إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

الأستاذ الروائي برهان الخطيب في لقاء يفتح أبواب الصبا والشباب والأدب و الحياة - صالح الرزوق

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الأستاذ الروائي برهان الخطيب في لقاء يفتح أبواب الصبا والشباب والأدب و الحياة - صالح الرزوق




    برهان الخطيب يفتح أبواب الصبا والشباب

    صالح الرزوق

    حينما بدأ هذا اللقاء كان الذهن يتحرك مثل بندول الساعة، بين الضفتين الحاسمتين: الأدب و الحياة. وبعد عدة إجابات سمعت رنات ساعة الأستاذ الروائي برهان الخطيب. كانت مجلجلة ومؤثرة كأنها تأتي من منارة تحرس شواطئ هذه الأرض من الأخطار، وتضيء للضالين الطريق.

    في قصص و روايات الأستاذ برهان تجد الإنارة والهدف الأخلاقي للفن، مع الأسلوب الرقيق و الشاعري. و غالبا ما تهب عليك رياح الذكريات . فتساعدك على أن تحلم و أن تكتشف أين أخطأت الحياة و أين أصاب الفن. فالنص الأدبي في هذه التجربة المضيئة و المخضرمة تصحيح لأخطاء الواقع الدميم. الرواية عند برهان الخطيب جرعة تساعدنا على أن نحتمل بشاعاتنا و انحرافاتنا. لذلك قال عنه الناقد عدنان حسين إنه إنسان و قلم كبير " بالحرف الواحد عملاق ". العمل الأدبي عند برهان الخطيب هو أيضا عودة إلى الماضي بكل منعطفاته لتفكيك الأسباب و لتحديد الرواسب و الإرث المتبقي الذي يقول عنه فرويد إنه اللاشعور.
    ومع أن هذا الحوار يأتي بعد عدد لا يستهان به من اللقاءات أرى أنه لا زال لكاتبنا الكبير الكثير ليقوله، فهو عدا عن أعماله الهامة التي تركت علامة مضيئة في مسيرة الرواية المعاصرة ما زال في قمة شبابه الفكري، و لديه في السلة أو الزوادة الرأي الحصيف و سرعة البديهة و الفطنة، كذلك لم يتوقف عن الإضافة إلى مشهد الرواية الحالية، و أتوقع له أن يوسّع الطريق لفن الرواية و هو ديوان العرب اليوم و ذلك بآخر أعماله "ليالي الأنس في شارع أبي نؤاس" التي اختيرت واحدة من أكثر سبع روايات عربية إثارة للجدل، ثم "على تخوم الألفين" الرواية التي من المفترض أن ترشح لإحدى أهم الجوائز العربية لولا اعتراض الأستاذ برهان على الفكرة، فهو كان يود العمل دون ضجيج من غير خشية طبعا من منافسة شريفة فهو محمي بمحبة القارئ و الناشر، زد على كل ذلك وفرة متابعيه ما جعله واحدا من أكثر الكتاب العرب شعبية اليوم.
    إدامة الحوار معه متعة عقلية وجديد نحرص عليه، و لكشف أرضيته الخصبة كتبت إليه..
    لنبدأ من قناعة مشتركة أن الأدب هو مرآة تعكس الحياة وربما الواقع الشخصي للكاتب فقط. ذلك إذا تغاضينا عن فكرة عالم النفس لاكان الذي يرى أن الإنسان هو أكثر من واحد. وأنه يعكس العقل التواصلي الجماعي " كما يسميه هابرماز ".
    الجار... الجار..


    1 - أنت مولود في بابل – العراق. ما هي أول صورة تخطر لك في الذهن عن هذا المكان.. البيت، العائلة " مجتمعك الصغير " أم الشارع والطقس والأصدقاء " المجتمع الأوسع ".
    ـ هيا مارس تحليلك النفسي معي، لا أخشاه، لا أشكو عقدة أو عقبة، ولا أحب ممارسة دور معلم مثلا أمامك، عدة صور تخطر في البال إذ يطلق حرا، تبدو فلتت من ألبوم شخص آخر، فالأديب تختاره الصور قبل أن يختارها.
    والأدب مرآة حياة حين يكون جيدا، والمبدع يدرك ما يجري وراء كواليس الواقع، وبأدبه يتحرك نحو فض نزاع بين إنسانيته ومسخها، لجدوى التفاهم، للحق في الخصوصية والاستقلالية، هذا التحدي يتعارض وما تريده آلهة الواقع المعاصرة، ينشأ صراع وعذابات، كأننا ما زلنا في قصة قديمة، برومثيوس يحمل النار والنور للناس، الآلهة ترفض، تعاقبه، ويدور الطاحون.
    هابرماز وغيره من الخواجات لو أخذناه مفكرا مثلما قلتَ تكلموا عن مجتمعات تصبح معقدة متعجرفة ضاغطة على بشر، تنسف قيما خيرة ابتكرتها المجتمعات البدائية أو الأولى، كمجتمعات البحر المتوسط المتسامحة الناجحة كمثال حتى الآن لمشروع حضاري مستقبلي، بالتناغم مع ما حولها، لا أدعو طبعا لعودة إلى مجتمعات بدائية، ولا لكسر الجغرافيا بالتأريخ، فالجغرافيا أولا ثم التأريخ ثانيا، يعني التوافق مع الجار هو المطلوب لا ترحيله ولا تهديمه.
    لكن لنعد إلى صلب سؤالك قبل التحليق إلى أول ما يخطر في ذهني عن مكان الولادة، صورة وأنا بعمر عامين ربما أو ثلاثة في حديقة البيت الأول الصغيرة الذي سكناه في بابل، النمل وشعاع الشمس وخضرة الأوراق كانت عالمي الكامل، أغيب فيه ولا أرجع منه سوى على كلام أمي معي، ثم أول هدية استلمتها منها سيارة ملونة بهرتني كسرتها لأعرف ما في داخلها..

    2 - لنتوقف قليلا عند هذه السيارة. هل تركت في ذهنك إشارة واضحة حتى اليوم. هل كانت سيارة خدمة " إسعاف، نجدة، حافلة " أم أنها سيارة خاصة. و هل أثرت في نوع اختيارك لأول سيارة اشتريتها. و هل تعتقد أن السيارات الأدبية التي تتكلم عنها في أعمالك تشبهها.
    - السیارة التي ھدتھا أمي وأنا صغیر لعبة یابانیة كنت اطعم سائقھا جبنا في الصباح ثم كسرتھا كما ذكرت لأرى داخلھا وھي فعلا تشبه سیارة صارت عندي مفضلة في الكبر أي الجیب كذلك ذكرتھا بروایتي نجوم الظھر، نعم. هذه مصادفات لھا رابط نفسي.

