إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

البعد الصوفي بالكيان الشعري عند بدوي الجبل

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • البعد الصوفي بالكيان الشعري عند بدوي الجبل

    بدوي الجبل

    إكتشف سوريا


    الكيان الشعري عند بدوي الجبل
    بدوي الجبل
    البعد الصوفي


    ثانياً – البعد الصوفي
    لاشك أن أبعاد التجربة الصوفية غير محدودة، وهي تتصل على نحو وثيق بكل تجارب الحياة، فمن الصعوبة بمكان أن نحدد أين تبدأ وأين تنتهي، فهي يمكن أن تتألق في لحظة كشف على خط النار في مواجهة حية مع الموت، ويمكن أن تتألق في نضال الإنسان العادي في معتركه اليومي من أجل لقمة العيش، حين تنبع من أعماقه صلاة تهتز لها الأكوان، أوَ لم يكن مولانا جلال الدين الرومي في السوق حين سمع ضربات المطارق النحاسية، فأخذ يرقص ويدور في نشوة واتحاد صوفي مع الأكوان في رحلتها في الأبدي؟!. وآخر، نعرفه جيداً هو الحلاج، أوَ لم يصرخ ذات يوم قائلاً: «ركعتان في العشق لا يصح وضوؤهما إلا في الدم!!».
    كنا ذكرنا أن الكيان الشعري عند بدوي الجبل يقوم على قاعدة أفقية هي «الموقف» وبناء عمودي هو «المعاناة» أي «تجربته الشعرية»، «تجربته الحياتية»، «تجربته الوجدانية».. فماذا نرى من الأثر الصوفي في كيانه الشعري ببعديه؟
    نرى ذلك في موقفه الذي يشير إليه كثير من دارسيه تجاه العقل واختياره «القلب» مكان التجلي عند الصوفية، فالحكماء والروحانيون والصوفيون، لا بل حتى بعض الملهَمين في الثيوزوفية كالمؤسِّسة مدام بلافاتسكي (هذه الأخيرة تعتبر العقل هو الهادم الكبير، وعلى المريد أن يهدم الهادم.. في حين أن الآخرين يصرون على بلوغ حالة اللاعقل، وهي تعني الوعي والحضور..!!).
    هذا الموقف يتردد أيضاً لدى المتصوف و العالِم الرياضي الشهير باسكال إذ يقول: «الله ومعنى الحياة يجب أن يشعر بهما القلب لا العقل، إن للقلب مبرراته التي لا يعرفها العقل، وخيراً نفعل إن أصغينا إلى قلوبنا، وإن وضعنا إيماننا في الوجدان». والتجربة الصوفية أعمق من شهادة الحواس أو حجج العقل.
    في دراسة جميلة للأستاذ طارق عريفي عن التصوف في شعر بدوي الجبل يذكر هذه الأبيات:

    ويا ربُّ قلبي ما علمتَ محبةٌ
    وآمنت حتى لا أروم لبانةً
    فررت إلى قلبي من العقل خائفاً
    تألّه عقل أنت يا رب صُغتَه
    وضاقت به الدنيا ففي كل مهجة
    تحداك حتى كاد يزعم أنه
    وحاول غزو النيربين فردّه

    وكفّ عنان العقل قسراً فربما *** وعطرٌ ووهجٌ من سناك صميم
    تخـالف ما تختاره ويروم
    كما فر من عدوى المريض سليم
    وكاد يردُّ الميت وهو رميم
    هواجسُ من كفرانه وغمومُ
    شريك لجبار السماء قسيمُ
    عن الذروة العصماء وهو رجيم
    أُثير بإلحاحٍ السفيه حليمُ

    يذكر أ.عريفي عن عظة التقوى يقول فيها ربيب العلم، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب: «طوبى لذي قلب أطاع من يهديه».
    وهذه الهداية عند بدوي الجبل دليلها القلب، فها نحن نسمعه يقول:

    لم يضع في الظلام نورُك عن
    مَعدِنُ الخير والجمال المصفّى *** قلبي فقلبي إلى سناك الدليلُ
    وجهُك الخيِّرُ الكريم الجميلُ

    وكذلك نسمعه يقول:
    ربِّ! نعماك أن تنضّر قلبي
    جوهرُ القلب وهو إبداع كفيك

    وبقلبي رضوانُ يهفو لمرآك *** بمحياك فهو صادٍ محيلُ
    على ما به كريم أصيلُ
    وندى سريرتي جبريلُ

    أما باب القلب فلا يُفْتَح إلا بعد توبة صادقة تقوم على الخوف والذل والدموع، وهذا ما نراه عند شيخ العاشقين «ابن الفارض» في هيامه في الصحراء، وعند ابن قيم الجوزية في روضة المحبين عن المحبة أنها: «شجرة في القلب عروقها الذل للمحبوب، وساقها معرفته، وأغصانها خشيته، وورقها الحياء منه، وثمرتها طاعته». وكذلك نرى هذه الوقفة عند باب القلب عند مولانا جلال الدين الرومي حيث يرى باب الله باباً للغفران. وفي هذا يقول أ.عريفي: «ومادام باب الله هو باب الغفران فقد وقف مولانا أمامه عبداً وضيعاً، خاشعاً، باكياً، وليس له أمام مولاه شاهد على عشقه إلا ما به من ذل ودموع».
    أما الشاعر بدوي الجبل فهو يظهر هذه الوقفة من خلال «الدموع»، ويُقال أن «الدموع» هي صلة الوصل بين الروح والجسد، والولادة من الروح تعبر عنها الدموع، ويُقال أن دموع التائب تمحو الخطايا وتفتح باب السماء.
    يقول البدوي:

