إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

ظهور اللوياثان - الأديب حيدر حيدر

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • ظهور اللوياثان - الأديب حيدر حيدر

    ظهور اللوياثان :::
    الأديب الراحل :حيدر حيدر


    بعد
    أن يندحروا في أوحال الهور، فتمتزج دماؤهم بالغرين و مياه المستنقعات، ثم يتهاوى من يبقى في الشوارع و الأزقة و الأقبية برصاص كواتم الصوت و البلطات القاطعة و ضاغطات الكونكريت التي تهشم الرأس بين مخالبها و سائر مستحدثات القتل المستوردة، و ينجو من ينجو هاربا عبر فجاج الأرض، و يعترف من يعترف تحت موجات التهديد و الجبن طالبا الغفران و التوبة، ستهب الريح الصفراء قادمة من أفق الصحاري حاملة الغبار و الرمل و الجراثيم و الحشرات السامة و غضب سنوات المحنة التي سيمحل فيها الزرع و يجف الضرع، فتتوالى أسراب الجراد و تنتشر الأوبئة و الأمراض و الحروب و حالات الجنون، و يصير الموت مألوفا و يوميا مثل شروق الشمس و غروبها.

    في ذلك الزمن
    الغريب، الخارج بلامعقوليته عن تقاويم الفصول، سيحدث ذلك الشيء الرهيب، المخجل للعصور و للبشر، عندما سيسقط من غبار الريح، و في سياق هذر الصحراء النبوية المتعارف عليه داخل العقل الإهليلجي الذي استوطنته الأساطير و الخرافات البدائية، ذلك المسخ الغريب، الذي سيطلق عليه رمزيا عبيد الله بن أبي ضبيعة الكلبي.

    سيقال عن ظهوره فيما بعد على ألسنة العامة و
    شيعته، أنه نبوءة تستند إلى تقاويم انتظار ظهورات و تحولات المهدي المنتظر الذي توارى في سرداب مظلم في أعقاب سنوات الفتنة و الإقتتال الأهلي التي تلت اغتيال أسد الله الغالب، الخليفة المغدور علي بن أبي طالب.

    كالفطريات
    سينبت، بعد أن تقذفه الريح الصفراء الجائحة على سطح الأرض الصالحة كالمزبلة لإنبات كل أنواع الشوكيات و الخبازيات و النفل البري و الرزّين و الحماضيات و القتاد و اللويفة و الصبار الوحشي والتيتان والأكّال الحرشفي والقرّاص والزقوم والحلبلوب السام و الدهموج الدرعي.

    سيولد حاملا في دمه نسغ هذه النباتات، على شكل قنطور أو لوياثان، نصفه الأعلى بهيئة ضبع و النصف الأسفل شبيه سرطان رملي زاحف
    .

    لكنه
    بعد أن يخرج من غبار الصحراء زاحفا نحو المدن، سيعبر أطوارا من التحولات العضوية، كما سيمتلك قدرة خاصة، ربما كانت خارقة للعامة، على الإيحاء بأنه من أرقى البشر الخارقين لمألوف الزمن. و مع مرور الوقت، بعد أن يعتلي عرشه و يوطد ملكه بالقتل و النفي و التجويع فتصبح البلاد تحت سطوته و عيون بصاصيه، سينسى أصله الأول و شكله اللابشري.

    و كما حول شكله
    الحيواني إلى الهيئة البشرية، سيغير اسمه و اسم سلالته، و سينشر بين الرعية تاريخا جديدا لميلاده و فتوته و تمرداته و كفاحه الصلب ضد أعداء الوطن.
    و بطاقة تجديد الشرق لأساطيره و حكاياته السحرية بفاعلية أشعة الشمس الحادة، و الإمتداد الصحراوي، و تناسخ الديانات الغيبية، و هيمنة الخيال الجامح، ستبدأ اسطورة عبيد الله بالتكون و التبلور و الإمتداد على مدى ربع قرن من الزمن، يتداول الناس خلالها معجزات و خوارق هذه الهبة السماوية التي لا تولد إلا مرة واحدة كل ألف من الأعوام.

    و كما كانت تتمجد
    أسماء الأنبياء في العصور السحيقة، فيروي الخلف عن السلف معجزات أولئك الرسل و تجلياتهم، سيروى عنه في الليالي السحرية و في أعماق القرى البعيدة و البوادي المنداة بالوحشة و هذيانات الوحدة اللطيفة.