    3 - نعود لبقية الذكريات.

    - هناك هدايا كثيرة استلمت من والديّ، أول دراجة بثلاث عجلات اشتراها والدي لي قبل أن يكون لأبناء أثرياء البلدة ومنهم الموظفون الكبار وصول إليها، أول بنطلون جنز في المدينة اشتراه والدي لي وأنا صبي في ابتدائية الفرات بعيد الشجرة، كان الوالد مغرما بأن يكون أول من يصل إلى جديد معقول، ربما لأنه كان من أوائل معلمي الإنكليزية في العراق، حتى سمح لوالدتي فتح مشغل في بيتنا لتجهيز العرائس زينة وخياطة، ساعدنا ذلك في الحصول على دخل كبير حينه وعلى زيادة معرفتنا بالناس والاختلاط بصفوة حتى بدأت مشاكل مع جدي رجل الدين بسبب ذلك ثم انتقلنا إلى بغداد وتفرغت والدتي لشؤون البيت والعائلة تكبر حريصة على أخذنا بسيارة أجرة تحضر إلى البيت كل خميس لمشاهدة فيلم الأسبوع بسينما النصر عادة حتى تغلب التلفزيون، كانت حياة عصرية إذاً كما يقال عشناها ضمن حدود القيم المتوارثة، ذلك الجمع بين المحافظة والحداثة أنقذنا من كثير من إفرازات مؤذية لمطبات وهزات اجتماعية نتيجة صراع بين القوى الأهلية في ضياع المرجعية الوطنية متمثلة في حكم وطني يحفظ الأمن والقيم، ذلك ساعدني أيضا في السير متوازنا، فلا الحاجة كبحت طموحي ولا طموحي تحول إلى جموح، كنا وما زلنا في البيت نؤمن بالوسطية حتى مع تبنينا في غفلة عن المعلومة حينا أفكارا جد يسارية، الفضل في ذلك لشعورنا الوطني الذي رسخه والدي في بيتنا كذلك عمي الأديب عبدالله الخطيب وعمتي اليسارية صبيحة الخطيب وأمي فاطمة الخطيب التي مثلت نساء بابل بعد ثورة تموز 1958 في لقاء مؤسس الجمهورية مع نائبات نساء العراق حينه، مازلنا نحتفظ بصورة عن ذلك اللقاء التاريخي وغيره..
    وكما تفضلت فإن الحياة اليومية غير محصورة بين جدران البيت فقط، هناك المحلة والمدينة والبلد كله، بل وفي حالي كان للوطن العربي كله حضور في تربيتي، عبر مجلات الأحداث الصادرة من القاهرة وبيروت، ومراسلات مع صغار وكبار من كل الأقطار، وصل الحال أحيانا أني استلمت أكثر من عشرين رسالة في يوم واحد خلال العهد الملكي، نافسني في ذلك صديق صار شاعرا لاحقا حاليا في استراليا، حينه مزح موزع البريد بعد أن صارت لنا علاقة معرفة مع اثنين من الثلاثة العاملين هناك، بأن البريد يعمل في الحقيقة لرسائلنا، ذلك وسع دائرة معارفي ومشاعري، حدث أن طرق بابنا أشخاص من السعودية وغيرها في زيارة نتيجة تلك المراسلات حتى طلب والدي مني الكف عن ذلك النشاط الذي قد يصرفني عن دراستي، لا زال في درجي القديم بعض البطاقات القديمة. وتنوعت اهتماماتي بمشاهدة أفلام السينما الأجنبية مع والدي والعربية مع والدتي وأصدقائهما ثم بمفردي ومع أصدقائي وصار العالم كله تحت ناظري أشبه بقطع فسيفساء عليّ ملاصقتها لتكوين صورة حقيقية للعالم، ساعدتني ملاحظات والدي لعمله كمعلم ثم كمدرس فمدير مدرسة على عدم الضياع في تلك الأفلام، كان يهمس أحيانا أثناء بكاء أو ضحك في فيلم: لا تنس.. نحن عراقيون.. ما تشاهده عالم آخر..
    كانت ملاحظاته ترسم لي حدودا معقولة ضرورية لتمييز بين حلم وواقع، بين الآخر وأنا، فلا أنا أذوب في وهم ولا أبقى أعيش في وهم، يعني بدأت تتكون عندي منذ ذلك الحين علاقة جدلية مع الثقافة لخدمة الواقع، لا التضحية بالواقع من أجل أفكار تتغير مع الزمن.
    هناك أشخاص آخرون تركوا أثرا فيّ وأبعد في مجتمعنا العراقي، منهم سوريون وفلسطينيون ومصريون، لوالدتي صديقتان سوريتان، شقيقتان، اسماهما سوريا ولبنان.
    الوجوه مضيئة


    4 - هل تأثرت بهذه الأسماء في كتابة عملك " بيت الأمل " حيث أن أسماء الشقيقات هي نفسها أسماء البلدان العربية.
    - الأسماء حتما تأثرت بھا بل منذ ذلك الحین صار الأشخاص عندي یمثلون أنفسھم ومفاھیم أخرى أبعد، یعني.. واقع و رمز، كذلك لھذه المصادفة تفسیر أبعد فلدي أقارب یسكنون جرف الصخر، المنطقة المعروفة وسط العراق، منهم نساء یحملن أسماء الدول العربیة، تونس و الجزائر و غیرھما، و قد نقلتھما من ھناك إلى القصة. ولو مضینا في ھذا التشریح لسوف نجد كل ماتنفسته و كتبته خارج الوطن إنما ھو في الحقیقة من داخل الوطن و له ما یبرره طبعا و یفسره.

