إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

تاريخ الآداب العربية - لويس شيخو

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • تاريخ الآداب العربية - لويس شيخو

    تاريخ الآداب العربية

    كتاب غزير الفائدة ، فريد في مواده وأبحاثه .
    وهو مجموعة تراجم نادرة ، وإحصائات علمية ، وبحوث قيمة ، حول تاريخ الطباعة ومجرياتها في القرن التاسع عشر . والربع الأول من القرن العشرين .
    وقد نشرت هذه البحوث تباعًا كفصول في مجلة الشرق التي كان يصدرها مؤلف الكتاب .
    ثم جمع فيما بعد تلك الأبحاث ، وأصدرها في مجلدين بعنوان ( الآداب العربية في القرن التاسع عشر ) ، صدر الكتاب بجزئيه سنة 1910م ويضم الأول منه وصفًا كاملاً لإصدارات دور النشر في العالم للكتب العربية من سنة 1800م إلى سنة 1870م ، ويضم الثاني ما تلا ذلك حتى عام 1900م ، ثم زاد عليه فصولاً أرخ فيها للربع الأول من القرن العشرين ، وأصدرها سنة 1926م كجزء ثالث للكتاب .
    وقد رتب مواد الكتاب حسب وفيات السنين ، فيأتي في كل سنة على ذكر من توفي فيها من المستشرقين وأصحاب المطابع ومشاهير الناشرين ، ويأتي في صدد ترجمتهم على ذكر خدماتهم في نشر التراث العربي ، كقوله في وفيات سنة 1916م : ( وكانت سن مشئومة على الآداب العربية ، قتل فيها ظلمًا بأمر جمال باشا وحزبه ( الإتحاد والترقي ) جملة من نخبة الكتاب وأهل الأدب ، نصارى ومسلمين ، ونذكر هنا المسلمين منهم الذين تركوا آثارًا من أقلامهم ، وأخصهم السيد عبد الحميد الزهراوي ... إلخ ) .

    ترجمة المؤلف
    لويس شيخو
    1275-1346هـ / 1859- 1927م

    رزق الله بن يوسف بن عبد المسيح بن يعقوب شيخو ، منشئ مجلة المشرق في بيروت ، وأحد المؤلفين المكثرين ، كان اسمه قبل الرهبنة (رزق الله بن يوسف بن عبد المسيح بن يعقوب شيخو ) ، ولد في ماردين بالجزيرة الفراتية وانتقل إلى الشام يافعًا ، فتعلم في مدرسة الآباء اليسوعيين في غزير بلبنان ، وانتظم في سلك الرهبنة اليسوعية سنة 1874 وتنقل في بلاد أوربا والشرق ، فاطلع على ما في الخزائن من كتب العرب ، ونسخ واستنسخ كثيرًا منها ، حمله إلى الخزانة اليسوعية في بيروت .
    وانصرف إلى تعليم الآداب العربية في كلية القديس يوسف ، ثم أنشأ مجلة المشرق سنه 1898 فاستمر يكتب أكثر مقالاتها مدة خمس وعشرين سنة ، وكان همه في كل ما كتب ، أو في معظمه ، خدمة طائفته . توفي في بيروت .
    من تصانيفه ( المخطوطات العربية لكتبة النصرانية – ط ) ، و ( معرض الخطوط العربية - ط ) ، و ( الآداب العربية في القرن التاسع عشر – ط ) ، ونشر كثيرًا من الكتب العربية .

    المقدمة
    تحيا الأمم بآدابها لأن الآداب ترقي المرء فوق الحياة المادية وتسمق به إلى المدارك الشريفة وتقربُه إلى عالم لأرواح وإلى الجمال الإلهي الذي منهُ يستعير كل مخلوق جماله. وعليهِ فأن أراد العاقل أن يعرف درجة التمدُن التي بلغها شعب من الشعوب يبحث عن انتشار الآداب بين أهلهِ ولذلك ترى المؤرخين يقدَمون في تاريخهم تاريخ الآداب على تاريخ الوقائع وربما أفردوا للآداب تاريخاً قائماً بذاتهَ يثبت ما يختص بالعلوم والمعارف في كل ملَة مخبراً عن نشأة الآداب بينها واتساع نطاقها وأسباب ترقيها ونتائجها الطيبة في إصلاح العموم وتحسين أخلاقهم ودفعهم إلى المشروعات الأثيرة والمساعي الخطيرة .
    ومن عجيب أمور اللغة العربية أنك لا تجد حتى اليوم تاريخاً ممتعاً لآدابها مع وفرة كتبتها وتعدُد مصنفاتها في كل أبواب العلوم واتساع دائرة نفوذها إلى حدود الهند والصين ومجاهل أفريقية وسواحل أوربا وقد أحسَّ بهذا النقص مائة من المستشرقين المحدثين في فرنسة والنمسة وألمانية وإنكلترة وروسية وإيطالية فأرادوا نوعاً سدّ هذا الخلل ببعض التآليف التي أودعوها أوصاف العلوم العربيَّة وتراجم أصحابها وقائمة الكتب التي صنفوها. وكذلك جرى على آثارهم بعض كتبة الشرق في مصر فاستقوا من مناهلهم أخصهم المرحوم جرجي زيدان في كتابهِ تاريخ الآداب العربية الذي انتقدنا أقسَامهُ في مجلَّة المشرق.
    على أن تلك التآليف مع فوائدها ليست سوى بواكير أعمال أوسع واكمن لا نزال إليها في حاجة ماسة فنتمنى أن تتألف فرقة من الأدباء بهذا المشروع الجليل فتتبع آثار اللغة العربية في كل أطوارها مباشرة بعد الجاهلية وبين القبائل المتفرقة في أنحاء الجزيرة تدوَن نشأة تلك اللغة وما طرأ عليها من الطوارئ في أوائل الإسلام وفي زمن الخلافتين الأموَّية والعباسية مع وصف الأسباب التي زادتها انتشاراً كفتح المدارس وإنشاء المكاتب ونوادي العلوم وتنشيط الملوك. ثم تّعرف أئمة الكتبة والذين اشتهروا في كل زمن وكل بلد واختصوا بكل صنف من العلوم. وتعرض تآليفهم على محكَ الانتقاد فتميز غثها من سمينها ولا تكتفي بذكر أسمائها وتعريفها إجمالاً. فكم هناك من المصنفات الموّهمة بأسماء جليلة وهي بمضامينها ومعانيها هزيلة. وتواصل دروسها حتى إذا بلغ القرون الأخيرة تذكر خمود تلك الآداب مبينة لعلها ومعاولاتها. ثمّ تختم ذلك بفصل مطوَّل عن النهضة الأدبية التي حدثت في القرن الأخير فتطرئ على محاسنهِ وتضرب على مشاينهِ.
    فلا غرو أن كتاباً مثل هذه يتهافت عليهِ الأدباء ويتخذونهُ كدستور دروسهم وأساس أبحاثهم. وذلك ما حدا بنا أن نكتب في المشرق فصولاً في الآداب العربية في القرن الأخير رجاء أن تمهد الطريق لمن يتوخَّى ذلك التاريخ الذي يتوق إليهِ المستشرقون. فلمّا انسنا في جمهور القراء. إقبالاً على مطالعتها وطلبوا إلينا جمعها في كتاب مستقل تسهيلاً لمراجعتها لَبينا إلى ملتمسهم وطلبنا على حدة القسم الأول الذي يتناول تاريخ الآداب العربية من غرَّة القرن التاسع عشر إلى السنة 1870 ثم أردفناه بقسمهَ الثاني إلى أواخر القرن التاسع عشر.
    هذا ونحن نعلم حق العلم أنهُ فاتتنا أشياء كثيرة من أحوال الآداب التي أردنا وصفها والآداب الذين قصدنا تعريفهم وما كنا لنجتري. على مباشرة هذا العمل أولاً خوفنا بأن يتلف القليل ممّا جمعناه عن آداب القرن المنصرم فتأخذه أيدي الضياع. وأملنا الوطيد بان يتلافى غيرنا ما يجدوه في هذا المجموع من خلل بإبراز ما عندهم من الذخائر المصونة والكنوز المدفونة. ونشكر الذين لبوا دعوتنا وأتونا ببعض الفوائد لإصلاح ما وقع من الخلل في طبعتنا الأولى وتحسين هذه الطبعة الجديدة. وقد ختمنا هذا الجزء بفهارس المواد وإعلام الأدباء الشرقيين والمستشرقين الذين مرَّ ذكرهم في مطاوي الكتاب لتتم بها الفائدة
    وتزيد العائدة. إنشاءَ الله.
    الجزء الأول
    من السنة 1800 إلى 1870
    الآداب العربية في القرن التاسع عشر
    توطئة
    إن الآداب كصرح منيف لا تزال أيدي الأفاضل تفرغ المجهود في بنائه فكل منهم يأتيه بحجرهِ ليزيده علواً وكمالاً. على أنه يطرأ على هذا الصرح طوارئ شتي فطوراً يبسق ويتعالى وطوراً يتخلف بناؤه فيصيب بناته الخمول ولعل صروف الدهر تتحامل عليه فتقوض أركانه وتسقط بفعل الزمان بغض حجارته.
    وكل يعلم ما كان للآداب العربية في القرون السابقة من الرونق والبهاء فترقَت إلى أوج غرها وماست بمافخرها مدة أجيال متوالية إلى أن خمدت همه بناة صرحها حيناً على وفق سنن الطبيعة التي لا تبقى على حالٍ واحدة كما قال الشاعر:
    لكل شيء إذا ما تم نقصان
    وهذه الدنيا لا تُبقي على أحدٍ ولا يدوم على حالِ لها شانُ
    لكن هذا الخمول والحمد لله لم يدوم زمناً طويلاً بل كان سباخاً بين بقعتين طَيبتين أو شتاء بين ربيعَين كما سترى فازدهرت شجرة الآداب بعد جفافها وراجت أسواق العلوم بعد كسادها حتى بلغت ما نراه اليوم من أمرها بعناية أرباب الشأن وهمَّه الأدباء.
    الفصل الأول
    الآداب العربية في الشرق في بدء القرن التاسع عشر