    رؤى غريبة
    خارقة وصلت إلى أن القبائل و القرى و المدن حجبت كل منها عن الأخرى يوم ولادته، و هي تبشر به بالذبائح و النيران، زاعمة أنه ولد فيها ليلة القدر، و أنه واحد من الظهورات الجديدة لقبب الإمام المنتظر التي تتجلى كل خمسمئة عام.

    و سيقول الناس بعد العام الثاني عشر من ولايته الربانية، أن
    أعلام ملوك الدنيا نكست يوم مولده، كما ستمر وحوش الشرق بوحوش الغرب حاملة البشارات. كما ستبشر به أهل البحار و البوادي و السهوب، منقذا و محررا للبشرية المعذبة. و في كل شهر من شهور حكمه ستبدأ النداءات تخرج من شهب السماء و طيور الأرض: أن أبشروا لقد آن للمنتظر أن يخرج إلى الأرض ميمونا مباركا.

    و سيروى عنه، كما أسلافه الأنبياء، أنه بقي في رحم أمه
    المبارك تسعة أشهر كاملة لم تزد ساعة و لم تنقص، فما شكت أمه وجعا و لا ريحا و لا مغصا، و لا مما يفرض للنساء من ذوات الحمل. كما ستتحدث أمه في الليالي السحرية الغامضة عن يوم مولده. كيف رأت جناح طائر أبيض مسح على فؤادها فأشاح الرعب عنها و الوجع، ثم التفتت فإذا هي بشراب أبيض يشبه اللبن، و كانت عطشى، فشربته فأضاء منها نور عال، ثم رأت نسوة كالنخل الطوال كأنهن من بنات عبد مناف يحدقن بها فصاحت: واغوثاه! من اين علمن هؤلاء بي؟

    ثم يشتد عليها الأمر و هي تسمع الوجيب في كل دقيقة أعظم
    و أهول، فإذا هي بديباج أبيض يمد بين السماء و الأرض، فإذا برعد يأتي من أعماق السماء ليقول: خذوه بعيدا عن أعين الناس. و ترى الأم، و هي تحت المطر الحار و هذيانات ما بعد المخاض، رجالا يقفون في الهواء يحملون أباريق من فضة ترشح عرقا يشبه الجمان و الندى، لها رائحة أطيب من المسك الأدفر و العنبر المعصفر. تحت هذا البخار اللطيف ترف أجنحة من الطير مناقيرها من زمرد و أجنحتها من ياقوت، تغطي سماء الحجرة. في تلك اللحظة السرمدية سيكشف الله عن بصرها و بصيرتها فترى مشارق الأرض و مغاربها، و ثلاثة أعلام: علم في المشرق و علم في المغرب و ثالث على ظهر الكعبة. و في لحظة المخاض ستسمع مناديا ينادي: طوفوا به شرق الأرض و غربها، و أدخلوه البحار كلها، و الكهوف كلها، و السرادق كلها، و قاعات الملوك ليعرفوه. ثم اعرضوه على كل روحاني من الإنس و الجن و الطير و السباع، ليعرفوه باسمه و نعته و صورته، و ليعلموا أنه الماحي و المهلك و القادر و الغازي و الفاتك و آخر الأزمنة. ثم ترى سحابة تعبر بها أعظم من الأولى فإذا نيران متقدة و طيوف أرجوان يسمع داخلها صهيل خيل و خفقان أجنحة و أصوات استغاثات و صراخ الشجر و الأطفال و موتى القبور.

    ثم ترى، و هي تحت أمواج الضياء،
    علما من سندس على قضيب من ياقوت و قد انتصب بين السماء و الأرض، فوقه اتقدت نار بلغت عنان السماء، فإذا بقصور الشام تشتعل نارا و حرائق، ثم ترى أسرابا من القطا و النعام و الدراج تسجد له ناشرة أجنحتها و هي ترتعد.

    ثم
    ترى رجلا من أشد الناس طولا و أتمهم بياضا، يأخذ المولود فيتفل في فمه و معه طاس من ذهب، ثم لا يلبث أن يشق بطنه فيخرج قلبه ليشقه شقا مخرجا منه حصاة في حجم حبة خردل، ثم يمسح على بطنه و هو يرد قلبه إلى مكانه. آنها يستيقظ المولود و ينطق لكن الأم لا تفهم ماذا قال. فيقول الرجل الذي أخرج حبة الخردل من قلبه: أنت خير البشر فطوبى لمن اتبعك و الويل لمن تخلف عنك. ثم يضرب الرجل الأرض بقدمه فإذا ماء ينبثق أشد بياضا من اللبن يغمس فيه المولود ثم يخرجه فإذا وجهه كوهج الشمس و إذا بـريقه يقع على قصور الشام وقوع البرق الصاعق. ثم لا يلبث الرجل الجميل كالملاك أن يلبس المولود قميصا من حرير بلون الدم و يقول له: أمرني ربي عز و جل أن أنفخ فيك من روح القدس. هذا القميص أمانك من آفات الدنيا و دواهيها. فكن كما شاءت لك القدرة العليا و قوتك التي لا راد لها و لا محيد عنها، وريثا لقوة و سطوة الباري في الأرض إلى أن يقضي الله بك أمرا كان مكتوبا.
    سيشاع ذلك في البدايات الأولى، قبل أن تأتي الأزمنة المهلكة والسنوات العجاف: سنوات الظلمة والمسوخة والهوان والجوع والجرب والجراد والجنون، سنوات المقتلة.