    5 – نعود الآن إلى الآنستين سوريا و لبنان و بقية الوجوه المضيئة في الذاكرة.
    - في حضرتهما كنت أرى عالما آخر وأنا صبي، مرة لم يصطحبني والدي إلى فيلم "كنوز الملك سليمان" شكوت ذلك لأمي بحضور الشقيقتين، فقالت كبراهما: ولا يهمك، أنا آخذك بدله إلى الفيلم. كان تصرفها عالما من ألفة فتح لي بابا سريا إلى أخوة البشر، وكان عندنا أستاذ فلسطيني اسمه أبو جورج، ناصر سعيد على ما أذكر، لم نكن نعلم أنه شاعر مشهور وشخصية عظيمة، علمنا قواعد العربي بطريقة قصصية خاصة وبنبرته الجميلة المذهلة.. جاءت النون الكبيرة وقالت للنون الصغيرة ولك ليش إنت هنا زعلانة؟ لم نتفاعل مع أسلوبه في البداية، حكيت المحاضرة كلها لعمي عبد الله مبديا ضجري من التطويل، فابتسم عمي ونصحني: انتبه جيدا لأستاذك، واضح من أسلوبه الجديد إنه رجل عبقري. اتضح بعد حين إننا فعلا أمام شخص رائع لا يتكرر في التاريخ. الغريب حاول جلف زرع خصام بيننا نحن التلاميذ وبين ذلك الأستاذ، فقط لأنه فلسطيني، بل وألبني عليه واصطدمت مع أستاذي أبو جورج بسوء تدبير مني مع الأسف، لكن ذلك الموقف فتح بصيرتي بعد حين على الرفعة والعبقرية في ذلك الأستاذ حين واجه خشونتي بأدب لا مثيل له، اشتراني إلى الأبد بلطفه، قلبني رأسا على عقب، من تلميذ مشاكس إلى أسير للإحسان والدماثة. بعد أربعة عقود سألني المربي الكبير كاظم الطائي عما إذا كنت مازلت أذكره، كلاهما درّسنا نفس العام، قلت له: كيف يمكن أن أنساه وأثره النبيل باق حتى الآن فيّ وأراه أمامي كأني فارقته أمس.
    كذلك كان في بلدتي المسيب مسقط رأسي سوريون أصدقاء لنا من بيت الأبرش .. قمة في الأدب والذكاء والألفة، كان أصغرهم صباح يسوق دراجته من هناك إلى مركز بابل الحلة، أربعين كيلومترا، لنلتقي ونتحدث في الأدب والتأريخ، وأما خالد أو محمود أو أسعد فقد ساهموا في صنع تكويني الفكري وبعض قناعاتي وأشعر حتى اليوم بمحبة كبيرة لهم، ومن مصر كان هناك أستاذي أيضا محمد بشندي الذي زار بيتنا مع عائلته وابنه حسين كل خميس، كما نحن زرناهم، لقضاء أمسية مع والدي ووالدتي وأخوتي جوار الراديو نتحدث في شؤون عالمنا العربي، تلك أيام لا تنسى بكبر آمالها أشعرتني بالأخوة مع كل الناس حتى اليوم..
    كذلك حالفني الحظ في دراستي العليا بزمالتي مع السيدة بثينة شعبان، وهي قمة أيضا في الأخلاق والمعرفة والعزم على محبة وخدمة أمتنا، شخصية نادرة كانت ومازالت بقوة إرادتها الناصعة وحرصها على الوطن، صدقني.. للسوريين والعرب جميعا حق وواجب أن يفخروا بأولئك الأساتذة أسوة صالحة، خلاف ذلك يعني غياب المعلومة الصحيحة وهذا ليس نادرا في وقت تشوه المعلومات من جانب مَن يريد ركوب العرب ومنطقتهم التي لن تصبح منطقتهم إذا بقوا على ضرب بعضهم بعضا لمكسب وغير مكسب.
    عقاب الفلفل


    6 – لكل إنسان أرشيف صامت. لو سمحت لنا بكسر حاجز الصمت ما هي طبيعة علاقتك مع رأس العائلة: الأب. و هل ترى أنه أقرب لك من الأم. وما هي الملامح المتبقية في ذهنك عنهما. كيف تنظر لعلاقتك بهما.
    ـ علاقتي مع الأب كانت وظلت تكاملية، يعني واحدنا كان وما زال يكمل الآخر، أبدا لم أشعر بأي تهديد أو مضايقة من جانب والدي، حتى لو كنت ارتكبت مخالفة أو ذنبا، لا يعني ذلك كنا ملائكة، حدث وأن عاقبني والدي بقسوة مرة على وقاحة قمت بها رغم ذلك عاد ومسح بكلام لطيف أثرها في نفسينا، كانت صراحتي أمامه مطلقة وذلك جنبنا تعقيدات ونفعني في تبين الطريق القويم، اعتقد علاقتي مع والدي كانت مثالية، ذلك تأتى من تفكيره وتصرفه كمثقف معي كذلك كانت العقلانية من جانبي منذ الصغر، أذكر كسرت مرة كلامه في موضوع حساس، تظاهر هو كأنه لم ينتبه، لكني شعرت إثما من ذلك، وعقابا في سكوته معي، خجلت من مواجهته فكتبت له رسالة اعتذار ووعدته أن لا يتكرر ذلك وسلمتها لشقيقتي لنقلها إليه، قرأها وصعد إلى غرفتي امتدحني عليها وقال هكذا يجب أن يكون بيننا دائما تفاهم، نشعر بالخطأ نعتذر عنه لا نكرره ونواصل التقدم.
    تصور نقل العائلة كلها، من بابل حين أنهيت دراستي الثانوية إلى بغداد حيث بدأت الدراسة الجامعية، فقط كي لا أشقى في العاصمة بعيدا عن الأهل، كذلك خصص لي منذ دراستي في المتوسطة راتبا شهريا ثابتا ليس قليلا لشراء المجلات والكتب والقرطاسية، كان يجور على نفسه ويمنح أولاده أكثر ما يستطيع، لا أعتقد يوجد في الدنيا كلها أب مثل أبي بطيبته ولطفه وثقافته وتوازنه وحميته في نفس الوقت، ليس معنا وفي البيت فقط بل مع جميع معارفه وتلاميذه ما جعلهم يحبونه حبا جما، حتى اليوم أراه في أحلامي ناصحا محبا، كان كنزا لا ينضب من القيم الإيجابية وأعجوبة أخلاقية حقيقية، مرة كنا أمام التلفزيون في شقتي بموسكو، عند نافذة مقابلة لنا نزعت فتاة ملابسها فمزحت معه مشيرا برأسي إلى النافذة: بابا فيلم بورنو ثري دايمشن تفرج. دون أن يلتفت لامني: بابا، عيب التفرج على عرض العالم. هناك مشاهد كثيرة من ذلك النوع معه ترسبت فيّ صارت إرثا لي افتخر به. وأما والدتي فقد كانت وما زالت حادة ما جعلني على خصام معها أحيانا فترات طويلة، مرة لم أكلمها ستة أشهر ونحن نعيش في نفس البيت، كنت أعاقبها بذلك ليس فقط على خشونتها معي بل على خشونتها مع والدي، حتى طلبت في صباي يوما من والدي أن يطلقها ويرجعها إلى أهلها، فابتسم والدي مريرا آنذاك وقال: ثلاثة أسباب تمنعني، أولها هي أمكم، ثانيا هي ابنة خالتي وأنا مسئول عنها في كل الأحوال، ثالثا هي ليست سيئة مع خشونتها، والسبب الأخير خلّه بيننا.. أحبها.. وخشونتها دلال.
    مرة جئت إلى أمي حاملا خبرا من السوق قربنا وهي في المطبخ فأخذتْ الفلفل الأسود وحشرته في فمي قائلة لا تكذب مثل الصحافيين، فجعلتني أشك في هؤلاء المساكين كل عمري وحذرا من كلامي كي لا يؤخذ كما يجب.
    لم أرها مطلقا تذرف دمعة أو تقبل أحدا أو طفلا منا أو غريبا، على العكس حين كانت تقبلها زائرة أو حتى قريبة تسرع خفية وتغسل وجهها، ورغم استهجاني للكثير من صفاتها انتقلت إليّ تلك التصرفات رغم أنفي، أحيانا أشرّح نفسي معنويا، أقول أنا خمسين بالمائة من والدي، ثلاثين بالمائة منها، عشرة من خالي، عشرة من عمي، فهل أنا لا أحد على الإطلاق؟ ثم أعود وأقول نحن خياراتنا. هكذا ينشأ ربما من مجموعة من الناس شعب وأمة، لهما مشترك، ينقضوه يعني ينقضون أنفسهم، لذلك أكره كل مظاهر العنف، تدابيره لا تشحن سوى من خارج الوحدة الاجتماعية، أكانت عائلة أو شعبا برمته، للهيمنة عليهم.

