدولة الأوروبية (23).‏
                وضمن رؤية استراتيجية مستقبلية بدأت المؤسّسات في إسرائيل الاهتمام بمسائل الطاقة وخاصة النووية، والإلكترونيات والليزر والكيمياء والفيزياء النظرية والتطبيقية وعلوم الحاسبات، ويكفي أن نتذكر أنه في حزيران 1953 (بعد خمس سنوات من قيامها رسمياً) تأسّست لجنة الطاقة الذرية في إسرائيل لتعمل ضمن وزارة الدفاع، وعيّن "الدكتور أرنست برغمان"، رئيساً لها. وهو الذي اكتشف اليورانيوم في الفوسفات، ثم أصبح فيما بعد رئيساً لقسم البحث والتطوير في وزارة الدفاع.وقد ضمّت الطاقة الذرية كبار العلماء في هذا المجال من "معهد وايزمن"، و"الجامعة العبرية"، و"التخنيون" و"مجلس الأبحاث الإسرائيلي"، بعد أن حدّدت مهماتها العلنيّة والسريّة بدقّة ووضوح(24). لا يدخل في إطار هذه الورقة سرد الوقائع والأدلّة، التي لا تترك أدنى شك في التعاون والتنسيق بين إسرائيل وكل من الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وجنوب أفريقيا وألمانيا الغربية في ميدان صناعة الأسلحة النووية، بصرف النظر عن تباين التقديرات بشأن كمياتها ونوعياتها. ونشير ـ كمثال فقط ـ إلى أنَّ الرئيس الأمريكي "أيزنهاور" أمر في عام 1955 بتوقيع اتفاقية أمريكية مع إسرائيل، لتزويد الأخيرة بمفاعل نووي للأبحاث أنشئ في "ناحال سوريك"، وجرى على إثر ذلك نقل 20 كغم من "اليورانيوم 235" المخصّب إلى إسرائيل، كما زودّت الولايات المتحدة إسرائيل بمكتبة تقنية تحتوي على 6500 تقرير عن الأبحاث الذرية و45 كتاباً عن الفيزياء النووية، إضافة إلى تخصيص مقاعد ثابتة للعلماء والتقنيين الإسرائيليين للعمل في (الولايات المتحدة) بمجال الذرة. وقد استخدمت إسرائيل مفاعل "ناحال سوريك"، لتدريب كوادرها في المجال النووي، علاوة على استعماله للقيام بسلسلة من الأبحاث.. ومن الطبيعي أن هذه الخطوات التي "تمثّلت بإقامة مفاعلات "ريشون ليزيون، ناحال سوريك، مفاعل النبي روبين، مفاعل ديمونا"، مع ما رافقها من تعاون وثيق مع كل من فرنسا وألمانيا وهولندا وجنوب أفريقيا (وقصة هذا التعاون طويلة ومعقّدة)، كانت تصبّ كلها في القاعدة العلميّة ـ التقنية الإسرائيلية باتجاهات وتطبيقات مختلفة، تأتي التكنولوجيا النووية على رأسها. فلقد قام "أوبنهايمر" وهو الذي أشرف على البرنامج النووي لصنع أول قنبلة نووية أمريكية بالإشراف على تدريب مجموعة من العلماء الإسرائيليين في الجامعات الأمريكية، كما قام بعدّة زيارات إلى إسرائيل لتقديم المشورة للعلماء الإسرائيليين. وكذلك فعل"إدوارد تيلر" والمعروف بأبي القنبلة الهيدروجينية، الذي زار إسرائيل مرات عديدة، وصرّح في إحدى زياراته (إسرائيل) عام 1965 بأنّ لدى إسرائيل القدرة على صنع السلاح النووي(25). وأضاف مؤكّداً: أنَّ إسرائيل تمتلك العناصر والمقوّمات الضرورية لإنتاج القنبلة النووية، وهي العلماء والتكنولوجيا ومراكز الأبحاث والبلوتونيوم(26).‏
                وقد اعترف رئيس إسرائيل الأسبق "كاتسير" صراحة في أول ديسمبر/ كانون الأول 1974: "أن سياسة إسرائيل كانت دائماً تتمثّل بالسعي إلى امتلاك القدرات النووية، وإننا الآن نمتلكها"(27). وقد علّق "رابين" على التصريح هذا (في التلفزيون البريطاني)، قائلاً: "إننا لا نملك تكلفة أن يسبقنا أحد إلى امتلاك القدرة النووية في الشرق الأوسط"(28).‏
                وكما كان "بن غوريون" صريحاً دائماً على الربط بين القاعدة العلمية ـ التكنولوجية وضرورة امتلاك الرادع النووي في مواجهة التفوّق البشري العربي، فإنّ تلاميذه من بعده أيضاً ـ مثل "دايان" و"بيريز"، و"غور" ـ قد وضعوا فكر "بن غوريون" موضع التنفيذ عبر السنوات الأربعين الماضية، وكانت مقولتهم في ذلك: "حيث يوجد الخيار النووي يتحقق التفوّق الكاسح على الخصم، خاصة في ظروف كظروف إسرائيل"، وبهذه العبارة أكّد قادة إسرائيل أنهم يعنون دخول النادي الذري من أوسع أبوابه(29).‏
                وقد تمثّل التطور النووي الإسرائيلي خلال السبعينيات، في أنّ إسرائيل رفعت درجة استعداد القوّة النووية الإسرائيلية (صواريخ أريحا + طائرات + 13 قنبلة نووية) في 8 أكتوبر/ تشرين الأول 1973 (30)، وذلك في أثناء حرب أكتوبر في محاولة للضغط على الولايات المتحدة للإسراع في نجدة إسرائيل وتعويض خسائرها الشديدة، هذا بالإضافة إلى نجاح العالمين الإسرائيليين "إسحق نيبزداهل"، و"مناحم ليفين"، في معالجة تخصيب اليورانيوم باستخدام أشعة الليزر، وهو ما يُعدّ أرخص وأسرع وسائل التخصيب في العالم..أمّا خلال الثمانينيات فقد كان من أبرز التطوّرات هو ماكشفت عنه في صحيفة "صنداي تايمز"، في "أكتوبر/ تشرين الأول 1986 على لسان الفنّي النووي الإسرائيلي "مردخاي فانونو"، الذي عمل بمفاعل "ديمونا" لمدة عشر سنوات، والذي دعم معلوماته بـ60 ـ صورة من داخل المفاعل، وأكّد عدد من الخبراء النوويّين البريطانيين صحّة اعترافاته، والتي كان أبرز مافيها الآتي(31):‏
                * إن إسرائيل تملك مخزوناً من القنابل النووية يتراوح بين 150-200 قنبلة انشطارية أصغر حجماً وأشدّ تأثيراً من قنبلتي هيروشيما وناغازاكي.‏
                * إنّ مفاعل "ديمونا" رفعت قدراته إلى 150 ميغاوات.‏
                * إن إسرائيل أنتجت قنابل النيوترون والقنابل الهيدروجينية.‏
                أمّا "شمعون بيريس"، رئيس وزراء إسرائيل الأسبق، والذي أشرف على بناء القدرات النووية لإسرائيل، فقد اعترف بمنتهى الوضوح والصراحة أنهم صنعوا أسلحتهم النووية لابتزاز العرب وردعهم بقوله: "لقد بنيتُ ديمونا من أجل الوصول إلى أوسلو..."(32).‏
                إنّ ما أشرنا إليه من خطوات ومراحل وبرامج للقدرات النووية الإسرائيلية، يؤكّد امتلاكها للعناصر الرئيسة الآتية(33):‏
                1 ـ القاعدة العلمية والتكنولوجية والخبرات النووية، إذ تقدّر المصادر العلمية الغربية، إنه يتوفر لإسرائيل حالياً حوالي 2000 (ألفي) عالم وخبير ومهندس وفني في المجالات النووية المختلفة، وهم على اتصال بحوالي 600 معهد علمي ومركز للبحوث النووية في حوالي ثماني دول، كما تهتم بتشجيع هجرة العلماء اليهود من شتى أنحاء العالم.ولديها مؤسّسة الطاقة النووية ذات النشاط الكبير في الجامعات والمعاهد التكنولوجية داخل وخارج إسرائيل. وتشرف على جميع الأبحاث النووية التي تجري في الجامعات والمعاهد الإسرائيلية، وتدير أيضاً جميع المفاعلات والمنشآت والمشروعات النووية في إسرائيل. ومن أبرز الأبحاث التي أشرفت عليها هذه المؤسّسة، مشروع إنتاج الماء الثقيل الذي قامت به شعبة النظائر في "معهد وايزمان"، حيث أصبحت إسرائيل نتيجة لذلك قادرة على تأمين 95% من متطلبات العالم من هذه المادة، والتي يبلغ قيمة الغرام منها حوالي ألفي دولار.‏
                2 ـ المفاعلات والمنشآت النووية.‏
                3 ـ التجارب النووية المحتمل أن تكون قد أجرتها إسرائيل.‏
                4 ـ أنواع وأحجام مختلفة من الأسلحة النووية.‏
                5 ـ وسائل توصيل وإطلاق الأسلحة النووية (طائرات الفانتوم: إف 16 وإف 15 وف 4 ي)، وطائرات سكاي هوك، وطائرة "الكافيير" من إنتاج إسرائيل + صواريخ أرض ـ أرض من طراز "لانس" و"أريحا2" و"كروز" + مدافع قادرة على إطلاق ذخائر نووية).‏
                وإذا أردنا معرفة ما بلغته إسرائيل في ميدان الأبحاث العلميّة وتطوير التكنولوجيا، وحجم العلاقات القائمة بينها وبين دول العالم، فلابدّ من إلقاء نظرة على "التقرير السنوي لوزارة العلوم الإسرائيلية"، الذي صدر مؤخراً عن الأعوام 1995 و 1996 و1997 34-. وهو يقترح إعطاء أولوية لما يسمّيه بالأبحاث الاستراتيجية التي تقع بين الأبحاث الأساسية (العلمية البحتة)، والأبحاث التطبيقية (التسويقية). ويشير التقرير إلى أن إسرائيل كانت تحتل المرتبة الأولى أو الثانية في العالم في الفئة التي يحدّدها عدد المنشورات العلمية لكل فرد. وإسرائيل إلى جانب أربع دول أخرى، هي عضو في المجموعة النخبوية والمؤلّفة من خمس دول رائدة في ستٌ من أصل عشرين مهنة علمية.‏
