Announcement

Collapse
No announcement yet.

د. جميل حمداوي ( تطـــور الكتابة الشذرية تاريخاً )

Collapse
X
 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts

  • د. جميل حمداوي ( تطـــور الكتابة الشذرية تاريخاً )

    بقلم :جميل حمداوي ( تطـــور الكتابة الشذرية تاريخاً )

    2- تطـــور الكتابة الشذرية عبر التاريخ:
    ظهرت الشذرة أول ما ظهرت عند فلاسفة اليونان، وبالضبط عند فلاسفة الطبيعة الكونيين (الكوسمولوجيين)، كطاليس، وأنكسيمندريس، وأنكسيمانس، وهيراقليطيس الإفسوسي، المعروف بمؤلف وحيد «في الطبيعة»، لم يبقَ منه إلا مئة وثلاثون شذرة، طرح فيه أفكاره بأسلوب غامض؛ لذا لُقب بالفيلسوف الغامض. ونستحضر كذلك فيثاغورس، وأكسانوفان، وبارمنيدس، وزينون الأيلي، وأنبادوقلس، وأنكساغوراس، ولوقيبوس، وديمقريطيس. وما يميز هؤلاء الفلاسفة ومحبي الحكمة أنهم قالوا بأن الكون له مجموعة من الأصول الطبيعية، كالماء، والهواء، والنار، والتراب، والذرة، واللامتناهي. ولكن لم يصلنا من كتاباتهم سوى شذرات قيلت في فترات متباعدة. ونذكر أيضا في مجال العلم والمعرفة العامة أب الأطباء أبقراط في كتابه:( Aphorismi )، ويحوي هذا المصنف نصائح وطرائق علاج طبية.
    وهكذا، تتكون الشذرة في الفلسفة اليونانية من عدد قليل من الكلمات، وتتطرق لجميع المواضيع، السامية منها والوضيعة، العلمية وغير العلمية.
    هذا، وقد كانت الشذرة في العصر الحديث، وخصوصا عند الفيلسوف والراهب الإنجليزي روجر باكون، تعبيرا عن فلسفة الشك، وكانت الشذرة بعمقها اللافت للانتباه عدوة السطحية والسطحيين. ذلك أنه ليس بإمكان أي كان الابداع في هذا المجال إذا لم يكن مسلحا بما فيه الكفاية. وانتصر الفيلسوف الفرنسي باسكال أيضا للشكل الشذري في كتابه:" أفكار"، وقد أسماه بنظام القلب أو الحدس.
    هذا، وتعارض الكتابة الشذرية في الفلسفة الحديثة والمعاصرة الغربية كل فكر نسقي، وتستعمل غالبا بمثابة سلاح هجائي ضد الزمن الراهن. روحها هي روح التمرد، والثورة، والرفض، والاختلاف، والتفكيك. وهي حقيقة مقلقة مبنية على أسئلة ماورائية وميتافيزيقية عويصة، تعمل على الهدم والتقويض والتشظية.كما أنها فكر نقدي، لا نسقي، ولا قوانين لها غير قوانين الأنا. إنها كما قال نيتشه:"فن الخلود". وتظهر الشذرة في هذه الفلسفة دائما في المابين، مع نهاية نظام قديم، وقبل بروز معالم نظام جديد. إنها شاهدة ومسجلة هذا التحول الدراماتيكي، هذا الفراغ الروحي أو العراء الترنسندنتالي الذي تعجز كل الأنساق عن فهمه، وتخاف الاقتراب منه. ويملك الشاذر طبيعة مقاتلة. إنه لا يخاف الصراع، بل هو يعمل واعيا على إشعال فتيله. إنه المعارض الأبدي بامتياز، أو كما قال عنه شليغل:"يوجد دائما في وضع هجائي".
