إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

القرآن ونظرية المعرفة...د. راجح الكردي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • القرآن ونظرية المعرفة...د. راجح الكردي

    د. راجح الكردي
    القرآن ونظرية المعرفة
    القرآن الكريم ليس كتاب فلسفة إذا قصدنا بالفلسفة مجموعة الأفكار النابعة من العقل والمتسلسلة وفق منهج معين، غرضها تكوين نسق من المبادىء لتفسير طائفة من الظواهر الكونية، ولا كتب نظريات في علم المنطق ولا في المعرفة وليس كتاب أبحاث ينفصل بعضها عن بعض في قوالب البحث النظري، سواء في مجالات علمية أو عملية، في مجالات العلوم أو الاقتصاد أو الاجتماع أو النفس، وبذلك المفهوم التجريدي النظري، ذلك لأنه منهج رباني متكامل، شامل وهو نسيج وحده، لا يفيه حقه وصفه بالنظرية فهو في حد ذاته ليس نظرية، في فن من الفنون، وهو يتجاوز البحث النظري إلى التطبيق الواقعي، وهو هدى ونور وشفاء للبشرية، كي تستقيم على طاعة الله وعبادته، (قد جاءكُم من الله نور وكتابٌ مبين* يهدي به الله من اتبع رضوانهُ سُبلَ السلام ويخرجُهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم).
    إن مقصودي الخاص بنظرية في القرآن، ليس إلا محاولة فردية عاجزة، لاستجلاء النظرة القرآنية الصافية، ومحاولة الجمع لمادة قرآنية، تتعلق بالعلم والمعرفة من أجل صياغة نظرية للمعرفة في القرآن وبجهد بشري، لا يحكم على القرآن بهذا الجهد ذلك لأننا لا نجد التقريرات الفلسفية النظرية لما يسمى بنظرية المعرفة بسهولة في القرآن، كما قلت نظرا لطبيعته وغايته. ومع ذلك فإن القرآن لا يمنع من أن نلتمس فيه المعرفة والتربية والتوجيه، ليؤدي دوره في حياتنا، مع حرصنا الشديد، على المنهج السليم، وهو أننا:
    _ ننطلق من التصور القرآني، فهو نقطة المنطلق والارتكاز.
    _وندخل إليه بلا مقررات سابقة، إنما منه نأخذ مقرراتنا، ولا نحكم عليه بأفكار البشر، إنما إليه نحاكم أفكارنا.
    _ وننهج منهجه، وإلا فقدنا المهمة الرئيسية في بحثنا.
    _ ونعتقد أنه بإمكاننا _بعون الله _ أن نجمع فنبني من القرآن نظرية في المعرفة، نجعلها صلب جهدنا، ومحور تفكيرنا وحكمنا، ومقياس نقدنا للنظرات الفلسفية، مع اعتقادنا أنه ليس كتابا للمقارنة، وإنما لنا فيه القدوة، حيث كشف زيف الزائفين، ورد كيدهم، وبما يتصل بتوضيح منهجه.
    _وإنا لنعتقد بتميز النظرة القرآنية في كل مسألة، ودقيقة من دقائق نظرية المعرفة، مادة، ومنهجا، ومنبعا، وطريقا، وطبيعة، ومقياسا، وقيمة وحدودا.
    _كما أننا نحرص _ إن شاء الله _ على محاولة الالتزام بالإصطلاحات القرآنية في التعبير عن الحقيقة التي يتميز بها القرآن، وهو متميز في كل شيء.
    ذلك أن مقصودنا هو البحث في ما يوضع تحت عنوان هذه النظرية أو مكوناتها في القرآن، وأننا لا نريد أن نوسع الموضوع على أنفسنا بتسميته "العلم في القرآن" لأن ذلك سيجعل من البحث بحثا ذا شقين: شق يتعلق بعلم الله تعالى وشق يتعلق بالعلم الانساني، فاخترنا عنوان المعرفة للدلالة على أن مرادنا هو العلم الإنساني فحسب.
    وذلك لأننا مع من يرى أن المعرفة تطلق على الإنسان، ولا تطلق على الله سبحانه وهي كذلك وردت في القرآن بمشتقاتها في واحد وسبعين موضعا، منها اثنان وثلاثون موضعا بمعنى العلم وكلها تعني العلم والمعرفة الإنسانية فحسب. وما ذلك إلا لأن المصطلحات مهمة كثيراً في التعبير عن الحقيقة، فالمصطلح يخدم المراد، ومن منطلقات ذلك المعنى وعلى أسس محورية تابعة للفكرة أو القاعدة التي منها تنبثق نظرته للأمور، فلا يصح إذن أن يعرض التصور القرآني للمعرفة من خلال مصطلحات نشأت عن نظرة في الوجود أو الاعتقاد، تخالف نظرته.
    وإنه لو اضطررنا لاستعمال المصطلح الغريب، فإنه لابد من التنويه بمقصودنا من هذا المصطلح، إذا كان فيه خدمة لفكرتنا وتوضيح لها. وعلى سبيل المثال فقد تستعمل الفلسفة مصطلح "مصادر المعرفة" وتعني بها طرق المعرفة أو وسائلها. ولكن مصطلح مصادر المعرفة في المفهوم الفلسفي، ليس هو المراد بطرقها عندنا، في تصورنا الدقيق، ذلك أن مصدر الشيء أصله، وأصل المعرفة عندنا رباني، (علم الإنسان ما لم يعلم)، وحتى استعمالنا لأدوات المعرفة ووسائلها من عقل وحس، إنا هو بإقدار الله عز وجل، وتمكينه لهذه الوسائل أن تؤدي دورها المعرفي.
    بينما لم تتضح علاقة الإنسان بخالقه في المفهوم الفلسفي، ومن ثم فطرق المعرفة عندهم مصادرها ومنابعها معا.