    يــــا رب بـــابُك لا يردُّ الــــلائذيـــن به ارتيــــــابُ
    وإذا سُئلتُ عن الذنوب فـإن أدمعيَ الجـــــــوابُ
    هي في يميني حين أبسطها لرحمتك الكتابُ

    لقد تحدثنا فيما سبق عن مركزين هما العقل والقلب، إلا أن هنالك مركزاً ثالثاً يجعل كلاً من العقل والقلب دونما معنى، ودونما حياة بدون هذا المركز، وهو ما أشار إليه أحد المعلمين، وهو غوردجييف، وهو ما يعبر عنه بالمركز الحركي أي المركز الجنسي، وهذا المركز يلعب دوراً كبيراً في الرحلة الصوفية والتطور الروحي، فهو المركز الذي يمد كلاً من العقل والقلب بطاقته وزخمه، ولا يجب كبته أو تغييبه بحال من الأحوال.
    إن هذا المركز هو ينبوع الطاقة، ومن خلاله تُعْرَف طاقة الحب التي تدفع بالمحب إلى العشق ومن عشق إلى عشق.
    في الحقيقة أن هذه الطاقة التي حدّثَنا عنها فرويد وعرَّفَها باسم "الليبيدو" نعثر عليها قبل فرويد عند الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي في الفتوحات المكية، فهو حين يقول أنه لا يوجد محبوب سوى الله، وأن الله صورة كل محبوب على الأرض، وأن كل من أحب زينب، وسعاد، وهند، والدينار، والدرهم، والجاه، إنما في الحقيقة أحب الله، لأن الله ظاهر في كل محبوب لعين كل محب، كما أنه لم يعبد سواه، فإنه ما عُبِد من عُبِد إلا بتخيل الألوهية فيه، وهذا كله في الحقيقة جوهر "الليبيدو"‍‍!!.
    والحال، أن الخلاص من العبودية للخلائق يكمن في التوجه إلى مبدأ العشق الحقيقي، وهو الألوهة المحتجَبَة في الخلائق، والتي هي المصدر الحقيقي لكل جاذبية وجمال وعشق.
    نسمع البدوي في قصيدته «هواجس» يقول:

    هواك عندي مقيمٌ في مواطنه
    أحبك الحب تأليهاً خلعت به **** فإن تحوّل عن نعمائه اغتربا
    على تدلهي الإجلال والرهبا

    وحين يقول البدوي في قصيدة «ما شأن هذا الأشعث الجواب»:
    وحملت أسمالي إليك وشافعي
    فاسخر بإدلالي عليك وقل لها *** لهوى فتاتك غربتي وعذابي
    ما شأن هذا الأشعث الجوابِ

    يقول أ.عريفي: «هذه الأسمال، أو الثياب البالية الممزقة التي يسير بها البدوي أشعثَ جواباً في طريق المعرفة، هي الثياب التي يرتديها كل عاشق سالك في هذه الطريق، فتدل عليهم، وتشير إلى حالهم، وهذا ما يعبر عنه مولانا جلال الدين الرومي الذي يرى أن كل من تمزقت ثيابه من العشق أصبح طاهراً نقياً. فهو يقول: وكل من تمزقت ثيابه من العشق، فإنه يصبح طاهراً من الحرص من كل العيوب. فلتُسعَد أنت يا من عِشْقُه الجميل سرُّ هيامنا، ويا من هو الطبيب لكل ما نشكوه من علل. يا من هو الدواء لغرورنا، وكبريائنا‍.
    إن العشق جعل جسم الأرض يعلو على الأفلاك، فرقص الجبل وأضحى خفيف الحركة،
    العشق حل في روح الطور أيها العاشق، فسكر الطور، وخرّ موسى صعقا.
    وهكذا فالسكر لدى الصوفية ناجم عن اشتداد حالة العشق، والخمرة هنا تأخذ مدلول النشوة الروحية، هذه النشوة يختبرها الصوفي حين ينتقل من عالم الصحو إلى عالم الغيب!!».
    يقول البدوي في قصيدته «ما شأن هذا الأشعث الجوّاب؟»

    هل عند أنجمك الضواحك ما بي
    طَهَّرتُ آثامي البريئة في لظى
    فأدر علي سلاف ريقك واسقني
    وإذا كتبتُ على لماك فربما
    وَسّدْتك اليمنى لعلي في غدٍ
    ونعمتُ ألمح في جفونك رغبةً

    لا تغفُ تحلم بالنجوم فيرتمي *** يا ليل إشراكي وصبح متابي
    قُبَلٍ كأحلام النعيم عذاب
    واسق النديم سلافة الأعناب
    سمح الحبيب برشفة الأعتاب
    أرِدُ الحسابَ ووجنتاك كتابي
    خجلى صريعة نشوةٍ ودعاب
    منها لرشف لماك ألف شهابِ

    كما يذكر أ.عصام شرتح هذين البيتين لبدوي الجبل يقول فيهما:
    يا نديمي لا تأس بالله واشرب
    وتمتّع بالنور إذ رُبَّ قومٍ *** لذةُ العيش هذه الصهباء
    مُنع الكأس عنهم والضياء
    «فالكأس هنا هي النور لأنها تحطم الحواجز المادية، وتصله روحياً بالله مبدأ النور والإشراق والصفاء والجمال المطلق».
    وكذلك يشير أ.عصام شرتح إلى البعد الصوفي الذي يظهر جلياً في قصائد مثل «أطَلَّ من حرم الرؤيا فعزّاني»، و«اللهب القدسي»، و«ظمأ إلى السراب»، و«السراب المظلم»، و«انجلت نفسي في النور»، و«ما شأن هذا الأشعث الجوّاب؟».

يعمل...
X