    قبل ذلك، ومع بداية الثلث الأخير للقرن العشرين،
    ستشهد بلاد العرب مهرجانات ومناسبات سعيدة واحتفالات غريبة، تتوج ذلك المسخ القنطوري مهديا طال انتظاره في ظلمات السرداب الذي اختفى فيه السليل الثاني عشر الخارج من ضلع الإمام جعفر الصادق. على مدى سنوات طوال سيكون إمام الزمان أو شبيهه. ستقول ذلك الهتافات التي تطلقها الحناجر كالرعد، مهللة بمجده الذي ابتدأ بتصفية أعدائه في الداخل قتلا وسجنا ونفيا.

    وكما
    سيلقى في روعه، من خلال أحلام جنونه الوردية، سيتوهم بأنه وريث الفرسان القدامى الذين انتصروا في القادسية وحطين، ودقوا أبواب بواتييه، آنذاك سيرفع صوته فوق موج الجماهير الزاحفة نحو حلمها صارخا باقتراب فتوحات التوحيد للإمارات المجزأة، وعدا بامبراطورية لا تغيب الشمس عنها، أعظم من الامبراطورية القديمة التي سقطت على يد هولاكو قبل حوالي ألف عام.
    وفي تلك المناسبات والمهرجانات والاحتفالات، سيرسم للناس في الفراغ، خرائط من السعادة وغبطة الأزمنة: بلاد خضراء، مصانع للعمال، مدارس وجامعات مجانية، شعب مسلح، جيش لا يقهر، مفاعلات نووية، حدائق وأوتوسترادات وقصور وستادات رياضية. قوانين ومجالس شعبية. الرجل المناسب في المكان المناسب. لا ظلم، لا طغيان، لا جوع، لا قهر بعد اليوم؛ الوطن للكل والكل وراء القائد الملهم، الخارق، الذي وهبته العزة السماوية، واصطفته روح الأجداد صرخة مباركة من أعماق أجداثها.

    مع بداية العام الثالث بانبعاثه، سيحدث خلل أو تهدج في نبرة الصوت، نوع من التخلخل الفراغي في الخرائط وتكوينات الفضاء
    .
    لقد هزم جيش عبيد الله بن أبي ضبيعة الكلبي أمام الأعداء في أول تجربة حرب
    .

    سيعود
    الجنود الناجون مشتتين ومحطمين ومعفرين بالغبار والدم والعار. لقد قاتلوا وحيدين بلا طائرات ولا صواريخ ولا دعم ولا إسناد مدفعي. في العراء وعلى الطرقات وقرب صخور الأودية تعفنت الجثث تحت الشمس. جنود في عمر الشجر الفتي الناهض سقطوا وهو يقاتلون حتى آخر طلقة، لحظة كان الضباط يفرون كالأرانب، بينما القائد الملهم، الخارق، المطوب من السماء يتحدث عن مجد الشهداء ودمهم الذي يحيي الأرض الموات فإذا هي بين عشية وضحاها مزهرة كأشجار اللوز في الربيع.

    في أكثر من حرب خاسرة سيزج ضباطه وجنوده
    الذين حولهم بالرعب والتصفيات والرشاوى وأكاذيب النصر والتعالي فوق الشعب حماة وسياجا له، إلى أدوات مطواعة مستلبة تتحرك طوع بنانه. وفي كل هذه الحروب مع الأعداء سيعود من يعود ممرغا بوحل الهزيمة ودماء العار، أما من سيموت مرتاحا من هذه المهزلة الأبدية فسيسجله في سجل الشهداء الذي ضاقت بهم مدافن الوطن.