                وطبقاً للمعايير الدولية، فإنّ إسرائيل تحتل المرتبة الأولى في علوم الكومبيوتر، والمرتبة الثالثة في الكيمياء، والمرتبة الخامسة في مجالات الفيزياء والبيولوجيا والميكروبيولوجيا..‏
                ويطالب "التقرير" بزيادة الحصة الحكومية السنوية المخصصة للأبحاث الاستراتيجية وهي بحسب التقرير "تلك التي تقع بين ميداني الأبحاث الأساسيّة والأبحاث التطبيقية، وتسعى إلى تحقيق أهداف اقتصادية واجتماعية.. وتوجّهها المصلحة القومية الساعية إلى زيادة الدخل الفردي والنمو الاقتصادي" من 8 في المئة إلى 15 في المئة خلال السنوات المقبلة، ما يوازي إضافة تبلغ نحو مئتي مليون شيكل إسرائيلي جديد، أي 60 مليون دولار. كما يطالب بزيادة النفقات الوطنية على الأبحاث والتطوير، حتى سنة 2005، من 1,2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي إلى 3 في المئة منه، مثلما تنوي أن تفعل كوريا الجنوبية والسويد وسويسرا واليابان، علماً أنَّ زيادة سنوية بنسبة 0,2 في المئة قد تضيف نحو مئتي مليون دولار للأبحاث والتطوير. إنَّ المبادئ والبرامج التي وضعتها "اللجنة الوطنية التنفيذية لتطوير الأبحاث الاستراتيجية"، و(المعروفة كذلك بـ"لجنة الثلاثة عشر")، واللجان الوطنية للأبحاث الاستراتيجية بالتعاون مع "وزارة العلوم"، ركّزت على الجهود الخاصّة بتطوير تكنولوجيا جديدة، أو على تحسين التكنولوجيات الموجودة الممكن تطبيقها والمنسجمة اقتصادياً مع قدرات الصناعة الإسرائيلية.‏
                وضمن إطار الموازنة المخصّصة للعامين 1995 و1996، دعمت الوزارة برامج الأبحاث إلى حد تخصيص أكثر من 120 مليون شيكل إسرائيلي جديد لمشاريع الأبحاث ولتدريب القوة البشرية العلمية، ولشراء تجهيزات علمية محدّدة ولتأسيس "مركز الكومبيوتر المتفوق"، ولإعادة تأهيل "مركز الميكرو ـ ألكترونيات" في "معهد تخنيون ـ إسرائيل للتكنولوجيا"، بعد تعرّض "المركز" لأضرار جسيمة نتيجة الحريق.‏
                وفي عامي 1995 و 1996 جرى التركيز على ميادين ذات أولوية قصوى للقاعدة العلمية ـ التكنولوجية الإسرائيلية، هي: "البصريات الإلكترونية، التكنولوجيا المعلوماتية، الأدوات المتطورة، الميكرو إليكترونيات، ألبيوتكنولوجيا، والرياضيات التطبيقية، حيث درست في هذا السياق 405 اقتراحات لمؤسسات بحثية مختلفة في إسرائيل، وشارك فيها 1400 رئيس فريق أبحاث بالإنسجام مع توصيات "هيئات المراجعة والتطوير المهني"، تم تمويل 110 مشاريع أبحاث خلال عام 1995 و1996، وأعطيت 54 منحة دراسية في الميادين الستة المذكورة. وكان مجموع المبالغ المخصّصة 41 مليون شيكل إسرائيلي جديد عام 1995، 659 مليون شيكل إسرائيلي جديد عام 1996.‏
                وبناء على توصيات "اللجنة الوطنية للأبحاث الاستراتيجية في التكنولوجيا المعلوماتية" استُثمر 25 مليون شيكل إسرائيلي جديد في مدى أربعة أعوام لتأسيس "مركز الكومبيوتر المتفوّق". وقد انضمّت لجنة التخطيط والموازنة في مجلس التعليم العالي إلى هذه المبادرة واستثمرت مبلغاً مماثلاً لشراء كومبيوترات أقل ثمناً لكن ذات فاعلية ملائمة للجامعات، بهدف تمكينها من تنسيق نشاطاتها في مجال الكومبيوتر مع "مركز الكومبيوتر المتفوّق"، (الذي يقع في حرم "جامعة تل أبيب" ويتضمن كومبيوترين متفوّقين). وهو جاهز لخدمة جميع المستخدمين المحتملين في إسرائيل ـ سواء أكانوا في الجامعات أم في مراكز الأبحاث أم في قطاع الصناعة.‏
                والجدير بالذكر أنه تم تخصيص مبلغ 2,9 مليون شيكل إسرائيل جديد، لإنشاء احتياط استراتيجي من الأفكار التكنولوجية المبتكرة ولدراسة مدى قابلية هذه الأفكار للتطبيق.‏
                أما في عام 1997 فإنّ الموازنة المُخصَّصة لبرنامج الأبحاث الاستراتيجية، فقد كانت تهدف إلى تسهيل تطبيق نشاطات الأبحاث وفق البنود التالية:‏
                أ ـ تمديد مشاريع الأبحاث: تمويل استمرار مشاريع الأبحاث التي كانت بدأت في عامي 1995 و1996 ويُطبّق هذا النشاط تبعاً لما كان مخطّطاً.‏
                ب ـ التوسّع: إضافة مشاريع أبحاث جديدة إلى مجالات موجودة أصلاً متفرّعة من ميادين الأبحاث الستّة المحدّدة بأنها "ذات أولوية وطنية" في عامي 1995 و1996.‏
                جـ ـ الزيادة: إضافة مجالات جديدة متفرعة من الميادين الستة "ذات الأولوية الوطنية".‏
                د ـ ميادين أبحاث جديدة: تعزيز نشاطات أبحاث جديدة في مواضيع بحث استراتيجية أساسية تتعلّق بمشكلات البيئة والموارد المائية.‏
                هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ "وزارة العلوم"، الإسرائيلية عقدت اتفاقات تعاون علمي مع 26 دولة في العالم(35). وتنص هذه الاتفاقات على تنفيذ برامج أبحاث مشتركة، بإنفاق سنوي يبلغ 78 مليون شيكل إسرائيلي جديد (مايعادل 3,22 مليون دولار تقريباً) مع كل من ألمانيا وفرنسا واليابان والهند والصين وكوريا الجنوبية. ويُستثمر نحو 58 مليون شيكل إسرائيلي جديد من هذه المبالغ في إسرائيل (أي نحو 5,16 مليون دولار)، ويجري استثمار 6 ملايين دولار في البلدان المشاركة الأخرى. بالإضافة إلى ذلك، تمكّن هذه الاتفاقات من تطبيق برامج ترتكز على تبادل الباحثين العلميين، وعلى عقد مؤتمرات وحلقات بحثية مشتركة.‏
                وتبرز الاتفاقات المشار إليها بين "وزارة العلوم" الإسرائيلية والأطراف الأخرى التركيز على النقاط التالية:‏
                ـ تشكيل علاقات علمية ثابتة مع البلدان المميزة والرائدة في مجالات علمية محدّدة.‏
                ـ كسب إمكانية الوصول إلى معلومات خاصة (ثمينة للغاية)، غير متوافرة في إسرائيل.‏
                ـ كسب إمكانية الوصول إلى مصادر تمويل أجنبية.‏
                إضافة إلى ما تقدّم فإن إسرائيل عضو نشيط في منظمات علمية‏
                عالمية(36)، وهو ما يشكّل اعترافاً بقدراتها العلمية. فمن وجهة النظر المهنيّة، تمكّن هذه العضوية الباحثين الإسرائيليين من استخدام تجهيزات متطورة وثمينة للأبحاث، هي غير متوافرة في إسرائيل، ومن المشاركة في عروض في الخارج، ومن الحصول على أحدث المعلومات فيما يتعلّق بالتطوّرات التي تطرأ على مجالات اهتمامهم، ومن التأثير على القرارات المتخذة على صعيد دولي (خصوصاً في ما يتصل بعلوم الحياة والعلوم الدقيقة)، ومن تعزيز موقع إسرائيل في المجتمع الدولي. ومن أبرز هذه المنظمات والهيئات العالمية: "منظمة البيولوجيا الجزيئية الأوربية"، و"مختبر البيولوجيا الجزيئية الأوروبي"، "المركز الأوروبي للأبحاث النووية"، "برنامج التعاون الأوروبي لشبكات الموارد الجينية في المحاصيل"، "منظمة اليونسكو" (فهي عضو في المجلس العلمي لبرنامج المعلوماتية، وعضو نشيط في مخطط الهيدرولوجيا الدولي، وفي برنامج الحفاظ على البيئة)، وغيرها من المنظمات.‏
                (*) - في الأصل ورقة قُدمت إلى المؤتمر السنوي الرابع "لمركز دراسات المستقبل" التابع لجامعة أسيوط (في مصر)، المنعقد تحت عنوان " مستقبل الخيار النووي في الشرق الأوسط" في الفترة من 16 إلى 18 تشرين الثاني / نوفمبر 1999.‏

                إذا الشعب يوما أراد الحياة
                فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                تعليق


                • #9
                  رد: الأبعاد الفكريّة والعلميّة -التقنيّة للصراع العربي الصهيوني

                  ونشير أيضاً إلى الدور الهام الذي تقوم به "وكالة الفضاء الإسرائيلية". إذ أن إسرائيل هي البلد الثامن في العالم الذي طوّر قمره الاصطناعي الخاص، وأطلقه إلى الفضاء بوساطة منصة إطلاق أقمار اصطناعية إسرائيلية(37). فالبُنى التحتية للأبحاث والصناعة في مجال التكنولوجيا الفضائية في إسرائيل، جرى اختبارها على الأرض عبر تطوير أقمار صغيرة، ومنصّات إطلاق صواريخ متقدمة، وتقنيات مختلفة في هذا المجال، كالتلسكوب مافوق البنفسجي في "جامعة تل أبيب".