    لما تنفَّس القرن التاسع عشر كانت أحوال أوربَّة في هَرج ومَرج والحروب قائمة على ساق بين دولها فلم تحطَ عن أوزارها إلا بعد نفي بونابرت إلى سنت هيلانة. وكان الشرق راصداً لحركات الدول يتحفَّظ ويتصوَّن من كل سوء يتمهَّده فيستعدُ للحرب ذباً عن حقوقهِ. فكانت هذه الحالة لا تسمح بصرف الفكر إلى العلوم والآداب وقد قيل في مثلِ (أنَّ الحرب والعلم على طرفي نقيض فأن رجيح واحد خفّ الآخر) وممّا نقض حبلَ الآداب في ذلك العهد قلّة المدارس يتخرَج فيها الأحداث فغاية ما كان يُرى منها بعضُ الكتاتيب الابتدائية لا سيما قريباً من أديرة الرهبان وكان في الحواضر كدمشق وحلب والإسكندرية والقاهرة مدارس أعلى رتبة لكنَّها في الغالب كانت محصورة في العلوم الدينيَّة وما يُحتاج إلى إتقانها من المعارف اللسانية كمبادئ الصرف والنحو.
    أما الكتب فكانت عزيزة الوجود أكثرها من المخطوطات الغالية الثمن التي لا يحصل عليها إلاَّ القليلون. وكذلك الطباعة العربيَّة كانت إذ ذلك قليلة الانتشار فأنَّ مطبوعات أوربة العربيَّة لم يكن يعرفها إلا الأفراد. من أهل الشرق فضلاً عن أنها كانت موضوعة لمنفعة العلماء أكثر منها لفائدة الدارسين. أما المطبوعات في الشرق فلم يكن يوجد منها إلاَّ في دار السلطنة العليَّة وكانت في الغالب تركيَّة (أطلب مقالتنا في الطباعة. المشرق 3 (1900): 174- 180) وفي لبنان كانت مطبعة واحدة عربيَّة وهي مطبعة الشوير وكانت أكثر
    مطبوعاتها دينيَّة لا مدرسيَّة (الشرق 359:3 - 362). وأما مطبعة قزحياً فكانت سريانيَّة ولم تتجدَّد إلا بعد ثماني سنوات بهمة الراهب اللبناني سيرافيم حوقا (المشرق 3: 251 - 257). وكذلك مطبعة حلب التي كان أنشأها البطريرك أثناسيوس دباس (المشرق 3: 355 - 357) فأنَّها كانت بطلت بعد وفاة منشئها سنة 1724. أما مصر فإنها حصلت على أول مطبعة عربية قبل القرن التاسع عشر بثلاث سنوات فقط. فأنَ اللجنة العلميَة التي كانت في صحبة نابليون كانت أتت بأدوات طبعية توّلي إدارتها المسيو مرسال وممّا طبعهُ بادئ بدء كتاب التهجئة في العربيَّة والتركية والفارسية (1798) (ثم كتاب القراءَة العربية ثم معجم فرنسويّ وعربيّ ثمَّ غراماطيق اللغة المصرية العاميّة. وفي سنة 1800 عاد مرسال إلى باريس وجلب مطبعتهُ معهُ ولم يستأنف المصريُون فن الطباعة إلا في أيام محمَّد عليّ سنة 1822. وسنعود إلى الكلام عنها.
    ومع قلَّة هذه الرسائل لتحصيل العلوم وُجد قومٌ من المكتبة الذين خدموا في الدواوين المصريَّة والشاميَّة وكانوا يتولَّون قلم الإنشاء فيها عند عمَّال الدولة العلية فينالون في الكتابة بعض الشهرة منهم إبراهيم الصبَّاغ وأولادهُ الذين أثبتنا ترجمتهم في المشرق (8 (1905): 24) وصار ابنهُ حبيب كاتب القلم العربي عند أحمد باشا الجزَّار فتسلَّم دائرتهُ ثم تغيَّر هذا عليه فحبسهُ ومات محبوساً. واشتهر المعلم عبود البحري وأخواهُ جرمانوس وخنَّا
    عند إبراهيم باشا أوزون القِطر أغاسي في حَلب وفي دمشق ثم عند خلفية عبد الله باشا العظم ويوسف آغاكنج كما ذكرنا في ترجمة والدهم ميخائيل البحري (راجع المشرق 3 (1900): 2 - 22) وذكرنا هناك ما كان لكل واحد منهم من الهمَّة في خدمة الدولة العثمانية وأصحابها. أما أبوهم ميخائيل فكان معتزلاً عن الأشغال في بيروت منقطعاً فيها إلى العبادة حتى توفي أواخر القرن الثامن عشر سنة 1799. وقد روينا في ترجمته شيئاً من
    شعرهِ فأنهُ كان رُزق من القريحة والذكاء ما حَببهُ إلى رجال الدولة وقدَمهُ قي الأعمال وهو لا يزال يفرغ كنانة الجهد في القيام في الأمور وصدق الخدمة ونشأ أولادهِ على وتيرتهِ وترقَّوا في الرُتب الديوانية إلى أن انتقلوا نحو السنة 1808 إلى مصر ونالوا الحظري لدى أمرائها (المشرق 3: 21 - 22) ومن آثارهم رسائل ومكاتبات وأشعار قد تبدّد أكثرها.
    وكان في صور أيضاً المعلَم حنا عوراء من جملة الكتَّاب أخذ عن أبيهِ ميخائيل الذي كان فريداً في الكتابة يُحسن الإنشاء في العربية والتركية والفارسية فلمَّا توفي ميخائيل في سنَّ الأربعين نال أبنهُ حناَّ رتبتهُ في ديوان الجزّار ثم عند سليمان باشا واستخدم معهُ أبنهُ إبراهيم الذي توفي بعد سنتين بالطاعون. وبقي حنا من بعدهِ زمناً طويلاً في الأعمال الديوانيّة. وممن خدموا أيضاً في دواوين الإنشاء في ذلك الوقت الأخوان إبراهيم وخليل النحاس ابنا عم حنّا عوراً كتب لأول في عكا والثاني في صور وأشتهر أيضاً بالكتابة في الوقت عينه غير هؤلاء كميخائيل سكروج وأخيهِ بطرس وإبراهيم أبي قالوش ويوسف مارون والياس بن إبراهيم اده الذي دونَّا سيرتهُ وشعرهُ في المشرق (2 (1899): 693و736) وكذلك فضُول الصابونجي وأخوهُ خدموا كلهم أحمد باشا الجزّار وذاقوا حاوهُ ومرَّهُ. وفي عدهم اشتهر عند الأمير بشير الشهابي الشيخ ساوم الدحاح ثمَّ ابنهُ الشيخ منصور وبعدهما بطرس كرامه. كما حظي عند الأمير يوسف الشيخ سعد الخوري وعُرف في ذلك الوقت جرجس باز وعبد الأحد أخوهُ خدما أولاد الأمير يوسف وهم حسين وسعد الدين وسليم الذين كانوا يزاحمون الأمير بشير على الحكم.
    وكان في مصر غير هؤلاء يشتغلون في الدواوين في غرةّ القرن التاسع عشر. إلا أن شهرتهم في الكتابة كانت دون شهرة السوريين. وممَّن امتازوا إذ ذاك المعلَمان القبطيَّان جرجس الجوهري وغالي. فكان الأوَّل فرئيس الكتبة في أيام إبراهيم بك وحظي لدا محمَّد باشا خسرو ثم نُكب. وقد ذكرهُ الجبرتيّ في تاريخهِ عجائب الآثار وجعل وفاتهُ في شعبان السنة 1225ه. (1810). وقام من بعده المعلم غالي وكان زاحمهُ في حياتهِ فصار في خدمة محمَّد علي باشا وأبنهِ إبراهيم متولياً رئاسة الكتابة وكان من جملةّ كتابه قومٌ من نصارى السوريين وغيرهم كجرجس وحنَّا الطويل والمعلم منصور صريمون وبشاره ورزق الله الصبَّاغ والمعلم فرنسيس أخي المعلم فلتأوس وقد تضعضع أمرهم بموت المعلم ضالي الذي قُتل سنة 1820 ومما ساعد أهل مصر على صيانة الآداب العربية في ضهرانيهم مدرسة زاهرة كان يعلم فيها نخبة من العلماء المسلمين نريد بها المدرسة الأزهريَّة التي مر في المشرق وصفها (4 (1901): 49). وكان متولّي تدبيرها في ذلك الوقت الشيخ عبد الله بن حجازي الشهير
    بالشْرقاوي مولدهُ في شرقية بلبيس سنة 1150ه. (1737) درس في الأزهرْ وانتقلت إليه مشيختهُ سنة 1208 وبقي عليها إلى سنة وفاته في 2 شوال سنة 1227 (1812) ولهُ عدَّة تصانيف دينيَّة في التوحيد والعقائد والتصوَّف. ومن تآليفَه مختصر معْنى اللبيب في النحو ولهُ في التاريخ كتاب طبقات فقهاء الشافعية المتقدّمين والمتأخرين وكتاب تحفة الناظرين في من ولي مصر من الولاة والسلاطين وقد طبعت هذه التحفة غير مرَّة.
    وممَن أصابوا لهم سمعةً في ذلك الوقت من الأزهريين الشيخ محمَّد الخالدي المعروف بابن الجوهري فكان أقرأ الدروس في الأزهر وطار صيتهُ ووفدت عليهِ الوفود من الحجاز والمغرب والهند والشام توّفي في 11 ذي القعدة 1215 (1801) وتركتُهُ العلمية كثيَّرة وإنَّما مدارها على الفقه ومتعلقاتهِ خاصَّةً.
    ومن أدباء الأزهريين في ذلك العهد الشيخ مصطفى بن أحمد المعروف بالصاويْ لزم شيوخ الأزهر وبرع في العلوم الدينيَّة واللسانيَّة وكان لطيف الذات مليح الصفات محباً للآداب لهُ النثر الطيّب والشعر الحسن روى منهُ الجبرتي شيئاً في عجائب الآثار (3: 313 - 315) من ذلك قولهُ في وصف دارٍ أبتانها الجبرتي المذكور:
    بناءٌ يروقُ العينَ حسنُ جمالهِ ......... ورونقهُ يشفي الصدورَ صدورُهُ
    سما في سماء الكون فأنتهج العلا ........... برفعتهِ وأزداد سرا سرورُهُ
    ومن مجد بانيهِ تزايد بهجةَ .................. وقُلِد من درَ المعالي نحورُهُ
    فلا زال فيهِ الفضلُ تسمو شموسهُ ..... وتنمو على كل البدور بدورهُ
    ودام بهِ سعدُ السعود مؤرخاً حِمى العزَ بالمولى الجبرتيَ نورهُ (1192)
    ومنهم الشيخ حسين بن عبد اللطيف العُمري الشهير بابن عبد الهادي القادري الدمشقي الخاوتي لهُ تأليف في تراجم أسلافهِ العلويين سماهمَّ المواهب الإحسانيَّة في ترجمة الفاروق وذريتّهِ بني عبد الهادي. توّفي سنة 1216 (1801) وممن ساعدوا على النهوض الأدبيّ في أوائل القرن التاسع عشر رؤساء الطوائف الكاثوليكيَّة الإجلاء فكان يسوس الطائفة المارونية البطريرك يوسف التيّان الذي كان تخرَّج في مدرسة الموارنة في رومية وبرَّز بين أقرنهِ في العلوم فلما صار إليهِ تدبير أمور الطائفة سعا بتنشيط المعارف بين رعيتهِ لا سيما الأكليريكيين. وممَّا عني بهِ توجيه نظره إلى مدرسة عين ورقة التي كان أنشأها خلفهُ البطيريك يوسف اسطفان لَّما كان أسقفاً فصارت هذه المدرسة بهمَّتهِ مناراً استضاءت بهِ الأمَّة المارونيَّة في القرن التاسع عشر ومنها خرج العدد العديد من بطاركة وأساقفة وكهنة وأدباء كانوا فخراً لوطنهم بعلومهم فضلاً عن برهم وسوف يأتي عنهم الكلام. ولهذا البطريرك آثار لا تزال تدلُ على طول باعهِ في الآداب الكنسية. توّفي في 20 شباط سنة 1820 وكان تنزَّل قبل ذلك بعشر سنوات عن البطريركيَّة.
    وكان الروم الكاثوليك خاضعين أيضاً لبطريرك يحب العلوم ويهتم بترقيتها بين طائفتهِ نريد البطريرك أغابيوس مطر وهو الذي أنشأ مدرسة عين تراز لتهذيب أبناء ملتهِ في العلوم الأكليريكية سنة 1811 وقد أثبتنا في المشرق (8 (1905): 508) الرسالة التي وجَّهها إلى طائفتهِ في هذا الصدد.
    وكان السريان الكاثوليك في بدء القرن التاسع عشر فقدوا بطريركهم ميخائيل جروه الطيّب الذكر في 14 تموز سنة 1800 (أطلب ترجمة حياتهِ في المشرق 3 (1900): 913) ولهُ الفضل في وضع أساس مدرسة الشرفة وفيها جمع مكتبة حسنة هي إلى اليوم من أغنى مكاتب لبنان. ثم خلفهُ اغناطيوس بطرس جروه وكان متضلعاً بالعلم وهو الذي عرّب مختصر الكتاب اللاهوت النظري والعملي لتوما دي شرم في مجلَّدين وكتب ترجمة عمهِ ميخائيل جروه ولهُ مواعظ لا تزال مخطوطة (المشرق 9 (1906): 697).
    وكان يرعى الأرمن الكاثوليك منذ 1788 غريغوريوس الأول وكان رجلاً عريقاً بالفضل والقداسة يعرف ما العلوم من المنفعة لخلاص النفوس فلباوغ هذه الغاية أنشأ في لبنان لطائفته مكدرسة في بزمار كانت بمثابة المدارس التي ذكرناها للطوائف الأخرى وهي لا تزال منذ مائة سنة مورداً يستقي منهُ المرشحون الكهنوت من الأرمن الكاثوليك وقد ساعدهُ في هذا العمل الخطير القس اندراوس شاشاتي فنظَّم معهُ مدرسة بزمار ورتُب قوانينها (اطلب المشرق 366:9).
    وفي أوائل ذلك العصر عينهِ أزداد عدد الكلدان الكاثوليك في العراق على عهد البطريرك يوحنّان هرمزد وقد أتاح الله لتلك الطائفة رجلاً غيوراً يدعى جبرائيل دنبو كان من تجار ماردين المعتبرين فأنشأ في الجبال المجاورة للموصل قريباُ من القوش ديراً جعلهُ كمقام للعيشة النسكية وللعلوم معن وفيه تخّرج كثيرون من اللذين اشتهروا في القرن التاسع عشر بتقاهم وآثارهم العلمية بين الكلدان.
    فترى ممّا سبق أنَّ الله جعل في أنحاء الشرق كخميرة بما اختمرت عقول أهل الأوطان فلما تزل تترَّقى إلى أن جرت في مضمار الآداب جرى الذكيات السوابق.
    الفصل الثاني
    الآداب العربيّة في أوربَّة في بدء القرن التاسع عشر
    هلمَّ بنا نوجه الآن الأنظار إلى أحوال الآداب العربية بين الأوربيين في مفتتح القرن التاسع عشر ليظهر للقراء كيف تمَّت بعد ذلك تلك النهضة العجيبة التي جعلت الدروس العربيّة في مقام ممتاز كما نراها اليوم في حواضر أوربية وأميركة ليس درس اللغات الشرقية عموماً والعربيّة خصوصاً أمراً مستحدثاً بين علماء أوربة كما يزعم البعض بل ابتدأت الأفكار تتوجّه إلى إحراز معانيها والتقاط لأليها منذ الفتوحات الإسلامية التي قرّبت أمم الشرق من تخوم البلاد الغربية ولو تتبعنا الآثار المنبئة ببيان هذه القضية لتعددَّت لدينا الشواهد لا سيمّا في جهات الأندلس وبعض جهات الروم. لكنّ تلك الحركة زادت قوة وانتشاراً في القرن الثاني عشر لِما جرى في ذلك العهد من الأمور الجليلة والأحداث الخطيرة التي كادت تمزج طرفي الشرق والغرب مزج ما بالراح.
    والكنيسة الكاثوليكية كانت أعظم ساعية في إدراك هذه الغاية. فممّن اشتهروا إذا ذلك في الدروس الشرقية واعتنوا بنقل الآثار العربيّة إلى اللاتينية أو بنوا أبحاثهم على أحوال الشرقيين رئيسُ دير كاوني بطرس المكرّم (1092 - 1156م) وكان رحل إلى الأندلس ورقب شؤون العرب فيها فأعجب بآدابهم فلمّا عاد إلى ديرهِ عُني بانتقاد كتبهم. وفي عهده عرف جيرّ رَد دي كريمونا (1114 - 1187) وكان مولعاً بنقل تأليف العرب في فنون الحكمة وكان أتقن درس العربيّة فترجمه إلى اللاتينية نحو ستين مصنفاً جليلاً لمشاهير الكتبة كالرازي
    وابن سينا في الرياضيّات والهيئة والطبّ طُبع منها قسمٌ صالح وفقد منها الكثير.
    ولما أنشأت في ذلك القرن رهبانيّتا القديسين دومنيك وفرنسيس الأسيزي صرف من أبنائهما عددٌ يُذكر عنايتَهم إلى درس العلوم الشرقية. فأنّ الدومنيكي النابغة البرتوس الكبير (1193 - 1280) لَما كان يفسر كتب الفيلسوف أرسطاطاليس في كلية باريس كان يستند في شروحه إلى ترجمة منقولة عن العربيّة ويستعين في تحصيل معانيها بما كتبه في ذلك الفارابي والغزّالي. وجاراهُ في حبّهِ لآثار الشرق أحد اخوتهِ في الرهبانيّة الفرنسيسية الأسباني ريمند لول (1235 - 1315) وكان من أكبر أنصار اللغات السامية في كليَّة أورَّبة. وأهتمّ رؤَساء الدومنيكان منذ السنة 1255 بإنشاء مدرسة منظَّمة يعلمون فيها العبرانية والعربية والسريانيَّة في باريس وبلاد الكتَلان. أما الرهبان الفرنسيسيُّون فلم يكونوا أقلّ غيرةً في تخصيصٍ بعض طلبتهم بدرس العربية. أشتهر بينهم ميشال سكوت الذي انكبَّ في طليطلة على إتقان اللغة العربيّة سنة 1217 ونقل عدداً وافراً من تأليفها. واشهرُ منهُ الراهب الإنكليزي روجار باكون (1214 - 1292) فريد عصرهِ ونسيج وحدهِ في العلوم الفلسفيّة فإنه سعى ما أمكنه بنشر الدروس الشرقية وعلى الأخصّ العربية.
    أمَّا الأحبار الرومانيون فسبقوا كل ملوك أوربَّة في تنشيط درس اللغات الساميَّة التي منها العربيَّة. وممَّا يُذكر فيشكر أنَّ البابا هونوريوس الرابع كان تقدمَّ بفتح مدرسة اللغة العربيَّة في باريس في العشر الأول من القرن الرابع عشر. ولمَّا عُقد في فينة من أعمال فرنسة المجمع المسكونّي سنة 1311 كان أحد قوانين الآباء أن تنشأ للغات مدارس العبرانيَّة والعربيَّة والكلدانيَّة في رومية على نفقة الحبر الأعظم وفي باريس على نفقة ملك فرنسة وفي بولونية وأكسفورد وسَلَمَكَة على حساب الرهبان والأكليروس. وممَّا يدلُّ على أنَّ هذه اللغات كانت تُعلَّم في كليَّة باريس براءةٌ للبابا يوحنَّا الثاني والعشرين تاريخها 1325 يحتم فيها على قاصدهِ هناك بأن يراقب تدريس العربيَّة ولمَّا أكتُشف فنّ الطباعة في أواسط القرن الخامس عشر كان كبير الأحبار يوليوس الثاني أوَّل من سبق إلى طبع كتاب عربيّ (اطلب المشرق 3 (1900): 80) ووليَهُ أغوسطينوس جوستنياني أسقف نابيو من أعمال كورسكا الذي طبع كتاب الزبور في أربعة لغات منها العربيَّة سنة 1516. وفي النصف الثاني من القرن السادس عشر فتحت الرهبانية اليسوعية مدرسة للعبرانية وللعربية في رومية علَّم فيها الأب حنَّا اليانو الشهير وأنشأ مطبعةً طبع فيها بعض الكتب الدينية كان نقلها إلى العربية منها التعليم المسيحي. وأعمال المجمع التريدنتيني. ثمَّ زاد اهتمام الكرسيّ الرسولي بتعليم العربيَّة والعبرانيَّة والسريانيَّة لمَّا أُنشئت المدرسة المارونية ونقل المرسلون والسماعنة إلى مكتبة الفاتيكان عدداً لا يُحصى من كنوز الشرق الأدبيَّة بينها المئون من تأليف العرب اقتنوها بإيعاز الباباوات كما أشرنا إلى ذلك (المشرق 10 (1907): 25). ثمَّ اتسعت تلك النهضة في كل أقطار أوربَّة فتوفَّر عدد الدارسين للُغات الشرقيَّة وحفلت المكاتب بآثار العرب والسريان لا سيما خزائن كتب
    باريس ومجريط ولندن واكسفورد ولَيْدن ونُشرت تأليف عربيَّة جليلة لأَعظم أُدباء العرب وأشهر كتبة الشرق ولم يكتف المرسلون بذلك بل انصبوا على دراسة العربيَّة انصباباً بلَغ بهم إلى أن أَتقنوا أصولها وألَّفوا فيها التآليف المتعددة منها دينيّة ومنها أدبيّة ونقلوا إليها عدداً دثراً من طُرف المصنَّفات الأوربية. وهو بحثٌ استوفيناه في مقالاتنا التي أدرجناها في إعداد المشرق عن المخطوطات العربية لكتبة النصرانية.
    لكنَّ هذه الحركة مع سعة نطاقها لم تتجاوز حدوداً معلومة بل خمدت في آخر القرن الثامن عشر بعض الخمود لِما طرأَ على أنحاء أوربَّة من الدواهي بنشوب الحروب واستشراء الفساد وكثير من المدارس الشرقيَّة أُقفلت لسوء أحوال الزمان.
    وما عتَّمت فرنسة أن أدركت حاجتها إلى علماء يحسنون لغات الشرق وخصوصاً اللغات الحية وفي مقدمتها العربيَّة فأنشأ أرباب أمرها في باريس في 29 نيسان من السنة 1795 مدرسةً لتعليم اللغات الشرقية الحيَّة أعني العربيَّة والفارسيَّة والتركيَّة وهي المدرسة التي أضحت مثالاً لِما أُنشئ. بعدئذٍ على هيئتها من المدارس الشرقيَّة العمليَّة في عواصم شتى من الممالك الأوربية. وتلك المدرسة لم تزل تترَّقى في معارج التقدُم إلى يومنا هذا خرج منها عددٌ لا يُحصى من العلماء المستشرقين من فرنسيون وألمان وإيطاليين وسويسريين وغيرهم نذكر فيما بعد لمعةً من أخبارهم. وقد أُقيمت للمدرسة المذكورة أعياد شائقة قبل 30 سنة بنسبة يوبيلها المئويّ وطُبعت بعدئذٍ المطبوعات المفيدة لتسيطر تاريخها مع عدَّة آثار من قلم أساتذتها وتلاميذها. وممَّا أضافتهُ هذه المدرسة إلى تعليمها لغات الشرق الأقصى أي الصينيَّة واليابانية والأناميَّة. وكذلك أدخلت في جملة دروسها الأرمنيَّة والهندستانيَّة وفيها يدرس الذين يترشَّحون للمناصب القنصليَّة في الشرق وكان أعظم السُّعاة في فتح هذه المدرسة رجلان هُمامان أحدهما يُعرف بكبير المستشرقين وإمامهم البارون سلوستر دي ساسي الذي سنعود إلى ذكره الطيّب قريباً والآخر لويس لنغلاي (1763 - 1824) وكان من أساتذة اللغات الهنديَّة أَلف فيها التآليف المفيدة التي نُشرت بالطبع وعُني بنشر التآليف العربيَّة ولهُ رحلةٌ إلى بلاد الشام وفلسطين ومصر طُبعت سنة 1799.
    وممَّا ساعد على نهضة الآداب الشرقية في أواخر القرن التاسع عشر بعد هبوطها الجمعيَّات الأسيويَّة كان الفضل في تشكيل أوَّل جمعية منها في باتافيا من أعمال الهند الهولنديَّة سنة 1778 لكنَّها كانت تقتصر على ما يختصّ بالمستعمرات الهولنديَّة. ثمَّ أنشأ أحد الإنكليز وهو سير وليم جونس (1743 - 1795) جمعية آسيويَّة عمومية في كلكوتة سنة 1784 فنجحت نجاحاً عظيماً. وكان منشئها من أفاضل المستشرقين لهُ عدَّة تآليف في فنون العلوم الشرقية من جملتها شرح المعلَّقات في الإنكليزية. وعلى مثال هذه الجمعيَّة عُقدت محافل آسيويَّة أُخرى في الهند لا سيَّما محفل بنغالي سنة 1788. وهذه النوادي العلميَّة لم تبلغ ما بلغتهُ محافل القرن التاسع عشر الوارد ذكرها لكنَّها أفادت بما نشرتهُ من المصنَّفات الأدبية والصناعيَّة والتاريخيَّة والعلميَّة في مجلاَّت كانت تظهر في أوقات معلومة والبعض منها لم يزل طبعها جارياً حتى الآن.
    أما المستشرقون الذين نالوا لهم بعض الشهرة في خاتمة القرن الثامن عشر فكانوا من الافرنسيين يوسف دي غيني (1721 - 1800) مدرّس اللغة السريانية في مكتب باريس العلمي ومؤلف تاريخ واسع للتتر والمغول والترك في خمسة مجلدات ضخمة. ثم انكيتل دبرون - (1731 - 1805) درس وهو شاب اللغات الشرقية ثم ساح في أطراف الشرق وجمع المخطوطات الهندية الجليلة ونشر تآليف عديدة في أخبار الهند وآثار الهنود والفرس والعرب وهو أول من نقل كتاب زرادشت المعروف بزند اوستا إلى الافرنسية وبعض كتب البد وله مقالات عديدة في مجلة العلماء. ومنهم المستشرق هربان (1783 - 1806) كتب في أصول اللغة العربية العلمية وألف معجمين عربي فرنسوي وفرنسوي عربي وكتب في الموسيقى عند قدماء العرب وفي آداب الفرس.
    وكان قبل ذلك بعشر سنوات توفى مستشرق كبير من كهنة فرنسة الخوري جان جاك برتلمي (1716 - 1795) اشتغل في الفيليقيين والتدمريين وله مقالات لا تحصى في كل ضروب المعارف. وهو الذي كتب (رحلة أنا كرسيس) الشهيرة ضمَّنها أخبار اليونان القدماء وآثارهم. وقد حذا حذوه وطنينا المرحوم جميل مدور في كتابه حضارة الإسلام في دار السلام.
    ومما زاد الفرنسويين ترقياً في الآداب الشرقية أن نابوليون لما قصد مصر سنة 1798 أخذ في صحبته بعضاً من العلماء المعدودين الذين انتهزوا الفرصة لتعلم العربية بين المصريين. وكانت فئة من السوريين اجتمعوا بهم بصفة تراجمة منهم ميخائيل صباغ ونيقولا الترك والقس رافائيل الراهب المخلصي وغيرهم. فاستعان أولئك العلماء بهم لدرس العربية ولما عادوا إلى فرنسة نشروا تلك اللغة بين مواطنيهم.
    وكان أيضاً في أواخر القرن الثامن عشر بعض العلماء من غير الفرنسويين الذين انقطعوا إلى درس العربية وألفوا فيها التآليف منهم في ألمانية جان جاك ريسك نشر عدداً كبيراً من كتب العرب ونقلها إلى اللاتينية وعلق عليها التعاليق كمقامات الحريري وتاريخ أبي الفداء ومعلقة طرفة ومنهم جان داود ميكائيليس (1717 - 1791) علم اللغات السامية في غوطا وصنف التصانيف المفيدة في العبرانية والسريانية والعربية منها كتب في أصول هذه اللغات وآدابها. واشتهر تيكسن (1734 - 1815) في غوتنغن له تآليف شرقية من جملتها تأليف واسع في النقود الإسلامية.
    واشتهر غير الألمان السويسري بور كهرت الذي طاف متنكراً في بلاد النوبة وبادية الشام وجهات الحجاز وعُرف بالشيخ إبراهيم وله تآليف جليلة في وصف رحلاته إلى الشام ومصر وبلاد العرب. ومن جملة كتبه تأليف في الأمثال العربية وتوفي في القاهرة.
    وكانت العربية في خاتمة القرن الثامن عشر لا تزال معززة في إنكلترا في كليتي كمبردج واكسفرد. وكان في أكسفرد مطبعة عربية شهيرة نشرت فيها كتب شرقية متعددة تخص منها بالذكر تآليف أدورد بوكوك (1604 - 1691) وابنه توما. وكان إدوارد رحل إلى الشرق وسكن مدة في حلب ثم درس في اكسفرد ونشر تاريخي أبي فرج ابن العبري وسعيد بن طريق. ونال الشهرة بين الإنكليز في الشرقيات في خاتمة القرن الثامن عشر كرليل (1759 - 1804) ساح في بلاد الشرق ثم تولى تدريس العربية في كلية كمبردج له كتاب في آداب العرب وشعرهم في الإنكليزية ونقل إلى اللاتينية قسماً من مورد اللطافة لجمال الدين ابن تغري بردي. وكذلك اشتهر معاصره يوسف ويت (1746 - 1814) من علماء أوكسفرد الذي نشر لأول مرة كتاب عبد اللطيف البغدادي في الأمور المشاهدة بمصر سنة 1789 ثم نقله إلى اللاتينية سنة 1800 وله غير ذلك.
    أما الهولنديون فكانوا في ذلك العهد يمشون في درس العربية على آثار أسلافهم الأفاضل كغوليوس (1596 - 1667) واربنيوس (1584 - 1624) وشولتنس (1686 – 1750) وابنه جان جاك (1716 - 1778) وكلهم من المبرزين جعلوا مدينة ليدن كمنار الآداب الشرقية وأبرزوا في مطبعتها المؤلفات العديدة التي أصبحت اليوم عزيزة الوجود يتزاحم العلماء في اقتنائها كتاريخ جرجس ابن المكين المعروف بابن العميد وسيرة صلاح الدين الأيوبي لابن شدّاد وتاريخ تيمورلنك لابن عربشاه وأمثال الميداني ومطبوعات أخرى جليلة. وممن اشتهروا من الهولنديين في أواخر القرن الثامن عشر هيتسما نشر سنة 1773 مقصورة ابن دريد ونقلها إلى اللاتينية وذيّلها بالحواشي. ومنهم شيد (1742 - 1795) نقل صحاح الجوهري إلى اللاتينية وألف كتاباً في أصول العربية ونشر منتخبات أدبية شتى.
    وبرز بين النمساويين في نهاية القرن الثامن عشر في درس الآثار الشرقية فرنسوا دي دومباي (1756 - 1810) نشر تاريخاً للعرب وقسماً من أمثال الميداني مع ترجمتها اللاتينية (1805) ثم انقطع إلى درس أحوال مراكش فأبرز عدة آثار مختصة بتلك البلاد كتاريخ ابن أبي زرعة ونقود مراكش وغير ذلك. وأصاب الكاهن جان ياهن (1750 - 1816) شهرة في تدريس اللغات الشرقية في فينة وله من التآليف غراماطيق عربي ومعجم عربي لاتيني ومجان أدبية.
    وكان الدنيمركيون أيضاً قد وجهوا بأنظارهم إلى الشرق فاشتهر منهم في آخر القرن الثامن عشر نيبوهر (1733 - 1815) الذي طاف في أنحاء جزيرة العرب ودون ملحوظاته وأخبار رحلته في ثلاثة مجلدات أضاف إليها مقالات حسنة في عادات الشرق وأحواله.
    ومنهم جرج زويغا (1755 - 1806) خرج من بلاد دنيمرك وتولن رومية العظمى وصار كاثوليكياً وانقطع إلى درس الآثار الشرقية لا سيما آثار مصر.
    ولم ينطفئ منار العلوم الشرقية بين الأسبانيين والبرتغاليين وخصوصاً الرهبان. وممن عرف منهم الراهب الفرنسيسي كانيس (1730 - 1795) عاش مدة في فلسطين والشام ودرس العربية مرسلي رهبانيته وقد صنف كتباً مدرسية في الأسبانية لتعليم العربية أخصها غراماطيق ومعجم كبير للمفردات للتعليم المسيحي. وفي عهده كان الراهب حنَّا سوزا (1730 - 1812) ولد في دمشق من أبوين مسلمين فتنصَّر على يد المرسلين ثمَّ اللغة العربية في لشبونة. ومن مطبوعاتهِ كتاب الألفاظ البرتغالية المشتقَّة من العربية. وكتاب نحو العرب ونصص عربية لمؤَرخي العرب في أمور البرتغال.
    وكذلك الإيطاليُّون فإنَّهم لم يسهوا عن درس لغات الشرق ومآثرهِ فربح منهم شكر العموم روزاريو غريغوريو الكاهن البالرمي (1753 - 1809) الذي تفرَّغ لدرس آثار صقلية وتاريخها وأحوالها لا سيَّما في أيام العرب فألَّف في ذلك التآليف الواسعة في عدَّة مجلدات ضخمة نخصّ منها بالذكر كتابهُ (الآثار العربية في تواريخ صقلّية) ضمَّنهُ كتابات ونقوشاً بديعة وأوصافاً غاية في الفائدة - وعُرف الكاهن الرحالة ج. ماريتي (1736 - 1806) زار بلاد فلسطين والشام ومصر ودوَّن أخبار رحلتهِ وعنها نقلنا في المشرق (8 (1905): 158و120) وصفهُ لدير القلعة وكذلك كتب في تاريخ الصليبيين وغير ذلك.
    ولا يجوز لنا في هذا النظر الإجماليّ عن حالة العلوم الشرقية في ختام القرن الثامن عشر أَن ننسى ما كان لمواطنينا من الفضل في نشر الآداب الشرقية في أوربَّة. فإن ذلك القرن هو قرن السَّماعتة الذين أُشير إليهم بكل بنان فصار اسمهم مرادفاً للنشاط في تذليل العقبات وإحياء مفاخر الشرق. أوَّلهم وإمامهم المونسنيور يوسف سمعان السمعاني (1687 - 1768) رئيس أساقفة صور صاحب المكتبة الشرقية وتآليف أَُخرى لا تُحصى. ثمَّ أسطفان عوَّاد السمعاني نسيبهُ (1709 - 1782). ثمَّ يوسف لويس السمعاني (1710 - 1782) ثمَّ شمعون السمعاني (1752 - 1821) وكان كل هؤلاء تلامذة المدرسة المارونية في رومية وأثماراً طيّبة من دوحتها الفاخرة تُعدْ تآليفهم بالمئات بين مطوَّلة وقصيرة. وكان جلّ اهتمامهم في نشر الآثار السريانية لكنَّهم أيضاً اخرجوا من زوايا النسيان عدَّة تآليف عربية لا سيما في التاريخ والمآثر الدينية والأدبية. وسنعود إلى ذكر الأخير منهم الذي يدخل في دائرة مقالتنا إذ لم يمت إلاَّ في العشر الثاني من القرن التاسع عشر - ومن هؤلاء الشرقيين الذين شرَّفوا الآداب في أواخر القرن الثامن عشر القسّ ميخائيل الغزيريّ وهو أيضاً من تلامذة الآباء اليسوعيين في المدرسة المارونية رافق السمعاني وحضر معهُ المجمع اللبناني سنة 1736 ثمَّ درَّس اللغات الشرقيَّة وتعيّن ترجماناً لملك إسبانيا كرلوس الثالث ومن أعمالهِ الأثيرة وصف المخطوطات العربية في مكتبة الأسكوريال قرب مجريط وهذا التأليف مجلَّدان كبيران يدلاَّن على سعة معارف صاحبهما طُبعا من السنة 1760 إلى 1770 باللاتينيَّة والعربية - واشتهر منهم أيضاً في فينَّة عاصمة النمسا الخوري أنطون عريضة الطرابلسي وعلَّم فيها اللغات الشرقية ولهُ من التآليف كتاب علم صرف العربيَّة ونحوها وضعهُ لتلامذتهِ في اللاتينيَّة وطبعهُ سنة 1813 في فينَّة.
    وفي هذا النظر العموميّ كفايةٌ ليعرف القرَّاء حالة الدروس العربية في منتهى القرن الثامن عشر. وإنَّما يترتَّب علينا الآن أن نقتصّ آثار الكتبة الذين زيَّنوا الآداب بحلية معارفهم وأغنوها بثمرات أقلامهم ومصنَّفاتهم في القرن التاسع عشر. وإننا نقسم ذلك فصولاً يسهل على المطالع تتُّبع التفاصيل التي نثبتها فيحرزها دون عناء ويعرف ما لكل كاتب من المزايا والأعمال.
    الفصل الثالث
    الآداب العربيّة في غرَّة القرن التاسع عشر إلى السنة 1830
    كان افتتاح القرن التاسع عشر في أيَّام السلطان الغازي سليم خان الثالث وكان من أفضل ملوك دولتهِ دمث الأخلاق مغرماً بالآداب محبَّا لترقية رعاياه في معارج الفلاح. ثمَّ صار الملك إلى ابن عمّهِ السلطان مصطفى خان الرابع الذي لم يملك أكثر من سنة فضبط من بعدهِ سنة 1808 زمام السلطنة أخوه محمود خان الثاني فطالت مدّتهُ وكان كالسلطان سليم هائماً بترّقي شعبهِ ساعياً في أسباب نجاحهِ في فنون الآداب وللشاعر نقولا الترك قولهُ جلوسهِ:
    توّلى التختَ سلطان البرايا ......... وأََيّدهُ الإلهُ بمرتقاهُ
    فصاح الكون لمَّا أرَّخوهُ ........ نظامُ الملك محمودٌ بهاهُ
    ومن مساعي السلطانين سليم ومحمود المشكورة تعزيزهما لفنّ الطباعة في دار السعادة فطُبعت فيها عدَّة تآليف عربيَّة فضلاً عن المصنَّفات التركية. ويبلغ عدد المصنَّفات العربيَّة التي نُشرت بالطبع في هذه الثلاثين سنة نيّفاً وأربعين كتاباً كقاموس المحيط للفيروز أباديّ (1814) مع شرحهِ في التركيَّة وكحاشية السيلكوتي على مطوَّل التفتزاني (1812) ومراح الأرواح لأحمد بن علي بن مسعود مع مجموع تآليف أُخرى نحويّة وصرفيَّة (1818) وكافيَّة ابن حاجب (1819) وغير ذلك ممّا مرَّ لنا ذكرهُ في مقالتنا عن فنّ الطباعة في الأستانة (المشرق 3 (1900): 174 - 179) وفي ملحق تاريخ تركيَّا للمؤرخ الألماني هامّر جدول هذه المطبوعات كلها في 97 عدداً (اطلب الجلد 14 ص 492 - 507). وكان الولاة يساعدون السلاطين في إدراك غايتهم الشريفة في جهات المملكة كسليمان باشا في عكَّا ويوسف باشا كنج في دمشق وداود باشا في بغداد وغيرهم.
    وجاء في لغة العرب (1: 98) أن الوزير سليمان باشا القتيل كان أوَّل من أيقظ العلوم والمنتمين إليها في ديار العراق بعد سُباتها العميق وأنشأ في بغداد عدَّة مدارس. ثمَّ جاء بعدهُ بقليل داود باشا فأنهضها النهضة التي خلدت لهُ الأثر المحمود والذكر الطيّب.
    وكذلك في مصر كان محمَّد علي باشا راغباً في نشر المعارف فاستعاد الأدوات الطبعيّة التي كان الفرنسويّ مرسال اتخذها في أيام بونابرت وأنشأ مطبعة بولاق الشهيرة سنة 1822 وكان أوَّل كتاب طُبع في تلك السنة قاموس إيطاليانيّ عربيّ وأُردف في السنة التالية بكتاب قانون صباغة الحرير. ومطبوعات بورق إلى سنة 1830 تربي على الخمسين في اللغات الثلاث العربيَّة والتركية والفارسية إلاَّ أنَّ الكتب العربية المهمَّة لم تُطبع إلاَّ بعد هذه المدَّة وإنَّما جَددَت في الغالب المطبوعات المنشورة في الآستانة.
    وما يُقال إجمالاً في هذا القسم الأول من القرن التاسع عشر إنَّ الذين اشتهروا فيهِ كانوا أبناء أنفسهم لم يتعلَّموا في مدارس منظَّمة بل نبغوا بشغلهم الخاصّ تحت نظارة بعض الأفراد الذين سبقوهم في دواوين الكتابة ودوائر الإنشاء.
    التاريخ
    ونبتدئ هنا بذكر الكتَبة الذين وقفوا نفوسهم على تصنيف التاريخ فنقول: انحصر التاريخ بين أدباء المسلمين في بعض الأفراد الذين لا يتجاوز عددهم أصابع اليد فذكرنا منهم (ص4) الشيخين عبد اللّه الشرقاويّ وحسين ابن عبد الهادي. وممَّن يضاف إليهما السيّد إسماعيل بن سعد الشهير بالخشّاب المتوفى في 2 - ذي الحجَّة سنة 1230 (1815) كان مولعاً بالدروس الأدبية وأخبر الجبرتي في تاريخهِ (4:238) (إنّ الفرنساويَّة عيَّنوه في كتابة التاريخ لحوادث الديوان وما يقع فيهِ كلَّ يوم لانَّ القوم كان لهم مزيد اعتناء بضبط الحوادث اليوميّة في جميع دواوينهم وأماكن أحكامهم ثم يجمعون المتفرّق في ملخَّص يُرفع في سجلّهم بعد أن يطبعوا منهُ نسخاً عديدة يوزَعونها في جميع الجيش حتَّى لمن يكون منهم في غير المصر في قرى الأرياف فتجد أخبار الأمس معلومة للجليل والحقير منهم. فلمَّا رتَّبوا ذلك الديوان كما ذُكر كان هو المتقيّد برقم كلّ ما يصدر في المجلس من أمر أو نهي أو خطاب أو جواب أو خطأ أو صواب وقرَّروا لهُ في كل شهر سبعة آلاف نصف فضَّة فلم يزل متقيّداً في تلك الوظيفة مدَّة ولاية عبد اللّه جاك منو حتى ارتحلوا من الإقليم) فهذه كما ترى جريدة يوميَّة وهي أوَّل جريدة ظهرت في العربية وكان الجبرتي رأَى منها عدَّة كراريس. وذكر أيضاً لإسماعيل الخشَاب ديوان شعر صغير الحجم جمعهُ صديقهُ الشيخ حسن العطَّار.
    وأشهر من هؤلاء في التاريخ العلاَّمة عبد اللّه بن حسن الجبرتي المذكور وُلد في مصر 1167 (1753 - 1754) كما ذكر في تاريخهِ (1:203) وروى كناك بعض ما حدث لهُ في صباه وكان من طلبة الأزهر. جعلهُ بونابرت من كتبة الديوان فأحرز لهُ عند الجميع اسماً طيباً.
    وانقطع إلى الكتابة والتأليف. وفي آخر حياتهِ قُتل أحد أولاده في حي شبرا فبكاهُ بُكاءً مرَّا افقدهُ البصر ولم يلبث أن تبعهُ في القبر. وقال كاتب فهرست مخطوطات المكتبة الخديويَّة (1:83) لأنه توفي مخنوقاً في رمضان سنة 1237 (1822). وقد جعل المسيو هوارت في تاريخ الآداب العربية مولدهُ سنة 1756 ووفاتهُ سنة 1825 وفي كليهما غلط. أما تاريخهُ فيُدعى عجائب الآثار في التراجم والأخبار ضمّنهُ حوادث مصر التي جرت في أواخر القرن الثاني عشر وأوائل الثالث عشر جارياً في ذلك على سياق السنين منذ فتوح السلطان الغازي سليم خان الأوَّل للقطر المصريّ إلى غاية سنة 1236 ذاكراً للوقائع المعتبرة مع تراجم الأعيان المشهورين وقد ادخل فيه قسماً كبيراً من تاريخ آخر وصف فيه وقائع بعثة بونابرت إلى مصر دعاهُ (مظهر التقديس بذهاب دولة الفرنسيس) كتبهُ سنة 1216 ه (1802) وتاريخ الجبرتي قد نُقل إلى الفرنسيَّة بهمَّة بعض أفاضل نصارى مصر وهم شفيق منصور بك وعبد العزيز كحيل بك وجبرائيل نقولا كحيل بك واسكندر بك عمون. وقد ترجم الفرنسوي كردين تأليفهُ الآخر مظهر التقديس.
    وممَّن كتبوا في التاريخ الشيخ أبو القاسم بن أحمد الزيَّاني كان من عمَّال مراكش متولّياً على مدينة وجدة. ثمَّ اعتزل الأشغال في تلمسان وأَلَّف سنة 1813 كتاب الترجمان المغرب عن دُول المشرق والمغرب طبع الأستاذ هوداس الفرنسويّ قسماً منهُ يحتوي تاريخ مرَّاكش من السنة 1631 إلى 1812. والباقي لا يزال مخطوطاً. ولهُ كذلك كتاب (البستان الظريف في دولة مولاي عليّ الشريف).
    وللكتبة النصارى في هذه الأثناء بعض التواريخ يترتب علينا ذكر أصحابها. وأول من اشتهر في ذلك القس حنانيا المنير أحد رهبان الرهبانية الحناوية الشويرية. ولد المذكور في زوق مصبح سنة 1757 وترهب سنة 1774. أما بقية أخباره في الرهبانية فلا نعلم منها شيئاً كما إننا نجهل سنة وفاته. ومما يظهر من مآثره ومصنفاته أنه كان رجلاً أدبياً كثير الإطلاع سليم الذوق نشيطاً في جمع الآثار والأخبار عارفاً بفنون الكتابة يحسن النثر والشعر. وكان ذلك نادراً في زمانه. وقد نعت نفسه في كتابٍ له عن الدروز بالطبيب ما يدل على أنه كان يتعاطى الطب. أما أخص تآليفه فتاريخان الأول مدني سبق لنا وصفه في المشرق (4 (1901): 427 و972) وهو تاريخ (الدر المرصوف في حوادث الشوف) أثبتنا منه مقدمته وبعض فقراته: وهذا التأليف يتناول الوقائع التي جرت في لبنان من السنة 1109ه. (1697 م) عند ظهور الأمراء الشهابيين إلى السنة 1222 ه (1807 م) وهو يتسع خصوصاً في حوادث الجبل والساحل في الأربعين السنة الأخيرة. ومن هذا التأليف قد استفاد الأمير حيدر أحمد الشهابي في تاريخه الشهير المعروف بالغرر الحسان في تاريخ حوادث الزمان والشيخ طنوس الشدياق في كتاب الأعيان في جبل لبنان أما التاريخ الثاني ديني قد جمع فيه المؤلف أخبار الرهبانية الحناوية منذ أواسط القرن الثامن عشر إلى نهاية السنة 1219 ه (1804 م) ولعله استفاد من تاريخ آخر لأحد اخوته الرهبان المدعو رفائيل كرامة الحمصي (راجع دواني القطوف ص 201). وليس هذا التاريخ كله دينياً فإن فيه أيضاً أموراً عديدة تختص بأخبار الأمراء وأحوال لبنان وبلاد الشام والقطر المصري. والكتاب عبارة عن 200 صفحة تقريباً وكلا التاريخين نادر قد أمكنا الحصول على نسخة منهما فاستنسخناهما لمكتبتنا الشرقية. ولابن المنير ما خلا ذلك تآليف شعرية وأدبية نذكرها في باب الأدب واشتهر أيضاً في التاريخ من نصارى الملكيين الكاثوليك رجلان من بيت الصباغ كانا حفيدين لإبراهيم الصباغ طبيب ظاهر العمر (أطلب المشرق 8 (1905): 26) اسم أحدهما عبود بن نقولا بن إبرهيم والآخر ميخائيل. وكان أهلهما بعد وفاة جدهما إبراهيم سنة 1776 هربوا إلى مصر حيث نشأ الولدان وتخرجا بالآداب على أساتذة القطر المصري. ثم لما قدم نابليون إلى مصر ومعه عدد من مشاهير العلماء أتصل عبود وميخائيل بهؤلاء الكرام وصارا في خدمتهم إلى أن انتقلا معهم إلى فرنسة. وقد أتسعنا في المشرق (8 (1905): 31 - 33) في ما خلفه ميخائيل من التركة العلمية الثمينة أجلها قدراً تآليف تاريخية لا تزال مخطوطة في مكتبتي باريس ومونيخ منها تاريخ أسرته بيت الصباغ وبيان أحوال طائفته الملكية الكاثوليكية. وله أيضاً متفرقات ضمنها تاريخ قبائل البادية في أيامه وتاريخ الشام ومصر. هذا فضلاً عن كتبه اللغوية والأدبية كالرسالة التامة في كلام العامة ومسابقة البرق والغمام في سعاة الحمام وكلاهما قد طبع في أوربة. وله مآثر من النظم نذكرها في الأدبيات. أما عبود فإن له في مخطوطات باريس تاريخاً 4610) جمع فيه أخبار ظاهر العمر دعاه الروض الزاهر في تاريخ ضاهر (كذا)) وطريقة عبود وميخائيل في تدوين التاريخ سهلة الألفاظ واضحة المعاني حسنة السبك تدل على ضلاعتهما في الكتابة هذا مع ضعف في التعبير لا سيما في تاريخ عبود الذي يشبه كلامه بركاكته كلام العامة.
    وتوفي ميخائيل سنة 1816 أما عبود فلا نعلم سنة ومكان وفاته وقد عرف في عهد الصباغين المذكورين كاهن من أسرتهما كما نظن نضيفه إليهما وهو أنطون صباغ من تلامذة رومية يستحق الذكر بما عربه من التآليف المتعددة البالغة نحو 50 مجلداً منها كتاب تاريخ الكردينال أورسي في 24 جلداً كبيراً انتهى من تعريبه نحو السنة 1792 وكانت وفاته في العشر الأول من القرن التاسع عشر (المشرق 9 (1906): 695) ومن أدباء الروم الملكيين الذين أحرزوا لهم فخراً في التاريخ نيقولا بن يوسف الترك كان اصل والده من الآستانة العلية ثم سكن دير القمر حيث ولد أبنه نيقولا سنة 1763 وفي وطنه مات سنة 1828. كان نيقولا محباً للآداب منذ حداثته فلم يزل يتعاطى النظم والنثر إلى أن نال فيهما نصيباً صالحاً. وقد خدم الأمير بشير الشهابي زمناً طويلاً وقصائده فيه شهيرة نعود إلى ذكرها عند وصف ديوانه. أما التاريخ فله فيه مصنفان أحدهما تاريخ الإمبراطور نابوليون من سنة وفاة الملك لويس السادس عشر إلى موت نابليون سنة 1821 في نحو 450 صفحة كتبهُ بإنصاف وحُسن ذوق مع تعريف أسباب الحوادث وسوابقها ولواحقها والحكم في جيّدها وسيّئها. وهذا الكتاب قد طُبع نصفهُ الأوَّل في باريس سنة 1839 بهمَّة المسيو ديغرانج الذي نقلهُ إلى الفرنساويَّة وألحقهُ بعدَّة ملحوظات وهو يحتوي تاريخ نابليون إلى آخر بعثة مصر سنة 1801. أمّا النصف الثاني فلا يزال مخطوطاً.
    ولنيقولا الترك تاريخٌ آخر ضمَّنهُ أخبار أحمد باشا الجزّار منهُ في مكتبتنا الشرقية نسخة في 126 صفحة وهو غاية في الإفادة لتعريف أحوال الشام من السنة 1185 إلى السنة 1225 (1771 - 1810) وإنشاء الكاتب بسيط مطبوع خالٍ من التعقيد والنقير كما يليق بالتاريخ.
    والغالب على ظننا أنّ المعلم نيقولا الترك هو مؤلف تاريخيين آخرين لم يُذكر اسم كاتبهما فالأوَّل هو (مجموع حوادث الحرب الواقع بين الفرنسويَّة والنمساويَّة في أواخر سنة 1805 مسيحية الموافقة لها سنة 1220 لتاريخ الهجرة) وهو تاريخ واسع في 306 صفحات من قطع الربع طبع في باريس سنة 1807 وصفت فيه وقائع تلك الحرب التي انتهت بانتصار نابوليون في استرلتس. والتاريخ الثاني من مخطوطات مكتبة باريس العمومية 1864) اسمه (نزهة الزمان في حوادث لبنان) في 148 صفحة يحتوي تاريخ الأمراء الشهابيين منذ
    أول قدومهم من الحجاز إلى حوران ثم إلى لبنان مع تفصيل أخبارهم إلى أيام الأمير بشير الشهابي ونهايته بالحوادث التي جرت سنة 1205 (1790).
    ويلحق بهذا التاريخ تاريخ آخر بأحد الموارنة كتبه مؤلفه (أنطونيوس ابن الشيخ أبي خطار الشدياق من بيت الحاج عبد النور قرية عين طورين في جبة بشراي من أعمال طرابلس) سنة 1819 دعاه (مختصر تاريخ لبنان) وهو كتاب في 150 صفحة ضمنه المؤلف عدة أمور تاريخية دينية ومدنية على غير ترتيب كما حضرته أو كما اقتطفها من تواريخ أخرى أو سمعها من أهل زمانه منها فصلٌ واسع نقلناه عنه في المشرق (4 (1901): 769، 820) عن أصل الأمراء والشيوخ في لبنان.
    ومما كتب في هذا العهد من الأسفار رحلة لأحد الحلبيين (فتح الله ولد أنطون ابن الصائغ اللاتيني) التي زعم أنه رحل في خدمة أحد الأجانب أسمه تيودور لسكاريس في أواخر سنة 1810 من حلب إلى أنحاء الشام فجهات العرب وقد وصف ما جرى لهما من الأخبار وضمن رحلته أشياء كثيرة عن أحوال المدن التي زاراها وعن قبائل العرب وبلاد الوهابيين. وقد كتب ذلك بعبارة رائقة إلا أنها قليلة التهذيب لا تكاد تخالف لغة العامة والكتاب يصام في خزانة باريس 2298). وقد وقف الشاعر الفرنسوي لامرتين على هذه الرحلة فاستعان ببعض المستشرقين ونشرها مترجمة إلى الافرنسية في كتابه الشهير (سفر إلى الشرق) في القسم الرابع من طبعة باريس 1835 (ص55 - 285). أما المؤلف فعاش بعد ذلك زمناً طويلاً وسيعود اسمه في مطاوي مقالتنا ثانية. ثم وجدنا في المجلة الآسيوية 18722) فصلاً في انتقاد هذه الرحلة فيثبت كاتبه أنها مصنوعة.
    ونختم هذا النظر في مؤرخي الثلث الأول من القرن التاسع عشر بذكر أحد مسلمي طرابلس العرب وهو الشيخ محمد بن عبد الكريم ولد في طرابلس الغرب وتلقى العلوم من أعلام عصره وفحول مصره وكان واسع العلم كثير الحفظ تولى النيابة في وطنه لعد والده وحسنت سيرته ألف كتاباً سماه (الإرشاد بمعرفة الأجداد) ضمنه ذكر أسلافه الكرام وكان أصل أجداده من الأندلس ثم انتقلوا إلى طرابلس وعرفوا بآل النائب وكان أبوه فقيراً شاعراً توفي سنة 1189ه (1775م) أما ابنه محمد فكانت وفاته سنة 1232ه (1817م).
    الشعر والأدب
    إن الشعر والأدب كما التاريخ كانت سوقهما كاسدة في أوائل القرن التاسع عشر لم يشتهر فيهما إلا بعض الأفراد في مقدمتهم بين المسلمين الأديب السيد أحمد ابن عبد اللطيف بن أحمد البربير الحسني البيروتي ولد سنة 1160 (1811) له تآليف أدبية ومنظومات أخصها مقاماته التي منها نسخة خطية في المكتبة الخديوية (أنظر قائمتها 328:4) يبتدئ أولها بقوله: (حكى بليغ هذا الزمان والعصر حديث ألذ من سلافة العصر). وقد طبع من هذه المقامات مقامة (المفاخرة بين الماء والهواء) في دمشق سنة 1300 (1883). وله بديعية عبق عليها شروحاً مصطفى بن عبد الوهاب بن سعيد الصلاحي تصان بين مخطوطات برلين (ع 7388) وله (كتاب الشرح الجلي على بيتي الموصلي) وهو تأليف واسع طبع في بيروت سنة 1302 (1885) أودعه صاحبه فنوناً من الآداب وفصولاً في كل علم من العلوم. والموصلي المذكور هو عبد الرحمان بن إبراهيم الصوفي الموصلي من أدباء القرن الثامن عشر. أما البيتان اللذان شرح البربير رمزهما فهذان:
    إن مرَّ والمرآةُ يوماً في يدي .... من خلفهِ ذو اللطف أَسما مَنْ سما
    دارت تماثيلُ الزجاجِ ولم تزلْ ...... تقفوهُ هدواً حيثُ سار ويمَّما
    أما منظومات السيد أحمد البربير فكثيرة لكنها متفرقة. وكنا قد نشرنا منها شيئاً في المشرق (3 (1900): 14 - 18) مما دار بينه وبين مخائيل البحري من المراسلات الأدبية.
    ثم أتحفنا جناب الأديب عيسى أفندي أسكندر معلوف بنخبة أخرى من أقواله الشعرية تجدها في المجلة المذكورة (4 (1901): 396) ولعل السيد أحمد البربير نظم ديواناً كاملاً لكننا لم نقف له على أثر ومما قرأنا من لطائفه قوله في طبيب:
    رأيتُ طَبًّا لهُ نفارٌ يتيهُ في مشيهِ دلالا
    فقلتُ: من أنت يا حبيبي هل راحمي أنتَ قال: لا لا
    وله في التوحيد:
    لقد آمنتُ باللهِ وأصبحتُ بهِ آمنْ
    هو الأوَّل والآخر م والظاهرُ والباطنْ
    وقال:
    خرجتُ من سجن نفسي ومن حظوظي والجاهْ
    وفي جميع أموري أسلمتُ وجهي للهْ
    وقال في كبح الشهوات:
    إنَّ الذين يجاهدو نَ النفسَ شبَّاناً وشِيبا
    منَّ الإلهُ بنصرهم وأَثابهم فتحاً قريبا
    وقال في تاجر سها عن الآخرة:
    يا تاجراً لا يزالُ يرجو ربحاً ويخشى من الخسارةْ
    عبادةُ الله كلَّ حينٍ خيرٌ من اللهو والتجارهْ
    وقال يصف دار أسعد باشا وكان حلها أبو السعود محمد بن علي:
    يا دارَ أسعدَ باشا - لكِ النعيمُ المخلَّدْ - بطلعة أبن عليٍّ - أبي السعود محمَّدْ
    بدرٌ يزيد كمالاً - منَ النجوم تولَّدْ - ذو همَّةٍ غارَ منها - حدُّ الحُسام المجرَّدْ
    أَما ترى السيف منها - في جفنهِ بات مُغمدْ - ولطفهُ في البرايا - ممَّا فشا وتأكدْ
    حَّتى غدا كلُّ شخصٍ - بهِ يقرُّ ويشهدْ - كأنهُ من نسيم القَبُول بات مجسَّدْ
    أَما ترى وَرْد خدّ الرياض منهُ تورَّدْ - والبحر لَّما رآهُ - يجودُ أرغى وأزبدْ
    والدهر بات غلاماً - لمن عليهِ تردَدْ - فتىً بهِ أبيضَّ حظّي - من بعد ما كان أسودْ
    يا سّيدي عش سعيداً - فإنَّ جدَّك أسعدْ - وسوف ترقى لأوجٍ - من الكواكب أبعدْ
    فأحفظ بشارة عدلٍ - بها الفراسةُ تشهدْ - وأسلمْ ودم في سرورٍ - ما طائر الصبح غرَّدْ
    ومن مراثي السيد أحمد البربير قوله في الأمير منصور الشهابي لما توفي سنة 1181هـ (1767م):
    سقا هذا الضريحَ سحابُ فضلٍ وعمَّم بالرضى مَنْ في ثراهُ
    أميراً كان في الدنيا شهاباً ومنصوراً على قومٍ عصاهُ
    فإن يكُ من عيوني قد توارى فحسبي أنَّ قلبي قد حواهُ
    فلماَّ سار للفردوس فوراً وقرَّبهُ المهيمن واصطفاهُ
    أَتى تاريخهُ في بيت شعر يودُّ البدرُ إن يُعطى سناهُ
    فمهملهُ ومعجمهُ وكلٌّ من الشطرين تاريخاً تراهُ
    شهابُ الرحمة المولى عليهِ هوى للترب بدرٌ من رُباهُ
    وكان لأحمد البربير تلامذة أخذوا عنه أخصهم السيد عبد اللطيف بن علي المكنى بفتح الله المفتي البيروتي الحنفي وكان شاعراً إلا إن شعره مفقود. ومما يروى عنه قوله يمدح ميخائيل البحري لما جاء بيروت في أيام الجزار:
    ولَّما أَتى البحريُّ بيروتَ زائراً إلينا فكم أَهدى عقوداً من الشعرِ
    فلا بدعَ أنْ أُهدي لهُ الدرَّ ناظماً فناهيكَ أنَّ الدرّ يبدو من البحرِ
    فأجابه البحري بأبيات رويناها في المشرق (3 (1900): 17-18). ومن الشعراء المسلمين الذين نظموا الشعر الجيد في أوائل القرن التاسع عشر الشيخ الوفاء قطب الدين عمر أبن محمد البكري الدمياطي الأصل واليافي المولد ولد سنة 1173ه (1759 م) في يافا ودرس على مشاهير شيوخ زمانه في وطنه ورحل إلى مصر وأخذ عن أئمتها. ثم عاد إلى غزة وتجول في أنحاء الشام والحجاز وتوفي في دمشق في غزة ذي الحجة سنة 1233 (1818م) وقد رثاه شاعر زمانه الذي نترجمه في أوانه الشيخ أمين الجندي بقصيدة رنانة أولها:
    قِسيُّ المنايا ما لأَسهُمها ردُّ فما حيلتي والصبرُ قد دكَّهُ البُعدُ
    دُهيتُ برُزْء لا يُطاق عناؤهُ وكرْبٍ وحزنٍ ما لغايتهِ حدُ
    وهي طويلة ومن لطيف ما قاله فيه الشاعر نقولا الترك وقد ضمن فيه اسمه عُمَر:
    شمس العلوم تبدَّى نوراً إلى كلّ راء
    مقرُّها ضمن ميمٍ ما بين عين وراء
    أما تآليف السيد عمر اليافي فأخصها ديوانه وبعض مخاطبات ألحقت بديوانه (ص241 -284) وقد عني بطبع هذه الآثار حفيده السيد عبد الكريم بن محمد أبي نصر في المطبعة العلمية سنة 1311ه (1893م) وهو مجموع واسع فيه قصائد متعددة دينية على منهج المتصوفين وكان السيد على الطريقة الخاوتية وله في هذه الطرائق عدة رسائل منها رسالة في الطريقة النقشبندية رسالة في معنى التصوف والصوفي وغير ذلك. ومن أدبياته رسالة له في
    الحض على بر الوالدين. أما شعره فهو رقيق اللفظ رشيق المعنى كثير التفنن فيه قسم للموشحات والأدوار الغنائية والخمريات وهانحن نورد منه طرفاً تنويهاً بفضله. قال في الاعتصام والثقة بالله:
    أنا بالله اعتصامي ...... لا أرى في ذاك شكاً
    راجياً فيهِ نوالا ........ ورشاداً ليس يُحكى
    موقناً أن لا سواه ........ كاشفٌ ضراً وضنكاً
    لم أزل لله عبداً ................ وبهذا أتزكَّى
    وله مستغيثاً مبتهلاً من قصيدة:
    إلهي الهي ليس آلاءك يُرتجي وحقكَ ما وافيتُ غيركَ راجياً
    ومن ذا الذي أشكو لهُ سوء فاقتي ويعلم قبل المشتكي سوءً حاليا
    لقد دكَّ دهري طود قصري فأصبحت منازل قصري بالخطوب خواليا
    وفوَّقَ لي الخطبُ المبرح أسهماً من الوجد والتبريح فيها رمانيا
    وشنَّ لي الغارات تعدو وقد غدت علي بعادي الجور تعدو العواديا
    فيا ربّ ما للعبدِ في الدهر ملتجىً سواكَ فإني بالتضرع لاجيا
    تداركْ بألطافٍ وأسعفه بالمنى وحققْ له فضلاً لديك الأمانيا
    ومن جيد قوله ما كتبه في بر الوالدين:
    كم جرَّ برُّ الوالدَي ن فوائداً للمرء جمَّهْ
    منها رضا الله الذي يكفي الفتى ما قد أهمَّهْ
    وأخو العقوق كميّت قد صار في الأحياءِ رُمهْ
    والكلبُ أحسنُ حالةً منهُ وأحفظُ منهُ ذمَّهْ
    ومن محاسنه قوله في نوفرة على رأسها ليمونة:
    ونوفرةِ تبدي من الماء قامةَ زهت بكمال الصفو حسناً ومنظرا
    هودُ من البلور من فوقِ رأسهِ زُمرُّدةُ خضراء تنثر جوهرا
    ومن أوصافه قوله يذكر دير عطية من قرى الشام بين النبك والقريتين:
    حاديَ الرَكْب سِرُ وحثَّ المطَية لديار العطا بدير العطَّية
    فبتلك الربوعِ تلقى ربيع الس أنْس فاحت أزهارها العبهرَّية
    جنَّةٌ قد تزخرفتْ في رباها بثمارٍ من البهاء جنيَةْ
    تجري من تحتها المياهُ بأنها ر التهاني للواردين مَرَّيةْ
    وغصون الرياض تهتزْ فيها حيثُ غنَّت نسائمُ سَحرَّيةْ
    حبَّذا حبَّذا معاني الأغاني لتهاني المعالمُ الأنسَّيةْ
    وقد اشتهر بين المسلمين غير هؤلاء في الشعر والأدب لكنه قصائدهم وتآليفهم لا تزال في خزائن الخاصة أو أخذتها أيدي الضياع نذكر منه من اتصل به علمنا بمطالعة مخطوطات مكتبتنا الشرقية.
    فمن هؤلاء الأدباء المسلمين إسماعيل بن الحسين جعمان له ديوان صغير الحجم في أحد مجاميع لندن المخطوطة 1323 يحتوي على قصائد ومراسلات ومقالات شتى كتبها بين السنة 1227 وسنة وفاته 1250 (1812 - 1835).
    ومن مشاهير المسلمين في أوائل القرن التاسع عشر السيد محمد الأمير الكبير المولود في سنبو في مديرية أسيوط سنة 1154ه (1741م) والمتوفى في مصر في ذي القعدة سنة 1232ه (1817م). درس الفقه بأقسامه في الأزهر وتولى مشيخة السادة الملكية وألف كتباً عديدة في فنون شتى. وكان كلامه حكماً منه قوله:
    دع الدنيا فليس فيها سرورٌ يتمُّ ولا من الأحزان تسلَمْ
    وكن فيها غريباً ثمَّ هيئ إلى دار البقا ما فيه مغنَمْ
    ومنهم الشيخ عبد الله الحلبي كان شاعر زمانه في الشام له ديوان مفقود وقد وقفنا له على بعض فقرات في ديوان نيقولا الترك منها قوله في جملة قصيدة يذكر تآليف الترك:
    أنت بسحر بيانِ أبانَ فضلاً جزيلاً
    عن فضل ذي الفضل يبني عقداً بديعاً جميلاً
    صحيح معناهُ يروي عن الصحاح نقولا
    يا درَّ درّ قوافٍ ترتَّلت ترتيلا
    قس الفصاحة فيهِ سحبانُ أضحى ذهولا
    لم يترك الأوَّلون إلى الأواخر قيلا
    عنهُ التواريخُ تُروى براعةً وشمولا
    قد سار ذكراً شهيراً بين الأنام جليلا
    وجاء في الديوان عينه ذكر شاعر آخر وهو الشيخ صالح نائب طرشيحا روي له قصائد منها قوله يمدح آل شهاب والشيخ بشير جنبلاط ويذكر قرية المختارة قال:
    وأصبو إلى لبنان وهي مواطنٌ عرفتُ بها ظلاً هناك ظليلا
    بآل شهابِ كمّل الله عزّها وشرف منها أربُعاً وطلولا
    وبالجنبلاطي البشير تشامخت جبالٌ بها تعلو المجرّة طولا
    فتى ما لهُ في الدهر ثان وأنهُ أبو قاسمٍ حاز الكمال جميلا
    همام إذا ما الحرب شدَّت وثاقها ترى أسداً المرهفاتِ سَلولا
    يصولُ بقلبٍ كالجبال ثباتهُ فيوقع في قلب العدوّ خمولا
    يجودُ وفيضُ الجود يحسدُ جودهُ إذا جرَّ من بحر المكارم نيلا
    بهِ شرُفت مختارةُ العزّ في الورى وباروكُها المفضل جاءَ دخيلا
    تُذكّرنا جناتٍ عدن قصورُها وأنهارها شيئاً تراهُ جليلا
    فلا مثلها عيني رأَت ذات بهجةٍ تكلّلها من صيّب الماء إكليلا
    وبابن عليّ عظّم الله قدرها وأحيا لها اسماً في الميلاد فضيلا
    وقال يمدح نقولا الترك:
    هات زدْني من ذكر وصف نقولا ثمَّ أورَد أدلَّةً ونُقولا
    حيثُ جئنا لنشهر الفضلَ منهُ وبما نال ينبغي أن نَقولا
    عيسويٌّ حوى اللطافة حتى صار للُّطف حجةً ودليلا
    شاعر العصر أوحد الدهر حقاً ما وجدنا لمثل ذاك مثيلا
    هو يُدعى بالتُرك فاترك سواهُ من بني العُرْب واتخذه خليلا
    واشتهر في الجزائر محمد أبو راس الناصري من معسكره ولد سنة 1751 ونبغ في الفقه ورحل إلى تونس مصر والحجاز وتوفي سنة 1823. له قصيدة في فتح وهران على يد الباي محمد بن عثمان سنة 1792 وقد شرحها في كتاب دعاه عجائب الأسفار. وله وصف لجزيرة جربة طبع في تونس سنة 1884.
    هذا ما وقفنا عليه من تاريخ شعراء المسلمين في الثلث الأول من القرن التاسع عشر.
    ونلحق بهؤلاء بعض الذين اشتهروا باللغة والأدب فمنهم الشيخ الشرقاوي الذي سبق لنا ذكره (ص4) والشيخ القلعاوي مصطفى بن محمد الشافعي له كتاب مشاهد الصفا في المدفونين بمصر من آل المصطفى. والشيخ محمد وله منظومة في آداب البحث ومنظومة في المنطق وديوان شعر ديني سماه إتحاف الناظرين في مدح سيد المرسلين. ولد سنة 1158وتوفي سنة 1230 (1745 - 1815).
    ومنهم الشيخ محمد الحنفي المعروف بالمهدي ولد من والدين قبطيين في مصر سنة 1737 وكان اسمه هبة الله ثم أسلم وهو صغير دون البلوغ وتقدم في المناصب وألقى الدروس في الأزهر ورفق طوسون باشا في حرب الوهابيين وصارت إليه رتبة شيخ الإسلام سنة 1227ه (1812م) وتوفي ستة 1230 (1815) وله كتاب روايات على شكل ألف ليلة وليلة دعاه (تحفة المستيقظ والأنس في نزهة المستنيم الناعس) وخدم البعثة الفرنسوية العلمية لما قدمت مصر مع نابوليون وذكره بالثناء المستشرق مرسال.
    ومنهم الشيخ محمد الدسوقي ولد في دسوق من قرى مصر ودرس علوم اللغة والحكمة والهيئة والهندسة وفن التوقيت. قال الجبرتي (231:4): (له تأليفات واضحة العبارة سهلة المأخذ ملتزمة بتوضيح الشكل) وعدد تأليفه التي معظمها في العلوم البيانية والفقهية. توفي سنة 1230ه (1815م).
    واشتهر في الموصل من الأدباء الشيخ ياسين ابن خير الله الخطيب العمري له تواريخ مخطوطة في خزائن كتب لندن وبرلين كالدر المكنون في مآثر الماضية من القرون وهو تاريخ واسع للإسلام بلغه إلى السنة 1236 (1821م) وأفاض خصوصاً في أمور الموصل 1263) وله منية الأدباء في تاريخ الحدباء 1265) وكتاب عنوان الأعيان في ملوك الزمان 9484). وجرى ابنه علي بن ياسين على آثاره فكتب نحو السنة 1223ه (1808م) روضة الأحبار في ذكر أفراد الخيار وهو مختصر تاريخ العالم والدول الإسلامية: وذكر في المقالة الثامنة ولاة بغداد من حسن باشا سنة 1006 إلى سليمان باشا 1223 وله كذلك فصل في أدباء الموصل وشعرائها 1266).
    وعرف أيضاً الشيخ أبو الفوز محمد أمين السويدي البغدادي صاحب كتاب سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب اختصره عن القلقشندي نحو السنة 1229 (1814) والكتاب قد طبع على الحجر في بمباي سنة 1294 توفي كاتبه سنة 1236ه (1821م). وفي السنة 1240ه (1825م) مات بغدادي آخر الأديب عثمان بن سند النجدي. وإن انتقلنا الآن إلى ذكر النصارى الذين أبقوا لما من قرائحهم الوقادة ثماراً جنية بالنظم والنثر لوجدنا قوماً منهم زانوا بآثارهم جيد الآداب واستحقوا شكر السلف مع قلة ما كان لديهم في ذلك الوقت من الوسائل للتتر في العلوم البيانية.
    وأول من نذكر منهم رجل عصره الذي ترجمناه سابقاً في المشرق (3 (1900): 9 - 22) وهو ميخائيل البحري الشاعر الرومي الملكي الحمصي الأصل. كان متفنناً بالآداب العربية وينظم الشعر الرائق كما ترى في الأمثلة التي أثبتناها عنه في سيرته وقد شهد له أدباء عصره بجود القريحة. قال الشيخ أحمد البربير يمدحه:
    رعى الله حمصاً إذا صبت نَحْوَ من لهُ بيانُ معانٍ في البديع من الشعرِ
    بليغُ غدا كالبحر والنظمُ درُّهُ وهل يُستفادُ الدرُّ إلا من البحرِ
    أزهر ميخائيل البحري في أواخر القرن الثامن عشر وخدم الجزار في ديوان عكا وبعد مدة تغير عليه وألقاه في السجن. قال الأمير حيدر الشهابي في تاريخ سنة 1203ه (1788م): (وفي هذه السنة اعتنق الجزار ميخائيل البحري الذي كان مسجوناً بعد ما قطع أذنيه وأنفه). وكنا روينا في المشرق (3 (1900): 12) عن بعض الرواة أنه أدرك القرن التاسع عشر ثم وجدنا في ديوان الشاعر المجيد بطرس كرامة (ص104) تاريخاً لوفاة المذكور في سنة 1799 قاله نظماً:
    لكَ الرَحمات يا لحداً ثواهُ بديعٌ فضلهُ سامي الأرائكْ
    ويا لهفي على من فيكَ أمسى ويا أسفي لدرٍّ في ثرائكْ
    حويتَ الكوكب البحري علما فيا عجبي لبحرٍ في خبائكْ
    ولما أن ثوى نودي إليه هلمَّ إلى سرور في علائكْ
    وفي الملكوت أرّخْ ناطَ فوزاً بميخائيلَ تبتهج الملائكْ
    ولميخائيل البحري ذرية كريمة جرت على آثاره نخص منهم بالذكر ابنه عبودا أو عبد الله البحري الذي ذكرنا بعض تفاصيل حياته وتقلبه في المناصب العالية عند ولاة الشام ولدى أمراء مصر وكان رئيس قلم الإنشاء عندهم. لدينا من آثاره عدة رسائل دولية وأهلية وكان بلغ النهاية في حسن الخط. وفي عبود البحري قال الترك في موشحه الذي كتبه سنة 1809 يمدح بعض أصحابه في دمشق:
    كم تباهت دُرَرُ البحري على كل ذي نظمٍ بديعٍ ونثارْ
    وشدتْ من فوق أعلى الصُّحف لا يُنبت الدرَّ الصفي إلا البحارْ
    زمرُ الكتاب طرّا والملا من أولي الألباب توليه الوقارْ
    كم نراهُ جاذباً أن رقما معدنَ الأرواحِ كالمغنطيسِ
    بل وكم يسبي عقولا حين ما يُظهرُ الآياتِ فوق الطرسِ
    وممن مدحوا عبودا من الشعراء سليمان صوله قال فيه:
    مولىً أبي الفضلُ إلا من يلازمهُ فلم يُقمْ بمكانٍ فيه لم يقُمِ
    لله منهُ ملاكٌ يرتقي فرساً وكوكبٌ ناطقً يسعى على قدمٍ
    لهُ يدٌ تُخجل الإبحار بالكرم ال زّخار والذابل الخطار بالقلمِ
    أضحى لدائرة المعروف والكرم الم وفور قُطْب علا أولاهُ لم تَدُمِ
    أهديكَ يا خلَف البحري عاتقةً لعاتقِ المجدِ تهدي جوهر الحكَمِ
    إذا قبلتَ بها كان القبولُ لها أعلى وأغلى من الياقوت في القيسمِ
    وكانت وفاة عبود سنة 1843 فرثاه المعلم بطرس كرامة بقصيدةٍ طويلة قال فيها:
    يا للمنَية قد جازت وقد غدرتْ ببدر فضل لهُ الآدابُ هالاتُ
    مولى اليراعة عبد الله من فُقدت لفقدهِ وانقضت تلكَ اليراعاتُ
    يا طالما سبكت أقلامُهُ درراً تقلدت بلآليها الرسالاتُ
    وكم على وجنة القرطاس في يده تفاخرت ببديع الخط لاماتُ
    ما لاعبتْ قلماً يوماً أناملهُ ألاّ نَبَتْ مَشرفَّياتٌ صقيلاتُ
    لما أتى الناس ناعيهِ أسفاً من اليراعة دالاتٌ وميماتُ
    وكذلك اشتهر أخوه حنا البحري فمدحه الشاعر المذكور غير مرة (اطلب ديوانه ص287، 289، 302) ونظم تاريخاً لوفاته سنة 1843 كما مدح أخاهما جرمانوس فمن قوله في هذه الأسرة كان ميخائيل البحري خالاً لبطرس لبطرس كرامة (ص 288).
    بنو البحر آلا أنهم دررُ العُلى وأهلُ الوفا لكن دأبهمُ البرُّ
    وما منهمُ إلا نبيهٌ مهذَّب نراهُ بديوان اليراع هو الصدرُ
    بجرمانسٍ ساد الحسابُ وأصبحتْ دفاترهُ الزهراء يعشقها الزهرُ
    يريك إذا هزَّت يراعاً بنانهُ عقودَ جماناتٍ معادنها الحبرُ
    وفاخرَ يوحنَّا بإنشائهِ الصبا فرقَّت لألفاظ بها انعقدَ الدرُّ
    تودُّ ذؤاباتُ الحسان إذا انتضى ليكتب سطراً أنها ذلك السطرُ
    هما فرقدا أوج اليراعة والنُّهى وأبناء بيتٍ مهدُهُ انتظمُ والنثرُ
    والمعلم بطرس مدائح أخرى في بني البحري منها تاريخه لوفاة اندراوس البحري سنة 1816 (ص261) ختمه بهذا البيت:
    تلقَّاهُ الإله يقولُ أرّخْ رثو الُمْلك المعدّ لذي اليمين
    ومنها تاريخه لوفاة عبد الله البحري ابن أخي ميخائيل سنة 1819 (ص261) قال في ختامه:
    برُ بغفران الإله مؤَّرَخٌ ومُنَّعمٌ في روضة الأملاكِ
    وتاريخ وفاة إبراهيم البحري (سنة 1822) المختوم بهذا البيت (ص262):
    وفي الملكوت حازَ لدى إله مع الأبرار أرّخْ خيرَ روضهَ
    وكان ميخائيل الصباغ الذي ذكرناه في جملة مؤرخي زمانه شاعراً وسطاً استحب الأوربيون شعره العربي فنقلوه إلى الفرنسية فمن ذلك ما مدح به البابا بيوس السابع لما قدم فرنسا لتتويج نابوليون قال:
    دُهشتْ لرؤية وجهك الأبصارُ وأضتّ لرؤيةِ مجدكَ الأمصارُ
    هذي العروسةُ يا سليمان انجلت في حسنها ولها العظامُ فخارُ
    ومنها في المدح:
    اليوم تحسدنا الملائكُ في السما لمّا نرى ممَّا العقولُ تُحارُ
    سامح نواظرنا إذا بكَ كرَرت نَظراتها أو زادها التكرارُ
    وله موشح قاله في ميلاد ابن نابوليون الأول سنة 1811 أوله:
    هلّلوا يا كلَّ الأممْ واهتفوا فيها بألحان النغَمْ
    ومنها:
    أيها القيصرُ بُلّغتَ المنى كلُّنا بالبكر نهديك الهنا
    أنتَ منّا مستحقُّ للثنا قد حبانا رُّبنا هذي النعمْ
    وله غير ذلك مما لا نتعرض لذكره والركاكة ظاهرة في معظم هذه القصائد والموشحات ما يدل على أن صاحبها لم يحسن علم العروض وإنما تعاطى النظم استعطافاً لبعض الذوات وحظوة برضى العلماء المستشرقين.
    وممن اشتهروا أيضاً بالآداب والنظم بين النصارى في مفتتح القرن التاسع عشر القس حنانيا منير الزوقي الذي ذكرناه في باب التاريخ (ص22). فإنه برع أيضاً في الفنون الأدبية فمن ذلك مجموع أمثال لبنان وبلاد الشام يبلغ نحو 4000 مثل وكتاب مقامات بديعة جامعة بين فصاحة الألفاظ وبلاغة المعاني (المشرق 4 (1901): 973) هذا فضلاً عن كتاب في شرح عقائد الدروز طبعه المسيو غويس في باريس ونقلها إلى الفرنسوية. وكان له ديوان شعر أخذته يدع الضياع لمن نحصل منه إلا على بعض مقاطيع روينا بعضها سابقاً (المشرق 4 (1901):970: - 972) منها قصيدته الرنانة التي قالها في تهنئة سليمان باشا لما أتى عكا ليتولاها بعد وفاة الجزار. أولها:
    لِهوى الأحبَّة في الفؤَاد مُخّيمُ نيرانهُ بين الجوانح تُضرَمُ
    ومنها:
    صيدا ابشري عكَّا افرحي حيفا أطربي والقاطنون بهنَّ فليترنَّموا
    كن يا سليمان الوزير مؤَازراً للخاضعين وجارماً من يجرموا
    وأعظم وسدْ وارحمْ وعد وانعم وجُد واسلمْ ودمْ بسعادةٍ لك تخدمُ
    وختمها بهذا التاريخ:
    وإذا انتهى شعري بمدحك مرةً أرخَّتُ يبدأ مدحك لا يخُتمُ
    ومما قاله في الزهد والدعاء قوله في مقدمة تاريخه الرهباني:
    إني لفي عِظَم الوجلْ من قُرْب أيَّام الأجلْ
    من بعده لا بُدَّ ما يعروني في الدين الخجلْ
    إذ إنني قَضَّيتُ عمري بالملاهي والبَجَلْ
    والحكم لم يُقَبل بهِ عُذرٌ ولم ينفع وجلْ
    ألجأ لعونكِ مريماً فاعطفي نحوي النجَلْ
    وتشفعي بي يا بتو لاً وأدركيني بالعجلْ
    ولما توفي الجزار سنة 1219 (1804م) وكان بالغ في الظلم وجنح إلى العصيان وضع كل شعراء ذلك العصر من مسلمين ونصارى قصائد هجوه فيها وأرخوا وفاته (أطلب المشرق 2 (1899) 7380) فقال القس حنانيا أبياتاً أثبتها في آخر تاريخه للشوف ورواها الأمير حيدر الشهابي في تاريخه (المشرق 4 (1901):970). ومن رثائه قصيدة قالها في البطريرك أغناطيوس صروف لما قتله إلياس عماد سنة 1812 أولها:
    علامَ دمعي من عيوني يُذرفُ وإلامَ يرفا ولا يتكفكفُ
    هل كابدت كبدي لظىّ لا ينطفي أم في الحشا جذوةُ نارٍ تنطفُ
    ومنها في مدح الفقيد:
    يا شمسَ أفق الشرق ذاع ضياؤهُ في الغرب أنَّى شمس فخرك تكسَفُ
    يا راس كَهنْة بيعة الله التقي ثِق أنتّ أيضاً في الأعالي أسقفُ
    أواهُ وا أسفي ولوعاتي على من كلُّ من يدري بهِ يتأسَّفُ
    قسماً فلو يُفدى لكنتُ فديتهُ بالروح مرتاحاً ولا أتوقفُ
    وكان القس حنانيا يتفنن بالنظم وله قصائد بالشعر العامي غاية في اللطف منها قصيدة في الخمارة والعرق لم نحصل عليها. وهو الناظم للزجلية الشهيرة المعروفة بالبرغوث كنا أثبتناها أولاً في كتابنا علم الأدب سنة 1886 ثم وجدناها تامة وافية في كتاب مخطوط من أيام المؤلف وفي آخرها أسمه نرويه هنا بحرفها تفكهة للقراء:
    أعد بيوت مع قصدان - وأخبركم بما قد كان - طول الليل وأنا قلقانْ
    وأصبح جلدي كالجربانْ
    جاء البرغوث وأنا نائم - وصار على صدري حائم - وقال لي من شهرين صائمْ
    في حسابي خلص رمضان
    قلتلوا لا تجادبني - علامك أنت تكاربني - بالله عليك لا تتعبني
    كل النهار وأنا تعبان
    قال لي ليس أنا بهمَّك - إن كان سرّك أو غمَّك - عشاي الليل من دمَّكْ
    وبكرة يفرجها الرحمانْ
    قلت يا برغوث أنا بداريك - وبين الناس أنشد فيك - روح لغيري يعشيكْ
    واتركني الليلي نعسانْ
    قال لي ما هو عاكيفك - وهلليلي أنا ضيفك - عيب يا حيفكْ
    أكون عندك وأبات جيعانْ
    لا تحسب أني بهابكْ - بجي وبدخل في عبابك - بدور حول جنابكْ
    إن كنت نائم أو سهرانْ
    قلت يا برغوث اسمع مني - وهلليلي ارجع عني - ودعني راقد متهّني
    يبقى لك عندي إحسانْ
    قال لي شوارك مرذولة - وعندي ما هي مقبولةْ - مواعيدك هي مجهولةء
    وعمري ما بصدق إنسانْ
    قلتلوا ويلك يا عقوق - لا يا أسود يا ممحوقْ - بتخدعني وما عندك ذوقْ
    وعجزك هن قريب يبان
    قال أنا بالعين صغير - ولي في الليل فعل كبيرْ - أنا ما بفزع من وزير
    ولا من حاكم ولا سلطانْ
    بتعيرني بسوادي - وأنا اليوم لك معادي - لأجيك أنا وأولاديْ
    بعلمك فعل السودانْ
    قلتلوا ما أنا بهمَّكْ - ولا أولادك ولا أولاد عمَّكْ - لأحرق أبوك مع أمكْ
    وبناتكم مع الصبيانْ
    قال بخليك حتى تنامْ - أجيك أنا وأولادي قوامْ - لما تلبس ثوب الخامْ
    وعن مسكي تبقى عجزانْ
    وحالاً بتصير تتقلبْ - وأنا في جلدك مكلبْ - وأنت تبقى متغلبْ
    بصبغ جلدك والقمصانْ
    قلت يا برغوث إن كنت عائق - امتحني وأنا فائقْ - وضوء الشمس يكون شارقْ
    لننظر من هو الغلبانْ
    قال أنا بالنهر بصوم - بقضيها ارتياح ونوم - عند غياب الشمس بقومْ
    وأدور حول السيقانْ
    وإن صار لي بالنهار فرصةْ - لا بد ما أقرص لي قرصةْ - ولولا خوفي من جرصةْ
    ما كنت بسيب إنسان
    قلت الرهبان لا تقربهم - والشرير محاربهمْ - روح عنهم لا تعذبهمْ
    يكفاهم شر الشيطانْ
    قال الراهب هو ملزومْ - بالسهر والصلاة والصومْ - لئلا يتمادى بالنومْ
    ما هو مليح يكون كسلانْ
    وأنا من يومي بحبه - بجي وبدخل في عبه - كي يقوم يعبد ربه
    ويطلب للعالم غفران
    وأنت ما فيك تربطني - وأنا ربي مسلطني - ولما بدك بتلقطنيْ
    بصير بفر كالغزلان
    وبعرف لما بتمسكني - ما بتصور تتركني - حالاً بتصير تفركنْ
    وفي قتلي بتبقى شمتانْ
    وأنا في أول الليل - بتصيد بقوة مع حيل - وبصير بركض مثل الخيلْ
    وعصدرك بعمل ميدان
    قلت يا برغوث يا محقورْ - حقاً من جنسك مقهورْ - لا بد ما أعملَّك تنورْ
    وأحميه بالشوك والبلانْ
    قال لي كلامك كله فشارْ - قرائبي وأولادي كنارْ - وترّبوا عند الجزارْ
    وتسلَّطوا على البلدانٍْ
    وعلى ايش حتى تحرقني - حيث ربي خالقني - وأنا الدم يوافقني
    وطالب من دمك فنجانْ
    قلت يا برغوث بالك فاضي - وعليك ما أنا راضي - لا بد أشكيك للقاضي
    وأخرج في قتلك فرمانَ
    قال حكم القاضي أنا عاصيهَ - ومن يومي أنا معاديهْ - وفرمانه لا يعمل فيَ
    وعلي ما لهُ سلطانْ
    قلت يا برغوث قل لي كاركْ - وأهديني لباب داركْ - قصدي أقطع جداركْ
    أحرق نسلك بالنيرانْ
    قال لي لعشيه بقلكْ - وعلى باب دارك بدلَّك - حتى أدخلَ في ظَّلكْ
    وأرقصك رقص السعدانْ
    قلت يا برغوث صدقة عّنك - عرّفني طريق فنّك - وكيف بقدر خلص منكْ
    صرت في أمري حيرانْ
    قال إن كان تعرف فني - طاوعني واسمع مني - أنا نصيحك أمِنّي
    قصدي خيرك يا إنسانْ
    كلّس بيتك في طُّيون - ورشُه بزوم الزيتون - وخليه أنظف من ماعونْ
    وطينه بتراب ولفان
    وتيابك قبال تلبسها - برغتها أو شمسَها - وأرض الدار كنّسها
    كذلك أعمال بالدكاَّنْ
    لمَّا بيضميك شربكْ - عند النوم غّير توبك - ما أحد يجي صوبكْ
    وعلى التخت أفرش ونامْ
    هذا ما قد صار فيي - عند السهرة من عشييّ - وكان في بدء الصيفيي
    في آخر يوم من نيسانْ
    (تمت القصة من القس حنانيا منيّر)
    وكذلك اشتهر بين شعراء ذلك الدهر المعلم الياس أدّه وكان مولده في قرية أدّه من أعمال جبيل سنة 1741 وتوفي في بعبدا سنة 1828 وهناك ضريحه وقد صحب الأمراء الشهابيين ومدحهم لا سيما الأمير يوسف والأمير بشير وكذلك خدم مدة أحمد باشا الجزار في عكا حتى هرب منه خوفاً على نفسه. وقد أتسعنا في المشرق (2 (1899): 693 و736) في ترجمة الياس أدّه وأعماله وشعره فلا حاجة إلى الإطالة هنا. وممَّا وقفنا له بعد ذلك من الآثار الأدبية مجموعة ذات 235 صفحة ضمَّنها نخبة من أقوال الأدباء والعلماء واللغويين جمعها وهو في حلب الشهباء سنة 1207 (1792م) وسمَّاها (الدر الملتقط من كل بحر وسفط) وجدنا منها نسخة تاريخها 1247 (1831م) وهي عند أحد أدباء عينطورة الخواجا جاماتي. وللمؤلف في وصف هذه المجموعة قولهُ:
    إذا نظر الرائي إليها يخالُها رياضاً بها زَهرٌ وزُهرٌ زواهرُ
    عرائس يجلوها عليك خدورُها ولكنَّها تلك الخدورُ دفاترُ
    وممَّا لم نذكرهُ من شعرهِ قولهُ في وفاة الشيخ سعد الخوري سنة 1785:
    لا ريب بعد السعد لاشيء فاخرُ وقد قُرحت بالدمع منَّا المحاجرُ
    لقد غبت يا شمس الكمال فأُرعدتْ فرائصنا والحزنُ للقلب فاطرُ
    وفاضت مياهُ الدمع منَّا فما لنا وحقَك قلبٌ بعد فقدك صابرُ
    وليل الشقا فينا اكفهَّر ظلامهُ وضاقت علينا بالفراق السرائرُ
    لتبكِ المعالي بعد بُعدك حسرةً كما لبستْ ثوب الحداد المفاخرُ
    أيا لوذعيَّا كان الدهرُ سيدا ومن كفّهِ للجود هام وهامرُ
    عليك من الرحمان أضعاف رحمة ورضوانهُ ما ناح في الروض طائرُ
    وما قال بالأحزان فيك مؤرخٌ فلا ريب بعد السعد لا شيء فاخرُ
    وقد خلف لنا آثاراً أدبية أوسع من السابقين رجلٌ سبقت لنا ترجمتهُ وإطراء فضلهِ في باب التاريخ (ص23 - 24) نيقولا الترك فان طول باعه في الآداب ليس دونهُ في التاريخ ولدينا من نظمهِ الرائق ونثره المسجع الفائق ما يشهد لهُ بالتقدُّم بين آل عصرهِ. وفي مكتبتنا الشرقية نسختان من ديوانهِ تنيف النسخة على 400 صفحة ترى فيها كل مضامين الكتابة في الرثاء والمدح والوصف والهجو والمزاح. وقد عارض أصحاب المقامات فوضع منها إحدى عشرة مقامة نسبها إلى راوٍ دعاهُ الحازم ومسفارِ فكه سمَّاه أبا النوادر. وفي كتابنا علم الأدب (1: 278) مقامة منها وهي الأولى المدعوَّة بالديريَّة نسبة إلى دير القمر قدَّمها المؤلف للأمير بشير وأودعها من حسن التعبير وبديع اللفظ وبليغ المعاني ما يدلُّ على براعتهِ في فنون الإنشاء. أما شعرهُ فمنسجم سهل المأخذ مطابق لمقتضى الحال مع كثرة التفنن في النعوت والأوصاف وفيهِ مع ذلك بعض الضعف إذ نبغ في الشعر بجودة قريحتهِ دون الدرس على أستاذ يلقنهُ ومعلّم يرشدهُ. وها نحن نثبت هنا شيئاً من شعرهِ لإفادة القراء وتنويهاً بحسن صفاتهِ فمن لك قولهُ في مدح الأمير بشير وهي أول قصيدة قالها فيهِ:
    دنا البشرُ المجيد المستصابُ وأشرقَ في معاليهِ الشهابُ
    وتمَّ لنا المُنَى بمزيدِ أمنٍ بهِ زال العنا والاضطرابُ
    إلى أن قال:
    لهُ في المشكلات حميدَ رأي وحزمٍ لم يزغُ عنهُ الصوابُ
    يلي الهيجاء في عزمٍ شديدٍ لديه لانت الصّم الصلابُ
    كماةُ الحرب عند لقاهُ فرَّت كما فرَّت من الليث الذبابُ
    وإن خفقت بنور سطاه صاحت غشا الضرغام وانقضَّ العقابُ
    يبدد شملها منهُ ويفنى كما يفنى من الشمس الضبابُ
    ملاذٌ مقصدٌ حصنٌ منيعٌ رجاءٌ لا يُرَدُّ ولا يخابُ
    أذلَّ الله أعداه لديه وقد خضعت لعزتهِ الرقابُ
    ولهُ أيضاً فيهِ من قصيدة قالها بعد واقعة حربٍ:
    سواك إلى المعالي ليس يُدعى لأنَّ الله أحسن فيك بدعا
    وزانك بالمزايا يا حميداً بهِ الدهر أرتضى واختار قنعا
    أميرٌ لا أميرَ سواهُ يُرجى مليك كاملٌ خلقاً وطبعا
    بشير خول الدنياءَ بشراً بهِ طاب الورى قلباً وسمعا
    شهابٌ أوعب الآفاق نوراً على نور الثريا فلق سطعا
    إذا أعددتهُ يوماً بفرد من الأفراد كنت تراه سبعا
    ندى كفَّيهِ حلّ عن إنكفاف كأنَّ الله أجرى فيه نبعا
    فما الفضل أبن يحيى وابنُ طيّ وهل معنىً لمعنِ بعدُ يدعى
    بصارم عدلهِ كم بتَّ جوراً وأحيا لانتصار الحقّ شرعا
    وقال مهنئاً قدس السيد أغناطيوس قطَّان بارتقائه إلى السدة البطريركيَّة سنة 1816 وكان اسمهُ أولاً القس موسى:
    خوَّلت يا فخر البطاركة الهنا للشعب ثمَّ حسمت كلّ نزاعِ
    لما ارتقيت لسدَّة بك شُرفت يا كامل الأوصاف والأوضاعِ
    وأنرتَ يا قطَّان الديا ر وفيك باهت سائر الأصقاعِ
    يا حبر أحبار البلاد وسيدّا أبدا لهُ عينُ الإله تراعي
    وبك إستضا الكرسيُّ لمَّا أن وفى حسن الدعا لله والأضراعِ
    لبَّاه بالإفصاح أرّختُ المدى موسى لشعب الله أفضل راعِ
    ومن رثائهِ ما قالهُ في الشهيد بطرس مرَّاش سنة 1818 لمَّا قُتل في حلب بإغراء جراسيموس أسقف الأرثوذكس مع غيره من الكاثوليك:
    وا فجعتاهُ بهِ ويا أسفي على ذاك الشباب الغضّ كيف تهشَّما
    شُلَّت يدُ الباغي الذي قد أهرقت دمهُ الزكيَّ وحلَّلت ما حُرما
    حيَّاهُ من شهم شجاع باسل بطلٍ إلى القتل المريع تقدَّما
    بدل الحياةَ الدنيوية بالبقا واختار مجداً سرمديِّا دوَّما
    لله فجعةُ بطرس كم فتَّتت كبدي وألقت في فؤادي اسهما
    لله فرفه بطرس كم أوحشت تلك الربوعَ وأظلمت ذاك الحما
    لله لوعة بطرسٍ كم أجَّجت في مهجتي الحرَّاء جمراً مضرما
    ما حيلتي ما طاقتي فنيَت وها جَلَدي وهاك الصبر مني معدما
    طوباه إذ من بعد اصلحِ سيرةٍ ومناقبِ منذ الصبا فيها نما
    وأفى إلى سفك الدما شهامة وغشية المنايا مسرعاً متقحما
    وانضمَّ منحازاً مع الشهداء في جنّات خلدٍ بالسماء منعمّا
    يا طيب مثوّى ضمَّ طاهر جسمه يا فوز من وافى إليه ميتما
    فلذاك قلت صلوهُ تمجيداً بتا ريخي ففي دمهِ الزكي ورث السما
    وهي طويلة. ومن فكاهاته قوله يهجو بعض الشوَيعرين الذين يسرقون أبياتاً وقصائد قديمة وينسبونها لنفسهم:
    أصبح الشعر كالشعير مقاماً لا بل الشعر منهُ أرخص قيمة
    غُر من قد غدا بذا الدهر ينفي حقُ ما فيهِ من لآلي نظيمة
    حيثما قد غدت بنو الخلط تنشأ فيهِ بئس المؤلفات الذميمة
    ويحهم كيف جوّزوا وأباحوا هتك ما فيهِ من عروض سليمة
    يا لهم من فواجر بغباهم والخطا غَوروا البحور العظيمة
    نقضوا كل كامل موزون ذي احتكام وعوّجوا مستقيمة
    افسدوا جوهر البسيط وفيهِ ركبوا اقبح الصفات الذميمة
    قل أن يُنقذ الخفيف فرارٌ منهم أو تقي السريع هزيمة
    ضعضعوا الوافر المديد وأمست بينهم حالة الطويل مشومة
    كلهم كالذئاب قوم لصوص يستحلون سرقة محرومة
    قاتل الله مثلهم من يسطو بافتراء على البيوت القديمة
    كم بهم ابكمٌ يقلد قساً فيهِ قد كانت الفصاحة شيمة
    بل وكم بينهم ترى مهذاراً فاتحاً شدقهُ كشدقِ بهيمة
    حرفة الشعر يا عباد توفت فاسكبوا فوقها الدموع الحميمة
    عظمها في التراب ما زال يشدو: يعلم الله إني مظلومة
    ومن موشحاته ما قالهُ في مدينة طرابلس ومدح أهلها:
    بأبي عهد التهاني والصفا زمنٌ مرَّ بطَربَلُسِ
    يا هنا عيش رغيدٍ سلفا لي بذاك المعلم المؤتَنَسِ
    دور
    حبذا الفيحاء أهنا كل ناد والحمى المعمور والركن الحصين
    كتب السعدُ عليها يا عباد ادخلوها بسلام آمنين
    بلدةٌ طيبةٌ خير البلاد والمقام المشتهى للناظرين
    أهلها قوم لطاف ظرفا نعم أنجالُ كرام الأنفس
    ما لهم عيب سوى حسنِ الوفا والخلوصِ المنتإي عن دنسِ
    وهو موشَّح طويل. ومما أمتاز به الترك مداعباتهُ وأقواله الفكاهيَّة. فمن ذلك ما رويناهُ له في كتابنا علم الأدب (249:1) مناظرة بين الزيت واللحم. ومنها قولهُ يطلب من الأمير بشير شروالاً وعمامة:
    وشروالِ شكا عتقاً وأمسى يراودني العتاق فما عتقتُ
    وكم قد قال لي بالله قِلني وهبني كنت عبداً وانطلقتُ
    أما تدري باني صرتُ هرماً وزاد عليَّ إني قد فُنقتُ
    فدعني حيثُ قلَّ النفع مني وعاد من المحال ولو رُتقتُ
    ولا تعبأ بتقليبي لأني بعمر أبيك نوحاً قد لحقتُ
    ولم يبرح يجدّد كل يومٍ عليَّ النعي حتى قد قلقتُ
    وقلت لهُ عُتقت اليوم مني لأني في سواك قد اعتلقتُ
    فأشعرتِ العِمامةُ في مقالي لهُ فاستحسنتُ ما قد نطقتُ
    فراحت وهي تشدو فوق رأسي ليَ البشرى إذن وأنا عُتِقتُ
    وممَّا نقش من شعره في معاهد بيت الدين التي ابتناها الأمير بشير قولهُ وهو مرقوم فوق باب إحدى القاعات:
    دارُ المعالي التي فاقت مفاخرها والعزُّ قد زادها حسناً وجمّلها
    تزينت في معاني الظرف واكتملت بقاعةِ أرخوها لا نظير لها
    وكتب على دائرها هذه الأبيات استغاثة إلى العزَّة الإلهيَّة على لسان الأمير:
    الله الله أنت الواحدُ الأحدُ والسرمدُ الأزليُّ الدائمُ الصمدُ
    حيٌ عزيز قديرٌ خالقٌ ولهُ من في السماء ومن في أرضنا سُجُدُ
    لا رب غيرك يا مولايَ نعبدهُ ولا سواك إلهاً فيهِ نعتقدُ
    أنت الغنا والمُنا والفوزُ أجمعهُ والعون والغوثُ والانجاءُ والمددُ
    ما لي سواك غياثٌ أُطالبهُ كلاَّ وغيرك ما لي في الورى سندُ
    خوَّلتني يا إلهي خير تسمية فكنت فيك بشيراً أنت لي عضدُ
    بل كل جارحة مني وعاطفة تصبو إليك ونار الحبّ تتقدُ
    إذا أنت علّة نفسي أنت مركزها يا ربَّ كلّ ومنهُ الخلق قد وُجدوا
    يا رب أُمنن بعفوٍ منك لي كرماً واغفر جنايات عبد منك يرتعدُ
    وجُد بخاتمةٍ يا رب يعقبها ذاك النعيم السعيد الثابت الوَطِدُ
    هذا ولو شئنا لا تسعنا في ذكر منظومات نيقولا الترك وإنما نجتزئ بهذا القليل وفيه كفاية لتعريف طريقة ذلك الشاعر الذي كان من أعظم السُعاة في النهضة الأدبية في مبادئ القرن التاسع عشر وديوانهُ يستحقُّ الطبع لان صاحبهُ الأديب نظمهُ في وقت كسدت فيهِ تجارة الآداب فيشفع في ضعف بعض أقسامهِ الكثير من محاسنهِ.
    وممن نلحقهم بهؤلاء الشعراء بعض من معاصريهم النصارى ابقوا لنا آثاراً من فضلهم وهي تآليف ومصنفات أدبية غير الشعر وأولهم جرمانوس آدم الحلبي الذي لعب دوراً مهماً في تاريخ زمانهِ. ولد في حلب في أواسط القرن الثامن عشر ونشأ فيها ثم تخرج في الآداب الكنسية والعلوم الدينية والمعارف الدنيويَّة في رومية العظمى حتى أصاب منها قسماً صالحاً. وقد عُهدت إليه لمقدرته عدَّة مهمات قام بها قياماً حسناً وتولى القضاء مدَّة في لبنان ولهُ تآليف متعددة تشهد لهُ بقوة الفهم واتساع المعارف وأكثرها دينيَّة منها كتاب إيضاح اعتقاد الآباء القديسين في الحاد المشاقين وهو سفرٌ كبير وإيضاح البراهين اليقينية على حقيقة الأمانة الأرثوذكسية وكتاب المجامع لكباسوطيوس ولهُ تآليف أخرى شطَّ فيها عن تعليم الكنيسة الكاثوليكية لكنَّه رذلها قبل وفاته نادماً. وتوفى في زوق ميكائيل في 10ت2 سنة 1809.
    وفي عهده عرف راهب من ملته الروم الكاثوليك وعاش بعده ردهاً من الدهر أعني به سابا بن نيقولا الكاتب الشهير بالخوري سابا. كان مولده حمص وكان أبوه من الروم الأرثوذكس وأمه كاثوليكية فنشأ على دين والده مدة ثم أهمل نفسه لملاذ الدنيا حتى ارعوى وارتد إلى الله بعد أن رأى عيشة الرهبان الكاثوليك في دير المخلص فتبعهم في دينهم ثم في طريقتهم النسكية وأخذ العلوم العربية عن الشيخين يوسف الحر من علماء الجباع وأحمد البزري. وبعد كهنوته سافر إلى رومية حيث أتقن العلوم الفلسفية واللاهوتية وتعلم اللغات الأوربية ثم رجع إلى الشرق وانكب على الأعمال الخيرية إلا أن الأمراض دهمته فأحوجته إلى لزوم ديره فانقطع إلى التأليف وصنف كتباً عديدة في أخص المعتقدات المسيحية أكثرها لا يزال مخطوطاً طبع منها شيئاً الأديب شاكر أفندي البتاوني. وله مصنفات أخرى في معظم الأبحاث الفلسفية منها رسائل في النفس وجوهرها وخواصها.
    ومنها كتاب في المنطق نشر بالطبع وغير ذلك مما عددناه في مقالاتنا عن مخطوطات الكتبة النصارى ورقي إلى رئاسة رهبانيته العامة نحو تسع سنوات وكانت وفاته في أيلول من السنة 1827.
    المستشرقون في هذه الحقبة وقبل أن نختم تاريخ هذا الطور الأول من الآداب العربية في القرن المنصرم يجمل بنا أن نذكر المستشرقين الأوربيين الذين استحقوا ثناء الأدباء بما نشروه من المصنفات العربية.
    ومما يقال بالإجمال أن هذه ثلاثة أعشار القرن لم يبلغ أحد فيها بين الأجانب مبلغ العلامة ساوستر دي ساسي لكننا نؤجل الكلام فيه إلى الطور التالي لأنه فيه مات. وكان دي ساسي كنقطة المركز لدائرة زمانه يشيرون إليه بالبنان لتفنن معارفه بل كان مناراً يستضيء بنوره كل من أراد العلوم الشرقية في فرنسة وغيرها فيقدمون باريس ليحضروا دروسه ويدورون في فلكه كالأقمار المستنيرة به.
    وقد جاراه في علومه دون يبلغ أن شأوه بعض أهل وطنه الذين قدمنا ذكرهم (ص14) كالعلامة دي غيني لينغلاي ودوبرون وهربان ولكلهم الآثار الناطقة بعلو علمهم وسعة معارفهم. وممن تتلمذوا له وفازوا بالشهرة في آداب العرب المسيو أمابل جوردان (1788- 1818) كتب تاريخاً للعجم وانتقد تأليف مرخند وصنف كتاباً في البرامكة ونقل إلى الفرنسوية نبذاً من تاريخ العرب عن حروب الفرنج في بلاد الشام. لكن هذا المستشرق مات في مقتبل العمر.
    ومن تلامذة دي ساسي في هذا الطور أنطون ليونارد دي شازي نبغ اللغات الشرقية وكتب عدة مقالات في آثار العرب والعجم وغيرهم في مجلة العلماء وله تاريخ العجم ومجان أدبية فارسية ومنتخبات من كتاب عجائب المخلوقات للقزويني. توفي سنة 1831 وكان مولده سنة 1773.
    ومما يذكر من حسن مساعي الفرنسويين في خدمة الآداب الشرقية في ذلك العهد نشأة الجمعية الآسيوية الباريسية أنشأها دي ساسي ورصفاؤه وتلامذته سنة 1821 ثم باشروا بنشر الآثار القديمة والمقالات المستحسنة في كل فنون الشرق وآدابه ولغاته لا سيما اللغات السامية منذ السنة 1822 ومجلتهم تبرز كل سنة في مجلدين فيكون مجموع ما ظهر منها إلى يومنا بالغاً مائتي مجلد وهي تحتوي كنوزاً ثمينة في كل آداب الشرق. وقد نشرنا في المشرق (20 (1922): 612 - 619) خلاصة أخبارها بنسبة التذكار المئوي لإنشائها.
    وحذا الإنكليز حذو الفرنسويين في العام التالي سنة 1823 فشكلوا أيضاً جمعية دعوها باسم جمعية بريطانيا العظمى وأيرلندة الآسيوية الملكية. وكان الساعي في هذا المشروع بعض كبار الأثريين مثل كولبروك وجنستون وستونتن وفين وهوغتون فنشروا أيضاً نشرة علمية سنة 1824 ثم وسعوها سنة 1836 ودعوها مجلة لندن الآسيوية الملكية. لكن العلماء الإنكليز كانوا يوجهون اهتمامهم خصوصاً إلى الهند وإلى لغات الهنود وآدابهم.
    وكذلك نشر الألمان والنمسويون مجموعات شرقية منها (معادن الشرق) للعلامة هامر و (جريدة المعارف الشرقية) التي طبعت في بونة من أعمال ألمانية. أما الجمعية الآسيوية الألمانية فلم تنشأ إلا بعد ردهة من الدهر.
    ومن مشاهير المستشرقين في تلك الأيام غير الفرنسويين رازموسن الدنيمركي (1785 - 1826) درس العلوم الشرقية في باريس ثم عاد إلى وطنه فتولى تدريس لغات الشرق في حاضرة بلاده كوبنهاغن. له عدة تآليف في تواريخ العرب في الجاهلية نقلاً عن ابن قتيبة وابن نباتة والنويري مع جدول لتوفيق التاريخ الهجري والتاريخ المسيحي. ونقل قسماً من كتاب ألف ليلة وليلة. ومن مصنفاته كتاب له في المعاملات التي دارت بين العرب والصقالية في القرون الوسطى.
    واشتهر بين الألمان فلمت الذي نشر معجماً عربياً لاتينياً ونقل معلقتي لبيت (سنة 1814) وعنترة (سنة 1816) وعلق عليهما الحواشي الواسعة والتذييلات المهمة. ومنهم أيضاً كرل رودلف بيبر نقل قسماً كبيراً من مقامات الحريري إلى اللاتينية وحشى معلقة لبيت ونشر رسالتين فيما بعد الطبيعة لبهمنيار بن المرزبان. وكذلك عرف بينهم كرل تيودور جوهنسن الذي ترجم تاريخاً لمدينة زبيد عنوانه (بغية المستفيد في أخبار زبيد) ونشره في بونة سنة 1828. وهو تاريخ حسن ألفه في غرة القرن العاشر للهجرة الإمام سيف
    الإسلام ابن ذي يزن الفقيه عبد الرحمان الربيع.
    وكانت الدروس العربية قد ضعفت قليلاً في إيطالية فأنهضها أحد فضلاء الأسرة السمعانية نريد به شمعون السمعاني الذي ولد في طرابلس ودرس في مدرسة الموارتة في رومية العظمى ثم تجول مدة في مصر والشام لجمع المخطوطات الشرقية. ولما كانت السنة 1785 عهدت إليه كلية بادوا تدريس اللغات الشرقية فعلمها إلى سنة وفاته في 7 نيسان 1821. له تأليف في عرب الجاهلية وأصلهم وتاريخهم وأحوالهم في مجلدين ووصف الآثار الكوفية في المتحف النانياني والمتحف البرجياني ومتحف السيد مينوني.
    وفي الوقت عينه اكتسب أحد كهنة إيطالية المسمى جان برنرد دي روسي (1742 - 1831) شهرة واسعة في المعارف الشرقية. فإنه كان أولاً ناظراً على متحف مدينة تورينو ثم تولى تدريس اللغات الشرقية في كلية بارما نحو خمسين سنة. ومن مشروعاته الطيبة إنشاؤه في بارما مطبعة شرقية متقنة الأدوات جميلة الحروف أصدرت عدة مطبوعات بديعة الطبع. وكان دي روسي حاذقاً في اللغة العبرانية له فيها عدة مصنفات. منها وصف مكتبة واسعة جهزها بالتآليف النادرة والمخطوطات الجليلة ومنها تأليف في الشعر العبراني. وكان يحسن العلوم العربية كما يدل عليه كتابه الطلياني (معجم أشهر أدباء وكتبة العرب) الذي طبعه سنة 1807.
    الفصل الرابع
    الآداب العربية من السنة 1830 إلى 1850
    هو الطور الثاني من القرن التاسع عشر وهو يشمل عشرين سنة أصابت في مطاويها الآداب العربية ترقياً مذكوراً.
    وممّا أمتاز به هذا الطور الثاني انتشار المطابع العربية في الشرق. نعم أن الطباعة كانت سبقت هذا العهد كما بيّنا الأمر في المقالات المتعددة التي خصصناها بهذا الفن في أعداد المشرق من السنين الثلاث 1900 و1901 و1902. لكنَّ المطبوعات العربية في الشرق كانت قليلة لا تتجاوز بعض العشرات وأكثرها دينية كما في مطابع حلب وبيروت والشوير.
    فلمَّا كان القرن التاسع عشر توَّفرت الأدوات الطبعيَّة في الشرق وقد مرّ لنا مطبعة الآستانة العليَّة ومطبعة بولاق (المشرق 3 (1900):174) وكلتاهما وسعت دائرة أشغالها في هذا الطور الثاني لا سيما مطبعة بولاق التي أبرزت نحو ثلاثمائة كتاب في فنون شتى بالعربية والتركية والفارسية 1843224 - 61) وكان أكثرها منقولاً عن الفرنسويّة في العلوم المستحدثة كالرياضيات والطب والجراحة وجرّ الأثقال والفنون العسكرية. أما الكتب الأدبية فكانت يسيرة.
    ومن المطابع التي جددت حركتها في هذه المدة مطبعة القديس جاورجيوس في بيروت (المشرق 3 (1900):501) فإنها بعد خمودها نحو مائة سنة عادت إلى أشغالها بسعي مطران الروم الأرثوذكس بنيامين سنة 1848. وفي السنة التالية أنشأ في القدس بطريرك الروم كيرلُس الثاني مطبعة عرفت بمطبعة القبر المقدس اليونانية (المشرق 5 (1902):70).
    ومعظم مطبوعات هاتين المطبعتين في السنين الأولى لإنشائهما لم تتجاوز المواد الدينية وبعض المبادئ المدرسية.
    في أثناء هذا الطور أعني من السنة 1830 إلى 1850 استحدثت ثلاث مطابع كبيرة أعانت على نشر آداب اللغة العربية في جهات الشام: الأولى ومنها مطبعة الأمريكان التي نقلت سنة 1834 من مالطة إلى بيروت واستحضرت أدوات جديدة وحروفاً مشرقة فاشتغلت مذ ذاك الوقت بطبع مؤلفات جمَّة عددنا قسماً منها في المشرق (3 (1900):504). والثانية مطبعة الآداب الفرنسيين في القدس الشريف باشرت أعمالها 1849. والثالثة مطبعتنا الكاثوليكية كان ظهورها سنة 1848 فطبعت أولاً كتباً شتى على الحجر ثم طبعت على الحروف سنة 1854 (المشرق 3 (1900):641 - 656) فهذه المطابع لم تزل نيف وثمانين سنة يجاري بعضها بعضاً في ميدان الآداب ولا غرو فإن بواسطتها تعددت المنشورات وقرب جناها على أيدي الأحداث وأقبل على مطالعتها العموم.
    ومن الأسباب التي ساعدت أيضاً في تلك المدة على اتساع المعارف الأدبية وارتقاء اللغة العربية ما أنشئ في الشرق من مدارس بهمة أصحاب الخير. فما عدا الآداب العربية من السنة 1830 إلى 1850 المعاهد التي سبق لنا ذكرها (ص5 - 6) كعين ورقة وعين تزار ظهرت مدارس جديدة غايتها ترقية العلوم كان الفضل في إنشائها إلى المرسلين اللاتينيين.
    أوّل هذه المدارس التي فتحت لتثقيف الوطنيين بالآداب العصريَّة مدرسة عين طورا باشرت بالتعليم سنة 1834 وقد سبق المشرق (3 (1900):548 الخ) فاتسع في تاريخ هذه المدرسة الشهيرة ومن تخرَّج فيها من الأدباء فلا حاجة إلى التكرار.
    ثم أُنشئت بعد تسع سنوات (1843) مدرسة للآباء اليسوعيين في كسروان أنشأها الأب مبارك بلانشة في غزير في الدار التي كان شيَّدها الأمير حسن شقيق الأمير بشير الشهابي لسكناه. وهذه المدرسة بقيت عامرة إلى سنة 1875 وفيها نقلت إلى بيروت فقامت عوضاً عنها مدرسة القديس يوسف الكلية. ومن مدرسة غزير خرج رجال أفاضل لا يحصى عددهم منهم بطاركة إجلاء وأساقفة مبجَّلون وكهنة غيورون ووجوه أُدباء وكتبة
    كانوا كلهم ولا يزال كثيرون منهم إلى يومنا سنداً لكل مشروع خيري ولكل مسعىً صالح ديني أو وطني.
    وكما أهتم المرسلون بفتح المدارس المذكورة لم يسهموا عن تربية الإناث فبمساعيهم قدمت راهبات مار يوسف سنة 1845 ثم راهبات المحبة سنة 1847 وأخذن يتفانين في تهذيب الفتيات في الشام وفلسطين. وبعد سنين قليلة أنشأ الأباء اليسوعيُّون سنة 1853 جمعية الراهبات المريمات ثمَّ جمعية قلب يسوع والفئتان حازتا رضى الأساقفة والأهلين وخدمتا الوطن أحسن خدمة بتهذيب البنات ثم اجتمعتا بأخوية واحدة عُرفت باسم راهبات قلبي يسوع ومريم يشهد لهنَّ الجميع في يومنا بالغيرة والصلاح وحسن التربية للإناث وخصوصاً في القرى المهملة. وقد احتفلن في العام الماضي بيوبيلهنَّ السبعيني (اطلب المشرق 21(1923):641). وكذلك انتشرت راهبات الناصرة في هذه البلاد في أواسط القرن السابق وتولَّين إدارة مدارس الإناث من كل طبقات الأهلين في بيروت وعكا وحيفا والناصرة وشفاعمرو فأحرزنَ لهنَّ ثقة الجمهور بفضلهنَّ.
    أما المدارس الوطنية فإنها تعززّت أيضاً في هذا الطور وزادت نموَّا لا سيما مدرسة عين ورقة التي اكسبها رئيساها الأولان المطران خير الله اسطفان والمطران يوسف رزق الجزيني رونقاً عظيماً مادياً وأدبياً. ومن أثمار هذه المدرسة حينئذٍ (سنة 1840) إنشاء جمعية مرسلين انجيليين انتسبوا إلى مار يوحنا الإنجيلي وخدموا النفوس بأعمال الرسالة نحو عشرين سنة ثم خلفتهم جمعية مرسلي الكريم التي لا تزال حتى يومنا تفلح كرم الرب
    بنشاط وغيرة.
    وكذلك تقدمت مدرستان أُخريان للطائفة المارونية كان سبق تأسيسها في أيَّام السيد البطريرك يوحنَّا الحلو نريد بهما مدرسة مار يوحنا مارون كفرحيّ ومدرسة مار مارون الرومية. فكان الساعي بإنشاء الأولى المطران جرمانوس ثابت في السنة 1811 خصها بتهذيب بعض أحداث بلاد جبيل والبترون وجبة بشراي ثم اتسعت بعد ذلك في أيام الطيب الذكر المطران يوسف فريفر الذي صرف المجهود في تحسينها وقد حذا حذوه رؤساؤها من بعده لا سيما المرحوم المنسنيسور بطرس ارسانيوس الذي اهتم كثيراُ بشؤونها ونجاحها.
    أما المدرسة الرومية فكان إنشاؤها بعد ذلك سنة 1817 وكانت هذه المدرسة ديراً فأمر البطريرك يوحنا الحلو بتحويلها إلى مدرسة وصادق على أمره آباء مجمع اللويزة في السنة التالية. ولعائلة بيت الصفير أوقاف وحقوق على مدرسة الرومية التي أخرجت عدداً وافراً من أفاضل الشبَّان المرشَّحين للكهنوت.
    ولمَّا قام السيد يوسف حبيش بطريركاً على الطائفة المارونيَّة وَّجه عنايته إلى فتح المدارس لأبناء رعاياه ففُتحت أولاً مدرسة مار يوحنا مارون في صربا 1827 وكان الساعي بذلك المطران يوحنا العضم. ثم فُتحت مدرسة أخرى في عرمون وكان هناك لبيت آصاف دير للراهبات إلى أسم مار عبدا هرهريا فحوَّلوه بعد أمر السيد البطريرك إلى مدرسة عموميَّة لتعليم شبان الطائفة المارونية العلوم الاكليريكية وصار لهذه المدرسة نجاحٌ عظيم خرج منها أولو فضل ممن تفتخر بهم ملتهم حتى اليوم كالسادة الإجلاء المطران يوسف النجم والمطران اسطفان عوّاد والمطران بولس عوّاد والمطران مسعد وكالخوارنة العالمين العاملين يوسف العلم وكيل مطران بيروت سابقاً ويوحنا رعد الغزيري الشاعر والخوري عبد الله العقيقي وغيرهم وقد اغتالت المنيَّة أكثرهم.
    وبعد ذلك بسنتين (1832) سعى البطريرك الموما إليه بتحويل دير مار سركيس سوباخوس في ريفون إلى مدرسة لأبناء الطائفة كمدرسة مار عبدا فلبَّى دعوته ولاة الدير من بيت مبارك بكل طيبة قلب وأفرغ رئيس الدير القس فرنسيس مبارك كنانة الجهد في تحقيق تلك الأماني فلم تذهب مساعيه أدراج الرياح كما ترى في تاريخ هذا الدير الذي سبق بتسطير أخباره حضرة الأب إبراهيم حرفوش في المشرق (8 (1905): 67 و347 و753).
    وفي هذا الوقت أيضاً كان المرسلون الأمير كان لا يألون جهداً في فتح المدارس أخصها في بيروت وأعبيه فنجحوا فيها بعض النجاح لولا أنهم ناقضوا فيها تعاليم الدين الكاثوليكي ليبثُّوا في قلوب الأحداث زوان التساهل الدينيّ.
    ولا نعرف للروم مدرسة ذات شأن في كل النصف الأوَّل من القرن التاسع عشر وكانت ناشئتهم غالباً تتردَّد على مدارس المرسلين الكاثوليك أو البروتستان الأميركان.
    وكانت الدروس العربية في كل هذه المدارس راقية فأن منها خرج معظم الذين اشتهروا بالكتابة في القرن المنصرم وخصوصاً بين النصارى كما نبين ذلك.
    أما المدارس خارجاً عن الشام فكانت في الغالب مقصورة على مبادئ القراءة والكتابة وأصول الحساب واللغة.
    بعض مشاهير المسلمين في هذا الطور الثاني نقدم عليهم الشيخ حسن بن محمد العطار كان أهله من المغرب فانتقلوا إلى مصر وولد في القاهرة سنة 1180ه (1766) وكان أبوه عطاراً استخدم ابنه أولاً في شؤونه ثم رأى منه رغبة في العلوم فساعده على تحصيلها فاجتهد الولد في إحراز المعارف وأخذ عن كبار مشايخ الأزهر كالشيخ الأمير والشيخ الصبان وغيرهما حتى نال منها قسماً كبيراً. وفي أيامه جاء الفرنسويون إلى مصر فاتصل بأناس منهم فأفادوه بعض الفنون الشائعة في بلادهم وأفادهم درس اللغة العربية. ثم ارتحل إلى الشام وأقام مدة في دمشق ومما نظمه حينئذٍ قوله في منتزهات دمشق:
    بوادي دمشق الشام جُزْ بي أخا البسط وعرّجْ على باب السلام ولا تُخطِ
    ولا تبكِ ما يُبكي أمرؤَ القيس حوملاً ولا منزلاً أودى بمنعرَج السقطِ
    فإنَّ على باب السلام من البها ملابسَ حسنٍ قد حُفظنَ من العطِّ
    هنالك تلقى ما يروقك منظراً ويُسْلي عن الأخدان والصُحْب والرهطِ
    عرائس أشجارٍ إذا الريح هزَّها تميلُ سكارى وهي تخطر في مرطٍ
    كساها الحيا أثواب خَطْر فدُثَرت بنور شعاع الشمس والزهر كالقُرطِ
    وتجول هذا الشيخ حسن في بلاد كثيرة يفيد ويستفيد حتى كر راجعاً إلى مصر فاقرٌ لهُ علماؤها بالسبق فتولَّى التدريس في الأزهر وقُلد هذه المدرسة بعد الشيخ محمّد العروسي سنة 1246 فقد برّها أحسن تدبير إلى سنة وفاته في 22 ذي القعدة سنة 1250ه (1835م). وكان محمّد على باشا خديوي مصر يجلُّهُ ويكرمهُ. وقد خلّف عدة تآليف في الأصول والنحو والبيان والمنطق والطب. ولهُ كتاب في الإنشاء والمراسلات تكرَّر طبعهُ في مصر. وكان هذا الشيخ عالماً بالفلكيّات لهُ في ذلك رسالة في كيفيَّة العمل بالإسطرلاب والرُّبْعَيْن المنقطر والمجيَّب والبسائط. وكان يُحسن عمل المَزاول الليلية والنهارية. وقد اشتهر أيضاً الشيخ العطّار بفنون الأدب والشعر. وممّا يروى عنه أنه لمّا عاد من سياحته في بلاد الشرق رافق إمام زمانهِ في العلوم الأدبية السيد إسماعيل بن سعد الشهير بالخشّاب فكانا يبيتان معاً وينادمان ويتجاذبان أطراف الكلام فيجولان في كل فنّ من الفنون الأدبية والتواريخ والمحاضرات واستمرت صحبتهما وتزايدت على طول الأيام مودّتهما إلى أن توفي الخشاب فاشتغل العطار بالتأليف إلى موته. ولهُ شعر رائق جُمع في ديوانه فمن ذلك ما رواه له الجبرتي (233:4) في تاريخه يرثي الشيخ محمّد الدسوقيّ المتوفى سنة 1230ه (1815م).
    أحاديث دهرِ قد ألمَّ فأوجعا وحلَّ بنادي جمعنا فتصدّعا
    فقد صال فينا البينُ أعظم صولة فلم يُخلِ من وقع المصيبة موضعا
    وجاءت خطوبُ الدهر تَثرْى فكلّما مضى حادث يُعْقِبْهُ آخرُ مسرعا
    وهي طويلة قال في ختامها:
    سعى في اكتساب الحمد طولَ حياتهِ ولم ترهُ في غير ذلك قد سعى
    ولم تُلْههِ الدنيا بزخرفِ صورةٍ عن العلم كيما أن تَغُرَّ وتَخْدعا
    لقد صرف الأوقات في العلم والتقى فما أن لها يا صاحِ أمس مضيّعا
    فقدناهُ لكن نفعُهُ الدهرَ دائمٌ وما مات من أبقى علوماً لمن وعى
    فجوزيَ بالحُسْنى وتُوج بالرضا وقوبل بالإكرام ممّن لهُ دعا
    وممن مدحوا الشيخ حسن العطار المعلم بطرس كرامة اللبناني فقال فيهِ لما قابلهُ في مصر:
    قد كنتُ أسمعُ عنكم كل نادرةٍ حتّى رأيتك يا سؤلي ويا أربي
    واللهِ ما سمعتْ أذني بما نظرت لديك عيناي من فضلٍ ومن أدب
    وقام بعد الحسن العطّار في رتبتهِ البرهان. القويسني فقد تقلّد مشيخة الأزهر أربع سنوات وتوفي سنة 1254ه (1838م) وكان مكفوف البصر عالماً لهُ تأليف فقهية قال فيه أحد شعراء زمانه يوم ولي رئاسة الأزهر معترفاً بسلفهِ:
    ولئن مضى حسَنُ العلوم أربهِ فلقد أتى حسنٌ وأحسنُ من حسنْ
    أنت المقدّم رتبة ورئاسةً وديانةً من ذا الذي ساواك منْ
    واشتهر بالآداب أحد تلامذة الشيخ حسن العطّار وهو الشيخ حسن قويدر. وله بمصر سنة 1204 (1789م) وكان أصل أجداده من المغرب ثم انتقلوا إلى مدينة الخليل وتناسلوا بها ثمّ انتقل قويدر والد المترجم إلى القاهرة وفيها ولد أبنهُ الحسن. فملا نشأ أخذ عن شيوخ زمانهِ وخصوصاً عن الشيخ حسن العطّار. ولم يزل يتقدّم في العلوم حتى نال فيها شهرة عظيمة وكان مع ذلك يشتغل بالتجارة ويعامل أهل الشام ومن تآليفه شرحهُ المطوّل
    على منظومة أستاذهِ حسن العطّار في النحو وكان قرّظها بقولهُ:
    منظومة الفاضل العطَّار قد عقبتْ منها القلوبُ برَياً نكهة عطرهْ
    أو لم تكن روضةً في النحو يانعةً لما جنى الفكر منها هذه الثمرةْ
    في ظلمة الجهل لو أبدت محاسنها والليلُ داجٍ أرانا وجهها قمرهْ
    قالوا جواهر لُفظِ قلت لا عجبٌ بحر البلاغة قد أدى لنا دُرره
    ومن تآليفه أيضاً كتاب إنشاء ومراسلات ورسائل أدبية. ومنها كتاب نيل الأرب في مثلثات العرب وهي مزدوجات ضمّنها الألفاظ المثلثة الحركات المختلفة المعاني كمثلثات قطرب.
    وهذا التأليف طبع في مصر وقد نقله إلى الإيطالية المستشرق الأديب المرحوم أريك فيتو قنصل إيطالية في بيروت سابقاً وطبعه في المطبعة الأدبية.
    وممّا يروى من شعره قولهُ:
    يا طالب النصح خذ مني محبَّرة تلقى إليها على الرغم المقاليدُ
    عروسةٌ من بنات الفكر قد كُسبت ملاحةً وأما في الخدّ توريدُ
    كأنها وهي بالأمثال ناطقةٌ طيرٌ لهُ في حميم القلب تغريدُ
    احفظ لسانك من لَغْطٍ ومن غلطٍ كل البلاد بهذا العضو مرصودُ
    وأحذر من الناس لا تركن إلى أحدٍ فالخلّ في مثل هذا العصر مفقودُ
    بواطن الناس في هذا الدهر قد فسدت فالشر طبع أمم والخير تقليدُ
    توفي الشيخ حسن قويدر سنة 1262ه (1846م) وقيل أنهُ في مرضه الأخير وضع تاريخ وفاته بهذه العبارة (رحمه الله علي حسن قويدر) مجموع حروفها سنة وفاته.
    أما بلا الشام فاشتهر من علمائها الشيخ محمد أمين بن عمر بن عبد العزيز كان مولده بدمشق سنة 1198 وفيها توفي سنة 1252 (1783 - 1736) برز بين أدباء وطنه وأخذ عنه علماء الشام وقد صنف في الفقه والتصوف نحو خمسين كتاباً.
    وأشهر منه في الشعر الشيخ أمين بن خالد آغا ابن عبد الرزاق آغا الجندي ولد في حمص من أسرة شريفة سنة 1180 (1766) ونشأ بها في طلب العلوم ثم رحل إلى دمشق فامتاز بين أقرانه وشهد له الشيخ عمر اليافي بالتقدم في الشعر. وقد نظم القصائد المفيدة والقدود الفريدة وتفنن خصوصاً في الموشحات والمواليات والأناشيد الموقعة على آلات الطرب وقد غلبت عليه الغزليات. وكان سيال القلم طيب القريحة لم يمض عليه يوماً خالياً من نظم أو نثر يحرر في يوم ما يعجز عنه غيره فيشهر. وكان أهل زمانه يتزاحمون على مسامرته ويتنافسون على مواصلته ويتغنون بأقواله. وكانت وفاته في حمص سنة 1257ه (1841م) ودفن قريباً من الجامع الخالدي. وله ديوان طبع قسماً منه بالمطبعة السليمية الأديب سليم المدور سنة 1870 ثم طبعه سنة 1883 أصحاب المكتبة العمومية وأضافوا إليه قسماً آخر لم ينشر بالطبع. ومنذ عهد قريب تولى نشر ديوان الجندي بتمامه الأديب محمد أفندي كمال بكداش في مطبعة المعارف وهذه الطبعة لا تقل عن 450 صفحة ولشهرة هذا الديوان نكتف بذكر بعض. مقاطيع قليلة منه تدل على أساليب ناظمه فمن ذلك قوله من الرجز يصف فيه الربيع في ربوة دمشق:
    يا حبَّذا الربوةُ من دمشقِ بالفضل حازت قصَبات السبقِ
    كم أطلعتَ بها يدُ الربيعِ من كل معنىً زائد بديعِ
    وفتح الوردُ الكفوفَ إذ دعا داعي الصباح للهنا ورَجَّعا
    وفكّكت أنامل النسيمِ أزرارَ زهر الرَّند والشميمِ
    وسقطت خواتم الأزهارِ من فَنن الأغصان كالدراري
    وانتفَّ سيفُ البرق في أوراقِ مذ شام خيل الريح في سباقِ
    ما بكت السماءُ بالغمامِ إلا وصار الزهرُ في ابتسامِ
    ومن محاسن شعره قوله ومخمساً لأبيات عرضها عليه عبد الله بك العظم في خصام النرجس والورد:
    قال لي النرجس حرّْض لقتال الورد وادحض
    قلتُ هذا قول مبغضْ أيها النرجسُ اعرضْ
    لن تنال الأفضلَّيةْ
    عُد إلى الجقّ سريعاً ولقولي كن سميعاً
    وأنتِ للورد مطيعاً وسل الزهر جميعاً
    عن معانيك الرديئة
    قد جهلتَ الأمر قدما وادَعيت الحسن ظلما
    فيمن أولاك حلما لا تكن للورد خصما
    فهو مرفوعُ المزبَّهْ
    كنت قبل العجب آمنْ وبظلّ الروض كامنْ
    فإذا حرَّكتَ ساكنْ أنت ربُّ السيف لكنْ
    شوكة الورد قويَّة
    ومن قوله في هجوم قوم:
    وقومٍ غضَّ طرفُ الدهر عنهم فآذوا كلَّ ذي عرض وعادوا
    وفي ظُلُمات ظلم حق ساروا فسادوا عندما ظهر الفسادُ
    وإن قالوا سنرجع حيث كنَّا مخافةَ أن تذمَّهم العبادُ
    وإن طلبوا رجوعهم عناداً فما صدقوا ولو رُدُّوا لعادوا
    ومن مديحه قوله في وزير من قصيدة طويلة:
    رفيع مقامِ شامخ العز ضيغمٌ غياث مغيث من ظَلوم إذا اعتدى
    يلوذ بهِ الجاني فيبلغُ مأمناً ولو كان أهل الخافقين لهُ عِدى
    ومن أمَّهُ من فاقةٍ عاد مثرياً وبرجع بعد الذل والفقر مسعدا
    إذا الدهر يوماً جارَ في حكمهِ بنا على الدهر أرسلناهُ سهماً مسدّدا
    فتىً جمع الدنيا مع الدين والحجى مع الحزم والراي السديد مع الهدى
    فأضحى لأرباب الحوائج كعبةً وكهفاً لمن يأوي إليهِ وموردا
    لعمرُك هذا المجدُ والحسب الذي سما فوق أركان المجرَّة مُصعدا
    سنغدو لنا للعزّ داراً وللورى بحضرتهِ باب المراد ومقصدا
    ويبقى لسان الحال فيهِ مؤرخاً لك الحمد يا ذا الجود ولا زال سرمدا
    (1262)
    وقال سنة 1256 مؤرخاً وفاة والسيد نجل الكيلاني:
    في جنّة الفردوس حلَّ كأنهُ بدرٌ ولكن نورهُ لا يُحْجَبُ
    قد صاد كل المكرمات وكيف لا يصطادها وأبوهُ باز أشهبُ
    بوفاتهِ. التاريخ أنبأ قائلاً هذا النجيب وليس منه أنجبُ
    (1256)
    وقد اشتهر في هذا الطور الثاني غير الذين ذكرناهم من أدباء المسلمين لا سيما في العراق وحلب إلا إن أخبارهم قليلة متضعضعة ولعل بعض القراء يرشدونا إليها فيحيوا ذكر أولئك الأفاضل الذين درست آثارهم مع قرب عهدنا منّا.
    مشاهير النصارى في هذا الطور
    أما أدباء النصارى الذين عرفوا في تلك المدة بخدمة الآداب العربية فها نحن نذكر من اتصلت به معرفتنا القاصرة مع الرجاء بأن يزيدنا أهل الفضل فيهم علّما ويسدوا ما يجدون من الخلل.
    استحق الذكر بآدابه وشعره في الطور الذي نحن في صدده نصر الله الطربلسي وهو ابن فتح الله بن بسارة الطرابلسي ولد في حلب سنة 1770 وكان من أسرة كريمة من طائفة الروم الكاثوليك. ولما انتقل أبوه إلى طرابلس عرف بالطرابلسي وكان عريقاً في الدين تحمل في سبيل إيمانه محناً عديدة فنشأ ابنه على مثاله تقياً ورعاً وكان مع ذلك متوقد الذهن محباً للعلوم ودرس اللغات فتعلم منها التركية والفرنسوية وكان مبرزاً في الآداب العربية مطلعاً على فنونها يحسن فيها الكتابة وينظم الشعر الحسن. وقد أبقى من نظمه مآثر عديدة أكثرها متفرق لو جمعت حصل منها ديوان كامل. وسكن نصر الله الشهباء زمناً طويلاً ومدح وجوه أهلها مسلمين ونصارى لا سيما نقيبها محمد الجابري وقد أثبت المشرق (3(1900):400) قصيدته فيه ومدح كذلك الشيخ هاشم أفندي الكلاسي فقال يخاطبه:
    لما سمعتُ مسلسَلاً عن سادة إن الفصاحة كلها في هاشمِ
    يمَّمتُ ناديهُ وألقيت العصا ورجوتُ يقبلني ولو كالخادمِ
    إن جاد لي بالارتضاء فبفضلهِ أو لم يُجدْ فلسوء حظ الناظمِ
    فأجابه الشيخ جواباً لطيفاً فكتب إليه:
    نسيمُ لطفك صابني بألوكةٍ صيبَ المحبّ إلى محبّ قادمِ
    فبمثله أهلاً وسهلاً مرحباً بمسامرٍ ومنادمٍ لا خادمٍ
    وكذلك كان الطرابلسي يتردد على عبد الله الدلاّل ويجتمع عنده بأدباء زمانه وقد في أحدهم فتح الله المراش يشكر له جميل أياديه ويهنئه بعقد زواجه سنة 1821 هذا مطلعها:
    يا للهوى ما للعَذُول وما لي أنا قد رضيتُ بكافةِ الأحوالِ
    ومنها في المدح:
    الندبا عبد الله فخر أوانهِ نسل الأماجد من بني الدلاَلِ
    فهو الذي يشري الثناءَ بمالهِ ويزّين الأقوال بالأفعال
    وهو الذي لم يخلُ قطُّ زمانهُ من غوث ملهوف وبذلِ نوالِ
    وختمها بهذا التاريخ:
    وأسلم بتاريخي ودمتَ بمّنهِ متمتعاً باللطف والإقبالِ
    وممن مدحهم في حلب القنصل الفرنسوي يوسف لويس روسو وكان محباً للآداب الشرقية (أطلب المشرق 398:3 و400) وبإيعازه نظم الطرابلسي تهنئة لنابوليون الأول بمواد نجله الذي دعاه ملك رومية سنة 1811 فقال في قصيدته التي أولها (المشرق 399:3)
    ورد البشيرُ فسرَّتِ الأقطارُ وترنَّمت في دوحها الأطيارُ
    ومن حسن نظمه أبياته في شهداء الكثلكة في حلب سنة 1818 (المشرق 402:3 و664:10) فقال:
    دعِ العين مني تذرف الدمع عَنْدما فحقٌ لهذا الخطب أن تَسكُب الدما
    وفيها أبيات صادرة عن قلب طافح حباً متفطر حزناً. وفي السنة 1828 تحامل على الطرابلسي أعداؤه فأحب الخروج من وطنه ورحل إلى مصر فلقي الحظوى عند بني البحري من أعيان طائفته وكانوا متقدمين في الدواوين فخدمهم وتقرب بواسطتهم في المناصب وقد مرت لنا أقواله فيهم (المشرق 403:3 - 405) وتوصل بهم إلى محمد على باشا خديوي مصر فمدحه ونال من إحسانه. وكانت وفاة الطرابلسي نحو السنة 1840 وشعره منسجم بليغ المعاني كثير التفنن أوردنا منه ما أوقفنا عليه بعض أدباء الشهباء في أغراض شتى (المشرق 406:3 - 408) ومما وجدنا له بعد ذلك مراسلات شعر ونثر دارت بينه وبين شاعر عصره بطرس كرامة فقال هذا في مدحه:
    نشأت بنصر الله روحُ صبابةٍ وأبى الفؤَادُ لغيرها أن يذكرا
    فرعٌ لفتح الله أينع مخصباً بحديقة الآداب شبَّ وأثمرا
    فإليك يُعزى الفضل يا من لاح لي منهُ الودادُ ولن يراني مبصرا
    قرباً لدار كنتَ فيها وحبَّذا م الشهباءُ نصر الله فيها قد سرى
    فأجابه نصر الله الطرابلسي من قصيدة ذكر فيها طرابلس بلده وكان بطرس كرامة حينئذٍ ساكناً فيها:
    فسقى طرابُلُس السحابُ وليُّهُ سحاً وتهتاناً يُرى متفجَرا
    بلدٌ كأنّ الدهرَ عاندني بها فاستاقَ أهلي قبل أن أطأ الثرى
    لو فاخرت كلَّ البلاد بأنَّ في ها بطرساً لكفى بذلك مفخرا
    الأوحد الندب الفريد الأمجد السنَّدُ س المجيد الألمعي الأنورا
    إلى أن ختمها بقوله:
    واسلم ودم بمهابةٍ وكرامةٍ يا مورداً لم أرضَ عنهُ مصدرا
    ما سارت الركبان تقطع فدفدّا من عاشق ولهانَ تهدي الأسطرا
    وله أيضاً من قصيدة أخرى في مدحه وذكر بعض رسائله:
    شرَّفتنا بكتاب منك قد بزغتْ أنوارهُ فهدينا واقتبسناها
    رسالة أرسلت للقلب تحفظهُ فما لهُ ضاع مني عند مسراها
    فيا لها درراً من يمّكم قذفت سفن العلوم فبلسم الله مجراها
    وصرت ألثمها شوقاً وأنشدها توقاً لمن ببديع النظم وشآها
    إن أسعد الله عيني ساعةً ورأت محياكُم وجلت بالنور مرآها
    غفرت الدهر ما أبداهُ من نكدٍ ونلت من واردات العمر أهناها
    وكتب له أيضاً:
    لقد حكم الزمان عليَّ حتى أراني في هواك كما تراني
    وإن بُعدت ديارك عن دياري فشخصك ليس يبرح عن عيناي
    لقد أمكنتُ حبك من فؤادي مكاناً ليس يعرفهُ جناني
    كانت قد ختمت على ضميري فغيرك لا يمرُّ على لساني
    ونلحق هنا بذكر نصر الطرابلسي صديقه بطرس كرامة الذي لعب في ترقي الآداب العربية دوراً مهماً قبل أواسط القرن التاسع عشر. وهو بطرس بن إبراهيم كرامة الحمصي من أعيان حمص وكان أهله من الروم الملكيين يدينون بالدين الكاثوليكي وهو متحمسون فيه.
    وكان عمه ارميا كرامة من الرهبان الشويريين ثم انتقل إلى الرهبنة المخلصية. وفي سنة 1763 سقف على قلاية دمشق فعرف بمطران دمشق وقاسى محناً عديدة من قبل المنفصلين إلى أن توفى سنة 1795 في دير المخلص. وكان عالماً غيوراً على إيمانه وله مصنفات دينية. أما بطرس كرامة ابن أخيه فولد في حمص سنة 1774 وفيها نشأ وتأدب وله في مديح أعيانها أقوال حسنة كقوله في الشيخ عبد الرحمن الكزبري:
    يا حبَّذا حمصُ التي ضاءَت بأعظم نيّر
    قد أشرق البدرُ بها وبشمس فضل الكزبري
    وقال مرتجلاً في الشيخ أمين الجندي الذي مر لنا ذكره:
    لله نعمَ مهذب باهت بهِ حمص ونور الفضل عنهُ يبينُ
    لا غرو إذا فاق البديعَ أنهُ شهمٌ على درر البديع أمينُ
    ثم قويت شوكة أعداء الملكيين فألحقوا بالكاثوليك ضروب الأذى فاضطر بطرس أن يهجر حمص مع والده متوجهين إلى عكار. وقصد بطرس علي باشا الأسعد حاكم تلك البلاد وامتدحه بالقصائد الحسنة فأجازه ورغب فيه لبراعته ودرايته وحسن أدبه وخطه فاستخدمه في ديوانه ورفع منزلته ورتب له ما يقوم. بكفايته فأقام في خدمته نحو خمس سنوات ثم ذهب إلى لبنان واستوطن الجبل. وأتصل بطرس بنقولا الترك شاعر الأمير بشير فقربه من مولاه سنة 1813 وحظي بطرس عند الأمير الشهابي لما رآه فيه من العلم وجودة للعقل وفصاحة اللسان مع معرفته للغة التركية فعهد إليه بتهذيب ولده الأمير أمين واتخذه كاتباً للأمور الأجنبية لجودة إنشائه. ثم جعله الأمير بشير معتمداً من قبله في التوجه إلى عكا فقام بأوامر سيده أحسن قيام وحصل عنده مالاً كثيراً وجاها وافراً وكان الأمير يحبه ويثق به في جميع أعماله ويعتمد عليه في مهمات أشغاله ولا ينتهي أمراً إلا برأيه. ثم سلمه الأمير تنظيم خزينة الحكومة فوضع لها قوانين استحسنها الشهابي وأمر بإجرائها ثم رفع منزلته وعمله كتخداه فصارت أمور لبنان كلها في يده يدبرها أحسن تدبير. فوقعت هيبته في القلوب وعظمت حرمته وانتشرت شهرته وعلت كلمته وابتنى داراً كبير في دير القمر واقتنى أملاكاً واسعة وكان قد سافر بمعية الأمير بشير إلى الديار المصرية واجتمع بفضلائها وعلمائها وله معهم مفاوضات ومباحثات يطول شرحها. ثم رجع إلى بيت الدين وبقي في خدمة الأمير إلى أن خرج الأمير بشير من بلاد سورية سنة 1840 فسافر معه إلى مالطة ثم
    إلى الآستانة العلية ونال من الالتفات وعلو المقام لدى رجال الدولة ما لم يزل مشهوراً. ثم عين ترجماناً للمابين الهمايوني فأظهر من البراعة ما أكسبه ثقة الجميع. وبقي في تميم أعباء وظيفته إلى سنة وفاته في الآستانة العلية (1851) وله مع أكابر رجالها مساجلات لطيفة وكان بليغ الكلام. وقد أرخ وفاته الشيخ ناصيف اليازجي فقال:
    مضى من كان أذكى من أيلس بحكمتهِ وأشهر من زُهَيرِ
    فقل يا ابن الكرامة قرَّ عيناً لبطرس أرّخوهُ ختام خير
    ولبطرس كرامة مكاتبات ورسائل غير مطبوعة. وله ديوان شعر كبير طبعه الأديب سليم بك ناصيف سنة 1898 في المطبعة الأدبية وقد وجدنا لهذا الشاعر آثار أخرى في بيت حفيده الفاضل. منها مساجلاته مع أدباء الآستانة ومنظوماته في العاصمة وبعضها لم يطبع في ديوانه. وشعر بطرس كرامة أضبط وأطبع من شعر آل عصره تراه يتصرف في المعاني
    ويخرجها على أبدع طريقة فمن قوله في الوصف ذكره لباقة زهر أهداه إياها الأمير بشير:
    وباقةٍ زهر من ميلك منُحنها معطَّرة الأرواح مثل ثنائهِ
    فأبيضُها يحكي جميع خصالهِ وأصفرها يحكي نضار عطائهِ
    وأزرقها عين تشاهد فضلهُ وأحمرها يحكي دماء عدائهِ
    وله تخميس وتشطير على هذه الأبيات. ومما لن نجده في ديوانه قصيدة قالها مستغفراً غما فرط منه ومناقشاً أهل المادة في آرائهم الفاسدة وسماها (درَّة القريض وشفاء المريض) أولها:
    نأي الوجد عن قلبي وأعيت بلابلُهْ وبانت لُبانات الهوى وبلابلُهْ
    وهي طويلة تختار منها أحسن أبياتها:
    ألا أنْدب زماناً قد صرفت بكورهُ خلالاً وقد مرَّت سفاهاً أصائلُهْ
    فكم خضت بحر المعصيات مُفاخراً وقصَّرت رجلاً عن ثواب تقابلهْ
    فيا من وعدت التائبين برحمةٍ وعفوٍ وإن ذنبٌ تطاول طائلهْ
    ألا أغفر لعبد أثخنهُ مآثم ومن جملة الأوزار قد كلَّ كاهلهْ
    فإن كان ذنبي قد تعاظم جرمهُ فعفوك بحرٌ ليس يُدرَكُ ساحلهْ
    ومنها في الرد على أهل الكفر:
    فيا ويح قوم قد عصوك واركنوا إلى الكفر فانصَّبت عليهم غوائلهْ
    فإن أثبتوا فعل الطباعِ ببعضها فمبدأ هذا الفعل من هو فاعلهْ
    ويلزمُ من هذا دوامُ تسلسل وهذا محال لا تصحُّ مسائلهْ
    فَمن سيَّر الأقمار في درجاتها على دوران لا تخلُّ منازلهْ
    فإن كان جذباً مثلما قدَّروا فمن ترى أوجد الجذب الذي هو كافلهْ
    فيا ملحداً أمسى على الله منكراً فإنَّ وجود الله صحت دلائلهْ
    فمن أبدعِ الكون البديعَ نظامُهُ ومن ذا على ترتيبه الدهر شاملهْ
    فإن قلتَ إن الكائنات تمدُها فقد لزم الدورُ الذي شاع باطُلهْ
    فويلك من إنشاء العناصر أولاً وصيّرها في مركز لا يزايلُهْ
    وإن قلت أجزاء قديمٌ وجودها تحرّكها بالطبع كانت تعاملهْ
    فوافقَ وقتاً إنها قد تألقت على هيأة منها نشا الكون كاملهْ
    فما هذه الأجزاءُ هل بإرادةٍ تحركها أم جاءَ بالقسر عاملهْ
    فإن كان قسراً فهي تحتاج موجوداً يقيم بها فعلاً سرياً تفاعلهْ
    وإن كان عن قصد أتى فهي ربكم تقاسمهُ عالي الوجود وسافلهْ
    فما قلتموه باطلٌ وكلامكم محالٌ ومهزولُ النتيجة حاصلهْ
    فيا واحداً يا قادراً يا مهيناً تنزَّه عن ضدٍّ وندٍّ يماثلهْ
    فهبني عفواً من لدنك ومنَّة وحسنَ ختام ارتجيهِ وآملهْ
    وله تاريخ لوفاة الأمير بشير حفر على ضريحه في كنيسة الأرمن الكاثوليك أثبتناه في المشرق: (7 (1904): 1762). ومما روينا أيضاً لبطرس كرامة في مجلتنا (2 (1899): (1116 - 1117). مناظرة فكاهية بين نار جلية وماسورة: ومن مديحه الذي لم يذكر في الديوان قوله يثني على البطريرك الجليل مكسيموس مظلوم:
    قُمْ للهناء فنسمةُ السَّحَر جاءت برَيًّا عاطر الزَهَرِ
    واغَنم العيش المني مطرباً عين السرور المشرق الأثرِ
    وأرشف كؤوس الصفو من زمنٍ راقت مشاربهُ من الكَدَر
    ودَع النسيبَ وكن على عزلٍ بمديح بدر السادة الغُررِ
    مكسيموس الحبر المقدس من أضحى طَهُور القول والفكر
    البطريرك المرتقي شرفاً بفضائلٍ يشرقنَ كالقمر
    باتت على أمْنٍ زعيتهُ ولطالما باتت على حذرٍ
    هو غوث ذي فقر وذي نعمٍ بذلاً ورشداً غير منحصرٍ
    بشرى لنا آل الكنيسة قد نلنا بهِ مجداً على وزرِ
    يا بدرَ علمٍ ضاءَ مشتهراً شرقاً وغرباً أي مشتهرِ
    أوضحت من نهج الهدى غُرَرا الناس كانت قبل في غَرَرِ
    ورفعت شعباً كان منخفضاً ما بين ناب الليثِ والظُّفُرِ
    فاسلَمْ لنا مولى وخير أبٍ يرعى البنين بصادقٍ النظرِ
    ومما جاء في التهاني قوله في الأمير عبد الله الشهابي حفيد الأمير بشير سنة 1835 (لم تذكر في ديوانه):
    يا سيّد العدل والإحسان زد شرفاً قد زادك اللهُ إنعاماً وتأييدا
    لك الهنا بحفيد كان مولدهُ السعد عزًّا والعلياء توليدا
    فلا يزال هو الصمود سؤددهُ مدى الزمان سعيد الدهر مسعودا
    ولا تزال لك الأيام ضاحكةً والعيش رغداً وطيب العمر ممدودا
    وقال في فضائل الصيد (وليست هي في ديوانه):
    للسيد فضلُ في ثمان فوائدٍ من بعدها عشرٌ تزيد تشيد أساسَهْ
    ساران همّ ثم تركُ بطالةً وفصاحة التعبير ثمَّ سياسَهْ
    ونزاهة ولذاذةٌ ونشاطةٌ ويقاظةٌ ونباهةٌ وحماسَة
    ورياضةُ الأجسام ثم طلاقة م الأبصار حلاوةٌ وفراسَة
    وصيانةٌ ثم اكتساب معيشةٍ والعلم بالطرقاتِ ثم رئاسة
    ومما لم نجده أيضاً في ديوانه قوله في صفر كان قد فقد ثم رجع:
    تلألأ البشرُ وانجلتِ الغياهبْ وحلّ الأنس في من كان غائبِ
    وردَّ الله ضائعنا علينا وأولانا بذا نِعَمَ المواهبْ
    وجاءَ الصقَرُ المفقود منا يرفرف بالغنائم والمكاسبْ
    فكم طينا بعودتهِ قلوباً وبتناً في الحديث لهُ نعاتبْ
    وأنشدناهُ ما لك غبتَ عنَّا لعلك كنت أنت منا هاربْ
    فردَّ مجاوباً رداً جميلاً معاذ الله لي من ذي الشوائبْ
    وحاشا أن أخون العهد يوماً ولي مولى جليل القدر صاحبْ
    ولكن قد شعرت بنعمَ صقرٌ أعزُّ الآل مني والأقاربْ
    أتى ضيفاً جديداً في حمانا نزيلاً والنزيل قراهُ واجبْ
    فسرت لملتقاه وجئت معه أميناً مطمئن القلب طئب
    لكني قد قضيتُ بذا هموماً وكم قاسيتُ فيه من متاعبْ
    وكم شاهدتُ أهوالاً ثقالاً وأحوالاً رأيتُ بها العجائبْ
    وكم كابدتُ في سفري عناءً وكم فيه دهتني من مصائبْ
    وكم لي وقعةُ مع كل حرٍ وكم لاقيت شاهيناً محاربْ
    وكم صادفت فيه من عُقابٍ شديد البأس قناصٍ معاقبْ
    وكم من كاسر من كل طيرٍ تعمَّدني وجاءَ عليَّ واثبْ
    هناكَ أبنت بطشي واقتداري وأبديتُ العجائب والغرائب
    وجرَّدتُ الأظافرَ من اكفٍّ مظفَّرةٍ وانشبتُ المخالب
    وبتُّ بكل ذي جنحينِ أسطو وأقهر كلَّ خطَّافٍ مضاربْ
    فكم شقَّتُّ منهم في الفيافي وكم بدَّدت منهم في السباسبْ
    وكم غادرتهم في الجوْ فوضى وكم أفنيتُ منهم في الشعائبْ
    ولم أنفكُّ أسقيهم كؤوساً أجرّعهم بها مرَّ المشاربْ
    ولم أترك بهم إلا فراخاً يتامى في العشوش غدتْ نوادب
    فمثلي من يخوض وغي المايا ويغزو هكذا ويعودُ غالبْ
    أنا المجلوبُ من كرمٍ ولكن بعون الله الأحرار جالبْ
    فهنَّوا سيدي بي في مقال يؤرَّخ جاءَ بعد العزّ كاسب
    وقال لما دخل الآستانة العلية مع الأمير بشير يمدح دار السعادة:
    منذ جئتُ إسلَمْبولَ شِمتُ محاسناً دعت المحاسنَ كلَّهنَّ إلى الورا
    فملوكها شرفُ الملوك ورَبْعها خير الربوع وأهلها نعم الورى
    ولولا خوف الإطالة لروينا غير هذا من قصائده التي تطبع في ديوانه. فاكتفينا بما سبق.
    ويحسن بنا القول في ختام كلامنا عن بطرس كرامة إن أدباء عصره عرفوا فضله وأقروا به إلا البعض منهم. ولما قال قصيدته الخالية الشهيرة التي التزم أن تكون قافيتها في جميع أبياتها لفظة (الخال) في معانيها المختلفة وأولها:
    أمن خدّها الورديّ أفْتَنَكَ الخالُ فسحَّ من الأجفان مدمعك الخالُ
    أعجب بها كثيرون وأثنوا على قائلها. وعارضها الشيخ عبد الباقي العمري الموصلي بقصيدة كتبها في بغداد يمدح فيها داود باشا هذا مطلعها:
    إلى الروم أصبو كلَّما أومض الخالُ فأسكبُ دمعاً دون تسكابهِ الخالُ
    وغيرهم خمَّسوها كالشيخ إبراهيم يحيى العاملي والشيخ بن شريف المشهدي وتخميسها في ديوان كرامة (ص 351 - 360). لكن الشيخ صالح التميمي لم يستحسنها وكتب في تزييفها قصيدته التي أولها:
    عهدناك تعفو عن مسيءٍ تعذّراً ألا فاعْفُنا عن ردّ شعر تنصرا
    فاستاء من ذلك الأدباء وكتب الشيخ رشيد الدحداح في قمطرة الطوامير انتقاداً مطولاً على صاحبها. وأجاب عليها بطرس كرامة بقصيدة من البحر والروي أولها:
    لكن امرئ شأنٌ تبارك من رأى وخصَّ بما قد شاء كلاً من الورى
    وقد وقفنا على قصيدة للسيد عبد الجليل البصري حكم فيها بين الشاعرين فقال قصيدته التي افتتحها بقوله:
    حكمتُ وحكمي الحقُّ ناءٍ عن المرا بأنَّ التميمي الأديب تعثَّرا
    بذمّ قوافٍ في تمامِ جناسها وذلك نوعٌ في البديع تقرَّرا
    ومنها في مدح بعض شعراء العرب:
    وقد قام من أهل الكنابين زمرةٌ جنوا من رياض الشعر ما كان مزهرا
    فمن كان عبّادٍ يجاري مهلهلاً وكان مسيحياً تقدم يشكرا
    وكالأخطل المعرف شاعر تغلبٍ يسوق بهِ القسّيس في الدير كالفرا
    ومنها في مدح بطرس كرامة:
    كما شاع حُرً الشعر في بيت بطرسٍ وفي نجلهِ بين المدارين والقرى
    فصيحٌ رقى أوج البلاغة يافعاً فأشارهُ حلى بها رَبْع قيصرا
    لأفكارهِ غرُّ القوافي قريبةٌ وعن غيره بُعد الثريا من الثرى
    أتى منهُ نظمٌ هدَّ حجة صالحٍ وإن كان في المنظوم قدماً تصدَّرا
    وقد كان لي من صالح خيرُ صحبةٍ وعند أتباع الحقّ ما زلت اجدرا
    لكلٍّ تراني قد قضيت بحقهِ وأسألُ بارينا الهدى والتبصُّرا
    وقد مدح صاحب الترجمة قوم من أدباء زمانه كنصر الله الطرابلسي الذي سبق شيء من قوله. وكنقولا الترك وفي ديوانه عدة قصائد يطرأ فيها محامد بطرس كرامة فيجيبه هذا بأقوال مستطرقة تجدها في مجموع نظمه (ص 109 - 128).
    وممن مدحه أيضاً عبد الحميد البغدادي الشهير بابن الصباغ فكتب إليه رسالة أولها:
    تبسم الزهر عن أنفاسكم فسَرى من طيب ذكركمُ فنشر فأحيانا
    فمن هناك عشقناكم ولم نرَكم والأذن تعشق قبل أحيانا
    فأجابه بطرس كرامة بكتاب افتتحه بقوله:
    عشقتكمْ من قول لقياكُمُ وكلُّ معشوق بما يوصفُ
    كالشمس لا تدركها مقلةٌ لكنها من نورها تعرفُ
    وكذلك مدحه رزق الله حسون الحلبي وسنذكر قوله في ترجمته. وأشهر منه الشيخ ناصيف اليازجي فإن ديوانه الذي طبع لأول مرة في بيروت مصدّر بقصيدة في مدح كرامة يقول فيها:
    رجلٌ وماذا وصفهُ وكفى به رجلٌ له المفهومُ والمنطوقُ
    حسنُ المعاني والبيان كلامهُ جزلٌ ومعناهُ الرقيق دقيقُ
    ومنها:
    يا بطرسُ الشهمُ الكريم مكانهُ وبنانهُ ولسانهُ المنطيقُ
    أنت الكرامةُ وأبها وأبُ لها نسبٌ كريمُ في الكرام عريقُ
    وله أيضاً يعزيه بولديه وهو رثاء بليغ أوله:
    أجملَ الله في فؤادك صبرا وجزى منهُ وأعظم أجرا
    ومنها:
    لو يُفيد البكاء والنوحُ شيئاً لأقامت خنساءُ قبلكَ صَخْراً
    يطمع المرءُ في الحياة طويلاً وهو في الموت أو عن الموت فْترا
    وحياة الدنيا تسمى حياةُ مثلما تُحْسبُ المعرَّةْ شهرا
    هكذا الناس طائرُ إثر كلبٍ كلْ عينٍ بدمعة البين شكوى
    يا طريق البقا إذا كنت خيراً فلك الفضلْ كلما زدت قصْرا
    وحياة الدنيا طريق الأخر ى فخذ زادها الذي هو أمرى
    وممن اشتهروا في هذا الطور الثاني أديب عاجلته المنية فقصفت غصن حياته النضير وهو أحد نصارى صيداء جرجس بن يوسف بن الياس آبيلا الذي رويناه شيئاً من شعره تفي المشرق (6 (1903): 293 - 265) وكان هذا الشاب مكفوفاً وهو شديد الذكاء والنباهة يقول الشعر عن سليقة وكانت وفاته سنة 1849 وهو في الربيع السابع عشر من عمره فأرخه بطرس كرامة بقوله:
    بُنيٌ لآبيلا بذا اللحد قد ثوى بصيرٌ ذكيُّ شاعرُ متفرّسُ
    ولما قضى نودي تنعَّم مؤرخاً ونلْ فرحاً في جنَّة الخلد جرجسُ
    وكان جرجس آبيلا مع صغر سنه يكاتب أدباء عصره فكاتب إبراهيم بك ابن بطرس كرامة فقال: فيه ولعل هذه الأبيات لأخوة رفول:
    لقد أحييتَ فضل أبيك حتَّى بفضلكَ فقتَ والدك الحكيما
    أبوك لقد بنى لك بيت مجدٍ وزدتَّ بمجدك المجد القديما
    وكاتب الشيخ ناصيف اليازجي فمدحه بقصيدة لم نعرف غير مطلعها:
    بحور الهوى قد أغرقت كل سابحٍ وقصَّر في ميدانهِ كلُّ راجح
    فكان جواب الشيخ بقصيدة قال فيها قال فيها مثنياً على الشاعر الحدث:
    هويتُ الذي أعطى النجوم فؤادهُ فأعطَتهُ منها سانحاً بعد بارحِ
    تيمنتُ باسم الخضر فيهِ وطالما ترى المرءَ لا يخلو اسمهُ من لوائحِ
    وجدتُ به بل منهُ متعة سامعٍ ويا حبذا لو نلتُ رؤية لامحِ
    به حسدت عيناي أذني وربما تُخصَّص بالإقبال بعض الجوارح
    ومن حسن أقوال جرجس آبيلا قصيدة مدح بها السيد عبد الله الجابري منها:
    دُعيتَ بعبد الله أنك سيّد وبالجابريّ الألمعي لتجبرا
    وأصبحَ ذو فضلٍ بحبك عائماً وأضحى بك الشاني الظلومُ مكدرّا
    حويتَ التُّقى والجدَ والمجد والهدى عن الجدّ حتى طبت فرعاً وعنصرا
    وله من قصيدة مدح فيها الشيخ يوسف الأسير:
    فيوسف يُدعى بالأسير لأنهُ يسيرُ إليهِ العلم في غاية الأسرِ
    فهيمُ كريمٌ فاضلٌ متأدبٌ قد استوجب المدح الجزيل مع الشكرِ
    قد استوجبَ العز الرفيع مع الثنا لكثرة ما فيهِ من الشيم الغُرِّ
    وكان لجرجس آبيلا أخ أكبر منه يدعى رفول وكان أيضاً مكفوفاً كشقيقه ويشبهه في توقد ذهنه وفصاحة لسانه لكنه عاش دهراً بعده وكان يقول مثله الشعر وقد عارضهما أهل زمانهما بأبي العلاء المعري فقيل انهما حكياه في أدبه كما حكياه بفقد بصره. وتأدب على رفول بعض الأدباء فاشتهروا بعده بالكتابة منهم فقيد الأدب نقولا بك توما المحامي الشهير المتوفى في مصر السنة 1908. ومن شعر رفول أبيات نجت من أيدي الضياع أثبتناها في المشرق (6 (1903): 261) منها قصيدة قالها في أحد الأدباء أولها:
    يا نسيم الصبح خُذْ عني السلامْ نحو قومٍ هيَّجوا فيَّ هيام
    ومن أقواله في الشوق إلى بعض الأحباب:
    أخبرِ الأحبابَ عني أنني بعدَ بُعدي عنهمُ ذقتُ الندمْ
    طيفهم أن بعدوا عن مقلتي لم يفارقها دواماً وهي لَمْ..
    فعسى أحظى برؤياهم وبي رمقٌ كي أشفى من ذا الألمْ
    وعلى الله اتكالي فالذي يُخلصُ الآمال فيهِ لم يُضَمْ
    وفي هذا العهد كان أيضاً الشماس حنا الماروني المعروف بالقزي وزي وكان يقول الشعر الحسن بالمواضيع الدينية لكن أكثره قد فقد. ومما سلم منه تخميسه لقصيدة الطيب الذكر المطران جرمانوس فرحات في مريم العذراء وقد عثرنا على نسختين من هذا التخميس إحداهما عند الرهبان الموارنة البلديين قال في مطلعه:
    كلّ النبيّين الذين تقدَّموا في مدح سيدةِ الأنام تكلَّموا
    فلذا يُناديها الفؤادُ المغرمُ لو كان للأفلاك نطقٌ أو فمُ
    لترنَّموا بمديحكِ يا مريمُ
    وفي هذا الزمان عينه كان في الأستانة شاعر آخر من طائفة السريان الكاثوليك اسمه فيليب باسيل بنّاء وكان أصله من حلب واستوطن دار السلطنة وعرف بأدبه وحسن نظمه فمن ذلك عدة قصائد قالها ولم يبق منها إلا ثلث طبعت في برساو من حواضر ألمانية مع ترجمتها إلى الألمانية سنة 1844 الواحدة منها قالها في السلطان الغازي عبد المجيد.
    والثانية مدح فيها البرنس دي جوانفيل وكان أظهر مروءة عظيمة في حريق بُليت به بعض أحياء استنبول. وقال الثالثة في مدح غليوم الرابع ملك بروسيا. أما سنة وفاته فمجهولة.
    وكذلك نجهل تاريخ شاعر آخر مدحه نيقولا الترك وهو نيقولا النحاس نكتفي بتدوين اسمه رجاء أن يستدل أحد القراء على مآثره.
    وممن نختم بذكره هؤلاء الكتبة والشعراء لهمته وخدمته للآداب الدينية بطريرك الملة السريانية أغناطيوس بطرس جروه اشتغل بتعريب عدة تآليف دينية أخصها مختصر اللاهوت النظري والأدبي لتوما دي شرم وكتاب الحياة الإلهية للأب نيرمبرغ اليسوعي ولدينا منه كتاب مواعظ وكتب ترجمة عمه البطريرك ميخائيل جروه أول بطاركة السريان الكاثوليك بعد انفصالهم النهائي عن اليعاقبة وكانت وفاته سنة 1861 في 12 ت1 وعارضه
    في هذه التعريبات معاصره ووطنيه السيد إبراهيم كوبلي مطران الأرمن في حلب فعرب كتاب الحق القانوني وبعض التآليف الروحية (المشرق 9 (1906): 420) كانت وفاته سنة 1831 شهيد محبته في خدمة رعيته.
    دعنا الآن ننتقل إلى ذكر شيء من الحركة العلمية التي استجدت في هذا الطور بين الأوربيين فحملتهم على طلب الآداب العربية وإحراز فوائدها. ومن أقوى البواعث التي ساعدت علماء أوربا على بلوغ هذه الغاية تشكيل جمعيات علمية آسيوية يعقد أصحابها جلسات قانونية وينشرون الأبحاث المختلفة في كل فروع العلوم الشرقية. وكانت الجمعية الآسيوية الفرنسوية تتقدم ما سواها في هذا السباق الشريف فبلغت في ذلك الطور الثاني مقاماً عالياً كما تشهد عليه منشوراتها المتعددة. وكذلك الجمعية الآسيوية الإنكليزية تجاري شقيقتها في همتها وإن كان نظرها منصرفاً بالخصوص إلى الهند والشرق الأقصى.
    ومما استؤنف من هذه الجمعيات الآسيوية البنغالية التي باشرت سنة 1832 نشر مجلة كالمجلات الآسيوية الأوربية وهي لا تزال إلى يومنا تواصل أعمالها بنشاط.
    وفي هذا الزمان نشأت في ألمانية نهضة محمودة لدرس العلوم الشرقية ولا سيما العربية.
    فاجتمع قوم من أصحاب الجد والعمل أخصهم ايفلد وغابلنتس وكوسغرتن وروديغر وجعلوا ينشرون مجلة لمعرفة الشرق تجد فيها مقالات عديدة في التاريخ والآداب العربية. وما لبثت جمعية أخرى أوسع نطاقاً وأرقى علماً إن ظهرت في ألمانية باسم الجمعية الآسيوية الألمانية كان أول ظهورها سنة 1845 ونشرت مجلتها سنة 1847 فخدمت منذ ذاك الحين الآداب الشرقية خدماً لا تنسى ومجموع هذه النشرة يعد اليوم كخزانة كتب واسعة تحتوي طرفاً جليلة من سائر فنون الشرق ومعارفه. وقد احتفلت هذه الجمعية سنة 1907 بيوبيلها الخمسيني وناهيك بذلك شاهداً على ثباتها وترقي أعمالها:
    أما الذين اشتهروا بين المستشرقين بتآليفهم العربية فليس منهم أحد نال فخراً كالعلامة البارون دي ساسي فإن هذا الرجل العظيم فضلاً عن علمه العجيب بلغات الشرق بعث في قلوب آل عصره روح الغيرة والهمة فكان كمنار استضاء به طلبة العلوم الشرقية في كل أنحاء البلاد وكالقطب دارت حوله مساعيهم في استخراج كنوز آداب الشرق.
    ولد دي ساسي في باريس في 11 أيلول سنة 1758 وفيها توفي في 21 شباط سنة 1838.
    ما كاد هذا يميط عنه التمائم حتى نبغ في المعارف ولا سيما في درس اللغات ولم يكتف بالألسنة الأوربية طلب لغات الشرق فأخذ منها شيئاً من علماء زمانه منهم الراهب البندكتي الشهير دون برترو فتعلم أولاً العبرانية ثم السريانية والكلدانية والسامرية ثم العربية ثم الفارسية والتركية وكان يعرف أكثر هذه اللغات معرفة جيدة كما يلوح من منشوراته وتآليفه لكنه كان يُحكم آداب اللغتين العربية والفارسية حتى سبق في معرفتهما علماء زمانه شرقاً وغرباً. ولو عددنا كل ما قام به هذا الهمام من المشروعات في تعزيز العلوم الشرقية من تعليم وكتابة وإنشاء مجلات وإدارة دوائر علمية وتنظيم مكاتب لاتسع بنا الكلام كثيراً. وحسبنا أن نقول أنه نشر نيفا ومائتي تأليف في كل علوم الشرق ولغاته وكثير من هذه المصنفات كبير الحجم واسع المادة فذكر منها غراماطيقية العربي في مجلدين كبيرين ومنتخباته العربية في ثلاثة مجلدات وطرائفه اللغوية في مجلد كبير وتاريخه لعرب الجاهلية وتعريف ديانة الدروز في مجلدين وأول طبعة لكتاب كليلة ودمنة ومقامات الحريري مع شروح مستوفية بالعربية في مجلدين ورحلة عبد اللطيف البغدادي إلى مصر. فترى من هذه القائمة ما للبارون دي ساسي من الفضل العميم وكان مع عمله كثير الدين حريصاً على كل وصايا الكنيسة متبعاً لتعاليمها.
    ومات قبل دي ساسي رجلٌ آخر حظي شهرة بمنشوراته عن علوم العرب الفلكية وهو جان جاك عمانوئيل سيديليو ولد سنة 1777 ودرس في مكتب اللغات الشرقية ثم انقطع إلى درس النجوم فنقل إلى الافرنسية كتاب الآلات الفلكية المسمى جامع المبادئ والغايات لأبي الحسن علي المراكشي وتآليف شتى لابن يونس ولأبي الوفاء وكتب عدة مقالات في تاريخ الشرق وعلومه الرياضية. كانت وفاته سنة 1833. وسيأتي ذكر ولده في
    محله.
    وزاد عن سيديليو شهرة مستشرق إفرنسي آخر كوسان دي برسفال كان مولده سنة 1759 وتوفي سنة 1835. تولى نظارة المخطوطات الشرقية في باريس وعلم اللغة العربية في مكتبها الملكي وألف كتباً عديدة في آداب العرب وتاريخهم منها المعلقات السبع وكتاب الزيج الكبير الحاكمي لأبي الحسن على ابن يونس الفلكي وكتاب الصور السماوية الشيخ عبد الرحمن الصوفي ونقل الكتابين إلى الافرنسية وطبع أيضاً مقامات الحريري وأمثال لقمان وملحقاً على كتاب ألف ليلة وليلة في مجلدين وتاريخ صقلية في عهد الإسلام للنويري وخلّف ابناً اشتهر مثله في معرفة أحوال العرب سنذكره.
    ومن تلامذة دي ساسي الذين توفاهم الله في هذا الزمن جوبار كان درس اللغات الشرقية في باريس ورافق نابوليون الأول في رحلته إلى مصر بصفة ترجمان ثم تجول في أنحاء أرمينية والعجم وكتب أخبار رحلته وعلّم في عاصمة فرنسة اللغتين التركية والفارسية وصنف فيها كتباً وكان يُحسن العربية وهو الذي نقل جغرافية الشريف الإدريسي (نزهة المشتاق) إلى الافرنسية في مجلدين طُبعا في باريس سنة 1836 - 1840 وترجم أيضاً كتاب تاريخ غانة. توفي سنة 1847.
    وممن تخرجوا أيضاً على العلامة دي ساسي همبرت كان مولده في جنيفة عاصمة سويسرة 1792 وفيها درس اللغات الشرقية بعد أن تلقنها في باريس. وكان عالماً باللغة العربية وله فيها بعض آثار مشكورة منها منتخبات شعرية مع ترجمتها إلى الافرنسية وعدة كتب مدرسية لدرس العربية صنفها في اللاتينية والافرنسية ومنها مقالات انتقادية ونظرية في علوم العرب ولغتهم. توفي همبرت سنة 1851.
    وأزهر في هذا الزمان بعض المستشرقين الألمان منهم أرسنت فردريك روزنمولر من أساتذة اللغات الشرقية البارعين مات سنة 1835 وكان مولده سنة 1768. أخذ العلوم الدينية عن أبيه أحد زعماء مذهب البروتستانت ثم درس في ليبسيك اللغات الشرقية ولما أتقنها صار أحد أساتذتها وله مطبوعات متعددة تدل على براعته في معرفة اللغة العربية منها غراماطيق عربي في اللاتينية ومنها مقتطفات في ثلاثة أجزاء مع ترجمتها إلى اللاتينية وكذلك نقل إليها معلقة زهير وبعض مقامات الحريري وطرفاً من أمثال الميداني. ولكن معظم كتاباته كانت في تفسير الأسفار المقدسة توفي في ليبسيك سنة 1835.
    وفي سنة وفاة روزنمولر 1835 توفي وطنيُه الشهير كلابروث ولد في برلين من أسرة شريفة سنة 1783 وكان أبوه أحد علماء الطبيعة المعدودين وآثر ابنه درس اللغات الشرقية ورحل إلى روسية لهذه الغاية وتجول أقطار أوربة ثم عاد إلى وطنه فقلدته الحكومة تدريس العلوم الشرقية فقام بمهنته أحسن قيام. وهو ممن سعوا في مقابلة لغات آسيا وبيان ائتلافها فألف في ذلك كتاباً كبيراً وله كتاب آخر في الأصول السامية وقد صنف تآليف غيرها في معظم لغات الشرق وفي تاريخ أممه وآدابها. وبرز خصوصاً في اللغات التترية والكرجية.
    واشتهر في زمانه المعلم هابخت ولد في برسلو سنة 1775 وتوفي سنة 1839 جاء باريس في عهد دي ساسي ودرس عليه وعلى الأب رافائيل المصري اللغة العربية ثم عهد إليه بتدريسها في بلده وقد نشر مجموعاً من الرسائل العربية المكتوبة في مراكش ومصر والشام ونقلها إلى اللاتينية ثم طبع نخبة من أمثال الميداني وعلق عليها التعليقات الحسنة وهو أول من سعى بطبع كتاب ألف ليلة وليلة فباشر به سنة 1825 وطبع منه ثمانية أجزاء قبل وفاته ثم أنجز الباقي منه المعلم فليشر. ولها بخت ترجمة ألمانية لهذا الكتاب مع عالمين آخرين من تلامذته هاغن وشال وله أيضاً عدة مقالات في المجلات الشرقية.
    ومن أفاضل المستشرقين الألمان الذين فقدهم العلم في هذا الطور جزنيوس ولد سنة 1786 ومات سنة 1842 انقطع منذ صغره إلى درس اللغات السامية فبرز فيها وصار في بلاده إماماً يقتدي بمثله ويؤخذ عنه. قيل إن عدد طلبة دروسه أربى في مدينة هال على الألف. وقد ترك آثارا جليلة في أكثر اللغات الشرقية كالسريانية والكلدانية والفينيقية والحميرية والسامرية لكنه كان في العبرانية حجّة وله المعجم الكبير في ثلاثة مجلدات لا يزال العلماء يرجعون إليه وقد طبع الطبعات العديدة. وكان يُحسن أيضاً العربية كما يظهر من مقالاته في المعجمين السريانيين والعربيين لبَر علي وبر بهلول ومن رسالته في اللغة المالطية.
    واشتهر في هذا الزمان كاتب آخر هو بولس من مستشرقي الألمان درس اللغات الشرقية في كلية توبنغ ثم في لندن وفي أكسفرد واشتهر في الدروس الكتابية وشرح الأسفار المقدسة مع كونه لم يعتقد بالوحي. وله من الآثار كتاب مختصر باللاتينية في أصول العربية وسعى بطبع الترجمة العربية للكتب المقدسة التي ألفها سعدي الفيومي في القرن التاسع للميلاد وعلّق عليها شروحاً. كان مولده سنة 1761 ووفاته سنة 1850.
    وعرف أيضاً في هذا الطور الألماني فراهن ولد في روستك سنة 1782 انتدبه قيصر روسيا للتعليم في كلية قازان وكانت وفاته في بطرسبورج سنة 1851 كان من كبار المستشرقين الألمان واشتهر خصوصاً في معرفة النقود الشرقية القديمة وله من التآليف نيف و200 كتاب وقد نشر عدة صفات عربية ونقلها إلى اللاتينية أخضها رسالة ابن فضلان في روسية وأهلها نقلها إلى الألمانية وأضاف إليها ما وجده في كتب العرب عن قبائل روسية القديمة ومنها كتاب تحفة الدهر في عجائب البر والبحر لشمس الدين الدمشقي لم يتم فأنجزه بعد وفاته العلامة مهرن ومنها مقالة ابن الوردي في مصر أخذها من كتابه خريدة العجائب. وله أيضاً عدة مقالات في النقود العربية.
    أما الانكليز فعرف منهم في هذا الزمان وليم مارسدن كان مواده في دوبلين سنة 1754 ثم رحل إلى سوماترة وبقي فيها مدةً ووضع تاريخها وكتب في اللغة الماليزية واشتهر في كتاباته في النقود القديمة والنقود الاسلامية وكان له مكتبة شرقية كثيرة المخطوطات العربية أهداها إلى خزانة المتحف البريطاني. كانت وفاته سنة 1836.
    ولم يبلغ أحد في هولندة ما بلغه في هذه المدة الأستاذ هماكر ولد في أمستردام سنة 1789 وتخرج على المستشرق فلمت (ص46) وتعلم بزمن قليل اللغات السامية فضلاً عن سائر لغات أوربة وانتدبته الحكومة إلى التدريس في كلية ليدن فعلم هناك العربية والسريانية والكلدانية وأحرز له شهرة قلما يبلغها العلماء وأبقى آثاراً عربية متعددة منها وصف المخطوطات العربية في مكتبة ليدن ونشر قسماً من تآليف بعض مشاهير العرب كالواقدي والمقريزي ورسالة ابن زيدون وتاريخ أحمد بن طولون. واشتهر كثير من تلامذته.
    ويذكر البلجكيون بالفخر أحد مشاهير علمائهم اوجين جاكه الذي وقف حياته على درس لغات الشرق وتواريخه ولد سنة 1811 وتوفي سنة 1838.
    الفصل الخامس
    الآداب العربية من السنة 1850 إلى 1870
    كانت حالة الآداب العربية في هذا الطور الثالث كحالة الحدث الذي يدخل في شبابه ويشعر بقوته فيحول أفكاره إلى عالم العلم ومنتدى الآداب وهو إلى ذلك الحد مشغول البال بشواغل أترابه الأحداث لا يجد كبير نفع بأمور العقل والأبحاث العلمية والاتساع في آداب اللغة وأساليب الكتابة.
    أما ما امتاز به هذا الطور فإنشاء الجرائد في الشرق. والظاهر أن أول جريدة ظهرت في الممالك المحروسة إنما كانت في أزمير أنشأها المسيو بلاك سنة 1825 ودعاها ببريد أزمير ثم استدعاه جلالة السلطان محمود الثاني إلى دار السعادة فأنشأ فيها جريدة افرنسية دعاها البشير العثماني سنة 1831 ثم عقبها في السنة التالية بجريدة تركية تدعى (تقويمي وقائع) لكنه مات بعد قليل سنة 1836. وأنشأ السائح الإنكليزي شرشل جريدة أخرى سنة 1843 سمّاها (جريدئي حوادث). أما الصحافة العربية فنشأت أولا في مصر بطبع (الوقائع المصرية) التي صدرت سنة 1828 على عهد محمد علي باشا فظهرت سنين عديدة. وكان ظهورها ثلاث مرات في الأسبوع. ثم توفرت الجرائد في الممالك المحروسة حتى أن سالنامة سنة 1268 (1851 - 1852) المطبوعة في دار السلام عدت منها 11 جريدة في الاستانة العلية و5 في أزمير و4 في مصر (852 248 اللغات في التركية والفرنسوية والأرمنية واليونانية والعبرانية العربية. وفي تشرين الأول من السنة 1854 أنشأ رزق اللّه حسُّون الحلبي أوَّل جريدة عربية في دار السعادة وسمَّها (مرآة الأحوال) ولعلَّه باشر طبعه في لندن وخلفتها سنة 1857 جريدة السلطنة لمحررها اسكندر أفندي شلهوب. أما سورية فكانت أول جرائدها (حديقة الأخبار) أنشأها فقيد الآداب المتوفى في 26 ت1 سنة 1907 خليل الخوري ظهر أول أعدادها في غرة كانون الثاني من السنة 1858 ولم تزل في الوجود حتى وفاة منشئها فانطفأ سراج حياتها معه. وفي سنة إنشاء حديقة الأخبار ظهرت في مرسيلية جريدة (عطارد) كان يديرها المستشرق كرلتي وأنشئت في أثر تلك النشرات عدة جرائد أخصها (الرائد التونسي) وهي جريدة تونس الرسمية سنة 1860. وفي تموز منها أنشأ الشيخ أحمد فارس الشدياق في الأستانة جريدة الجوائب فبقي فيها إلى السنة 1884 وفي ذلك الوقت أيضاً ظهرت في باريس جريدة البرجيس كان يحررها سليمان الحرائري التونسي. وعقبها في دمشق جريدة سورية الرسمية ظهرت 1865. ثم وليها في مصر جريدة وادي النيل سنة 1867.
    وفي تلك الأثناء شرع المرسلون الأمريكيون في بيروت بتحرير جريدة دينية دعوها (النشرة الشهرية) ثم أبدلوها في غرة السنة 1870 بالنشرة الأسبوعية. فكان ذلك داعياً لنشر جريدة كاثوليكية أنشأها الآباء اليسوعيون في السنة نفسها ودعوها (المجمع الفاتيكاني) ثم عقبها (البشير) في أيلول من تلك السنة وكان أولاً على قطع المجلات ثم طبع على قطع الجرائد ولم يزل في اتساع وتحسين حتى صار كما هو اليوم في جملة الصحائف الراقية يصدر ثلاث مرات في الأسبوع.
    ورأت السنة 1870 إنشاء جرائد ومجلات أخرى كالزهرة وكانت جريدة أخبارية عني بنشرها الأديب يوسف الشلفون والنحلة للقس لويس صابونجي السرياني وكانت أدبية وعلمية والنجاح كانت إخبارية سياسية أنشأها القس المذكور مع يوسف الشلفون. ثم صارت ملكاً للمرحوم الصقلى خضرا بشراكة الطيب الذكر المطران يوسف الدبس. وفي تلك السنة ذاتها أنشأ المعلم بطرس البستاني وابنه سليم مجلة الجنان وجريدة الجنة فصار لهما رواج.
    ومما امتاز به هذا الطور الثالث أيضاً الجمعيات العلمية في الشرق فعقد جمعية آسيوية (إنجمن دانش) في دار السلام نشرت قوانينها وأسماء أعضاءها في المجلة الآسيوية الألمانية 278 - 285) وكذلك أخذ العلماء المصريون يضمون قواهم لنشر الآداب فبهمتهم طبعت في بولاق تآليف معتبرة كالأغاني لأبي الفرج الأصفهاني وأمثال الميداني وإحياء علوم الدين للغزالي والخطط للمقريزي.
    ولم تخل سورية من جمعيات علمية نفعت الآداب بأفكارها الراقية ومساعيها بترقية المعارف ومنشوراتها الحسنة. وكانت أولها جمعية أدبية سعى بعقدها بعض مشاهير لبنان في بيروت سنة 1847 فلم تطل مدتها. ثم الجمعية الشرقية التي أنشأت سنة 1850 في دير الآباء اليسوعيين في بيروت. روى جناب يوسف أفندي آليان سركيس أخبارها في (المشرق 12 (1909): 32 - 38) انتظم فيها كثير من أدباء ذلك العهد كالدكتور سوكة والطبيب إبراهيم أفندي ومارون نقاش وفرنسيس مسك وإبراهيم مشاقة وطنوس الشدياق وحبيب اليازجي.
    ثم خلفتها سنة 1857 الجمعية السورية وضمت إليها عدداً من الذوات كحسين أفندي بيهم والأمير محمد أمين والوجوه إبراهيم فخري بك وبولس دباس والشيخ ناصيف اليازجي والأدباء بطرس البستاني وسليم رمضان وسليم شحادة والدكتور سوكة وعبد الرحيم بدران وعالي سميث وموسى يوحنا فريج وحنين الخوري ويوسف الشلفون وحبيب الجلخ. ثم اتسعت دائرة أعمالها ونالت من الدولة العلية الرخصة بنشر أبحاثها فنشرت أولاً من حين إلى آخر دون وقت محدد ثم طبعت قوانينها سنة 1868 وصدرت أعمالها في كل شهر بنظام فأرخها سليم أفندي رمضان:
    قلت للدهرُ والنجاحُ تبدَّى قمراً في بلادنا السوريَّة
    أيَّ يومٍ يتم ذا قال أرخ يوم فتح الجمعَّية العلميَّة
    (1284ه).
    وطبعت هذه النشرة خمس سنوات ثم عدل عن طبعها. وقد نفعت تلك الجمعية المعارف والآداب بهمة أعضائها الذين سنذكرهم في تواريخ وفاتهم. وكان مثلهم مؤثراً في غيرهم لا سيما أن أصحاب الأمر وعمال الدول العلية كانوا يقدرون قدرهم وينشطون هممهم وربما شرفوا جمعياتهم الأدبية كأصحاب الدولة فؤاد باشا ويوسف كامل باشا ومصطفى فاضل باشا ومحمد رشدي باشا وأصحاب السعادة قناصل الدول وغيرهم أما المدارس فإنها زادت في هذا الطور ترقياً لا سيما مدارس المرسلين الكاثوليك من ذكور وإناث ومدارس الأميركان لا سيما كليتهم التي علموا فيها اللغات والعلوم وكانت الدروس تلقى فيها أولا بالعربية وطبعوا عدة كتب مدرسية في ضروب العلوم كالطبيعيات والرياضيات والهيئة والكيميا والجغرافيا ثم عدلوا عنها إلى اللغة الإنكليزية لتوفر أسبابها لديهم.
    وقد أنشئت في هذا الطور مدارس جيدة أخصها المكتب العسكري الذي ترقى بهمة أصحابه ونال الشهرة في أنحاء سورية. والمدرسة الوطنية التي فتحها بطرس اليستاني سنة 1863 في بيروت فجارت في تعاليمها بقية مدارس المدينة بمساعي منشئها وولده سليم. وفي السنة 1864 وضع الطيب الذكر غريغوريوس يوسف بطريرك الروم الكاثوليك أساسات المدرسة البطريركية فذاعت شهرتها وأقبل إليها الطلبة من الشام ومصر وقبرس وتخرج فيها كثيرون من الأدباء فنبغوا في المعارف والآداب العربية. ولم يلبث السيد البطريرك أن فتح
    أيضاً في عين تراز مدرسة اكليريكية لتهذيب طلبة الكهنوت. وفي السنة 1865 أنشأ الروم الأرثذكس مدرسة الثلاثة الأقمار على طرز المدرسة الوطنية. ومن المدارس المارونية المنشأة في ذلك الوقت مدرستان في عرمون أنشأ الواحدة همام مراد سنة 1865 وعرفت بمدرسة مار نيقولا العريمة والأخرى مدرسة المحبة جددها الخوري ميخائيل سباط سنة 1867 أما المطابع فإنها في مدة العشرين السنة أصدرت عدداً لا يحصى من المطبوعات في كل الفنون سواء كان في سورية أو في مصر والهند. وقد ذكرنا تاريخ معظم هذه المطابع في الشرق في أعداد السنين 1900 - 1902. ففي سنة 1852 أخذت مطبعتنا الكاثوليكية تطبع على الحروف بعد طبعها على الحجر. ومما استجد من المطابع في هذا الزمان في بيروت المطبعة السورية التي أنشأها المرحوم خليل أفندي الخوري سنة 1857 وقد وصفنا تاريخها وقائمة مطبوعاتها في المشرق (3 (1900): 998) وفي السنة التالية أحدث الدكتور إبراهيم النجار مطبعة عرفت بعد ذلك بالمطبعة الشرقية (المشرق 3: 1032). وبعدها بثلاث سنوات نال يوسف الشلفون الرخصة بفتح مطبعة دعاها المطبعة العمومية (المشرق 3: 999) فنشر فيها عدة كتب ونشرات وجرائد. ثم ظهرت المطبعة المخلصية سنة 1865 فخدمت الآداب العربية نحو ثماني سنوات (المشرق 3: 1032) وفي السنة نفسها كانت المطبعة السريانية التي نقلت أدواتها بعد قليل إلى الشرفة (المشرق 4 (1901): 89) وكذلك ظهرت وقتئذٍ المطبعة الوطنية لجرجس شاهين (المشرق 4: 86) ثم أنشأ جناب الأديب الفاضل خليل أفندي سركيس مطبعة المعارف سنة 1867 شركةً مع المعلم بطرس البستاني إلى سنة 1874 حيث أنشأ المطبعة الأدبية وكان آخر ما أنشئ من المطابع في هذا الزمان سنة 1869 المطبعة اللبنانية لحنا جرجس الغرزوزي (المشرق 4: 86 - 87) ومطبعة الجمعية الأرثذكسية لجرجس يزبك التي لم تطل مدتها ولم تتجاوز مطبوعاتها ثلاثة أو أربعة كتب دينية وفي هذا الطور نفسه انتشر فن الطباعة العربية في لبنان وكان قبلها منحصراً في مطبعة مار يوحنا الصابغ في الشوير أما مطبعة قزحيا فكانت حروفها سريانية. وأول مطابع لبنان في هذا العهد مطبعة بيت الدين كان الساعي بإدارتها حنا بك أسعد أبي صعب باشر أولاً سنة 1853 ببعض المطبوعات الحجرية ثم طبع على الحروف سنة 1862. ثم ظهرت مطبعة دير طاميش سنة 1858 فوق وادي نهر الكلب (المشرق 4: 473) فاشتغلت عشر سنوات. وأنشأ المرحوم رومانوس يمين سنة 1859 مطبعة أهدن فشاركه في العمل الخوري يوسف الدبس (المشرق 4: 473) ثم ندب المرحوم داود باشا يوسف الشلفون لإنشاء مطبعة لمتصرفية لبنان فأنشئت المطبعة اللبنانية سنة 1863 تولى تدبيرها ملحم النجار ثم نقلها إلى دير القمر سنة 1869. وفي المطبعة اللبنانية طبعت جريدة لبنان الرسمية كان يحررها حبيب أفندي خالد (المشرق 4: 473) أما الجهات فظهرت فيها أيضاً مطابع أخرى فأنشأ المرحوم حنا الدوماني سنة 1855 في
    دمشق مطبعة انتقلت بعد ذلك بالشراء إلى حنا الحداد ثم إلى محمد أفندي الحفني. ثم جلبت ولاية سورية الجليلة سنة 1864 مطبعة نشرت فيها جريدتها الرسمية (سورية) مع عدة مطبوعات أخرى (المشرق 879:4) - وأنشأت في الموصل سنة 1856 مطبعة جليلة بإدارة حضرة الآباء الدومنيكان فأدت للدين والعلم والآداب خدماً متعددة ولم تزل إلى زمن الحرب جارية على خطتها (المشرق 5 (1902): 422). وفيها أنشأت أيضاً المطبعة الكلدانية بهمة الأديب الشماس رافائيل مازجي سنة 1863 (المشرق 840:5). وظهرت في كربلاء مطبعة حجرية سنة 1856 طبعت فيها مقامات الشيخ محمود الآلوسي (المشرق 843:5) ثم استحضر المرزا عباس مطبعة أخرى حجرية في بغداد فعرفت بمطبعة كامل التبريزي ونفعت العلوم ببعض المنشورات نحو خمس سنوات (المشرق 843:5 - 844). ثم بطلت تلك المطبعة بظهور مطبعة ولاية بغداد سنة 1869 فأصدرت جريدة الولاية ومطبوعات غيرها (المشرق 843:5) - وكذلك حلب فإن فن الطباعة تجدد فيها في أواسط القرن التاسع عشر. وكان أولاً أحد الفرنج المدعو بلفنطي السرديني نشر بعض المطبوعات الحجرية في الشهباء منها ديوان الفارض سنة 1257 (1841) وكتاب المزامير.
    ثم اهتم الطيب الأثر المطران يوسف مطر بإنشاء مطبعة على الحروف فطبع فيها منذ السنة 1857 إلى يومنا نحو 50 كتاباً بين كبير وصغير (المشرق 357:3 - 358). أما أوروبة فكانت فيها الدروس الشرقية لا سيما اللغات السامية على خطتها الشريفة. وكان عدد وافر من تلامذة دي ساسي قد انتشروا في أقطار شتى فبعثوا الهمم لدرس آثار الشرق ولغاته وإحياء دفائنه فعقدت جمعيات جديدة وأنشأت المدارس وتوفرت المطبوعات والخزائن الكتبية. وكانت فرنسة في مقدمة الدول لما كان بينها وبين أقطار الشرق من العلائق والمعاملات وخصوصاً بلاد الجزائر.
    ومما ساعد على توفير أسباب الترقي للآداب العربية في هذا الطور الثالث بين نصارى الشرق خاصة بطاركة إجلاء محبون للعلوم وساعون في تنشيطها بين مرءوسيهم فكان يسوس طائفة الروم الكاثوليك الملكيين السيد المفضال مكسيموس مظلوم الذي مع وفرة أشغاله في تدبير بنية أبقى لهم من تآليفه أو ترجمته نيفاً وخمسين كتاباً طبع نحو نصفها في بيروت ورومية والأستانة ومصر وهي في كل ضروب العلوم من لاهوت نظري وأدبي وجدل
    وأخبار قديسين وعبادة وطقوس وتاريخ وجغرافية وصرف ونحو وطبيعيات. فكان مثال جد ونشاط لم تخمد همته إلا مع خمود أنفاسه في 10 آب سنة 1855 فقال الشيخ ناصيف اليازجي يؤرخه:
    مكسيموسُ المظلومُ بطركنا الذي قامت بهِ التقوى ولاح منارُها
    صرف الحياة بغيرةٍ مشهورة يبقى على طول المدى تذكارُها
    هو كوكبُ الشرق استقر قرارُه في جنة فتحت لهُ أخدارُها
    ولأجله كتب المؤرّخ نظمهُ إن الكواكب في السماء قرارُها
    وقام على الطائفة المارونية غبطة البطريرك بولس مسعد سنة 1854 وكان من البارعين في معرفة الأنساب والتاريخ الشرقي والحق القانوني خلف من كل هذه العلوم آثاراً حسنة.
    وفي هذه الغضون كان على السريان الكاثوليك البطريرك أغناطيوس بطرس جروة وقد ذكرنا (ص75) بعض ما خلفه من المآثر العلمية. ولما دعاه الله إلى دار الخلود خلفه ذلك الرجل المفضال المبرات أغناطيوس أنطون السمحيري (1853 - 1864) الذي عني بتهذيب أكليروس طائفته في مدرسة الشرفة وفي مدرسة غزير ومدرسة البروباغندا في رومية العظمى فخرج من يلك المدارس رجال أفاضل سنذكرهم في تاريخ وفاتهم.
    أما الأرمن الكاثوليك وكان يدبرهم البطريرك غريغوريوس بطرس الثامن منذ السنة 1843 فما كان لينسى تعزيز الآداب في طائفته فاهتم في نماء مدرسة بزمار وتنظيم كهنتها على قوانين خصوصية كما أنه أرسل إلى مدرسة غزير بعض بني جنسه فأنجزوا فيها دروسهم ثم اشتهروا في خدمة المنفوس ولهم تآليف دينية. ثم قام بتدبير الطائفة الأرمنية السيد أنطون حسون سنة 1866. وكان من رجال الفضل والعلم فجرى على مثال سلفه في نشر الآداب بين أبناء أمته.
    وكذلك الكلدان فإن بطريركهم يوسف أودو (1848 - 1878) سعى في إنماء الآداب في ملته. وهو الذي أنشأ لأبناء طائفته مدرسة اكليريكية في الموصل وأرسل أحداثاً منهم إلى مدارس أخرى فنجحوا.
    وقد عرفت الرسالة الأمريكية في هذا العهد بنشاط عظيم اشتهر بينها الدكتور عالي سميث والدكتور طمسن والدكتور فان ديك فانكبوا على درس اللغة العربية حتى أتقنوها.
    وكان من أثمار اجتهادهم ترجمة الكتاب المقدس باشر فيها سنة 1849 الدكتور سميث بمعاونة المعلم بطرس البستاني فعرب قسماً من كتب موسى ثم توفي سنة 1857 فقام بتعريبها من بعده الدكتور فان ديك ولم يزل يفرغ في إنجاز العمل كنانة جهده حتى انتهى منه سنة 1864 بمساعدة الشيخ ناصيف اليازجي ثم طبع الكتاب سنة 1867. ولم تثبت فيه الأسفار المعروفة بالقانونية الثانوية. وصار لهذه الترجمة رواج كبير حتى أتت من بعدها ترجمة الآباء اليسوعيين بمساعدة المرحوم إبراهيم اليازجي فكانت أضبط نقلاً وأشمل موضوعاً وأبلغ لساناً وأجود طبعاً فصارت تعتبر كالترجمة الرسمية لجميع الكاثوليك الناطقين بالضاد.
    الآداب الإسلامية في هذا الطور (1850 - 1870)
    انحصرت الآداب الإسلامية في هذا الطور الثالث أعني من السنة 1850 إلى 1870 في العلوم اللسانية خاصة من صرف ونحو ولغة وبديع وبيان وشعر وأدبيات منثورة. أما التاريخ والعلوم الطبيعية والهيئة والرياضيات فإن التأليف فيها كان نادراً. إلا أن بعض الأدباء كالشيخ الرفاعي الطحطاوي في مصر وسليمان الحرائري في الجزائر عربوا عدة مؤلفات أوربية في العلوم المستحدثة والاختراعات الجديدة فكان تعريباتهم دليلاً على سعة اللغة العربية ومرونتها وكفايتها لترويج المعارف العصرية. فنهج غيرهم منهجهم بعد ذلك لا سيما جماعة الأمريكان في بيروت. وهانحن نختصر تاريخ أدباء المسلمين في هذا الطور بذكر مشاهيرهم بلداً بلدا مباشرة بالشام ثم مصر ثم العراق وبقية البلاد.
    (أدباء المسلمين في الشام) يحضرنا منهم أسماء قليلين ولعل مصنفات أكثرهم لا تزال مدفونة في بيوت الخاصة. فممن اشتهروا في هذه المدة بآدابهم السيد مصباح البربير اسمه محمد بن محمد البربير وجده أحمد البربير الشاعر الذي ذكرناه في جملة أدباء الطور الأول من القرن التاسع عشر. ولد محمد مصباح سنة 1261 (1845) وأظهر منذ صغره نجابة عظيمة فبعد إتقانه أصول اللغة ومن بعده العلوم على شيوخ بيروت في أيامه كالشيخ عبد الرحمن أفندي النحاس والشيخ عبد الله أفندي خالد البيروتي وأخيه الشيخ إبراهيم البربير استخدم في مجلس التحقيق بوظيفة كاتب وكان في شرخ شبابه مولعاً بالشعر فينظم في أوقات الفراغ القصائد الرائقة التي تعرب عن جودة قريحته. وقد وافاه أجله فقصف غصن شبابه طرياً في وباء الهواء الأصفر الذي حدث سنة 1282 (1865م). له ديوان صغير جمعه شقيقه الأديب عمر البربير فطبعه في المطبعة الأميركانية سنة 1290 (1873م) ودعاه البدر المنير ي نظم مصباح البربير. فمما نظمه مصباح قوله مؤرخاً بناء دار لوالده سنة 1279 (1862):
    لمحمَّد البربير داراً قد زهت ونجومُ مطلع عزّها حرَّاسُها
    في بابها كتبَ المؤرخ قلُ بها دارٌ على التقوى أقيم أساسها
    ومن ظريف أقواله تهنئة بمولد ابن عمه محمد نجيب بن محمد البربير سنة 1282:
    بُشراك أحمد قد أتاكَ نجيبُ حيَيَتْ بمرآهُ نُهىّ وقلوبُ
    نجلٌ كُسي من كل ظرفٍ حلَّةً فهو الحبيبُ بلا أبوهُ حبيبُ
    قد لاحَ في أفق السعادة ساطعاً إن غابت الأقمارُ ليس يغيبُ
    في مهدهِ كالعندليب مغرداً وكذا اللبيبُ من المهاد لبيبُ
    نادت علاماتُ السعود بوجههِ يحيي سعيداً إنه لأديبُ
    وله مكاتبات مع بعض أدباء زمانه نخص منهم بالذكر ناصيف اليازجي وكان هذا كتب إليه:
    برعتَ واللهِ في قولٍ وفي عملٍ لفظاً ومعناً وتهذيباً وإفصاحا
    أعطاك ربك نوراً يستضاءُ بهِ فقد أصاب الذي سماكَ مصباحا
    فأجابه محمد مصباح بقوله:
    يا من غدا شعرهُ الشعريَ فكان لنا قاموسَ فضلِ وللتلخيصِ إيضاحا
    لأنتَ شمسُ علومٍ حين مطلعها كم أخجلتْ قمراً يزهو ومصباحا
    وقد رثاه الشيخ إبراهيم الأحدب وأرخ ضريحه بهذه الأبيات:
    ضريحٌ حلهُ مصباحُ فضلٍ سناهُ في سماء المجد عالي
    إلى عليا بني البربير يُعزى لهُ نسبٌ ينير دجى الليالي
    فقال منظّم التاريخ وافٍ سنا مصباحَ مشكاة المعالي
    (محمد أرسلان) واشتهر أيضاً في الشام بأدبه وتآليفه الأمير محمد ابن الأمير أمين أرسلان ولد في الشويفات سنة 1254 (1838) وطلب العلوم منذ حداثة سنه وتعلم اللغات الأجنبية فضلاً عن اللغات الوطنية. ولما بلغ الخامسة عشرة من عمره فوضت إليه الحكومة السنية إدارة الغرب الأسفل فتولاها تحت نظاره والده حتى مات والده سنة 1275 (1858) فقام بعمله. ثم انتقل إلى بيروت مع أهل بيته واستوطنها وتفرغ للتأليف والكتابة وكان عضداً لكل طالبي الآداب ساعياً في ترويج العلوم يجمع في داره محبي المعارف. وسنة 1275 (1868) استدعته الدولة العلية إلى الأستانة لتعهد إليه بعض المهام لكن الموت عجله عند وصوله فمات بمرض القلب وله من العمر 31 سنة وقد أبقى المترجم عدة تآليف لا تزال مخطوطة منها كتاب في أصول التاريخ وعدة تآليف في الصرف والنحو والمنطق وكتاب حقائق النعمة في أصول الحكمة والمسامرة في المناظرة وتعديل الأفكار في تقويم الأشعار وتوجيه الطلاب في علم الآداب والتحفة الرشدية في اللغة التركية الذي نشر بالطبع. وكان بين الأمير محمد أمين وأدباء زمانه مكاتبات تدل على براعته في فنون الآداب. وهو ممن مدحه الشيخ ناصيف اليازجي فله في أبيه الأمير أمين وفيه أقوال حسنة فقال في الأمير أمين:
    كريمٌ لا يضيعُ لديهِ حقُ فقد سُمّي أميناً بالصوابِ
    وليس يخلو في الدنيا بشيء لغير المال من حفظ الصحاب
    ويُدركنا نداه حيثُ كنا على حال ابتعادٍ واقترابٍ
    وتُكسبنا مكارمهُ ارتفاعاً كصفر زاد في رقم الحسابِ
    فدام نداهُ يَقْرَع كلَّ بابٍ ويأتيهِ الثنا من كل بابِ
    ومن حسن أقواله في الأمير محمد ما كتبه إليه يعزيه في أبيه بقصيدة كان مطلعها:
    ما دام هذا اليومُ يخلفهُ غدُ لا تُنْكروا أن القديمَ يُجَدَّدُ
    لا تُقَطع الأغصانُ من شجراتها إلا رأينا غيرها يتولَّدُ
    هذا الأمينُ مضى فقام محمَّد خلفاً فنابَ عن الأمين محمَّدُ
    وختمها بقوله:
    خَلفٌ كريمٌ أشبهَ السلفَ الذي كانت لهُ كلَّ الخلائق تَشْهَدُ
    ما كان يوجَدُ كالأمين بعصرهِ واليومَ مثلُ محمدٍ لا يوجدُ
    وقد مدح أحمد فارس الشدياق بلامية أولها:
    إن الأمير محمداً مفضالُ من آل رِسلانَ ونعمَ الآلُ
    وقال يصف معارفه:
    سيَّان في نظمٍ ونثرِ قولهُ فصلٌ وحكمٌ لا يليهِ عدالُ
    قد ألفَ الكُتب التي شهدت بأنْ أصحاب أرسطو عليهِ عيالُ
    فأجاد في التاريخ أي إجادةٍ وبكلّ فنٍّ لم يَفُتهُ مقالُ
    وقال الشاعر المشهور أسعد طراد يعزيه بوالده بقصيدة هذا مطلعها:
    الأرضُ تخبر والجماجمُ تشهدُ إن ابن آدم فوقها لا يخْلدُ
    ومنها في مدح الفقيد:
    غدت بنو رسلانَ نائحةً ومن فرط الأسى أمست تقومُ وتقعدُ
    لك يا أمين مع القلوب أمانةٌ حزنٌ بها أودعتها لا يُنْفدُ
    فارقتَ لبنان الذي مهَّدتهُ عدلاً وكان الظن لا يتمَّهدُ
    أضرمتَ ناراً في القلوب كأنها نارُ القرى بحماك ليست تخمدُ
    (محمود بن خليل) وممن نقدر وفاته في هذا الوقت الشاعر محمود بن خليل الشهير بالعظم الدمشقي له في المكتبة الخديوية (353:4) ديوان شعر خطه سند 1284 (1867م) الأديب أحمد زكية. وكان صاحب الديوان موجوداً سنة 1285 (1868م).
    ولا نشك في أنه اشتهر في هذا الطور من أدباء المسلمين في الشام غير هذين المذكورين إلا أن أخبارهم لم تنشر حتى الآن فلم نقف على تاريخهم. ومما وقع في أيدينا منذ عهد قريب مجموع فيه قصائد لشعراء بلاد الشام في القرن السابق نظموها في مدح على بك الأسعد من البيوتات الشريفة في طرابلس فهناك أسماء عدة أدباء مر لنا ذكر بعضهم كالشيخ عمر اليافي والسيد أحمد البربير والشيخ عبد اللطيف أفندي فتح الله مفتي بيروت وبطرس كرامة والياس أده والبعض الآخر لم نعرف منهم غير أسماؤهم كالشيخ عثمان والشيخ عمر البكري والشيخ مصطفى الكردي والحاج علي ابن السيد البكري والسيد عمر أفندي الكيلاني. ولكلهم قصائد أجادوا فيها لكننا نعرض عن ذكرها لجهلنا أخبار قائليها.
    (أدباء مصر) خلف لنا أدباء المسلمين المصريين مادة أوسع من أخوتهم في الشام ومما ساعد على حفظها انتشارها بالطبع فسلمت من الضياع. ودونك أسماءهم:
    (علي الدرويش) هو السيد علي أفندي الدرويش بن حسن بن إبراهيم المصري الشاعر المفلق أصاب في أواسط القرن التاسع عشر شهرة كبيرة في القطر المصري وتقرب من أصحاب الأمر ومن أدباء وطنه فمدحهم وكاتبهم. ولما توفي سنة 1270 (1853م) جمع ديوانه وأقواله النثرية تلميذه مصطفى سلامة النجاري فطبعه على الحجر في مصر في 482 صفحة وعنونه بالأشعار في حميد الأشعار (1270). وهانحن نورد منه بعض أمثلة بياناً لفضل قائله. قال مؤرخاً فصر صديقه عرفي أفندي:
    وقصرٍ كالسماء به نجومٌ مطالعُها السعادة والبدورُ
    على أقطاره تبكي عيونٌ إذا ابتسمت لوارده زهورُ
    فليس وافد وافاهُ نهرُ وقد نفذت لمدحته البُحورُ
    وحسبُك روضةٌ في كل مجدٍ وفضل بالبنان لهُ يشيرُ
    تقاصَر من سناهُ ذو ثناءً وحسن القصر ما فيه قصورُ
    يقول العزّ والإسعاد أرخْ سعود البيت يا عرفي منيرُ (1259ه).
    وقال شاكراً:
    سُررتُ بالنيل القصد من غير موعدٍ ولا شيء أسهى من سرورِ مجددِ
    سُررت بنعماه ولكن حزنتُ من قصوري بحق الشكر في فضلَ سيدي
    لهُ الحمدُ والشكر الذي هو أهلهُ وقلُّ لهُ حمدي وشكري ومنشدي
    فلو كل عضوٍ فيهِ عدَّة ألسُنِ لأعجزني شكر الندى المتعددِ
    وهل أنا إلا عبد إحسان عفوكم فأضحى لديهِ مدحكم كالتعبُّدِ
    تعودتُ لولا لطفكم غير عادتي وصعب على الإنسان ما لم يعودِ
    وزدتم نعيمي نعمةً أبديةً وزدتم مقامي رفعة فوق مقصدي
    وكدرتمُ ظن الحسود بنعمة وأشهى من الإنعام تكدير حسَّدي
    وحمَّلتني ما لا أطيق وجوبهُ فينطق حالي عن لساني المعقّدِ
    فيا أسعدَ الله السعيدَ لملكهِ ودولتهِ والموكب المتجددِ
    فقد اشغل الدرويش شكراً مؤرخاً مليك سعيد النجم خير محمدٍ
    (شهاب الدين) وقد فاق علي درويش شاعر آخر كان يعاصره وهو الأديب الأريب السيد شهاب الدين محمد ابن إسماعيل ولد في مكة سنة 1218 (1803م) ثم قصد مصر فدرس على مشايخها لا سيما شيخي الأزهر محمد العروسي وحسن العطار فبرع في الكتابة والشعر. ولما أنشأ الشيخ حسن أول جريدة طبعت في الشرق وهي الوقائع المصرية سنة 1828 اتخذ كمساعد له في إنشائها شهاب الدين المذكور ثم خلفه في إدارتها سنة 1252 (1836م) وجعل مصححاً لمطبوعات مطبعة بولاق الشهيرة وبقي في مهنته إلى السنة 1266 (1849م) وانقطع إلى الكتابة والتأليف. وكانت وفاته سنة 1274ه (1857م) وقد أبقى السيد شهاب الدين من تآليفه كتاب (سفينة الملك ونفيسة الفلك) ضمنها مجموعاً وافياً من الزجليات والموشحات والأهازيج والموالي التي يتغنى بها أرباب الفن في مجالي الأفراح ومعاهد السرور ولما أتمه سنة 1259 قال في تاريخه:
    هذه سفينةُ فنٍ بالمُنى شُحنتْ والفضلُ في بحرهِ العجَّاج أجراها
    وإذ جرت بالأماني فيهِ أرَّخها سفينةُ البحر بسمِ الله مجراها
    ثم طبع سنة 1277 (1860م) ديوان شعره في 380 صفحة وفيه القصائد الرنانة في كل فنون العروض ومعاني الشعر. فمن نظمه قوله يصف مزولة أنشأها حضرة سلامة أفندي المهندس لجامع القلعة لبيان الأوقات والساعات بحساب البروج الإثني عشر:
    ومُظهرةٍ للوقت ظهراً وغيرهُ والبرج أيضاً فهي واحدةُ العصرِ
    سلامةُ منشي رسمها وحسابها لجامع خيراتٍ تفرَّد في مصرٍ
    وقال من قصيدة يمدح بطرس بكتي قنصل دولة روسية إذ زاره يوماً:
    أتى ينجلي كالبدر في سندسَّية وهل حلَّ في الآفاق بدرٌ بأطلسِ
    فتم لي الصفو الذي كاد حظُهُ يكونُ كحظي يوم ايناسِ بطرسِ
    ألا وهو تاج الفخر والحسن والبها مشيّد أركان المكرماتِ المؤَسسِ
    جميل السجايا الألمعيّ فطانةً رقيق الحواشي ذو الحجى والتفرُّسِ
    هشوشُ المحيَّا ضاحك السن دائماً حليفُ المعاني ذو الجناب المقدَّسِ
    بنفسٍ أفديهِ وقد جاءَ زائراً بتشنيف أسماعٍ وتشريف مجلسِ
    يصوغُ لهُ نظمي نفيسَ مدائحٍ فتثنيهِ غايات الكمال بأنفسِ
    وقال عن لسان بعض الكاثوليك يمدح كبير ملتهم وكان المذكور التمس منه ذلك:
    بابا النصارى مربي روح ملَّتهم حامي حمى كل شماَّس وقسّيسِ
    شخصٌ ولكن هيولى روحهِ ملَكٌ وجسمهُ صورةٌ في شكل قديسِ
    أقام وهو وحيد العصر مفردهُ دين النصارى بتثليثٍ وتغطيسِ
    تسعى الملوك إلى تقبيل راحتهِ في البحر والبرّ فوق الفلك والعيسِ
    أحيا الكنائسَ جسماً بعد ما درست وشيّد الروح تشييداً بتأسيسِ
    فعظّموا الربّ فيها بالصلاة لهُ ومجدوهُ بتسبيحٍ وتقديسٍ
    وله في مديح حنا البحري من قصيدة:
    هو كهفٌ إذا لجأنا إليهِ في مَخُوفٍ ممَّا نخافُ أمنَّا
    من أتاهُ مستنصراً بحماهُ عاد بالنصرِ بالغاً ما تمَّنى
    كلَّما عن أمرُ خطب مهمْ بك فيما نراهُ عن استعنَّا
    يصنعُ المكرمات سراً وجهراً وهو في عون من يقولُ أعنَّا
    كلُّ من قد رآهُ وهو بشوشُ عنه ولَّت همومهُ واطمأنّا
    وله قصيدة طويلة في مدح نصر الله (نصري) الطرابلسي الشاعر الذي مر لنا ذكره هذا أولها:
    لا رعى الله يوم حان وداعي أنه جالبٌ لَحيْني وَداعي
    فيه قد أزمع الرفاقُ فراقاً واصات الشتاتُ شمل اجتماعي
    وغدا الدمع سائلاً يتجارى وفؤادي في موقفِ الإيداع
    إلى أن قال:
    أتُرى هل تعودُ أوقاتُ أنسي وبقرب المزار تحضى رباعي
    وإذا ما الزمان جاءَ بنصري وبحمد يُجزى وبشكر مساعي
    هو بحرٌ تُروى المآثر عنهُ بل هو البرّ في جميع البقاعِ
    روضُ آدابهِ الغضيضُ جناهُ عَطِرُ النشر طّيب الإيناع
    وختمها بقوله:
    زادك الله بهجةَ وكمالاً ما ترَّجى حسنَ الختامِ الداعي
    ونظم الأبيات الآتية لترسم على سفرة الطعام:
    أيُّها السيد الكريم تكرَّمْ وتناولْ ما شئت أكلاً شهياً
    وتفضَّلْ بجبر خاطر مَنْ هُمْ أتقنوا صُنْعهُ وخذ منهُ شياً
    وتحدَّث على الطعام وآنسْ واحداً واحداً بشوش المحيَّا
    واستزدهم أكلاً وقلْ إن هذا طابَ نضجاً وصار غضاً طرياً
    فهلمَّوا بنا ومدُّوا إليه أيدياً باعُها ينالُ الثريَّا
    ثمَّ قُلْ يا أحبَّتي هل لكم في بعض شئٍ من النبيذ المهَّيا
    ولئن ساغَ شربهُ للتمري فكلوا واشربوا هنياً مرياً
    فإذا ما آكلت ضيفاً فأرخ أن هذا لرزقنا كل هنياً
    (الشيخ البيجوري) وأشهر من السابقين شيخ الإسلام إبراهيم البيجوري. ولد في قرية البيجور بمديرية المنوفية سنة 1198 (1784م) وطلب العلوم في الأزهر مدة وتتلمذ للشيخين محمد الفضالي وحسن القويسني وغيرهما حتى نبغ بين طلبة الأزهر وتفرغ للتأليف فوضع كتباً عديدة في التوحيد والفقه والمنطق والتصريف والبيان واشتغل بالتدريس ثم انتهت إليه رئاسة الأزهر. قيل إن صاحب الدولة الخديوي عباس باشا كان يحضر دروسه في الأزهر. وكانت وفاته سنة 1277 (1860م).
    (إبراهيم بك مرزوق) ويلحق بأدباء مصر أحد مشاهير كتبتها إبراهيم بك مرزوق. ولد سنة 1233ه (1817م) وكان منذ نعومة أظفاره مغرى بالآداب كثير الحفظ من مختار الشعر قيل إنه كان يحفظ منه عشرين ألف بيت كما أنه أحرز جملة وافرة من منتخب المتون العلمية ومأثور الأخبار. وكان كثير التصرف في فنون الكتابة ويحسن نظم الشعر. ورحل إلى بلاد السودان فكانت وفاته في الخرطوم سنة 1283 (1866م) وقد عني بجمع قصائده وطبعها الهمام محمد بك سعيد بن جعفر باشا مظهر وقسمها إلى سبعة أبواب على حسب معانيها ووسم هذا الديوان (بالدر البهي المنسوق بديوان الأديب إبراهيم بك مرزوق) وكان طبعه سنة 1287 (1870م) ومما جاء فيه من الحكميات قوله:
    إن الفضيلة في الأنام غدت على شرف النفوس الشُّمّ أقوى حجَّة
    فإذا ادعيت بأن أصلك يا فتى من سادة الأبطال أهل الهمَّة
    أوضح لنا نور الشهامة مثلهم وعلى رفيع المجد أحْسنَ غيرة
    وإذا أردت الفخر فاسهر دائباً لطلابهِ واهجر لذيذ الهجعةِ
    فتكون ذا شرفٍ فتلك دلائل دلت على شرفٍ وكل فضيلةِ
    وقال مستعطفاً لصديق نفر عنه:
    يا معرضاً متجنباً حاشاك من نقض الذمامْ
    مولاي ما لك قد بخلتَ م عليَّ حتى بالكلامْ
    سلّم عليَّ إذا مرر تَ فلا أقلَّ من السلامْ
    وقال يرثي اسكاروس أفندي الباش كاتب القبطي:
    لا شكَّ عندي في فناء الوجودْ فأفضلُ السيرةِ خيرُ الوجودْ
    والمرء مجزيُّ بأعمالهِ فشأنهُ يومَ تُقامُ الحدودْ
    وإنما طوبى لمن قد قضى دنياهُ بالخير وسعد السعودْ
    كالبارع اسكاروسَ في فضلهِ باهي الحجا والجد غيظ الحسودْ
    فقل لراجي شأوهِ أرّخوا يكفى ثوى اسكاروسُ دارَ الخلودْ (1860م).
    وقد عرف في مصر غير هؤلاء ممن ورد ذكرهم في كتب الأدباء كالأستاذ الشيخ أحمد عبد الرحيم والشيخ مصطفى سلامة وكان كلاهما محرراً للوقائع المصرية في هذا الوقت.
    مدحهما صاحب كنز الرغائب في منتخبات الجوائب (ص121 و129). وكذلك في مصنفا الشيخ ناصيف اليازجي مراسلات دارت بينه وبين أدباء مصر من المسلمين كالشيخ محمد عاقل أفندي كاشف زاده الإسكندري والشيخ حمد محمود أفندي الإسكندري. ولكلهم قصائد جيدة أثبتها الشيخ ناصيف في مجموع شعره لكننا لا نعرف من تاريخ أصحابها شيئاً. فمتا روى للشيخ محمد عاقل قوله يصف الهواء الأصفر:
    دهانا بوادي النيل كالسَّيل حادثُ لهُ تذْهل الألبابُ حين يحيفُ
    دَعوُه بريحٍ أصفر شاع ذكرهُ وما هو إلا هيضةٌ ونزيفُ
    به احتارت الأفكارُ والعقل والنُّهى وكلُّ طبيب شأنهُ العلمُ موصوفُ
    فلم يبقِ داراً لم يَزُرْها ولم يذرْ جناناً بهِ ركبُ السرور يطوفُ
    ثُكلنا رجالاً للزمان نعدَّهم طروساً وهم للمعضلاتِ سيوفُ
    تراهم ليوم اليأس والبأس عُدَّةً وجاهُهُم القاصدين منيفُ
    وكم فيهم من أهل ذوقٍ وفطنةٍ وفيهم لطيفُ ألمعي أو ظريفُ
    لقد أقشبت أقطارُ مصر لفقدهم وكان بهم روح الكمال قطيفُ
    نأوا وأقاموا بارح الحزن في الحشا فليس بديلاً تالدُ وطريفُ
    فشيعهم عقلي وفكري وفطنتي ولم يبقى من لبي لديَّ طفيفُ
    وناقصَ أمثالي صحيحٌ مضاعفٌ ومهموز حزني أجوفٌ ولفيفُ
    وقال يمدح بيروت وأدباءها وخصوصاً الشيخ ناصيف اليازجي:
    لقد قصدوا بيروتَ دارَ أعزَّةِ لهم تنتمي الآلاء في اللفظ والمعنى
    نزيلهمُ قد شكَّ في أصل دارهِ وصار يقين الأمر في علمه ظَّنا
    مدينة ظرفِ ما بها غير فاضلِ بسيم وسيم قد حوى الحُسنَ والحسنى
    تشد لهُ الألبابُ كل مطيةٍ مجرَّبة الإسعاف في كل ما عنَّا
    صغيرهُم في المجد سيّد غيره على أنّ ذاك الغيرَ قدوةُ من أثنى
    وما منهم إلا وقد شبَّ طوقهُ بنادي ناصيف اليازجي وقد أقنى
    مجيد المعاني وهو للقول حجَّةٌ لأهل النّهى كم قد أجاد لنا فنَّا
    ومن أقوال الزيلعي في المدح:
    بلغتَ مقاماً لم تنله الأوائلُ وخزتَ كمالاً لم تبتغيه الأفاضلُ
    ولستُ براءٍ غير فضلك يرتجي لكل مُلمٍ فيه تُدمى الصياقلُ
    ولولاك لك تدر العلوم بأنَّها تُجَلُّ وإن قد بانَ منها دلائلُ
    يطول لسان الفخرَ في فضلك الذي بنيتَ لهُ ركناً ليرجع ثاكلُ
    ويقصر باع الدهر عن وصف ماجدِ لهُ جُمعت في المكرمات الفضائلُ
    فيا لك من مجدٍ ويا لهُ من يدٍ تطول إذا مُدَّت وإن حال حائلُ
    وقال حمد محمود أفندي من قصيدة متشوقاً إلى أهل الفضل في بيروت:
    يا أهل بيروت إن لاقيتمُ كبدي فمتعوا جدركم من قبلُ بالخفرِ
    أكبادُ أهل الهوى حرَّى وما بردت ألاّ لترمي من الأشواق بالشررِ
    ودونكم حرَّ لي فهو رقكُم وارعوا ذمام شجٍ فيكم على سفرِ
    ما كتموه بألفاظ همُ غررُ ورابحٌ من شرى الألبابَ بالغُرَرِ
    وللشيخ حسن بن علي اللقاني الإسكندري يصف ديوان الشيخ ناصيف:
    بدائع ما فيها سوى السحر منطقٌ حلالٌ وفي أجناسها لا أدافعُ
    إذا جرَّ غوق الطرس سُمْر براعهِ تصافحهُ الآداب وهي رواكعُ
    وإن راح ينثي أو يكاتب صحبهُ فغرُّ معانيه الحسان تسارعُ
    كانَّ صرير السمر في روض طرسهِ غناء حمامٍ وهو بالشعر ساجعُ
    تآليفهُ قد فصحت في كل أعجم بليدٍ وكَم وَّلى بليغٌ وبارعُ
    لآلئ من زهر الربيع تناثرت علينا وفي منظموها السرُّ ذائعٍ
    لئن فاح في أرض الشام ثناؤه ففي مصرنا منهُ شذا الذكر ضائعُ
    (أدباء المسلمين في العراق) تذكر العراق في أواسط القرن التاسع عشر مفاخرة السابقة فأراد أن يحييها فنزل في حلبة الآداب وركض فيها جياد الألباب فنال قصبة السبق والغلاب. وهانحن نذكر الذين وقفنا على شيء من أخبارهم نقلاً عن مخطوطات مكتبتنا الشرقية وبعض المطبوعات النادرة مباشرة بالآلوسين والسويديين.
    (الآلوسيون) هم قرم من أدباء بغداد أحبوا العلوم والآداب فأوقفوا نفوسهم لخدمتها ونشروا معالمها في وطنهم. وأصلهم من آلوس أجدى قرى الفرات ثم انتقلوا إلى بغداد وامتازوا فيها بحسن الخصال. ولما كانت أواسط القرن التاسع عشر برز بينهم أولاد السيد صلاح الدين ابن السيد عبد الله الآلوسي. وكانوا ثلاثة رضعوا كلهم أفاويق الأدب وذهبوا في فنونه كل مذهب.
    وأولهم أبو الثناء شهاب الدين السيد محمود أفندي المعروف بالشهاب الآلوسي. ولد في بغداد في 14 شعبان سنة 1217 (1802م) وهناك توفي في 5 ذي القعدة سنة 1270 (1854م) كلف بالعلوم منذ حداثة سنه وبذل النفس والنفيس في إحراز جواهرها حتى أن رغبته في طلب المعارف شغلته عن حطام الدنيا وأنسته هناء العيش وملاذ الحياة وبزر بالعلوم الدينية فصار إماماً في التفسير والإفتاء وكان مع ذلك كاتباً بليغاً وخطيباً مصقعاً وفي 1262 (1845م) سافر برفقة عبدي باشا المشير إلى الوصل ثم إلى ماردين فديار بكر فأرزووم فسيواس فالأستانة العلية واجتمع حيث دخل بإعلام العلماء وأئمة الأدباء وكانوا يتهاتفون إليه ليقتبسوا من أنواره ويغرقوا من بحاره. ثم عاد إلى وطنه معززاً ممدحاً بكل لسان مشمولاً بألطاف الحضرة العلية السلطانية. وكان جلالة السلطان عبد المجيد منحه الوسام المرصع العالي الشأن. فلما عاد إلى وطنه سنة 1269 انقطع إلى التأليف. وفصل أخبار رحلته في عدة مصنفات منها كتابة رحلة الشمول في الذهاب إلى اسلامبول طبع في
    بغداد سنة 1291 واتبعه بكتاب نشوة المدام في العود إلى بلاد السلام ثم كتاب غرائب الاغتراب في الذهاب والإقامة والإياب ويدعى أيضاً بنزهة الألباب ضمه تراجم الرجال والأبحاث العلمية التي جرت بينه وبين حضرة السيد أحمد عارف حكمت بك شيخ الإسلام. وكان السيد محمود سريع الخاطر ونسيج وحده في قوة التحرير وسهولة الكتابة ومسارعة القلم قيل أنه كان لا يقصر تأليفه في اليوم والليلة عن أقل من ورقتين كبيرتين. وقد ألف كتباً عديدة في التفسير والفقه والمنطق والأدب واللغة كشرح السلم في المنطق. وكتاب كشف الطرة عن الغرة وهو شرح على درة الغواص للحريري. ومن تآليفه رسالة في الانسان. وله حاشية على شرح قطر الندى لابن هشام ألقها وعمره لا يتجاوز ثلاث عشرة سنة. وكتاب المقامات طبعه في كربلاء وكتاب التبيان في مسائل إيران وكتب أخرى غيرها. وكان له شعر قليل إلا أنه غاية في الرقة يذكر العراق في غربته:
    أهيمُ بآثار العراقِ وذكره وتغدو عيوني عن مسرَّتها عَبْرىَ
    وألثم إخفاقاً وطنَ ترابهُ وأكحلُ أجفاناً بتربته العَطْرَى
    وأسهر أرعى في الدياجي كواكباً تمرُّ إذا سارت على ساكني الزورا
    وانشقُ ريح الشرق عند هبوبها أداوي بها يا ميُّ مُهجتَي الحَرّا
    وقال في وصف بغداد وفراقه لها:
    أرضٌ إذا مرَّت بها ريحُ الصبا حملت من الأرجاء مسكاً أذفرا
    لا تسمعنَّ حديث أرضِ بعدها يُروى فكل الصيد في جوف الفرا
    فارقتها لا عن رضى هجرتها لا عن قلى ورحلتُ لا متخيَّرا
    لكنها ضاقت عليَّ برحبها لما رأيتُ بها الزمان تنكَّرا
    ومن حسن قوله وصفه لشاعر سهل الألفاظ بعيد المعاني:
    تتحَّيرُ الشعراء إن سمعوا به في حسن صنعته وفي تأليفه
    فكأنهُ في قربه من فهمهم وتقولهم في العجز عن ترصيفهِ
    شجرٌ بدا للعين حسنُ نباتهِ ونأى عن الأيدي حتى مقطوفهِ
    وقال مستغفراً وقد افتتح به كتاب مقاماته:
    أنا مذنبٌ أنا مجرمُ أنا خاطئ هو غافرٌ هو راحمُ هو عافي
    قابلتهنّ ثلاثةُ بثلاثةٍ وستغلبَن أوصافُهُ أوصافي
    وكانت وفاة الشهاب الآلوسي في السنة التي ذكرناها فرثاه قوم من الفضلاء كما مدحوه في حياته وقد جمعت تلك المدائح في كتاب حديقة الورود في مدائح أبي الثناء شهاب الدين محمود. وكان أولاده أغصاناً نضرة في تلك الدوحة الباسقة سنذكرهم في وقتهم. واشتهر في زمانه أخواه عبد الرحمان وعبد الحميد فعرف عبد الرحمان بفصاحة لسانه وخلابة أقواله في الخطابة والوعظ وكان يدرس العلوم الدينية في أكبر جوامع الكرخ إلى وفاته سنة 1284 (1867م) وعمره نحو ثلث وستين سنة.
    أما عبد الحميد الآلوسي فكان مكفوف البصر ولم تصده تلك العاهة عن طلب العلوم فأخذها عن أخيه السيد محمود الذي أجازه في المعقول منها والمنقول والفروع والأصول فجعل يدرس في مدرسة بغداد المعروفة بالنجيبية ويتقاطر لاستماعه الناس حتى علية القوم وفي مقدمتهم علي رضا باشا والي بغداد وله بعض مصنفات نثرية بليغة وقصائد غراء منها قصيدة في مدح أحد مشايخه العظام أولها:
    تنوحُ حماماتُ اللوح وأنوحُ وأكتمُ سرّي في الهوى وتبوحُ
    وتُعجم إن رامت أداءَ مرامها ولي منطق فيما أروم فصيحُ
    لها مقلةٌ عند التنائي قريرةٌ ولي مدمعٌ يوم الفراق سفوحُ
    إلى أن قال مادحاً:
    فتى كلُّه عفوٌ ولطفٌ وعفَّةٌ وعنْ زلَّة الشاني الحسود صفوحُ
    حليمٌ وهل كالحلم في المرء زينةٌ سموحٌ وذو الشان الجليل سموحُ
    وفارس فضلٍ لا يجازيه عارفٌ وأنى يجاري العاديات جموحُ
    يفوح بأفواه العدى نشرُ فضلهِ كما فاح نشراً في المجامر شيحُ
    لقد عطَّر الأرجاءَ منك الفضائلٌ فوصفك مسكُ في الأنام يفوحُ
    ومن نثره قوله يصف الأولياء:
    لقد فاز قوم عاملوا الله بالإخلاص والصدق، وعاملوا الناس بحفض الجناح وحفظ الوداد مع اللين الرفق، تحملوا من أجله ألم الأذى والمشاق، فأزالوا بأنوار شهود جماله عن بصائرهم حجب العوائق الإنسانية، وتحملوا إذا أذاقهم الورى مر المراء والشقاق، فأماط بعذوبة أنسه ووصاله عن رقابهم ربق العلائق النفسانية، أعرضوا عن الدنيا وأغرضوا في طلب الأخرى حيث علموا بأن الأولى والأحرى السعي في تقديم الباقية على الفانية. فانحلوا الأجسام بالصيام والقيام، لما أن حلا لهم شرب صافي المدام... فرضوا على نفوسهم القناعة والصبر، ورضوا عن هذه الدنيا بالقليل النزر. وراضوا زكي أنفسهم عن النفس جواهرها وأعراضها، ترفعوا عن الشكوى وتمسكوا بعرى التقوى، لأنها الركن الأوفى والسبب الأقوى، فانجابت عن قلوبهم غمائم آلامها وأمراضها...
    وكانت ولادة السيد عبد الحميد سنة 1232 (1817م) وطالت حياته ولم نقف على سنة وفاته.
    (السويديون) هم من أسرة فاضلة أصلها من سر من رأى أو سامرّا فانتقلوا إلى بغداد وعرفوا بين أكابر علمائها. منهم الشيخ أبو البركات عبد الله السويدي صاحب المؤلفات الأدبية العديدة كشرح دلائل الخيرات وكتاب مقامات بليغة والأمثال السائرة والرحلة المكية توفي سنة 1170 (1756م). ومنهم الشيخ أبو الخير عبد الرحمن زين الدين البغدادي السويدي ابن أبي البركات كان ذا باع طويل في العلوم الدينية واللسانية. ولد سنة 1134 وتوفي سنة 1200 (1722 - 1786م) فأرخه أخوه الشيخ أحمد السويدي بقوله من أبيات:
    وفارقنا فرداً فقلتُ مؤرخاً أبو الخير في أزكى الجنان نريلُ
    وكان الشيخ أحمد المذكور إماماً في التصوف وقد رد على الملحدين بكتاب سماه الصاعقة المحرقة في الرد على أهل الزندقة. توفي سنة 1210 وكان مولده سنة 1153 (1740 -1795).
    ومن السويديين الشيخ علي ابن الشيخ محمد سعيد السويدي المتوفى سنة 1237 (1822م) له كتاب في تاريخ بغداد وقد رثاه شاعر أبيات ختمها بهذا التاريخ: مذ وُسّد اللحدَ نادانا مؤرخهُ إنَّ المدارس تبكي عند فقد علي ومنهم أيضاً الشيخ أبو الفوز محمد أمين السويدي أحد كبار الكتبة في بغداد وله مؤلفات جليلة في عدة فنون منها كتاب سبائك الذهب في معرفة أنساب العرب الذي نشر بالطبع وقد مر لنا وصفه (المشرق 10 (1907): 566) وكتاب الجواهر واليواقيت في معرفة القبلة والمواقيت. وكتاب رد على الرافضة. ورسالة في الواجب والممكن. وله شرح تاريخ ابن كمال باشا مع نظم لطيف. كانت وفاته سنة 1246 (1830). واشتهر من السويديين في العهد الذي وصلنا إليه الملا نعمان السويدي ابن الشيخ محمد سعيد ابن أحمد وهو خاتمة السويديين توفي في رجب سنة 1279 (1863م).
    واشتهر بالآداب العربية في بغداد والعراق غير الآلوسيين والسويديين في أواسط القرن التاسع عشر بعض الأئمة. وها نحن نذكر منهم الذين أبقوا آثاراً من علمهم طبعاً أو خطاً على ترتيب سني وفاتهم.
    (البيتوشي) هو ابن محمد عبد الله بن محمد الكردي البيتوشي من كبار أدباء بلاده. ولد في بيتوش من قرى العراق سنة 1161 (1748) وجد في طلب العلم ثم تقدم بغداد طلباً لمعاش وارتحل منها إلى بلدة الاحساء فابتسم له الدهر وحسنت حاله واشتهر صيته وانقطع إلى التأليف في الصرف والنحو ونظم كتاب كفاية المعاني وشرحه وذيل شرح الفاكهي على قطر الندى لابن هشام. وله نظم حسن منه قوله متشوقاً إلى وطنه:
    ألا حيِّ بيتوشاً وأكنافَها التي يكاد يروّي الصادياتِ سرابُها
    بلادٌ بها حلَّ الشبابُ تماني وأوَّل أرضٍ مسَّ جلديَ ترابُها
    لقد كان لي منها عرينُ وكان من مقامي لي سُحب سُكُوب زُبابهُا
    ولم تشبُ لي إن يَنبُ يوماً بأهلهِ مكانُ ولم ينعق عليَّ غراُبها
    توفي البيتوشي سنة 1213 (1798). وكان الأحقَ بنا أن نذكرهُ في الأبواب السابقة فأثبتنا أخبارهُ هنا بقيَّة أفاضل العراق وكذا فعلنا بالشيخين الوارد ذكرهما.
    (الشيخ عثمان بن سند البصري الوائلي) أصلهٌُ من النجد فسكن البصرة وكان يتردَّد كثيراً إلى بغداد وأشتغل بفنون لسان العرب وكان لهُ في اللغة باع طويل وألف عدَّة تآليف مفيدة منها كتاب في تاريخ بغداد أرَّخ فيهِ ما وقع في زمانهِ من الوقائع وسماها مطالع السعود في بطيب أخبار الوالي داود وقد طبع مختصرهُ في بمبي سنة 1304. ومن تآليفهِ منظومة في علم الحساب ونظم قواعد الأعراب والأزهريةِ ومغني اللبيب. ولهُ رسائل أدبيَّة كفاكهة المسامر وقوَّة الناظر. ونسمات السحرَ وروضة الفكر. وكانت لهُ شهرة عظيمة في البصرة ونواحيها يُقبل كلامهُ جميع أهاليها. توفي سنة 1250 (1834).
    (الشيخ علاء الدين الموصلي) هو علاء الدين علي أفندي الموصلي واحد شيوخ شهاب الدين الوسني زاده. ذكرهُ في كتابهِ نزهة الألباب في غرائب الاغتراب وأثنى على آثارهِ الأدبيَّة لكنهُ ذمّ أخلاقهُ وضيق صدرهِ وجهلهُ بمداراة الناس قال:
    كان لا يدري مداراة الورى ومداراة الورى أمرٌ مهم
    وروى لهُ شعراً حسناً منهُ:
    لئن لم تشاهدني أخافِشُ أعينٍ فلي من عيون الفضل شاهد رؤيةِ
    وإن أنكرتني الحاسدون تجاهلاً كفانيَ عرفاني بقدري وقيمتي
    فأين لشمسِ الاستواء من السُّها وأين زلالُ من سرابِ بقيعةِ
    وليس الذي في الناس كالحي ميتٌ لفضلً وإفضالٍ فحيٌّ كمّيتِ
    وقوله:
    وزمانٍ عدَتْ على ليالهِ وقصَتْني قوادمي وجناحي
    ودعتني صروفهُ في شتات وعناء وخيبةٍ ونزاحِ
    لا لذئبٍ أتيتُهُ غير أنَّ ال فضل لم نلقَهُ قرينَ نجاحِ
    وإذا ما الصلاحُ فيكم فسادٌ ففسادي الذي لديكم صلاحي
    وكانت وفاته بالطاعون سنة 1243 (1827م) وأنشد قبل وفاتهِ:
    أسفي على فصلٍ قضيتُ ولم أكن أبصرتُ عارف حقهِ فيبينُ
    ومن العلوم الغامضاتِ ورمزها أملي قضيتُ وللفنونِ ديونُ
    وأخذتُ في كفني علوماً لم أجدْ مستودعاً هي في الدفين دفينُ
    (عبد الحميد الموصلي) هو عبد الحميد ابن الشيخ جواد الموصليّ الشهير بابن الصبّاغ أحد شعراء العراق الذين شرَّفوا تلك الأصقاع بآدابهم. وشعرهُ رقيق لكنّهُ مفرَّق لم يُجمع في ديوان. فمن قولهِ أبيات كتبها إلى الشاعر بطرس كرامة والتزم في كل صدورها وأعجازها تاريخاً المسنة المسيحيَّة 1844 إلا المصراع الأخير فجعلهُ الأخير هجرياً هذا مطلعهُ:
    بعثنا إليكم بنتَ رمز من الفكرِ دهاها جوًى أعطتْ بهِ خالصَ الشعرِ
    آمنتم صروع الدهر من قيد حادثِ شهدتم هلال الأفق من كامل الشهرِ
    ميامن ترعى بطرساً في كرامةِ إلى غاية الدنيا إلى أوحد الدهرِ
    هديتم بنور الرب بابّا فأرخوا هو الله لا ما زلَّ من مشرق الفجرِ
    فأجابهُ بطرس كرامة برسالة طويلة نظماً ونثراً أفتتحها بقولهِ:
    عشقتُكم من قبل لقياكُمُ وكلُّ معشوقٍ بما يوصفُ
    كالشمس لا تدركها مقلةٌ لكنَّها من نورها تعرفُ
    وقال الشيخ عبد الحميد يمدح شيخ ناصيف اليازجيّ من قصيدةِ:
    كبشُ الكتائب والكتاب وأنهُ بالنحر ينطحُ هامة ابن خروفِ
    متوقد الأفكار يوشك في الدُّجى يبدو لهُ المستورُ كالمكشوفِ
    فطنُ تمنطق بالفصاحةِ وارتدى جلبابَ علمِ النحو والتصريفِ
    إلى أن ختمها بقولهِ وفي البيت الأخير تاريخ السنتين الهجريَّة والمسيحيَّة (1264 - 1847):
    لا زال محفوفاً بحظٍ وافرٍ والخطُ مثل الخطَ بالتصحيفِ
    فيهِ صفا عبد الحميد مؤرخاً ناهيتُ نظمي في مديح نصيفِ
    ولهُ مخمساً لقصيدة الشيخ ناصيف المهملة فجعل تخميسهُ مهملاً كقصيدة الشيخ:
    عدوَ المرء أولادٌ ومالُ لو اسمهم أساودها صِلالُ
    أحاول طَولْهم وهو المحالُ لأهل الدهر آمالٌ طوالُ
    وأطماعٌ ولو طال الملالُ
    ومنها:
    مرور العُسر مرْمرَ كل حالٍ وأمرُ الله دمَّر كلّ حالٍ
    سرورك والهموم دلاءُ دالٍ كرورُ الدهر حوَّل كل حالٍ
    هو الدهر الدوام لهُ خالُ
    وكانت وفاة الشيخ عبد الحمد ابن الصبّاغ 1271 (1854) فرثاهُ الشيخ اليازجي بقصيدة جميلة استهلها بقولهِ:
    لا عين تشبت في الدنيا ولا أثرُ ما دام يطلع فيها الشمس والقمرُ
    إلى أن قال:
    قد كنت انتظر البشرى برؤيتهِ فجاءني بغير ما قد كنت أنتظرُ
    إن كان قد فات شهدُ الوصل منهُ فقد رضيت بالصبر لكن كيف أصطبرُ
    أحبُّ شيء لعيني حين أذكره دمعُ وأطيب شيء عندها السهرُ
    هذا الصديق الذي كانت مودَّتهُ كالكوثر العذب لا يغتالها كدرُ
    لا غرو أن أحزن الرواءَ مسرعهُ فحزنهُ فوقَ لبنانِ لهُ قدرُ
    فأستحسن أهل بغداد هذه المرثية وقرظّها السيد شهاب الدين العاويّ بأبيات منها:
    وافت فعرَّت بتأساء وتعزيةِ عليهما يَحسْد الأحياء مَنْ قُبروا
    وأرَّخها بقولهِ:
    أسديتَ سلوة محزونِ مؤَّرخةَ أسدى رثاء بهِ السلوان والعبرُ
    (عبد الجليل البصري) هو السيد عبد الجليل بن ياسين البصري ينتهي نسبهُ إلى علي ابن أبي طالب ولد في البصرة سنة 1190 (1776م) ثم أرتحل منها إلى الزبَّارة فسكنها حتى استولى عليها صاحب الدرعيَّة ابن السعود فسار إلى البحرين وسكن بها إلى سنة 1259 (1843م) ثم أستوطن الكويت وتوفي هناك سنة 1270 (1854م). وأشتهر عبد الحكيم بالحكم والكرم وكان ذا أدبِ وعلم كما يشهد عليهما ديوان شعرهِ الذي طُبع سنة 1300 (1883م) في بمبي (ص 280). وأوَّل نظمهِ قالها مؤرخاً مولد أبنهِ عبد الوهَّاب سنة 1211
    (1796):
    حمدتُ الله أسدى بفضلِ وآلاء تسامتْ أن تُضاهي
    كريمٌ مَنَّ فيمن أضحت رياضُ القلب مخضراً رباها
    وطاب العيشُ وانكشفت همومٌ كذاك النفس منتقياً عناها
    فيا من قد مَنتَ بغير منَ بمن ساد الورى فخراً وجاها
    أدمني فيهِ مسروراً دواماً وفيهِ العينُ قر بها كراها
    ووَفِقْهُ لما نرضي وجنَبْ هوى الأهواء وأحفظ من غواها
    وخيرُ الفالِ قد أرَّختُ لا بني بطلعتهِ بشيرُ السعد باها
    وقال على لسان فقير من أبناء السبيل طلب منهُ أبياتاً يرتزق بها:
    يا ماجداً ساد عن فضلِ وعن كرم وهمَّةِ بلغتْ هامَ السماك عُلا
    يا من إذا قصد الراجي مكارمهُ نال الأماني وبرَّا وافرّا عَجلا
    إنَّا قصدناك والآمال واثقة بأنَّ جودك ينفي فقر من نذُلا
    جئنا ظماءً وحسنُ الضنَ أوردنا إلى معاليكَ لا نبغي بها بَدَلا
    لقد أضرَّ بنا جورُ العُداة وما أودي بنا الدهر يا بؤس الذي فعلا
    عسرٌ وعُزبَةُ دارٍ ثم مسكنة وذلَّةٌ وفراق قاتلٌ وبَلا
    نشكو إلى الله هذا الحال ثم إلى ندبٍ جوادٍ يفيد القاصدَ الأملا
    عسى نصادف من حسناك مرحمةَ تكون رفداً لنا إذا نقطعُ السبلا
    وأغنم بذلك مناَّ خير أدعيةٍ يزفُّها قلبُ عافِ بات مبتهلاً
    لا زلت تولي جميلاً كلَّ ذي أملٍ في رفعةٍ ونعيمٍ دام متَّصلاً
    وله يذمُ آفاتٌ يضيقُ ويعدّد مساوئه:
    الغيظ آفاتٌ يضيقُ بها الفتى فإذا استطعتَ لهُ دفاعاً فأجهدِ
    منها حجابُ الذهن عن إدراكهِ أمراً تحاولهُ كأن لم يُعهدِ
    وبهِ يرى الفَطِنُ اللبيبُ كأنهُ ممَّا بهِ المعتوه أو كالأبلهِ
    وبهِ الحليم إلى الجهالة صائرٌ ويهدُ عنهُ بهِ منارَ السؤدُدِ
    وبهِ يُسئُ لدى الورى أخلاقهُ حتى يُقال لهُ لئيمُ المَحتْدِ
    لا يرعوي لصحيح قول نصيحة وبرى النَّصوح كعائبٍ ومفنّدِ
    من حَبَّ طَبّ بما تناولَ علمهُّ وأخو النباهة يقتدي بالمرشدِ
    وقد سبق لنا حكم السيد عبد الجليل البصري لبطرس كرامة على الشيخ صالح التميميّ وروينا أبياتاً من قصيدتهِ في مدح الشاعر النصراني فراجعها (ص 64) (الشيخ عبد الفتاح شوَّاف زاده) أخذ العلوم الأدبيَّة عن الشهاب الآلوسي حتى صار من الفضل الأدباء.
    صنَّف تعليقات على كتب عديدة وقد كتب ترجمة شيخهِ الآلوسيّ في جزأين كبيرين ودعاهُ حديقة الورود في ترجمة أبي الثناء شهاب الدين محمود وضمنَّهُ دقائق أدبيَّة ومسائل علميَّة. توفي سنة 1272 (1855م). وأشتهر بعدهُ أخوه عبد السلام ووضع تصانيف عديدة منها كتاب في المواضع وانتهى إليه علم الفقه والحديث. ولا نعرف سنة وفاتهِ.
    (السيد عبد الفتاح السافيّ) هو الشيخ محمَّد أمين الشهير بالواعظ. كان ذا خبرة تامَّة بالمسائل الشرعيَّة ونال من الفنّ الأدب بأوفر نصيب. وكان ماهراً في إنشاء الصكوك ودرَّس مدَّة في المدرسة الخاتونيَّة. وصنَّف عدَّة مصنَّفات كمنهاج الأبرار ونظم التوضيح وكان لهو النظم اللطيف منهُ قولهُ في مدح السيد محمود الآلوسيّ مخمساً:
    يا سائلي عن بحر علمٍ قد طما بعلومهِ يروي العطاش من الظماّ
    إن قلت صف لي نداك توسما إن الشهاب أبا الثناء لقد سما
    قدراً على أقرانهِ من أوْجِهَ
    سعد السعود ببابهِ متقاعداً والمشتري برحابهِ متعاقداً
    لا تنكرنَّ لأنسهِ يا جاحداً ما زارني إلاَّ حسبتُ عطارداً
    في الدار أمسى نازلاً من أوْجهِهِ
    وتوفي سنة 1273 (1856) فقال السَيد عبد الغفَّار الأخرس فيهِ رثاءَ ختمهُ بهذا التاريخ:
    بكى العلم والمعروف أرّخ كليهما بقبرٍ ثوى فيهِ الأمين محمَّدُ
    (السيد محمد سعيد) كان أبوهُ محمد أمين الشهير بالمدرّس يعلَم في بغداد العلوم اللسانيّة ووضع فيها بعض المصنَّفات فلمَّا توفي سنة 1236 (1821) خلفهُ أبنهُ السيد محمد وقلد عدَّة مناصب كالنيابة والإفتاء ثم أنفصل وبقي مشغولاً بالتدريس إلى سنة وفاتهِ 1273 (1857م) وتآليفهُ منها نحوية ومنها شرعية وصفهُ السيد نعمان أفندي الآلوسي بقولهِ: (إنهُ كان ذا تقوى وديانة وعفَّة وصيانة لا يغتاب أحداً ولا ينمُّ على أحد أبداً وكان بشع الخطّ حديد المزاج كثير الوسواس عيّ الكلام... وكان كثير الصدقات على اليتامى والأرامل).
    ولما مات رثاه السيد عبد الغفار الأخرس بقولهِ:
    في رحمةَ الله حلَّ شيخٌ وجَنَّةُ دارُها الخلودُ
    تفيض من صدرهِ علومٌ وقد طَمى بحرُها المديدُ
    ولم يزل ميَتاً وحياً من علمهِ الناسُ تستفيدُ
    سار إلى ربهِ غير فانٍ بالعزّ وهو العزيزُ الحميدُ
    ومذ توفاهُ قلتُ أرّخ مضى إلى رَبهِ سعيدُ
    (عبد الباقي العمري الفاروقيّ) هو أديب العراق عبد الباقي بن سليمان بن أحمد العُمَري الفاروقيّ الموصلي ولد في الموصل سنة 1204 (1789م) انتهت إليه رئاسة الشعر والأدب في وطنهِ. تغذَّى منذ صغرهِ لبان العلم. وأنتدبتهُ الحكومة السنيَّة وهو أبن عشرين إلى منصب كتخدا ووكيل الوالي فرافق القاسم باشا وعلي باشا إلى بغداد وقام بأعباء رتبتهِ أتمّ قيام وكذلك سار بالعساكر الشاهانيَّة إلى قبيلتي الزكرت والشمرت في النجف فقصَّ جناح الفتنة بينهما بحسن درايتها وعاد إلى بغداد مقروناً باليُمن والإسعاد ونال الحظوة من الدولة العلية. ثمَّ إلى الكتابة والآداب فشاع نثرهُ الرائق وشعرهُ الفائق فألف التآليف التي أحرز بها قصب السبق من مضمار أدباء العراق وفاز بين فصحائهم بالقدح المعّلى. وكانت وفاتهِ سنة 1278 (1861) قيل أنهُ أرَّخ نفسهُ في عام مماتهِ ببيتِ كتب على قبرهِ:
    بلسان يوجَدُ الله أرّخَ ذاقَ كأس المنون عبد الباقي
    أما تآليفهُ فكلُها ناطقة بفضلهِ وتوقّد فهمهِ منها ديوان أهلّة الأفكار في مغاني الابتكار وكتاب نزهة الدهر في تراجم فضلاء العصر وكتاب الباقيات الصالحات وكتاب نزهة الدنيا أودعهُ تراجم بعض رجال الموصل في القرن الثاني عشر والثالث عشر ولهُ ديوان شعر يسَمى بالترياق الفاروقي من منشآت الفاروقي طُبع مرَّة بمطبعة حسن أحمد الطوخي سنة 1287 بمصر في 336 صفحة ثم أعاد طبعهُ الشيخ عثمان الموصليّ بعد توسيع أبوابهِ
    وتكملتهِ سنة 1316 في 456 صفحة. وهانحن نذكر بعض نتفِ من شعرهِ تنويهّا بعلوّ مقامهِ في الآداب قال يؤرَخ جلوس السلطان عبد العزيز وأجاد:
    للتِلغراف الفضلُ إذ جاءنا يقولُ بشاركم بلفظٍ وجيزْ
    قد أحرزتْ ملَّتكم أرّخوا هزَّا بظلَ الله عبد العزيزْ
    وقال في التشبيه:
    كأنْ ضوءَ البدر في دجلةَ حين يشرقُ
    والموجُ في أثنائهِ منهُ العُبابُ يخفقُ
    قراضةٌ من ذهب طفا عليها الزئبقُ
    وقال في فتح الدولة العلية لحصن سيوستبول مع دولتين الفرنسوية والإنكليزية:
    أقول المدُّوَل المنصورِ عكرُها لا زال عكرها بالله منصورا
    لما اتفقتم على صدق المحبَّة في ما بينكم واتحدتم صرتمُ سُورا
    بسطوة دعت الأطوادَ راجفةً دّمرتمُ محصنات الروس تدميرا
    مدافعٌ غطّتِ الدنيا غمائمها فغادرت صبح يوم الحرب دبجورا
    أفواهُها دامتَ المنار ألسنةُ فقررت دَرس ملك الروس تقريرا
    رعدٌ وبرقٌ وغيمٌ من سدىً ولظىً ومن دخان أعاد الكون ممطورا
    اقلُّهم فرَّ لما فرَ أكثرهم لكونهِ بات مقتولاً ومأسورا
    والسيف غنَّى على هاماتهم طرباً حتى حسبناهُ فوق الغصن شحرورا
    غادرتمُ البر بحرا يستفيض دماً والبحر براً على الأشلاء معبورا
    سبوَسْبتول التي أعيتْ معاقُلها سخّرتم حصنَها أرختُ تسخيرا (1271ه)
    وله مشطرا أبياتاً منسوبة لأبي نصر الفارابي الفيلسوف الشهير:
    (كمّلْ حقيقتك التي لم تكمل) وعن ارتكاب النقص كُن في معزلِ
    وابغ لنفسك ما ترقيها بهِ (والجسمَ دَعهُ في الحضيض الأسفل)
    (أتكملُ الفاني وتترك باقياً) تكميلُهُ أولى بحقِّ الأكْملِ
    فهو الذي لا ينبغي لك تركهُ (هملاً وأنت بأمرهِ لم تحفلِ)
    (فالجسمُ للنفس النفسية آلهُ) تقضي المرامَ بها إذا لم تكسلِ
    ولكم عليها من حقوقٍ للعلا (ما لم تحصلها بهِ لم تُحصلِ)
    (يفني وتَبْقَى دائماً في غبطةٍ) إن فارقَتْهُ ودولةٍ لم تنقلِ
    وسعادة أبديةٍ لا تنقضي (أو شقوةٍ وندامةٍ لا تنجلي)
    (أعطيتَ جسمك خادماً فخَدمْتَهُ) وأحَلْتْ حكم معزّز لمذلّلِ
    وجعلتَ من هو فوقهُ من دونهِ (أتُمَلّك المفضولَ رقّ الأفضلِ)
    (شركٌ كثيفٌ أنتَ في حَبلاته) قيد الحياة أسير قيد مُثقل
    منهُ وأنت بهِ بأيَّةٍ حياة (مادام يمكنك الخلاصُ فعجّلِ)
    (من يستطيع بلوغَ أعلى منزل) متدرجاً فوق السماك الأعزلِ
    ويرى الثريَّا تحت أخمص رجلهِ (ما بالهُ يرضى بأدنى منزلِ)
    ولعبد الباقي الفاروقي مع أدباء زمانه مراسلات لطيفة فمدحوه ومدهم بقصائد لا تحصى لا يسعنا ذكرها وكثير منها يتضمن الطرف المستطرفة ونكتفي بذكر بض أبيات قالها في تقريظ مقامات مجمع البحرين للشيخ ناصيف اليازجي أولها:
    غُرَرٌ أم دُرَرٌ مكنونةٌ في عُباب البحر بين الصَّدَفَيْنْ
    إلى أن قال:
    قد أتَتْني تتقاضى دَيْنَها فوفتْ للمجد عني كل دَيْنْ
    بمزاياها العقولُ ارتسمتْ فمحتْ عن عين عقلي كل غَينْ
    وتجلَّت صُور العلم بها فجلت عن كل قلبٍ كلّ رَينْ
    وعلى الإحسان والحسن معاً طُبعت والطبع مشغوفٌ بذَينْ
    رحتُ من راحةٍ معناها ومن روح مبناها حليفُ النَّشأتَينْ
    يا لسفرِ لسفَرتْ ألفاظُها بين أفَقْية سفورَ النيّرَينْ
    يا لهُ قاموس فضلٍ قد طوى مجمع البحرين بين الدفَّتَينْ
    وكان مدحه سنة 1264 (1848) بقصيدة بائية يقول فيها:
    أبلى النوى جسدي النحيفَ كأنَّني قلمٌ بدا بيدَيْ نصيف الكاتبِ
    حَبرٌ حلا في حِبرهِ قرطاسُهُ كالتبر لمَّا لاح فوقَ ترائبِ
    فسطورهُ وطروسهُ في حسنها حاكت سماءً زُينت بكواكبٍ
    وختمها بقوله:
    لو قمتُ طول الدهر أنشد مدحهُ بين الأنام فلم أقُم بالواجبِ
    وبمدحهِ العُمَريُّ آبَ مؤرخاً ترتيب مدحي في نصيفِ الكاتبِ
    فقال الشيخ ناصيف يجيبه بقصيدةٍ من البحر والقافية:
    أحسنتَ في قول وفعلٍ بارعاً وكلاهما للنفسِ أكبرُ جاذبِ
    أنتَ الذي نال الكمال موفَّقاً من رازق من شاءَ غير محاسبِ
    فإذا نظمت فأنتَ أبلغ شاعرٍ وإذا نثرتَ فأنت أفصح خاطبِ
    وإذا نظرتَ فعن شهابِ ثاقبٍ وإذا فكرت فعن حسامٍ قاضبِ
    هذا رسولٌ لي إليك وليتني كنتُ الرسولَ لها بمعرض نائبِ
    ومن أقوال الفاروقي وصفه للتلغراف:
    خطّ التلغراف حروفُ جرّ يجيءُ بها من الغور البعيدِ
    ويلفظها بغير فمٍ ولكن بالسنةٍ حدادٍ من حديدٍ
    هذا وقد أشرنا سابقاً إلى قصيدته الخالية التي عارض بها خالية بطرس كرامة تجدها في ديوانه (ص247 - 243) من الطبعة الجديدة فدارت بسببها المراسلات بين الشاعرين. وقد هنأه بطرس كرامة برتبته الكتخداوية بقصيدة مطولة يقول فيها:
    الشاعر الفرد الذي أهدى لنا دُرَر البُحور نُظْمنَ في الأوراقِ
    درٌّ بجيدك أم حباك قلائداً من شعرهِ العُمَريُّ عبد الباقي
    جمعَ الفصاحة بالبلاغة مثلما قرن الحجى بمحاسن الأخلاقِ
    وممن خدموا الآداب بين العراقيين غير المذكورين بعض أهل الفضل ممن لم نعلم من أحوالهم إلا النزر القليل فنثبت هنا أسماءهم تتمة للفائدة فمنهم (الشيخ يحيي المروزي العمادي) أصله من العمادية من قرى الأكراد قرب الموصل برز في التدريس وصار عليه المعول في مذهب الأمام إدريس وكان أحد مشايخ الشهاب الآلوسي الذي أثنى على زهده وعلو في نفسه وخصه ببيتين قيلا في الشافعي:
    عليَّ ثيابٌ لو يُباعُ جميعها بفلسِ لكان الفلسُ منهنَّ أكثرا
    وفيهنَّ نفسٌ لو تُباع بمثلها نفوس الورى كانت أعزَّ وأكبرا
    توفي الشيخ العمادي سنة 1250 (1834). ومنهم (الشيخ أحمد بن علي بن مشرف) كان أصله من نجد فأنتقل إلى العراق وطار صيته فيها ومات بعد السنة 1250 وكان أعمى يحسن نظم الشعر فمن قوله في المدح ما أنشد في آل مقرن:
    ومهما ذكرنا الحيَّ من آل مقرنٍ تهلَّل وجهُ الفخر وأبتسم المجدُ
    همُ نصروا الإسلام بالبيض والقنا فهم العدى حنفٌ وهم الهدى جندُ
    غطارفة ما أن يُنال فخارهم ومعشرُ صدقٍ فيهم الحدُّ والجدُّ
    ومنهم (عبد الغني بن الجميل) هو عبد الغني أفندي الشهير بابن جميل. ولد سنة 1194 (1780) وأتقن الفنون العربية واتسع سائر العلوم. ورحل مراراً إلى دمشق الشام وصاحب فضلاءها كالشيخ عبد الرحمن الكزبري والشيخ حامد العطار حتى فوض إليه رضا باشا إفتاء الحنفية في بغداد ثم أصيب ببعض الآفات والبلايا وتوفي ابن جميل سنة 1279 (1862) وله شعر طيب كله في الحماسة فمن ذلك قوله:
    أيذهب عمري هكذا بين معشرٍ مجالسهم عاقَ الكريم حاولُها
    وأبقى وحيدا لا أرى ذا مودَّة من الناس لا عاش الزمانَ مَلولُها
    وكيف أرى بغداد للحرّ منزلاً إذا كان مَفريُّ الأديمِ نزيلُها
    فما منزلٌ فيهِ العداءٌ بمنزلٍ وفي الأرض للحرّ الكريم بديُلها
    ومنهم (محمد الأخفش) هو محمد سعيد أفندي البغدادي الشهير بالأخفش. قرأ على العلامة الآلوسي وشرح الألفية في النحو للإمام السيوطي. وكان محباً للآداب وله شعر حسن أخذته يد التلف وكان كثير المزاح واللطائف توفي سنة نيف وثمانين بعد المائتين والألف (1863). ومنهم الشيخ جمال الدين الكواز كان أصله من الحلة ويرتزق بحرفة الكوازة إلا أنه كان مشغوفاً بالآداب خفيف الروح حسن المحاضرة وله شعر كله في الغزليات وقيل انه نظم الشعر قبل البلوغ. توفي في الحلة سنة 1279 (1862).
    ومنهم (الشيخ عيسى البندبيجي) هو أبو الهدى عيسى أفندي صفاء الدين البندبيجي أصله من بندبيج على حدود بلاد العجم فسكن بغداد ودرس العلوم اللسانية والفقهية والأدبية حتى أشتهر فيها وكأن ذا تقوى وصلاح ودرس زمناً في مدرسة داود باشا وجعل رئيس المدرسين. ومن تآليفه كتاب تراجم من دفن في بغداد وضواحيها توفي سنة 1283 (1876).
    (أدباء المغرب) أن أخبار المغرب تكاد تكون مجهولة في أصقاعنا فدونك النزر القليل الذي أمكنا جمعه في تراجم أدباء تلك الجهات.
    (سليمان الحرائري) هو أبو الربيع عبده سليمان بن علي الحرائري الحسني ولد في تونس سنة 1241 (1824) وأصله من أسرة قديمة قدمت من العجم إلى المغرب فدرس العلوم الدينية في وطنه ثم تفرغ لدرس اللغة الفرنسوية والعلوم الرياضية والطبيعيات والطب. وعهد عليه تدريس الرياضيات في بلده وعمره 15 سنة ثم أتخذ بأي تونس كرئيس لكتاب ديوانه.
    وفي سنة 1846 قدم إلى باريس فصار أحد أساتذة مدرسة لغاتها الشرقية وكان يحرر في جريدة عربية هناك تدعى البرجيس. ونشر فيها قسماً من سيرة عنترة وكتاب قلائد العقيان للفتح بن خاقان ثم طبعهما على حدة. ومما طبعه في تونس كتاب مقامات الشيخ أحمد بن محمد الشهير بابن المعظم أحد أدباء القرن الثالث عشر للمسيح. ووصف معرض باريس سنة 1867 في كتاب سماه عرض البضائع العام. وله رسالة في القهوة دعاها (بالقول المحقق في تحريم البن المحرق) وعرب الأصول النحوية للغوي الفرنسوي لومون وكذلك وضع كتاباً في الطبيعيات والظواهر الجوية لخصه عن كتب الفرنج وسماه رسالة في حوادث الجو وطبعه سنة 1862 في باريس. ولا نعرف تاريخ وفاة الحرائري ولعله مات بعد سنة 1870 إلا أن تآليفه كلها قبل هذا العهد.
    (محمد التونسي) هو محمد بن عمر بن سليمان التونسي ولد سنة 1204 (1789م) وتخرج على شيوخ الأزهر في مصر ثم سافر إلى درفور والسودان وكتب تفاصيل رحلته في كتاب دعاه: كتاب تشحيذ الأذهان بسيرة بلا العرب والسودان. وقد طبعت هذه الرحلة على الحجر في باريس سنة 1850 بهمة المستشرق الفرنسوي بارون الذي نقل مضامينها إلى الفرنسوية وذيلها بالحواشي. ولما عاد التونسي من رحلته خدم الآداب في مطبعة بولاق فتولى تصحيح مطبوعاتها توفي سنة 1274 (1857).
    (محمود قبادو) هو الشيخ السيد أبو الثاء محمود قبادو الشريف. كلف بإحراز الآداب فنال منها نصيباً وافراً. وكانت له ذاكرة عجيبة لا ينسى شيئاً مما سمعه قيل انه سمع يوماً رسالة افرنسية وهو لا يعرف تلك اللغة فأعادها بحرفها. وكان متضلعاً بكل علوم العرب لكنه برز في الشعر وكان يقوله بديهاً. وله ديوان شعر في جزأين جمعه تلميذ الشيخ عبده محمد السنوسي فطبعه في تونس (1293 - 1296). توفي السيد محمود ولم يدرك الخمسين من عمره نحو السنة 1288 (1780). وكان بينه وبين الكنت رشيد الدحداح صداقة ومراسلات. وقد روى له الشيخ رشيد بعض الآثار الدالة على فضله من ذلك تشطيره لقصيدة بشر بن عوانة في مبارزة الأسد بعد أن أفتتحها بأبيات حسنة يقول فيها:
    أفاطمَ هل علمت مضاء عزمي ومطمح هّمتي نخواً وكبرا
    وَجُود يدي وإقدامي وبأسي ولا أعصي لباغي العُرف أمرا
    تلين لمن يسالمني قناتي وتصلب أن يرم ذو الغمز هَصرا
    وأني لا أعدُّ الوفرَ ذُخراً ولكني أعدُّ الذكر ذخرا
    ثم يليها التشطير الذي هذا أوله:
    (أفاطمَ لو شهدتِ لبطن خبتٍ) لهانت عندك الأخبارُ خُبْرا
    ولو أشرفتِ في جنحٍ عليهِ (وقد لاق الهزَبْرُ أخاك بشرا)
    (إذاً لرأيتِ ليثاً رام ليثاً) وكلُّ منهما بأخيهِ مُغْري
    يرى كلٌّ على كل ثقة أخاهُ (هزبراً أغلباً لا في هزبرا)
    فكاد يربيهُ فيخال مني (محاذرةً فقلتُ عُقِرْتَ مهراً)...
    ومن نظمه قصيدة دالية قالها تهنئة للسلطان عبد المجيد سنة 1276 (1856) ضمنها عدداً وافر من التواريخ وتفنن فيها على طرائق عجيبة. ومن مديحه قوله في الكنت رشيد:
    فيا مخبراً لاحت بمرآة طبعهِ خبايا طباع الدهر فهي لهُ تبدو
    بقيتَ رشيداً طبق وسمك مرشداً يُهيأ من كل الأمور لك الرشدُ
    أدباء النصارى
    نذكر الذين اشتهروا من النصارى بخدمة الآداب العربية في هذا الطور مدونين أسماءهم على توالي الزمان.
    (جبرائيل المخلع) هو جبرائيل بن يوسف المخلع ولد في دمشق في أواخر القرن الثامن عشر وتفقه في العلوم العربية والتركية والفارسية ثم سافر إلى مصر وبقي فيها مدة يتنقل في دواوين الإنشاء في الإسكندرية ثم عاد إلى دمشق ومات نحو السنة 1851. ومن مآثره ترجمة كتاب شهير عند العجم يسمى الجلستان أي روضة الورد لصلاح الدين السعدي. عربه تعريباً متقناً بالنظم الرائق والنثر المسجع المنسجم ثم طبعه سنة 1846 في بولاق. وهذا مثال من ترجمته (ص84): (حكاية) نظرت أعرابياً في حلقة الجوهرية بالبصرة، وهو يقول: اسمعوا يا ذوي النقد والخبرة، كنت ضللت في الصحراء طريق الجواز، ولم يبقى معي من معنى الزاد ولا المجاز، فأيقنت بالهلاك، وسمحت له بالفؤاد إذ ذاك، فبينما أنا في البيداء اقتضى الضر، وإذا بي وجدت كيساً ممتلئاً بالدر، فلا أنسى ما علاني من الفرح والمسرة، إذ توهمت أن أجد قمحاً مقلياً في تلك الصرة، فلما تحققت فيه وعاينت الدر والملس، دهشت من الفم الذي لا يبرح عن الفكر بحلول الياس.
    في يابس البيد أو حرّ الرمال فما لظامئ القلب يُغني الماسُ والصَّدَفُ
    العادم الزاد إذ تهوى بهِ قدمٌ لهُ استوى الذهبُ المكنوزُ والخزفُ
    (حكاية) كان بعض العرب يُنشد من شدَّة الظمأ، وقد علا عليه حرُ البادية وحَمَى:
    يا ليت قبل منيَّتي يوماً أفوزُ بمُنيتي
    نهراً يُلاطم ركبتي وأظلُ أملا قُربتي
    (حكاية) كذلك ظلَّ في قاع البسيطة بعض السفَّار، ولم يبقَ معهُ قوتٌ ولا قوة اقتدار، ما خلا يسراً من الدراهم قد ادَّخره في وسطِه ولم ينفقه في الضيق، ولا اهتدى بعد أن طاف كثيراً إلى الطريق، فهلك بالمشقَة، وبعد المشقَّة، فمرَّ عليه طائفة من الناس، فوجدوه قد وضع الدراهم عند الرأس، وخط على التراب من عدم القرطاس:
    جميعُ نُضار الجعفريّ لمن خلا عن الزادِ لا يغنيه شيئاً من الضرِ
    ومن يحترق في الفقر فقراً فأنهُ لهُ السلجمُ المطبوخُ خيرٌ من التبرِ
    وفي تقريظ ترجمة هذا الكتاب قال شهاب الدين الشاعر المصري:
    كواكبٌ أشرقتْ تزهو بأنوارِ أم لاح لي روضُ أزهار وأنوارِ
    كلاّ بل الألمعيُّ اللوذعيُّ بدا منهُ بدائعُ أسجاعِ وأشعارِ
    زهتْ معاني جُلِستانَ البديعةُ في ما صاغِ من عربيّ اللفظِ للداري
    لا غرو أن جاءَ جبريلُ الكريمُ بما مقرؤهُ حيثُ يُتلى يعجب القاري
    معرَّب عبَّرت عنهُ براعتهُ عبارةٌ أظهرتهُ أي إظهارِ
    منثورهُ دررٌ في سمطهِ نُظمت نظماً بلاغتهُ جاءَت بأسرارِ
    وإذ زها حسنهُ بالطبع مبتهجاً أرَّختُ أزهى بهيجٌ روضَ أزهارِ
    (مارون النقاش) هو مارون بن الياس بن مخائيل النقاش ولد في صيدا سنة 1817 ثم انتقل مع والده إلى بيروت وانكب على دروس اللغات والآداب العربية حتى حذق فيها واخذ عن المرسلين اللاتينيين مبادئ اللغتين الفرنسوية والإيطالية. وكان مارون مع سعة علمه فاضلا تقياً متشبثاً بالدين مثابراً على تعاليمه وقد جعلتهُ الحكومة السنية باشكاتباً لدواوين (كمارك) بيروت وملحقاتها. ثم تجول مدة في القطر المصري وأجتمع بأدبائه ثم ساح في أنحاء أوربا ورجع مغرى بفن التمثيل فعرَّب عدة روايات وسعى بتشخيصها وكان أول من مهد الطريق لهذا الصنف من الملاهي في هذه البلاد. وقد طبع بعد وفاته أخوه نقولا المحامي الشهير قسماً من رواياتهِ في كتاب سماهُ أرزة لبنان يحتوي روايات البخيل والمغفل والحسود حذا فيها مارون حذوَ الرواية موليار الفرنسوي وأودعها كثيراً من العادات الشرقية. وجارهّ في عملهِ أخوهّ نقولا المذكور وسليم ابن أخيهِ خليل فراجت بذلك سوق الروايات ويا ليتها كسدت مع كثرة مضارها وقلة من يراعون فيها الأدب الصالحة. ثم سافر مارون النقاش إلى طرسوس المتاجرة وفيها كانت وفاتهّ سنة 1855 فقال أخوهّ نقولا يرثيهِ:
    بدرٌ هوى لا بل ذوى غصنٌ وذا مرقدُهُ
    نقّاشُ علمِ سيد الع لم ارتضى يسعدهُ
    يا رحمة المولي على ماروننا تعضدُهُ
    ويصبُ هاطل غيتها أرخ وتغمدهُ
    ثم نقلت بعد ذلك رفات المرحوم إلى بيروت ودفنت فيها سنة 1856 فقال شقيقه:
    ناديتُ مذ عاد سؤلي منتهى الأملِ طرسوسُ لا ناقتي فيها ولا جملي
    عودا كبدرٍ تولاّهُ الخسوف لذا ها قد أرختُ سناهُ غير مكتملِ
    وكان مارون صديقا للشيخ ناصيف اليازجي يتناوبان على الرسالات الودية الأدبية منها رسالة وجهها الشيخ ناصيف إلى مارون إذ كان في طرسوس أولها:
    ماذا الوقوف على رسوم المنزل هيهات لا يجدي وقوفك فارحلِ
    قال فيها:
    يا أيها النحريرُ جهبذَ عصرهِ مالي أبثُّك علم ما لم تجهلِ
    إنَّ المقّدم للحكيم إفادةً كمقدمِ للشمس ضوءَ المشعلِ
    بَعُدَ المزارُ على مشوقٍ لم يكن يشفى عن قرب المزار الأولِ
    وختمها بقوله:
    إن كان قد بَعُدَ اللقاء لعلةِ فابعث إلي بأبهة المتعللِ
    فأجابه مارون بما مطلعهُ:
    وردت إلي من المقام الأفضلِ غرثى الوشاح من الطراز الأولِ
    إلى أن قال:
    يا من ذا سمح الزمان بنعمةِ أبقاك نورا في الظلام لينجلي
    كلُّ الرجال إذا مضوا يُرجى لهم بدلٌ سواك فلست بالمُستَبدَلِ
    جاريتَني فقصرتُ دونك همَّة حتى عجزتُ فقد يحقُ العُذر لي
    إنَّ الضعيف مقيَّداً بلسانهِ مثلُ الأسيرِ مقيَّداً بالأرجلِ
    فلما نعي إلى الشيخ صديقهُ بعد أشهر نظم في رثائه قصيدتين من أجود مراثيه قال في الواحدة:
    مات الحبيبُ الذي مات السرور بهِ من القلوبِ وعاش الحُزن والضَرَمُ
    قد كنت اشكر بعاد الدار من قِدَمِ فحبّذا اليوم ذاك البعد والقدَمُ
    ومنها:
    أيُ الفضائل ليست فيك كاملةً وأيُ عيبٍ تراهُ فيك يُتَّهمُ
    فيك التُقى والنقا والعلم مجتمعٌ والحلم والحزم والإحسان والكرمُ
    نرثيك بالشعر يا نقّاشَ بردتهِ والشعرُ يرثيك حتى تنفذ الكلمُ
    تبكي عليك القوافي والمحابر وال أقلام والصحفُ والآراء والهَممُ
    وكلُّ ديوان شعرٍ كنت تنظمهُ وكلَ ديوانِ قومٍ فيكَ ينتظمُ
    وفي ختامها:
    إن كنت قد سرت عن دار الفناء فقد نلتَ البقا حيث لا شيبٌ ولا هرمُ
    إن السعيد الذي كانت عواقبهُ بالخير في طاعة الرحمان تُختَتَمُ
    ومما قال في المرثاة الثانية:
    الموت يختار النفيس لنفسهِ منا كما نختار نحن فما اعتدى
    وقد نال منّا درة مكنونة كانت لبهجتها الدراري حُسَدا
    كنزٌ ذخرناه لنا فاغتالهُ لصُ المنية خاطفاً متمردا
    وختمها بهذا التاريخ:
    لو غبت عن نظر فقد خلّفت بالت اريخ ذكراً في القلوب مخلّدا
    وكذلك رثاه الشاعر المفلق أسعد طراد بقصيدة طنانة أولها:
    دهرٌ يغرُ فخذ من دهرك الخورا أما تراه بربك العجب والعبرا
    وختمها بتاريخ هذا منطوقه:
    لو غاب قُلْ في السما تاريخهُ سيُرى فإنهُ في نعيم الله قد حضرا
    ولمارون النقاش ما خلا رواياتهِ قصائد متفرقة وفقرات ورسائل جمع أخوه قسماً منها في أخر كتاب أرزة لبنان منها منظومة في نحو مأتي بيت علم العروض والقوافي. ومن نظمه قصيدة قالها في الشاعر الفرنسوي دي لامرتين لما الربوع السورية دعاها كوكب المغرب.
    ومنها أيضا قصيدة تهنئة رفعها إلى سعيد باشا خديوي مصر سنة 1270 (1853) أولها:
    لِسعد سُعود مَن سلفوا حدودُ وسعدُ سعيد مصرَ لهُ خلودُ
    أتاه النيلَ معترفاً بفضلٍ لهُ إذ فاضَ من كفيهِ جودُ
    فهذا حكمهُ مدٌّ وجزرٌ وهذا حلمهُ طامٍ مديدُ
    فقد بلغت مناقبهُ كمالا ومهما ازداد مدحاً لا يزيدُ
    وكتب من الإسكندرية مجيبا على قصيدة لخوري يوسف الفاخوري معلمه:
    هل هلال هلَّ أم أهلُ الكرمْ نثروا التبر على خط القلمْ
    إلى أن قال:
    أي أبي الروحي ولو لا لائمي قلتُ من يشبهْ أباه ما ظلمْ
    فهو بحر نلت من فيضانهِ وأنا تلميذ ذيَّاك العلَمْ
    مخزنُ العلم وفي تدريسهِ معدن الحلم وكليُّ الهممْ
    قد كساني ثوب تعليم بما فتح الله عليه وقسمْ
    لست أنسى جودهُ حاشا ولم أنسَ أياماً تقضَّت في نعمْ
    وللمرحوم عدة تواريخ منها تاريخ على لسان أسعد ابن أخيه حبيب ومات صغيراً سنة 1842:
    إني هلالٌ قد دنوتُ من الثرى قبل أن أتمَّ فهكذا ربي أمرْ
    لكن لعمري لم أغب عن منزلي إلاّ لأشرق في النعيم كما القمر
    وكما روى النقاش نَقش تأريخي لأفوز أسعد بالسعادة عن صغر (1842)
    ومنها قوله مؤرخا لوفاة البطريرك يوسف الخازن وارتقاء خلفه غبطة السيد بولس مسعد سنة 1854:
    في أفق كرسي إنطاكية عجبٌ بدرٌ توارى وبدرٌ فوق سدَّتهِ
    إن غاب ذاك وأضناناً بعيبتهِ فناب هذا وأشفانا بنوبتهِ
    دعا الإله لذاك المرتضي خلفاً أرَّخت بولس مختارٌ لدعوتهِ (1854)
    (إبراهيم بك النجار) وهو المعروف بإبراهيم أفندي ولد في دير القمر سنة 1822 كان رجلاً هماماَ محباَ للآداب منذ نعومة أظفارهِ فلما قدم لبنان الدكتور الفرنسوي كاوط بك رئيس أطباء العساكر المصرية سنة 1837 نال من محمد علي باشا بأن يدخله مع غيره من السوريين في مدرسة القصر العيني في مصر فتلقى فيها الدروس الطبية ونال الشهادة المؤذنة ببراعته سنة 1842 ثم سافر إلى الأستانة العلية ودرس على أساتذتها المتطببين وبقي مدة هناك يتعاطى مهنته فأصاب شهرة عظيمة حتى عينته الدولة العلية كطبيب أول للعساكر الشاهانية في مارستان بيروت العسكري. وفي سنة 1846 تجول في أنحاء أوروبة وطبع مرسيلية سنة 1850 كتابه (هدية الأحباب وهداية الطلاب) في المواليد الثلاثة وملخص العلوم الطبيعية ثم عاد إلى بيروت ومعه أدوات طبعية فأنسأ مطبعته الشرقية (أطلب المشرق 3 (1900): 1032) نشر فيها تاريخ رحلته إلى مصر وأعقبها بتاريخ السلاطين العظام (سنة 1272 - 1275ه - 1855 - 1858م) وسماه مصباح الساري ونزهة القاري فقرضه مفتي زاده السيد محمد مفتي بيروت بقوله:
    جزا الله المؤَلفَ كلّ خيرٍ لهذا العقد في جيد الحسانِ
    أمصباحٌ بدا أم بدرُ سارٍ بأفق سما البلاغة والمعاني
    ومن حسن مساعي إبراهيم بك إنه عني باستجلاب أدوات الطباعة لدير طاميش سنة 1855 كما ذكرنا سابقا (المشرق 4 (1901): 473). وكان للمترجم شعرٌ قليل منه قوله في مدح السلطان عبد المجيد:
    ملكٌ أضاء على الأنام بسبعةٍ أحيا الزمان بها فمات الحُسَدُ
    حزمٌ وعدلٌ رحمةٌ وطلاقةٌ حلمٌ وبذلٌ غيرةٌ لا تُجحَدُ
    دانت لباب جلاله أمم الورى فغدت بشوكته تسرُّ وتسعدُ
    خضع السدادُ لحزمهِ وبعزمهِ هزم العدى بالسيف حيث يُجَردُ
    فإذا الخطوبُ تجمَّعت قاتلوا لها عبدُ المجيد فإنها تتبدَّدُ
    وإذا تصوَّر في الدجنَّة ذاتهُ لاح الصباح ونوره يتوقَّدُ
    وتوفي إبراهيم بك بعز كهولته في 12 أيلول 1864. وكان المذكور قليل الدين في حياته إلا أنه قبل وفاته أنعم الله عليه بالارتداد إلى التوبة على يد المرحوم الخوري جرجس فرج فقال الشيخ ناصيف اليازجي يرثيه:
    ضاق الرثا بنا من فرط ما اتَّسما كالماء طال عليه الورد فانقطعا
    ومنها:
    قد كان في طبّهِ للناس منفعةٌ فإذا أتى الموت ذاك الطبُّ ما نفعا
    وكان يبري من الناس الجراحَ فهل يبري جراح فؤادِ بعده انصدعا
    سارت إلى الله تلك النفس تاركةُ جسما يرى في تراب الأرض مضطجعاً
    كلُّ إلى أصلهِ قد عاد منقلباً فانحطّ هذا وهذا طار مرتفعا
    (طنوس الشدياق) هو الشيخ طنوس بن يوسف بن منصور الشدياق ولد في أوائل القرن التاسع عشر في الحدث من سلالة قديمة أصلها من حصرون يعرف نسبها من القرن السادس عشر. درس طنوس مع أخوته في مدرسة عين ورقة وتعاطى التجارة مدة ثم انقطع إلى خدمة الأمراء الشهابيين فأرسلوه إلى عكا ودمشق وقام بأعباء خدمته بكل نشاط وأقيم بعد ذلك قاضيا على النصارى في لبنان. وقد اشتهر طنوس بمعارفه التاريخية. وكان كافا بتاريخ لبنان فصنف كتابه المسمى بأخبار الأعيان في تاريخ لبنان جعله ثلاثة أقسام في جغرافية لبنان ثم في أنساب أعيانه ثم في أخبار ولاته وقد راجع في تأليف كتابه عدة مخطوطات سرد أسماءها في المقدمة. وهو أدق وأضبط ما وضع إلى يومنا لا سيما في تاريخ الأزمنة الأخيرة وساعده في تهذيبه وتنقيحه ونفقات طبعه المعلم بطرس البستاني. وكان نجازه سنة 1859 بعد شغل نحو خمس سنوات وإنما نقصته فهارس للاستدلال على مضامينه. وقد عُرف صاحب هذا الكتاب بتجرده عن الأعراض كما قال:
    خلا تاريخنا من كل ميل ومين بين أخبار الزمانِ
    وجاءَ بعون مولانا سديدا مقيَّدا ما لهُ في النفع ثانِ
    توفي سنة 1861 وله شعر لم يطبع وكان شديد التمسك بالدين مستقيم السيرة محبا للصدق. وهو أخو فارس الشدياق لكنه لم يتبعه في ضلاله. ومما يذكر من آثاره أيضاً أنه كان يشتغل بمعجم الألفاظ العامية ولم ينجزه
    (إبراهيم العورا) هو ابن المعلم حنا العورا الرومي الملكي الكاثوليكي ولد في عكة في أواخر القرن الثامن عشر وتخرج بالآداب هو وأخوه ميخائيل على أبيهما الذي خدم في ديوان إنشاء محمد باشا الجزّار ثم في ديوان سلفه سليمان باشا. فبرع إبراهيم في الكتابة وضُم إلى كتاب ديوان الإنشاء تحت نظارة والده وخاله إبراهيم نحَّاس وذلك سنة 1229 (1814م). وكان مغرما بتاريخ بلاد الشام يدون من حوادثها ما أمكنه ثم جمع ذلك في كتاب ضمنهُ تاريخ سليمان باشا وافتتحه بمجمل أخبار القرن الثامن عشر ثم اتسع في تاريخ الأحوال التي جرت في آخر أيام الجزار ولا سيما في عهد خلفه سليمان باشا إلى وفاته سنة 1234 (1818) ولم يزل يحسن هذا التاريخ ويهذبه حتى أتمه سنة 1269 (1853) وفي مكتبتنا الشرقية نسخة منه وهو سفر جليل يحتوي أموراً عديدة وتفاصيل لا تكاد تجدها في غيره روى أكثر عن أدباء عصره وعن معرفته الخاصة مما عاينه بنفسه فزادت بذلك خطورته. توفي إبراهيم العورا سنة 1863 فكتب الشيخ ناصيف اليازجي هذا التاريخ على قبره:
    لا تجزعوا يا بني العورا واصطبروا فمن ذخر لكم بالأمس قد فُقدا
    من فوقهِ أحرف التاريخ ناطقةٌ في طاعة الله إبراهيم قد رقدا
    (ناصيف المعلوف) هو أحد الذين اشتهروا في هذه المدة بين نصارى الشرق بآدابه ومعارفه اللغوية. وقد مر له في المشرق (8 (1905):773: 847 الخ) ترجمة مطولة بقلم الكاتب البارع عيسى أفندي معلوف نقتطف منها ما يليق بالمقام. هو ناصيف بن الياس بن حنا المعلوف. كان أبوه في خدمة الأمير بشير الشهابي يقطن مع أسرته قرية زبوغا وفيها ولد ابنه ناصيف سنة 1823 فسلمه أبونا إلى بعض أفاضل المعلمين من كهنة ومرسلين
    فانكب على درس اللغات والعلوم بكل رغبة ثم رافق التاجر الشهير يوحنا عرقتنجي في رحلته إلى أزمير سنة 1843 وأتم هناك دروسه في مدرسة الآباء اللعازاريين وأتقن اللغات التركية واليونانية الحديثة والإفرنسية والإيطالية حتى أمكنه أن يصنف عدة كتب في كل هذه اللغات (أطلب قائمتها في المشرق 8: 1049) لكنه برز خصوصا في التآليف التركية التي أقبل عليها المستشرقون وافاضوا في مدحها ونال بسببها الأوسمة الشريفة والامتيازات الخاصة. وبين تآليفه ما يشهد له أيضاً بمعرفة آداب لغته العربية وحسن إنشائه فيها وكان وجوه الأوربيين وأعيانهم يحبون أن يتخذوه كترجمان في أمورهم لكثرة آدابه وطلاقة لسانه في كل لغات الشرق. توفي ناصيف في وباء الهواء الأصفر في أزمير سنة 1865.
    هذا ما أمكنا جمعه من مآثر النصارى في تلك المدة ولا غرو أنه فاتنا من أعمالهم شيء كثير كما أننا لم نذكر بعض الذين عرفوا بآدابهم ولم يصبر على الزمان إلا القليل من كتاباتهم كالدكتور يوسف الجلخ الذي وردت له بعض خطب في أعمال الجمعية السورية. توفي سنة 1869 وقد جُمعت في كراس المراثي التي قال الأدباء في وفاته منها تاريخ للشيخ ناصيف اليازجي:
    قفْ عند تُربة يوسف الجلخ الذي ما زال يغلبُ دينُهُ دنياهُ
    ولذاك نال ختامَ خيرِ فائزاً أرَخ برحمة ربّهِ ورضاهُ
    ومنهم الشيخ حبيب اليازجي ابن الشيخ ناصيف توفي سنة 1870 وسنذكره مع والده وأخوته في تسطير تاريخ الآداب في الطور الرابع إنشاء الله. ومنهم الشيخ مرعي الدحداح (1782 - 1868) كان درس في عين ورقة وكتب في دواوين الأمراء وتنقَّل في البلاد وله رسائل وكتابات متفرقة وقد نشرت سيرة حياته في كراس خاص. قال الشيخ ناصيف في تاريخ وفاته:
    مضى الشيخ مرعي راحلاً عن ديارنا ولكن تهيَّأ في السماء لهُ قصرُ
    وأولى بني الدحداح حزناً مخلَّداً يدومُ كما يبقى لهُ عندهم ذكرُ
    همام تلقَّى الحادثاتِ بنفسه فتمَّ له من بعدها المجدُ والفخرُ
    إذا زرتَ مثواهُ فأرّخ وقل بهِ عليك الرضى والعفوْ يا أيها القبرُ
    (الأمير حيدر الشهابي) ذكرناه ذكراً حنيفاً (ص 22) فنفرد له باباً أوسع هنا لوقوفنا على بعض أخباره. هو ابن الأمير احمد بن حيدر الشهابي الذي حكم لبنان مدة مع أخيه الأمير منصور (1754 - 1763) ولد سنة 1763 وتخرج في الآداب منذ حداثة سنه فعشقها وأحب الفضيلة وأهلها وكان محسناً إلى الفقراء أنفق عليهم جانباً عظيماً من ماله وكذلك أوقف على رهبان طائفتي الموارنة والروم الكاثوليك أملاكا كثيرة. وكان زاهداً في الدنيا يفضل العيش المعتزلة على الشغل بالسياسة حتى انه أبى غير مرة الولاية على لبنان.
    وله تاريخه المشهور غور الحسان في تواريخ حوادث الزمان قسمه ثلاثة أجزاء تبتدئ بأول الهجرة وتنتهي بتولي الحكومة المصرية على الشام. طبع هذا الكتاب بتصرف ودون فهارس في مصر سنة 1900. ومنه في مكتبتنا الشرقية نسختان في عدة مجلدات. ويذكر المؤلف تاريخ آخر مخطوط يتناول حوادث الشام في عهد الأمير بشير الكبير وما بعده لم نقف عليه. توفي الأمير حيدر سنة 1835.
    (بعض أدباء الروم) نذكر هنا بعض الإفادات عن أدباء الروم الأرثوذكس وكنا سهونا عن ذكرهم فألفت إليهم نظرنا الكاتب الشهير عيسى أفندي اسكندر المعلوف. نبغ منهم في القسم الأول من القرن التاسع عشر قوم من الأكليروس الأورثذكسي عرفوا بآدابهم منهم أثناسيوس المخلع الدمشقي أسقف حمص الذي ذكرنا في المشرق (20 (1922): 288) بعض آثاره مع آثار سميه مطروبوليت عكا. قال جنابه: انه انتقل إلى كرسي بيروت ولبنان وكان عالماً بارعاً اقتنى مكتبة نفيسة وتوفي سنة 1813.
    ومنهم الخوري يوسف مهنّا الحداد الذي قتل في دمشق في حركة سنة 1860 وكان مغرماً بالعلم واشتهر بالوعظ والتدريس في الفيحاء وعرّب لطائفته بعض الكتب الدينية (اطلب المشرق 5 (1902): 1012 و20 (1922) 1010). ومنهم الخوري اثناسيوس قصير الدمشقي مؤسس مدرسة البلمند سنة 1833. والخوري يوحنا الدومائي منشئ المطبعة العربية في دمشق (المشرق 4 (1901): 878) والخوري اسبيريديون صرّوف الذي درّس في المصلبة بالقدس الشريف وصحح مطبوعات القبر المقدس وألّف وعرّب وتوفي سنة 1858 (اطلب العدد الخامس من هذه السنة ص 371) والمطران أغابيوس صليبا اداسيس (الرها) الذي ألف وعرّب كثيراً من الكتب التي طبعت في روسيا.
    المستشرقون الأوربيون في هذا الطور (الفرنسيون) بقي السبق في درس اللغات الشرقية عموماً والعربية خصوصاً العلماء الفرنسويين في هذا الطور الثالث الذي بلغنا إليه في سياق تاريخنا للآداب العربية. وكان تلامذة العلامة دي ساسي يمشون على آثار معلمهم فيخوضون بحر الآداب الشرقية ويستخرجون من أغوارها اللآلئ الفريدة فينظمونها قلائد تزيد يوماً بعد آخر ثمناً وفخراً وهانحن نذكر بعض الذين وقفنا على أخبارهم وهي إلى اليوم متفرقة لم تجمع في سفر خاص.
    فمنهم فلجانس فرينل ولد سنة 1795 وانقطع في شبابه إلى درس اللغات الشرقية حتى أرسلته حكومته سنة 1837 إلى جدة وتعين هناك بصفة قنصل لدولته. وفي سنة 1852 توجهت أنظار العلماء إلى خرائب بابل فتشكلت بعثة علمية وكلت فرنسة نظارتها إلى فرينل لما عهدت فيه من الأهلية فسافر إلى بغداد وقام بأعباء مهمته بنشاط مدة ثلاث سنوات وكانت وفاته في حاضرة العراق في 30 ت2 سنة 1855 وعمره 61 سنة وقد خلف فرينل عدة آثار تدل على سعة معارفه منها ترجمة لاميّة العرب للشنفري ومنها رسائل واسعة في تاريخ العرب في أيام الجاهلية وله أيضا مقالات أخرى مفيدة في الكتابات الحميرية التي وجدت في جهات اليمن طبعت في المجلة الآسيوية الفرنسوية.
    واشهر منه نابغة همام وعالم عامل جارى في فضله أمام عصره العلامة دي ساسي نريد به آتيان كاترمار كان سليل أسرة شريفة كثر فيها الأدباء والعلماء وأصحاب السيف والقلم وزادها هو بأعماله شهرة. ولد آتيان في باريس في 12 تموز سنة 1782 وتخرج منذ حداثة سنه في العلوم الشرقية على دي ساسي الموما إليه. واستحق بفضله أن يدخل في جملة نظّار المكتبة العمومية ومخطوطاتها الثمينة ثم تولى التدريس في المدارس العليا قبل أن يبلغ
    العشرين من سنه وفي السنة 1815 نظمه مجمع فرنسة العلمي في سلك أعضائه ثم ندبته الحكومة إلى تدريس اللغات العبرانية والسريانية والكلدانية والفارسية في مدارسها الخاصة فأحرز له في تعليمها شهرة عظيمة حتى أضحى بعد وفاة دي ساسي نسيج وحده في كل العلوم الشرقية إلى سنة وفاته في 18 أيلول سنة 1857. ومن يطلع على تآليف هذا الرجل المقدام يقضي منه العجب لأنه خلّف بعده نيفاً ومائة كتاب في كأبواب الفنون الشرقية وكل اللغات السامية وغيرها وقد أودع كل هذه المصنفات كنوزاً من المعارف يتحير لها عقل المطالعين. أما تآليفه العربية فعديدة ونهاية في الحسن والضبط منها ترجمته لتاريخ المماليك في مصر للمقريزي في أربعة أجزاء وحواشٍ ضافية. وله مجلدان في مبهمات تاريخية وجغرافية مصرية وتأليف عن النبطيين ومآثرهم ومن مطبوعاته العربية نشره لمقدمة ابن خلدون في ثلاثة أقسام وترجمتها الفرنسوية مع ملحوظات وفهارس في ثلاثة أقسام أُخر ومنتخبات من أمثال الميداني وكتاب الروضتين ومقالات متسعة في جغرافيي العرب وفي مؤرخيهم وفي عادات أهل البادية وله في التركية ترجمة تاريخ المغول لرشيد الدين في مجلد ضخم آية في حسن الطبع. وقد ألف كتباً عديدة في آثار القبط والبابليين والهند والسامرة والأفريقيين والعبرانيين ومجمل القول لم يدع فناً إلاّ صنف فيه كتباً تعد إلى يومنا معادن ثمينة غنية بمضامينها العلمية.
    ومن تلامذة دي ساسي المعدودين غرانجره دي لاغرانج - ولد سنة 1790 وأحكم درس العربية والفارسية فوكلت إليه دولته سنة 1830 تصحيح المطبوعات الشرقية في مطبعتها العمومية فقام بالعمل القيام المشكور. وتوفي سنة 1859 وقد أبقى من الآثار مجموعاً في النظم والنثر نقله إلى الإفرنسية وله منتخبات من شعر المتنبي وابن الفارض علق عليها الحواشي وترجمها. وقد صنف كتابا في تاريخ العرب في الأندلس ودافع عن محاسن الشعر العربي واشتهر في هذا الوقت نويل دي فرجه بين المستشرقين الفرنسويين وكان مولده سنة 1805 ووفاته في كانون الثاني سنة 1867 نشر عدة تآليف شرقية كقسم من تاريخ أبي الفداء وتاريخ بني أغلب لابن خلدون وله تاريخ افرنسي في عرب الجاهلية اختصره عن تاريخ معلمه دي برسفال وأضاف إليه مختصر تاريخ الحلفاء إلى عهد المغول. وهو من التآليف الحسنة المفيدة وكان ضليعاً بالمعارف الشرقية يلتجئ إليه العلماء في مشاكلهم وفي سنة وفاة دي فرجة توفي مستشرق آخر ذائع الشهرة جوزف رينو: المولود في 4 كانون الأول سنة 1795 والمتوفى في 14 أيار سنة 1867 كان أيضاً من تلامذة دي ساسي وانكب على مثال أستاذه على درس آثار الشرق ولغاته وكان أحد حفظة خزانة المخطوطات الشرقية في باريس فاستقى من تلك المناهل الطيبة ما شاء. وفي سنة 1838 بعد وفاة دي ساسي تولى تدريس اللغة العربية في مدرسة اللغات الشرقية الحية ثم رُئس عليها سنة 1864 وبقي في وظيفته إلى سنة وفاته. وللعلامة رينو منشورات جليلة منها في الآثار الشرقية كوصفه لمتحف الكنت دي بلاكاس في جلدين وهو سفر خطير في تعريف العاديات الإسلامية. واشتغل بتاريخ الشرق فنقل إلى الفرنسوية معظم ما كتبه العرب في الحروب الصليبية وترجم رحلة تاجرين عربيين إلى الصين تدعى سلسلة التواريخ ونشر كتاب تقويم البلدان لأبي الفداء ونقله إلى الإفرنسية وزيَّنهُ بالمقدمات الأثيرة والحواشي. وله
    ما خلا ذلك عدة مقالات لغوية وتاريخية في العرب وغيرهم من شعوب الشرق يطول تعدادها وفي ما سبق ما ينبئ بفضله الواسع.
    وفي السنة 1867 توفي مستشرق ثالث فرنسوي موسوي الدين وهو سليمان مُنك ولد في بلاد بروسيا سنة 1805 وتخرَّج بالآداب العبرانية على بعض الربَّانيين في بلده ثم جاء فرنسة سنة 1828 وتجنس بالجنسية الفرنسوية وحضر دروس دي ساسي وكاترمار فتعلم العربية والفارسية والسنسكريتية وبرع فيها وتجول مدة في القطر المصري مع الوزير كريميو. ثم تفرغ للكتابة والتعليم وقصدته التلاميذ ليدرسوا عليه العبرانية. وقد أصيب في آخر عمره ببصره فلم ينقطع عن التأليف والإملاء على الكتبة وهو في هذه الحالة عشرين سنة. وله عدة تآليف في العبرانية والعربية والفارسية في تاريخ الشرق نخص منها بالذكر تاريخ فلسطين وكتابات شتى في الشعر العربي والشعر العبراني ونشر مصنّفات بعض فلاسفة اليهود في العربية والعبرانية وترجمها إلى الفرنسوية كدليل الحائرين لابن ميمون ومعين الحياة لابن جبرول وكتب أيضا في فلسفة الهنود والعرب. وقد نقل إلى الفرنسوية مقامات الحريري. ومن مصنفاته أيضاً مقالات عديدة في آداب الفينيقيين وشرح كتاباتهم المكتشفة في سواحل
    الشام.
    واشتهر في الجزائر مستشرق فرنسوي من تلامذة دي ساسي أيضاً وهو لويس جاك برنيه ولد في فرنسة سنة 1814 وتوفي الجزائر في 21 حزيران 1869 كان درس على كبار المستشرقين الفرنسويين منذ حداثة سنه فخلفهم في نشاطهم وعملهم. وقد علّم اللغة العربية في حاضرة الجزائر 33 سنة بهمة عظيمة أكسبته شكر تلامذته. ومن ثمار اجتهاده عدة مطبوعات عربية مدرسية نشرها في فرنسة والجزائر مهدت الطريق لكثيرين لدرس العربية الفصيحة واللغة الشائعة في بلاد الجزائر فمن تآليفه شرح أصول العربية من صرف ونحو وعروض وله أبحاث في اللغة العامية ومجاميع عربية مختلفة مع ترجمتها إلى الافرنسية واعتنى أيضاً بالخط العربي وتعليمه. ومن آثاره ترجمته للاجرومية مع تعليقات عليها.
    وفي زمن المسيو برنيه خدم الآداب العربية معلم آخر وهو المعلم كنباريل نشر أيضاً عدة مطبوعات مدرسية لتعليم العربية في الجزائر بين السنتين 1845 و1865 ولم نعرف سنة وفاته.
    وكذلك عرف بين المستشرقين العلامة بيبرستين كازمرسكي الذي ولد في بولونية واستوطن فرنسة ونشر فيها مطبوعات شرقية مفيدة أخصها معجمه للغتين العربية والفرنسوية الذي جدد طبعه في مصر بعد طبعته الباريزية في مجلدين ضخمين. وقد نقل القرآن إلى الفرنسوية وترجمته معروفة بدقتها وسلاستها. مات نحو سنة 1870.
    وممن لم نهتد إلى سنة وفاته من المستشرقين الفرنسويين واشتهر بمآثره العربية المسيو بارون نشر تآليف جمة ونقلها إلى الفرنسوية ففي سنة 1832 ألف كتاباً في أصول اللغة العربية وطبعه على الحجر ثم نشر مقالات مفيدة في بعض مشاهير العرب كطرفة والمتلمس وعنترة ونقل طرفاً من أشعارهم إلى لغته ونقل أيضاً رواية سيف التيجان ورحلة محمد التونسي إلى الدرفور وكتاب الطب النبوي وكتاب كامل الصناعتين المعروف بالناصري لأبي بكر ابن بدر في مجلدين وكتاب ميزان الخضرية للشعراني في الفقه والمختصر في الفقه لخليل بن إسحاق المالكي في سبعة مجلدات انتهى من طبعه سنة 1854 بعد ست سنوات وعلق عليه تعليقات واسعة.
    ونضيف إلى هؤلاء المشاهير من الفرنسويين الأستاذ كليمان موله - الذي أدى المستشرقين خدماً مشكورة بأبحاثه عن الزراعة عند العرب ومن آثاره الباقية ترجمته الفرنسوية لكتاب الفلاحة للشيخ أبي زكريا يحيى الأشبيلي المعروف بابن العوام. وكان الأصل العربي قد طبع في مجريط سنة 1802 فنقله المسيو موله في مجلدين وعلق عليه التعليقات الخطيرة. وله أيضاً في المجلة الآسيوية الفرنسوية مقالات متسعة في المواليد الطبيعية عند العرب واصطلاحاتهم. توفي المسيو موله سنة 1870.
    (الألمانيون) تقدمت الدروس العربية في ألمانية في هذه المدة بهمة بعض الأفاضل الذين أصبحوا أسوة لأهل بلادهم ويستحق السبق على جميع مواطنيه جرج وليلم فريتاغ ولد سنة 1788 وتوفي في ت2 من السنة 1861 وكان مثالاً للعزم والثبات فكلف بالآداب العربية ودرس اللغات الشرقية في باريس على فخر زمانه دي ساسي أتقنها وعهد إليه تعليمها في كلية بونة سنة 1819 فلم يزل مذ ذاك الوقت إلى سنة وفاته يفرغ كنانة مجهوده في نشر المآثر العربية منها قاموسه العربي اللاتيني في أربعة مجلدات ضخمة أتمه بسبع سنوات وكان يواصل الدرس كل يوم إحدى عشرة ساعة لا يكاد يأخذ فيها راحة. ثم اختصر ذلك المعجم بمجلد واحد.
    وقد نشر لأول مرة كتاب حماسة أبي تمام مع شروح التبريزي ونقلها كلها إلى اللاتينية. وقد نشر كتاب عبد اللطيف البغدادي في وصف مصر وقسما من تاريخ حلب لكمال الدين وفاكهة الخلفاء لابن عربشاه. وقد نقل كل هذه الآثار إلى اللاتينية وحشَّاها بالحواشي المفيدة. ومن مآثره الجليلة أمثال الميداني في أربعة مجلدات نشرها وترجمها وأضاف إليها الفهارس مع الملحقات العجيبة في كل ما كتبه العرب عن الأمثال ونشر معجم البلدان لياقوت الحموي في عدة مجلدات مع تذييلات وفهارس غاية في الدقة وسرد لائحة ممتعة في كل مؤرخي العرب. وله كتاب واسع في فن العروض بالألمانية ومنتخبات شتى بالنثر والنظم وقد بقي اسمه إلى يومنا هذا بين مواطنيه كمثال حي للحزم والنشاط.
    ومن أفاضل الألمان خلَّدوا لهم ذكراً طيباً في هذا الزمان جان غدفريد كوسغارتن ولد في اَلتِنكرخن من أعمال بروسية سنة 1792 ودرس العلوم في مدرسة غريسفالد الشهيرة ثم تعشق اللغة العربية فأرسله أبوه ليروي غليله منها بالدرس على الأستاذ دي ساسي محور العلوم الشرقية في زمانهِ فتلقَّن اللغة العربية ثم درس التركية والفارسية والأرمنية واستنسخ قسماً من مخطوطات باريس ولم يلبث أن نشر في بلده منها طرفاً استوقفت أنظار أهل وطنه فدعاه أصحاب الأمر إلى تدريس اللغات الشرقية في غريسفالد وبقي في منصبه إلى وفاته فيها سنة 1850 منقطعا إلى نشر التآليف المهمة أخصها غراماطيق اللغة العربية في اللاتينية ثم قسمٌ من شعر الهذيليين طبعه في لندن وكذلك نشر مجلداً من كتاب الأغاني لأبي الفرج ونقله إلى اللاتينية وزينه بالمقدمات والشروح ونشر أيضاً مجلدين من تاريخ الطبري مع ترجمتها وطبع معلَّقة عمرو بن كلثوم وذيّلها بالملحوظات المفيدة وله غير ذلك من الآثار العربية والسنسكريتية والهيروغليفية.
    وليس دون السابقين همَّة ونشاطاً واتساعاً في التأليف وطنيهما غستاف فلوغل ولد سنة 1802 في بلاد سكسونيا ودرس في ليبسيك على مشاهير علمائها وأخذ عن بعضهم مبادئ اللغات الشرقية ثم سافر إلى فينا وبقي سنتين ينعم النظر في مخطوطات مكتبتها الشهيرة وتجول بعدئذ في عواصم أوربة إلى أن احتل باريس سنة 1829 وسمع معلميها ودرس مخطوطاتها الشرقية ثم عاد إلى بلاده فتولَّى التدريس في معاهدها العلمية مدة وصار له نفوذ كبير عند أمراء وطنه الذين عهدوا إليه بتآليف عديدة استوفى شروطها وهي تبلغ نحو خمسين مجلداً منها كتاب كشف الظنون للحاج خليفة في سبعة مجلدات ضخمة مع ترجمتها إلى اللاتينية وفهارسها الواسعة وملحقاتها الخطيرة ومنها وصف مخطوطات فينَّا العربية في ثلاث مجلدات. ونشر عدة كتب قديمة مع ترجمتها مثل كتاب مؤنس الوحيد الثعالبي وتعريفات الجرجاني ونجوم الفرقان وهو فهرس للقرآن بديع في بابه. وله تآليف في فلاسفة العرب ونحاتهم ونقَّلتَهم ونشر كتاب الفهرست لابن النديم من أنفس ما كتبه القدماء. وصنَّف تاريخاً موسعاً للعرب في ثلاثة مجلدات فكل هذه المصنفات مما يدهش العقل لسعة علم كاتبها الذي يعد من أكبر المستشرقين وأغزرهم فضلاً. كانت وفاته سنة 1870.
    وممن برزوا في هذا الزمان في درس كتب العرب الرياضية والجبرية الألماني فرانتس فوبك ولد في بلدة قريبة من ليبسيك سنة 1826 ودرس في ويتمبرغ ثم رحل إلى برلين وتفرَّغ لدرس الرياضيات وفي سنة 1848 التقى بالمستشرق الشهير فريتاغ في بونة فعلمه العربية وفتح له باباً لدرس آثار العرب في الحساب والمقابلة والجبر والهندسة والهيئة فخصص مذ ذاك الحين نفسه لإحياء دفاتنها فنشر رسالة أبي الفتح عمر بن إبراهيم الخيَّامي في الجبر والمقابلة وكتاب الفخري فيهما لأبي حسن الكرخي وتفسير مقالة أوقليدوس العاشرة في الإعظام المنطقة والصم لأبي عثمان الدمشقي وقد كتب نيفاً وخمسين مقالة في كل الفنون الرياضية عند العرب نشرها في المجلة الآسيوية الفرنسوية وفي المجلات العلمية في برلين ورومية وباريس وبطرسبرج وكان إذا نشر أثراً ما قديما نقله إلى اللغات الأوربية وعلق عليه التعليقات الخطيرة حتى أصبح إماماً في هذه الفنون يشار إليه بكل بنان. وكانت أدت به دروسه إلى البحث في العلوم الرياضية عند الهنود وقدماء اليونان وأرباب القرون الوسطى فقابل بينها
    وبين آثار العرب وقد فاجأه الموت في 24 آذار سنة 1864 وهو في منتصف العمر.
    وقد اشتهر غير هؤلاء أيضاً بين مستشرقي الألمان وإن لم يبلغوا شأوهم منهم جرج هنري برنستين صنَّف كتاباً في نحو العربية ونشر بعض الآثار القديمة منه قصيدة لصفي الدين الحلي مع ترجمتها وشرحها ومنها كتاب في مبادئ وأصول الأديان المتفرقة في الشرق.
    وكانت شهرته في معرفة السريانية أكثر منها في العربية قد علَّم تلك اللغة في برسلو وله فيها عدة مطبوعات. توفي برنستين سنة 1860 وعمره 73 سنة.
    ومنهم جان أوغست فولرس أحد تلامذة دي ساسي وكاترمار وفريتاغ ولد في ألمانية سنة 1803 وكانت وفاته في 21 ك2 سنة 1880 في غيسِن علم اللغات الشرقية في كلية غيسن. وقد برز فولرس خصوصاً في اللغة الفارسية فنشر معجماً فارسياً لاتينياً يعد من أتقن المعاجم وأبرز عدة آثار لمؤرخي العجم وشعرائهم. وكان عالماً باللغة العربية نشر معلقتي الحارث بن الحلزة وطرفة مع شروح الزوزني عليها ونقلهما إلى اللاتينية وصنَّف أيضاً كتابا في أصول لغة العرب ومنهم أيضاً فرنتس أوغست أرنُلد اشتهر بين أساتذة مدرسة هال في ألمانية وله مجموعة حسنة من تآليف العرب لطلبة المدارس الشرقية في جلدين طبعت سنة 1853 ونقلها اليونان في القدس إلى لغتهم فجددوا طبعها بهمة استيفان أثناسياديس سنة 1885. وكان سبق قبل ذلك ونشر سنة 1836 معلقة امرئ القيس ونقلها إلى اللاتينية وذيلها بالشروح.
    ولم نقف على سنة وفاته.
    ومنهم أيضاً الدكتور جان غدفريد وتسشتين أقام مدة في دمشق بصفته قنصل دولته وعني بدرس اللغات الشرقية وجمع عدة مخطوطات وصفها وصفاً حسناً وأرسلها إلى برلين وقد كتب تفاصيل رحلته إلى جهات حوران وبادية الشام ومن مطبوعاته كتاب مقدمة الأدب لجار الله الزمخشري طبعه في ليبسيك على الحجر سنة 1850 توفي معمراً في برلين في 18 ك2 سنة 1905.
    ومنهم أيضاً هنري جوزف فتزر ولد سنة 1801 ودرس اللغات الشرقية على علماء زمانه في ألمانية وفرنسة ولا سيما دي ساسي وكاترمار ثم درس اللغات الشرقية في كلية فريبورغ الكاثوليكية فأصاب له فيها ذكراً طيباً وقصدته الطلبة من أنحاء البلاد وهو أول من نشر مقالة المقريزي في نصارى الأقباط وترجمها إلى اللاتينية وله آثار أخرى في العلوم الكتابية. توفي سنة 1853.
    ومنهم فيليب فولف عني بدرس آداب العرب ونشر البعض منها. وله كتاب دليل السياح لمصر والشام وفلسطين ضمنه أصول العربية العامية. وقد نقل إلى الألمانية كتاب كلية ودمنة وطبع المعلقات ونقلها أيضا إلى الألمانية وبين خفايا معانيها. ونشر شيئاً من ديوان أبي الفرج الببغاء كانت وفاته في غرة كانون الثاني سنة 1894.
    ومنهم أخيرا ثيودور هاربروكر من علماء مدينة هال نقل إلى الألمانية كتاب أبي الفتح الشهرستاني الذي نشره وليم كورتون في لندن وذيله بالتذييلات الحسنة. وله مقالة في كتاب مجموع العلوم لمحمد بن إبراهيم السخاوي طبعه سنة 1859. ونشر في العربية تفاسير على أسفار يشوع بن نون وأسفار الملوك الأربعة والأنبياء من تأليف أحد علماء اليهود الربي تنحوم بن يوسف الأورشليمي ونقلها إلى اللاتينية توفي 17 ك2 سنة 1880.
    (النمسويون) لم يبلغ النمسويون في درس العلوم الشرقية مبلغ الألمان في أواخر القرن التسع عشر. وإنما اشتهر منهم رجل مقدام كانت له قريحة عجيبة في تعلم اللغات والكتابة في كل فنون الشرقيين أعني به البارون جوزف دي هامر بورغشتال - ولد في غراتس سنة 1774 ودرس في كلية فينا لغات الشرق حتى أمكنه قبل العشرين من سنه أن يتكلم بالعربية والفارسية والتركية ثم أرسلته الحكومة إلى الأستانة بصفة ترجمان ووكلت إليه نظارة قنصلياتها فتجول في الشام ومصر ودرس أحوال البلاد ثم لم يزل يتقلب في كل المناصب الشريفة حتى دخل في شورى الدولة. فانقطع حينئذٍ إلى التأليف وكان يحسن الكتابة في عشر لغات أجنبية فألف عدداً لا يحصى من الكتب والمقالات في كل المواضيع الكتابية وتغلب عليه التأليف في تاريخ الشرق وآدابه نسرد هنا أسماء بعضها: تاريخ الدولة العثمانية في عدة مجلدات. تاريخ الآداب العربية في سبعة مجلدات ضخمة من عهد
    الجاهلية إلى آخر الدولة العباسية ضمنه عشرة آلاف ترجمة من كتبة العرب وشعرائهم وكبار علمائهم. وقد نقل إلى الألمانية كتاب (أيها الولد) للغزالي وقلائد الذهب للزمخشري وتائية ابن الفارض ومقالات في موسيقى العرب ونشر قصصاً لم تعرف من كتاب ألف ليلة وليلة وديوان خلف الأحمر ونظم بالشعر الألماني كل ديوان المتنبي. وكتب أيضا تاريخ فارس ودولها وتاريخ الآداب التركية. ونقل عدة مصنفات فارسية إلى لغته وأدار المجلات الشرقية فأصبح في بلاده محورا للآداب الشرقية إلى سنة وفاته في 23 ت2 سنة 1856 وكان البارون هامر شديد التمسك بالدين الكاثوليكي وكان يقيم صلاته بالعربية وألف كتاباً في ذلك. ومجمل القول أنه يعد مع بعض مشاهير عصره كمحيي الآداب الشرقية بين الأوربيين.
    (الهولنديون) سبق لنا وصف همتهم في درس اللغات الشرقية عموماً والعربية خصوصاً. ودونك أسماء بعض الذين أزهروا في الطور الذي نحن في صدده.
    أشهرهم ثاودور جوينبول ولد سنة 1802 ودخل في سلك خدمة الدين في بلاده وكان متضلعاً باللغة العربية متقناً لتاريخ دول الشرق وآدابهم. فعلم اللغة العربية في مدارس مختلفة حتى صار من أساتذة كلية ليدن إلى سنة وفاته في 16 أيلول سنة 1861. ومن آثاره أنه نشر قصائد المتنبي وشعراء زمانه في مدح سيف الدولة وأضاف إليها ترجمة لاتينية ونشر أيضاً كتاب الجبال والأمكنة والمياه للزمخشري وسفر يشوع بن نون عن النسخة السامرية ونقله إلى اللاتينية. وكذلك نشر كتاب مراصد الاطلاع الذي هو مختصر معجم البلدان لياقوت الحموي. وكتاب النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة مع مساعدة أحد المستشرقين الهولنديين المدعو بنيامين ماتس وقد اجتمع ببعض أدباء وطنه فنشروا مجموعاً دعوه بالشرقيات ومن مآثره أيضاً مقالة في الترجمة العربية السامرية المحفوظة في مخطوطات باريس. وكان لجوينبول ابن تقفى خطوات والده فاشتهر أيضاً بعلومه الشرقية اسمه إبراهيم وليلم عاش بعده نحو عشرين سنة ونشر كتاب التنبيه في الفقه الشافعي لأبي إسحاق إبراهيم ابن علي الشيرازي ونقله إلى اللاتينية وقدم عليه المقدمات الحسنة وكذلك عني سنة 1861 بطبع كتاب البلدان لأحمد بن أبي يعقوب بن واضح المعروف باليعقوبي.
    ومن معاصري جوينبول الأستاذ تاكو روردا أحد أفاضل الهولنديين الذين عرفوا بالهمة والثبات. باشر سنة 1825 منشوراته الشرقية بدرس أخبار أبي العباس أحمد ابن طولون والدولة الطولونية ثم ألف كتاباً في قواعد العربية وشرحه باللاتينية وألحقه بمنتخبات ومعجم. وقد ساعد جوينبول في نشر مقالاته الشرقية المار ذكرها. توفي روردا نحو السنة 1865.
    ومنهم أيضاً هنريك فايرس له كتابات حسنة في شرقيات جوينبول المذكورة آنفاً ثم اتسع في وصف كتاب وفيات الأعيان لابن خلكان ونشر مع أحد مواطنيه الدكتور مورسنغ كتاب درة الأسلاك في دولة الأتراك لأبي الحسن بن عمرو بن حبيب واشتغل بوصف مخطوطات مكتبة ليدن الغنية بكنوزها الأدبية. ولا نعرف سنة وفاة فايرس كما إننا لم نقف على أخبار مورسنغ الذي كان نشر قبل ذلك كتاب طبقات المفسرين للسيوطي.
    (الإنكليز) اشتهر قليل منهم في هذا الطور بالآداب العربية. أخصهم وليم كورتون ولد سنة 1808 وتوفي في لندن في 17 حزيران سنة 1864 كان من خدمة الدين البروتستاني وتخرج في كلية أوكسفرد وكان جل اهتمامه باللغة السريانية وآدابها. وقد الآداب العربية ببعض المصنفات الدينية منها ما نشره سنة 1843 من تفاسير تنحوم بن يوسف الاورشليمي على مراثي ارميا النبي وكذلك نشر مقالة في الكهنوت من كتاب مصباح
    المرشد ليحي بن حزير (ويروي جرير) التكريتي. ومن آثاره الباقية التي أتقن طبعها كتاب الملل والمحل للشهرستاني نجز طبعه في لندن سنة 1842. وكان طبع قبل ذلك عهدة عقيدة أهل السنة لحافظ الدين عبد الله بم أحمد النسفي وهذان الكتابان نشرا في جملة منشورات أخرى تولت طبعها في بريطانيا شركة طبع التآليف الشرقية نفعت الدروس الشرقية نفعاً جزيلاً. ومما كانت نشرته ترجمة رحلة البطريرك الانطاكي مكاريوس التي سبقت للمشرق الكلام عنها (1009:5) وبهمة كورتون طبع أيضاً القسم الأول من وصف مخطوطات لندن العربية الذي أتمه بعده الطيب الذكر ريو وممن أحرزوا لهم بعض الشهرة في الآداب العربية بين الإنكليز وليم ناسولييس كان هذا مقدماً على جمعية بنغال الآسيوية وورث عن خلفه ماثيو لومسدن حبه للآداب العربية.
    فكان لومسدن أفرغ المجهود في تجهيز مطبعة كلكوتا ونشر فيها مطبوعات مفيدة كمقامات الحريري سنة 1809 ونفحة اليمن لأحمد الشرواني سنة 1811 وشرح المعلقات ومختصر المعاني للقزويني وقاموس المحيط للفيروزابادي وكتب أخرى أوسعت شهرة تلك المطبعة الهندية. ثم توفي 18 آذار سنة 1835 فلما قام بعده ليس زاد على خلفه نشاطاً واهتم بنشر تآليف أوسع وأكثر فائدة فطبع تاريخ الخلفاء لجلا الدين السيوطي ونوادر القليوبي والكشاف للزمخشري وفتوح الشام للواقدي وفتوح الشام للبصري وكشاف اصطلاحات الفنون لمحمد علي الفاروقي التهانوي ونخبة الفكر ونزهة النظر لابن حجر العسقلاني. وكان ليس يستعين في تلك المطبوعات ببعض علماء الهند كالمولوي كبير الدين والمولوي عبد الحق غلام قادر وكان أيضاً يساعده في نشر تلك المطبوعات المستشرق سبرنغر الوارد ذكره بعد هذا توفي في ناسو ليس في 9 آذار سنة 1889.
    وقد نشر أيضاً في هذا الزمان الإنكليزي هاريس جونس ذكر فتح الأندلس لابن عبد الحكم القرشي المصري فطبعه في غوتا سنة 1858 ونقله إلى الإنكليزية.
    (الروسيون وغيرهم) كانت حركة الدروس الشرقية خامدة في روسيا في أواسط القرن التاسع عشر ثم أخذت الأكاديمية الملكية تبعث الهمم وتنشط العزائم فنشأت بذلك نهضة محمودة وعقدت بعض الجمعيات العلمية لترويج تلك المقاصد. وهذه أسماء التآليف العربية التي نشرت في روسيا في الطور الذي يشغلنا.
    نشر منهم الأستاذ غوتولد معجماً القرآن وللمعلقات في قازان سنة 1863 ونشر في بطرسبرج تاريخ سني ملوك الأرض والأنبياء تأليف حمزة الأصفهاني ونقله إلى اللاتينية توفي غوتولد في قازان سنة 1897 - وفي بطرسبرج نشر الأستاذ كولسون سنة 1869 كتاب الأعلاق النفيسة لابن دسته (والصواب رسته) وترجمه إلى الروسية وله أيضاً بحث خطير في آثار الآداب البابلية في كتب العرب سنة 1859 في مجلة بطرسفرج العلمية توفي كولسون وعمره 92 سنة في 5 نيسان سنة 1879 في مدينة فيلنا وكان يهودياً فتنصر وهو الذي
    أثبت أن الصابئين المذكورين في القرآن هم المندئيون وعلم في بتروغراد اللغات العبرانية والسريانية والكلدانية - واهتم الأستاذ اسكندر كرستيانوفتش بالموسيقى العربية فوضع فيها مقالة وزينها برسم الآلات الشائعة عند العرب وطبعها في كولونية سنة 1863 – وفي هذا الزمان أزهر أحد الأعاجم المتنصرين اسكندر قاسم بك الذي علم مدة اللغات الشرقية في قازان وبطرسبرج وجعله القيصر من أعضاء الشورى. كان يعرف اللغات التترية والفارسية والعربية وقد نشر في كلها تآليف عديدة وله في العربية مختصر الوقفيات ورسائل دينية
    ومقالات لغوية وفصول تاريخية في أخبار الدول الإسلامية ونشر قنصل الروس في تبريز نيقولا خانيكوف كتاب ميزان الحكمة للخازني وطبعه في المجلة الشرقية الأميركانية سنة 1859 وهو سفير جليل في المواليد والفلزات والجواهر وترجمه إلى الإنكليزية
    وكذلك (الاسبانيون) في هذه البرهة من الدهر شعروا بحاجتهم إلى درس اللغات الشرقية ولا سيما العربية لما فيها من الآثار المفيدة لمواطنهم ونال لهم بعض الشهرة وطنيهم كاينكوس الذي نشر في لندن ومجريط بعض التآليف العربية منها ترجمة نفح الطيب للمقري في مجلدين كبيرين ومنها وصف قصر الحمراء مع بيان آثاره وتفسير كتاباته الحجرية وكذلك نشر ترجمة كتاب كليلة ودمنة وتاريخ أحمد بن محمد الرازي أما (الإيطاليون) فإن درس اللغات الشرقية كان عندهم منحصراً في بعض المبادي ولم ينشروا في تلك المدة من الآثار العربية شيئاً يذكر اللهم إلا الكردينال العظيم أنجلو ماي الذي دخل في الرهبانية اليسوعية في العشر الأول من القرن التاسع عشر وتوفق إلى الاكتشافات العجيبة التي خلدت له ذكراً في العالم كله في إعادة الكتابة على الرقوق التي حكت نصوصها السابقة وأقامه الحبر الأعظم إلى رتبة الكرادلة ووكل إليه نظارة المكتبة الواتيكانية. وقد نشر في السريانية والعربية أيضاً بعض ما وجده من الآثار النصرانية وأثبتها في مجموع مطبوعاته. توفي الكردينال ماي سنة 1854 وممن نلحقهم بهؤلاء المستشرقين بعض المرسلين الذين خدموا بمدارسهم ومنشوراتهم الآداب العربية. فمن اليسوعيين الأب اسكندر بوركنود الذي سبق رينان إلى درس آثار الشام ووصفها وصفاً مدققاً فمهد الطريق لأبحاث رينان الأثرية. توفي الأب بور كنود في 1ت 1 سنة 1868 في غزير ومنهم اليسوعيان الأب لويس فنيك (1868) والأب بولس ريكادونا (1863) ألفا في العربية إرشادات وكتباً دينية وقصائد تقوية أما المرسلون الأميركان فأشتهر بينهم عالي سميث الذي تجول في أنحاء الشام ونظم أحوال الجمعية الأميركية ووسع أعمال مطبعتهم وباشر مع الشيخ ناصيف اليازجي ترجمة الكتاب المقدس وقد أنجزه من بعده الدكتور فان ديك. توفي عالي سميث سنة 1857 وكان منهم أيضاً هنري دي فورست وادورد سالسبوري ولكليهما مآثر حسنة من تاريخ وجغرافية وعادات ووصف أديان نشراها في المجلة الشرقية الأميركانية وكانت هذه المجلة صدرت سنة 1850 فأخذت تباري بمقالاتها المجلات التي تقدمتها وبهذا النظر الإجمالي نختم تاريخ الآداب العربية في طورها الثالث من القرن التاسع عشر وبه أيضاً ختام القسم الأول من تأليفنا هذا الذي جمعناه في كتاب مستقل وألحقناه بفهرس الأدباء الذين أوردنا ذكرهم في مطاوي كلامنا
    كلمة الختام
    ويسوغ لنا أن نختصر بكلمة هذا القسم فنقول أن الشرق والغرب تباريا في نهضة الآداب العربية في القرن التاسع عشر بعد خمولها. استخرج الغرب من خزائنه كنوزه المدفونة فسحرت لدى نشرها ألباب أبناء الشرق فتسارعوا إلى إحراز جواهرها والاستقاء من مناهلها فاتسعت بها دائرة مداركهم وشحذت أذهانهم وتحسن ذوقهم ولم يأنفوا أن يستعيروا من أهل الغرب ما وجدوه موافقاً لرقي آدابهم فمهدوا للآتين بعدهم السبيل لتبليغ اللغة إلى صرح كمالها.