    وفي فسحة ما بين هذه الحروب التمثيلية، المسربلة
    بأوشحة قومية وديكورات من تراجيديا الصراع الكوني بين العدو الغاصب وأحلامه التوسعية، وبين الشعب والوطن، كان يطلق لأولئك الجنود اليد الطولى في طول البلاد وعرضها في النهب وهتك الأعراض واستباحة كل ما هو مقدس وأخلاقي وموروث من التاريخ الوطني لكفاح الأسلاف ومجدهم في تشييد وطن حر ومتحد، تناقضاته تحل بالسبل الديمقراطية وتعدد الأحزاب وصراع الثقافة المتشعبة في اتجاهاتها، لا بقوة السيف والجند والبربرية الطائفية ووحوش الاستخبارات.
    كانت تلك الفسحة في زاوية من زواياها تبدو تعويضا خسيسا عن خسائر الحروب وعار الهزيمة، ونزعة السلطة الاستبدادية الموروثة من قرون طويلة، كما كانت في أصلها الشخصي لهذا الوحش المعاصر، تعبيرا ماديا عن نزعة القرد المأخوذ بوهم جنون العظمة والمنكفئ نحو جذره الحيواني، نحو الطوطم أو زعيم القبيلة المهووس بقطبي شراهة الدم، ودوار التاريخ الذي يؤرق فردا من خلال اختبالات أوهام مديدة الظل.

    هكذا، سيسقط ذلك الكوكب العربي المنبوذ من
    السماء والأرض، تحت أمواج اجتياحات وأعاصير لا صلة لها البتة بالعصور الحديثة. اجتياحات وأعاصير تعود في أساس انبثاقها إلى التسوس القديم للجذر الأول وكسوف الشمس فوق الصحراء اللعينة، وسطوة الزمن البدائي الذي صرخ طغاته قبل ألفي عام: إلى الجحيم العقلاء والشعراء.

    وما كان هناك من
    قوة مادية أو عقلية قادرة على إيقاف انهيار هذا الكوكب المتهاوي في تجليه الكارثي. وكما كان يحدث في العصور القديمة من انبثاقات تشبه الظهور الأسطوري أو الأوبئة التي تقتل قبل معرفة مضاداتها، هكذا جاءت الصحراء اللعينة بهذا الوباء الذي حملته الريح الصفراء. حدث الأمر قبل أن تنير الشمس ظلال القارة التي ماتزال تسبح تحت العصر الجليدي، القارة الواقعة تحت سطوة القانون الدارويني الأول المتشح بالتشوه السلالي والحنين الجارف لأزمنة البوادي وزئير الغابات.

    لقد بدا ذلك الشيء المرعب والمنبئ
    بما سيأتي من ربيع دموي قادم، وهو يتلألأ في تقاويم العصور تحت الهزات وتشققات الأرض، وخراب الوضع البشري، يوحي بأن هذه الأرض كأنما خضعت للعنة وسمتها في غابر الأزمان لحظة أهين الأنبياء الذين حطموا الأوثان وتمردوا على الطاغوت وعبادة الحجر الأصم.

    الشيء الذي يستعاد الآن، داخل
    دورة اللولب للزمان الذي لا يتقدم أبدا، وهو يركع تحت أقدام طوطمه الجديد الخارج من ضلع الصحارى والمتجلي في البشر على شكل سرطان مدرع.
    في غفلة من الزمان وضياع الوعي البشري، جاءنا ذلك اللوياثان المجنون. داهم القارة العذراء بقوة جنده وظلامنا. بدأ عمليات التطهير داخل البلاد ونشر الرعب بدءا من عائلته فعشيرته فطائفته فحزبه فالشعب الذي سطا عليه.

    وكما
    كان القياصرة المعتوهون والممسوسون يرتعدون من كوابيس المؤامرات والاغتياب، كان هو يتخيل في ليالي مجده المؤرقة أن هناك خونة يحيكون ضده مؤامرات اغتيال داخل جهازه الحزبي والعسكري.

    لم تكن تمضي أكثر من
    ستة أشهر على دورة التصفيات الداخلية. كان الأمر يتم على شكل مسرحي للمشبوهين أو الذين لم يعلنوا الولاء المطلق أو الذين ينبسون بانتقادات في الاجتماعات السرية للحزب.

    وكان هؤلاء المتهمون يغتالون سرا في
    منازلهم أو مكاتبهم أو يصدمون بعجلات السيارات في الشوارع، وفي اليوم الثاني تقام لهم جنازات مهيبة كشهداء للوطن.

    ولم تكن سنوات المقتلة
    للمدن والمقابر الجماعية قد أتت بعد. كنا في زمن ازدهار السجون والقتل الفردي والنفي. وكانت حروب مهيار الباهلي الأهلية تتوارى داخل تحولات عصية على الإدراك وهي تندرج في سحب خيباتها.