                  وتستمر "وزارة العلوم"، الإسرائيلية في تمويل عدد كبير من المشاريع المصنّفة في باب "الاستشعار عن بعد" بما فيها، تحديد الأضرار والأخطار التي تواجهها الزراعة والبيئة، الأبحاث حول الأوزون، تحديد أماكن المعادن. وتموّل الوزارة المذكورة كذلك مشاريع أبحاث متعلقة بعلم الزلال وتطوير تكنولوجيات جديدة لمعالجة الأقمار الاصطناعية وإطلاقها.‏
                  وفي ميدان التعاون في مجالات الفضاء وقّعت "وكالة الفضاء الإسرائيلية" (العاملة ضمن إطار "وزارة العلوم)، اتفاقات عديدة للتعاون مع وكالات فضائية في بلدان عديدة:‏
                  ـ وكالة الفضاء الفرنسية (1994).‏
                  ـ وكالة الفضاء الروسية (1994).‏
                  ـ وكالة الفضاء الألمانية (1995).‏
                  ـ إدارة الفضاء وعلم الطيران الوطنية الأمريكية (نازا ـ 1996).‏
                  ـ وكالة الفضاء الأوروبية (1997).‏
                  ثمة كذلك اتفاقات تعاون مع عدد كبير من المراكز الفضائية في الدول الاسكندنافية، والمفاوضات جارية مع وكالات الفضاء في الهند، وأوكرانيا، والبرازيل، الأرجنتين، وبريطانيا.‏
                  ويؤكّد المتابعون والمختصّون أنّ واقعة قبول إسرائيل كعضو. مساعد في "برنامج الأبحاث والتطوير التابع للاتحاد الأوروبي" هي الخطوة الأهم التي كسبتها علاقات إسرائيل العلمية الدولية في الأعوام الأخيرة. وتعدّ "وزارة العلوم"، الإسرائيلية أن الدخول في هذه البرنامج، يشكّل محرِّكاً أساسياً لتعزيز التعاون بين المؤسّسات الأكاديمية والصناعية، وكذلك لتعزيز التطوير المثمر للعلوم (في إسرائيل) عموماً، وللأبحاث الاستراتيجية خصوصاً.‏
                  إنّ موازنة البرنامج الأوروبي ضخمة إلى حدٍ ما، إذ تبلغ 16 مليار دولار لبرنامج من خمس سنوات. وتدفع إسرائيل رسم عضوية سنوياً قدره "40".مليون دولار تموّله وزارات: العلوم، الصناعة، والتجارة، ووزارة المال، ولجنة التخطيط والموازنة التابعة لمجلس التعليم العالي.‏
                  وقد تمّت في إطار البرنامج المذكور الموافقة على 104 مشاريع تضمّ باحثين إسرائيليين. وتصل قيمة الدعم الذي تلقته إسرائيل بسبب هذه المشاريع حوالي 25 مليون دولار. وقد تمّ الشروع في عملية تقويم المنجزات التي حققتها إسرائيل خلال لهذا البرنامج، وذلك من جانب الوزارات المشاركة ولجنة التخطيط والموازنة. وفي ضوء ذلك سيُتخذ القرار في ما يتعلق بخيار استمرار مشاركة إسرائيل في برنامج الإطار الخامس للأبحاث والتطوير التابع للاتحاد الأوروبي.‏
                  وتقول إحدى الدراسات المنشورة حديثاً (38)، أنّ إسرائيل تضمّ شبكة من الأبحاث العلمية والتكنولوجية هي الأكثر تطوراً في المنطقة، إنْ لم يكن بالمقارنة مع أوروبا أيضاً.وأبرز ظهور للتقدم في البحوث العلمية الإسرائيلية اليوم هو في مضمار التكنولوجيا العالية (High - tech)، حيث تحوّلت إسرائيل إلى منافس قوي لأهم دول العالم في هذه الصناعة، فارتفعت الاستثمارات الأجنبية فيها من 240 مليون دولار عام 1995 إلى 850 مليون دولار عام 1996.‏
                  ومن المتوقع أن يصل إجمالي الصادرات الإسرائيلية العاملة في هذا الحقل في نهاية هذه السنة إلى تسعة مليارات دولار، أي ضعف ماكانت عليه عام 1990.‏
                  يعتمد البحث العلمي في إسرائيل بصورة خاصة على الجامعات الإسرائيلية وعلى معاهد الأبحاث التابعة لها، لكنه لم ينحصر فيها فقط وإنما يمتد أيضاً إلى الصناعة على اختلاف أنواعها. وفي جامعاتها اليوم أكثر من 105 آلاف طالب جامعي، ونحو خمسين في المئة من طلاب الدراسات العليا في الفروع العلمية المختلفة.‏
                  من ناحية أخرى، فإنّ إسرائيل تنفق "260" مليون دولار سنوياً على البحث العلمي، معظم هذه المبالغ تأتي من الحكومة، يضاف إليها مبلغ "70" مليون دولار يأتي سنوياً من مصادر خارجية، ويصرف على برامج الأبحاث العلمية في الجامعات.‏
                  في إسرائيل اليوم نحو 1800 شركة أبحاث وتطوير، بما في ذلك شركات ناشئة جديدة لتصنيع برامج الكومبيوتر التي تصدّر وحدها ماقيمته 20 مليون دولار سنوياً. ونجد على الأقل 30 عاملاً من أصل كل ألف عامل في إسرائيل يعملون في قطاع البحث والتطوير. وحوالي 2,3 في المئة من إجمالي الناتج المحلّي المدني تذهب إلى مجال الأبحاث والتطوير. حيث توجّه 60 بالمئة من هذه الأموال إلى فرع الإلكترونيات الذي يشمل المجالات الآتية: الاتصالات اللاسلكية، ومعلومات الاتصال، والإلكترونيات الطبيّة، وأجهزة الدفاع، وبرامج الكومبيوتر، وفي السنوات القليلة الماضية أصبحت الإلكترونيات تحتل المرتبة الأولى في القطاع الصناعي الإسرائيلي، فبلغت صادراته عام 1995 4,3 مليار دولار، وتجاوزت عام 1996 ستّة مليارات دولار. علماً أن أكثر من 40 ألف شخص يعملون اليوم في هذا المجال ثلثهم من خرّيجي الجامعات، ونحو 60 في المئة منهم من المهندسين والتقنيين أصحاب الخبرة العالية. وارتفع الدخل السنوي الفردي للعاملين في هذا القطاع من 46 ألف دولار سنوياً عام 1984 إلى 150 ألف دولار في أواسط التسعينيات، أي أنّ المهندس الإلكتروني يتقاضى ماقيمته 12 ألف دولار كراتب شهري.‏
                  وطبقاً للأرقام والإحصاءات الصادرة عن "المكتب الوطني للإحصاء الإسرائيلي"(39)، والتي وزّعها الوفد الإسرائيلي إلى "المؤتمر الدولي حول العلوم"، الذي انعقد في "بودابست" (هنغاريا)، بتاريخ 26 تموز/ يوليو 1999 (وهي لا تشمل الإحصاءات المتعلقة بالإنفاق على الأبحاث وتطوير التكنولوجيا العسكريّة)، فإنّ الإنفاق على البحث العلمي والتطوير (في القطاع المدني فقط)، زاد من 5 في المئة عام 1997 إلى 7 في المئة عام 1998 وهو في ارتفاع متواصل.‏
                  وقدّرت الزيادة في الإنفاق على البحث العلمي في مؤسّسات التعليم العالي بحوالي 5-6 في المئة. ويبلغ حجم الإنفاق على البحث العلمي في إسرائيل ما يزيد عن 20 مليار شيكل.‏
                  وبلغت حصّة الإنفاق على البحث والتطوير في القطاع المدني حوالي 9,8 مليارات شيكل(NIS)، أي ما يوازي 2,6 في المئة من حجم إجمالي الناتج القومي(GDP)، وهو كان عند 2,3 في المئة لعام 1995، تضاف إلى هذا المبلغ، المبالغ التي تنفقها الشركات الأجنبية والمؤسّسات التجارية والقطاع الخاص بشكل عام على البحث والتطوير، والذي بلغ وفقاً للإحصاءات نفسها نحو 5,6 مليارات شيكل (1998). وهو يعادل ما نسبته 52 في المئة من نسبة الإنفاق الوطني العام على البحث والتطوير.‏
                  وبالمقارنة مع الدول الصناعية المتقدّمة بلغت نسبة الإنفاق على البحث والتطوير في القطاع المدني في إسرائيل نحو 2,6 في المئة من إجمالي الناتج الوطني، بينما بلغت النسبة للقطاع ذاته 3.3 في المئة في السويد و2,7 في المئة في سويسرا واليابان، وهي تراوح من 2 إلى 2,6 في المئة في كل من فرنسا والدانمارك والولايات المتحدة، وما يراوح بين 0,5 ـ 1,9 في المئة في بقية الدول المتقدمة.‏
                  وتبلغ نسبة ما تنفقه "وزارة العلوم" الإسرائيلية أعلى نسبة بين الوزارات والمؤسّسات والإدارات التي تنفق على البحث والتطوير، إذ تصرف ما نسبته 8 في المئة من مجموع ما تصرفه بقية المؤسّسات الحكومية على البحث العلمي. وتتناول مهمّات "وزارة العلوم" تطوير العلوم والمعارف وبناء بنىً تحتيّة تؤمّن مقوّمات العلوم النظرية البحتة والتطبيقات الصناعية، وإجراء التجارب التكنولوجية والتطبيقية، يلي ذلك ما تنفقه "وزارة الطاقة"، التي توزّع أعمالها على العلوم الجيولوجية، والأراضي والمياه وغيرها.‏
                  ومن ناحية ثانية فإنّ الموازنة الحكومية للتعليم العالي في إسرائيل تصل إلى حوالي 5,474 مليارات شيكل، ويبلغ معدّل ماتصرفه حكومة إسرائيل على البحث والتطوير المدني في مؤسّسات التعليم العالي ما يوازي 30,6 في المئة من الموازنة الحكومية المخصصة للتعليم العالي بكامله، ويصرف الباقي على التمويل الخاص بالرواتب، والمنشآت، والصيانة، والتجهيزات... الخ. علماً أنَّ المؤسّسات التجارية والصناعية والكيبوتزات تنفق ضعفي ما تنفقه الحكومة على التعليم العلاي.‏
                  ويتبيّن من خلال ما ينشره "المكتب الوطني للإحصاء"، أنّ إسرائيل تعتمد بشكل كبير على المراكز البحثية القائمة داخل الجامعات ومؤسسات التعليم العالي. وتبلغ معدّلات الإنفاق الحكومي على البحوث داخل الجامعات أعلى نسبة في العام أي حوالي 30,6 في المئة، بينما يصرف قطاع الأعمال والتجارة ما نسبته 52 في المئة من الإنفاق العام على الأبحاث والتطوير.‏
                  وفيما يلي بعض وحدات تمويل البحث والتطوير المدني داخل مؤسّسات التعليم العالي:‏
                  1 ـ المؤسّسات ذات المنفعة العامّة (NON PROFIT) وهي تمثّل نحو 120 مؤسّسة، منها 35 مؤسّسة عامّة و85 مؤسّسة خاصّة تموّل أبحاثاً ذات طابع عام، كالأبحاث حول الصحّة والزراعة والاجتماع وغير ذلك.‏