    كما ننوه أيضا بأن الذي نقصده من نظرية المعرفة في القرآن، ليس كَماً من المعلومات، وأنواع العلوم التي أشار اليها، فذلك ليس داخلا في مجال هذا البحث، وأن ما نشير إليه إنما هو منارات ضوئية كافية، لدفع الإنسان للبحث، وفتح بصيرته على آيات الله سبحانه في الآفاق والأنفس.
    ولعلنا قصدنا ببيان مرادنا من هذا البحث، حتى لا تكون شبهة في أننا ممن يفتنون بالنظريات الفلسفية ويهرعون إلى تطبيقها على الإسلام، فتكون القوالب فلسفية والمادة كذلك لا صلة لها بالإسلام.
    فالمعرفة عندنا جزء من الوجود. والوجود ثابت قبل أن نتوجه لمعرفته. والمعرفة هي أساس للدور الإنساني في الحياة، إذ هي قبل كل شيء معرفة الله تبارك وتعالى، التي تنبثق منها معرفتنا للدين ودورنا في الحياة. فالمعرفة عندنا مسلمة تسليمنا بالوجود.
    أما ما نقوله من إمكان المعرفة بين القرآن والفلسفة فان مقصودنا منه الاتجاه اليقيني في القرآن. إننا نؤمن بالله سبحانه ونوقن بأننا نعلم ونعرف، يقينا واعيا مستبصرا، وندعو إلى هذا الإيمان واليقين على بصيرة (قُل هذه سبيلي أدعو الى الله على بصيرة أنا ومن اتّبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين).
    والدعوة إلى الله سبحانه لإقامة الحجة على الخلق وتحريرهم إيمان وعلم. وكيف يشك في إمكان المعرفة من يعتقد هذا ويعمل له.
    ولعل سؤالاً يطرح: وهل أنت واجد في القرآن ما يشفي العليل وما يصلح أن يكون مادة لبناء نظرية في المعرفة. والإجابة التفصلية على هذا إنما هو في تفصيل البحث. ولكني أطمئن إلى أنه توجد في كتاب الله تعالى الأسس الصالحة لهذا الغرض، وإن كنت لا أدعي أنني استطعت اكتشافها جميعا، ولكن حسبي أني على الطريق، وقد بذلت جهدي. ويمكنني أن استأنس بالأسس التالية في المدخل لهذا البحث:
    * يحتوي القرآن على أسس واضحة في طرق المعرفة، يقول تعالى: (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون).
    *مصدر هذه المعرفة أو منبعها هو الله سبحانه: (اقرأ باسم ربك الذي خلق* خلق الإنسان من علق* اقرأ وربك الأكرم* الذي علم بالقلم* علم الإنسان ما لم يعلم). (وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين* قالوا: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم* قال: يا آدم أنبئهم بأسمائهم. فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون).
    ذكر القرآن طرق المعرفة ووسائلها: من حواس وعقل أو قلب وأضاف طريقا فريدا ليس في طرق البشر، وهو طريق الوحي والإلهام.
    *تعرض لطبيعة المعرفة، وأنها اكتسابية كلها: (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا)، (علم الإنسان ما لم يعلم).
    وتعرض لصور الاكتساب من تفكير وتذكير وفقه وشعور...الخ.
    *بين مجالات هذه المعرفة: المجال الطبيعي أو عالم الشهادة، ويدرك بالحواس والعقل، وعالم الغيب وطريقة الوحي، والعقل يسلم بوجوده، ويفهم وفق ما سمح الله له من طاقات، وتفاصيله غيب لا نعلمه إلا بإعلام الله لنا عن طريق الوحي.
    بين غاية المعرفة في الوجود الإنساني فجعلها تخدم هدف تعبيد الناس لله اعتقاداً وعبادة، علما وعملا: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون).
    *كما جعلها أساس لقيادة البشرية، والقيام بدور الخلافة في الأرض، وحمل أمانة الهداية والانتفاع مما في الكون مما سخره الله للإنسان (ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السموات وما في الأرض).
    *القرآن دعوة لتحرير العقل الإنساني، من أغلال التقليد والتبعية، القائمة على أسس الوراثة فحسب، والتي عزلت العقل عن عمله والقلب عن فقهه. ومن ثم فهو يدعو الإنسان إلى التأمل والتفكر، ويوجه نظره إلى الكون، وإلى النفس، ويمدح المتفكرين والمتذكرين وأولى الألباب، ويشنع على الذين لا يفقهون، ولا يعلمون، ولا يتذكرون، ويصفهم بعمى البصيرة أو القلوب. قال الله تعالى (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور). (أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون).
    *ثم جمع القرآن بين طرق المعرفة الرئيسية الثلاث معاً: الوحي، والعقل، والحس. كما جمع بين مجالي المعرفة وهما مجالا الوجود: الدنيا والآخرة، أو عالم الشهادة وعالم الغيب في آية واحدة، فقال سبحانه: (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم من أهل القرى، أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون).
    *والقرآن يقرر نسبة المعرفة الإنسانية فيقول: (وفوق كل ذي علم عليم). (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا).
    *ويجعل القرآن اليقين معياره في المعرفة، ويرد الشك والظن، ولا يعتبرهما علما صحيحا: (إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس) (وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا).
    كل هذه الأسس، يمكن أن تكون بناء لنظرية في المعرفة: من حيث ماهيتها، وامكانها ومصادرها وطبيعتها وطرقها ومعيارها وقيمتها.
    ------------------------------
    المصدر : نظرية المعرفة بين القرآن والفلسفة


    . راجح الكردي
    علاقة المعرفة بالعلم
    أـ عند المعتزلة
    يرى المعتزلة أن العلم والمعرفة مترادفان: إذ العلم بالنسبة للعباد تبيُّن وتحقُّق، وكلاهما يعني ذلك المعنى الذي يقتضى سكون نفس العالم إلى ما تناوله. وبذلك فإنه لا فرق بين المصطلحين، ولا بين فائدتيهما، ومن ثم يسمى كل عالم عارفاً.
