و نرجع للأم الطيّبة !
بقلم : آسيا رحاحليه
رسالة وردة الأخيرة كانت أنه مهما طالت الغربة و امتدّت فصول البعاد لابد من العودة إلى الوطن .
هل بإمكان الفن أن يلمّ الشمل ، أن يجمع الشتات ، أن يمحو أدران الحقد و يحسر الغيم عن سماء الودّ ؟
هل بإمكان الفن حقا أن ينجح حين تفشل السياسة أو أن يجد المخارج و الحلول حين تتأزّم العلاقات أو يجبر القلوب التي تكسرها الدسائس و الفتن ؟
هل بإمكان الفن أن يلمّ الشمل ، أن يجمع الشتات ، أن يمحو أدران الحقد و يحسر الغيم عن سماء الودّ ؟
هل بإمكان الفن حقا أن ينجح حين تفشل السياسة أو أن يجد المخارج و الحلول حين تتأزّم العلاقات أو يجبر القلوب التي تكسرها الدسائس و الفتن ؟
و هل يستطيع الفنان أن يوفّق في ما قد يخفق فيه الدبلوماسيون ؟
تساءلت هذا الصباح و أنا أتأمّل صورة الصندوق ، حيث يرقد جثمان الفنانة الراحلة وردة الجزائرية ، و قد تم لفّه بالعلم المصري و العلم الجزائري معا كما لو كانا علما واحدا لوطن واحد ..
كان صوت في داخلي يجيب بالإيجاب ..نعم ، الفن يستطيع ، و الفنان الصادق الملتزم يستطيع .
في صدري غصّة و أنا أكتب عن وردة هذا الصباح ، في روحي حنين و كثير من الأسف أيضا لأني لا أدري من الذي سيطربنا بعد أن التحقت وردة بعمالقة الطرب الذين رحلوا . من سيشجينا و يهزّ وجداننا و مشاعرنا و يطرب أسماعنا ؟ من سيسحرنا بجمال الطلّة و عمق الصوت و سحر الحضور و رقيّ الكلمة و عبقرية اللحن في هذا الزمن الذي يعيش فيه الغناء العربي أسوأ أزمانه ؟ من ؟ و الساحة تعج بمئات الأشباه من الفنانات اللواتي يجدن الغناء بأجسادهن و عريهن و يعتبرن الصوت لا معنى له أمام الصورة ، و الأداء و الإطراب مجرّد إضافات و كماليات لا تغني عن التغنّج و التمايل و الرقص ؟
من سنن الحياة أنّ كل شيء يبدأ صغيرا ثم يكبر ، لكن العجيب في وردة الجزائرية أنها ولدت كبيرة ، و هذا شأن العمالقة ، يولدون كبارا من يومهم ، سواءً في فنّهم أو فكرهم أو مبادئهم أو آرائهم ، هذا الكلام لا أسوقه من فراغ و إنّما لأني أحفظ في ذاكرتي عبارة تلفّظت بها وردة و لم أنسها أبدا رغم مرور السنين . كان ذلك في بداية مشوارها الفني في مصر في السبعينيات و كنت في بداية سن المراققة ، كنت أجلس مع والدتي و أخواتي في حوش بيتنا في ظهيرة يوم مشمس نستمع للراديو ، كان الحوار مع وردة .. لا أذكر بالضبط من كان المحاور و لا المناسبة و لا أية تفاصيل أخرى و لكني أذكر ما قالته وردة يومها ردا على سؤال أو ملاحظة كونها أم كلثوم رقم اثنين ..فردّت وردة أنها ترفض أن تكون أم كلثوم " نمرة " اثنين ، و تريد أن تكون وردة " نمرة " واحد !
و أن تقول ذلك فنانة مبتدئة و هي في وطن غير وطنها ، في وقت كان فيه التنافس على أشدّه بين كبار المطربات و المطربين ، و كانت غيرها من الفنانات المتسلّقات هرم الأغنية يتمنين لو يصنّفن و لو حتى تحت مسمّى أم كلثوم رقم عشرة ....أن تقول وردة ذلك فهذا هو العظيم في رأيي و هذا هو المميّز و الذي وضع قدميها على طريق القمّة و المجد الذي صبت إليه .
لم تسع وردة لأن تكون نسخة لغيرها و لو كانت أم كلثوم ، أرادت أن تكون نفسها ، و كذلك كانت ..و ربما أرادت أن تثبت لفناني مصر و للعالم بأن الجزائري شخص مكافح بطبعه و إذا أراد التميّز وصل إليه ...
و كذلك كان .
و لأنّ لكلٍ من اسمه نصيب فإنّ وردة رحلت كما ترحل الوردة تماما في صمت و هدوء ، دون جلبة ، دون أن تثير الإنتباه ، و لكنها اختلفت عن كل الورود في كونها لم تذبل أو تجف ، رغم وطأة السنين و المرض ، لم تفقد من نضارتها أو عطرها أو سحر ابتسامتها و ذلك حتى آخر ظهور لها على الشاشة .
رسالة وردة الأخيرة كانت أنه مهما طالت الغربة و امتدّت فصول البعاد لابد من العودة إلى الوطن .
وردة التي هامت بالجزائرعادت إليها ، و الجزائر التي عشقت وردة أيضا بكتها بحرقة ثم احتضنت رفاتها بكل الحب كما تحتضن الأم وليدها .