                  2 ـ مؤسّسات التعليم العالي:‏
                  وينضوي تحت هذا العنوان: الجامعة العبريّة، جامعة إسرائيل الفنيّة، جامعة تل أبيب، جامعة بار إيلان، جامعة حيفا، جامعة بن غوريون، ومعهد وايزمان للعلوم وغير ذلك من المعاهد.‏
                  ويجري تمويل البحث العلمي داخل الجامعات كما يلي(40):‏
                  1 ـ "30,6" في المئة من الموازنة الحكومية المخصّصة للتعليم العالي من داخل الموازنة العامة للدولة، وتوازي قيمتها حوالي 1274 مليار شيكل، وهي تموّل النشاط البحثي المدني داخل الجامعات.‏
                  2 ـ تمويل بحثي خاص داخلي (إسرائيلي)، وهي أموال تصرفها المؤسّسات والشركات والأفراد على البحث والتطوير المدني داخل الجامعات، وعلى مشاريع تطلبها الجهة الممولة.‏
                  3 ـ تمويل الأبحاث من مؤسّسات داخلية. حيث تضم كل مؤسّسة من مؤسّسات التعليم العالي على صندوق للتبرّعات خاص بالبحث العلمي، تموّله المؤسّسات الحكومية من خارج الموازنة العامة للدولة والمؤسّسات غير الحكومية، ويوضع بتصرّف الأساتذة والباحثين للقيام بأبحاث تحت الطلب.‏
                  4 ـ منظّمات يهوديّة وحكوميّة لتمويل الأبحاث العسكرية والمدنيّة.‏
                  ممّا يرفع نسبة الإنفاق على البحوث العلمية داخل مؤسّسات التعليم العالي إلى ما يزيد عن مليار دولار تقريباً.‏
                  ولابدّ من الإشارة إلى أنّ عدد الباحثين في إسرائيل يتجاوز 135 باحثاً لكلّ عشرة آلاف نسمة، فيما تبلغ النسبة في الولايات المتحدة 85 باحثاً للعدد نفسه من السكّان، ممّا يدلّ بشكل واضح على مدى الأهمية التي توليها الحكومة الإسرائيلية للبحث العلمي والصناعي والتقني، الذي يبلغ مردوده حوالي 90 مليار دولار سنوياً.‏
                  وتحتلّ إسرائيل المركز الثالث في العالم في صناعة التكنولوجيا المتقدمة بعد وادي السيليكون في كاليفورنيا وبوسطن، والمركز الخامس عشر بين الدول الأولى في العالم المنتجة للأبحاث والاختراعات. أمّا بالنسبة إلى عدد سكانّها قياساً إلى مساحتها فهي الأولى في العالم على صعيد إنتاج البحوث العلمية.‏
                  وفي تحقيق أجراه المحرّر الاقتصادي لمجلّة "دير شبيغل"، الألمانيّة ـ "إريش فولات"، حول أثر المهاجرين الروس في الاقتصاد الإسرائيلي، والتقدم التكنولوجي الكبير الذي بلغته بفضلهم(41)، يتبيّن أنه يتم تداول أسهم أكثر من 100 شركة إسرائيلية في البورصة التكنولوجية تجاريها كندا فقط في هذا المجال. وأنّ إسرائيل تصدّر اليوم من بضائع التكنولوجيا العالية 40 في المئة من إجمالي صادراتها. وتنتظر (إسرائيل) هذا العام (1999)، قدوم ما يزيد على ستين ألف مهاجر جديد من الاتحاد السوفييتي السابق، حيث أنّ غالبية المهاجرين القادمين إلى إسرائيل في عام 1999 من "النازحين الاقتصاديين"، الذين ينظرون إلى الانترنت كإنجيل جديد. وربما هم من أفضل الكفايات التكنولوجية الرفيعة والاحتياط القوي في إسرائيل.‏
                  ويعترف الباحث الإسرائيلي "نيسوكوهين" في دراسة له حول صناعة التكنولوجيا المتقدمة في إسرائيل، صدرت في ملّفات "وزارة الخارجية" الإسرائيلية ونشرت على شبكة الانترنت(42)، يعترف أن المهاجرين من الاتحاد السوفييتي السابق استطاعوا سدّ النقص في عدد المتخصّصين في الالكترونيات وفي البرامج بين 1992 و1995.‏
                  إنّ إلقاء نظرة متأنيّة إلى مايجري في قطاع البحث العلمي في إسرائيل ومراقبة التطور المذهل لصناعة التكنولوجيا العالية هناك، واستغلال إسرائيل للانهيار الذي حدث في الاتحاد السوفييتي السابق لتعزيز قدراتها العلميّة في هذا الميدان، وعملها المتنامي على توسيع أسواق لمنتجاتها وجذب رؤوس أموال أجنبية، تجعلنا نعي أيّ تحدٍّ سوف يحمله لنا القرن المقبل في حال تحقق السلام مع إسرائيل. فالمواجهة العلّمية ـ الاقتصادية لزمن السلم ربما قد تكون أصعب بكثير من المواجهة في زمن الحرب.‏
                  ومن أجل استكمال عناصر اللوحة الخاصّة بالتحدّي العلمي ـ التكنولوجي، الذي يواجهه العرب، ننتقل إلى النقطة التالية، ونعني بها القدرات المستخدمة في مجال البحث العلمي والتكنولوجيا.‏
                  ب ـ على الجانب العربي:‏
                  تحدّثنا في بداية البحث عن توزّع المشاعر والرغبات والاتجاهات إزاء الخيار النووي بين الأكاديميين والكتّاب والصحفيين العرب، واستنتجنا أنَّ هذه الآراء والأطروحات على اختلافاتها كانت تدعو إلى الاستفادة القصوى من المنجزات الكبيرة للتطور العلمي ـ التكنولوجي المعاصر، وبناء قاعدة اقتصادية متطورة تحميها قوة ذاتية رادعة. وأنه للوصول إلى هذه الغاية، لابدّ من مراجعة شاملة وجديّة لإمكاناتنا وقدراتنا المبعثرة، والمفتقرة إلى التجميع والحشد العقلاني والتخطيط العلمي، والرؤية الاستراتيجية المستقبلية للبحث العلمي والتقانة المتقدمة، لمواجهة الاحتمالات القادمة، السلمية أو غير السلمية. وإن الاعتماد على الذات والقدرات العربية الفعلية القائمة والممكنة، والتي يجب أن تتكامل، هو خيارنا الاستراتيجي، الذي يجب أن يقوم على معرفة تامة ودقيقة لواقع قدراتنا الراهنة في ميدان البحث العلمي والتطوير والتقانة العالية.‏
                  وقد يكون من الصعب وغير المجدي المطالبة باستراتيجية عربية قومية في مجالات البحث العلمي والتطوير والتقانة في ظلّ التعثر الحالي في مسيرة العمل العربي المشترك، بل يمكن التأكيد أنّ مثل هذه الاستراتيجية شبه غائبة على الصعيد القطري أيضاً، وإن بدأت الدول العربية تولي اهتماماً لابأس به لهذه المسألة في العقد الأخير بصفة خاصّة. والحقيقة إنَّ عدداً لا يستهان به من الدول العربي لا يهتم بالتخطيط طويل المدى، وحتى إذا اهتمت بعض الدول وأصدرت خططاً طموحة، فإنها عادة لا تنفذ أو يخضع تطبيقها لأهواء السياسة وتقلّباتها(43).‏
                  وفي ما يتصل بالقدرة النووية هناك إشكالية تتعلّق بضعف الإمكانيات الاقتصادية. فالدخول في مشروع لإنتاج الكهرباء (من الطاقة النووية) أو لإنتاج أسلحة نووية يتطلب عدة مليارات من الدولارات، وهي تكلفة لا تعوض إلا بعد سنوات طويلة. إضافة إلى نقطة هامة جداُ تتمثّل في أن الاعتماد (في إقامة محطّة نوويّة) على الخبرات والمساعدات الأجنبية سيعرّض المشروع كلّه إلى مخاطر كثيرة، في طليعتها سحب الخبراء وإيقاف المساعدات وغير ذلك من مخاطر وضغوط.‏
                  ولعلّ حالة مصر ومشروعها الطموح الذي بدأ في أواخر الخمسينيات، تشكّل نموذجاً لما أشرنا إليه من مخاطر(44)، فقد حصلت مصر على مفاعل أبحاث صغير من الاتحاد السوفييتي عام 1961 طاقته 2 ميجاوات، أقيم في "أنشاص" بالقرب من القاهرة، والتحق بالعمل فيه عدد كبير من الباحثين المصريين الشباب الذين راكموا خبرات ممتازة، إلاّ أنّ الاتحاد السوفييتي حرم مصر من الوقود النووي المستخدم، والذي يمكن استعماله في إنتاج القنبلة النووية.‏
                  وطبقاً لاستنتاجات الأستاذ محمّد حسنين هيكل، فإنّه في أواخر سنة 1965 وأوائل سنة 1966 كانت المسافة بين المشروع النووي الإسرائيلي وبين المشروع النووي المصري ثمانية عشر شهراً (وفق تقديرات دولية وأميركية كما يؤكّد)(45).‏
                  وحاولت مصر في أواخر الستينيات الحصول على مفاعل أكبر من فرنسا أو ألمانيا، إلاّ أن محاولاتها هذه لم تنجح، وقدمت بالفعل "شركة وستنجهاوس" الأمريكية خطاب نوايا لمصر في هذا الاتجاه عام 1966 ثم توقف المشروع بسبب حرب 1967.‏
                  وفي السبعينيات، وتحديداً بعد حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973 واستعادة العلاقات المصريّة الأمريكية، جرى الحديث عن مشروع طموح لتزويد مصر وإسرائيل بمفاعلات نووية، تستخدم في تحلية مياه البحر وإنتاج الكهرباء(46)، وصدر مرّة أخرى خطاب نوايا من شركة "وستنجهاوس"، لكنّ الولايات المتحدّة تراجعت في عام 1978 عن اتفاقية التعاون في هذا المجال "وفرضت شروطاً اعتبرتها مصر ماسّة بالسيادة.. ورفضتها.. ففشلت المحاولة الثانية"(47).‏
                  وعندما وقّعت مصر على معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية عام 1981 أصبح الخيار النووي المصري محدّداً في أغراض الاستخدام السلمي للطاقة النووية، وبالتالي اختفت القيود ـ الفنية أو المخاوف المباشرة من إنتاج مصر للأسلحة النووية، لكن ظهرت قيود اقتصادية، ولم تختف القيود السياسية. فقد ذكر الدكتور علي الصعيدي رئيس هيئة المحطات النووية المصرية أن "بنك التصدير والاستيراد" الأمريكي أوصى بعدم تمويل المحطة النووية المصرية،كما امتنع "صندوق النقد" و"البنك الدولي" عن مساندة المشروع، ثم جاءت حادثة "تشرنوبيل" والحملات الدعائية الغريبة لتخويف دول "العالم الثالث" ومن ثم لتجمّد المشروع المصري. (علماً أن المحطات النووية زادت في العالم 420 مفاعلاً بعد تشرنوبل).‏