    وخلافا لتحليلات مهدي جواد
    واعتراضات مسيو عقل الباهلي حول الشراسة والسطوة والبطش كلي القدرة، والنقائض التي تختمر، كان يبدو في الممرات والخلجان المحايدة، وفي التواءات تلافيف الدماغ وبلازما الدم، شيء آخر أعظم هولا ولعنة، وأوغر هوانا وتسفيلا يتمدد كالأميب فوق تلك الأرض. شيء اسمه الهوان أو التواطؤ أو الخوف، كان مايزال يهلل لذلك اللوياثان الدموي الذي سطا بسحره الأرجواني وحركاته الأكروباتية على ملايين ملآنة بأقدارها وشهواتها العضوية.

    تلك الملايين كانت ترى في الأغساق والضحى وهي تطير منومة
    ومسحورة فوق أشعة بنفسجية تصعد نحو السماء بأجنحة ملائكة فوق آبار النفط وهي تردد في ترتيل إلهي سعيد: أبانا الذي في الآبار. أبانا المذهب كنور الشمس. ليتمجد اسمك العظيم وليخلد نور بهائك الخاطف للأبصار. وكالخشخاش السحري لتترسخ بذور سلالتك المقدسة في أعماق الأرض. أيها القدوس الأبدي. آمين.
    تحت ظل هذا الدمار العظيم والهيكل الخرع للسلالات التي خبا وميض نجمها فهوت كشظايا شهب في أعماق الأرض، سيفاجئ عبيد الله الكلبي نفسه حاكما فردا ممجدا ومُهابا بين فسحة الحلم واليقظة. لا يجرؤ على اعتراضه أحد في عصر الرعايا والمملوكين والمقتولين والضفادع وتجار السوق السوداء والمثقفين المسفلسين ببخار النفط و حزبيي الخط اللارأسمالي، فيرتمي في سمعه أنه رسول العناية الإلهية لإعادة مجد الأمة المنتهك، وأنه وريث عظمة الآباء والأجداد الذين يتقمصهم الآن.

    وكما أقام الله مملكته الوهمية في
    فراغ السموات ليدخل في خلود ذاته بذاته، سيقيم ذلك الجنرال المعتوه مملكته داخل النسيج الأرجواني للأرض التي طوبها باسمه. المملكة التي ستزدهر على مدى السنوات الصفراء، متمطية في اهاب لحظتها الأبدية بدءا من زواجاته المقدسة من عذارى القبائل بغية توحيدها أسوة بالرسول الأعظم، مرورا بخطاباته التي سيعدد فيها سلسلة من أكاذيب النصر على الأعداء، انتهاء بتحالفاته الاستراتيجية مع أمراء النفط لتنمية الاقتصاد القومي.


    في
    إطار هذا المسلسل الكابوسي اللانهاية له، سيسترشد أفقه الرصين بعبارة جده الرهيب معاوية بن أبي سفيان: لو كان بيني وبين الناس شعرة لما انقطعت. كلما شدوا أرخيت وكلما أرخو شددت. مقيما من خلال هذه الحكمة الميكافيلية تحالفات من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، وهو يردد في سره: ربي خذ بيدي في مملكتي لآخذ بيدك في مملكتك. ربي زدني أرصدة في الدنيا والمصارف لأزيدنك ابتهالا في الآخرة. ربي لتكن منافعنا متبادلة وليتحقق القصد الذي من أجله ولدتني فأكون طفلك البار على هذه الأرض الفانية.

    كذلك أو ما يشبهه في الرمز الخيالي، سيحدث في عصور العار
    .

    زمن
    على حافة الأساطير، أو هو لبوسها اللامعقول في لحظة انفجارات الفضاء بالأقمار والمحطات الكونية. في ذلك الزمن سيبدأ سليل الآلهة والضباع والسرطانات وإفرازات الحيض الدموي، من خلال رؤاه الإشراقية، صياغة التقويم الجديد، الذي سيدوم أكثر من ربع قرن، بدءا من طوطم الأسرة فالعشيرة فالحزب فالجيش فالاستخبارات: هيكل الدولة القنطورية الحديث، ظل الله أو ظله هو على الأرض.
    و في ذلك الزمن السريالي المتخطي لمدارك الدماغ، و الذي يذكر بعصور ما قبل التاريخ، سيروي المؤرخون و الأنتروبولوجيون و مطاردو علم السلالات، أن تاريخ الشرق و بلاد شبه الجزيرة العربية ليس أكثر من تاريخ الأساطير الدوارة التي تستعاد الآن فوق شاشة الأزمنة الحديثة على شكل رقائق جلدية و آجرات و عفاريت و لصوص و تجار و أمراء و قتلى و سجون و مؤامرات و تجويع و مهانات، منبعها و مصبها في نهاية المطاف، أماسي شهرزاد التي سهر الناس على حكاياتها في بغداد و دمشق، و قد أُدخل عليها في هذا العصر بعض الظلال الروائية غير المبهجة للقلب.