    ب ـ عند أهل السنة
    يرى أهل السنة أنه وإن كان ثمة ترادف بين معنيى: العلم والمعرفة، من حيث إن كلا منهما يعني إدراك الشيء على ما هو عليه. إلا أن ثمة تباينا بينهما من الوجوه التالية:
    1_ المعرفة مسبوقة بجهل، أو إدراك مسبوق بجهل. وليس العلم كذلك ولذلك يقال للحق سبحانه وتعالى عالم، ولا يقال له عارف.
    2_ كما أن المعرفة قد يراد بها العلم الذي تسبقه غفلة، وليس العلم كذلك ومن ثم يسمى الله تعالى العليم وعالم الغيب وعلام الغيوب ولا يسمى عارفا.
    3_ تطلق المعرفة على إدراك البسيط، ويطلق العلم على إدراك المركب، فتقول: عرفت الله ولا تقول علمته.
    4_ تطلق المعرفة على ما يدرك بآثاره ولا تدرك ذاته. ويطلق العلم على ما تدرك ذاته. ولذلك يقال: عرفت الله، ولا يقال: علمته.
    5_ خلاف المعرفة الإنكار، وخلاف العلم الجهل. وذلك لأن في معنى المعرفة الاعتراف والإقرار.
    6_ وقيل: إن المعرفة تستعمل في التصورات، والعلم يستعمل في التصديقات. ولذلك تقول: عرفت الله ولا تقول علمته، لأن من شرط العلم أن يكون محيطاً بأحوال المعلوم إحاطة تامة. ومن أجل ذلك وصف الله تعالى نفسه بالعلم لا بالمعرفة.
    ج‍ ـ ألفاظ ومصطلحات مرادفة للعلم والمعرفة:
    أخذ العلم مفهوماً جامعاً لمعاني كثيرة ذلك لأن العلم أو المعرفة علاقة بين عالم ومعلوم، وبين ذات عارفة وموضوع معروف. فهو من جهة ما ذاتي ومن جهة أخرى موضوعي أي له موضوع متحقق في الخارج. ثم العلم أو المعرفة ـ عند من يرى ترادفهما ـ درجات تبدأ من الاتصال الحسي إلى التجريد العقلي، إلى المرور في مراحل الحفظ والتفكير، وهو كذلك حدس داخلي أو معرفة مباشرة وجدانية وهو كذلك إدراك للجزئيات، كما أنه إدراك للكليات، إدراك للبسيط كما هو إدراك للمركب. وله طريق حسي وطريق عقلي وقلبي، وبعضه كذلك إدراك بديهي لا يحتاج إلى دليل ونظر وكسب. وبعضه الآخر كسبي يحتاج إلى النظر والاستدلال. والمعرفة كذلك علم من جهة، وعمل من جهة أخرى. وللعلم درجات من حيث الشك والظن واليقين فيه حركة للفكر في المعقولات كما أن فيه انقداح فكر وخاطر، وسرعة بديهة وذكاء، وقد يكو العلم علماً مجرداً سطحياً، كما قد يكون علماً مستغرقاً عميقاً أو فقها.
    لذلك كله، نجد أن للعلم أو المعرفة مترادفات كثيرة، وإن كان كل لفظ مرادف، له علاقة العلم الشامل من جهة ما. وقد استقصينا هذه الألفاظ المرادفة، من خلال اللغة والاستعمال، ومن خلال بعض آيات القرآن الكريم. من هذه الألفاظ المرادفة للعلم والمعرفة الألفاظ التالية:
    1_ الشعور: الشعور في اللغة من شعر بمعنى علم وفطن ودرى. والمشاعر هل الحواس.
    والشعور: علم الشيء علم حس. والشعور في الأصل اسم للعلم الدقيق، وأطلق بعض المفسرين الشعور على إدراك المشاعر أي الحواس الخمس. ويرى صاحب المنار أنه إدراك ما دق من حسي وعقلي وقد عرفه الرازي بأنه مرادف للعلم وأنه إدراك بغير استثبات، وأنه أول مراتب وصول العلوم إلى القوة العاقلة، وكأنه إدراك متزلزل، ولهذا لا يقال في الله تعالى إنه يشعر بكذا بل إنه يعلم كذا".
    والشعور عند علماء النفس: إدراك المرء لذاته أو لأحواله وأفعاله، إدراكاً مباشراً وهو أساس كل معرفة، وللشعور مراتب متفاوتة الوضوح أهمها الشعور التلقائي التأملي:
    أما الشعور التلقائي فهو الإطلاع الحدسي المباشر على أحوال النفس، أو مجرد الإدراك الخاطف لما يطرأ عليها. فكأن هذا الإدراك تسجيل للواقع كما هو، وكأن الرائي فيه لا يختلف عن المرئي في شيء.
    والشعور التأملي وهو أوضح وأدق من الأول، وأعمق غوراً منه، لأنه يقتضي التفريق بين الرائي والمرئي، وبين العالم والمعلوم، ومتى بلغ الشعور هذه المرتبة، استطاع المدرك أن يقرأ ما في نفسه، وأن يحلل موضوع معرفته وأن ينقله إلى غيره.
    وقد يطلق الشعور على ما يكشف به المرء عن وجوده الحقيقي، أي على مجموع الأحوال التي يشعر بها، ويسمى هذا الشعور بالشعور الذاتي أو بوعي الذات.
    أو يطلق على مجموع الأحوال النفسية المشتركة بين عدة أفراد ويسمى شعوراً جمْعيّا.
    وجملة القول أن الشعور هو الظاهرة الأول للحياة العقلية أو هو ما تتميز به الظواهر النفسية عن الظواهر الطبيعية. وله عدة مظاهر هي: الحضور الذهني أو الإدراك المباشر، والأثر المركزي للتنبيه الحسي، والقدرة على الاختيار، وإدراك علاقة المدرك بالعالم الخارجي، وقدرته على التأثير فيه.
