إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

الحقيقـــة والواقــــع - بقلم جميل حمداوي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الحقيقـــة والواقــــع - بقلم جميل حمداوي

    مفهوم الحقيقة في الخطابين
    الفلسفي والإبستمولوجي

    بقلم جميل حمداوي

    الحقيقـــة والواقــــع:

    تدل كلمة الواقع من خلال مشتقاتها اللغوية والدلالية على ماهو ثابت ويقيني . وبالتالي، واقع غير قابل للتغير والتحول، على عكس ماهو غير واقعي ، والذي يحيلنا على الوهمي والمجرد واللايقين والغريب والمعقول ... ويدل الواقع أيضا على ما هو حسي وتجريـبي وموضوعي ومادي. إذا، فما علاقة الفكر بالواقع؟ وهل الواقع ثابت فعلا؟ أم هو واقع متغير ومتحول ؟ وما علاقة الحقيقة بالواقع؟ هل ثمة مطابقة يقينية مطلقة أم مطابقة نسبية ومحتملة؟

    1- مصدر الحقيقة هو عالم المثل:

    يذهب الفيلسوف اليوناني أفلاطونPlato (نحو427-347ق.م) إلى أن الحقيقة اليقينية لا توجد في الواقع المادي الحسي النسبي، بل توجد في عالم المثل الذي يتسم بالطابع التجريدي والمفارق للعالم المادي المتغير والمزيف. بينما عالم المثل هو عالم ثابت ويقيني وأصيل وجوهري. ومن ثم، فالوجود الحقيقي حسب "أسطورة الكهف" لأفلاطون ليس هو الوجود الذي نعيش فيه، فهو مجرد نسخة مزيفة من عالم حقيقي هو عالم المثل، والذي لايتم إدراكه إلا عن طريق التأمل العقلي المجرد. كما أن المعرفة الحقيقية واليقينية والمطلقة لا توجد في عالمنا المحسوس والمتغير والنسبي، بل توجد في عالم المثل الذي يحتوي بدوره على قيم متكاملة ومطلقة، كالعدل، والحق، والخير، والجمال. وتتسم هذه القيم بكونها خالدة وحقيقية وكلية ومطلقة، بينما قيم البشر هي قيم زائفة ونسبية، مادامت ترتبط بالعالم النسبي الذي هو انعكاس مشوه للعالم الحقيقي المثالي. ومن ثم، فالقاضي العادل الحقيقي لايوجد إلا في عالم المثل، بينما في عالمنا المتغير لا يوجد سوى قاض نسبي غير كامل في قيمه وعدالته وفضائله. وينطبق هذا الحكم على الجميل والخير وعلى باقي القيم الأكسيولوجية والفضائل الإنسانية المعروفة لدينا. وعلى هذا الأساس طرد أفلاطون الشعراء من جمهوريته الفاضلة؛ وذلك لكونهم يحاكون عالما نسبيا وغير حقيقي#. ومن هنا، ينطلق أفلاطون من تصور مثالي مفارق لعالم المادة والحس والتجربة والظواهر الملموسة بغية تبيان مصدر الحقيقة اليقينية الصادقة.

    2- مصدر الحقيقة هو عالم الواقع:
    2- مصدر الحقيقة هو عالم الواقع:

    يرفض الفيلسوف اليوناني أرسطو Aristote(نحو384-322ق.م)تصور أستاذه أفلاطون بشكل جذري، وينكر أن يكون هناك عالم المثل بهذا التجريد الخيالي الطوباوي. وبالتالي، يستحيل أن يصدر المادي المحسوس عن المثالي المجرد. ومن هنا، يقول أرسطو بأن الحقيقة اليقينية توجد في عالمنا الحسي المادي، ولكن تكمن في الجواهر دون الأعراض. أي: إن الحقيقة ثابتة في الجوهر دون الخصائص والأشكال الثانوية، تلك الأشكال التي تتغير من حالة إلى أخرى حسب الظروف والمتغيرات الفيزيقية والميتافيزيقية. فالشجرة ثابتة في جوهرها، ولكن أعراضها تتغير مع الفصول، ففي الربيع تكون مورقة، وتصفر في الصيف بأوراقها وثمارها، وتتساقط أوراقها الذابلة في الخريف، وتتعرى في فصل الشتاء. لكن ما يبقى هو جوهر الشجرة. ومن ثم، فالحواس والأعراض هي مؤشرات سيميائية تدل على الجواهر، وهي بمثابة معقولات منطقية ومجردة وثابتة نتوصل إليها عن طريق الحس. وبعد ذلك، ننتقل إلى عمليات التجريد والتعميم ، واستخدام الأقيسة الذهنية استقراء واستنباطا ، وإثباتا ونفيا#.

