إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

الحقيقــــة والــــرأي الشخصي - بقلم جميل حمداوي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الحقيقــــة والــــرأي الشخصي - بقلم جميل حمداوي

    مفهوم الحقيقة في الخطابين
    الفلسفي والإبستمولوجي

    بقلم جميل حمداوي


    الحقيقــــة والــــرأي الشخصي:

    عندما نريد التحدث عن مفهوم الحقيقة داخل الخطاب الفلسفي ، يتبادر إلى أذهاننا مضاداتها العكسية. مما يجعلنا ذلك نقدم على طرح بعض الأسئلة العويصة والإشكاليات المعقدة، مثل:هل يمكن الحديث عن الحقيقة في معزل عن متقابلاتها كالوهم والرأي والاحتمال والاعتقاد؟ فهل يمكن أن نجعل من الرأي الشخصي سندا للمعرفة الحقيقية اليقينية؟ أم أن الرأي مجرد حكم ذاتي تنقصه الحجة العلمية والبرهنة الحجاجية . وبالتالي، يصعب علينا الاطمئنان إليه لبناء معرفة حقيقية أو حقيقة يقينية ؟

    1- الرأي عائق إبستمولوجي يحول دون الوصول إلى الحقيقة:

    تتقابل الحقيقة مع مجموعة من المفاهيم، كالرأي الشخصي (opinion)، والظن، والاعتقاد، والاحتمال، والوهم. فالإبستمولوجي الفرنسي جاستون باشلار Gaston Bachelard (1884-1962م)يعتبر الرأي عائقا معرفيا ، يمكن التخلص منه أيما تخلص، وذلك من أجل تكوين معرفة علمية صحيحة وبناءة. فلا يمكن – علميا- بناء معارفنا واستدلالاتنا واستقراءاتنا وأقيستنا الرياضية والمنطقية والعلمية على مجموعة من الآراء الشخصية والمعتقدات العامة أو الخاصة أو الانطباعات المشتركة والحدوس المشوهة؛ لكونها آراء ذاتية شخصية نابعة من الوجدان والقلب والعاطفة، ومرتبطة بالمنافع البشرية والمصالح الإيديولوجية. بينما الحقيقة العلمية نموذج للمعرفة الموضوعية ، التي تقوم على الحجاج الاستدلالي، والتماسك المنطقي ، والمعرفة الحقة ، والاستنتاج المتماسك نظريا وتطبيقيا:" الرأي نوع من التفكير السيئ، بل إنه ليس تفكيرا على الإطلاق.إنه يترجم الحاجات إلى معارف من خلال تعيينه للأشياء وفق منفعتها، ومن ثم، يحرم نفسه من معرفتها.إننا لا نستطيع أن نؤسس أي شيء كيفما كان انطلاقا من الرأي. ولذلك، يجب القضاء عليه أولا. إن التفكير العلمي يمنعنا من تكوين رأي بخصوص مسائل لا نفهمها، أي بخصوص مسائل لا نعرف كيفية صياغتها بشكل واضح. إذ ينبغي في البداية معرفة كيفية طرح المشاكل. وهذا المعنى الذي تتخذه المشكلة هو الذي يمنح العقل العلمي خاصيته الحقيقية".#

    وهكذا، يرفض باشلار الاعتماد على الرأي الشخصي؛ لأنه لا يجدي بأي حال من الأحوال في ميدان المعارف العلمية. لذلك، يستبدله بالحقيقة اليقينية القائمة على البرهان العقلاني نظرية وتطبيقا.

    2- الرأي القائم على الاحتمال يمكن أن يكون مصدرا للمعرفة:

    يرى الفيلسوف الألماني لايبنـز Leibniz(1646-1716م)أن الرأي المبني على الاحتمال يمكن أن يكون مصدرا من مصادر المعرفة العلمية ، وخاصة في مجال المنطق، وذلك عندما يصعب الحسم في قضية معينة بشكل قطعي، فتتوفر لدينا بعض المعلومات والمعطيات، آنذاك يمكن الاستعانة بهذا الرأي الاحتمالي لبناء المعرفة وتكوينها. وفي هذا الصدد يقول ليبنـز:" إن الرأي القائم على الاحتمال قد يستحق اسم المعرفة، وإلا سوف يتم إسقاط كل معرفة تاريخية وغيرها من المعارف.وبدون الدخول في نزاعات لفظية ، فأنا اعتقد أن البحث في درجات الاحتمال سيكون أكثر أهمية لنا، وهو ما نفتقر إليه، إذ يعتبر بمثابة النقص الذي تشكو منه علوم المنطق لدينا. ذلك، أننا عندما لا نستطيع أن نجزم في مسألة ما بشكل قطعي، فإنه بإمكاننا أن نحدد درجة الاحتمال انطلاقا من المعطيات المتوفرة، ومن ثم نستطيع أن نحكم بطريقة عقلانية على الجزء الأكبر جلاء."#

    وهكذا، نرى أن الفيلسوف لايبنـز يدافع عن الرأي باعتباره وسيطا مهما في تشييد جهاز المعرفة المنطقية، مع المساهمة في تكوينها حجاجيا واستدلاليا.

    3- الرأي الشخصي درجة من درجات الحقيقة والمعرفة اليقينية:

    يرى الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط E.Kant (1724-1804م)أن الرأي الشخصي درجة من درجات المعرفة ؛ لأن المعرفة تبدأ أولا بالرأي، فالإيمان ثانيا، ثم تنتهي بالحقيقة ثالثا. ويتسم الرأي بكونه ناقصا ذاتيا وموضوعيا، وغير كاف لبناء المعرفة الحقيقية واليقينية ، ولاسيما في مجالات العقل الخالص الذي يرتبط ارتباطا كبيرا بالتجربة ، أو في مجال الرياضيات الخالصة التي لا تعتمد إطلاقا في بناءاتها الاستدلالية على الآراء الشخصية والمعتقدات الذاتية. وكذلك في المجال الأخلاقي، فلا يمكن إصدار الأحكام اعتمادا على الآراء الشخصية. يقول كانط في هذا السياق:"يمثل الاعتقاد- أو القيمة الذاتية للحكم في علاقته باليقين الذي يتوفر في الوقت ذاته على قيمة موضوعية- ثلاث درجات، هي بالشكل التالي: الرأي، والإيمان، والمعرفة.

    الرأي هو اعتقاد يعي بأنه غير كاف ذاتيا وموضوعيا، وعندما لا يكون الاعتقاد كافيا سوى من الناحية الذاتية، وفي الوقت ذاته يعتبر غير كاف من الناحية الذاتية ومن الناحية الموضوعية، يدعى المعرفة. فالاكتفاء الذاتي يسمى اعتقادا راسخا بالنسبة لي، أما الاكتفاء الموضوعي فيسمى يقينا بالنسبة لكل واحد...

    ليس هناك أي مجال للرأي الشخصي بخصوص الأحكام التي تصدر عن العقل الخالص. فبما أن تلك الأحكام لا تستند على مبادئ التجربة، فإن مبدأ الارتباط يقتضي الكونية والضرورة، ومن ثم يقينا تاما، وإلا لن يكون هناك أي خيط يقود إلى الحقيقة. يضاف إلى هذا أنه من العبث تكوين آراء في مجال الرياضيات الخالصة: فإما أن نعرف وإما نمتنع عن الحكم. وكذلك الشأن بالنسبة للمبادئ الأخلاقية: لا يجب أن نخاطر بفعل ما من خلال رأي بسيط مفاده أن كل شيء مباح، بل يجب أن نعرف ما نفعله".#

    وهكذا، نجد أن الفيلسوف كانط يعترف بدور الرأي الشخصي ، وذلك باعتباره سندا مهما في بلورة الحقيقة ، ولكن بعيدا عن العقل الخالص، والعقل العلمي الأخلاقي، والعقل الرياضي الحق.