    وقد وردت كلمة الشعور بهذا المعنى المرادف للعلم في القرآن في ثلاثة وعشرين موضعاً. منها قوله سبحانه: (ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون)، (ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون).
    (وما يشعرون أيان يبعثون)، (وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون)، (وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون)، (فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا)، (إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون).
    2_ الإدراك:
    وهو اللقاء والوصول. فيقال أدرك الغلام وأدركت الثمرة. قال الله تعالى: (قال أصحاب موسى إنا لمدركون). فالقوة العاقلة إذا وصلت إلى ماهية المعقول وحصلتها كان ذلك إدراكاً من هذه الجهة. أو هو إحاطة الشيء بكماله.
    ولذلك قال الله تعالى: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير).
    ويطلق الإدراك كذلك على مجموعة معان تتعلق بالعلم هي:
    ما يدل على حصول صورة الشيء عند العقل سواء كان ذلك الشيء مجرداً أو مادياً، جزئياً أو كلياً، حاضراً أو غائباً، حاصلاً في ذات المدرك أو آلته.
    ثم إن الإدراك إذا دل على تمثُل حقيقة الشيء وحده، من غير حكم عليه بنفي أو إثبات سمى تصوراً، وإذا دل على تمثل حقيقة الشيء مع الحكم عليه بأحدهما سمى تصديقاً. والإدراك بهذا المعنى مرادف للعلم. وهو يتناول جميع القوى المدركة، فيقال إدراك الحس، وإدراك الخيال، وإدراك الوهم وإدراك العقل.
    ويحدد بعض الفلاسفة الإدراك بالإدراك الحسي وحده، وحينئذ يكون أخص من العلم وقسماً منه، وبعضهم يوسع معناه فيطلقه على حضور صورة المشعور به، ويكون عندئذ حالة عقلية.
    3_ التصور:
    قال الرازي: "إذا حصل وقوف القوة العاقلة على المعنى وأدركه بتمامه فذلك هو التصور" وهو لفظ مشتق من الصورة، ولفظ الصورة حيث وضع فإنما وضع للهيئة الجسمانية الحاصلة في الجسم المتشكل، إلا أن الناس لما تخيلوا، أن الحقائق المعلومات تصير حالة في القوة العاقلة، كما أن الشكل والهيئة يحلاّن في المادة الجسمانية، وأطلقوا لفظ التصور عليه بهذا التأويل. وأطلق لفظ التصور قسماً من أقسام العلم وقسيماً للتصديق، إذا كان حصولاً لصورة الشيء في الذهن قبل الحكم عليه بنفي أو إثبات وهو ما سماه صاحب الشمسية بالتصور فقط، إذ قال: "العلم إما تصور فقط، وهو حصول صورة الشيء في العقل وأما تصور معه حكم، وهو إسناد أمر إلى آخر إيجاباً أو سلبا، ويقال للمجموع تصديق".
    4_ الحفظ:
    وذلك "إذا حصلت الصورة في العقل وتأكدت واستحكمت، وصارت بحيث لو زالت لتمكنت القوة العاقلة من استرجاعها واستعادتها، سميت تلك الحالة حفظاً. ولما كان الحفظ مشعراً بالتأكيد بعد الضعف، لا جرم لا يسمى علم الله تعالى حفظاً، ولأنه إنما يحتاج إلى حفظ وما يجوز زواله ولما كان ذلك في علم الله محالاً، لا جرم لا يسمى حفظاً،
    5_ التذكر:
    الصور المحفوظة إذا زالت عن القوة العاقلة، وحاول الذهن استرجاعها فتلك المحاولة هي التذكر، والتذكر سر لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، ذلك أن "التذكر صار عبارة عن رجوع تلك الصورة المنمحية الزائلة، فتلك الصورة، إن كانت مشعوراً بها، فهي حاضرة حاصلة، والحاصل لا يمكن تحصيله، فلا يمكن حينئذ استرجاعها. وإن لم تكن مشعوراً بها كان الذهن غافلاً عنها، وإذا كان غافلاً استحال أن يكون طالباً لإسترجاعها، لأن طلب ما لا يكون متصوراً محال. فعلى كلا التقديرين يكون التذكر المفسر بطلب لاسترجاعها ممتنعا، مع أنا نجد من أنفسنا أنا قد نطلبها ونسترجعها. وهذه الأسرار إذا توغل العاقل فيها وتأملها، عرف أنه لا يعرف كنهها، مع أنها من أظهر الأشياء عند الناس، فكيف القول في الأشياء التي هي أخص الأمور وأعضلها على العقول والأذهان.
    ويطلق الذكر كما يرى الرازي على نتيجة التذكر، ذلك أن "الصورة الزائلة إذا حاول استرجاعها، فإذا عادت وحضرت سمى ذلك الوجدان ذكراً، فإن لم يكن هذه الإدراك مسبوقاً بالزوال،، لم يسم الإدراك ذكراً، فجعل حصول النسيان شرطاً لحصول الذكر".
    وحقيقة الأمر أن اعتبار الرازي النسيان شرطاً لحصول الذكر وأنه نتيجة للتذكر لا وجه له، لأن الذكر أعم من أن يكون نتيجة تذكر أولا، وأعم من أن يسبقه نسيان أولا، والتذكر يمكن أن يصدق عليه هذا الاشتراط، لأن التذكر كما قال ابن سينا هو : "الاحتيال لاستعادة ما اندرس" كما ويسمى القرآن ذكراً. إذ قال تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) ومعلوم أن القرآن ليس نتيجة تذكر، كما أن اشتراط الرازي أن يكون مسبوقاً بالزوال أو بالنسيان، لا يتناسب بحال من الأحوال مع تسمية القرآن ذكراً. والدليل على ضعف رأى الرازي أن الرازي نفسه قد علل تسميه القرآن ذكراً من جهة غير إشتراطه فقال: "وبوصف القول بأنه ذكر، لأنه سبب حصول المعنى في النفس، وذكر الآية.