    7 – هل تسمح بأن تفتح لنا قلبك و تحدثنا عن بيتك الأول في العراق. و عن الجيران. و ماذا بقي في ذاكرتك منهم. غراميات و قلب مفطور و مكبوت يسمونه العيب ... و هل أمضيت طفولتك و شبابك في بيت واحد أم تنقلت بين الأمكنة. أي بيت أحب إلى قلبك. و من هم الجيران الذين لهم ذكريات دافئة عندك.
    ـ ذكرت عن هذا سابقا القليل وأضيف أنا محظوظ فعلا من سعة قاعدتي الاجتماعية، من كثرة وتنوع الأقارب والأصدقاء والمعارف، هذا ينعكس في الإبداع حتما، في سمة التسامح المتغلغلة في العلاقات مع الناس. في مسقط رأسي المسيب، المشهورة بأغنية ناظم الغزالي "على جسر المسيب سيبوني" كنت حين أذهب إليها في العطلات انتقل من بيت جدي لأمي إلى بيت جدي لأبي إلى بيت أعمام والدي كأني نحلة تجمع رحيقا للمستقبل من هنا وهناك، وأما في محلة المهدية إذ سكنا في بابل، قبل اختراقها بشارع القاسم الجديد نهاية العهد الملكي، فإلى البيت المعلق وسط المدينة، مقابل مركز الشرطة، ثم إلى محلة الجباويين تحديدا سوق الاسطة وفرعه سوق الدجاج حيث شعرت كأني وسط المعمورة، كأنه فعلا بلاد الإغريق للعالم القديم، كل شيء توفر وازدهر، العالم كله تحت يدنا في السوق، لا يعني كنت أحقق كل رغباتي، لا أبدا..هناك دائما شيء بعيد المنال يطمح إليه صبي ولا يناله، ذلك يجعل البعض يشعر بنقص وعند البعض الآخر يشحذ الهمة لبلوغه وكنت دائما من النوع الثاني لذلك أتذكر ما كتبه أناتولي فرانس أو سفايغ على عكازه: ليس هناك ما هو أحلى من التغلب على عقبة. الحياة عراك مع العقبات وبشرف يجب خوضه دائما حتى لو خسرت، ذلك كان منهجي لذلك لا أستحي من الكلام في أي موضوع، ليس في حياتي مطلقا ما أخجل منه، وإذا حدث أن تصرفت مرة لا كما أريد فلذلك تفسير وعلى الأرجح مقبول. طبعا كان الخوف من العيب أحد مسببات إحباط أحيانا، مثلا أحببت امرأة وأنا مراهق تكبرني عشرة أعوام، ذلك طبيعي لتلك المرحلة، وكنت أتأرجح بين تحقيق أو محاولة تحقيق الرغبة وكبحها، الأدب والاهتمامات العامة ساعدني في إدراك وإدارة الصراع بيني وبين نفسي نحو اتجاه صحيح، اتجاه ترويض الذات، بتصعيد الرغبة إلى التسامي فوقها، كذلك ساعدني الأدب بتصعيد الصراع مع آخرين نحو التفاعل الخلاق بدل التخريب النفسي هنا وهناك. كبح الرغبة مع وجود مشجعات لتحقيقها منحني حتى اليوم قوة الإرادة، حسن الاختيار، رفع الذات إلى ذرى الوسطية والاعتدال والنشوة الروحية الدائمة والمحبة الثابتة للناس، رغم منغصات شائعة حولنا في الأفراد المتعنتين يعرفها الجميع.