                  وكان تقرير "لمجلس الشورى" صدر في يوليو (تموز) 1987 قد نفى أنّ الأوضاع الاقتصادية أو تكلفة المشروع هي سبب تعثّر المشروع المصري، وأشار إلى قوى خارجية محددة تمنع مصر من الوصول إلى التكنولوجيا النووية(48).‏
                  لكنّ رغم حالة التعثّر التي مرّ بها المشروع المصري، أو ما جرى للمفاعل النووي العراقي (تموز)، فإنّه بإمكان العرب التغلب على كل المعوقات، وامتلاك قدرات نووية إذا امتلكوا الإرادة السياسية، والرؤية الاستراتيجية الواضحة، والعمل الحقيقي للتعاون لتوفير التمويل اللازم وتبادل الخبرات المتوافرة. ودليلنا على ذلك إقامة جمهورية مصر العربية المفاعل النووي البحثي بالتعاون مع الأرجنتين في عام 1998 وقدراته 22 ميجاوات، والذي افتتحه الرئيس محمّد حسني مبارك، وبرفقته الرئيس الأرجنتيني كارلوس منعم في 4فبراير/ شباط 1998، بتكلفة مقدارها 38 مليون دولار، وبإدارة جيل جديد من الشباب الذين امتلكوا ناصية التكنولوجيا النووية الحديثة. وقد وصف السيّد الرئيس محمّد حسني مبارك، المشروع بأنه "يُعدّ مثلاً للتعاون البنّاء والمثمر بين دول الجنوب في مجال العلوم والتكنولوجيا"(49). ويقول الدكتور إبراهيم داخلي ـ رئيس قسم الفلزات بهيئة الطاقة الذرية ـ المشرف على المفاعل الجديد بأنه: "سيحقّق لنا تقدماً ملحوظاً، وسيكون له دور في تنمية القاعدة العلمية التي سيكون لها نصيب من المشاركة في الإنشاء. هذا من ناحية.. ومن ناحية أخرى فإنه سينتج النظائر المشّعة التي تستخدم في الطب والصناعة والزراعة والبحوث"(50).‏
                  وتجدر الإشارة إلى وجود مئات من العلماء والباحثين العرب المؤهلين للعمل في منشآت نووية، إضافة إلى العلماء والخبراء الذين كانوا يعملون في منشآت الاتحاد السوفييتي النووية ويبحثون عن فرص للعمل في أي بلد في العالم.‏
                  وفي حين يقدّر الدكتور هشام فؤاد عدد علماء الذّرة المصريين المتسربين إلى الخارج بالعشرات (والطريف أن منهم من يحضر إلى مصر في إطار تبادل الخبرات مع بعض الدول الغربية.. كالدكتور عبد الرحيم عثمان بكندا)، يؤكد الدكتور عزت عبد العزيز أنّ عددهم يصل إلى آلاف، أغلبهم في أمريكا.‏
                  وبالمقابل استقطبت إسرائيل أربعة آلاف عالم نووي من الاتحاد السوفييتي السابق، يعملون بإمكانات هائلة في "معهد وايزمان"، بتل أبيب، وفي غيره من المعاهد والمنشآت الإسرائيلية"(51).‏
                  ومن ناحية أخرى تُظهر الإحصاءات والمعلومات الخاصة في مجال البحث العلمي العربي (رغم قدمها النسبي وعدم دقتها في الغالب)، أن نتاج البحث العربي ازداد بانتظام خلال الفترة الممتدة من عام 1967 إلى 1995. وكان إجمالي الإنتاج العلمي قد بلغ حوالي ستة آلاف بحث في عام 1995 من مختلف أرجاء الوطن العربي من أكثر من 175 جامعة وأكثر من ألف مركز للبحث والتطوير(52).‏
                  وقد حصل خلال الفترة (1967-1995)، عدد من التغييرات المثيرة للاهتمام. فقد كان هناك توسّع سريع في عدد معاهد التعليم العالي، وهذا التوسّع رافقه في عدد قليل من البلدان توسّع في البحث العلمي والمنشورات العلمية؛ وفي عام 1967 كان نصيب مصر بسكّانها البالغين 25 بالمئة من سكان الوطن العربي، 63 بالمئة من الإنتاج، وبحلول 1995 انخفضت حصة مصر بانتظام إلى 32 بالمئة ولكنها لا زالت تنتج بحوثاً أكثر من نسبتها السكّانية في الوطن العربي(53).‏
                  يُعَدّ مؤشّر عدد العلماء والمهندسين المشتغلين في البحث والتطوير‏
                  (R and D ) لكل مليون نسمة من أهم المؤشرات المعتمدة من قبل منظمة "اليونسكو" في تقويم الواقع التكنولوجي. وتشير بيانات "اليونسكو" إلى أنّ هذا المؤشر قد ارتفع في الوطن العربي من 124 عالماً ومهندساً لكل مليون نسمة عام 1970، إلى 363 شخصاً عام 1990. ورغم هذا الارتفاع إلا أننا نجد أن هذا الرقم لا زال متخلّفاً مقارنة بالمناطق الدولية الأخرى، والتي بلغت عام 1990 ـ 3359 في أمريكا الشمالية، 2206 في أوروبا، و3600 في الدول المتقدمة(54).‏
                  أمّا بخصوص مساهمة الوطن العربي في إجمالي عدد العلماء والمهندسين المشتغلين في البحث والتطوير على الصعيد العالمي، فقد ارتفعت من 0,58 بالمئة عام 1970 إلى 1,47 بالمئة عام 1990. ولكن تبقى هذه النسبة منخفضة جداً مقارنة بمساهمة المناطق العالمية الأخرى. ويستنتج من تحليل عدد العاملين المشتغلين في البحوث العلمية والتطوير، بالنسبة لمؤشّر عدد الباحثين لكل مليون نسمة ـ تفاوت الأقطار العربية فيما بينها، حيث تراوح المعدل مابين "190" باحث لكل مليون في الكويت كحد أقصى، و"22" في اليمن. وعموماً فإن هذا المعدل مازال منخفضاً قياساً للأقطار المتقدمة، والذي بلغ فيها المعدل "3600" باحثاً لكل مليون نسمة.‏
                  وتحتل مصر المرتبة الأولى في أعداد حاملي شهادات البكالوريوس والماجستير والدكتوراه العاملين في مجال البحث والتطوير، حيث كان العدد نحو "27499"، ويأتي بعد ذلك العراق نحو "2011"، ثم السعودية "1878"، أما في قطر فقد بلغ "74" فرداً، ومن تحليل البيانات الخاصّة بمحاور الأبحاث يتضح أنّ الزراعة تستحوذ على حصة الأسد من الباحثين من حملة الشهادات العليا في الأقطار العربية، يليها في ذلك العلوم الهندسية والأساسية، ثم بعد ذلك العلوم الاجتماعية والإنسانية. أما بالنسبة للحقل الصناعي المهم في بناء القاعدة الإنتاجية، فلا يزال عدد الباحثين فيه قليلاً جدّاً.(55).‏
                  وفي ما يتصل بالإنفاق على البحوث العلمي والتطوير ورفع مستوى التكنولوجيا الموجودة، والذي يستخدم في قياس فاعلية عمليات البحث العلمي والتطوير التكنولوجي لعملية التنمية، يتضح أنّ نسبة ما ينفق على البحث والتطوير قياساً إلى الناتج المحلّي الإجمالي، شهد ارتفاعاً في الأقطار العربية من 0,31 بالمئة عام 1970 إلى 0,67% بالمئة عام 1990. وعلى الرغم من هذا الارتفاع ماتزال هناك فجوة كبيرة بين الأقطار العربية والمجموعات الدولية في هذا المجال.‏
                  وتختلف الأقطار العربية فيما بينها من حيث حجم الإنفاق على البحث والتطوير. والملاحظ أنّ نسبة الإنفاق على البحث والتطوير بالنسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي لم تتعد بالمئة في الأقطار العربية كافة لعام 1992. وهي نسبة تبدو ضئيلة عند مقارنتها بمثيلاتها في السويد وفرنسا حيث بلغت 2,9 بالمئة، و2,7 بالمئة على التوالي (63)، في حين كنّا قد لاحظنا في صفحات سابقة أنّ الإنفاق على البحث العلمي والتطوير في إسرائيل (ماعدا العسكري) حوالي 9,8 مليارات شيكل، أي مايوازي 2,6 في المئة من حجم إجمالي الناتج القومي.‏
                  ويبلغ حجم إنفاق إسرائيل على البحث العلمي بشكل عام مايزيد عن مليار شيكل. ووصلت نسبة الزيادة في الإنفاق في هذا المجال إلى حوالي 9 بالمئة في سنة 1999 بسبب تطور الإنتاج (67).‏
                  ويُعدّ القطاع الحكومي الممّول الرئيس لنظم البحث والتطوير في الدول العربية، حيث يبلغ حوالي 80 في المئة من مجموع التمويل المخصّص للبحوث والتطوير مقارنة بـ3 في المئة للقطاع الخاص و8 في المئة من مصادر مختلفة، وذلك على عكس الدول المتقدمة وإسرائيل، حيث تراوح حصة القطاع الخاص في تمويل البحث العلمي 70 بالمئة في اليابان و52 في المئة في إسرائيل والولايات المتحدة والدول الأخرى.‏
                  ومن جهة ثانية فلقد غلبت مهمات التدريس على حملة الشهادات العالية (ماجستير ودكتوراه) في الدول العربية، وانعكس المستوى المنخفض للدعم المالي للبحوث والتطوير في موازنات الجامعات العربية على إنتاج البحوث، التي لم تستنفد سوى 31 في المئة من مجموعة وقت عمل الباحثين كافة. علماً أن الجامعات تستخدم مايزيد عن 19 في المئة من مجموع الاختصاصيين وحملة الشهادات العليا في الدول العربية. يضاف إلى ذلك العلاقة الهزيلة أو المعدومة بين قطاع الصناعة وعالم الأعمال من جهة، ومؤسسات البحوث الجامعية وغير الجامعية من جهة أخرى. مع تركيز اهتمام الأساتذة على القيام بأبحاث بهدف الحصول على الترقيات الأكاديمية، التي لا علاقة لها بأسواق العمل58-.‏
