إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

أحمد زياد محبك - غواية الأسيل في جلد رقيق ناعم

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • أحمد زياد محبك - غواية الأسيل في جلد رقيق ناعم



    غواية الأسيل في "جلد رقيق ناعم"


    المصطفى سلام *
    راكمت التجربة القصصية العربية إنتاجات عديدة ومتنوعة: رؤية وتشكيلا وتقنية الشيء الذي يؤكد التمايز والاختلاف بين النصوص ذاتها وبين القصاصين أنفسهم. والمتأمل في هذا اللون الادبي يدرك قدرته على الترميز والإيحاء والتمثيل والتخييل أو الإيهام.. كما يدرك أيضا أن هذا الإنتاج لبس في نفس المقام من الجودة أو الفنية... ورغم بعد القصر أو صغر الحجم إلا أن القصة القصيرة أرحب وأفسح وأعمق1، ومن بين النصوص القصصية التي تأملنا عالمها الافتراضي أو الإمكاني قصة: جلد رقيق ناعم2 "القصة ص08".
    معالم النص البنائية
    1- المتواليات السردية:
    يخضع هذا النص في بنائه إلى متواليات سردية، شكلت في تعالقها دينامية النص، في البداية يصف السارد المرأة الصاعدة إلى الحافلة وعنده رغبه دفينة في أن تجلس جانبه، وتحققت أمنيته، فبدأت محاولات منه بغاية الاقتراب منها، هذه المحاولات يحد منها الحذر والحيطة. ونتيجة المحاولات الأولى أقنعت السارد بأن يقتحم عالم المرأة عن طريق الضغط فينتشي لذلك، غير أنه اكتشف في النهاية أن ما كان يظنه رابطا ووسيطا بينه وبين المرأة " فخذها " كان عازلا وحائلا.
    يكشف هذا البناء عن التسلسل والتتابع كمبدأ انتظم سيرورة الأحداث في القصة، وهذا البناء تقليدي حاضر في السردية العربية عامة، حيث حدث يؤدي إلى حدث، أو وضعية تؤدي إلى أخرى، وهكذا إلى نهاية المسار السردي.
    2- البنية العاملية في النص:
    تنجز البنية العاملية كما صاغتها السيميائيات السردية وظيفة محورية تتمثل في الإمساك بعامل الحكاية، حيث يضبط القارئ بسيرورة الأحداث وشبكة العلاقات بين الشخصيات تكشف عن العلاقات المحورية التالية:
    أ – علاقة الرغبة وتتحقق بين عامل الذات وعامل الموضوع، فالذات السارد ذكر رجل، فحل يرغب في موضوع أي امرأة تتمتع بصفات: الجمال والرشاقة والحسن... هذه القيم الثمينة هي التي حركت الرغبة عند السارد وهي حافز ايروتيكي.
    ب- علاقة المواجهة: تحققت بين العامل المساعد والعامل المعاكس. إن ما يقدم العون والمساعدة للذات لامتلاك موضوع رغبتها وحيازته هو اللمس، في حين كان الجلد جلد الحقيبة هو المعيق لهذا الانجاز. والمفارقة أن اللمس والجلد من نفس الدائرة، بمعنى أن الجلد كمادة تدرك باللمس فيتم تحديد طبيعة ونوعية الجلد : الخشونة أو الليونة... ويتأكد البعد المفارق للناعم / الجلد أنه عازل وموصل في نفس الوقت. مخاتل أو مخادع وصريح، فاضح وساتر...
    ج – علاقة التواصل:
    تتجلى في النموذج أعلاه بين العامل المرسل والمرسل إليه، أي بين الرغبة وهي هنا رغبة ايروتيكية تقتضى الإشباع وبين صاحب الرغبة. وإذا كان الحسي أو اللمسي غامضا ومخاتلا في العلاقة الثانية، فإن الرغبة دال ملتبس3، تظهر وتختفي، تشتعل وتنطفئ، تحتر وتبرد، تحيا وتموت... إلا أن أهم ما يميزها في التجربة الإنسانية الكمون أو القابلية للكبت والكبت غير الموت. الرغبة تحفز عامل الذات فيبدأ في التخطيط والبرمجة للاستجابة، والرغبة لا تحضر أو تحرك إلا إذا تحقق شرطها الأساسي: المرأة / الأنثى، وليس الأمر في أي أنثى بل أنثى جميلة رشيقة حسناء تستطيع أن تبعث برسائلها عبر وسائط: الشم والسمع والنظر... إن الرغبة دفينة، داخلية، غامضة، بمجرد ما يتلقى الرجل/ الذكر رسائل من المرأة، بوعي منها أو دون وعي: عطرها، لباسها، قدها أناقتها، شعرها، جواهرها، كلامها، إيقاع حذائها، ألوانها، حركاتها... تنبعث الرغبة، وتكشف التجربة الإنسانية اختلاف صور الانبعاث وبالتالي اختلاف الرغبة وبالتالي اختلاف صور الاستجابة: التلصص، التحرش، عرض دعوى أو استدعاء...
    لقد كانت محاولات السارد شبهة بمحاولات اللص أو السارق، حيث يسعى إلى امتلاك أو الحصول على ما يرغب بحذر شديد، لقد اتخذ السارد كثيرا من الحذر وكأنه يسرق أو يختلس إنه يختلس ويسرق اللذة من امرأة دون رضاها أو موافقتها، غير أنه خاب في النهاية.
    - الوضع المفارق للفضاء في النص
    يقوم السرد في القصة أو النص السردي عامة على اقتراض فضاء تجرى فيه الوقائع وتتنوع فيه المسارات، وهو فضاء متخيل يوحي بواقعية المغامرة عبر نوع من الانعكاس المجازي الذي يلغي شك القارئ 4، من خلال مؤشرات فضائية ترسم المعالم وتضبط الحدود وتشكل الحافلة فضاء محوريا في القصة، وهو فضاء مغلق ومتحرك. ولا نعثر في النص على وصف دقيق لمحتوياته أو شكله أو حجمه...بل اكتفى السارد بذكر بعضها فقط : المقاعد والركاب والنافذة، كما ركز على المرأة التي جلست إلى جانبه، لم يقصد المكان في القصة لذاته بل لوظيفته، حيث شكل حيزا وخلفية للأحداث، والحافلة مكان رغم انغلاقه فهو منفتح عبر نوافذه، وهي جسر للعبور من مكان إلى آخر، من مدينة إلى أخرى، فضاء للالتقاء والتنوع إذ يلتقي في الحافلة أخلاط من الناس مختلفي الذهنيات والوضعيات الاجتماعية والثقافية والفكرية، متبايني الأعمار: صغار، شباب، شيوخ، رجال، نساء، أصحاء، مرضى...5.
    إن الحافلة بهذا الوضع المفارق، فضاء يتيح ويساعد السارد على الظفر بموضوع رغبته واقتناصه وكأنه مجال للصيد أو القنص... وقد كان قنص السارد سرقة إذ لم يحترم أدبيات القنص بقدر ما استجاب لأدبيات السرقة والاختلاس.
    - الزمن في النص
    يكشف التنظيم الزمني في التخييل القصصي عن الصيرورة أو المسار الذي انتظم الوقائع أو الأحداث، من البداية إلى النهاية، عبر التداخل أو الخطية، وذلك من خلال التقنيات الزمنية المعروفة في هذا المجال. واستناد إلى المؤشرات الزمنية الواردة في القصة، وهي عبارة عن أفعال: تصعد، أتزحزح، تنطلق اقترب، انظر، ادفع، أحس + أضغط... نلاحظ أن زمن القصة هو زمن الحاضر عامة، ينحصر منذ صعود المرأة وجلوسها قرب السارد إلى اكتشاف حقيقة العازل.
    يتوزع زمن القصة إلى:
    - زمن الرغبة الممتد والكامن في لا وعي الشخصية، إنها معطى تابت وقار في لا شعور السارد.
    - زمن الاستجابة للرغبة ويتخذ بداية له: ظهور المرأة الحسناء في عالم السارد، وقد تحقق هذا الزمن من خلال محاولات السارد للظفر بنعومة جلد المرأة " الفخذ " وينتهي هذا الزمن باكتشاف حقيقة الجلد الرقيق الناعم.