    حب لكل العمر


    بيت جدي لأمي قائم حتى اليوم وسط المسيب، يسكنه ابن خالي، أكثر الأماكن ألفة إلى نفسي، ربما لأني ولدت فيه كذلك العديد من أخوتي وأقاربي، أيضا لأن ربته، جدتي بلقيس، ظلت أحب الأشخاص إلى نفسي حتى اليوم في غيابها، كنت أستيقظ من النوم أحيانا في كنفها أراها تنظر إليّ في صمت، بمحبة وأمل لا يوجد مثلهما هذه الأيام ربما، محبتها تلك جعلتني إيجابيا على الدوام كل حياتي، أشبعتني طمأنينة كل العمر وثقة بقوة الخير وحتمية غلبته ولو انكسر كما انكسرت هي، كثيرا ما ذكرتني بما يقال عن حب المسيح للبشر وكيف افتدانا، جدتي فعلت الشيء نفسه حين عافت نفسها كل شيء من أجل تربية أطفالها ثم أحفادها بعد رحيل زوجها مبكرا لسقوطه من قلب شجرة التوت العالية في ذلك البيت منتصف ليلة عاصفة، احتطبوها بعد ذلك، لكن ماذا كان يفعل هناك في ذلك الوقت لا أحد يدري حتى الآن، ثم ظلت تتكلم لنا نحن أحفادها عنه كأنه معنا باق كل العمر، طلع إلى السوق دقائق ليشتري لنا شيئا، لكنه لا يعود.. كانت قوية مثابرة إلى حدود المطلق، أشعر روحها فيّ، كذلك أنا الأكثر شبها من أحفادها بها، ذلك يرضيني تماما، يشعرني أن حدودي الخاصة ذائبة في الماضي البعيد كذلك في المستقبل البعيد مع كثرة الأحفاد الذين خلفتهم وقوة المثل التي غرستها فيّ، يمكنني الكلام عنها إلى ما لانهاية دون أن أعثر على ما ألوم عليه عندها ودون أن أرفعها من مرتبة الواقع إلى المثال، حتى غضبها وسخطها أحيانا علينا أراهما نارا هادئة طبخت حكمتها عليها.
    أما الجيران الذين لي معهم ذكريات طيبة فهم كثر، من المسلمين طبعا ومسيحيين ويهود، من العرب وأكراد وسوريين ومصريين، لا أحد سابقا كان يفكر هذا كذا وذاك كيت، الكل عراقيون أهل محلة واحدة، لذلك حتما نشأت أحب الجميع وأخاف كسر هذه التركيبة المتنوعة المنسجمة التي منحتني أجمل المشاعر والذكريات، كوَّنتْ روحي، ذاتي باختصار، نساء صديقات لأمي من بيت حنا على اليسار كنت صبيا آخذ عددا من البيض والسكر وأمضي إليه فتترك مادلين طفلها في حضنها أو جانبا وتصنع لنا قالب كيك وتضيف من عندها ما ينقص عليه، ذلك ليس مرة واحدة بل عدة مرات، وعلى اليمين السوريتان الشقيقتان من أجمل خلق الله، اسماهما هكذا: سوريا ولبنان، تسألاني عن تفاصيل المدرسة والمحلة والأفلام عند الزيارة وتضعان في جيبي جكليت الخيرة والحِكَم عند انتهائها، زد كلامهما الجميل ومزاحهما الحلو، وكان هناك في محلة السنية بيت كبير مليء بعائلات مسيحية من الشمال ندخل ونخرج منه كما لو كنا أقارب، وتلك عائلة كردية ابنها صديقي، ابنتها صديقة أختي، الأم صديقة أمي، والدهم صديق والدي، حملوا مثلنا هم الوطن كله وحضر بعضهم في رواياتي إلى الجديدة "عشاق بلا حدود" في عالم منسجم تكوّن من نوايا بشر أصيلين وما زال قائما رغم تخريب السياسة من تدخلات خارجية ونكوص داخلي.
    من هي .. م .. ؟