    و كما روت العامة نقلا عن بصاصيه و
    شيوخه و تجار مدنه، بشائر عن قرب انبعاثه و ظهوراته و معجزات ولادته أو رؤى أمه التي حملته كالأنبياء في رحمها المقدس، سيروي الناس من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، حكاية مشروعه التطهيري و تحويل الصحراء القاحلة إلى جنات عدن تجري من تحتها الأنهار.

    ففي لحظة خارقة من لحظات التجلي، و بعد
    أن يكون قد فرغ من ألعابه اليومية من النساء إلى المقامرة إلى التوقيع على الإعدامات و الصفقات التجارية و منح امتياز البحث عن البترول في البحر للشركات الأمريكية و نقل و تسريح عدد من الضباط غير الموالين أو المشتبه بهم، سيختلي بنفسه في غرفة من غرف قصره الذي شيده أحد المقاولين و قدمه له هدية في عيد العرش، ليرسم الخطة الشمولية لما سيسميه: معسكرات التطهير، و تخضير الصحراء، و عزل السلالة القنطورية عن بقية الرعايا بعيدا عن التلوث الغوغائي.

    و هكذا، في اللوغاريتم الجديد لا المتخيل، سيرسم على
    رقاع من جلود الغزلان البيضاء خريطة مستعادة في الزمن لزمن قبائل الأجداد آن اندفعوا في موجات غزوهم عبر الصحراء المترامية رافعين رايات الفتح و الهمة العلية و القلب الشجاع و أحلام العروبة الأصيلة و المتعصبة لمواجهة الأمبراطورية الرومانية الهرمة التي كانت شمسها تميل نحو الإنحدار، و روح اندفاعها تهوي إلى الشيخوخة و الزوال.
    ثم يكتب تحتها: الزمن المضيء
    .

    على
    الجدار الآخر المواجه للأول سيرسم خريطة أخرى مناقضة للأولى، يظهر فيها قوة العدو الجديد المرابط على أبواب العاصمة، و يوضح ضعف الأمة التي انهارت في أعقاب أمجادها القديمة و حضارتها التي أنارت الأكوان يوم كان العالم غارقا في عصور الظلمة البربرية، هذه الأمة المجيدة مهددة اليوم بالإنقراض و الزوال على يد حضارة العدو الناهضة و القوية.
    ثم يكتب تحت اللوحة: الزمن المظلم
    .

    في
    الليل و هو نهب هواجس و أشباح و انبهاتات فوسفورية تنتابه بين الحلم و اليقظة سيتسائل كيف سينقذ هذه المملكة المهددة بالسقوط و الدمار.
    إذ يوغل في ترهات عوالمه المجنحة، فيسطو الباطن على الظاهر، و المجنون على العاقل، يرتدي قميص طفولته القديم.

    يوم
    كان يحلم بتكوين عالمه الصغير المحيط به على صورته هو. في أزقة القرية الموحلة كان مهووسا بلعبته المفضلة: عسكر و حرامية مع فتيان الحيّ. كانت أشعة الحلم تذكره بالفتى الصلب الصارخ بقوة زعيم من الهنود الحمر يقود رجاله إلى الحرب ضد الجنود البيض.

    هوها، هورا
    .

    هكذا كان
    يصرخ و هو يتقدم رافعا العصا و المدية أمام مجموعة الفتيان الذين اختارهم من الشطار و الزعران و الحمقى و اللصوص و العاطلين و السفلة و الشهوانيين، للفتك بخصومه في الحي الآخر.

    بحنق و هو يغرغر من الضحك و التشفي،
    كان يضرب رؤوس الفتيان الأعداء بعصاه المصنوعة من أغصان الزعرور المحروق ذي العقد. كانت الدماء تنفجر من الجباه الغضّة، و إذ يهوي الفتى العاثر على الأرض كان يسحق بهدوء وجهه و أنفه ثم يبصق في عينيه: يا بن المنيوشة. أنا عبيد الله الكلبي. روح ادخل في مؤخرة أبيك و لا تعد إلى هنا بعد اليوم.

    على صوت الصرخات و غرغرة الدماء و الرعب يستيقظ
    .
    آه! يا للزمن المجيد، الزمن الباهر
    !

