إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

الإبداع والنظام الشمولي استعادة قضية باسترناك

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الإبداع والنظام الشمولي استعادة قضية باسترناك

    الإبداع والنظام الشمولي استعادة قضية باسترناك

    في الثلاثينيات يلح (ماياكوفسكي )ا شاعر النظام السوفييتي على جواز سفر ينجيه من الاختناق الداخلي، وعندما لا يعطاه، ينهي حياته بنفسه، في صبيحة يوم ربيعي ..
    وبعد أكثر من ربع قرن بقليل، على العكس من ماياكوفسكي، يتوسل معاصره ونده " باسترناك " إلى أعلى مسئول في النظام " خروتشوف آنئذ " أن يجنبه الخروج من روسيا، وقد أصدر هذا المسؤول أمرأ بتجريد باسترناك من مواطنيته جاء في الرسالة الاستعطافية.
    " إن الذهاب إلى ما وراء حدود وطني يوازي الموت بالنسبة إليّ، ولهذا السبب أرجوك ألا تتخذ هذا التدبير ضدي، أستطيع أن أقول، ويدي على قلبي، إنني فعلت شيئاً في سبيل الأدب الروسي، واني قد أكون لا أزال مفيداً له، إنني مرتبط بروسيا، بولادتي، وحياتي. و عملي، ولا استطيع تصور نفسي بعيدا عنها " .
    لقد كان بوريس باسترناك واحداً في سلسلة الأدباء الروس والسوفييت الذين اعترضوا على التعريف الأديولوجي للأدب، وأكدوا علو جوهرية دور الفردية في الإبداع.
    كان باسترناك مسبوقاً بكثيرين أقربهم " زوتشنكو " و" آنا اخماتوفا ". وسابقاً لمبدعين آخرين تطولهم المحاكمات بالروح الجدانوفية، بعد موت ستالين وجدانوف.. أمثال سينيافسكى وألكسندر سولجنتسين هذه السلسلة العنيدة من المبدعين كشفت ضيق الأديولوجيا الشمولية. بالإبداع الحقيقي. عندما أقدمت على ممارسة أبشع أنواع الاغتيال الروحي. وهي تصر أن الأدب هو أدب الدعاوة السياسية ليس إلا، إن موت ستالين في مارس من عام 1953 لم ينه الذهنية الستالينية، لقد ظلت تتحكم بالإبداع، وبتفسيرها الجدانوفي " وللعلم توفي جدانوف عام 1948 " حتى أخر لحظات احتضار النظام في نهاية الثمانينات "هذا العام أعيد سولجتسين من سيبريا ".
    وما كان اصدق تعبير " بياراميل " عضو الأكاديمية السوفييتية، ورئيس نادي القلم عندما كتب، على اثر محاكمة سولجتسين، 1970 م "!." إن الرقابة والبوليس يمنعان المؤمن من الصلاة، والفيلسوف من التفكير، والكاتب من الإبداع، إن اغتيالاً جماعياً للروح يجرى عندما يحول شعب موهوب إلى عبيد ومنا فقين ... ".
    ثم ما كان أصوب تنبؤه عندما مضى يقول: "إذا استمر هذا النظام على حاله ، فإن أوروبا الشرقية كلها ستتحول في آخر هذا القرن إلى يباس روحي "!.
    من هو باسترناك؟