    الجزء الثاني
    من السنة 1870 إلى 1900
    الآداب العربية في القرن التاسع عشر
    الفصل الأول
    الآداب العربية من السنة 1870 إلى 1880
    نظر إجمالي
    جرينا شوطاً أول في عدة مقالات كتبناها عن آداب القرن السابق فأدى بنا سيرنا إلى السنة 1870 فوقفنا عند ذلك الحد مدة ريثما نجمع قوانا فنواصل الجري في هذا الميدان.
    وهو لعمري مجال جديد يتسع أمامنا فتتوفر ركبانه وتنمو فتفوت الإحصاء فرسانه. ولولا ثقتنا بلطف القراء وأملنا بغضهم النظر عن قصورنا لكففنا القلم وأوقفنا اليراع لئلا يرشد بنا عن سواء السبيل. فنستأسف العمل مع تكرار الرجاء بأن يمد إلينا الأدباء يد الإسعاف وينبهوا فكرنا إلى ما نسهو عن ذكره ويصلحوا ما يرونه مخالفاً للواقع ليأتي هذا القسم أوفى بالمرام إن شاء الله.
    كانت السنة 1870 مفتتح طور جديد في تاريخ نهضة الآداب العربية فصان في تلك السنة جرت أمور خطيرة قلبت بطناً لظهر أحوال الدوال الأوربية فكان لها فعل انعكاس في أنحاء الشرق فقامت العقول من رقدتها واستيقظت الأفكار بعد سنتها في دوي الحرب السبعينية طرق آذان الشرقيين فأسمعهم أصواتاً ما اعتادتها مسامعها فرأوا في طلب الآداب ودرس العلوم سداً لخللهم ومنجاة من خمولهم وكان السلام سانداً والأمن متوطداً في الدولة التركية لا شيء يعوق رعاياها عن ترويج الآداب وأنفاق سوقها لا سيما سورية ولبنان فإن الدعة والسكينة كانت قد مدّت عليها رواقها بعد نكبة السنة 1860 وأخذت الشبيبة تترعرع وهمها الأعظم الترقي في معارج التمدن.
    وعقد في ذلك العام المجمع الواتيكاني وفيه رأي الدين الشرقيون رقي أخوتهم الغربيين في العلوم فأحبوا مجاراتهم في ذلك المجال الشريف. وقد ساعدهم في تحقيق أمانيهم المرسلون اللاتينيون الذين تضاعف عددهم في هذه البلاد فأخذوا يجدون ويسعون بما عرفوا به من علو الهمم ليبعثوا في الأحداث الغيرة على إحراز المعارف. وكذلك المرسلون الأميركان فإنهم أفرغوا كنانة الجهد ليزرعوا في قلوب الشبان بذور المعارف والعلوم المستجدة. ويا حبذا لو اقتصر على هذه الغاية الشريفة ولم يتخذوا العلم وسيلة لنشر الزاعم البروتستانية ومناوأة الدين القويم.
    ومما خص به هذا الطور الذي نحن في صدده إنشاء مدارس عامرة لم يسبق لها مثيل في الزمن السابق أخصها الكلية الأميركية التي خرجت في ذلك الوقت من قماطات مهدها فشرع أساتذتها وفي مقدمتهم فان ديك في تأليف أو تعريب قسم كبير من الكتب العلمية قدوة بالشيخ الطهطاوي بمصر ففتحت ترجمتها باباً جديداً طرقه الشرقيون لإحراز العلوم العصرية. وكانت المطبعة الأميركية تذلل لهم الصعاب في نشرها وبقيت تلك المطبوعات عهداً طويلاً كأساس التعليم في الكلية الأميركية وبعض المدارس الوطنية حتى بعد قصورها عن بلوغ غايتها لاتساع نطاق العلوم سنة بعد سنة فبقيت على نقصها حتى اضطرت عمدة المدرسة الأميركية إلى استئناف التدريس باللغة الإنكليزية.
    وكان النجاح الذي فاز به أصحاب الكلية الأميركية باعثاً للكاثوليك على مزاحمتهم ليصونوا أبناء مللهم من الأضاليل البروتستانية. وكان اليسوعيون أول من تحفز لمناهضتهم فعززوا مدارسهم الثانوية في غزير وبيروت وصيداء ثم جعلوا يطلبون ما هو أنجع وسيلة لبلوغ أربهم بإنشاء كلية في بيروت تباري كلية الأميركان وتقدم لأبناء الشرق مناهل العلوم صافيةً من كل رنقٍ يكدرها. فما لبث بعد أربع سنوات أن تشيدت أبنية كليتنا الكاثوليكية ونقلت إليها مدرسة غزير 1875 فنالت من كرم الكرسي الرسولي كل انعامات الكليات بمنح شهادات العلوم الدينية لمستحقيها. كما أن الدولة الفرنسوية اعتبرت شهاداتها بمثابة الشهادات الممنوحة في فرنسة لذويها.
    وفي غرة سنة 1870 نشر الآباء اليسوعيون جريدتهم المجمع الفاتيكاني لنقل أخبار ذلك المجمع المسكوني. ثم أعقبوه بعد فراغ المجمع في أيلول بجريدة البشير لمناضلة النشرة الأسبوعية فصار لها رواج كبير ولم تزل تكبر وتتحسن حيناً تلو حين. وها قد مر عليها اليوم 50 سنة بنيفٍ وهي تدافع عن الدين مدافعة الأبطال فصارت لسان حال الكثلكة يرجع إليها أرباب الطوائف الكاثوليكية بأسرهم.
    وفي هذه المدة أيضاً ترقت المطبعة الكاثوليكية بهمة رئيسها الهمام الأب امبرواز مونو الذي لم يشأ أن تتخلف عن المطبعة الأميركية في شيء فاستجاب لها الأدوات الجديدة وجهزها بالمخترعات المستحدثة وأرسل أحد رهبانه الطيب الذكر الأخ ماري الياس إلى عواصم أوربة ليدرس فن الطباعة على أحذق الطباعين فأخذ عنهم الاستكشافات واستعان بها على تحسين الطباعة الشرقية في مطبعتنا ومطابع البلدة. وكذلك تعلم غيره من رهبانها كالمرحوم الأخ أنطون عبد الله فن الحفر وسبك الحروف واستحضار سنابكها وأمهاتها فأغنوا المطبع بأشكال جديدة من الحرف العربية والسريانية وغيرها.
    وتعهدت المطبوعات الدينية والعلمية التي ظهرت في تلك الأثناء من مطبعتنا وكان أجودها حرفاً وأتقنها طبعاً الكتاب المقدس (1876 - 1882) في ثلاثة مجلدات مزيناً بالتصاوير والنقوش. وكان الآباء المرسلون لم يذخروا وسعاً في تعريبه عن اللغتين الأصليتين العبرانية واليونانية ساعدهم في تصحيح عبارة الترجمة وتثقيفها اللغوي البارع المرحوم الشيخ إبراهيم اليازجي. وقد صدق على هذه الترجمة الجديدة غبطة السيد منصور براكو بطريرك أورشليم اللاتيني وأثنى عليها سائر بطاركة ومطارنة وأساقفة الطوائف الكاثوليكية في الشرق.
    ثم أخذ مديرو المطبعة الكاثوليكية يهتمون بالكتب المدرسية وكانت قبلهم عزيزة جداً لا يصل إليها الأحداث إلا بعد شق النفس فتوفرت الكتب التعليمية وزادت بذلك مدارس الشرق ترقياً ونجاحاً.
    وكانت بقية الرسالات اللاتينية تسير سيرها الحثيث في نشر الآداب فاللعازريون كانوا يكسبون ثقة الأهلين بحسن تعليمهم وتهذيبهم في مدرسة عين طورا. ثم فتحوا في هذه الأثناء مدرسة أخرى في دمشق لا تزال عامرة. وكذلك الآباء الفرنسيسيون فتحوا مدرسة ثانوية في حلب علموا فيها اللغات وأصول الآداب.
    ولم تتأخر الطوائف الشرقية في هذه الحلبة. فإنه تعين سنة 1872 لكرسي بيروت على الموارنة بعد الطيب الذكر طوبيا عون أحد رجال العلم والعمل السيد المبرور يوسف الدبس فأفرغ الوسع في ترقية أبناء رعيته في معارج التمدن ففتح لهم في بيروت سنة 1875 مدرسة الحكمة الشهيرة التي نمت فروعها وبسقت أفنانها وينعت ثمارها إلى يومنا هذا. فتقلد الكثير من المتخرجين فيها المناصب الجليلة وخدموا وطنهم بنشاط عظيم. ومن مساعيه الطيبة لتوسيع نطاق الآداب مطبعته العمومية الكاثوليكية التي اشتراها من يوسف الشلفون شركة مع رزق الله خضرا فنشر فيها مجموعاً واسعاً من المطبوعات الدينية والأدبية والمدرسية منها قسم كبير من قلمه.
    وفي هذه المدة ثبت قدم جمعية المرسلين اللبنانيين التي أسسها المطران يوحنا حبيب سنة 1865 فأخذت تزداد عدداً وفضلاً بهمة منشئها الفاضل.
    أما الروم الكاثوليك فإن مدرستهم البطريركية بلغت في هذه الآونة أوج عزها بحسن إدارة رؤسائها وشهرة أساتذتها. وكان جل اهتمامها إتقان اللغة العربية بفروعها. وعني السيد البطريرك غريغوريوس يوسف بإنشاء مدرسة أخرى لأبناء طائفته في دمشق سلم إدارتها إلى كهنة أفاضل أحكموا تدبيرها.
    وفي هذا الطور أنشئت مطابع جديدة كالمطبعة السليمية لسليم أفندي مدور ومطبعة القديس جاورجيوس المروم ومطبعة جمعية الفنون المسلمين. وقد ظهرت في كل هذه المطابع تآليف متعددة نشرنا في المشرق أسماءها. وكذلك الجرائد والمجلات فقد أنشئ منها ما راجت سوقه. وكان الأدباء في ذلك الوقت حاصلين على حريتهم لا يعيقهم في نشر المطبوعات عائق المراقبة. والجرائد تروي الأخبار كما تشاء لا يعترض عليها إلا إذا خرجت عن طورها وتعدت حدودها. وقد سبق لنا ذكر مجلة الجنان التي أنشأها المعلم بطرس البستاني وعهد بتحريرها إلى ابنه سليم سنة 1870 وفيها باشر بجريدتين الواحدة أسبوعية وهي الجنة والثانية يومية دعاها الجنينة وهذه الأخيرة لم تطل مدتها. أما الأوليان فاشتغلتا خمس عشرة سنة فأكسبتا الأسرة البستانية شهرة بفصولهما. وقد أنشئت سنة 1874 جريدة ثمرات الفنون لصحابها صاحب السعادة عبد القادر أفندي القباني فخدمت مصالح الأمة الإسلامية بلا ملل إلى أيام الدستور. وبعدها بسنتين شرع الأدباء شاهين أبكاريوس ويعقوب صروف وفارس نمر من تلامذة الكلية الأميركية ينشرون مجلة علمية صناعية زراعية دعوها المقتطف وأودعوها كثيراً من المقالات العلمية وغيرها وبقيت تطبع في بيروت إلى أن نزعت عن الجرائد حريتها فانتقل محرروها إلى مصر وجروا فيها على خطتهم الحرة إلى هذه السنة وهي الخمسون من عمرها. وفي هذه المجلة من المنافع ما لا ينكر أولاً أن كتبتها صوبوا غير مرة سهامهم للتعاليم الدينية وناصبوا القضايا الفلسفية الراهنة ونسبوا إلى العلم ما هو بريء منه كما بينا لهم الأمر أحياناً عديدة في جريدة البشير ومجلة المشرق.
    أما في بلاد الشرق خارجاً عن الشام فإن الآداب العربية فيها لم تخط خطوةً كبيرة في هذه السنين العشر فلا نرى لها من المنشآت ما يستحق الذكر. وإنما كانت المطابع المصرية وخصوصاً مطبعة بولاق تواصل اشتغالها فتنشر من التآليف القديمة ما كان يحبب إلى الأدباء درس اللغة وإحراز فوائدها لولا سقم طبعها وقلة العناية في تصحيحها. وكذلك الآستانة العلية فإن صاحب الجوائب الذي مرّ لنا ذكره نشر في مطبعته قسماً حسناً من التآليف العربية القديمة كديوان البحتري وأدب الدنيا والدين وبعض مصنفات الثعالبي.
    ومثله الخوري يوسف داود في مطبعة الدومنيكان في الموصل (أطلب المشرق 5 (1902): 423) فإنه نشر هناك فضلاً عن الكتب الدينة عدة تآليف حسنة عززت في الناشئة محبة الآثار العربية.
    وفي هذا الطور أصيبت الآداب العربية ببعض التأخر في الأصقاع الأوربية لما حدث فيها من المنازعات والاضطرابات السياسية. لكن هذه الحال لم تدم مدة طويلة لأن الأمور بعد زمن أخذت في السكون والهدوء وعاد العلماء إلى دروسهم بل اتسع نطاقها فامتدت في ألمانية وإنكلترا وأنشئت كليات جديدة كان للغة العربية فيها الحصة المشكورة. وقد شكلت جمعيات شرقية في إيطالية والنمسة بعثت همم أهلهما على الدروس الشرقية
    فانتشرت بذلك الآداب العربية. وكانت المطابع الأوربية تغني كل يوم لغتنا بنشر تآليف يخرجها المستشرقون من دفائن المكاتب ويحيونها بعد موتها منها بالذكر مطبعة ليدن في هولندة التي أبرزت قسماً كبير من أجود تآليف العرب وخصوصاً في التاريخ ووصف البلدان.
    بعض مشاهير الأدباء المسلمين في هذا الطور
    كانت العلوم العربية في هذا الطور أرقى شأناً عند النصارى منها عند المسلمين وإنما اشتهر بين هؤلاء بعض الأفراد تعاطوا الفنون الأدبية من شعر ونثر وخلفوا منها آثاراً طيبة وهانحن نذكرهم على سياق سني وفاتهم تنويهاً بفضلهم.
    رفاعة بك الطهطاوي كان رفاعة بك من أشراف طهطا إحدى مدن الصعيد ويرتقي نسبة إلى فاطمة الزهراء
    ولما ولد سنة 1216 (1801) كان الدهر أخنى على أسرته فذا في حداثته مرائر العيش ثم انتقل بعد وفاة والده إلى القاهرة سنة 1222 (1807) وانتظم في سلك طلبة الأزهر وطلب العلوم برغبة حتى روي منها وأحبه أستاذه لاجتهاده وقدومه. ونما خبره إلى محمد علي باشا إمام الدولة الخديوية فأرسله مع غيره من الشبان إلى فرنسة ليتلقوا فيها العلوم الأوربية فدرس اللغة الفرنسوية حتى أحسن فهمها واستقى من مناهل المعارف الغربية ما استلفت إليه الأنظار ونقل كتاباً افرنسياً وسمه (بقلائد المفاخر في غرائب عوائد الأوائل والأواخر) فكان ذلك داعياً لترقيته في المناصب. فقلده محمد علي وظيفة الترجمان في المكتب الطبي الذي أنشأه في جوار القاهرة سنة 1242 (1826م) فنقل إلى العربية عدة تآليف إفرنجية مستحدثة. ثم عرب في مدرسة الطوبجية كتباً هندسية وغيرها. وفي 1251 (1835) ندبه صاحب مصر إلى رئاسة مصر الألسن الأجنبية التي عرفت بمدرسة الترجمة فأحسن تدبيرها حتى بلغ عدد تلامذتها 250. فجازاه الخديوي بمنحه رتبة قائمقام ثم رتبة أميرالاي. وأرسل مدة إلى الخرطوم لنظارة مدرستها وتولى نظارة المدرسة الحربية في مصر.
    ولم يزل يتقلب في المناصب وإدارة المدارس والتعليم والكتابة. وكان رفاعة بك لا ينقطع يوماً عن التأليف أو الترجمة. وهو الذي باشر أول جريدة عربية في بلاد الشرق وهي الوقائع المصرية سنة 1248 (1832). ثم تولى في آخر حياته إدارة جريدة روضة المدارس.
    ولرفاعة بك نحو عشرين كتاباً بعضها من تأليفه كرحلته إلى باريس ومباهج الألباب المصرية وكتاب تاريخ مصر الحديث وأكثرها من ترجمة كجغرافية ملطبرون وأخبار تليماك وهندسة ساسير ورسائل طبية وله غير ذلك من التآليف والمقالات والمنظومات التي لم يطبع منها إلا القليل. وقد رأيناه كثير التصرف في ترجمة كتبه إلا أنه سبق أهل وطنه بتعريب التآليف الغربية فنال فضلاً بتقدمه. وكانت وفاته سنة 1290 (1873) فرثاه الحاج مصطفى انطاكي الحلبي بقصيدة مطلعها:
    ألا لِطَرْف المجد دامٍ ودامعُ على وجنة العلياء هامٍ وهامعُ
    إلى أن قال مشيراً إلى فهمي أفندي نجل المتوفى:
    وكادت تميدُ الأرض لو لم يكن بها لهُ خلفٌ يحيي المآثرَ بارعُ
    عبد الغفار الأخرس
    هو السيد عبد الغفار لابن السيد عبد الواحد من مشاهير شعراء العراق كان مولده في الموصل السنة 1220 (1805) ثم أنشأ في بغداد واتخذها موطناً وسكن جانب الكوخ وقرأ على المشيخ الآلوسي كتاب سيبويه فأعطاه به إجازة. ثم درس العلوم العقلية والفنون العربية فأتقنها وتعاطى فن الشعر فأجاد به كل الإجادة حتى أن صاحب كتاب المسك الأذفر قال عنه إن إليه كانت النهاية في دقة الشعر ولطافته وحلاوته وعذوبته. وكان مع ذلك في لسانه تلعثم وثقل فدعي بالأخرس لسببه. قيل أنه في شبابه كتب إلى داود باشا والي العراق أبياتاً يسأله فيها أن يأمر بمعالجة لسانه قائلاً:
    إن أياديك منك سابقةُ عليَّ قدماً في سالفِ الحُقُبِ
    هذا لساني يعوقه ثِقَلٌ وذاك عندي من أعظم النُّوَبِ
    فلو تسبَّبتَ في معالجتي لَنلتَ أجراً بذلك السببِ
    وليس لي حرفةٌ سوى أدبٍ جمٍ ونظم القريض والخطبِ
    من بعد داودَ لا حُرِمْتُ مُنىً فقلت قد مضت دولةُ الأدبِ
    فأرسله الوالي إلى بعض أطباء الهند فقال له: أنا أعالج لسانك بدواء إمّا أن ينطلق وأما أن يلحقك بمن مضى من سالف الجدود. فأبى ولم يرضَ بدوائه وقال: لا أبيع كلي ببعضي وكرّ راجعاً إلى بغداد. وكان يتردد إلى البصرة لما عرف في عرف أهلها من السخاء ومحبة الغرباء. وله مدائح في أكثر أعيانها وفضلائها وبها كانت وفاته سنة 1290 (1873م) كما ورد في مقدمة ديوانه وفي سنة 1291 على رواية السيد نعمان الآلوسي. وكان له شعر كثير متفرق جمعه أحمد عزت باشا العمري بعد وفاة صاحبه وسماه الطراز الأنفس في شعر الأخرس. وقد طبع هذا الديوان في مطبعة الجوانب سنة 1304 (1886م). فمن شعره قوله يصف سفره من البصرة إلى بغداد على سفينة بخارية:
    قد ركبنا بمركب الدُّخانِ وبلغنا بهِ أقاصي الأماني
    حيث دارت أفلاكهُ واستدارت فهي مثلُ الأفلاك بالدوَرانِ
    ثمَّ سرنا والطيرُ يحسدنا بالأ مسِ لإسراعنا على الطيرانِ
    يخفق البحرُ رهبة حين يجري والذي فيه كائنٌ في أمانِ
    كلَّما أبعد البخارُ بمسرىً قَرَّب السيرُ بُعْدَ كلّ مَكانِ
    أتقَنتْ صُنَعُه فطانةُ قومٍ وصَفوهم بدَقة الأذهان
    ما أراها بالفكر إلا أناساً بقيت من بقَّية اليونان
    أبرزوا بالعقول كل عجيبٍ ما وجدناهُ في قديم الزمان
    وبنوا للعُلى مباني علاو عاجزٌ عنها صاحب الإيوانِ
    فلهم في الزمانِ علمٌ وفخرٌ ومقامٌ يعلو على كيوانِ
    وقد نظم السيد الأخرس قصائد عديدة في مدح أديب العراق عبد الباقي الفاروقي. ورثاه بعد موته بقصيدة أولها:
    ما لي أودّع كل يومٍ صاحباً إذ لا تَلاقي بعد طول فراقِ
    وأصارم الأحبابَ لا عن جفوةٍ مني ولا متعرّضاً لشقاقِ
    فارقتهم ومدامعي منهلةٌ وجوانحي للبَين في إحراقِ
    إلى أن قال:
    فارقتُ أذكى العالمينَ قريحةَ وأجلَّها فضلاً على الإطلاقِ
    وفقدتُ مستَنَد الرجال إذا روتْ عنهُ الثقاتُ مكارمَ الأخلاقِ
    قد كان منتجَعي وشِرْعةُ منهلي ومناطُ فخري وارتيادُ نياقي
    كانت لهُ الأيدي يطوقني بها منناً هي الأطواق في الأعناقِ
    وختمها بقوله:
    رزء أصيب بهِ العراق فأرخَوا رزء العراقِ بموتِ عبد الباقي
    (1278).
    وقال مودعاً بعض الكرام اسمه يوسف:
    مولاي قد حان الوداعَ وقد عزمتُ على المسيرِ
    كم زرتُ حضرتك التي ما زلتُ منها في حبورِ
    ورجعتُ عنك بنائلٍ غِمر وبالخَبر الكثيرِ
    واللهُ يعلمُ أنني عن شكر فضلك في قصورِ
    يا مفرداً في عصرهِ بالفضل معدوم النظيرِ
    يا يوسفُ البدرُ الذي يسمو على البدر المنيرِ
    ما لي بعيرك حاجةُ كغنى الخطير عن الحقيرِ
    وسواك يا مولاي لا واللهُ يخطرُ في ضميري
    ما كلُّ وزادٍ يفو ز بموِرد العذب النميرِ
    لا زلت أهلاً للجمي ل مدى الليالي والشهورِ
    ومما لم نجده في ديوانه تخميس قالها عبد الباقي العمري في قاض جائر:
    ألا قطع الرحمن كل مُقاطعٍ مضرٍّ بما يقضى به غير نافعِ
    وراض بظلمٍ طامع غير قانعٍ وقاضٍ بجورٍ ما له من مضارعٍ
    على أنهُ بالعسفِ أقطعُ من ماض
    فكم قد جنى في حكمهِ من جنايةٍ وقد راح في غيٍّ لهُ وغوايةٍ
    فلا رُد قاضٍ ما اهتدى لهدايةٍ قضى ومضى لكن إلى كل غايةٍ
    من الخزي لا يحظى بها أبداً قاض
    بُلينا بقاضٍ جائر غير عادلٍ ويجورُ بحكمٍ قاصرٍ غير طائلٍ
    ومن أعظم البلوى بلاءٌ بجاهلٍ يقولونُ يقضي قلتُ لكن بباطلٍ
    وقالوا يقصُّ الحقَّ قلتُ بمقراض
    السيد صالح القزويني
    هو أيضاً أحد شعراء العراق المجيدين ولد في النجف في 17 رجب 1208ه شباط 1793م وتوفي في بغداد في 5 ربيع الأول 1301 (4ك 1883) تخرج في وطنه على علمائه وأتقن العلوم المذهبية ثم تفرغ للآداب ولنظم الشعر فنبغ منه. فكان مواطنوه ينتابون مجلسه ويتجاذبون أطراف الأدب ويتناشدون الأشعار فلا يكاد أحد يبلغ شأوه. وقد اشتهر خصوصاً بالرصف والمدح وقد خلف ديوان في كل معاني الشعر لم يمثلا بالطبع حتى اليوم:
    الحاج عمر الإنسي
    ولما كانت مصر تفتخر بطهطاويها والعراق بأخرسها كانت بيروت تأنس بأنسيها الحاج عمر سليل أسرة شريفة اشتهر لقبها بالصقعان. ولد الإنسي سنة 1237 (1822م) في بيروت وأخذ العلوم عن الشيخين محمد الحوت وعبد الله خالد وقد قلدته الحكومة السنية عدة مناصب كنظارة النفوس في لبنان وعضوية مجلس إدارة بيروت ومديرية حيفاء ونيابة صور وبقاع العزيز تقلب فيها كلها وأظهر فيها دراية وعفة نفس وعلو همة. وكانت وفاته في وطنه سنة 1293 (1876م). وقد وصفه من عرفه بحسن الشعر وأنس المحضر والصدق والاستقامة. وكان فصيح اللفظ طلق اللسان حسن النظم وله مصنفات منها ديوان شعره الموسوم بالمورد العذب طبع في بيروت سنة 1013 (1895م) بهمه نجله السيد عبد الرحمن. وقد كان بينه وبين الشيخ ناصيف اليازجي مكاتبات. ومما مدحه به الشيخ قوله من أبياتٍ:
    وإذا أردتَ قصيدةً فيه لها عُمَراً وَنمْ
    الشاعرُ العربي ذو ال غُرَر التي سبَت العجمْ
    في المكرُمات لهُ يدٌ وإلى الصوابِ لهُ قدّمْ
    ولهُ مناقبُ لا تُنا ل كأَنها َصْيدُ الحَرَمْ
    وهذه نبذة من أقوال الحاج عمر. قال في التقى:
    عليك بتقوى الله والصدق إنمَّا نجاةُ الفتى يا صاحٍ بالصدقِ والتُّقى
    وقِسْ حالَ أبناء الزمان بضدهِ ترَ الفرق ما بين السعادةِ والشقا
    وقال في الزهد:
    رغبتُ عن الدنيا وزُخْرفِ أهلها وقلتُ لنفسي إنما العيشُ في الأخرى
    فدَعنْي وزهدي في الحُطامِ فأنني أرى الزهدَ في الدنيا هو الراحةُ الكبرى
    ومن ظريف هجوهِ ما قالهُ في غلام قهوجي يُدعى هلالاً:
    تعس الهلالُ القهوجيُّ لأنهُ قد قطّعَ الأنفاس من أنفاسهِ
    هذا الهلالُ هو الهلاكُ وإنما غلطوا فلم يضعوا العصا في رأسهِ
    أراد بالعصا الشطبة التي تُرسم في رأس الكاف (ك) الشبيهة باللام (ل). وقال يهجو ثقيلاً كان لا يزال يذكر ذنوبه:
    شكا ثقَلَ الذنوب لنا ثقيلٌ فقلتُ لهُ استمِعْ لبديع قيلي
    ثلاث بالتناسب فيك خُصَّت فلم توجد بغيركَ من مثيلِ
    ذنوبك مثل روحك ضمنَ جسمٍ ثقيلٍ في ثقيلٍ في ثقيلِ
    ومن رثائه قوله في مارون النقاش لما توفي في طرسوس سنة 1271ه من أبياتٍ:
    فقدنا أديباً كان طِرْسُ يراعهِ إذا خطَّ سطراً نال من خطهِ شَطرا
    أخاشَيمٍ قد أعجزتْ عن مديحها لساني فأمسى لا يُطيق لها شكرا
    وما كنتُ يا مارونُ قبلك زاعماً بأن الثرى عن أعيني يحجبُ البدرا...
    فكم لك من آداب لطفُ شمائلٍ إذا ما نشرنا ذكرها نفحَتْ نشرا
    وكم لك من أبيات شعرٍ حرَّيةٍ بها أن تحلَي جيدها الغادةُ العذرا
    ألا يا بني النقَّاش لا يحزننَّكم بكاً وسَّع الأجفانَ أو ضَّيق الصدرا
    أرى الدهر لما قَّسم الحزن خصَّنا بتسعة أعشارٍ وحَّملكم عشرا...
    فآسف لو كان التأسُّف نافعاً عليهِ ولكنَّ الثناءَ لهُ أحرى
    الآلوسيَّان عبد الله وعبد الباقي
    وفي هذه المدة قضى اثنان من الآلوسيين نحبهما في العراق. وهما أبناء السيد العلامة شهاب محمود أفندي الآلوسي الذي سبق لنا تعريف فضله: (ج 9:1 - 12) أعني عبد الله وعبد الباقي. فالسيد عبد الله بهاء الدين أفندي ولد سنة 1248 (1832) فقال السيد عبد الغفار الأخرس مؤرخاً لولده:
    ليهنئك يا تحريرَ أهل زمانهِ ويا كاملاً عنهُ غدا الطَرْفُ قاصرا
    بطفلٍ ذكيّ قد أتاكَ وإنما يضاهيك بالأخلاق سراً وظاهرا
    وبشّرتني فيهِ فقلتُ مؤرخاً بولد عبد الله نلتَ البشائرا
    فلما ترعرع أخذ العلوم عن والده إلى أن أصيب بوفاته وهو إذ ذاك بين اثنتين وعشرين سنة فجزع لموته وكاد لحزنه يلحق بأبيه. ثم انكب على الدرس واجتمع ببعض أفاضل وطنه فما لبث أن فاقهم وأقبل على التدريس فحصل بعد حين على شهرة واسعة وانتظم في سلك أهل الطريقة النقشبندية. ثم بلي بأنواع الأسقام فخرج من وطنه قاصداً الآستانة العلية لكن أشقياء العربان نهبوا أثقاله فعاد إلى بغداد صفر اليدين. وفي آخر أمره تولى القضاء في البصرة فأكرمه أهلها وعرفوا قدره لولا أنه تأذى بحمياتها القتالة فخرج منها بعد سنتين ولسانُ حالهِ ينشد مع معاصره الشيخ صالح التميمي:
    ومتى تسيرُ ركائبي عن بلدةٍ أبداً أقام فناؤها بفناها
    لا فرق بين شَمالها وَجنوبها وقَبُولها ودَبُورها وصباها
    ما أن تحرَّكتِ الغصونُ بأرضها ألا تحرَّك في الجسومِ أذاها
    أشجارُها خضرٌ وأوجهُ أهلها صُفرٌ محا كَسْفُ السقامِ بهاها
    لولا قضاء اللهِ حتمٌ واجبٌ أبتِ المروءة أن أدوسَ ثراها
    فما وصل إلى بغداد حتى مات بعد أيام 1291 (1874) وله من العمر 43 سنة وكان السيد عبد الله كثير التدين لين الجانب محباً للفقراء لا يأنف من مخالطتهم. وقد امتاز بحسن نثره وجزالة تعبيره. ومن تأليفه رسائل ومقالات مفيدة وشروح في علمي المنطق والبيان وألف كتاب الواضح في النحو وكتاباً في آداب الصوفية.
    أما أخوه فهو السيد سعد الدين عبد الباقي وقع مولده سنة 1250 فأرخه الشاعر عبد الحميد الأطرقجي:
    طرباً بمن سرَّ الورى ميلادُهُ وسرى نسيمُ اللطفِ في الآفاقِ
    يا سادتي بشراكُم فيمن بدا متخلقاً بمكارم الأخلاقِ
    فرداً أتى وبه استعنتُ مؤرخاً تمَّ السرورُ لكم بعبد الباقي
    أخذ عن والده كأخيه ثم عن الشيخ عيسى البندبيجي وزار الحجاز وتولى القضاء في كركوك مركز ولاية شهرزور ثم في بتليس وسافر إلى دار السعادة. وله عدة مصنفات أخصها القول الماضي فيما يجب المفتي والقاضي وأوضح منهج في مناسك الحج الذي طبع في مصر وأسعد كتاب في فصل الخطاب وغير ذلك مما يشهد له برسوخ القدم في المعارف. توفي في مصر سنة 1298 (1881).
    أبو النصر علي
    واشتهر في مصر في هذه الحقبة الأديب المصري أبو النصر علي ولد في منفلوط وفيها كانت وفاته سنة 1298 (1880 - 1881) نظم الشعر في مقتبل الشباب وأصبح من فرسان ميدانه فنما خبره إلى خديوي مصر إسماعيل باشا فقدمه وأجازه ولأبي النصر عدة قصائد غراء فيه وفي أمراء الدولة الخديوية وقد وافق إسماعيل باشا لما رحل إلى الآستانة ثم مدح بعده الحضرة التوفيقية. ولأبي النصر ديوان كبير طبع في مطبعة بولاق سنة 1300 ضمنه أقوالاً منتخبة في كل أبواب البلاغة ومعاني الشعر فمما استحسناه قوله في الخمر وقد نحا في وصفه طريقة الصوفيين:
    بنتُ كرمٍ دونها بنتُ الكرامْ وهي بكرٌ زفَّها ساقها المُدامُ
    شمسُ راحٍ في اصطباحٍ أشرقت في سماء الكأس كالبدر التمامْ
    كم تجلى كأسُها عن لؤلؤ من حُبابٍ كالدراري في انتظامْ
    إنَّ لي عنها حديثاً سرَّهُ لا يُضاهَي وهي لي أقصى المرامْ
    لو درى أهلُ التقى أسرارَها لَسقَوا أبناءَهم قبل الفِطامْ
    لا تسَلْني عن معانيها وسَلْ عن حُلاها وسناها باحتشامْ
    قال صفْها قلتُ دَعنْي أنها صورةٌ كالجسم عندي والسلامْ
    قال زدني قلتُ ما المسئول عن ها بأَدْرى منها يا هذا الغلامْ
    قال قلْ في كرْمها مخلوقةٌ نزهةٌ الناس من سامٍ وحامْ
    ما رآها عابدٌ إلا انثنى عن سجود وركوعٍ وقيامْ
    راحةُ الأرواحِ في أقداحها أنبأَتنا إنَّها تُبري السقامْ
    وهي طويلة. ومن حسن شعره قوله يصف سفرة الحضرة التوفيقية إلى الصعيد سنة 1287م:
    زار في موكبٍ كعقد اللآلي فازدهى بالقدوم صفو الليالي
    إلى أن قال:
    فازدهى رونقُ الصعيد جمالاً وتحلّت أرجاؤهُ بالحلالِ
    وروى النيلُ عن رُواهُ حديثاً يشرحُ الصدر شرحهُ في المقالِ
    حيث دُقّت بالشاطئَينِ طبولٌ والأهالي تفوقُ عدَّ الرمالِ
    وتلافوا بضُمَّير سابقاتٍ فترى الليث فوق ظهر الغزال
    وتوالَوْا في سَيْرِهم فأضاءت حليةُ البيض بين سُمْر العوالي
    وجميعُ البلادِ أيدت سروراً ناشراتٍ أعلامها بابتهالِ
    نسألُ الله عصمةً ونجاحاً وبقاء لهُ وحسنَ مآل
    ومن أقواله يعاقب دهرهُ:
    إلامَ تصوّبُ الأوهامُ غيًّا وتنشرُ ما طواهُ الرشدُ طياً
    أبعد الحق تُنتظَر الأماني ويُفرَضُ ميّت الآمال حياً
    إذا كنا مع الأحياء موتى فهيَّا نلحقُ الأمواتَ هيّا
    شربتُ من الأسى عللاً ونَهْلاً فزدتُ صدىً وما ألفيتُ رّياً
    وكم جبتُ المهامة كي ألاقي بمُنْتَجعي جواداً أو تقّيا
    فذلك أراهُ مختالاً فَخوراً وهذا قصدهُ يُدعى وليّاً
    وقال يصف الأماني الباطلة:
    بلوتُ الأماني وجرَّبتُها فألفيت فيها عجيب العُجائبْ
    تريك البعيدَ قريباً كما تريك انقيادَ الأمير المهابْ
    فلا تتَّخذْها سبيلاً إلى بلوغ المرام ودَعْ ما يُعابْ
    فإن الأماني خيالٌ يمرُّ على من تخيَّل مَرَّ السحابْ
    وغايةُ ما ينتجُ من مُناها تصوُّر لخلافِ الصوابَ
    ومن أقوالهِ الحماسية قوله:
    أرى دولة الأَيام خائنة العهد مراوغةً تصبو إلى الخُلف في الوعدِ
    وما بالها تجني على كلّ ماجدٍ كأنَّ لها ثاراً على دولة المجدِ
    ترينا محبّاً باسم الثغر ظاهراً ولكن لها قلبٌ مصرٌّ على الحقدِ
    تمرُّ فتحلو للغبّي ومَن درى تُجرّعه كأس المرار على عمدِ
    أعدَّت لحربي جندَها فلقيتُها بقوَّةِ جأش دونها قوَّة الصَلْدٍ
    واستقبل الأخطار بالبشر لاهياً بدون اكتراثٍ مازجَ الهزل بالجدِّ
    وإن ضاق ميدانُ المخاوف لم أكن حريصاً على حبّ الحياة ولا أفدي
    ولأبي النصر رحلتان إلى القسطنطينية كانت الأولى في أيام السلطان عبد المجيد موفداً من محمد عليّ الكبير وأنشد حينئذٍ شيخ الإسلام قوله يمدح القسطنطينية:
    وكنَّا نرى مصر السعيدة جَّنةً ونحسُبها دون البلاد هي العليا
    فلمَّا رأى دار الخلافة عينُنا علمنا يقيناً أنها لَهيَ الدنيا
    وكانت رحلتنه الثانية مع الخديوي إسماعيل باشا وصادف دخولهما الآستانة يوم عيد جلوس السلطان عبد العزيز سنة 1289 (1872) فقال أبو النصر يمدح الحضرة السلطانية بقصيدة مطلعها:
    تبسَّمتِ الأزهار عن لؤلؤ القطرِ ففاح شذاها في الحدائق كالعطرِ
    ومنها في مدح السلطان:
    أفادَ العلا جاهاً وعزاً مؤبداً وأَلبسها من مجدهِ حللَ الفخرِ
    وأبدى لأعلام التقدُّمِ مظهراً به ملكهُ يعلو على دولِ العصرِ
    وأحيا لإحياء العلى كلّ دارسٍ فأضحت قلاعُ الثغر باسمة الثغرِ
    وجدَّد في عهد قريبٍ بواخراً بها قوَّةُ الإسلام محكمةُ الأمرِ
    برونقها تكسو الفخار مهابةً وتعلو بما حازت على الأنجمِ الزُّهرِ
    لهُ من رجال الحرب جيشٌ عر مرمٌ لهم هِمَمٌ في الفتك بالبيض والسمرِ
    مدافُعهم شمُّ الأُنوفِ على العدى تخرُّ لهم شمُّ الجبالِ من الصخرِ
    وأسيافُهم في السلْم يحلو صيامُها متى جُرّدت مالت إلى الفطر بالنَّحرِ
    وختمها بهذا التاريخ:
    وها أن في البُشرى أقولُ مؤرخاً جلوسُكَ عيدُ الدهرام ليلةُ القدرِ