    وكذلك كان كارل كراوس الفيلسوف الألماني، لقد كان هدفه الأسمى هو النضال ضد الزمن، وأخذ هذا النضال شكل نضال ضد لغة هذا الزمن. لقد فضل كراوس الشذرة على كل فنون القول الأخرى، ذلك أنها وحدها من تستحق اسم فن الهجاء بامتياز. ويعني هذا أن الكتابة الشذرية هي كتابة إشكالية بامتياز، تطرح الأسئلة أكثر مما تطرح من الأجوبة، إنها أسلوب عالم فقد ثقته بقيمه وأشكاله، عالم يحن إلى بدء جديد. ولهذا، فإن الشذرة كما عبر عن ذلك فريدريش شليغل، فن يخاطب المستقبل والأجيال القادمة، ويظل معاصروه عاجزين في أغلب الأحيان عن فهمه أو تقبله. ومن هنا، فقد اختار كثير من الفلاسفة والمتصوفة والمفكرين استعمال الشذرات طريقة في التعبير والتفكير والتصريح. ويعني هذا أن هؤلاء قد استعملوا أسلوبا مقطعيا ينم عن حرية في الكتابة، ورغبة في الإفلات من الإكراهات التي يفرضها كل فكر فلسفي نسقي صارم. بمعنى أن الكتابة الشذرية هي كتابة التفسخ، والتفكك، والاختلاف، والثورة على المقاييس المنطقية الصارمة، والتحلل من قواعد النسق الفلسفي المحدد. ومن هؤلاء المفكرين والمبدعين الذين استثمروا الكتابة الشذرية أسلوبا ومنهجا وطريقة ورؤية، نستحضر: الفيلسوف الروماني: شييرون )كما في كتابه: مختصر التفسخ، وكتاب:"أقيسة المرارة، وكتاب: اعترافات ولعنات...
    ويرى شييرون بأن اختيار الكتابة الشذرية في الحقيقة لا" يعبر إلا عن نفور من التحليل والبرهنة، إلخ.إنه عبارة عن تنازل ليس أكثر ولا أقل. وفي الأخير، استقر ذوقي في هذا الشكل التعبيري الذي يتيح للمرء أن يترجم عن حالات مؤقتة ولحظات انفعالية، وإجمالا عن حقائق مؤرخة، جزئية ومتحيزة.
    ...إن الشذرة عندي ليست هي كذلك، أو إن شئت فهي لاتولد أبدا من تلقاء ذاتها.إنها في غالب الأحيان خاتمة تحليل أو فكرة مكتوبة توفر على القارىء عناء خطى الفكر، فلاتعبر إلا عن وداع يبثه الفكر.لذا، لن تجد أي فيلسوف جدي كأرسطو أو هيجل يكتب شذرات.أما نيتشه فكان يفعل ذلك بسبب مرضه."#
    ونفهم من هذا أن الفلاسفة اليونانيين كانوا يستعملون في بناء أنساقهم الفلسفية على الحوار التوليدي، كما كان يفعل سقراط أو يعتمدون على أبنية حجاجية منطقية صارمة سواء أكانت استقرائية أم استنباطية كما لدى أرسطو أو ديكارت... بيد أن هناك مجموعة من المفكرين والفلاسفة الذين وظفوا الشذرات كمارك أوريليوس، وبلانشو، وباسكال، وجراسيان، وشنفور، ودسنوس، ونيتشه في كتابه: " هكذا تكلم زرادشت"#، ومنتاني في مقالاته، وفاليري، ورولان بارت، والبلغاري إلياس كانيتي كما في كتابه:" شذرات"، وكافكا، وغيرهم. و يقول شييرون في حق الكتابة الشذرية:" في ما يخصني، حبي للتعبير المرح الخفيف الظل، وللاقتضابية والاختصار،هو الذي يحدوني إلى تبني التقليد الذي تتحدث عنه. وهذا الصنف، عموما، مشكوك فيه تارة ودال طورا، بما أنه يعبر عن الإنسان في لااستمراريته وهشاشته. ثم، ما الفائدة من بناء أنسقة لايفوتها أن تتهاوى وتضمحل؟
    أما عن التقليد الذي تذكره [يقصد الكتابة الشذرية]، فمارك أوريليوس وباسكال هما حقا ممثلاه الأكثر جدارة،لأن في كتابتهما طابعا شخصيا حادا ووحدة مقام. وهذا ليس حاصلا عند فاليري الذي خلف على الرغم من ذلك شذرات جميلة جدا.أما جارسيان فإنه يهتم كثيرا بالتدليلات.وعلى أي حال، فالكتابة الشذرية لايسعها إلا أن تستمد قوتها من رؤيا خاصة جدا للحياة..."#
    ويلاحظ على شييرون، الذي وظف كثيرا الكتابة الشذرية، أنه يستعمل كتابة تقوم على قوة اللحظة والانفعال؛ ممايوقعه ذلك في التناقض والتكرار، كما يتجلى ذلك واضحا في نصوصه الكثيرة. ومن ثم، يؤكد شييرون ذلك بقوله:" التناقض ملازم للحياة نفسها. وبالتالي، لا أعيره أي انتباه في كتاباتي.أما التكرار، فإنه تأكيد وتعبير عن حالة ثابتة أو وسواس.إني من هؤلاء الناس الذين يتلقون الحياة كوسواس."#
    ويعني هذا أن شييرون يكتب أفكاره التأملية والفلسفية في شكل مقاطع وتفاريق وشذرات، تتحلل من كل مقومات الفلسفة النسقية القائمة على صرامة الحجاج الفلسفي، وضوابط التحليل المنطقي الاستدلالي.إنها في غالب الأحيان خاتمة تحليل، أو فكرة مكثفة توفر على القارئ عناء خطى الفكر(…)، كما تعبر عن الإنسان في لا استمراريته وهشاشته.