                  والواقع أنّ البلدان العربية ـ بصورة عامة ـ تفتقر إلى سياسة علمّية وتكنولوجية محدّدة المعالم والأهداف والوسائل.. وليس لدينا مايسمّى بصناعة المعلومات، ولا توجد شبكات للمعلومات وأجهزة للتنسيق بين المؤسسات والمراكز البحثية، وليس هناك صناديق متخصّصة بتمويل الأبحاث والتطوير. إضافة إلى البيروقراطية والمشكلات الإدارية والتنظيمية، وإهمال التدريب المستمر سواء على الأجهزة الجديدة، أو لاستعادة المعلومات العلمية ورفع الكفاءة البحثية. ولاشكّ أنّ بلداناً عربية عديدة لديها كل الإمكانات البشرية والبنيوية والأكاديمية والعلمية للتقدم في هذا الميدان، شرط أن تمتلك الاستراتيجية الواضحة للبحث العلمي، وأن تخصّص نسبة معقولة من دخلها الوطني على الإنفاق في مجالات البحث والتطوير، وأن يكون الإنفاق موجهاً بشكل خاص على البحوث القابلة للتطبيق، وإيجاد آليات تنسيق وتعاون بين رجال المال والأعمال والقطاع الخاص من جهة، ومراكز البحث العلمي والتطوير من جهة أخرى(59).‏
                  أمّا بالنسبة إلى الإنتاجية العلمية في الوطن العربي، فالملاحظ هو حجم التفاوت في المساهمة من قطر إلى آخر. ومن المعايير الهامة التي تساعد على إعطاء صورة عن مدى تقدم أو تخلّف البحث العلمي، نشير إلى عدد البحوث وإنتاجية الباحث. علماً أنّ الإحصاءات المتاحة في هذا المجال مازالت قليلة، فقد أظهرت إحدى الدراسات أن ماينشر سنوياً من البحوث في الوطن العربي لا يتعدى "15" ألف بحثاً. ولما كان عدد أعضاء هيئة التدريس نحو "55" ألفاً، فإنّ معدّل الإنتاجية هو في حدود "0,3" وهو وضع يرثى له من حيث الإمكانات العلمية والتكنولوجية في مجال الإنتاجية العربية، إذ يبلغ "10 بالمئة من معدلات الإنتاجية في الدول المتقدمة"(60).‏
                  وقد أشار الباحث العربي المعروف أنطون زحلان(61)، إلى أنّ العلماء العرب أسهموا في الأقطار العربية بنحو ثمانية آلاف بحث علمي في عام 1996 للمجلات الدولية المحكمة. وهو رقم يزيد عمّا أنتج في البرازيل،ويبلغ "60" بالمئة مما أنتج في الصين، و"50" بالمئة مما أنتج في الهند، ويزيد بنسبة "30" بالمئة عمّا نشر في كوريا الجنوبية خلال العام نفسه. في حين كان إجمالي البحوث العلمية العربية في عام 1967 "465" بحثاً، أي أن زيادة حصلت قدرها تسعة عشر ضعفاً في عدد البحوث خلال الثلاثين سنة الماضية. أمّا في الكويت والسعودية ـ على سبيل المثال ـ فقد بلغت الزيادة حوالي مئتي ضعف، وإنّ معدّل البحوث المنتجة بالنسبة إلى الفرد الواحد في كلا القطرين يضاهي الآن هذا المعدّل في دول "النمور الآسيوية". كما أن أقطار مجلس التعاون الخليجي (التي يبلغ سكانها نحو 5 بالمئة من سكان الوطن العربي)، هي الآن في المقدمة في ميدان النشر في الوطن العربي، بل إنّ هذه الأقطار فاقت مصر في عام 1989 (والتي يبلغ سكانها 20 بالمئة من سكان الوطن العربي) وذلك للمرة الأولى. وإن إنتاج السعودية وحده ازداد من نحو "5" بالمئة من إنتاج مصر في عام 1975 إلى "70" بالمئة منه في عام 1995.‏
                  وعموماً يبلغ الإنتاج العلمي للوطن العربي الآن "72" بالمئة من إنتاج إسرائيل، وكان يبلغ "40" بالمئة منه في عام 1967. ومع أنَّ هذا يمثّل تحسّناً، إلا أنه جرى على مدى ثلاثين سنة تقريباً؛ ومثل هذا التقدّم العربي البطيء يشير إلى تعثّر واضح في هذا المجال حالياً، ورّبما كذلك بالنسبة إلى المستقبل.‏
                  وباستثناء بعض الزيادة في تنقل العلماء المصريين وعدد محدود من أساتذة الجامعات السورية في بلدان مجلس التعاون الخليجي، فإنه لا توجد درجة محسوسة من التعاون الحقيقي بين العلماء العرب، كما لا يوجد أي نقل جدّي للعلم والتقانة إلى الأقطار العربية أو فيما بينها.‏
                  والفارق الرئيس بين النشاط العلمي في الوطن العربي وفي أقطار متقدمة في "العالم الثالث" كالصين والهند وكوريا الجنوبية والبرازيل، يكمن في أنّ الأخيرة قد قامت بإنشاء منظومة قومية لنشر المعرفة في أرجاء القطر؛ ولم يتم بعد تطوير مثل هذه المنظومة في الوطن العربي. بمعنى آخر أنّ الأقطار العربية لم تنتفع بعد من قوى العلم والتقانة المتقدمة إلا على نطاق ضيّق، بالرغم من الموارد المتنوعة والكثيرة التي يمكن استثمارها في هذا المجال.‏
                  بل إنّ وجود اثنين وعشرين قطراً عربياً أصبح يعني أن هناك اثنين وعشرين حاجزاً أمام انتشار تقدم علمي تحقق في أحد هذه الأقطار إلى أقطار أخرى. والمشكلة حتى أكثر خطورة من ذلك، فغالباً ما لا يجد الباحث طرقاً مناسبة لنشر نتيجة ما توصل إليه حتى في قطره، أو القطر الذي أجرى فيه بحثه.‏
                  ليست هناك قاعدة بيانات عربية عن النشاط العلمي الجاري، وليست هناك قاعدة بيانات عن هذه المعاهد أو المراكز والهيئات التي تجري البحث والتطوير، وليست هناك وسائل مناسبة أو متوفرة بيسر لنشر النتائج التي يتوصل إليها العلماء أو نشر خبراتهم، وليس هناك وسائل مباشرة وفعّالة لنقل الخبرة إلى المؤسّسات الصناعية العربية، أو مكاتب الاستشارات، أو شركات المقاولات العربية(62).‏
                  وقد توقفنا في الفصل الثالث عند "هجرة الأدمغة العربية" وتأثيراتها الكبيرة على عملية التنمية العربية، ولاسيّما ما تسببه من خسائر مادّية وعلمية للأقطار العربية.‏
                  ونضيف هنا مثالاً واحداً وحسب على نوعية الكفاءات العربية المهاجرة إلى الغرب، فهناك حوالي عشرة آلاف مهاجر مصري يعملون في مواقع حسّاسة بالولايات المتحدة الأمريكية (63)، من بينهم ثلاثون عالم ذرّة يخدمون حالياً في مراكز الأبحاث النووية، ويشرف بعضهم على تصنيع وتقنية الأسلحة الأمريكية الموضوعة تحت الاختبار، مثل الطائرة"ستيلث 117" والمقاتلة "ب2" و "تي 22" كما يعمل 350 باحثاً مصرياً في الوكالة الأمريكية للفضاء (ناسا) بقيادة العالم الدكتور فاروق الباز، الذي يرأس حالياً "مركز الاستشعار عن بُعد" في "جامعة بوسطن". إضافة إلى حوالي ثلاثمائة آخرين، يعملون في المستشفيات والهيئات الفيدرالية، وأكثر من ألف متخصّص بشؤون الكومبيوتر والحاسبات الآلية، خاصة في ولاية "نيوجرسي" التي تضم جالية عربية كبيرة.‏
                  ويُشار هنا إلى مساهمة عدد من أساتذة الجامعات المصريين في تطوير العديد من الدراسات الفيزيائية والهندسيّة في الجامعات ومراكز الأبحاث الأمريكية، وخاصّة في جامعة كولومبيا في نيويورك وجامعتي بوسطن ونيوجرسي. وهنا أوجه أعظم التهاني للعالم المصري الكبير أحمد زويل، الذي منح جائزة نوبل للكيمياء في هذا العام 1999، وهو الذي يعمل في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، وفوزه بهذه الجائزة شرف لنا جميعاً.‏
                  وعموماً فإنّ خسارة القدرات البشريّة المتخصّصة، تفقد العرب للتكنولوجيا، وفوزه بهذه الجائزة شرف لنا جميعاً.‏
                  وعموماً فإنّ خسارة القدرات البشريّة المتخصّصة، تفقد العرب مورداً حيوياً وأساسياً في ميدان تكوين القاعدة العلمية للبحث والتكنولوجيا، وتبدّد الموارد المالية العربية الضخمة التي أنفقت في تعليم هذه المهارات البشريّة وتدريبها، والتي تحصل عليها البلدان الغربية بأدنى التكاليف. ففي وقت هاجر فيه أو أجبر على الهجرة، أو جرى "تطفيش" مئات ألف الكفاءات العربية إلى الولايات المتحدة وكندا وأوروبا الغربية، تدفع البلدان العربية أموالاً طائلة للخبرات الدولية. الأمر الذي يحمّل المشروعات الصناعية العربية تكاليف إضافيّة (للخدمات الاستشاريّة والعمولات والرشاوى والتلاعب بالأسعار)، بنسبة تتراوح بين 200-300 بالمئة مقارنة بالتكاليف الدوليّة، وأنّ قيمة الارتفاع في هذه التكاليف خلال خمس سنوات فقط (مابين 1975 و1980)، بلغت 25 مليار دولار، أي أكثر من إجمالي الإنفاق العربي في مجالات التعليم والبحوث والتقانة في المدّة من 1960 إلى 1984 (64).‏
                  ثالثاً:ما العمل من أجل تأسيس قاعدة عربيّة‏
                  للبحث العلمي والتكنولوجيا؟!‏
                  1 ـ تنفيذ الاستراتيجية العربيّة الموحّدة في مجال البحث العلمي والتكنولوجيا، ويمكن البدء بمشروعات بحثيّة مشتركة في تخصّصات وميادين، تهمّ الأطراف بصورة شبه عامّة وتحتاج إلى تضافر جهود العلماء والإمكانات الجماعية، مثل مشكلة الموارد المائية والتصحّر والأمراض البيئية.. الخ. فقد شدّدت "استراتيجيّة تطوير العلم والتقانة في الوطن العربي" المُقرّة في عام 1988 65-، على التعاون بين شبكات ومؤسسات البحث العربية، وضمّ هذه القدرات في هيئات بحثية مشتركة ذات اختصاصات متنوعة.وعلى سبيل المثال، فإنّ خمسين ألف عالم بحث وتطوير ينضوون تحت لواء منظومة علم وتقانة متطورة سينشرون سنوياً حوالي مائة ألف ورقة بدلاً من ستة آلاف ورقة التي سينشرونها في الوطن العربي. ومستوى الناتج القومي الإجمالي المرتبط باقتصاد يملك منظومة علم وتقانة وخمسين ألف عالم بحث تطوير سيكون على الأرجح أكبر بخمسة أضعاف إلى عشرة من معدل الخمسمائة مليار تقريباً الذي وصل إليه إنتاج البلدان العربية.‏
                  وإنّ مواجهة الأخطار والتحدّيات لن تكون مثمرة وجذرية إنْ بقيت على مستوى قطري منفرد. ونشير هنا إلى أن "السوق الشرق أوسطية" التي تروّج لها إسرائيل والدوائر القريبة منها، تعني التخطيط للهيمنة الاقتصادية والسياسية والثقافية والعلمية والتقنية الإسرائيلية على المنطقة العربية، بدءاً من ربط عدد من الدول العربية بجملة من الاتفاقيات والمشاريع المشتركة مع إسرائيل. وبذلك يتم تفتيت الكيان العربي إلى مناطق وجزر معزولة عن بعضها.‏