    لقد
    هجعت الطفولة في مهدها الصغير، و الحي صار بلادا واسعة. بلاد تدخل الآن حدادها بعد أن أقبل عليها الموت من كل حدب و صوب، و لا من يرفع سيفها الملقى في الوحل.

    زمن غريب سينشق فيه الإبن عن أبيه و العاشق عن
    عشيقته و الصديق عن الصديق، و الموجة عن شاطئها. فلا يكون إلا الإنهدام و الشقاء اللامحدود. في تلك الليلة الثانية بعد الألف، و مع الإنبهاقات الأولى للفجر، إثر معاناة كابوسية مريرة، سيضاء عقله بإشعاع مبهر يخترق السجف السميكة.

    سيتراءى له و هو يخطر بين الخرائط المظلمة و
    المضيئة أن الأمم و الممالك القابلة للحياة تحتاج زعيما متعصبا و حزبا متعصبا. هذا ما فعلته ألمانيا الجرمانية في تاريخها يوم اجتاحت العالم و أخضعته لقوتها و جبروتها، و هذا ما فعله بونابرت الذي أنقذ شرف فرنسا و مد فتوحاتها إلى كل أوروبا، و هو ما يفعله الأمريكي الذي يقود العالم كسوبرمان قومي متعصب.

    و إذ يتذكر جوزف ستالين و سطوته الدموية،
    ينبهر عقله المتأجج بهذا البطل التراجيدي الذي أنهى حياة عشرة ملايين إنسان لتنتصر الشيوعية و تخلد قوة الفرد الذي يغير مجرى التاريخ بإرادة الحديد و النار.
    من هذه المقدمات سيستنتج عقله المصاغ من شهوة الدم و الحقد و الطفولة السادية و عصارة النباتات السامة، أن خلاص مملكته لن يتم بغير هذا التعصب المقدس، و بما أنه و سلالته يكثفون النسغ الصافي و البهاء المشع، فهم إذن حملة هذه الرسالة المتعصبة التي ستنقذ الأمة من ترديها و تعيد لها كرامتها لتشع على الإنسانية نورها الوضاء و تخرجها من ظلماتها.

    ففي تلك
    الليالي المحتدمة فوق شاشة عقله الملتهب كانت تتصاعد من أعماقه كراهية على شكل أبخرة سوداء تتشكل مرتسما عنكبوتيا يضرى بالسم، فتتراءى له تلك القطعان البشرية و قد تحولت تحت عدسات ملايين العيون العنكبوتية أسرابا من الذباب العالقة في الشباك اللزجة تختلج في احتضاراتها و ضراعاتها الصامتة.

    و
    لأن تلك الحشرات التعسة لم تكن كما ينبغي أن تكون تحت مجاهر عينيه، كان يتخيل أن بإمكانه امتصاص دمها و هضمها ثم تمثيلها داخل جهازه الهضمي ليعيد تكوينها من عصارة و بلازما سلالته الطاهرة.

    هكذا سيصور له خياله
    السريالي المتوهج بالدم و الروث و القتل و الإحتقار و العصاب و احتدام الشوق الإلهي، أن يقيم مستعمرة عقاب صحراوية مسيجة بالأسلاك الشائكة و المكهربة، يضع داخلها شعبه المعارض و الجامح ليعيد تكوين ذلك القطيع بالشكل الذي يراه بعد خصيه و وشمه.

    و في ذلك الزمن الأسود، زمن
    الخنوع و الغروب، ما كانت تلك القطعان قد دمرت آلهتها القديمة، و لا خرجت من أرحام أجدادها و مقابر طواطمها. كان حبل السرة ما يزال موصولا مع الأزمنة الرعوية و أزمنة عبادة الواحد القهار في السماء و الأرض، ذلك الذي يقول للشيء كن فيكون. و من خلال تلك الهشاشة الرثة و الرسيس العكر المترسبين في أعماق القلب الضعيف و الدماغ النحلي ، كان يتبختر أي خنزير أو لواطي أو لص أو قاتل ليتوج نفسه ملكا في تلك الآرض الخراب فتتقدم منه الجموع زرافات و وحدانا و معها ذبائحها و قرابينها و أموالها و نسائها و ما أنتجته أرضها من زرع و ضرع، لتقدمها مسبحة بحمد هذه الهبة المباركة و الطوطم المنقذ، وريث الخلفاء و الأئمة، و ظل المعبود على الأرض.