    3- الحقيقة هي مطابقة الفكر لذاته:

    يرى ديكارت أن الحقيقة هي مطابقة الفكر لذاته. أي: إن الله خلق الإنسان، وهو مزود بمجموعة من البداهات العقلية والمنطقية اليقينة، التي لا يمكن أن يعتريها الشك أو الظن أو الخطأ، مادام هناك ما يسمى بالضمان الإلهي، كما عند الفيلسوف الهولندي سبينوزاSpinoza (1632-1677م. ويعني هذا أن الله لا يمكن أن يكذب على الإنسان، وهذا محال في حقه تعالى. لذا، فما زود به الإنسان عبارة عن حقائق صادقة يقينية ومطلقة، مثل: الكل أكبر من الجزء، والمربع له أربعة أضلاع، وواحد زائد واحد يساوي اثنين...ومن هنا، فالحقائق البديهية اليقينية قد تكون حقائق رياضية أو منطقية تعتمد على مجموعة من المبادئ ،مثل: مبدإ الهوية كما في هذه الصيغة: محمد هو محمد، ومبدإ عدم التناقض ، فلا يعقل أن نقول: محمد حاضر وغائب، ومبدإ الثالث المرفوع ، كأن نقول: المعتزلة عقلانية ونصية. فهنا، أطراف ثلاثة: المعتزلة عقلانية، والمعتزلة نصية، والمعتزلة تجمع بين العقلانية والنصية، فالمنطق يرفض هذا التثليث القولي، فإما أن نقول: المعتزلة عقلانية وإما أن نقول إنها نصية. ونذكر أيضا مبدأ السببية، فلكل مسبب سبب. ومن هنا، فالعقل بهذه الحقائق الرياضية والمنطقية يصل إلى اليقين المطلق، في حين يعجز الحس أو التجربة عن الوصول إلى الحقيقة لخداع الحواس للإنسان كما في مثالي: السراب، والتقاء خطي السكة الحديدية...

    ومن ثم، فالعقل هو أعدل قسمة متساوية بين البشر ، كما أنه المصدر الوحيد حسب ديكارت وليبنـز وسبينوزا للوصول إلى الحقيقة اليقينية الصادقة، بينما التجربة عاجزة عن ذلك؛ بسبب اعتمادها على الحواس الخادعة ، وارتكازها على بادئ الظن ليس إلا.

    4- الحقيقة هي مطابقة الفكر للواقع:

    يذهب الفلاسفة التجريبيون الإنجليز كدافيد هيوم Hume (1711-1776م)، وجون لوك Locke(1632-1704م)، وجون استيوات ميل Mill(1806-1873م)إلى أن الإنسان يولد صفحة بيضاء، وأن عقل الإنسان يكون فارغا من الحقائق التي لا يمكن الوصول إليها إلا عبر التجربة، وتشغيل الحواس لإدراك المعارف والحقائق الصادقة. وتتم التجربة طبعا عن طريق استعمال الملاحظة المنظمة، وتجريب الفرضيات، وإعادة التجربة مرات عدة، واستنتاج النظريات أو القوانين. ولو كان العقل أعدل قسمة متساوية بين البشر كما يقول ديكارت، لما وجدنا عقول البشر مختلفة، ولما وجدنا في الفصل الدراسي الأذكياء والأغبياء على حد سواء. ومن هنا، فمصدر الحقيقة المطلقة واليقينية حسب التجربيين هو التجربة أو الواقع الحسي الخارجي. أي: إن الحقيقة ماهي إلا مطابقة الفكر للواقع المرجعي#.

    5- الحقيقة هي مطابقة الفكر لذاته وللواقع معا:

    يرى الفيلسوف الألماني كانط أن الحقيقة هي مطابقة الفكر لذاته ومطابقة الفكر للواقع. ويعني هذا أن كانط يوفق بين العقلانيين والتجربيين، وأن الحقيقة لا تكون بالعقل فقط، ولا بالتجربة فقط، بل بهما معا. فالحدوس الحسية بدون مقولات عقلية عمياء والمقولات العقلية بدون حدوس حسية جوفاء. وللتوضيح أكثر، فالتجربة بدون العقل تبقى خامة غير مفهومة. أي: عبارة عن أحاسيس وحدوس حسية غير منظمة أو مرتبة، حتى يتدخل العقل بمقولاته المنطقية ليحول التجربة إلى تصور عقلاني مفهوم . فإذا وجدنا قطنا يحترق وبقربه النار، فهذه عبارة عن انطباعات حسية مبهمة، فلابد أن يتدخل العقل عن طريق الفهم بمقولاته المنطقية كالزمان والمكان والسببية، لكي نقول: إن النار هي سبب احتراق القطن. ومن ثم، يمكن القول : إن القطن والنار عبارة عن مدركات حسية، لكن السببية مفهوم عقلاني مجرد له علاقة بالعقل الخالص ، وهو عبارة عن مبادئ منطيقة ومعرفية مجردة وكلية ، بها يدرك العقل المعطيات الخارجية ، وينظمها بشكل منظم ومرتب.