    4- ضرورة التحرر من الآراء السابقة لبناء الحقيقة اليقينية:

    يذهب ديكارت Descartes (1596- 1650 م)الفيلسوف الفرنسي إلى أن الشك هو المعيار المؤدي إلى الحقيقة واليقين على غرار رأي الغزالي (1111-1057م) في كتابه" المنقذ من الضلال". ويعني هذا أن ديكارت يشك في كل شيء من أجل الوصول إلى الحقيقة المطلقة سواء على الصعيد الأنطولوجي أو الإبستمولوجي أو الأكسيولوجي، إلا أن شيئا واحدا لا يشك فيه إطلاقا هو عملية الشك نفسها، التي تحيلنا على عمليات التفكير والتأمل والاستدلال والبرهنة. ومادام الإنسان يفكر فهو موجود، والله موجود، والطبيعة موجودة ، والإنسان بدوره موجود. لذلك، قال ديكارت قولته المشهورة:" أفكر ، إذاً، فأنا موجود".

    هذا، ويوضح ديكارت مبدأ الكوجيطو بهذه الصيغة الفلسفية:" ونحن حين نرفض على هذا النحو كل ما يمكننا أن نشك فيه ، بل وحين نخاله باطلا، يكون من الميسور لنا أن نفترض أنه لا يوجد إله ولا سماء ولا أرض، وأنه ليس لنا أبدان. لكننا لا نستطيع أن نفترض أننا غير موجودين حين نشك في حقيقة هذه الأشياء جميعا، لأن مما تأباه عقولنا أن نتصور أن من يفكر لا يكون موجودا حقا حينما يفكر. وعلى الرغم من أشد الافتراضات شططا فإننا لا نستطيع أن نمنع أنفسنا من الاعتقاد بأن هذه النتيجة: أنا أفكر ، وإذا فأنا موجود، صحيحة. وبالتالي، إنها أهم وأوثق معرفة لمن يدبر أفكاره بترتيب.

    ويبدو لي أيضا أن هذا المسلك هو خير المسالك التي نستطيع أن نختارها لكي نعرف طبيعة النفس، وأنها جوهر متميز كل التميز عن البدن: لأننا حين نفحص عن ماهيتنا نحن الذين نفكر الآن في أنه ليس خارج فكرنا شيء هو موجود حقا، نعرف جليا أننا لا نحتاج لكي نكون موجودين إلى أي شيء آخر يمكن أن يعزى إلى الجسم، وإنما وجودنا بفكرنا وحده. وإذا، ففكرتنا عن نفسنا أو عن فكرنا سابقة على فكرتنا عن الجسم، وهذه الفكرة أكثر يقينا، بالنظر إلى أننا لا نزال نشك في وجود أي جسم في حين أننا نعرف على وجه اليقين أننا نفكر."# وليس الشك عند ديكارت إلا عملية فطرية ولدت معه منذ طفولته الناعمة، وهذه العملية التوثيقية والظنية هي التي ستحرره من الأخطاء السابقة، والإشاعات المنتشرة في الوسط الاجتماعي، وكل ذلك من أجل بناء نسق معرفي حقيقي ويقيني صادق. يقول ديكارت في هذا المجال:" كنت قد انتبهت، منذ سنواتي الأولى، إلى أني قد تقبلت كمية من الآراء الخاطئة على أنها آراء حقيقية وصادقة، وإلى أن ما أقمته على هذه المبادئ غير المؤكدة، لا يمكن أن يكون إلا أمورا مشكوكا فيها وغير مؤكدة؛ وذلك بحيث كان علي أن أقوم، مرة واحدة في حياتي، بالتخلص من كل الآراء التي تلقيتها وصدقتها إلى ذلك الوقت، وأن أبدأ كل شيء من جديد ابتداء من الأسس، وذلك إذا ما كنت أريد أن أقيم قدرا من اليقين الصلب والثابت في المعارف والعلوم .لكن بدا لي في ذلك الوقت أن هذه المهمة كبيرة جدا بالنسبة لعمري، فانتظرت إلى أن أبلغ أقصى سن أصبح فيه أكثر نضجا، بحيث أستطيع إنجاز هذا الأمر..."# ويتبين لنا ، من خلال ما سبق، أن ديكارت يؤمن بضرورة التخلص من الآراء والمعتقدات السابقة ، التي تكون قد تكونت لدى الباحث أو الفيلسوف بالشكل الطبيعي أوالعادي ، وذلك عن طريق ممارسة الشك من أجل الوصول إلى اليقين والمعرفة المطلقة.