    6_ الفهم والفقه:
    الفهم: "تصور الشيء من لفظ المخاطب. والإفهام هو أيضاً المعنى باللفظ إلى فهم السامع".
    والفقه: "هو العلم بغرض المخاطب من خطابه. يقال: فقهت كلامك أي وقفت على غرضك من هذا الخطاب". ثم إن الكفار لما كانوا أرباب الشهوات والشبهات، فما كانوا يقفون على ما في التكاليف الربانية والآيات القرآنية من المنافع العظيمة لهم، ولذلك، وصفهم الله تعالى بعدم الفقه، فقال سبحانه: (فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً) أي لا يكادون يقفون على المقصود الأصلي والغرض الحقيقي.
    ويلاحظ في الفقه أنه أثر علمي في النفوس وأنه من جهة الخطاب كما يلاحظ فيه كذلك أنه ليس مجرد العلم، وإنما هو العلم المؤثر في النفس الدافع للعمل، ولذلك سمى علم الفروع فقها لأنه علم بالأحكام الشرعية الفرعية العلمية المكتسبة من الأدلة التفضيلية. فالعلم والفقه وإن اجتمعا بمعنى واحد وهو الإدراك والعرفان إلا أن المتبادر من العلم تيقن المعلوم، والمتبادر من الفقه تأثير العلم في النفس الدافع للعمل ولذلك وصف الله تعالى المنافقين بأنهم لا يفقهون ولا يعلمون، إذ قال سبحانه: (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون) وقال عز وجل: (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون).
    كما يلاحظ أن الفقه من حيث هو الإصابة والوقوف على المعنى الخفى الذي يتعلق به الحكم، عام مستنبط بالرأي والاجتهاد، ويحتاج إلى النظرة والتأمل، لهذا لا يجوز أن يسمى الله تعالى فقيها، لأنه لا يخفى عليه شيء.
    ومن ثم فالفقه أحد أقسام العلم إذ هو علم كسبي أو استدلالي.
    7_ العقل:
    وهو العلم بصفات الأشياء من حسنها وقبحها وكمالها ونقصها، فإنك متى علمت ذلك، ما فيه من المضار والمنافع، وصار علمك بما في الشيء من النفع داعياً لك إلى الفعل، وعلمك بما فيه من الضرر داعياً إلى الترك، فصار ذلك العلم مانعاً من الفعل مرة ومن الترك أخرى، فيجري ذلك العلم مجرى عقال الناقة. وذلك المعنى مناسب لأصل معنى العقل في اللغة إذ يدل على المعرفة، فتقول: ما فعلت كذا منذ عقلت. وعقل فلان بعد الصبا: أي عرف الخطأ الذي كان عليه.
    8_ الدراية والرواية:
    الدراية هي المعرفة الحاصلة بضرب من الحيل، وهي تقديم المقدمات واستعمال الرويّة، والروية: هي ما كان من المعرفة بعد فكر كثير.
    9_ الحكمة:
    للحكمة معان كثيرة. منها: العلم والتفقه. وما يمنع من الجهل. ومعرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم. والإصابة في القول والعمل فلأنها الإصابة في تقدير الأمور النظرية فهي بمعنى العلم، ولأنها الإصابة في الأمور العملية التي تحتاج إلى سداد الفكر والعلم فهي بمعنى الفقه. ومنها يقال: أحكم العمل إحكاماً إذا ما أتقنه. ثم حدت الحكمة بألفاظ مختلفة فقيل: هي معرفة الأشياء بحقائقها، وهذا إشارة إلى أن إدراك الجزئيات، لا كمال فيه، لأنها إدراكات متغيرة، فأما إدراك الماهية فإنه باق مصون عن التغير والتبدل".
    قال الله تعالى: (يؤتى الحكمةَ من يشاءُ، ومن يُؤْتَ الحكمةَ فقد أوتي خيراً كثيراً وما يذكّر إلا أولو الألباب). (أم يحسُدونَ الناسَ على ما آتاهم اللهُ من فضله. فقد آتينا آل إبراهيمَ الكتابَ والحكمةَ وآتيناهم مُلكاً عظيماً).
    10_ كما أطلقت ألفاظ أخرى ويراد بها العلم منها:
    البديهة: وهي المعرفة الحاصلة ابتداء في النفس لا بسبب الفكر، كعلمنا بأن الواحد نصف الاثنين والأوليات: وهي البديهيات.
    والكياسة: وهي ما يدل على تمكن النفس من استنباط ما هو أنفع.
    والخبرة: وهي معرفة يتوصل إليها بطريق التجربة. وهي من قولهم: ناقة خبرة، أي غزيرة اللبن، فكأن الخبر هو غزارة المعرفة.
    والرأي: وهو إحاطة الخاطر في المقدمات التي يجري منها إنتاج المطلوب.
    والفراسة: وهي الاستدلال بالخلق الظاهر على الخلق الباطن. وقد نبه الله تعالى عل صدق هذا الطريق بقوله: (إن في ذلك لآيات للمتوسمين)، (ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول) واشتقاقها من قولهم: فرس السبع الشاة، فكأن الفراسة إختلاس المعارف.
    وضرب من الفراسة يكون بصناعة متعلمة، وهي الاستدلال بالأشكال الظاهرة على الأخلاق الباطنة. وقال أهل المعرفة في قوله تعالى (أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه).
    إن البينة هي القسم الأول وهو إشارة إلى صفاء الروح.
    والشاهد هو القسم الثاني وهو الاستدلال بالأشكال على الأحوال.
    -----------------------
    المصدر : نظرية المعرفة بين القرآن والفل


    . راجح الكردي
    علاقة المعرفة بالعلم
    أـ عند المعتزلة
    يرى المعتزلة أن العلم والمعرفة مترادفان: إذ العلم بالنسبة للعباد تبيُّن وتحقُّق، وكلاهما يعني ذلك المعنى الذي يقتضى سكون نفس العالم إلى ما تناوله. وبذلك فإنه لا فرق بين المصطلحين، ولا بين فائدتيهما، ومن ثم يسمى كل عالم عارفاً.