    ومن المعلوم، أن الكتابة الشذرية تتطلب باعا علميا طويلا، وتستلزم جهدا معرفيا كبيرا حتى تخرج إلى النور. وتتخذ هذه الكتابة أيضا بعدا ميتافيزيقيا أو موقفا من الحياة والوجود والمصير الإنساني. ومن هنا، فالنص الشذري نص نقدي، ونص رؤيوي ليس منغلقا، بل هو نص متعدد منفتح على قراءات لامتناهية العدد. وبالتالي، يهدف هذا النص المشتت إلى تخريب الهويات، وتفكيك لها،وتأكيد فلسفة الانفصال. إن الشذرة فكرة مكثفة أو بؤرة مكثفة اقتصاديا كما يرى جاك ديريدا، تعمل على توليد الاستعارات والانزياحات. ومن ثم، فالشذرة في جوهرها هي استعارة كبرى.وهنا، الاقتراب من الشعر. والآتي، فكتابة الصور البلاغية ضمن الكتابة الشذرية كتابة شقية وعصية على الالتقاط.
    وإذا كانت الفلسفة البنيوية تؤمن بالمنطق والعقل والنظام والاتساق، فإن الفلسفات اللاعقلانية والتفكيكية تؤمن بالاختلاف، والتفكيك، وانهيار المعنى والمدلول، وتعبر كذلك عن هشاشة الإنسان، وانهياره أنطولوجيا ووجوديا وقيميا ومعرفيا.
    هذا، وثمة مجموعة من المبدعين والأدباء الغربيين الذين شغلوا الشذرات في كتاباتهم، واستعملوا مقاطع معنونة وغير معنونة، كما فعل الشعراء الرومانسيون الألمان#، والشاعرالإنجليزي توماس إليوت، والشاعر الفرنسي بول فاليري، ومالارمي، وريمبو، وبيير ألبير جوردان في ديوانه الشعري:" السلام والوداع" الصادر سنة 1991م، وغيرهم من الشعراء الذين أغرموا بالكتابة الشذرية، باعتبارها طريقة في التعبير، ومسلكا منهجيا لصياغة رؤية تراجيدية، تفصح عن وضعية إنسانية هشة قوامها الملل والسأم والاستلاب والتفكك، دون أن ننسى كذلك الكتابة الرمزية والكتابة السوريالية التي أعلنت الرفض والتمرد، فتبنت الكتابة الشذرية وسيلة للتعبير عن غرابة الواقع ولامعقوليته. ولا ننسى كذلك أدبيات المبدع الفرنسي إدموند جابي التي استعانت بالكتابة الشذرية طريقة في التعبير، ومنهجا في التشخيص والبوح والتأويل.
    هذا، ولقد اعتمدت الرواية الشعورية أو المنولوجية أورواية تيار الوعي في الغرب على الكتابة الشذرية منذ بدايات القرن العشرين، وبالضبط مع جيمس جويس، وفيرجينيا وولف، وصمويل بيكيت، ومارسيل بروست...ونجد هذا النوع من الكتابة جليا في الرواية الجديدة عند ميشيل بوتور، ونتالي ساروت، والكاتب المغربي الفرانكفوني عبد الكبير الخطيبي...
    بل، ونجد هذه الكتابة الشذرية طريقة تعتمد في النقد والوصف والتأويل كما عند رولان بارت، وجاك دريدا، وموريس بلانشو، وعند كثير من النقاد الموضوعاتيين كجان ستاروبنسكي، وغاستون باشلار مثلا...
    ومن أهم الكتب النقدية التنظيرية في مجال الكتابة الشذرية، نذكر كتاب:" الكتابة الشذرية: التعاريف والمخاطر" لفرانسوا سوسيني أناستوبولوس#، وقد نشرت هذه الدراسة بفرنسا سنة 1997م...، وهناك كتاب آخر تحت عنوان: " الكتابة الشذرية: نظريات وتطبيقات"، وهو عبارة عن نصوص ومقالات من جمع ريكار ريبول#.