    تتكثف الأفعال التي قام بها السارد في اللمس.. لقد حاول الاقتراب دون إثارة، والاقتحام بعد أن لم يصدر عن المرأة أي اعتراض أو قبول، فكان الإحساس بالغبطة من طرف السارد وأخير اكتشاف زيف هذا الإحساس.
    لقد كانت استجابة السارد لرغبته في كليتها هي صيرورة القصة السردية، وهي صيرورة ناتجة عن تنامي كمية أو حجم الإثارة عند السارد، من خلال : النظرة، الجسد،اللباس، الاحتكاك وانتهاء بتقلص هذه الكمية باكتشاف طبيعة الموضوع الملموس.
    من وحشية الرغبة إلى غواية الأسيل
    تحدد الرغبة في بعدها الايروتيكي الجنسي هدفا لها، وهو عبارة عن موضوعات متنوعة تمثل المرأة في القصة واحدا منها. وقد يكون هذا الموضوع ممنوعا أو مسموحا، محرما أو مباحا، يسهل الوصول إليه أو تصعب حيازته في الواقع... لكن بالإمكان الاستجابة لحافزه الرغبة عبر الاستيهام Fantasme أو حلم اليقظة مثلا، وعندما يختار الراغب مرغوبه ويحصل عليه يتحرر من الأوهام ومن أسر وضغط رغبته عليه. لقد اعتقد أو توهم السارد أن المرأة، عبر لمسها والاحتكاك بها ستحرر رغبته ويخفف بالتالي من التوتر لديه، غير أن الموضوع في القصة تقنع بموضوع آخر "الحقيبة "، فكانت حماية للمرأة ووقاية لها.
    لقد احتمت المرأة بحقيبة جلد ناعم، وتشارك المرأة الحقيبة في النعومة والرقة والطراوة، هذه الصفات تساعد على إخراج الرغبة وتجليها وتنفيذها. إن الأسيل المتحقق في الملابس والحقائب والأفرشة والأغطية والعطور والورود والكلام "اللمسات والوشوشات..." يساعد على تحقيق الرغبة في بعدها الجنسي/ الايروتيكي إنه الطريق الملكي للاستجابة وتخفيف مدة التوثر عند صاحب الرغبة وخاصة من انبعثت عنده بحدة.
    يحفل النص بالأسيل 6 كقيمة مهيمنة،حيث الناعم والرقيق والطري والعذب واللين والأملس واللطيف: صفات حاضرة بقوة في لغة السارد أو في حركاته أو موصوفاتها، كما أنها تتكاثف في موضوع رغبته. وتحكم المفارقة الأسيل في النص؛ إذ هو في نظر السارد مساعد على التحقيق والاستجابة لدافع الرغبة، بينما الخشن أو الغليظ أو العنيف يجعل الرغبة تكبت وتنكص. لقد اعتقد السارد أن تنوع الأسيل واستجابته هو السبب في انبعاث الرغبة لديه، غير أنه اكتشف في النهاية مخاتلة الناعم وخداعه، أي أن السادر انخدع لنعومة الحقيبة وهي من مستلزمات أو أيقونات الأنوثة...
    الأسيل تيار جارف يبعث الرغبة من مرقدها، غير أنه عازل في نفس اللحظة. يزداد التوثر وتعظم الرغبة في حالة الإيحاء والإيهام في حين تخف وتفتر الرغبة، بعد الوصل والاستجابة. ورغم هشاشة الأسيل فهو يشبه الصخور الصلبة التي تتكسر عندها أعتى الأمواج، حيث الرغبة الايروتيكية الدفينة تشبه الأمواج في عتوها وشدة اندفاعها، لها قوة تدميرية، إذ من الممكن أن تدمر صاحبها خاصة في حالات الفقدان أو غياب موضوعها أو تمنعه، مما يعرض صاحب الرغبة إلى ارتكاب بعض الحماقات أو التهور أو الانحرافات " ظاهرة الاغتصاب أو نكاح المحرمات مثلا... ".
    *****