    محمود صفوت
    ومن معاصري أبي النصر على وطنيه محمود أفندي صفوت بن مصطفى آغا الزيلع الشهير بالساعاتي ولد بالقاهر سنة 1241 وبها توفي سنة وفاة أبي النصر 1298 (1881) لزم الآداب واشتهر بنظمه ونثره حتى عد فيهما من المقدمين. وتوجه إلى الحجاز ودخل على أمير مكة الشريف محمد بن عون فأكرم مثواه وأبقاه عنده إلى آخر إمارته ثم سافر إلى القسطنطينية وعاد بعد ذلك إلى وطنه وفيها قضى بقية حياته. ولمحمود أفندي صفوت
    ديوان شعر نشر بالطبع في مصر سنة 1329 (1911). فمن ذلك قوله يفتخر:
    وَلع الزمانُ وأهلهُ بعداوتي إنَّ الكرام لها اللثامُ عداءُ
    أتحطُ قدوري الحادثاتُ وهمَّتي ومن دونها المرّيخُ والجوزاءُ
    هيهات تهضمُ جانبي وعزائمي مثل البواتر دأبُها الإمضاءُ
    صبراً على كيد الزمان فإنما يبدو الصباحُ وتنجلي الظلماءُ
    وله في رثاء أحد العلماء:
    بكت عيون العلا وانحطَّت الرُّتَبُ ومزَّقت شملَها من حزنها الكتبُ
    ونكسَّتْ رأسها الأقلامُ باكيةً على القراطيس لمَّا فاحت الخُطبُ
    وكيف لا وسماء العلم كنت بها بدراً تماماً فحالت دونك الحجُب
    يا شمسَ فضلٍ فدتك الشهبُ قاطبةً إذ عنك لا أنجمٌ تُغني ولا شهبُ
    لما أصابك لا قوسٌ ولا وترٌ سهمُ المنَّية كاد الكون ينقلبُ
    ما حيلةُ العبدِ والأقدارُ جاريةٌ العمرٌ يوهَبُ والأقدارُ تنتهبُ