    وإذا انتقلنا إلى الثقافة العربية،فإننا نجد مجموعة من الكتابات الشذرية، بما فيها آيات القرآن الكريم( السور القصيرة )، والقبسات النبوية الشريفة(جوامع الكلم)، والتجليات الصوفية والكتابات العرفانية التي اتخذت مع القرن الرابع الهجري شطحات شذرية متشظية كما عند النفري في كتابه: "النطق والصمت"#، وابن العربي،والحلاج... وقد عرفت الكتابة الشذرية كثيرا في حلقات الفكر والفلسفة أكثر مما عرفت في حقل الأدب والإبداع. وما الكرامات الصوفية إلا خير دليل على انتشار الكتابة الشذرية عند الصوفية، والأولياء الصالحين، والمجاذيب العرفانيين.
    وثمة مجموعة من المصنفات التراثية التي كانت تحمل اسم الشذرات، مثل كتاب: " شذرات الذهب في أخبار من ذهب" لابن العماد الحنبلي، وكتاب" الفضة المضية في شرح الشذرات الذهبية" لابن زيد الحنبلي، وكتاب " الشذرات الذهبية في السيرة النبوية" للعلامة الأديب أبي أويس محمد بو خبزة الحسني التطواني،وغيرها من الكتب التي كانت تنقر عنوانيا على لفظة الشذرة.
    هذا، وقد انتقلت الكتابة الشذرية حديثا إلى الشعر العربي المعاصر، فانصهرت في القصيدة النثرية كما عند أدونيس، ومحمد الماغوط، وأنسي الحاج، ومحمود درويش في "يوميات الحزن العادي "، و"حضرة الغياب"، ومحمد بنيس، ومحمد الأشعري كما يبدو ذلك جليا في ديوان:" كتاب الشظايا"، والشاعرة المغربية فاتحة مرشد في ديوانها الشعري:"مالم يقل بيننا"...
    وتعود القصيدة الشذرة في حقيقتها وأصولها ومنابتها إلى القصيدة اليابانية " الهايكو" القائمة على سطور محددة، وخاصيات: التركيز، والتناغم، والتبئير، والتشظي، والاختزال...
    هذا، وتتمظهر الكتابة الشذرية قصصيا وروائيا في كثير من الأعمال السردية العربية شرقا وغربا، وخاصة عند الروائي المغربي بنسالم حميش في روايته التراثية:"مجنون الحكم"؛ إذ حاول بنسالم حميش نقل الكتابة الشذرية من الحقل الفلسفي كما في كتابه:"الجرح والحكمة" إلى الحقل الروائي، كما يتبين لنا في مقاطع عدة من الرواية (أنا الدخان المبين- الجلوس في دهن البنفسج...)، لخلق تقاطع فني ومعرفي بين الرواية والفلسفة. وتتميز هذه المقاطع الشذرية في رواية:"مجنون الحكم"بطابعها الوجداني الذاتي، ومقاطعها المسماة بعناوين فرعية، بله عن خاصيتها الشاعرية الإنشائية النثرية، وتدفقها الانسيابي، وتعدد الأنفاس الحكمية، وكثرة الخطرات القهرية، والشطحات الصوفية. فهل يريد بنسالم حميش بهذه الكتابة أن يحول الرواية إلى تأملات شذرية، ومقاطع لانسقية، لنتحدث في المستقبل عن الرواية الشذرية، بدلا من الحديث عن الرواية أو الحوارية؟ فهل يخالف حميش بهذه الكتابة ماذهب إليه ميخائيل باختين حينما أرجع الرواية إلى طابعها الحواري البوليفوني؟ لأن حميش يجعل الرواية خطابا شذريا يقوم على التفرد، والتذويت، والمسرود الذاتي، والاستغوار النفسي، والتأمل الشاعري، والشطح الصوفي. فهل ستنتقل الرواية من النسقية والتزمين والسردنة والتفضية والتعددية الشخوصية إلى رواية اللانسقية والحلولية والتوحد الفردي والاستبطان الذاتي؟!!
    وهل سنخرج مستقبلا مع بنسالم حميش من الكتابة الروائية إلى الكتابة الشذرية؟؟؟ هذه أسئلة مفتوحة نروم طرحها؛ لأن الرواية جنس أدبي مفتوح، قابل للتكون والتطورالديناميكي. فثمة فعلا مجموعة من النقاد والباحثين والدارسين من يفكر اليوم في استبدال مصطلح الرواية بمفهوم الحوارية، وخاصة الروايات التي يطغى عليها الحوار من البداية حتى النهاية، كما يبدو ذلك واضحا في رواية:" أوراق" للمبدع المغربي عبد الله العروي.
    ونجد هذه الكتابة الشذرية كذلك بشكل جلي عند مجموعة من الأدباء والمبدعين في مجال السرديات، مثل: غادة السمان، وأحلام مستغانمي، ورجاء عالم....ونلاحظها كذلك عند كتاب القصة القصيرة جدا بشكل من الأشكال.
Working...
X