    ب ـ عند أهل السنة
    يرى أهل السنة أنه وإن كان ثمة ترادف بين معنيى: العلم والمعرفة، من حيث إن كلا منهما يعني إدراك الشيء على ما هو عليه. إلا أن ثمة تباينا بينهما من الوجوه التالية:
    1_ المعرفة مسبوقة بجهل، أو إدراك مسبوق بجهل. وليس العلم كذلك ولذلك يقال للحق سبحانه وتعالى عالم، ولا يقال له عارف.
    2_ كما أن المعرفة قد يراد بها العلم الذي تسبقه غفلة، وليس العلم كذلك ومن ثم يسمى الله تعالى العليم وعالم الغيب وعلام الغيوب ولا يسمى عارفا.
    3_ تطلق المعرفة على إدراك البسيط، ويطلق العلم على إدراك المركب، فتقول: عرفت الله ولا تقول علمته.
    4_ تطلق المعرفة على ما يدرك بآثاره ولا تدرك ذاته. ويطلق العلم على ما تدرك ذاته. ولذلك يقال: عرفت الله، ولا يقال: علمته.
    5_ خلاف المعرفة الإنكار، وخلاف العلم الجهل. وذلك لأن في معنى المعرفة الاعتراف والإقرار.
    6_ وقيل: إن المعرفة تستعمل في التصورات، والعلم يستعمل في التصديقات. ولذلك تقول: عرفت الله ولا تقول علمته، لأن من شرط العلم أن يكون محيطاً بأحوال المعلوم إحاطة تامة. ومن أجل ذلك وصف الله تعالى نفسه بالعلم لا بالمعرفة.
    ج‍ ـ ألفاظ ومصطلحات مرادفة للعلم والمعرفة:
    أخذ العلم مفهوماً جامعاً لمعاني كثيرة ذلك لأن العلم أو المعرفة علاقة بين عالم ومعلوم، وبين ذات عارفة وموضوع معروف. فهو من جهة ما ذاتي ومن جهة أخرى موضوعي أي له موضوع متحقق في الخارج. ثم العلم أو المعرفة ـ عند من يرى ترادفهما ـ درجات تبدأ من الاتصال الحسي إلى التجريد العقلي، إلى المرور في مراحل الحفظ والتفكير، وهو كذلك حدس داخلي أو معرفة مباشرة وجدانية وهو كذلك إدراك للجزئيات، كما أنه إدراك للكليات، إدراك للبسيط كما هو إدراك للمركب. وله طريق حسي وطريق عقلي وقلبي، وبعضه كذلك إدراك بديهي لا يحتاج إلى دليل ونظر وكسب. وبعضه الآخر كسبي يحتاج إلى النظر والاستدلال. والمعرفة كذلك علم من جهة، وعمل من جهة أخرى. وللعلم درجات من حيث الشك والظن واليقين فيه حركة للفكر في المعقولات كما أن فيه انقداح فكر وخاطر، وسرعة بديهة وذكاء، وقد يكو العلم علماً مجرداً سطحياً، كما قد يكون علماً مستغرقاً عميقاً أو فقها.
    لذلك كله، نجد أن للعلم أو المعرفة مترادفات كثيرة، وإن كان كل لفظ مرادف، له علاقة العلم الشامل من جهة ما. وقد استقصينا هذه الألفاظ المرادفة، من خلال اللغة والاستعمال، ومن خلال بعض آيات القرآن الكريم. من هذه الألفاظ المرادفة للعلم والمعرفة الألفاظ التالية:
    1_ الشعور: الشعور في اللغة من شعر بمعنى علم وفطن ودرى. والمشاعر هل الحواس.
    والشعور: علم الشيء علم حس. والشعور في الأصل اسم للعلم الدقيق، وأطلق بعض المفسرين الشعور على إدراك المشاعر أي الحواس الخمس. ويرى صاحب المنار أنه إدراك ما دق من حسي وعقلي وقد عرفه الرازي بأنه مرادف للعلم وأنه إدراك بغير استثبات، وأنه أول مراتب وصول العلوم إلى القوة العاقلة، وكأنه إدراك متزلزل، ولهذا لا يقال في الله تعالى إنه يشعر بكذا بل إنه يعلم كذا".
    والشعور عند علماء النفس: إدراك المرء لذاته أو لأحواله وأفعاله، إدراكاً مباشراً وهو أساس كل معرفة، وللشعور مراتب متفاوتة الوضوح أهمها الشعور التلقائي التأملي:
    أما الشعور التلقائي فهو الإطلاع الحدسي المباشر على أحوال النفس، أو مجرد الإدراك الخاطف لما يطرأ عليها. فكأن هذا الإدراك تسجيل للواقع كما هو، وكأن الرائي فيه لا يختلف عن المرئي في شيء.
    والشعور التأملي وهو أوضح وأدق من الأول، وأعمق غوراً منه، لأنه يقتضي التفريق بين الرائي والمرئي، وبين العالم والمعلوم، ومتى بلغ الشعور هذه المرتبة، استطاع المدرك أن يقرأ ما في نفسه، وأن يحلل موضوع معرفته وأن ينقله إلى غيره.
    وقد يطلق الشعور على ما يكشف به المرء عن وجوده الحقيقي، أي على مجموع الأحوال التي يشعر بها، ويسمى هذا الشعور بالشعور الذاتي أو بوعي الذات.
    أو يطلق على مجموع الأحوال النفسية المشتركة بين عدة أفراد ويسمى شعوراً جمْعيّا.