    جلد رقيق ناعم
    أحمد زياد محبك
    تصعد إلى الحافلة، بقميص زهري مشدود على الصدر، وشعر أشقر مرسل على الكتفين، أتزحزح قليلا في مقعدي نحو النافذة، أدير الطرف عنها، اصطنع عدم الاهتمام، كأني لا أراها، وأنا أتمنى أن تقعد إلى جواري، وتحط بجانبي مثل حمامة وتنطلق الحافلة، أتمنى لو تنعطف بسرعة أو لو تمر بحفرة ... الخديوي إسماعيل عندما شق الطريق إلى الهرم، أوصى المهندس أن يجعل فيه منعطفا حاد الميل، كي تميل عليه ملكة انكلترة لدى زيارتها الأهرامات، ولم لا تميل عليه هذه الحسناء .
    بهدوء أتزحزح نحو اليمين، اقترب بلطف شديد منها، وأنا أنظر إلى النافذة عن يساري، وتنعطف الحافلة، اقترب بهدوء أكثر، كأنني نملة تزحف على صخرة ملساء، أريد لكل شيء أن يبدو عفويا وطبيعيا، ويصل إلينا المفتش، انتظر حتى تعرض هي عليه تذكرتها أولا وأميل نحوها قليلا، وأمد يدي بتذكرتي، ولكن هذا كله لا ينفع، لابد إذن من الاقتحام، أدفع برجلي اليمنى نحوها، ولكن بهدوء، أمس جلدا ناعما رقيقا، أحس بالغبطة، أتزحزح قليلا نحوها، فخذي يمس الجلد الناعم، رقيق هو جدا وأملس، اضغط بفخذي، ينضغط الجلد، أحس بطراوة، أحس بانضغاط عذب، كأني أضغط على مفاتيح بيانو، وتنساب الموسيقى، وتنعطف الحافلة، وأضغط أكثر فأكثر، والجلد الناعم الرقيق العذب يستجيب، فينضغط ويرق ويلين، لا تستاء ولا تتذمر، تلتفت إلى الطرف الآخر، لاشك أنها تصطنع هذا الالتفات حتى لا يحس أحد في الحافلة بما يجري، كما التفت أنا إلى النافذة وأبعد عنها كتفي، لا أريد أن يلتصق بكتفها، حتى لا يشعر بنا أحد، واستمر في الضغط، وأنا هانئ بالليل والنعومة والرقة، يتوهج دمي، ترتفع حرارتي، تشتعل عروقي، لكن لا أكاد أحس بدفء جسدها، هل رجلها مشلولة؟ ألتفت بهدوء ناعم، وبطرف عيني أنظر نظرة خاطفة، بيني وبينها حقيبة يد جلدية.

    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــ
    * جلد رقيق ناعم، مجلة مجرة .. عدد 13 . خريف 2008.
    • أستاذ مبرز في اللغة العربية، أفورار – أزيلال – المغرب
    • 1- يمكن العودة إلى المناقشة الرصينة للدكتور محمد أمنصور لقضية " القصر " في القصة القصيرة : شهوة القصص. دار الحرف. ط 1. 2007.ص : 14.
    • 2- أحمد زياد محبك : جلد رقيق ناعم،مجلة مجرة، خريف 2008، عدد 13. ص ص 231 -232.
    • 3- أنظر : بول ريكور : في التفسير : محاولة في فرويد، ترجمة، وجيه أسعد. ط 1. 2003. خاصة الجزء الأول.
    • 4- Henri Mittérand : le discours du roman. P.U.F. Paris. 1980. P : 192.
    • 5- Marc Augé : Nom lieux … seuil. 1992.
    • حيث يحلل اللاأمكنة وهو مفهوم يحيل على الفضاءات المتبادلة بين الناس والجماعات البشرية، حيث الإنسان يبقى مجهولا : مثل : وسائل النقل، الفنادق + المطارات + الفضاءات التجارية + المخيمات...
    • 6 - أنظر: لسان العرب وخاصة المواد: "رقق + طرو + عذب + لطف + لين + ملس + نعم" دار صادر ط 6. 2008.
يعمل...
X