    ولد بوريس ليونيد باسترناك في بيت ليجينيا مقابل المدرسة الاكليريكية الكبرى في موسكو- 10 فبراير1890 م، لأب رسام كان يدرس التصوير في أكاديمية الفنون الجميلة ويصمم أغلفة كتب تولستوي وأدباء مرحلته، ولأم موسيقية موهوبة هي " روز اكوفمان ".. في ذلك البيت القديم الجميل، داخل الأكاديمية نشأ بوريس وشهد وقائع لها أثر في حياته: موكب جنازة القيصر اسكندر الثالث، وحفلات تتويج القيصر نيقولا الثاني، ومعاينة تولستوي، لأول مرة، وقد قدم ، في زيارة أبيه مصحوباً ببناته عام 1894، ليشهد حفلة موسيقية. لأم بوريس مشاركة فيها.
    درس الطفل من البداية باللغة الألمانية ، وفي صيف 1903 كسرت ساقه وهو يمضي عطلة في الريف ، وظلت الساق المهيضة التي تركته يظلع في مشيته، علامة فارقة لباسترناك، وهذا العرج هو الذي جعل الشاب خارج التجنيد العسكري، وجنبته الحربين الكونيتين معاً..
    أتيح لباسترناك أن يزور أهم بلدان أوروبا: ألمانيا وفرنسا وايطاليا، مقيمأ وزائراً و طالب علم..
    مدرسة بوريس الأولى كانت بيت والديه. هذا البيت المشبع بالقيم الأدبية والفنية، كتب في إحدى رسائله لأبويه: " إننى مدين لكما بكل شيء، بالإرث الروحي، وبالتربية وبالتأثير ".
    كانت طفولته محاصرة بأجواء الفن وعلاقات الفنانين المباشرة، لقد تعلق بوريس بالموسيقي البارع " سكر يابين " وغدا معبوده ، ومحجته وتعلم الموسيقى، وارتقى في مدارجها لدرجة أذهلت أستاذه، وغدت الموسيقى تبدو له، ولفترة طويلة، لازمة حياة.
    ولم تتحول الموسيقى، رغم ذلك كله، عند باسترناك إلى حرفة، و لكنها كانت ديانة لها القدسية " الموسيقى عندي عبادة لا أقنع فيها بمادون الوصول و الغناء ، وفي حبي لها كل مكنونات نفسي الشابة من العشق والهيام وإنكار الذات و الرغبة في الاندماج المتفاني " .
    لقد تعلق باسترناك بشخصيات سامقة في الأدب والفن والفكر ، وجاهر بتقديسها ، فمن " سكريابين " الذي التقاه وجهاً لوجه وعايشه ، إلى " ريلكه " الشاعر الألماني المعروف الذي لم يتعرف عليه ، اللهم إلا في لقاء عابر في رحلة بالقطار أهدى في أثنائها إلى أبيه كتاباً من كتبه .
    لقد غدا ريلكة مثله الاعلى في الشعر لمدة طويلة.. وان إهداءه قصة "ورقة مرور " الى ريلكة توثيق لهذه العلاقة واعتراف بما يكنه له من التعظيم..
    واضطربت السبل بباسترناك. وحاول الامساك يمهاراته ولكن إلى متى؟. لقد غادر الموسيقى بعد أن لمس منه " سكريابين " نبوغاً واضحاً فيها ، وهرب إلى الشعر، ولكنه لم يكن هروبأ بثقة دائمة، فعندما تعمقت دراسته للفلسفة، وقد تحول من موسكو الى جامعة " ماربورغ " في المانيا، وازداد اضطرابه وكان " هرمان كاهن " استاذ الفلسفة في " ماربورغ "ا يغريه بدخول عالم معقد يزدري الشعر، وينظر إليه كأنه مضيعة..
    ولم يستسلم الفنان لإغراءات الفيلسوف ، وقسا على موهبته الفلسفية التي اخذ يؤكدها " هرمان " رغم تزمته ...
    مغامرة الفن

    و انثال الشعر على الورق ، في البحر ، والفجر، والمطر ، وحتى في الفحم الحجري الذى تخرجه مناجم اقليم "الهارتس" ويشغل باسترناك بالشعر عن كل شيء، عن أهله ودراسته وكأنه واجد به السلاح الوحيد الذى يكفل له الانتصار على غولية الحياة ، على هزائم الحب ، لقد غدا كل شىء يتحول من خلال احساسه إلى شعر : المدن والناس و الطبيعة والأغاني الشعبية، كل التكوينات و الارتعاشات تتلاقى في نقطة محرقية متوهجة واحدة هي الشعر.
    وعندما ينتقل باسترناك، نهائياً إلى موسكو، يصطدم بعالم جديد تنتمي مفرداته أغلبها إلى حقل الصراع ، والسياسة والجماعيات ويرى إلى مجايليه. وقد شكلوا خلايا فنية طابعها العصبية للون واضح، وغدا "سكريابين " و"بلوك " و " بيلي " أعلاماً للطلائع المجددة ولم يكن جيل التمرد مدرسة واحدة، لقد تشكلت من المتمردين عصب فنية لا تستبعد فيما بينها الخصومة والملاحاة .
    وهكذا يجد " باسترناك " نفسه مورطاً شأن غيره في العصبية ، يقرأ أشعاره في ندوة "الشاعرية " التي كانت تضم " انيسيموف " و " ماياكوفسكي " ويتمايز أكثر في جماعة "المجددين "، ويختلف مع " ماياكوفسكي " والمستقبليين، ولكنه رغم ذلك كله متهم بصوت واحد دون غيره ، هو صوت " ماياكوفسكي " وراصد لتجربة واحدة هي تجربة " ماياكوفسكي " لقد ظل "ماياكوفسكي " مائلا أمامه يفتنه ويحرضه، ويبطئ إنتاجيته، لقد عطله الإعجاب بماياكوفسكي ، إلى أن اهتدى إلى هندسة جديدة لشاعريته، اسقط متعمداً بعض أوجه التشابه بينه وببن ماياكوفسكي " ليبتعد عن الرومانسية مثلا" ليلتفت إلى الحياة والوجود، إن " ماياكوفسكي " يتورط أكثر مع الاتجاهات الوظيفية للشعر كما ترسمها الواقعية الجديدة مستجيباً للتحولات ، أن باسترناك يستطيع أن يصغي للأصوات الحقيقية العميقة بطريقة تستبعد التأثر بالضجيج الخارجي قدر الإمكان.
    من الوطن إلى العالم