    صالح مجدي بك
    وفي السنة ذاتها 1298 (1881) توفي أديب آخر من نوابغ كتبة مصر السيد صالح مجدي بك. ولد في رجوان من مديرية الجيزة سنة 1242 (1826) وبعد أن تلقى مبادئ العلوم العربية ودرس اللغة الفرنسوية ألحقه أستاذه رفاعة بك الطهطاوي بقلم الترجمة ثم عهد إليه بتدريس اللغتين العربية والفرنسوية في المدرسة الهندسية الخديوية وعهدوا إليه تعريب كتب علمية للفرنج فعرب منها عدداً وافراً في رسم الأمكنة والطبقات الجيولوجية والميكانيكيات والحساب والجر والهندسة والفلكيات والفنون الحربية كبناء الحصون ورمي القنابل إلى أن تولى رئاسة الترجمة وجعله إسماعيل باشا في المعية السنية وولاه مناصب أخرى وكان آخر ما عهد إليه قضاء القاهرة فلزمه إلى وفاته. وكان صالح بك يحسن الإنشاء وفنون الكتابة وقد نشر مقالات عديدة اجتماعية وسياسية وأدبية في جرائد مصر كروضة المدارس والوقائع المصرية. واشتغل بتأليف مطول لتاريخ مصر مع علي باشا المبارك وله ديوان شعر واسع طبع في بولاق سنة 1312هـ.
    ومن شعر السيد صالح بك مجدي قوله سنة 1289 يهنئ جناب الخديوي إسماعيل باشا عند رجوعه من الآستانة:
    مع النصر وافى من عليهِ المعوَّلُ ومن هو في أيّامهِ الغرّ أوَّلُ
    ومن هو للأوطان والملك والملا ملاذٌ وحصنٌ لا يُرامُ وموئلُ
    ومن تملأُ الدنيا مهابتُهُ التي بها الأسدُ في آجامها تتجدْلُ
    ومن فاض من يمناهُ ماءُ سماحةٍ فأحيا بلاداً أهلها قد تموَّلوا
    ومن شاد أركان المعالي بهمَّةٍ يقّصرُ من إدراكها متطوّلُ
    وقد جاءت البشرى بذاك فزُينت لُمقْدمةِ مصرٌ وفازَ المؤّملُ
    وأثنتْ على دار الخلافة عند ما رأتهُ بها يعلو وشانيهِ يسفلُ
    فِعش ما تشا في دولةٍ أنت رّبها ومجدك فيها من قديم مؤَثَّلُ
    وقد قلتُ في يوم القدومِ مؤرخاً إلى مصر إسماعيلُ بالبشر مقبلُ
    وقال من قصيدة يهنئه بها في أول العام:
    بالبشر في مصرَ لاحت غرَّةُ العامِ تزهو بنور مليكٍ للحمى حامي
    تزهو بنور مليك غيثُ راحتهِ في الكون طول المدى بين الورى هامي
    هو الخديوُ الذي أوطانهُ نشرت للفضل في عصرهِ مطويَّ أعلامِ
    وللتمدُن مدَّت باعها وإلى أوج العلا سارعَتْ من غير أحجامِ
    فيا لهُ من حكيم بالعلاج محا ما كان في جسمها من فرط أسقامِ
    وله في حسين باشا ناظر المعارف والأوقاف والأشغال العمومية:
    لجانبك العالي ثلاثُ مصالحٍ نُظمتْ بمسطَتيْ عسجدٍ ولُجَينِ
    وأضاءَ منك جبيُنها برئاسةٍ أعماُلها منشورةُ العَلمَينِ
    ونمتْ بها بركاتُ أوقافٍ روت مصراً وقد فاضت على الحرمَينِ
    وبحزمك الأشغالُ زاد نجاحها ونجازُها في السهل والجبلَينِ
    ولك المعارف غرَّدت أبناءها بمدائح الأجداد والأبوَينِ
    وبديعُ نظمِ كامل في كاملٍ من مخلصٍ بالقلب والشفتيَنِ
    من مُخلص لك في الثناء بدولةٍ أضحيت فيها حائزَ الشرَفينِ
    وختمها بهذا التاريخ:
    والمجد في علياك قال مؤرخاً زمنُ المعارف مُشْرقٌ بحُسَين
    (1289).