    8 – لا شك أن هذه إجابة رقيقة. و بها فتحت أبواب القلب. لماذا لا تفتح أبواب القلعة و تذكر بعض الأسماء و التفاصيل. كيف كنت تنظر في طفولتك و صباك إلى نساء المنطقة و بنات الجيران. لطفا أسماء و تفاصيل.
    - الذاكرة سماء فسيحة ولو كانت عماء، تحتها التفاصيل غير صماء، وللأسماء نداء وأصداء، مادلین الأكبر مني أحببتھا في صمت، ما زالت موجودة. وفي الكلیة سألتني غیرھا، كما بعد أربعین عاما: لماذا أنا لا غیري؟ وكان الرد ذاته :لشبھك بمریم العذراء. ثم أخرى تجد لھا إھداء أول روایة لي: إلى م. تساءل غسان كنفاني حینه بمقاله بالأنوار من ھي م؟.. مارلین مونرو؟ لم أرد ولا حتى الآن مَن م. ھي امرأة معروفة الآن، تتكلم بشجاعة على الملأ، تكشف بنفسھا ذلك لو ما ھان اعتراف سابق منها أمام صدیقات أثناء دراستنا بالكلیة، اعتراف سبب مشكلة مع الحبیبة الأولى، أي التي أھدي إلیھا آخر روایة الآن. وأما داخلیا، أي كیف طبیعة الھوى والسلوك، أؤكد ثلاثة عوامل تحكمت فيّ في الصبا: الإصرار على فھم المجتمع والكون، تجنب الخطأ والتصادم مع آخرین.. لیس خوفا بل للا جدوى النقاش والصدام، وأخیرا الانبھار المضني بالجمال بكل أنواعه، خاصة القدسي المظھر، لذلك شغلتني ھیأة العذراء وصور الجبال والبحیرات.
    یعني تحت الھوى والحب عندي رغبة أعظم من الرغبة الجنسیة، رغبة في التكامل قبل التكاثر وفض التوتر، مفردات إدراك ما بعد الصبي لم تختلف كثیرا عما في ذلك الحین، باكورتي "ضباب في الظھیرة" ختمتھا في الثامنة عشرة تشھد، كان الھوى یحدث والسلوك یتبع دون ترجمة الرسالة الضمنیة إلى فصحى معلنة، مثلا حلت سیدة حامل مع زوجھا ضیفین في بیتنا بانتظار مراجعة طبیب، كنت في الثامنة وھي في الثلاثین وزوجھا صدیق والدي جوارھا لكن ذلك لم یمنع أن أصاب بھوس، من اھتمام نحوھا غیر مفھوم في الظاھر، جعلني حتى أبكي أمام أمي لتطلبھا لي زوجة، أمي تضحك طبعا وتسألني: ما تقصد زوجة لك؟ أمي تذكر حتى الیوم تلك المرأة والحادث، شدیدة البیاض والنعومة والھدوء، تلك السمات كانت وراء الانجذاب نحوھا، یعني كنت أبحث عما یكمل نقص واقع صاخب كالح حولي، والغریب انتقلت تلك المرأة إلى مدینتنا بعد حین، ولادتھا تعسرت قلیلا، فنادوني بتدبیر سریع من القابلة لأدخل غرفة الولادة دون علمي وعلمھا، لتصور شعبي ذلك یسھل الولادة، كنت في ساحة بیتھم وقالوا لي أمك تریدك ھیا، وفعلا ما أن دخلتُ الغرفة المدفأة شبھ المظلمة غیر فاھم تماما وضعیتھا الغریبة أمامي ورأتني أنظر إلیھا حتى صاحت: لكم ماذا یفعل برھان ھنا! وفي الحال تمت الولادة بیسر ورزقت فتاة رأیتھا في كبرھا أیضا جمیلة، طبیبة، تزوجھا زمیلي. وانعكس ذلك المشھد الساخن بقصتي القصیرة "البطلة" وغیهھا.
    أما حبي الصامت لمادلین فله قصة شبه تقلیدیة، مراھق نبت شاربه أحب امرأة تكبره بضعة أعوام، لكن رد الفعل أو التصرف یختلف من شخص إلى آخر، كنت مستعدا للھرب معھا إلى آخر طرف الدنیا دون تفكیر في مفاتن جسدیة لھا غیر عینیھا الفسیحتین كالمحیطات، كانتا فضاء للاكتشاف، ذلك تحول فیما بعد إلى حب مزعل الجارف مع شمسة في روایتي "بابل الفیحاء".. الرادع الأخلاقي كان وما زال من قیمنا الراسخة في مجتمعنا وعائلتنا كبیرا والحمد لھا، فتلك القیم تؤدي دورا ضریبیا، ضروریا، كابحا أو منظما لانفلات عاطفي في مرحلة ھیجان قد لا تحمد عقباه، كحریق ینشأ غفلة ویتوجب إطفاؤه، كذلك تفعل القیم توازن إغواء الحریة والنمو لصالح الإنسان، أذكر أن زوجھا فطن أو نبھوه لما یجري فاستدعاني إلى بیته وجرى بیننا حدیث في منتھى الرھافة، كشفت ذلك بمشھد في روایتي الأخیرة "عشاق بلا حدود" بتفاصیله كما جرت حقا، ھنا لعبت حصافة زوجھا والتزامي بقیمنا الاجتماعیة الدور الحاسم في فض مشكلة كان یمكن أن تتطور إلى أسوأ صورة ونتیجة. ھنا قد یعترض أحدھم: لكنك خسرت تحقیق أجمل عاطفة بردعھا فأي فخر في ذلك؟ فأقول: أبدا لم أخسرھا، بل صعّدتھا إلى مستوى الإبداع، خلدتھا في نفسي، كذلك تخلد في نفوس قرائي وقد تعینھم على تجنب عثرات الحیاة نحو رقي.
    حتى في الكلیة، مع صعود المد العاطفي وطوفانه، أول بواكیر الشباب، كان الحب الذي ملأ عليّ أرضي وسمائي مفعما بالطھر، كل أعوام الدراسة كانت نظراتھا إليّ تحییني إذا أقبلت، وتمیت إذا أدبرت، كلانا عاش الحب تلك السنوات في أرقى تجلیاته، عاطفة جعلت الناس والأشیاء مغرقة في الجمال وقوة الحضور وخفة الأثر، كالسحب حین تترك في البور المطر. لیس سوى بعد تخرجنا تلامست یدانا مرة، كاد یغمى عليّ، كانت شفتاھا مترعتین لذة كشواطئ الفردوس حتما، لكني أحجمتُ عن خرق قدسیة كانت وما زلت أریدھا في الحب والحبیبة، سألتني بعد الأربعین عاما بالھاتف تفصل بیننا آلاف الكیلومترات.. ھل ندمتَ على تحفظك معي؟ وماذا ترید مني الآن لو قابلتني؟ قلت كاذبا: نعم نادم وأضفت صادقا: أرید الآن لثم شفتیك الخالدتین في ذاكرتي..
    ھل ترى الفرق؟ لو كنت فعلتھا وقطفت تلك الزھرة آنذاك ما نمت على صفحاتي ملایین الزھور ولا بقت تلك الرغبة القدسیة نحو ضوعھا في نفسي حتى الآن. لسوف تستنتج طبعا: أنت رومانسي، ینحر نفسه، من أجل أوھام. فأقول: لا.
    في وقت آخر وظرف آخر تتغیر التفاصیل، في الشام عشت مع بقایا الشباب قصة حب كاملة مع امرأة كاملة، انطوت القصة یبدو لي، كل منا في طریق حسب ضرورته، كان یمكن أن تكون النھایة أجمل لو صارت ھي أیضا حاسمة مثلي مع المصیر. بالمناسبة لا أفھم الآن بل أشك في مطالبة البعض بالحریة ھناك، ھم یستمتعون بھا واسعا. المھم من قصتنا ھذه لنا ما زال في نفسي حتى الآن أعظم الأثر منھا، ومن غیرھا تكاد تشبھھا أسوأ أثر، فلماذا اختلاف النھایتین؟ طبعا ھناك فرق بین امرأة وأخرى، خطأ حكمة شكسبیر كلھن سواء بعد أن یسود الظلام، كذلك قول متھتك لخالي كلھن سیئات إلاّ أمي. الصحیح ھناك فرق بین امرأة وأخرى كبیر بمقدار ما یمكن كشفه لحبیب من ذات مثقفة، من ذلك الكشف نوع الأثر في النفس، خلود الحب أو زواله. فالحال من طبیعة الحب، من المعرفة، قبل أن یكون من رومانسي واھم أو شھواني دائم، الرومانسي الرافع عالیا قیمة العاطفة واللطف، كذلك الشھواني المؤكد على تحقیق الرغبة، یمكن أن یكون عارفا أو جاھلا، الفرق ھنا، بین المعرفة والجھل، ھو الذي ینحت في النتیجة، في مصیر، أرى قیمته معنویة قبل غیرھا. على ھذا بدأ الخطیب وبقي.
    العلاقة الغامضة


    9 - ھل فعلا أحببت مادلین بشكل عذري و لأنھا تشبه مریم العذراء. أم أنك بشكل لا شعوري كنت تنظر إلى المسیحیات كما ینظر المشاھدون لنجمات السینما في الأفلام التجاریة والرومنسیة التي انتقلت إلى الفلم المصري و رسمت العلاقة الغامضة بین الذكر و الأنثى بصورة ابن البلد الشھم والبنت الخجولة التي تبحث عن حریتھا، تكلمتَ عن 5 نساء.
    - في مراحل مختلفة، مادلین في الصبا، ثم التي أسمیتھا الحبیبة الأولى أول دراستنا في الھندسة، ثم م المعروفة لا أكشفھا كغیرھا طبعا لتجنب الوقوع في العیب، ثم الشامیة ثم أخرى حیث تكلمت عن أثر حسن وآخر غیر حسن . یبدو لي ھذه المرة فاتك أن الرد على سؤالك موجود في ما ذكرتُ. أعتقد أني فسرت لماذا الطھریة في البدایة ومع النضج وتغیر الظرف تتغیر العلاقة، لا تنس عشت حياة ربما كالعديد من العراقيين وغيرهم مليئة بمنخفضات جوية أقصد سياسية جعلت الاستقرار داخل وخارج الوطن بالنسبة لي شبه معدوم ورغم ذلك بقيت محصنا أمام الاستلاب .