    وتتالى أعمال باسترناك اغلبها في الشعر، واقلها في القصة والرواية، ففي عام " 1914 تصدر مجموعته الشعرية الأولى " توأم بين السحاب " ثم يشير إلى مهارته القصصية في مجموعتين تظهران متتاليتين، الأولى " فوق الحواجز1917". والثانية: " شقيقتي الحياة 1922 " ثم يتتابع الشعر في القصيدة الطويلة " الفائدة العظمي 1924" ، و1905 والملازم شميدت ما بين 25- 1927 والجائزة المصونة 1931- والولادة الثانية 1932 ، ومرتع الشتاء 1935. حتى عندما يكتب رواية سبكتورسكي يكتبها شعراً وهي حالة نادرة في تقاليد الرواية.. وفي أثناء الحرب الكونية الثانية تصطبغ أشعاره بمجاهدات بلاده من أجل الحياة فيكتب- موت عامل المنجم وقطارات الفجر.. ورغم هذه الغزارة التي يعكسها تلاحق النشر الظاهري.. فإن باسترناك حول خط إنتاجه ، تكيفاً مع جو الحصار والتضييق على الإبداع الذاتي ، إلى الترجمة وعلى مستويين: داخلي تمثل في ترجمة الشعر الجيورجي، وخارجي عالمي تحقق من خلال ترجمة "شيلى" و " شكسبير" و" غوته " و "كليست " و " ريلكة " و" فيرلين" والشاعر الهنغاري " ساندوربوتيفي" وكان اختياره هذا الاحتجاج " بالانصراف لممارسة الترجمة " يؤسس طريقة طريفة مجدية للمقاومة السلبية الهادئة.
    لم يكن باسترناك متصالحاً مع النظام السوفييتي من البداية لكنه لم يكن ليحكم على الثورة بمواقف قبلية.. وللإنصاف كان مفتوحاً على الجوانب الخيرة ألم يصف مكسيم غوركي قصائد ( 1905 ، والملازم شميدت) بالإبداعات الفنية الخالدة ؟ وإن النظام الذي كان قائماً لم يكن يريد من المبدع أقل من التطابق معه والهتاف له والدعاوة لوعوده وإنجازاته.
    بقي باسترناك في حالة مهادنة مع النظام، الذي لم يكن يبخل عليه باللوم والغمز بين الحين والآخر " المهاجر الداخلي- البورجوازي الصغير.... ".
    ولكن الخمسينات وكتابة " الدكتور جيفاغو" أسقطت رايات التهادن نهائياً. ونصبت لباسترناك محكمة عرفية طارئة تعرف قراراتها قبل الاستجواب.. لم تستطع المرحلة الخروتشوفية الصاعدة على نقيض الستالينية " وعدا " أن تتحمل من باسترناك أن يرى التاريخ تفتحا، لا انعكاساً ميكانيكيا لصراع الطبقات ، و أن يصور الفن طاقة من طاقات الروح لا منتجاً يتحكم فيه الاقتصاد وحده.. لقد جعل باسترناك شخصية" جيفاغو" رمزاً مصغراً للثورة الروحية العظمى، في وجه الثورة الزائفة، ومثل المثقف الروسي الذي من حقه أن يتنفس بحرية. ويصوغ كلمته بلا رقابة خارجية ، أو استشارة لمرجعيات النظام.. وزكي الاختيار الصعب " الانتحار- الهجرة الخارجية أو الصمت " مقاومة لنظام يسلب الحياة والهواء و الإرادة.
    لقد منع باسترناك من استلام جائزة نوبل التي قدرت أعماله المتوجة بالدكتور جيفاغو، وعمل على البقاء في موسكو، ورضي بالحياة المتقشفة منبوذاً من النظام بنعوت من مثل " الخروف الأجرب- الغريب عن الشعب " وفي الوقت الذي جرده النظام من مواطنيته، استوطن العالم كله، وقد تجلى ذلك في هذه الابراقات من الهيئات الفكرية والأدبية والإنسانية التي تعاطفت مع قضية باسترناك وأخذت تستعيد سيرته وتقرأ أشعاره وتنظر إليه خادماً للحقيقة ومتمسكا بالشرف

يعمل...
X