    أبو السعود أفندي
    ومن مشاهير أدباء مصر في ذلك الوقت أبو السعود أفندي عبد الله المصري ولد سنة 1244 (1828) في دهشور قرب الجيزة ودرس في المدرسة الكلية التي أنشأها محمد علي باشا في القاهرة فبرع بين أقرانه. ثم ندبته الحكومة إلى نظارة أعمالها فكان في وقت الفراغ يواصل دروسه ويعكف على التأليف شعراً ونثراً. وحرر مدة جريدة وادي النيل وكاتب أدباء زمانه. ونقل بعض كتب الفرنج إلى العربية. ومن تآليفه (كتاب منحة أهل العصر بمنتقى تاريخ مصر) نظم فيه مجمل حوادث تاريخ مصر للجبرتي ووضع تاريخاً لفرنسة ألحقه بتاريخ ولاة مصر من أول الإسلام دعاه بنظم اللآلي. وباشر بترجمة تاريخ عام مطول وسمه بالدرس التام في التاريخ العام طبع منه قسم سنة 1289. وكان أبو السعود شاعراً مجيداً له ديوان طبع في القاهرة أودعه كثيراً من فنون الشعر كالمديح والمراثي والفراقيات. ونبغ في المنظومات المولدة كالمواليا والموشحات. وله أرجوزة تظم فيها سيرة محمد علي باشا كثيرة الفوائد بينة المقاصد تبلغ عشرة آلاف بيت. وله غير ذلك مما تفنن فيه وسبق آل عصره توفي أبو السعود أفندي في ربيع الأول سنة 1295 (1878). وقد رثاه أحد شعراء وطنه بقصيدة قال في مطلعها:
    خُلق الهبوطُ مع الصعودْ ومع القيام بدا القعودْ
    إلى أن قال:
    ليس البكاء لغادةٍ أبدتْ لمغرمها الصدودْ
    لكنَّهُ لمَّا قضى ربُّ القريضِ أبو السعودْ
    من لم يُجبْهُ بدمعِه فكأنما نقضَ العهودْ
    فهو الحريُّ بأن تذو ب عليهِ بالأسفِ الكبودْ
    بحرٌ تدَّفق ماؤه لكنَّه عذبُ الورودْ
    بقريحةٍ سالت على أرجائها سَيْلَ العهودْ
    كم أنجبت نُخَباً لهُ فكأنّها الأمُّ الوَلودْ
    أبداً توقَّدُ بالذكا ءِ فليس يعروها خمودْ
    نشبت مخالبها المنَّي ةُ فيه وهو من الأسودْ
    لا غروَ إن صعدَ السما بين الملائكة السجودْ
    فبناتُ نعشٍ قد حمل ن سريرهُ لَمن الشهودْ