    10 - تبدو الصورة الأصلیة لروایة شقة في شارع أبي نواس و كأنھا حكایة عن ثالوث المحرمات العربیة : الجنس و الحریة و الخبز . و في ھذا الإطار تتشكل صورة نعیمة و التي ینظر إلیھا أحد الشخصیات كأنھا نسخة من صورة صوفیا لورین" ص "83، عینان خضراوان " ص 51 "، شفتان وردیتان " ص 53 "، جمیلة و مرعوبة " ص 58 "، و لا توجد أیة إشارة عن حیاتھا العاطفیة أو عن العمق الشعبي لأسطورة " العذراء المقدسة ". ألا تعتقد أن ھذا بعید تماما عن مفھوم الحب العذري .
    - عزیزي صالح قلت لك إن ذلك الحب القدسي الشامل انعكس في حب مزعل لشمسة بروایة بابل الفیحاء، لیس في كل الروایات، لكل حالة دوافعھا وتفاصیلھا، وعمق نعیمة ومأساتھا ممتد إلى الجبل حیث أھلھا وخطیبھا المجروح بالحرب القتیل بطلقة إبیه بحرب عبثیة تسوق بین طوائف وأدیان وأحزاب لإخفاء التناقض الحقیقي الأساسي بین الشعب والاستعمار. مشكلة الخبز والحریة المذكورة في الروایة أحد أركان الروایة، الھدف من روایاتي تقدیم الحالة العامة في شكل روائي ینقل بصورة المشكلة وإرهاصات المستقبل كما أرى للناس و لا یستحسن زج نفسي في تفسیر روایاتي لئلا أفرض رؤیتي على القارئ.. كل واحد یأخذ من الروایة كعابر بستان كما تعینه مخیلته.

    11 – كنت في بواكير حياتي أسكن مع الأهل في منطقة هادئة فيها فيلا وزير سابق أفلس بعد آذار و التأميمات. و لكن كنت أشعر بالخجل لأن بيتنا بمستوى الأرض و حوله حديقة مهملة، و لأنه بلا شرفة واسعة لألعب عليها مثل أبناء الوزير. من جهتك هل كنت تفتخر بالبيت الذي تعيش فيه، وبالعائلة التي تنتمي إليها أم أنه توجد منغصات وأسباب للخجل. كالفقر أو ما شابه.
    ـ أعتقد يمكن تخمين الرد على هذا السؤال من أجوبتي السابقة، افتخر حتما بالبيت الذي عشت فيه وبالعائلة التي انتميت لها حتى و هما ليس في مستوى العيش في أحلام، المهم بذل الجهد من أجل عيش شريف وهذا متوفر والحمد للجد والأب والروح النزيهة فينا، الواقع ليس مثاليا طبعا، هناك دائما ما نشكو منه، وإلاّ ما كان هناك طموح، مثلا ربما لم يرضني تصرف خال أو عم لكن ذلك يحسب عليه شخصيا لا على العائلة كلها، ضمن مؤشر إلى ما ينبغي أن يكون قاعدة اجتماعية، المسألة كبيرة في الظاهر وفي الباطن هي مسألة ذوق، فلان يفتخر بتصرف و آخر يراه معيبا، في الآخرة لا يُحاسب الواحد بجريرة آخر، ذلك عدل يحسن الالتزام به في الحاضر أيضا، بل وقالوا صحيحا: ليس الفتى من قال كان أبي إن الفتى من قال ها أنا ذا، وأما الفقر فهو من غير مكابرة نوعان، الروحي والمادي، والروحي أغنياء كنا وما زلنا به لأسباب منها سعينا إليه ومنها ميراثنا منه، وأما المادي فأقول لك قديما في العراق كان الأغنياء على عدد أصابع اليدين ولم نكن منهم، لكنا بسبب وظيفة والدي وعمل والدتي لم نشعر بعوز، بالعكس كان حالنا يبدو دائما أفضل من غيرنا وحصلنا على كفايتنا دائما، كنا جزءا من الطبقة المتوسطة التي قام عليها العراق القديم ولما هدمت هدم العراق مع الأسف. شخصيا عندي قاعدة منذ صباي: انفق أقل قليلا مما تحصل عليه ولا خجل من أحد طالما القميص والضمير والجبين نظيف وعلى الشغل تثابر، في ذلك سر قوتي وفخري، حتى أني يوم التقيت ملكا أوربيا وجها لوجه وبيننا مسافة ذراعين تقريبا نظرت إليه ونظر إليّ طويلا كأني بل كأننا من كتيبة فرسان واحدة..
    الإصلاح أولا


    12 - في عروقك تسري دماء آل الهاشمي، و هم أخوالك. من أين هذا اللقب. هل له علاقة بآل هاشم من شبه الجزيرة أو بالشريف الحسين. أو حتى بنائب رئيس جمهورية العراق حاليا. وما نوع الدعم أو التأثير الذي قدمته لك عائلة الوالدة. وهل كان هناك فرق اجتماعي أو ثقافي ومادي بين آل الخطيب و آل الهاشمي و كيف انعكس ذلك على سيرورة الحياة في البيت: بين الأب و الأم. هل من مشاحنات و خلافات و ضغوط بسبب التفاوت بين الطبقات و الأصول.
    ـ سؤالك هذا وراءه أحد الأسباب الكامنة في مصيري كروائي، الحقيقة أرى في قصة لقاء عائلتي الخطيب والهاشمي وولادتي جانبا كبيرا من تاريخ المجتمع العراقي المعاصر، ذلك في رواياتي مثبت، هي أيضا قصة شبه نمطية للعراقيين، بمعنى أغلب أهاليهم الحاليين تأسس باندماج أكثر من فرع من أكثر من عائلة، جد جدي عن أبي وفد من البحرين إلى العراق منتصف القرن التاسع عشر معينا في حضرة سامراء ضمن سلسلة المراجع الدينية، من هنا لقب الخطيب قبل ذلك كان المتقيان، ثم نقل من النجف إلى جامع المسيب الكبير، عمامته صارت لجدي المولود في العراق حتى وصلت لعمي الأصغر. جدي نفسه عن والدي تزوج من الطائفتين. أما جدي عن أمي فهو من عشيرة سادة بقرية السادة المنحدرة من بلدة الهاشمية، التي تأسست بدورها من بعض آل هاشم من الجزيرة العربية حسب التصور والمعتقد. لكن خالي كان منذ منتصف الخمسينات نصيرا صريحا للعائلة الهاشمية الملكية حتى إننا حين اجتمعنا في بستان المسيب للإعداد لمظاهرات ممهدة لانبثاق ثورة 14 تموز 1958 وقف هو ضد رفع شعار إسقاط الملكية، مؤكدا على الاكتفاء بالمطالبة بالإصلاح، اذكر ذلك جيدا جدا لأني كنت ضده آنذاك متحمسا لقيام الجمهورية. ذلك أدى لاستبعاده من لجنة إعداد تلك المظاهرات وانخراطي مع زملاء لي بتأجيج مظاهرة الحلة، بل لم تخرج مظاهرة المسيب قيل لي حينها ثم لاحقا بعد سنين لشكواه ورفعه أسماء منظمي المظاهرة إلى السلطة الملكية، أحد الأفاضل الكبار من منظميها موجود حاليا يعلم التفاصيل صحيحا والفرق بين فلان وفلان. شخصيا لم أكن أركّز على النسب والقرابة والطائفة وما زلت لذلك لا أدري مَن قريب مَن، وحين حدثت مشاكل بين أهل، كأن يُخرب زواج خال من عمة لانتماء أحدهما لشرق وآخر لغرب، ضحكت على ضيق الأفق ذاك وغيره وتفرجت عليه كما لو أني شاهدته في سينما، إنما استلهمت ذلك واستفدت منه لرواياتي، لجعل العراق ككل مفهوما لأهله ككل. وأمس سألني ابن أخي، جده عن أمه الشخصية التاريخية رشيد عالي الكيلاني: من أنا يا عمي سني أو شيعي؟ قلت له: مسلم يا عزيزي. فعلا، أحد أسباب الفخر بعائلتنا، بأي عائلة إنما هو تنوعها وحرصها على العمل والقيم العالية، هكذا هي عادة العائلة العراقية وليدة العراق المتنوع العالي حتى تحت حراب أهانت كل شيء فيه تحوله من فسيفساء ثرة إلى فسيفس أو ديك رومي للنحر.
    للنهر عدة روافد