                  2 ـ زيادة حصة الإنفاق على البحث العلمي والتطوير في موازنات الأقطار العربية، بحيث ترتفع نسبتها إلى 2 بالمئة من الناتج القومي الإجمالي لكل قطر عربي، وعدم إخضاع البحث العلمي والتطوير للخطط التقشفية للأقطار العربية.‏
                  وليس من الحكمة والصواب أن تدخل البلدان العربية في منظمات واتفاقيات دولية، مثل "الجات" و"الشراكة الأوروبية ـ المتوسطية" وغيرها دون رفع مستوى المنظومات العربية القائمة حالياً في مجال العلم والتقانة، وهو أمر ستكون له عواقب وخيمة على الاقتصادات العربية الضعيفة والهشّة والتابعة أصلاً.‏
                  ومن المعروف اعتماد الغالبية العظمى للأقطار العربية على سياسات التواكل التقاني شبه الكلّي، فهي تستورد المعدّات وقطع الغيار (التي تتزايد مع مرور الزمن حتى تتجاوز بكثير ثمن المعدّات والمصنع كلّه). والخدمات الاستشارية وخدمات المقاولة.. الخ. والتأثير الاقتصادي لهذا الاعتماد شبه الكلّي يشكل كارثة حقيقية على الاقتصاديات العربية، في وقت تعصف البطالة بآلاف الكوادر البشرية العربية، أو وجود قدرات عربيّة في أقطار عديدة لحلّ أغلب المشكلات في هذا المنحى.‏
                  إنّ زيادة حصة الإنفاق على العلم والتقانة ليس أمراً مقصوداً بذاته، بل يجب أن تحصل وفق استراتيجية أو "سياسة علم"، تقوم على تحرير اقتصاداتنا من وضعها الراكد والتواكلي والمضطرب. فمستقبل الوطن العربي سيتقرر تبعاً لقدراته على الانتقال من اقتصاد ريعي إلى اقتصاد ذي عناصر متكاملة، تدعمه سياسة واضحة ومؤثرة في مجال العلم وتكوين قاعدة عربية للبحث العلمي والتكنولوجيا المتقدمة. ويمكن للعرب الاستفادة من تجارب البلدان المصنعة في جنوب شرق آسيا، التي ركّزت على التوسع السريع في المشاريع المتوسطة والصغيرة في تطوير قاعدة جيدة للتكنولوجيا العصرية، وتشكيل قاعدة بشرية عالية الكفاءة بإمكانات وطنية، وبدعم من الحكومات عن طريق الإعفاءات من الفوائد وخفض الضرائب وغير ذلك من إجراءات.‏
                  3 ـ الاهتمام بالعلماء والباحثين في الجامعات ومراكز البحوث، وتقديم الحوافز الماديّة والمعنوية لهم، وعدم إخضاعهم (والمؤسّسات البحثية والعلمية)، للبيروقراطية، واللوائح التنظيمية ـ الإدارية المتخلفة. فلابدّ ـ إذا ما أردنا تسريع وتأثر البحث العلمي والتطوير التكنولوجي ـ من منح تسهيلات وامتيازات وحوافز تشجيعية للمرافق البحثية وللعاملين فيها، بغية دفع عجلة الإنتاج في هذا المجال، وإيقاف النزيف الخطير في "الأدمغة" والكفاءات العربية إلى الدول المتقدمة.‏
                  إنّ ذلك يعني ضرورة خلق بيئة ملائمة لربط العلم وأطره البشريّة المؤهّلة بسياسات تنموية شاملة، تقوم على الاستفادة القصوى من الطاقات والكفاءات العربية، ومنحها الفرصة الحقيقية للمشاركة في جهود التنمية كي لا تلحق بالكفاءات العربية التي هاجرت إلى البلدان المتقدمة.‏
                  وبرأينا فإنّ البُعد القومي للنهضة المجتمعيّة ـ الاقتصادية، والاستثمار العربي المشترك لمواردنا الهائلة (المشتَّتة)، يشكّلان الأرضية، التي تمهّد لإبداع عربي كبير في المجالات الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية، وبذلك نواجه التحدّي العلمي ـ التكنولوجي كجزء من التحدّي الحضاري الشامل، وهو ما يستدعي ربط الجامعات والمراكز البحثية بالمؤسسات الإنتاجية، بحيث يكون لأبحاثها دور عملي ملموس وتطبيقي في المصانع والمزارع وفي الوحدات الإنتاجية، وفي معالجة أمراض البيئة المستوطنة، وإيقاف زحف الصحراء.. والأميّة وشحّ المياه.. الخ.‏
                  4 ـ فتح قنوات التفاعل والتنسيق وتبادل الخبرات بين مراكز البحوث العربية والمراكز المماثلة لها في الدول المتقدمة علمياً وتكنولوجياً، والتركيز على الاستفادة من خبرات المجتمعات النامية، التي قفزت إلى مصاف البلدان المُصنِّعة، واقتباس منها مايناسب بيئتنا الاجتماعية والاقتصادية والعلميّة.‏
                  ونشير هنا إلى ضرورة الاستفادة من الكفاءات والأُطر البشريّة العلمية العربية المهاجرة، من خلال تنظيم مؤتمرات للعلماء والخبراء والباحثين العرب المغتربين في الأقطار العربية، وطلب مساعدتهم وخبراتهم، وتبادل المشورة الدائمة معهم للإطلاع على أحدث الابتكارات والاختراعات والتطبيقات الحديثة في مجالات البحث والتطوير. ونقترح إقامة مشاريع مشتركة مع رجال الأعمال من أصل عربي، وإعادة ربطهم بوطنهم وقضايا أمتهم. فالعرب ـ مجتمعين ـ يملكون طاقات بشرية ومادّية وإبداعية هائلة، ينقصها التنسيق والعقلانية والتخطيط والحشد والتوجيه الصحيح، والإرادة الجماعية الصادقة والحرة. فليس من المعقول أن يستثمر العرب خارج الوطن العربي "65" دولاراً مقابل دولار واحد داخل الوطن العربي. وعندما نقول إنّ إمكاناتنا هائلة، فإنّ الواقع يؤكّد هذه الحقيقة. فكليّة الهندسة في جامعة القاهرة وحدها يعمل فيها سبعمائة أستاذ من حملة الدكتوراه ومن ذوي الخبرات العالية. ومع ذلك فإنّ أقطار عربيّة تستقدم أعداداً كبيرة ممّن يُطلق عليهم لقب "الخبراء" من الدول الأجنبية (وقد يكونون من آسيا وغيرها)، حيث يتقاضون بساعات أكثر ممّا يُدفع لأمثالهم من العرب لأشهر؟!1 (فالمثل يقول "زامر الحيّ لا يُطرب!!). والأمر نفسه ينطبق على أوضاع وحالات "عجائبية" عربية لا حصر لها.‏
                  فالمشكلة الحقيقية ليست مشكلة علم وتكنولوجيا، بل هي مشكلة عقلية تحكمها مفاهيم القبلية والريعية، والخوف من القريب.. والشكّ بكلّ مايمتّ إلى العرب بصلة. يقابل ذلك ـ في الوقت نفسه ـ الاستسلام التام للغريب، والثقة المطلقة بنواياه ومخططاته، وتسليمه مقاديرنا الاستراتيجية والاقتصاديّة والمالية والمستقبلية.‏
                  فلابدّ من تغيير لهذه العقلية المتخلّفة ومفرزاتها، في إطار تغيير مجتمعي بنيوي قائم على دراسات تنبؤيّة ذات طبيعة مستقبلية استراتيجية شاملة، تأخذ بحسبانها التكامل العربي، والاستغلال العقلاني الأمثل لمواردنا العلمية والمالية والطبيعية، والبشرية بوجه خاص.‏
                  الهوامش:‏
                  1 ـ انظر في هذا المجال: جريدة "البيان"، الصادرة في "أبو ظبي"، العدد رقم "6570"، 19 صفر 1419 هـ/ 14 حزيران (يونيو) 1998، ص 21.‏
                  2 ـ زكريا نيل، "العرب... في مفترق طرق.. فإلى أين؟؟".. في "الأهرام"، 13 يونية (حزيران)، 1998، ص 11.‏
                  3 ـ المصدر نفسه.‏
                  4 ـ انظر: د.عبد المنعم سعيد، "مصر والسلاح النووي" ـ في "الأهرام" 8 يونيو (حزيران) 1998، ص 27.‏
                  5 ـ نوقشت هذه المسألة الإشكالية بصورة دقيقة وتوثيقية مفصّلة في ملف خاص نشرته مجلّة "السياسة الدوليّة"ن الصادرة عن مؤسسة الأهرام، السنة الواحدة والثلاثون، العدد "120" أبريل (نيسان) 1995، القسم الخاص بمناسبة مؤتمر التمديد والمراجعة لمعاهدة منع انتشار الأسلحة النووية (NPT) ص 47-106. كما أنّ هذا المؤتمر سيناقش في محاوره العديدة جملة من القضايا المتصلة بالمبادرة المصرية بإنشاء منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل، والمعاهدات والاتفاقيات الدولية، حول عدم انتشار الأسلحة النووية.. واحتمالات ومحاذير استخدام السلاح النووي في الشرق الأوسط، ومستقبلاً لخيار النووي في المنطقة...الخ.‏
                  6 ـ انظر: أمين هويدي "نزع السلاح النووي والأمن القومي العربي"، ـ في جريدة "الحياة"، 3 كانون الأول/ ديسمبر 1996، الموافق 22رجب 1417هـ/ العدد "12335"‏
                  ص 17.‏
                  7 ـ انظر: أمين هويدي "نزع السلاح النووي والأمن القومي العربي"، ـ في جريدة "الحياة"، 3 كانون الأول/ ديسمبر 1996، الموافق 22رجب 1417هـ/ العدد "12335"‏
                  ص 17.‏
                  8 ـ انظر: الدكتور أمين إسبر، السلام والتسلّح النووي (دمشق:منشورات اتّحاد الكتّاب العرب، 1995)، ص 120 ـ 124.‏
                  9 ـ لمزيد من المعلومات عن التجربة الإسرائيلية على الصاروخ (آرو ـ 2)، انظر: اللواء أركان حرب متقاعد حسام سويلم، "تصاعد التجربة الصاروخيّة من حولنا"، ـ في صحيفة "الأهرام"، 16 أكتوبر/ تشرين الأول 1998، ص 10.‏
                  10 ـ انظر له أيضاً: "الصاروخ الإسرائيلي يدخل الخدمة"، ـ في صحيفة "الحياة"، 27 تموز "يوليو"، 1998، الموافق 3 ربيع ثاني 1419هـ/العدد"12928"، ص 8.‏
                  11 ـ كاظم نوري، "إسرائيل تتربّع على بحيرة من الأسلحة الجرثومية والكيماوية"، ـ في صحيفة "الشرق الأوسط"، 16/10/1998، العدد "7262"، ص 10.‏