    الحاج حسين بيهم
    وفي آخر هذه الجبقة في صفر من سنة 1298 (23 ك2 1881) فقدت الآداب أحد أركانها في بيروت وهو الحاج حسين ابن السيد عمر بيهم كان والده عمر من أعيان المدينة وأدبائها رثاه الشيخ ناصيف اليازجي سنة وفاته 1276 (1859) بقصيدة مطلعها:
    زُر تربةً في الحمى يا أبها المطرُ وقُلْ عليكَ سلامُ اللهِ يا عُمَرُ
    ومنها:
    في شخصهِ الدين والدنيا قد اجتمعا وذاك يندرُ أن تحظى بهِ البشرُ
    ولد حسين ابنه سنة 1249 (1833) ونشأ حريصاً على تحصيل مسائل العلم وفنون الأدب فأخذ عن علماء ملته كالشيخ محمد الحوت والشيخ عبد الله خالد. وبعد أن تعاطى التجارة زمناً يسيراً انقطع إلى العلم ونال به شهرة ثم نظم الشعر فصارت له به ملكة راسخة بحيث كان يقوله ارتجالاً في المحافل ويخرجه على صور مبتكرة تطرب له الأسماع. وقد ولته الحكومة عدة مناصب كنظارة الخارجية ورئاسة الأحكام العدلية ثم أعيدت إليه الخارجية فقال في ذلك:
    إنَّ الفؤَاد لهُ في الملك معرفةٌ فالخارجيَّةُ لم تترك نظارتَهُ
    لذاك سلطانُنا المنصور ردَّ لهُ مع حسن أنظارهِ أَرّخْ بضاعَتَهُ
    ولما وضع القانون الأساسي وفتح للمرة الأولى مجلس النواب انتخبه مواطنوه ليمثلهم فيه فحضر في الآستانة جلساته ثم عاد إلى وطنه واعتزل المأموريات وانقطع إلى الآداب. وكان حاضر الجواب ثاقب الرأي كريم الأخلاق على الهمة محبوباً عند الجميع. وكان أحد أعضاء جمعية العلوم السورية المنشأة في بيروت فلمّا توفي رئيسها الأول الأمير محمد أرسلان عهدوا إليه رئاستها. وكان للحاج حسين نظم رشيق مطبوع قد بقي منه القليل ومن آثاره رواية أدبية وطنية مثلت مراراً وقرظها الأدباء. ومن شعره قوله في تاريخ جلوس السلطان عبد العزيز سنة 1277:
    خلافة الإسلام قد أصبحت تزهو افتخاراً بالمليك العزيزْ
    وملة الأيمان أرَّختُها طابت بشاهنشاهَ عبد العزيزْ
    وقال مؤرخاً إنشاء التلغراف في بيروت:
    لله درُّ السِلكِ قد أدهشت عقولنا لمَّا على الجوّ ساقْ
    فأعجبَ الكون بتاريخهِ شبيهُ برقٍ أو شبيه البُراقْ
    (1277)
    وقال مشطراً:
    إذا العنايةُ لاحظتك عيونُها وحَباكها من فضلهِ الرحمانُ
    ناداك طائرُ يمنك وسعودها ثم فالمخاوف كلُّهنَّ أمانُ
    واصطَدْ بها العنقاءَ فهي حبالةٌ واملك بها الغبراءَ فهي سنانُ
    واصعد بها العلياء فهي معارجٌ واقتَدْ بها الجوزاءَ فهي عنانُ
    ومن جيد شعرهِ قولهُ يعزي صديقاً بفقد ماله:
    لقد غمَّنا والله والصحبَ كلَّهم مصابٌ دهاكم بالقضا حكم قادرِ
    كانَّ شراراً منهُ طار لأرضنا فاحرق أحشاء الورى بالتطاُيرِ
    ولكنَّنا قلنا مقالةَ عاقلٍ يسلم الباري بكل المظاهرِ
    إذا سَلِمتْ هامُ الرجالِ من الردى فما المالُ إلا مثل قصِ الأظافرِ
    فكن مثل ظن الناس فيك مقابلاً لذا الخطب بالصبر الجميل المصادرِ
    ولا تأسفَنْ إذا ضاع مالٌ ومقتنىً فرُّبكَ يا ذا الحرم أعظمُ جابرِ
    وإنَّ حياة المرء رأسٌ لما له سلامتهُ تعلو جميع الخسائرِ
    وقد نظم أرجوزة حسنة في العلم وشرفه نشرت في أعمال الجمعية العلمية السورية لسنتها الأولى (ص16 - 26).
    ومما رثي به الحاج حسين أفندي بيهم قول أبي الحسن الكستي:
    فراقُكَ صعبٌ يا حسينُ احتمالُهُ وبعدك رَكبُ الأنس شالت رحالهُ
    رحلتَ إلى دار البقاء مكرَّماً ومثلك مولى للنعيم مالهُ
    ولكن تركت القوم تبكي عيونهم عليك بدمعٍ كالسيول انهمالُهُ
    وليس لنا من بعد فقدك حليةٌ سوى الحزن أو صبرٍ يعزُّ منالهُ
    حويت خصالاً جل في الناس قدرُها وما كلُّ إنسانٍ تجلُّ خصالهُ
    عفافٌ ومعروفٌ وعلمٌ ورقَّةٌ وفضلٌ ومجدٌ قلَّ فينا مثالهُ