    وجملة القول أن الشعور هو الظاهرة الأول للحياة العقلية أو هو ما تتميز به الظواهر النفسية عن الظواهر الطبيعية. وله عدة مظاهر هي: الحضور الذهني أو الإدراك المباشر، والأثر المركزي للتنبيه الحسي، والقدرة على الاختيار، وإدراك علاقة المدرك بالعالم الخارجي، وقدرته على التأثير فيه.
    وقد وردت كلمة الشعور بهذا المعنى المرادف للعلم في القرآن في ثلاثة وعشرين موضعاً. منها قوله سبحانه: (ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون)، (ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون).
    (وما يشعرون أيان يبعثون)، (وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون)، (وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون)، (فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا)، (إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون).
    2_ الإدراك:
    وهو اللقاء والوصول. فيقال أدرك الغلام وأدركت الثمرة. قال الله تعالى: (قال أصحاب موسى إنا لمدركون). فالقوة العاقلة إذا وصلت إلى ماهية المعقول وحصلتها كان ذلك إدراكاً من هذه الجهة. أو هو إحاطة الشيء بكماله.
    ولذلك قال الله تعالى: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير).
    ويطلق الإدراك كذلك على مجموعة معان تتعلق بالعلم هي:
    ما يدل على حصول صورة الشيء عند العقل سواء كان ذلك الشيء مجرداً أو مادياً، جزئياً أو كلياً، حاضراً أو غائباً، حاصلاً في ذات المدرك أو آلته.
    ثم إن الإدراك إذا دل على تمثُل حقيقة الشيء وحده، من غير حكم عليه بنفي أو إثبات سمى تصوراً، وإذا دل على تمثل حقيقة الشيء مع الحكم عليه بأحدهما سمى تصديقاً. والإدراك بهذا المعنى مرادف للعلم. وهو يتناول جميع القوى المدركة، فيقال إدراك الحس، وإدراك الخيال، وإدراك الوهم وإدراك العقل.
    ويحدد بعض الفلاسفة الإدراك بالإدراك الحسي وحده، وحينئذ يكون أخص من العلم وقسماً منه، وبعضهم يوسع معناه فيطلقه على حضور صورة المشعور به، ويكون عندئذ حالة عقلية.
    3_ التصور:
    قال الرازي: "إذا حصل وقوف القوة العاقلة على المعنى وأدركه بتمامه فذلك هو التصور" وهو لفظ مشتق من الصورة، ولفظ الصورة حيث وضع فإنما وضع للهيئة الجسمانية الحاصلة في الجسم المتشكل، إلا أن الناس لما تخيلوا، أن الحقائق المعلومات تصير حالة في القوة العاقلة، كما أن الشكل والهيئة يحلاّن في المادة الجسمانية، وأطلقوا لفظ التصور عليه بهذا التأويل. وأطلق لفظ التصور قسماً من أقسام العلم وقسيماً للتصديق، إذا كان حصولاً لصورة الشيء في الذهن قبل الحكم عليه بنفي أو إثبات وهو ما سماه صاحب الشمسية بالتصور فقط، إذ قال: "العلم إما تصور فقط، وهو حصول صورة الشيء في العقل وأما تصور معه حكم، وهو إسناد أمر إلى آخر إيجاباً أو سلبا، ويقال للمجموع تصديق".
    4_ الحفظ:
    وذلك "إذا حصلت الصورة في العقل وتأكدت واستحكمت، وصارت بحيث لو زالت لتمكنت القوة العاقلة من استرجاعها واستعادتها، سميت تلك الحالة حفظاً. ولما كان الحفظ مشعراً بالتأكيد بعد الضعف، لا جرم لا يسمى علم الله تعالى حفظاً، ولأنه إنما يحتاج إلى حفظ وما يجوز زواله ولما كان ذلك في علم الله محالاً، لا جرم لا يسمى حفظاً،
    5_ التذكر:
    الصور المحفوظة إذا زالت عن القوة العاقلة، وحاول الذهن استرجاعها فتلك المحاولة هي التذكر، والتذكر سر لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، ذلك أن "التذكر صار عبارة عن رجوع تلك الصورة المنمحية الزائلة، فتلك الصورة، إن كانت مشعوراً بها، فهي حاضرة حاصلة، والحاصل لا يمكن تحصيله، فلا يمكن حينئذ استرجاعها. وإن لم تكن مشعوراً بها كان الذهن غافلاً عنها، وإذا كان غافلاً استحال أن يكون طالباً لإسترجاعها، لأن طلب ما لا يكون متصوراً محال. فعلى كلا التقديرين يكون التذكر المفسر بطلب لاسترجاعها ممتنعا، مع أنا نجد من أنفسنا أنا قد نطلبها ونسترجعها. وهذه الأسرار إذا توغل العاقل فيها وتأملها، عرف أنه لا يعرف كنهها، مع أنها من أظهر الأشياء عند الناس، فكيف القول في الأشياء التي هي أخص الأمور وأعضلها على العقول والأذهان.
    ويطلق الذكر كما يرى الرازي على نتيجة التذكر، ذلك أن "الصورة الزائلة إذا حاول استرجاعها، فإذا عادت وحضرت سمى ذلك الوجدان ذكراً، فإن لم يكن هذه الإدراك مسبوقاً بالزوال،، لم يسم الإدراك ذكراً، فجعل حصول النسيان شرطاً لحصول الذكر".
    وحقيقة الأمر أن اعتبار الرازي النسيان شرطاً لحصول الذكر وأنه نتيجة للتذكر لا وجه له، لأن الذكر أعم من أن يكون نتيجة تذكر أولا، وأعم من أن يسبقه نسيان أولا، والتذكر يمكن أن يصدق عليه هذا الاشتراط، لأن التذكر كما قال ابن سينا هو : "الاحتيال لاستعادة ما اندرس" كما ويسمى القرآن ذكراً. إذ قال تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) ومعلوم أن القرآن ليس نتيجة تذكر، كما أن اشتراط الرازي أن يكون مسبوقاً بالزوال أو بالنسيان، لا يتناسب بحال من الأحوال مع تسمية القرآن ذكراً. والدليل على ضعف رأى الرازي أن الرازي نفسه قد علل تسميه القرآن ذكراً من جهة غير إشتراطه فقال: "وبوصف القول بأنه ذكر، لأنه سبب حصول المعنى في النفس، وذكر الآية.