    13 - متى بدأ اهتمامك بالأدب و كيف. وهل شجعك أحد من أفراد العائلة أو بالعكس كانوا ضدك. مثلا كان والدي يعتقد أن الأدب ضياع للوقت و المستقبل مع العلوم و التكنولوجيا. و لكن أستاذي في الإبتدائية انتبه لتفوقي باللغة و باشر بإهدائي بعض المؤلفات لتحسين الموهبة. و في المقدمة كتابات لعلي الطنطاوي التي كانت تدفعني نحو اليمين و الميتافيزيقا الإسلامية. هل هذا السيناريو ينطبق على بداياتك. مع التأكيد على الفارق بين المجد الأدبي الذي وصلت إليه وبداياتي.
    ـ النهر يتشكل من عدة روافد عادة كذلك الروائي، لوالدي كانت مكتبة كبيرة في البيت لم نبتعد عنها، وكنا مشتركين بصحيفة يجلبها موزع أخرس ذكي كل صباح لبيتنا مع مجلة أسبوعية، واشتركت بمفردي بمجلات صغار مبكرا، سمير، السندباد، الأحداث اللبنانية التي نشرت فيها أول قصة لي، كان بيتنا وزواره مليئا بالنقاش الثقافي والسياسي، زاره أشخاص أفاضل لهم باع في الثقافة، عمي الأديب عبد الله الخطيب من أوائل العراقيين الذين نشروا بالمجلات اللبنانية منتصف القرن الماضي، كتبه اليوم كثيرة، أوقفوه عن الدراسة في دار المعلمين العالية لأسباب سياسية قبل ثورة تموز، آنذاك والآن طغى رأي على آخر حسب قوة التسويق، وظهر الولاء السياسي تلقائيا نحو هذه الجهة أو تلك دون فحص الرأي، كل واحد اعتقد هو الأفضل والنتيجة فوضى حتى اليوم، في هكذا جو مع تعدد مصادر المعرفة لا بد للعقل من أن يفكر، تلقائيا وجدت نفسي منذ الصبا في المعمعة الفكرية، ينشب نقاش في محل خياطة زوج خالتي مقابل مركز الشرطة بين كبار يستدعون من البيت القريب الصغير برهان ليكون حكما على من المصيب في النقاش، ذلك أشعرني بمكانة غير عادية مبكرا، أحمد نفسي لم أصب بغرور يدفع إلى تهلكة، وتلقائيا وجدتني أكتب أول قصصي، ربما لأثبت يمكنني أن أكتب أفضل من عمي، المنافسة دائما طبيعية و وراء تحسين الأداء والجودة والتطور، قرأت أول قصصي شقيقتي الكبرى فريال وبكت منها ومنذ ذلك الحين حتى اليوم تشجعني على متابعة المشوار. أهلي كانوا ومازالوا نقادي الأوائل، رأيهم يدخل ضمن هاجسي عند الكتابة، ذلك حسن جدا فهو يقي من خطر التغريب في الكتابة، من الشطط بعيدا، كذلك سعيت لتجاوز أفضل النماذج التي قرأتها لكتاب أجانب وعرب إلى الأفضل. والدي مبكرا حذرني: الأديب الجيد يهتم بالعلم أيضا، لتبدع في الأدب عليك النجاح بمهنة علمية. هكذا اخترت دراسة الهندسة لأثبت أيضا أنني لم أختر الأدب لتقاعسي عن شؤون الحياة الأخرى. أشعر أن المنطقة كلها ساهمت في تطوري كاتبا، حتى أهل السوق حيث عشنا والجيران والأقارب كلهم دخلوا في قلمي، لا تنس تلك كانت مرحلة أمل عام، دخل صدري وجعلني قويا في مواجهة صعاب الحياة إبداعية وعامة. و كل ذلك من غير قدرة على الانتقاء والاختيار ما كان ليكون أكثر من ضرب على طبل مشقوق، يعني تداخلت الأغصان الاجتماعية والشخصية لتنضج ثمرة ثقافية من شجرة حضارة تتعرض الآن لنخر دود. مراقب قد يعترض بأن الدود ينخر الثمرة نفسها لا الشجرة، فأقول مئات مروا على الثمرة وما قالوا ذلك، ولو واصل الاعتراض بأن مئات من زملائه أيضا يقولون كلامه، أقول قد نقيم انتخابات إذاً لنعرف مَن على صواب، والمنتظر أن تجيِّش الأبواق وتزيِّف الأوراق لتبقى الثمار في سلالك أخيرا.. وغير بعيد.. هناك في الصومال مثلا.. يتلظى الناس من الجوع.
    آب 2011
يعمل...
X