    5- القلب مصدر للحقائق والمعارف:

    يرى بليز باسكال B.Pascal (1623-1662م) في كتابه:"خواطر/Pensées"أن العقل ليس دائما مصدر المعارف والحقائق العلمية والإنسانية، فيمكن للقلب أن يكون مصدرا للمعرفة الحقيقية، مادامت هي نابعة من الذات والداخل. ومن ثم، فالقلب يعضد العقل، ويقويه لمعرفة الكثير من الحقائق الغامضة، وإدراكها بشكل جيد، ولاسيما الحقائق الروحانية والحقائق الرياضية والمعارف الفيزيائية. ومن هنا، فعلى العقل أن يؤسس خطابه المعرفي والعلمي على مبادئ القلب والغريزة. وأي سخرية تطال القلب، يمكن أن تطال كذلك العقل. لأن العقل يحتاج إلى حقائق القلب، مادام ينطلق منها بوصفها حقائق بديهية أولى. ويقول بليز باسكال في هذا الصدد:" نعرف الحقيقة لابواسطة العقل فقط، ولكن أيضا بواسطة القلب. فعن هذا الأخير نعرف المبادئ الأولى التي يحاول الاستدلال العقلي...

    إن معرفة المبادئ الأولى، مثل: المكان والزمان والحركة والأعداد هي من الصلابة بحيث تتجاوز سائر المبادئ التي يقدمها لنا الاستدلال العقلي. إنما ينبغي على العقل أن يستند، لتأسيس خطابه بكامله، على المعارف الصادرة عن القلب والغريزة. فالقلب يشعر أن هناك ثلاثة أبعاد في المكان، وأن الأعداد لانهائية، وبعد ذلك، يأتي العقل ليبرهن أن لا وجود لعددين مربعين يكون أحدهما ضعف الآخر.

    إننا نشعر بالمبادئ، أما القضايا فيستخلص بعضها من بعض، والكل له نفس اليقين، وإن اختلفت الطرق المؤدية إليه. ومن غير المفيد كذلك، بل من المثير للسخرية أن يطلب العقل من القلب البرهنة على مبادئه الأولى حتى يتوافق معها، ومن المثير للسخرية أيضا أن يطلب القلب من العقل أن يشعر بجميع القضايا التي يبرهن عليها حتى يتلقاها منه."#

    يذهب باسكال في هذا المقتطف النصي بعيدا حينما يجعل القلب مصدرا للمعرفة الحقيقية. ومن جهة، يمكن أن نتفق معه حينما تكون المعرفة مرتبطة بالإيمان ومعرفة الخالق، آنئذ يمكن أن نعتبر القلب مصدرا للحقيقة الصادقة. ولكن من جهة أخرى ، يستحيل الحديث عن القلب كمصدر للحقيقة في مجال العلوم الحقة والعلوم التجريبية.

    ويتبين لنا مما سبق بأن الحقيقة قد تنبني على الرأي الشخصي، أو الاعتقاد، أو الشك، أو فراسة القلب، أو الاحتمال، أو العقل، أو التجربة. ومن هنا، فالحقيقة - في رأينا الشخصي- تستند إلى معطيين: معطى إيماني قائم على التسليم، وتمثل الأخلاق، واستبصار الروح ، وذلك حينما يتعلق الأمر المبحوث فيه بالغيبيات أو الأخرويات التي من الصعب إدراكها بالعقل والتجربة معا. بيد أن واقعنا الفيزيائي يستلزم منا إدراكه معرفيا عن طريق العقل والتجربة. لكن ثمة خطوات أولية ضرورية لقيام العلم قد تسبق الفهم العقلاني والخبرة التجريبية ، ويمكن حصرها - مثلا - في الانطلاق من فرضيات احتمالية، أوالاحتكام إلى اعتقادات حدسية، أو شخصية أو علمية،مثل تفاحة نيوتن التي أوحت له بنظرية الجاذبية. بل يمكن القول: إن فراسة المؤمن الروحية قد تساعده على استشراف الأمور قبل وقوعها. كما أن معظم النظريات الفلسفية انطلقت من فرضيات تخمينية وأفكار تأملية، البعض منها مثالي، والبعض الآخر واقعي.

يعمل...
X