إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

حروب العاصي - خالد عواد الأحمد

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • حروب العاصي - خالد عواد الأحمد

    ينام ملء جفونه عن شواردها:

    حروب ( العاصي ) بين حمص وحماة

    خالد عواد الأحمد
    رغم أن نهر العاصي الذي يقع وسط سورية قادماً من منطقة الهرمل في البقاع اللبناني ليصب في أنطاكية هو الأقل شهرة بين أنهار العالم المعروفة إلا أنه أكثرها إثارة وغرائبية بدءاً من الأساطير التي رويت عن تسمياته الكثيرة ومروراً باتجاهه من الجنوب إلى الشمال الذي يخالف أنهار العالم وانتهاءً بحضوره في الذاكرة الشعبية والمكان والتاريخ .
    ذكره ياقوت الحموي في كتابه الموسوعي الشهير (معجم البلدان) بقوله "العاصي بالصاد المهملة وهو ضد الطائع اسم نهر حماه وحمص ويصب في البحر قرب أنطاكية واسمه قرب أنطاكية (الأرند) وقيل إنما سُمي بالعاصي لأن أكثر الأنهر تتوجه ذات الجنوب وهو يأخذ ذات الشمال وليس هذا بمطرد".
    ويروي الأديب وليد قنباز أن البعض يرد تسمية العاصي بذلك إلى أن مصب النهر في البحر قرب السويدية وعلى بعد 27 كم من أنطاكية وأنطاكية وما حولها بقيت بيد الروم البيزنطيين بعد دخول الإسلام وفتوحاته وبعد الروم دخلها الصليبيون فبقيت بأيادٍ غير عربية وكان العاصي يرويها فقالوا كيف لنهر يجري في ديار الإسلام يدخل أرض الكفر ويروي أهلها إنه "عاص" ويقول آخرون سُمي النهر بالعاصي لأنه تأبّى على ضفافه فاحتال عليه الحمويون بنواعير تغني له وتسرق مياهه دون أن يدري حتى أن أحد الشعراء قال :
    عصى فلم يسق أرضاً من حدائقهم إلا بحيلة وسواس النواعير
    شبابة مرسيا

    طوّقت الأساطير هذا النهر منذ عهد اليونان اسماً ومسمى ويذكر الخوري (عيسى أسعد) في كتابه (تاريخ حمص الجزء الأول) عن (مرتين اليسوعي) أن اسم العاصي لم يكن لهذا النهر حتى اختصم (أبولون) إله اليونان و(مرسيا) الذي تحدى أبولون) بإتقانه النفخ في الشبابة وكبر على (أبولون) أن يفوقه (مرسيا) في الغناء فتقدم منه وسلخ جلده على ضفة النهر فسُمي النهر من يومئذٍ باسم (مرسيا) القتيل المظلوم وهذا هو أول أسماء نهر العاصي وقيل بل اسمه القديم هو (طيفون) أو لعله سُمي كذلك بعد (مرسيا) والسبب الثاني أن تنيناً هائلاً يُدعى (طيفون) داهمته الصاعقة فشق الأرض ليختبىء وهو مذعور مضطرب فكان من ذلك مجرى العاصي على ما هو عليه ثم تفجر الماء وهكذا كان وقيل أن جباراً هندياً يُدعى (أورانتس) تصدى لـ (ديونيس) أثناء حملته على الهند وردّه . ثم تقدم (أورانتس) متعقباً (ديونيس) فجمع الثاني قوته وتغلب على الأول ورماه في النهر فسُمي النهر من يومئذ (أورانتس) وهذا الاسم الثالث هو الذي بقي طويلاً حتى دخل العرب بلاد الشام وكانوا ينطقون اسم أورانتس (ارنط) أو (أرند) تقريباً .
    حروب صغيرة

    إذا كان نهر العاصي قد صب مياهه في (نهر التيبر) حاملاً معه لغته وعاداته كما قال الشاعر اللاتيني (جوفنال) تعبيراً عن تأثير حمص في الامبراطورية الرومانية قبل زهاء ألفي عام فإنه لازال حاضراً إلى الآن بأساطيره وحكاياته ومشاكساته وحروبه الصغيرة التي يشعلها بين الفينة والأخرى بين مدينتي حمص وحماه المتجاورتين اللتين تدّعي كلٌ منهما ملكيتها للنهر و"ينام هو ملء جفونه عن شواردها" كما يقول المتنبي- وخلقت هذه (العداوة السلمية) حرباً ضروساً سلاحها الكلام بين المدينتين السوريتين كلاهما ترشق الأخرى بالنكات حتى أصبح الأمر أشبه بدراما كوميدية يومية أضفت على المدينتين نكهة خاصة وطابعاً فولكلورياً مميزاً . في كل بلدان العالم يقولون (كل الحق على الطليان ) أما في حمص فيقولون (كل الحق على الحمويين) ويبدو أن هذه الحالة من "العداوة السلمية " المستحكمة بين حمص وحماه ليست ابنة يومها بل إن لها جذوراً متأصلة في التاريخ ففي زمن الفتح الإسلامي لبلاد الشام قُسّمت الأجناد وكانت حماه من نصيب جند حمص ثم دخلت في حكم الأمويين ولما حدثت معركة (مرج راهط) بين اليمنية أنصار (مروان بن الحكم) والقيسية أنصار بن الزبير غُلبت القيسية وكان سكان حماه منها وبدءاً من هذا التاريخ "تأرّثت" المشاحنة بين أهل حمص وأهل حماه وبقي أوارها يشتعل ويشتد والخلفاء الأمويون يساندون حمص على حماه لأنها من أنصارهم .
    أذل من قيسي