    ومن هنا، فمصدر الحقيقة المعرفية والعلمية عند كانط هو العقل والتجربة معا (الحقيقة المادية والحقيقة الصورية). لكن هناك حقائق لا يمكن الوصول إليها عن طريق العقل والتجربة ، وهي الحقائق الميتافيزيقية أو الماورائية، أو كما يسميها كانط بحقائق النومين التي لا يمكن الوصول إليها إلا عن طريق العقل العملي والأخلاقي(الإيمان الداخلي). أما الحقائق الفيزيقية (الفينومين) ، فيمكن إدراكها عبر العقل والتجربة معا. ويعني هذا أن العقل محدود في طاقته الإدراكية، لا يمكن أن يتجاوز نطاقه المرسوم له، وخاصة في استكناه الماورائيات، كمعرفة الله ، وخلق العالم، وإدراك حقائق النفس والعالم الآخر ... وفي هذا السياق، يقول كانط:" إن عقلنا لا يشبه، نحوا من الشبه، سهلا ممتدا لا محدودا، لا تعرف حدوده سوى بكيفية عامة، بل ينبغي أن يشبه بالأحرى بكرة يمكن قياس أبعادها...محتوياتها وحدودها قابلة للتعيين بدقة. خارج هذه الكرة لا يعود ثمة للعقل أي موضوع قابل للمعرفة، بل إن المسائل المتعلقة بهذه الموضوعات المزعومة (خلود النفس، وجود الله، بداية العالم) لا تتعلق سوى بمبادئ ذاتية تشكل أساسا لتحديد كوني شمولي للعلاقات التي يمكن أن تقوم، ضمن حدود هذه الدائرة، بين تصورات (مفاهيم) الفهم"#.

    وعلى أي، فكانط ، في منظوره الفلسفي حول الحقيقة ، قد حاول جادا التوفيق بين التيار العقلاني الذي كان يمجد العقل، ويقدسه إلى درجة التأليه، والتيار التجريبي الذي كان ينافح عن التجربة باعتبارها مناط البحث العلمي، وبكونها أيضا دليلا حقيقيا للوصول إلى اليقين الصحيح.

    6- الحقيقة هي مطابقة الواقع للفكر:

    يرى الفيلسوف الألماني مارتن هيدجر Martin Heidegger (1889-1976م) أن الحقيقة ليست هي مطابقة الفكر للواقع، بل هي مطابقة الواقع للفكر، حيث:" يفسح هذا الطابع المزدوج للتوافق أو التطابق المجال لبروز التعريف التقليدي لماهية الحقيقة:" الحقيقة هي مطابقة الشيء للمعرفة. ولكن هذا يمكن أن يفهم أيضا بالمعنى التالي: إن الحقيقة هي مطابقة المعرفة للشيء.إلا أن الحقيقة مأخوذة بهذا المعنى، بوصفها حقيقة الحكم، لا تكون ممكنة إلا إذا تأسست على حقيقة الشيء. فهذان التصوران للحقيقة يظل مقصدهما هو المطابقة، وإذا، فهما يتناولان الحقيقة بوصفها مطابقة..."#

    ويتجاوز هيدجر مفهوم المطابقة باعتبارها مفهوما تقليديا في تحديد علاقة المنطوق بالشيء المرصود منطقيا. في حين، تتجسد الحقيقة على أنها حرية وكشف للكائن وعملية تأويل ، واستعداد للانفتاح على الكائن والممكن استكشافا واستشرافا وقراءة وتقبلا. فيظهر الكل على حقيقته بدون تمويه أو تزييف أو خداع أو مكر أو قناع.

    7- الحقيقة هي مطابقة نسبية واحتمالية:

    يرى ألبرت إنشتاين A.Einstein (1879-1955م) ، وذلك باعتباره عالما فيزيائيا ومفكرا في مجال العلوم، أن الحقيقة العلمية في مجال المعارف العلمية ، ولاسيما في ميدان الفيزياء الذرية الميكروسكوبية قائمة على ماهو نسبي واحتمالي، وليست هناك حقائق مطلقة ويقينية كما كان يقول نيوتن؛ لأن العالم الذي نتعامل معه هو عالم الجزيئيات الدقيقة ، تلك الجزيئات التي تتطلب منهجا أكسيموماتيكيا قائما على الاحتمال والافتراض، وصياغة مجموعة من القواعد النظرية العقلانية في غياب التجربة والواقع الخارجي. لأن فضاء العلم اليوم هو بمثابة إنشاءات افتراضية نسبية واحتمالية، يتم البرهنة عليها عقلانيا واستدلاليا بشكل نظري في غير حاجة إلى التجارب والاختبارات المعملية والميدانية#. ومن ثم، فالحقيقة عند إنشتاين مجرد حقيقة نسبية مبنية على منطق الافتراض والاحتمال، وليس هناك بشكل قطعي ما يسمى باليقين الرياضي أو المنطقي أو الفلسفي أو الفيزيائي. فكل شيء في هذا العالم نسبي واحتمالي وممكن.#

    وانطلاقا مما سبق، فالحقيقة – في اعتقادنا الشخصي- هي مطابقة الفكر لذاته، ومطابقة الفكر للواقع، ومطابقة ذلك الواقع للنص (النص الديني أو النقلي )، وقد تكون تلك الحقيقة مبنية على عدم المطابقة ، وخاصة في الخطابات الفلسفية القائمة على التفكيك، والتشريح، والاختلاف، وتدمير المعنى.

يعمل...
X