    6_ الفهم والفقه:
    الفهم: "تصور الشيء من لفظ المخاطب. والإفهام هو أيضاً المعنى باللفظ إلى فهم السامع".
    والفقه: "هو العلم بغرض المخاطب من خطابه. يقال: فقهت كلامك أي وقفت على غرضك من هذا الخطاب". ثم إن الكفار لما كانوا أرباب الشهوات والشبهات، فما كانوا يقفون على ما في التكاليف الربانية والآيات القرآنية من المنافع العظيمة لهم، ولذلك، وصفهم الله تعالى بعدم الفقه، فقال سبحانه: (فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً) أي لا يكادون يقفون على المقصود الأصلي والغرض الحقيقي.
    ويلاحظ في الفقه أنه أثر علمي في النفوس وأنه من جهة الخطاب كما يلاحظ فيه كذلك أنه ليس مجرد العلم، وإنما هو العلم المؤثر في النفس الدافع للعمل، ولذلك سمى علم الفروع فقها لأنه علم بالأحكام الشرعية الفرعية العلمية المكتسبة من الأدلة التفضيلية. فالعلم والفقه وإن اجتمعا بمعنى واحد وهو الإدراك والعرفان إلا أن المتبادر من العلم تيقن المعلوم، والمتبادر من الفقه تأثير العلم في النفس الدافع للعمل ولذلك وصف الله تعالى المنافقين بأنهم لا يفقهون ولا يعلمون، إذ قال سبحانه: (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون) وقال عز وجل: (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون).
    كما يلاحظ أن الفقه من حيث هو الإصابة والوقوف على المعنى الخفى الذي يتعلق به الحكم، عام مستنبط بالرأي والاجتهاد، ويحتاج إلى النظرة والتأمل، لهذا لا يجوز أن يسمى الله تعالى فقيها، لأنه لا يخفى عليه شيء.
    ومن ثم فالفقه أحد أقسام العلم إذ هو علم كسبي أو استدلالي.
    7_ العقل:
    وهو العلم بصفات الأشياء من حسنها وقبحها وكمالها ونقصها، فإنك متى علمت ذلك، ما فيه من المضار والمنافع، وصار علمك بما في الشيء من النفع داعياً لك إلى الفعل، وعلمك بما فيه من الضرر داعياً إلى الترك، فصار ذلك العلم مانعاً من الفعل مرة ومن الترك أخرى، فيجري ذلك العلم مجرى عقال الناقة. وذلك المعنى مناسب لأصل معنى العقل في اللغة إذ يدل على المعرفة، فتقول: ما فعلت كذا منذ عقلت. وعقل فلان بعد الصبا: أي عرف الخطأ الذي كان عليه.
    8_ الدراية والرواية:
    الدراية هي المعرفة الحاصلة بضرب من الحيل، وهي تقديم المقدمات واستعمال الرويّة، والروية: هي ما كان من المعرفة بعد فكر كثير.
    9_ الحكمة:
    للحكمة معان كثيرة. منها: العلم والتفقه. وما يمنع من الجهل. ومعرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم. والإصابة في القول والعمل فلأنها الإصابة في تقدير الأمور النظرية فهي بمعنى العلم، ولأنها الإصابة في الأمور العملية التي تحتاج إلى سداد الفكر والعلم فهي بمعنى الفقه. ومنها يقال: أحكم العمل إحكاماً إذا ما أتقنه. ثم حدت الحكمة بألفاظ مختلفة فقيل: هي معرفة الأشياء بحقائقها، وهذا إشارة إلى أن إدراك الجزئيات، لا كمال فيه، لأنها إدراكات متغيرة، فأما إدراك الماهية فإنه باق مصون عن التغير والتبدل".
    قال الله تعالى: (يؤتى الحكمةَ من يشاءُ، ومن يُؤْتَ الحكمةَ فقد أوتي خيراً كثيراً وما يذكّر إلا أولو الألباب). (أم يحسُدونَ الناسَ على ما آتاهم اللهُ من فضله. فقد آتينا آل إبراهيمَ الكتابَ والحكمةَ وآتيناهم مُلكاً عظيماً).
    10_ كما أطلقت ألفاظ أخرى ويراد بها العلم منها:
    البديهة: وهي المعرفة الحاصلة ابتداء في النفس لا بسبب الفكر، كعلمنا بأن الواحد نصف الاثنين والأوليات: وهي البديهيات.
    والكياسة: وهي ما يدل على تمكن النفس من استنباط ما هو أنفع.
    والخبرة: وهي معرفة يتوصل إليها بطريق التجربة. وهي من قولهم: ناقة خبرة، أي غزيرة اللبن، فكأن الخبر هو غزارة المعرفة.
    والرأي: وهو إحاطة الخاطر في المقدمات التي يجري منها إنتاج المطلوب.
    والفراسة: وهي الاستدلال بالخلق الظاهر على الخلق الباطن. وقد نبه الله تعالى عل صدق هذا الطريق بقوله: (إن في ذلك لآيات للمتوسمين)، (ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول) واشتقاقها من قولهم: فرس السبع الشاة، فكأن الفراسة إختلاس المعارف.
    وضرب من الفراسة يكون بصناعة متعلمة، وهي الاستدلال بالأشكال الظاهرة على الأخلاق الباطنة. وقال أهل المعرفة في قوله تعالى (أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه).
    إن البينة هي القسم الأول وهو إشارة إلى صفاء الروح.
    والشاهد هو القسم الثاني وهو الاستدلال بالأشكال على الأحوال.
    -----------------------
    المصدر : نظرية المعرفة بين القرآن والفلسفة
يعمل...
X