    يذكر الأديبان (عبد المعين الملوحي ) و (محي الدين الدرويش ) في تحقيقهما لديوان (ديك الجن الحمصي ) حادثة وقعت في حمص أشار إليها (ديك الجن) في شعره وهي أنه كان في حمص ثلاث أسر قيسية وكان خطيب الجامع منها فأنزلوه عن المنبر وضربوه وأخرجوا هذه الأسر الثلاث ومنذ ذلك الوقت درج المثل المشهور (أذل من قيسي في حمص ) وظلت حماه طوال حكم بني أمية تابعة لحمص ولما انهارت الدولة الأموية وخلفتها الدولة العباسية ظلت حماه تابعة لها حتى 290 هـ .
    وتذكر كتب التاريخ فيما بعد أن شيركوه ملك حمص أرسل في عام 635 م عساكره إلى سلمية القريبة من حماه فطردوا نواب ملك حماه منها وقطعوا ماء القناة التي كانت تجري من سلمية إلى بساتين حماه (قناة العاشق) فيبست البساتين ولحق الحمويين ضرر فاحش ولم يكتف ملك حمص بذلك بل أرسل عمالاً من حمص إلى البحيرة فبنوا تجاه الماء سداً عظيماً حُوّل به ماء العاصي عن حماه إلى الأودية فوقفت النواعير وكاد الماء أن ينفذ منها لكن الماء هدم السد وعاد إلى مجراه الأصلي وكان ذلك انتقاماً من ملك حماه لمعاونته الملك الكامل ملك مصر .
    ملكية العاصي

    من الوثائق التاريخية الطريفة المتعلقة بنهر العاصي والمناكفات الفولكلورية بين مدينتي حمص وحماه حوله تلك الوثيقة التي وضع الباحث (نهاد سمعان) يده عليها مؤخراً وفيها يدعي أهل حماه أن نهر العاصي "ملك " لهم وقد جاء في نص هذه الوثيقة المؤرخة في 18 تشرين الأول 1937 إلى فخامة رئيس مجلس الوزراء الأفخم :
    المعروض : لقد أجمع الفقهاء والمؤرخون على أن نهر العاصي ملك لأهل حماه وليس لغيرهم حق الاستقاء منه وقد أيدت ذلك الحكومة العثمانية مراراً بأعمالها عندما كان يحاول بعض أخواننا في حمص إحداث مجاري لإسقاء أراضيهم وأصدرت كثيراً من الفرمانات والأوامر بهذا الشأن غير أنه في هذا اليوم نرى الحال على عكسه فقد فُتحت كثير من السواقي في حمص حتى أصبحت بساتين حمص لا تقل عن بساتين حماه . ولم يكتف بذلك بل إن الحكومة قائمة على فتح أقنية تُسقى منها أراضي شاسعة من قرب حمص غير عالمة أن إسقاء هذه الأراضي يؤول حتماً إلى حرمان أراضينا من السقاية والقضاء على أملاكنا ولا نعرف حكومة من الحكومات ترضى لنفسها أن تسلب أصحاب الحقوق حقوقهم وتعطيها لغيرهم حتى في هذا العام جف كثير من بساتيننا وضعفت قوة طواحيننا ولم نتمكن من الاستفادة من موسم السقي لقلة الماء فضلاً عن أن نصف المدينة انقطعت آبارها ولم تعد قناة العاصي توصل إليها المياه لقلة ماء النهر كل ذلك وماء السد لم يصرف بعد إلى أراضي حمص المنوي إسقائها من جديد فنحن مع رغبتنا بلإفادة إخواننا الحمصيين نعرض لكم بأننا لا نستطيع أن نرى إقامة غياض في حمص على أنقاض غياضنا وأخذ مائنا وإسقاء أراض جديدة به وحرماننا من حق الشفه فضلاً عن السقاء فلذلك نرفع لمرجعكم العالي مطاليبنا ملتمسين تحقيقها ؟.
    ويعرض الحمويون في الوثيقة المذكورة هذه المطالب بما يلي :
    1- إسالة عشرين متراً مكعباً في الثانية إلى حماه هي الكمية التي لا يمكن أن يقل عنها ماء العاصي الوارد إلينا إذ لو قلّ لجفت بساتيننا ووضع ميزان لقياس هذا الماء في أول أراضي حماه بعد أراضي قرية الرستن وفي آخر أراضي قرية الرستن من الجهة الشمالية بدء أراضي حماه .
    2- اعتبار حقنا هذا في الدرجة الأولى باعتبار أننا من أصحاب الحقوق القديمة الراهنة وجعلها بشكل ممتاز حتى إذا قل الماء في سنة من السنين يكون لنا حق أخذ حقنا أولاً وما تبقى يأخذه أصحاب الأراضي الجديدة المنوي إسقائها ؟ وهذا تشريع مفصل يحفظ حقنا .
    3- إعطائنا نصف الماء المنوي أخذه من السد لإسقاء أراضي محدودة وغسالته إلى أراضي حماه إذ أن الذين ليسوا أصحاب حق أخذوا قسماً منه فلا أقل من مشاركة صاحب الحق لغيره . ويختم الحمويون الوثيقة المذكورة بالقول إن لنا الثقة بسماع شكوانا وإجابة مطاليبنا لأنها شكوى المحق ولأن مطالبنا هي العدالة بعينها ولكم الأمر مولانا وقد ذُيّلت هذه الوثيقة بأكثر من مائتي توقيع لوجهاء ومزارعين وموظفين من حماه وتقدم هذه الوثيقة البرهان الساطع والقوي على توأمة المدينتين حمص وحماه وعلى شدة التشابه بين أهالي المدينتين سواء في طريقة التفكير أو الطباع أو ردود أفعالهم الذكية.
    خالد عواد الأحمد


يعمل...
X