    محمد أكنسوس
    وممن رزئت به الآداب في هذا الوقت في بلاد المغرب الأديب الشاعر أبو عبد الله محمد بن أحمد اكنسوس المراكشي توفي في بلده مراكش سنة 1294 (1877) وقد عرف المذكور بسعة معارفه لا سيما التاريخية والأدبية. وله التاريخ المسمى كتاب الجيش وقصائد عديدة في مشاهير بلاده من ذلك قوله يرثي سلطان مراكش المولى عبد الرحمن المتوفى سنة 1276 (1859):
    هذي الحياةُ شبيهةُ الأحلامِ ما الناسُ أن حقَّقتَ غيرُ نيامِ
    ومنها:
    لو كان ينجو من رداها مالكٌ في كثرةِ الأنصار والخدَّامِ
    لنا أمير المؤمنين ومن غدا أعلى ملوك الأرض نجل هشام
    خير السلاطين الذين تقدَّموا في الغرب أو في الشرق أو في الشامِ
    يا مالكاً كانت لنا أيامهُ ظلاً ظليلاً دائمَ الإنعامِ
    لا ضَير انك قد رحلت ميمّماً دار الهناء وجنَّة الإكرامِ
    فلك الرضا فأنعم بما أعطيتَهُ ولك الهناءُ بنيل كل مرامِ
    وقال يصف خروج السلطان المولى حسن على أعداء دولته سنة 1293 (1876):
    عصفتَ عليهمِ بالبأسِ تُزْجي كتائبَ كالسحابِ إذا تلوحُ
    فألقيتَ الجرانَ على ذراهم بجيشٍ كلُّهم بطلٌ مُشيحُ
    فجاء العفو منك وهم ثلاثٌ أسيرٌ أو كسيرٌ أو ذبيحُ
    وقد قُسمتْ بلادهُم بعدلٍ ودورهمُ كما قُسمَ الوطيحُ
    فلا تحلمْ فإنَّ الجرح يُكوى طرياً بالمحاور أو يقيحُ
    أبا زيدٍ إذا تبقي عليهم بصفحٍ رُبما ندم الصّفوحُ
    وله يصف بستاناً للوزير أبي عبد الله محمد بمن إدريس:
    يا منزلاً قد خصَّصَتْهُ سعادةٌ واستبدلَتْهُ أنعُماً من أَبْؤسِ
    أصبحتَ مأوَى للوزير محمَّد نجل الأَدارسةِ الكرام المغرسِ
    إنسانُ عين كون من لَبست بِه رُتبُ العلى أبهى وأبهج ملبسِ
    يا أيها البحر الذي من فيضهِ كلّ الأماني والغنى للمفلسِ
    يهنيك ذا القصرُ الذي أنشأتهُ بالسعد في عام انشراح الأنفسِ
    لا زلتُ تشرف من مطالع سعدهِ كالبدر يظهر من خلال الحندسِ
    والدهرُ يخدم جانبيك ويحتمي بجلالك العالي الأعزّ الأقدس
    وكان محمد اكنسوس يأسف على ما يرى في وطنه من الخمول فقال في ذلك قبل وفاته:
    ولستُ أُبالي أن يقال محمدٌ أبلّ أم اكتظّ َت عليه المآتمُ
    ولكنَّ ديناً قدر أردتُ صلاحهُ أحاذرُ أن تقضي عليه العمامُ
    وللناس آمالُ يُرُجوُن نَيْلها وإن متُّ ماتَتْ واضمحلّت عزائمُ
    فيا ربي إن قدَّرتَ رجعي قريبةً إلى عالم الأرواح وانقضَّ خاتمُ
    فبارك على الإسلام وارزقهُ مرشداً رشيداً يضيءُ النهجَ والليلُ قاتمُ
    هذا ما أمكنا جمعه من تراجم أدباء المسلمين في هذا العشر وهو بر من عد ولا نشك أنه اشتهر في بلاد الإسلام غير هؤلاء ألا أن تواريخهم لم تطبع حتى الآن أو تجد منها نتفاً قليلة متفرقة لا ينتفع من مضامينها إلا من وصلت يده إلى تلك المنشورات وسمح له الزمان بمراجعتها وقليل ما هم.
    وممن أطلعنا على ذكر بعض آثارهم دون معرفة ترجمة حياتهم الشيخ العالم حمزة أفندي فتح الله الذي حرر مدة في الإسكندرية جريدة الكوكب الشرقي ثم انتقل إلى تونس ففوضته حكومتها أن يحرر جريدتها الرسمية المدعوة بالرائد التونسي مع منشئها منصور أفندي كرلتي. فاشتغل بذلك مدة منذ السنة 1293 (1876م) وكان ذا باع في الإنشاء وله نظم حسن فمن ذلك قوله يمدح الوزير الكبير خير الدين باشا بقصيدة مطلعها:
    آلاؤكَ الغرُّ أو إناؤك الغُررُ زها بها في الزمان الجيدُ والطُّرُرُ
    ومنها:
    الله ملجأنا إذ ليس يفجأنا شرُّ الخطوب وخيرُ الدين لي وَزَرُ
    خَيْرٌ له همةٌ أعلى وأرفع من هامِ الثريَّا ومجدُ ليس ينحصرُ
    وسيرة سرَّت الدنيا بشائرُها وضمَّخ الكونَ عَرفاً مسكها الذَّفِرُ
    لا زال كهفاً لمن يأوي بساحتهِ في ظلّهِ تسعد الآمال والوطرُ
    وكبةً وزراء الفضل أنجمُها تزهو بهِ وهو فيما بينهم قمرُ
    وكان خير الدين المذكور وزيراً لباي تونس فاشتهر بحسن سياسته وتدبيره للأمور. وكان كاتباً بارعاً ألّف كتاباً دعاه أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك طبعه في حاضرة تونس سنة 1285. وهو أجود كتاب وضعه أحد الشرقيين في وصف الممالك الأوربية وتعريف أحوالها المدنية مع لمحة من تواريخها.
    وعرف بذلك الوقت في المغرب وبلاد تونس من الأدباء الوزير أبو العباس أحمد ابن أبي ضياف والشيوخ أبو عبد الله محمد الباجي وأحمد كريم الحنفي وأبو النجاة سالم أبو حاجب وأبو عبد الله محمد العربي زورق ومحمد الصادق ثابت وأبو راشد يونس العروسي ومصطفى رضوان ومحمد بن الحسن التطواني وقد قرأنا لكلهم فصولاً في الأدب إلا أن أخبارهم منقطعة عنّا.
    وممن لم نقف على أخبارهم ونالوا بعض الشهرة في الأدب في الطور الذي نحن بصدده السيد عبد الرحمان النحّاس نقيب الأشراف في بيروت نشر ديوان خطب إسلامية مسجعة قرظها الشعراء ومما قال فيها الشيخ إبراهيم الأحدب:
    أنشا لنا الخطب التي ألفاظُها قد أعربت في السمع لَحْن مثاني
    فِقَرٌ غدت حُلي المسامع مثلما أغنت فقير الفضل بالإحسانِ
    أذِنت لآلئُ لفظها بولوجها في مسمع الآذان قبل أذانِ
    وللسيد عبد الرحمان قصائد متفرقة منها قوله يمدح الشاعر مصباح البربير:
    لقد ضاءَ مصباحُ مشكاةِ عصرهِ وفاق بحسن الذكر نشرَ الشمائلِ
    فتىً من بني البربير حازَ براعةً وكان بنظم الشعر أول قائلِ
    به طاب أهل المجد فرعاً وقد سما مقاماً على هام البدور الكواملِ
    لقد صاغ من نسج القريض نظامهُ وجاء بديوان غريب المناهلِ
    وكان حديث السنّ لكنَّ قدرهُ كبيرٌ بأنواع العلى والفضائلِ
    وأصاب في طرابلس بعض الشهرة الشيخ محمد الموقت كان يتعاطى الشعر وله مراسلات شعرية مع الشيخ ناصيف اليازجي منها قصيدة في مدحه يقول فيها:
    لله هاتيك الصفاتُ فإنها جمعت ثناء مشارقِ ومغاربِ
    أتظنُّ كل مهنَّد في غمدهِ ماضٍ وكلَّ غضنفرِ بمحاربِ
    لا يخدعنَّك بالمُحال فإنهُ ما كلُّ من سلّ الحسامَ بضاربِ
    هذا هو الروض الذي أزهاره عطَّرنَ كل تَنوفَة وسباسبِ
    هذا هو الماء الزلال وغيرُهُ ملحٌ أُجاجٌ ما يلذُّ لشاربِ
    هذا هو الفخر الذي شرُفت بهِ أبناء دوحتِه لبُعْد تناسبِ
    وكان في مصر طرابلسي آخر يدعى حسن أفندي الطرابلسي كاتب أيضاً الشيخ ناصيف فمدح الشيخ آدابه وشعره فقال:
    يا أيُها الحسَنُ الميمونُ طالعُهُ أحسنت حتى ملأت السَّمَعَ والبصرا
    ما زلتَ تجلو علينا كلّ قافيةٍ قد شبَّبت بمعاني حسنها الشُّعرا
    يهزُّك الشعرُ إنشاداً فنحن بِه نغوصُ في البحر حتى نجتني الدُّررا
    وكذلك كتب في جرائد مصر الشيخ خليل العزازي ونظم القصائد فمدحه محرر الجوانب بقوله:
    ألم ترَ كيف يزخرُ بالقوافي فيُسكر من سلافتها العقولا
    فتروي كلَّ من أمسى غليلاً وتشفي كلَّ من أضحى عليلا
    وقام في العراق أحمد عزت الفاروقي ابن أخي الشاعر عبد الباقي الذي مرّ لنا ذكره سابقاً. وله آثار شعرية لم تجمع حتى الآن. مدحه منشئ الجوانب غير مرّة لوفرة آدابه. وأخباره مجهولة لدينا.

    الأدباء النصارى
    ظهرت في هذا العهد ثمرة المدارس المسيحية التي أنشأت في أنحاء الشام فخرج منها جمهور من الأدباء أخذوا يحررون الجرائد ويصنفون التآليف المختلفة وينظمون القصائد ويمثلون الروايات التشخيصية ويعقدون الجمعيات الأدبية فيلقون فيها الخطب ويهتمون بتنشيط العلوم فحصلت بذلك نهضة استوقفت الأبصار وبعثت في القلوب رغبة الترقي والتمدن.
    بنو اليازجي
    وأول من يتحتم علينا ذكرهم الشيخ ناصيف اليازجي وأسرته التي كاد الموت يقصف آخر غصونها بوفاة نجليه المرحوم الشيخ إبراهيم والسيدة وردة. وهانحن نلخص أخبارهم جميعاً لائتلاف الموضوع وفراراً من التكرار. أصل هذا البيت من روم حمص. ثم نمت أسرتهم وتفرعت إلى عدة فروع فهاجر قوم منهم في العشر الأخير من القرن السابع عشر إلى لبنان فسكنوا جهة الغرب واستوطن غيرهم وادي التيم وكان بعضهم دخل في خدمة عمال الدولة في أواسط القرن الثامن عشر بصفة كاتب فعرف باسم اليازجي أي الكاتب وعرف به أبناؤه من بعده. وقد جاهر هذا الفرع بالمذهب الكاثوليكي مع أسر أخرى كبيت البحري وبيت كرامة في منتهى القرن الثامن عشر وسكنوا كفر شيما. من قرى ساحل بيروت. وكان عبد الله بن ناصيف بن جنبلاط والد الشيخ ناصيف طبيباً درس الطب على بعض رهبان الشوير وتعاطاه بالعمل فحذق به وكان مع ذلك محباً للآداب العربية يطالع من كتب اللغة ما يحصل عليه ووسائل التعليم في ذلك الوقت قليلة. وتعلم للشعر فنظم بعض القصائد التي أخذتها أيدي الضياع. ومما روى له حفيده الشيخ إبراهيم قوله يمدح ديوان شعر للقس حنانيا منير صاحب التآليف التي سبق لنا وصفها:
    عش بالهنا والخير والرضوانِ يا من عُنيتَ بنظم ذا الديوانِ
    إني لقد طالعتهُ فوجدتهُ نظماً فريداً ما له من ثانِ
    وكان مولد ناصيف ابنه في كفر شيما في 25 آذار سنة 800 درس مبادئ القراءة والكتابة على القس متي الشبابي. ثم شعر برغبة عظيمة في معرفة أصول اللغة وفنون الآداب فانكب عليها بنشاط وحرص على إتقانها ما أمكنه فنال منها نصيباً حسناً. ثم درس الطب على والده ووضع فيه أرجوزةً سماها (الحجر الكريم في أصول الطب الكريم) لم تنشر بالطبع. ودرس أيضاً فن الموسيقى ووعى كثيراً من أصولها ودقائقها. وكان مغرى بالتاريخ مواظباً على قراءة أخبار القدماء فيحفظ منها تفاصيل كثيرة لا تبرح من ذاكرته إذا انطبعت فيها مرة.
    لكن الأدب غلب على الشيخ ناصيف فبلغ فيه مبلغاً عجيباً قيل أنه استظهر القرآن وحفظ كل ديوان المتنبي وقصائد عديدة من العشر القديم والمولد لا يخل فيها بحرف. وكان في أوقات الفراغ ينسخ ما يحصل عليه من الآثار الأدبية بخط جميل أشبه بالقلم الفارسي.
    ومما امتاز به على أهل زمانه شعره فإنه نبغ فيه على ما روي وعمره لا يتجاوز عشر سنين فكان يقول الشعر عفواً عن البديهة ويأتي بكل معنى بليغ. وكان في أول أمره ينظم المعنى والزجليات تفكها. وقد تلف معظم هذه المنظومات العامية.
    وسطع في ذلك الوقت نجم الأمير بشير الكبير فقصده الأدباء والشعراء ومدحوه ونالوا من سجال فضله منهم المعلم الياس أدّه ونقولا الترك وبطرس كرامة فسار الشيخ ناصيف إلى بيت الدين واتصل بهؤلاء الأدباء فقربوه من الأمير الذي اتخذه كاتباً لأسراره ورفع شأنه.
    وللشيخ في مخدومه قصائد جليلة منها رائيته التي قالها مهنئاً له بانتصاره من أعدائه سنة 1240 (1824م) وأولها:
    يهنيك يهنيك هذا النصرُ والظفرُ فانْعمْ إذن أنت بل فلننعم البشرُ
    وبقي في خدمته اثنتي عشرة سنة. فلما كُفَّت يد الأمير عن تدبير لبنان سنة 1840 فارقه الشيخ ناصيف ونزل مع أهله إلى بيروت فسكنها إلى سنة وفاته.
    وفي هذه الثلاثين السنة الأخيرة من عمره انقطع إلى التأليف في بيته وإلى التدريس ومراسلة الأدباء فحظي بشهرةٍ عظيمة. وسمع به المستشرقون فكاتبوه واقترحوا عليه عدة مصنفات أجابهم إلى وضع بعضها فطبعوها في مجلاتهم. وكان علماء الشرق يتسابقون إلى مكاتبته ويتناوبون بينهم القصائد والرسائل. ومن فضل الشيخ ناصيف أنه سعى مع بعض أدباء الشام بعقد الجمعية السورية لترقية الآداب ورفع منار العلوم. وكان له في كل المساعي الأدبية يد مشكورة حتى أصبح في بلاد الشام كقطب العلوم العربية وشرعة المعارف الوطنية.
    واشتغل أيضاً مع أصحاب الرسالة الأميركية فنظم لهم المزامير وبعض الأغاني الدينية واستفادوا منه أيضاً في تعريب الأسفار المقدسة التي نشروها في مطبعتهم. وكان أحد أعضاء جمعيتهم التي أنشئوها سنة 1848 (الشرق 40:12 ثم 96).
    أما تآليف الشيخ ناصيف فكلها مشهورة سردنا أسماءها في تاريخ الطباعة في أعداد سنتنا الثالثة وأشهرها مقاماته الستون المعروفة بمجمع البحرين التي عارض فيها المقامات الحريرية طبعت مراراً في المطبعة الأميركية ثم في مطبعتنا الكاثوليكية. وله كتاب فصل الخطاب في الصرف والنحو. وجوف الفرا والخزانة وهما أرجوزتان في أصول النحو نظمهما وعني بشرحهما. وعقد الجمان في البيان مع ملحق في العروض. وله شرح على المتنبي أتمه
    ابنه الشيخ إبراهيم ووسمه باسم العرف الطيب في شرح ديوان أبي الطيب. وشعره متفرق في ثلاثة دواوين: كتاب نفحة الريحان وكتاب فاكهة الندماء في مراسلات الأدباء وكتاب ثالث القمرين. وقد قصد الأديب ميخائيل أفندي إبراهيم رحمة جمع شعره في ديوان طبع منه نبذتان في المطبعة الشرقية في الحدث وفي المطبعة الأدبية مصححاً بقلم نجله المذكور. وعساه أن يضيف إليهما ما لم يزل مخطوطاً أو شارداً من القصائد.
    وشعر الشيخ ناصيف يجمع بين الرقة والمتانة يضارع نظم أجود الشعراء في كل أبواب المعاني ود مر لنا عدة أقوال من قلمه تشهد على براعته ورسوخ قدمه في آداب الشهر.
    وقد مدح أكثر مشاهير عصره وأدباء زمانه ورثى قوماً من الكرام الذين انتقلوا إلى دار البقاء في أيامه وله التواريخ المتعددة التي زان بها قبورهم أو عقلها على الآثار البنانية والكنائس وغيرها. فمن مديحه قوله من قصيدة غراء رفعها إلى جلالة السلطان عبد العزيز وضمن كل شطر منها تاريخاً لسنة 1283:
    ظل الإله علينا أوجُ طالعهِ قد فاق فوق جهات الأفقِ كالعَلَمِ
    في خلقِه عجبٌ في عزّهِ طربٌ راحاتهُ سحبُ بَهْمرنَ بالكرمِ
    أمين ربَ الورى في الكون مؤتمنُ على العباد لَحِقّ العهد والذمَمِ
    ومدح نابوليون الثالث بقصيدة افتتحها بهذه الأبيات:
    من قال أن الدهر ليس يعودُ هذا زمانٌ عادَ وهو جديدُ
    قد عاد نابُلْيون بعد زوالهِ فكأنَّ ذلك يومهُ الموعودُ
    لا تُفَقد الدنيا لفقد عزيزها ما دامَ يخلفُ مَيْتَها المولودُ
    تتجدَّد الأشخاص فيها مثلما يُغْرَى القضيبُ فينبت الأملودُ
    وله في مديح الملكة فيكتوريا لما جلست على عرش بريطانيا العظمى من قصيدة:
    اليوم قامت فتاةُ الملك بارزةً وقام من قبلها أسلافُها الأوَلُ
    فرعُ الأصول التي مرَّت وبهجتها أنَّ الثمار من الأغصان تُبدَلُ
    في قلبها خاتَمُ التقوى وفي يدها من خاتم الملك ما يجري به المثَلُ
    قد التقى الدينُ والدنيا بساحتها كما التقى الكُحل في الأجفانِ والكَحَلُ
    وله قصائد أخرى في مدح الخديويين أصحاب مصر إبراهيم باشا وسعيد باشا وإسماعيل باشا. وكثيراً ما كان يجمع في هذه المدائح أنواع الجناسات والفنون البديعية الصعبة المرتقى الدالة على تذليله للمشكلات اللفظية والمعنوية لكن التعسف ظاهر في بعض هذه المنظومات التي وضعها لمعارضة قوم من شعراء القرون المتأخرة. ومن هذا القبيل بديعيته التي التزم فيها تسمية الجناس والنوع أولها:
    عاج المتَّيمُ بالأطلال في العَلَمِ فأبرعَ الدمعُ في استهلالهِ العَرِمِ
    ومن أحسن الشعر صاحب الترجمة مراثيه التي أوردنا منها أمثلة. وله من قصيدة يرثي بها الطيب الذكر البطريرك مكسيموس مظلوم:
    ركنٌ هوى في دار مصرٍ أوشكت منهُ رُبى لبنان أن تتفطَّرا
    ضجَّت به الإسكندرَّية هيبةً فكأنَّ فوق سريرهِ الاسكندرا
    يا أيها الطَّود الذي عبث بهِ أيدي المنون فمال محلول العُرى
    غدَرتْ بك الأيام مظلوماً كما تُدعى فألقَت في التراب الجوهرا
    وله في رثاء صغير وأجاد:
    استودعُ الله في طي الضريح فتىً كالغصن معتدلاً والبدر مكتملا
    كنا نؤمل أن نَجْني لهُ ثمراً فخَيب الدهرُ منا ذلك الأملا
    خان الزمان له عهد الصبا وبغى عليه داعي المنايا إذ أتى عَجلا
    قد ألبسوهُ الثياب البيض فاصطبغت بُحمرةٍ من دم الدمع الذي انهملا
    والناس من حولهِ تمشي وقد نكست رؤوسها وصراخُ الباكيات علا
    يا رحمة الله حُلّي فوق تربتهِ كما حللت على نعشٍ به حُملا
    ومن مراثيه ما قاله في موت ابنه حبيب وهو آخر نظمه قاله شهراً قبل وفاته ولم يتم رثاءه لحزنه:
    ذهب الحبيبُ فيا حشاشتي ذوبي أسفاً عليه ويا دموعُ أجيبي
    ربيته للبَين حتى جاءهُ في جنحِ ليل خاطفاً كالذيبِ
    يا أيتها الأمُّ الحزينةُ أجملي صبراً فإنَّ الصبرَ خيرُ طبيبِ
    لا تخلعي ثوب الحداد ولازمي ندباً عليه يليقُ بالمندوبِ
    هذا هو الغصنُ الرطيبُ أصابَهُ سهمُ القضاء فمات غيرَ رطيبِ
    لا أستحي إن قلتُ نظيرهُ بين الرجال فلستُ غر مصيبِ
    إني وقفتُ على جوانب قبرهِ أسقي ثراهُ بدمعي المصبوبِ
    ولقد كتبتُ له على صفحاتهِ يا لوعتي من ذلك المكتوبِ
    لك يا ضريحُ كرامةٌ ومحبَّةٌ عندي لأنك قد حويتَ حبيبي
    وله يرثي الأمير بشير الشهابي لما توفي الآستانة سنة 1850:
    إذا طلع النهارُ أرى الرجالا كما أبصرتُ في الليل الخيالا
    وأعجبُ كيف تطوي الأرض ناساً لو اجتمعوا بها كانوا جبالا
    يخونُ الدهرُ شخصاً بعد شخصٍ كما ترمي عن القوس النبالا
    إذا أغلقتَ دون الموت باباً تناول ألف بابٍ كيف جالا
    ومن حَذَرَ المنية عن يمينٍ تدور بهِ فتأخذهُ شمالا
    من الله سلام على أميرٍ دفنا المجد معهُ والجلالا
    كأنَّ الموت لم يجسر عليهِ مجاهرةً ففاجأهُ اغتيالا
    فتى كالسيف إرهافاً وقطعاً ومثل الرمح قدًّا واعتدالا
    ومثل البدر إشراقاً وحسناً ومثل الغيث جوداً وابتذالا
    أجلُّ بني الكرام أباً وجدّاً وأكرمُ رهطهم عماً وخالا
    وأحسنُهم وأجملهم فَعالا وأوثقهم وأصدقهم مَقالا
    كريمٌ من كريمٍ من كرامٍ بنوا في المجد أعمدةً طوالا
    سليل أمير لبنانٍ ينادي أنا لبنانُ لما مِلتُ مالا
    إذا قلتَ الأمير ولم تسمّعي فلا يحتاج سامعك السؤالا
    سألنا تخت ممنِ عن نظيرٍ لهُ هل قام قال لا لا
    ستبكيهِ البلادُ ومن عليها إلى أن تستعيضُ له مثالا
    وتحصي الناس ما فعلت يداهُ ولكن بعد أن تحصي الرمالا
    إلى أن قال:
    إلى دار السعادة سرتَ فوزاً كأنك عاشقٌ يبغي الوصالا
    رأيت العيش في الدنيا طريقاً لها فاخترتُ أقربهُ مجالا
    وقال مؤرخاً سنة وفاته:
    هذا الأمير السعيد الحظ تخدمهُ ملائك الله حول العرش تجتمعُ
    تقول أرقام تاريخٍ تحيط به إن الشهاب على الأفلاك ترتفعُ
    ومن تعازيه اللطيفة قوله يخاطب تاجراً أصيب بماله:
    يا بائع الصبر لا تُشفق على الشاري فدرهمُ الصبر يسوي (كذا) ألف دينارِ
    لا شيء كالصبر يشفي قلب صاحبهِ ولا حوى مثَلهُ حانوتُ عطَارِ
    هذا الذي تُخمد الأحزانَ جرعُتُه كبارد الماء يطفئ حدّة النارِ
    ويُحفظ القلبُ باق (كذا) في سلامتهِ حتى يُبدَّلُ إعسارٌ بأيسارِ
    يا من حزنتَ لفقد المال انك قد خُلقتَ عارٍ (كذا) وما في ذاك من عارِ
    كما أتى أمسِ ذاك المالُ امكتسباً يأتي غداً من بديع اللطف جبّارِ
    ومن زهرياته قوله:
    مرَّ النسيم على الرياض مسلّماً سَحراً فردَّ هزارَها مترنما
    أحنى إليهِ الزهر مفرق رأسه أدباً ولو مَلكَ الكلام تكلَّما
    يا حبّذا ماء الغدير وشمسهُ تعطيه ديناراً فيقلب درهماً
    محت الرياحُ بها كتابة بعضها فتخاصمت من فوقه فتهشَّما
    وله هجو قليل فمن ذلك قوله في ثقيل:
    كفَّ عنّي لا أبا لكْ قد تبَّيَّنا مُحالك
    وعرفناك وألا فمتى نعرفُ حالكْ
    قد مضي لي بك عصرٌ حاملاً فيه مَلالكْ
    حسبُ قلبي منك جورٌ كاد منهُ يتهالك
    سنرى النادم منَّا ويُسيء اللهُ فالَكْ
    وقال في نجيل:
    قد قال قومٌ أن خبزك حامضٌ والبعض أثبت بالحلاوة حكمَهٌ
    كذب الجميع بزعمهم في طعمهِ من ذاقهُ يوماً ليعرف طعمهُ
    ومن حكمه المأثورة:
    إني لقد جرَّبتُ أخلاقَ الورى حتى عرفتُ ما بدا وما اختفى
    كل يذمُّ الناس فالذي نجا من ذمّهِ يدخلُ في ذمَّ الملا
    ولا يحبُّ غير نفسه فما أحبَّهُ فهو إلى النفسِ انتهى
    يعرف كلُّ حالَهُ في مضى إلا الذي كان دنياً فارتقى
    وكل علمٍ يُدرك المرءُ سوى عرفانِ قدرِ نفسهِ كما اقتضى
    وكلُّ من لا خير منهُ يُرتجي إن عاش أو مات على حدٍ سوا
    ومما برز فيه قوله في الدين المسيحي:
    نحنُ النصارى آل عيسى المتي حسبَ التأَنُس فلبتولةِ مريمِ
    وهو الإلهُ وابن الإلهِ روحهُ فثلثةٌ في واحدٍ لم تُقَسمِ
    للأب لاهوتُ ابنهِ وكذا ابنه وكذا هما والروح تحتَ تَقُنُّمِ
    كالشمس يظهرُ جرمُها بشُعاعها وبحرّها والكلّ شمسٌ فاعلمِ
    والله يَشهدُ هكذا بالحق في سفر لتوراةِ الكليمِ مُسلَّمِ
    عن آدمٍ قد قالا (وصار كواحدٍ منا) بلفظ الجمع من ذاك الفمِ
    خلقَ البسيطةَ واحداً في جوهرٍ أحدٍ لخدمة آدمَ المستخدَمِ
    لكن عصاه بزلَّةٍ لا تنمحي إلا بإرسال ابنهِ المتجسمِ
    فأتي وخلَّصهُ وخلَّصَ نسلَه ذاك المخلصُ من عذابِ جهنْمِ
    ومنها في وصف أعمال السيد المسيح وآياته:
    شهدَت عجائُبُه لهُ في عصرهِ فدرَى الحكيمُ وتاهَ من لم يفهمِ
    ولنا عليهِ أدلَّةُ قطعَّيةٌ عقلاً ونقلاً ليس قطعَ تحكُّمِ
    قد جاءَ لا سيفٌ ولا رمحٌ ولا فرَس ولا شيءٌ يُباعُ بدرهمِ
    يأوي المغارة مثل راعي الضأنِ لا راعي الممالكِ في السريرِ الأعظمِ
    وهو ابنُ يوسف لا ابنُ قيصر عندهم يغزو بجيشٍ في البلادِ عرمرَمِ
    فأتاهُ من شعبِ اليهود جماعةٌ كانوا على الدين التليد الأقدمِ
    وتباعدوا من قومهم بمذلةٍ يأبون كلَّ كرامةٍ وتنعُّمِ
    قالوا هو ابن اللهِ جهراً والعدى من حولهم مثلُ الذئاب الحُوَّمِ
    والناسُ بين عواذِل وعواذرٍ لهمُ وبين مُحللٍ ومُحِرّمِ
    ما غرَّكمْ يا قومُ فيه أسَيُفهُ أم جاههُ أم مالهُ في الأنعُمِ
    هو ساحرٌ يُطغي فقالوا لم نجدْ من ساحرٍ يُحيي الرميم بطَلَسمِ
    كانت رجالُ اللهِ تُحيي ميتاً بصلاتها ودعائها المتقدّمِ
    وتراهُ يُحيي المثنين بأمرهِ فهو الإلهُ ومن تشكَّك يندمِ
    ولئن هُم انخدعوا لغَفلتهم فقد ضعُفت عقولهُم كمن لم يحلمِ
    فترى بما خدعوا البلاد ومن بها من عالمٍ يُفتي ومن مُتعلّمِ
    فإذا اعتبرنا ما ذكرتُ بدا لنا بالحقّ وجهُ الحقّ غير مُلثّمِ
    وأصيب الشيخ ناصيف في السنتين الأخيرتين من عمره بفالج نصفي تحمل مضضه بالصبر ثم دهمته سكتة دماغية فتوفي فجأة في 8 شباط سنة 1871 رحمه الله. ومما طبع له من التآليف في أوربة رسالته إلى المستشرق دي ساسي نقلها إلى اللاتينية الأستاذ مهرن وعلق عليها الحواشي وطبعها في ليبسيك. وقد وجدنا في مكتبة برلين الملكية رسالة مطولة في أحوال لبنان وسكانه وأمرائه وأديان أهله لا نشك أنها له وإن يذكر فيها اسمه. وهذه الرسالة نقلها إلى الألمانية العلامة فليشر ونشرها في المجلة الآسيوية الألمانية 98 388) ثم نشرتها أيضاً مجلة الهلال في سنتها الثالثة عشرة (ص513 و566) ونسبتها إلى اندراوس صوصه.
    قيل إن من أشبه أباه ما ظلم. وقد صدق المثل تماماً في أولاد الشيخ ناصيف اليازجي فإنهم تعقبوا كلهم آثار والدهم. وكان أكبرهم الشيخ حبيب ولد في 15 شباط سنة 1833 ولما ترعرع وجد أباه كهلاً تام القوة كامل العقل مولعاً بالآداب فدرس عليه كل الفنون العربية. ثم إلى اللغات الأجنبية فأتقن الفرنسوية حتى برع فيها وتعلم غيرها كالإيطالية واليونانية والتركية. وكان يتردد على المرسلين اليسوعيين في بيروت ويستفيد منهم. وتجد اسمه في قائمة الأدباء المنتظمين في الجمعية المشرقية التي أنشئوها سنة 1850 واكتشف بعض آثار جناب مكاتبنا يوسف أفندي الياس سركيس (المشرق 15 (1912): 32) ثم تفرع الكتابة وعرّب بعض التآليف الأجنبية منها قصة عادليدة برنزويك. ومنها أيضاً قصة تليماك التي ألفها فنيلون فأجاد في تعريبها إلا أنها لم تطبع وقد طبعت في مصر ترجمة أخرى دونها حسناً. ومن تأليفه أيضاً كتاب اللامعة في شرح الجامعة فسر فيه الأرجوزة التي ألفها والده في علم العروض والقوافي وكان اسمها الجامعة ود طبع الكتاب سنة 1896 في المطبعة الوطنية. وكان الشيخ حبيب عاقلاً لبيباً رياضياً وقد اشتغل بالتجارة في آخر عمره وكان في شبابه يحب الشعر وله بعض منظومات منها رثاؤه للطيب الذكر البطريرك مكسيموس مظلوم بقصيدة أولها:
    يسرُّ المرءَ إقبالُ الليالي وينسى أنّ ذلك للزوالِ
    ومنها:
    دع الدنيا الغَرورَ وكُنْ مجدّاً كحبر الشرق في طلب الكمالِ
    هو المظلومُ حين رمى بتاجٍ لهُ واعتاض أكفاناً بَوالي
    لقد ضُربت بهِ الأمثالُ لمَّا غدا الرُّعاة بلا مثالٍ
    إلى أن قال:
    وفي الإسكندرَّية دُكَّ طودٌ فلم تنفكَّ فاقدةَ الجبالِ
    ثوى في تربها بدرٌ منيرٌ فقد حسدتهُ أفدتهُ الرجالِ
    رئيسٌ كان في دنياهُ بحراً فكانت تُجتَنى منهُ اللآلي
    لقد أرض الإلهَ بكل أمرٍ وأرضى الناس في حُسن الفعالِ
    فعاش كما نؤرخهُ سعيداً وفي الدار قد بلغ المعالي
    وكانت وفاة الشيخ حبيب كهلاً قبل والده ببضعة أسابيع في سلخ السنة 1870. وكما عاجلت المنون بكر الشيخ ناصيف كذلك قطفت ابنه الشيخ خليل غصناً زاهياً في تمام شبابه وعز قوته. ولد هذا في السنة 1856 وأخذ الآداب العربية عن أبيه وآله فرضعها مع الحليب ولما نشأ دخل الكلية الأميركانية ودرس فيها العلوم.
    وفي 1881 رحل إلى مصر وزار بعض أعيانها وأنشأ مجلو مرآة الشرق إلا أن الثورة العرابية ألجأته إلى الرجوع إلى وطنه فعلم مدة اللغة العربية في المدرستين البطريركية والأميريكانية حتى أصيب بصدره فكف عن التعليم ولم يزل يطلب علاجاً لوجعه حتى غلبه الداء فمات في الحدث في 23 ك1 سنة 1889 ودفن في بيروت. وكان الشيخ خليل متوقد الذهن ذا قلم سيال وقد غلب عليه الشعر. ومن خدمه للآداب طبعته لكتاب كليلة ودمنة مضبوطاً بالشكل مع شرح الغريب من ألفاظه. وهذه الطبعة كما الطبعات الشرقية كلها في الشام ومصر والهند مبنية على طبعة العلامة دي ساسي لا تخالفها إلا في بعض العرضيات بخلاف النسخة التي وقفنا عليها فنشرناها في مطبعتنا سنة 1905 ثم كررنا طبعها سنة 1923 وهي أقدم نسخة مؤرخة لهذا الكتاب تخالف الطبعات السابقة مع موافقتها لترجمة ابن المقفع الأصلية ثم بينا عليها طبعة مدرسية سنة 1922. ومن آثار الشيخ خليل النثرية كتاب في إنشاء الرسائل وكتاب في الصحيح بين العامي والفصيح وكلاهما لم يزل مخطوطاً غير تام.
    أما خلفة الشيخ خليل اليازجي الشعرية فهي أولاً روايته (المروءة والوفاء) نظم فيها وفاء حنظلة الطائي بوعده بعد قدومه على النعمان يوم بؤسه وضمان شريك له في غيبته ليصلح أمور بيته ويرجع إلى القتل ثم تنصر النعمان لنظره مروءة حنظلة. وهو حادث تاريخي معروف بنى عليه الشيخ خليل روايته لكنه طمس محاسنها بما أودعها من الأدوار العشقية المملة التي تنسي سامعها الواقع التاريخي الأصلي فيضيع الجوهر بزخرف الأعراض
    الباطلة.
    ومن خلفته أيضاً مجموع منظوماته الذي عنونه بنسمات الأوراق فطبعه بالقاهرة سنة 1888 في 162 صفحة نروي منها بعض القطع تبياناً لفضله وجودة قريحته. فمن مديحه قوله في عبد الله فكري باشا ناظر المعارف في مصر:
    الجاهُ عندك نال أكملَ جاهِ فهناكَ نورٌ فوق نورٍ زاهِ
    والفخرُ منك كُسي بأَبهى حلَّة وعليك منهُ كلُّ ثوب باهِ
    نالت مسامعُنا من اسمكَ لذَّةً فغدت محسَّدة من الأفواهِ
    حتى قال وتجاوز الحد في الغلو:
    ولئن يكُ فيك الثنا متناهياً فاعذُر ففضلك ليس بالمتناهي
    نُزَهتَ عن شبهٍ فتبغي شاعراً متنزًهاً في الشعر عن أشباهِ
    ولأنت ذاك ومن لنا ببدائع لك آمراتِ للقريضِ نواهِ
    فلقد أتاني الشعر يتني علفَهُ ويقول ويقول إني عبدُ عبدِ اللهِ
    ومن تهانئه قوله يهنئ المطران ملاتيوس فكاك بأسقفية بيروت:
    حبَّذا ما بهِ الدهرُ جادا من سرورٍ به فككنا الحِدادا
    حبذا ما أَنالنا من صلاحٍ مُخجلاً مَن نمى إليهِ الفسادا
    فقد حبانا بسيّد ليس يدعو نا عبيداً وإنما أولادا
    سيدُ شاد في المعالي صروحاً قام فيهنَّ راقياً حيث سادا
    ربُّ حزمٍ فكَّاكُ مُعْضلةٍ من كلّ أمرٍ تدبُّراً وسَدادا
    خيرُ راعٍ يرعى الرعيّة لا تخشى م لديهِ حُملانُها الآسادا
    يملأ العين بهجةً حينما يبدو م ويملا آذاننا إرشادا
    وختمها بقوله:
    أيها السيِّد الكريم الذي ليس م يفيهِ الثناءُ مهما تمادى
    إن مدحناك نالنا المدحُ أيضاً كالصدى راجعاً إلى من نادى
    بك يسمو فخارنا فإذاً ازدد تَ فخاراً ففخرنا قد زادا
    فإذا كان في الثناء قصورٌ فعلينا قصورُنا قد عادا
    وله من قصيدة في أحد قناصل فرنسة لما زار المدرسة البطريركية:
    هذا رسولُ الدولة العظمى التي هي دوحُ مجدٍ وهو من أغصانهِ
    دوحُ سقاهُ الفضلُ أعذبَ مائهِ فجرت مياه العزّ في عيدانهِ
    طابت مغارسهُ فأَثمرت المنى وشذا المعارفِ فاح من بستانهِ
    أهلاً بزائرنا الكريم فأنَّه أهلٌ لِيُنزلهُ الفتى بجنانهِ
    لا يُدْعَ ضيفاً في حمانا أنهُ في بيتهِ منه وفي أوطانهِ
    ومن أوصافه قوله في القاهرة يذكر لبنان وطيب هوائه:
    قِفْ فوق رابيةٍ من طور لبنانِ وقلْ سلامٌ على أرضٍ وسكَّانِ
    أرضٌ إذا ما سقاها الغيثُ كاد بها أن يستحيل إلى درٍّ ومرجانِ
    يا أهل لبنانَ ما لبنانكم جبلٌ لكنَّهُ قمةُ العلياء والشانِ
    فيهِ العشائر أصحاب المفاخر أر بابُ المآثر من مجدٍ وعرفانِ
    إمارةٌ قد سمت فيه ومشيخةٌ نشت أصولهما من عهد أزمانِ
    ملجأ الوباء الحَرّ يقصدهُ مصاب هذين من قاص ومن دانِ
    وملجأُ المبتلي من كل ذي سقَمٍ بطيبِ ماءٍ وأهواء وجيرانِ
    وقال في الختام:
    هذا هو الوطن المحبوب أذكرهُ وما أنا بمراعٍ حُبَّ أوطانِ
    وقال مؤرخاً ميلاد أبنه حبيب سنة 1884:
    نجلٌ بهِ جاد المهيمن حيث قد حَيِيَتْ وطابت أنفسٌ وقلوبُ
    لمَّا بتاريخٍ حبيبَ سمَيُتهُ قلت الحبيبُ إلى الخليلِ حبيبُ
    ثم توفي الطفل في السنة التالية فقال:
    وضيفٍ زارنا ومضى قريباً وما كادت تُعَدُّ لهُ شهورُ
    تركتَ مؤرّخاً بالويل حزني كبيراً أيها الطفلُ الصغيرُ
    وبقي من بعد الشيخ خليل شقيقه الشيخ إبراهيم رافعاً أعلام اللغة والأدب مواصلاً لأعمال أسرته الكريمة بين العرب مزيناً للصحائف بمقالاته في صنوف المعارف. ولد الشيخ إبراهيم في بيروت في 2 آذار من السنة 1847 فأستروح روح الآداب منذ حداثة سنة بقرب والده عمدة البلغاء في وقته فاستقى من منهله وخاض في ميدانه وجعل يمارس الكتابة حتى برع في النثر والنظم. واستأنف حينئذ أدباء بيروت الجمعية العلمية السورية فأنتظم في
    سلكها وألقي فيها الخطب وأنشد القصائد ثم حرر مدة جريدة النجاح. ولما عمد الآباء اليسوعيون إلى تعريب الأسفار المقدسة عن أصلها العبراني واليوناني رأوا أن أمانة التعريب لا تفي بالمرام إن لم يغط المعرب حقه من الفصاحة والبلاغة بتنقيح العبارة وسبك الكلام وكان إذ ذاك صيت الشيخ إبراهيم نال بعض الشهرة فدعوا به إلى مدرستهم في غرير سنة 1872 وباشروا معه في العمل. فكان الأب أوغسطين روده الذي درس العربية في الجزائر وعلم العلوم الكتابية في فرنسا ينقل الكتب المقدسة فصلاً فصلا وآيةً آيةً بعد مراجعة تفاسير الآباء والمعلّمين والترجمات الشرقيَّة العديدة منها ثلاث ترجمات عربيَّة. فإذا أتم عمله نظر فيه الشيخ نظراً مدققاً فعرض على العرب ملحوظاته ثم تفاوض كلاهما إلى أن يتفقا على رأي واحد فيدونانه بالكتابة ثم يعرضان شغلهما على أربعة أساتذة من الآباء

يعمل...
X