    في
    رواق ظلام ذلك العصر المفلت من سباق التاريخ، و في مجرى التفكك الجيولوجي للأرض، و انتشار موجات من الفطريات على سطح الشمس، و انبثاق الرعب من الموت الذي داهم المدن و المعتقلات و السكان الآمنين، سيتوهج عقل قنطور الزمن الأخير عن قانون سادي يطلق عليه: قانون التطهير الوطني.
    وحتى لا يبدو الأمر روائيا مبالغا به، وكأنه مستقى من مخطوطات صناديق الأجداد القدامى، ثمة حيثيات لا تقبل الدحض بخصوص هذا القانون المؤرخ بالثبت التاريخي، موجودة بين أوراق مهيار الباهلي السرية المخبأة في سواد العراق وبادية الشام.

    في العام
    الثاني عشر من اغتصاب الوطن على يد عبيد الله بن أبي ضبيعة الكلبي، وبعد مذبحة الأهوار، وتشتيت الشيوعيين، وتدمير اقتصاد الوطن في حروب خاسرة مع الأعداء، وقتل عشرات الآلاف من الشعب في الحروب الأهلية الدينية، وإقامة الدولة الطائفية، سيقترح اللوياثان إقامة معسكرات لكل منحرف ممن يعتنق المبادئ الهدامة، في أعماق البادية. سينص التشريع الجديد على ضرورة استبدال المعتقلات بمعسكرات الصحراء. الحزبيون المعارضون واليساريون المتطرفون واليمينيون والليبراليون والهيبيون والسرياليون واللامبالون، والمثقفون اللاقومويون، يزجون في معسكرات تدريبية يشرف عليها ضباط متعصبون من ذوي الكفاءات العضلية والقومية.

    في هذه المعسكرات ستلقن القوة
    والتعصب وافتداء الوطن وحب الزعيم والحزب، وبعد الدروس النظرية سيقوم المدربون برياضة الجري، لاكتشاف الصحراء بغية التعرف على أطلال وذكريات ومستحاثات الأجداد الذين ما كانت الشمس لتغيب عن ممالكهم في الأزمنة الباهرة.

    في ما بعد استراحة الضحى سيبدأ حفر الأراضي واستصلاحها وزرع الأشجار لتصبح الصحراء واحة خضراء كالجنة
    .

    وعلى
    مدى عام أو عامين ستُزرع في أذهان هؤلاء المنحرفين والشاذين والمنحرفين عن قوميتهم، بذور جديدة، وأقمار قومية شديدة السطوع، كما ستصحح تربيتهم الخاطئة، فيشفون من أمراضهم القديمة وأفكارهم المستوردة. وبعد الامتحانات التي يجتازونها سيحصلون على وثائق التطهير الوطني التي تنص موادها على أن حاملي هذه الوثيقة هم من البشر الأسوياء والمواطنين الصالحين. آنذاك ستفتح أمامهم أبواب الاعتراف والرزق والأمان واتقاء غوائل الجوع.

    هكذا،
    كما تبتلي المزروعات والأراضي الخضراء بالأوبئة والجراد والحشرات القارضة وسائر الأمراض التي تهبط من غبار فضاءات السماء، قادمة مع الرياح السموم، ابتلينا بذلك اللوياثان القارض للزرع والضرع والبشر.

    وفي ذلك
    الزمان، العصي على التسمية والوضوح، بدونا كأنما انقلبنا انقلاب السلاحف على ظهورها. أقدام مشرعة في الهواء فقدت صلابة الأرض، وعيون ضارعة نحو سماوات فارغة، وصدور عارية للرياح بلا أمل.

    ما كان أحد يعرف متى تنتهي سنوات المحنة وسنوات القتل وسنوات الجوع وسنوات تدمير العقل
    .

    وفي
    الوقت الذي كان مهدي جواد يتحدث فيه عن دورة اللولب واستعادة زمن الملوك والخلفاء القدامى في العصور الأخيرة من بداية انهيار أمبراطورية بلاد العرب مع بداية القرن السابع الهجري، كان مهيار الباهلي يحاول جاهدا من خلال استبصارات الزمن المقارن، نفي تلك الدورة المتأبدة، المنافية لجدل التاريخ.

    كان يبدو، وهو على أبواب حدوسه المنفجرة التي ابتدأت
    تتجلى في شوارع وحانات بونه، شبه مسيح مسلح ينبئ بعصور من الحروب الأهلية القادمة سيقودها المجوعون ويتامى الآباء والأمهات والجنود الفقراء المهزومون في الحروب الخاسرة، وفلاحو الأهوار والبوادي، والعمال العاطلون عن العمل، والناجون من معسكرات التعذيب واستصلاح الأراضي.


    _ انتهى
    _
يعمل...
X