                  12 ـ انظر: جيفري أرونسون، "تعهّد أمريكي بضمان التفوّق العسكري الإسرائيلي"، ـ في مجلّة "الوسط" الأسبوعية، الصادرة في "لندن" العدد "400" 27/9/1999، ص 22-23.‏
                  13 ـ المصدر نفسه.‏
                  14 ـ ألوف بن، "لا ولن تدخلوا المخزن"، ـ في صحيفة "هآرتس"، عدد 14/9/1999.‏
                  15 ـ حول هذه المسألة، انظر:اللواء عبد المنعم كاطو: "نفقات الدفاع في منطقة الشرق الأوسط"، ضمن "سلسلة دراسات شهرية"، التي يصدرها "المركز العربي للدراسات الاستراتيجية"، (المقرُّ الرئيس بدمشق)، السنة الرابعة، العدد "19" لعام 1999.‏
                  16 ـ صلاح الدين حافظ، "وكيف نمنع نشوب حروب جديدة؟!"، في صحيفة "الأهرام" 14/ أكتوبر/ تشرين الأول / 1998، ص 11.‏
                  17 ـ للاطلاع على مزيد من المعلومات التفصيلية حول هذه المسألة، انظر: د.سلمان رشيد سلمان، الاستراتيجية النووية الإسرائيلية (بيروت: دار الطليعة، 1988)، الذي استقينا منه معظم معلوماتنا في هذا المجال.‏
                  18 ـ د.سلمان رشيد سلمان، السلاح النووي والصراع العربي الإسرائيلي (بيروت: دار ابن خلدون، 1978)، ص 42.‏
                  19 ـ نقلاً عن د.سلمان رشيد سلمان؛ الاستراتيجية النووية الإسرائيلية، مصدر سابق،‏
                  ص 38.‏
                  20 ـ عن المصدر السابق، ص 39.‏
                  21 ـ د.أنطوان زحلان، العلم والتعليم العالي في إسرائيل (بيروت: مؤسّسة الدراسات الفلسطينية، 1970)، ص 41.‏
                  22 ـ المصدر نفسه.‏
                  23 ـ د.سلمان رشيد سلمان، الاستراتيجية النووية الإسرائيلية، ص 40.‏
                  24 ـ نقلاً عن المصدر السابق، ص 41؛ وكذلك "شؤون فلسطينية"، العدد "43" آذار 1975.‏
                  25 ـ د.سلمان رشيد سلمان، الاستراتيجية النووية الإسرائيلية، ص 42-53.‏
                  26 ـ صحيفة "هآرتس"، 19/7/1980.‏
                  27 ـ نقلاً عن صحيفة "التايمز" اللندنية، 3/12/1974.‏
                  28 ـ نقلاً عن صحيفة "التايمز" اللندنية، 3/12/1974.‏
                  29 ـ انظر: اللواء الدكتور ممدوح حامد عطية (مدير الحرب الكيماوية الأسبق بجمهورية مصر العربية)، "القدرة النووية الإسرائيلية وتأثيرها على الأمن القومي العربي" ـ، ضمن كتاب "تحديات العالم العربي في ظل النظام العالمي الجديد"، أعمال المؤتمر الدولي الأول الذي نظمه مركز الدراسات العربي ـ الأوروبي في 25/1/1993، في باريس (بيروت، ط2، 1997)، ص 502.‏
                  30 ـ مجلّة "نيويورك تايمز"، 12/4/1976.‏
                  31 ـ ل.د. ممدوح حامد عطيّة، "القدرة النووية الإسرائيلية وتأثيرها على الأمن القومي العربي"، في مصدر سابق، ص 503.‏
                  32 ـ نقلاً عن حامي شيلوه في صحيفة "معاريف"، 5/6/1998؛ وكذلك مقالة شمعون بيريس، "بين الهند وباكستان"، في صحيفة "يديعون أحرونوت"، 7/6/1998.‏
                  33 ـ نقلاً عن ل.د.ممدوح حامد عطية، "القدرة النووية الإسرائيلية وتأثيرها على الأمن القومي"، في مصدر سابق، ص 503 ـ 511.‏
                  34 ـ انظر: نص "التقرير السنوي لوزارة العلوم الإسرائيلية"، في صحيفة "النهار" أعداد 7 و8و9/أيلول/ سبتمبر 1999، ص 12.‏
                  35 ـ لمزيد من المعلومات التفصيلية حول هذه الاتفاقات والدول المعنية بالتعاون العلمي مع إسرائيل، انظر صحيفة "النهار"/سبتمبر 1999، ص 12.‏
                  36 ـ المصدر نفسه.‏
                  37 ـ المصدر نفسه.‏
                  38 ـ انظر: رندة حيدر، "المواجهة العلمية أقسى من المواجهة العسكرية"، في صحيفة "النهار"، 7 أيلول/سبتمبر/ 1999، ص 12.‏
                  39 ـ انظر: عبد الحسن الحسيني، "الأبحاث في القطاعات المدنيّة الإسرائيلية والعربية"، ـ في صحيفة "النهار"، 23 أيلول/ سبتمبر/ 1999، ص 12.‏
                  40 ـ انظر بهذا الشأن الجداول: 2 و 3و 4 الملحقة بالمصدر السابق (مقال عبد الحسن الحسيني).‏
                  41 ـ انظر: نص المقال المترجم عن الألمانية من قبل الدكتور عصام الجوهري تحت عنوان: "تحقيق.. عن التكنولوجيا المتقدمة في إسرائيل" ـ في صحيفة "النهار"، 15 أيلول/ سبتمبر 1999، ص 12.‏
                  42 ـ انظر: نيسو كوهين، "صناعة التكنولوجيا المتقدّمة في إسرائيل"، ـ في "النهار"، 16 أيلول/ سبتمبر 1999،/ ص 12.‏
                  43 ـ انظر: الدكتور محمد شومان، "لماذا تأخّر العرب عن العصر النووي؟"، ـ في "الملف السياسي" الأسبوعي، الصادر عن صحيفة "البيان"، (الإماراتية)، العدد "204"، 144 أبريل/ نيسان 1995 ـ 15 ذو القعدة 1418 هـ / ص 4.‏
                  44 ـ المصدر نفسه.‏
                  45 ـ انظر: نصّ المحاضرة، التي ألقاها الكاتب الصحافي الأستاذ محمّد حسنين هيكل في نقابة المحامين في بيروت ونشرت في مجلّة "الشراع"، الأسبوعيّة، السنة السابعة عشرة، العدد "839" 6 تموز/ يوليو 1998، ص 24-33.‏
                  46 ـ الدكتور محمد شومان، "لماذا تأخّر العرب عن العصر النووي؟". مصدر سابق.‏
                  47 ـ انظر: عبد الله كمال وفاطمة سيّد أحمد، "القنبلة العربية.. متى؟"، ـ في مجلّة "روز اليوسف"، العدد "3652"، 8/6/1998، ص 10.‏
                  48 ـ الدكتور محمد شومان، "لماذا تأخّر العرب عن العصر النووي؟"، مصدر سابق.‏
                  49 ـ انظر: الدكتور فوزي حماد، "أنشاص.. ونقلة تكنولوجية جديدة نحو العصر النووي"، ـ في صحيفة "الأهرام"، 29/يونيو/ حزيران 1998، ص 10.‏
                  50 ـ انظر: مجدي دربالة، "هروب علماء الذرّة من مصر"، ـ في مجلة "روز اليوسف"، العدد "3389"، 24/5/1993، ص 25-26.‏
                  51 ـ المصدر نفسه، ص 26.‏
                  52 ـ الدكتور أنطوان زحلان، العرب وتحديات العلم والتقانة: تقدم من دون تغيير (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، 1999)، ص 62.‏
                  53 ـ المصدر نفسه، ص 68.‏
                  54 ـ طه النعيمي، "البحث العلمي والتنمية المستدامة في الوطن العربي"، ـ في "مجلّة أبحاث البيئة والتنمية المستدامة"، المجلد الأول، العدد صفر، 1997، ص 12.‏
                  55 ـ الدكتور نوزاد الهيتي، "دور مركز البحوث في التنمية في الوطن العربي"، ـ في مجلّة "شؤون عربيّة"، العدد "99" سبتمبر/ أيلول 1999، جمادى الأولى 1420 هـ/ص 140 ـ 142.‏
                  56 ـ المصدر نفسه، ص 142.‏
                  57 ـ انظر: عبد الحسن الحسيني، "الأبحاث في القطاعات المدنيّة الإسرائيلية والعربية"، مصدر سابق.‏
                  58 ـ المصدر نفسه.‏
                  59 ـ لمزيد من الاطلاع على آراء عدد من الباحثين والمختصين في هذا المجال، انظر: تحقيق وجيه الصقار، "أبحاث لا تقبل التطبيق"، ـ في "الأهرام"، 4 أغسطس/آب1998، ص 3.‏
                  60 ـ مكتب التربية لدول الخليج العربي: "واقع البحث العلمي في الوطن العربي"، وقائع ندوة: "تطبيق نتائج البحوث لتنمية المجتمع العربي"، مكتب التربية العربي، الرياض، 1990، ص 88.‏
                  61 ـ انظر: أنطوان زحلان، "حال العلم والتقانة في الأمة العربية"، ـ في حال الأمة العربية ـ المؤتمر القومي العربي السابع"، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، 1997)، ص 365 ـ 383.‏
                  62 ـ انظر: الدكتور معين القدومي، "الأدمغة العربية بين الهجرة والتهجير"، ـ في صحيفة "البيان"، الصادرة في "أبوظبي"، 8 ذو الحجّة 1419هـ/25 مارس (آذار) 1999، العدد "6854" ص 10.‏
                  63 ـ نقلاً عن صحيفة "المجد" الأردنية، العدد "150" 17 شوّال 1417هـ/ 24 شباط/ فبراير 1997، ص 1.‏
                  64 ـ "الدكتور محمد رضا محرّم، "تعريب التكنولوجيا"، ـ في مجلّة "المستقبل العربي"، السنة 6، العدد "61" (آذار/ مارس 1984)، ص 77.‏
                  65 ـ انظر:لجنة استراتيجية تطوير العلوم والتقانة في الوطن العربي، استراتيجية تطوير العلوم والتقانة في الوطن العربي: التقرير العام والاستراتيجيات الفرعية، سلسلة وثائق استراتيجية تطوير العلوم والتقانة في الوطن العربي (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1989).‏

                  إذا الشعب يوما أراد الحياة
                  فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                  و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                  و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                  تعليق

                  يعمل...
                  X