إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

كتاب (السفر إلى التخييل ) ماريو بارغاس إيّوسا Mario Vargas Ilosa

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • كتاب (السفر إلى التخييل ) ماريو بارغاس إيّوسا Mario Vargas Ilosa

    السفر إلى التخييل ماريو بارغاس إيّوسا
    Mario Vargas Ilosa
    موقع التواصل - ت. علي ابراهيم أشقر



    لِنرْجع إلى عالم قديم لم يصل إليه العلم, والعلم الذي يزعم أنّه وصل لا يقنعنا, لأنّ أطروحاته وتخميناته تبدو لنا احتمالية وضبابيّة, كما هي الفانتازيا والتخييل.
    وسوف يُخيّل إلينا أن الزمن لم يوجد فيه بعدُ. وكلّ الإشارات التي تحدّد مساره لمّا تظهرْ, والذين يعيشون غائصين فيه يفتقرون إلى الشعور بجريانه, وبالحاضر وبالمستقبل وحتى بالموت, إلى حدّ يجدون أنفسهم أسرى حاضر مستمرّ يمنعهم من أن يروا الـ (ما قبلُ) والـ (ما بعدْ), إذ يستغرقهم الحاضر لرغبتهم في العيش في هذا المدى الشاسع الذي يُحيط بهم إلى درجة يستهلك وجودَهم (الآن) فقط, واللحظةُ التي يكونون فيها ذاتها. والإنسان لم يعدْ فيه حيواناً, لكن, قد يبدو مبالغةً تسميتُه (بشراً). إنه يقف منتصباً على طرفيه الخلفيّين, وبدأ يصدر أصواتاً وزمجرات وصفيراً وعواءً ترافقها كلّها إيماءاتٌ وتكشيرات كانت القواعد الأولى للتواصل مع الزمرة التي يشكّل قسماً منها, تواصل يبرز بفضل هذه الغريزة الحيوانية التي علّمته في ذلك الوقت أهمّ ما يحتاج إلى معرفته: علّمته ما هو ضروريّ كيما يستطيع البقاء حيّاً إزاء آلاف التهديدات والمخاطر التي تحيق به في هذا العالم حيث كلّ شيء يبدو متآمراً من أجل إبادته: كالضواري والصاعقة والماء والجفاف, والأفعى والحشرات والليل والجوع والمرض وذوات قدمين أخرى من أمثاله.
    وقد جعلته غريزة حبّ البقاء يتوحّد مع الزمرة التي يستطيع بها أن يدافع عن نفسه خيراً من دفاعه عنها لو سُلّم إلى مصيره الخاصّ. لكنّ هذه الزمرة ليست مجتمعاً, بل بالحري, هي أقرب إلى قطيع البقر أو سرب الكلاب وطرد النحل أو خصلة من الخيل مما سنسمّيه في نهاية القرون جماعة بشرية.
    وقد كان رجال ما قَبل التاريخ القلائل هؤلاء, في حركة دائمة, وعراة أو متدثّرين بالجلود إنْ قضتْ قساوة الطقس بذلك, منكبّين على الصيد واللقط اللذين كانا يحملانهم على الانتقال باستمرار بحثاً عن أماكن غيرِ مُرتادة, ويمكن لهم أن يجدوا فيها القوت الذي ينتزعونه من العالم الطَبيعي من غير أن يُحلّوا محلّهم, على غرار ما تفعله الحيوانات, قسماً كبيراً من الطائفة التي مازالوا ينتمون إليها, والتي أخذوا بالانفصال عنها تقريباً.
    والوجود معاً ليس تعايشاً بعدُ. وهذه المفردة الأخيرة تفترض نظاماً من التواصل مُحضَّراً, وهدفاً جماعياً مُتقاسَماً وقائماً على قواسم مشتركة كاللغة والمعتقدات والطقوس والزينة والعادات. ولا شيء من ذلك موجود بعدُ ما عدا هذه الصرخةَ والنبض قبل المنطقي, وهذه الرعشة في الدم التي حملت أشباه الحيوانات أولئك الذين هم من غير ذيل ويقبضون على الحجارة أو العصيّ بسبب افتقارهم إلى المخالب والأنياب والسمّ والقرون ووسائل الدفاع والهجوم التي تتمتّع بها الكائنات الحيّة الأخرى, على السير والصيد والنوم معاً ليحموا بذلك أنفسهم على شكل أفضل وليشعروا بلا ريب, بخوف أقلّ.
    إن التجربة اليومية جعلت من شعور البدائي بالخوف, استثناء من كل المشاعِر والرغبات والغرائز والأهواء التي كانت ما تزال راقدة في كيانه, أوّلَ ما يتطوّر عند استيقاظه على الوجود.
    إنّه الذعر من المجهول, وهو كل ما يحيط به في الواقع. جهله بأسباب الظلام والنور, أو إن كانت تلك النجومُ التي تطفو فوقه في قبّة الفلك بهائم مجنّحة وقاتلة ستنقضّ عليه فجأة بشكل عاصف كيما تلتهمه. فأيّة أخطار يُخفيها فمُ ذلك الكهفِ الأسود حيث يريد أن يحتمي هرباً من العاصف المطريّ, أو ماذا تُخفي مياه تلك البحيرة العميقة التي انثنى ليشرب منها, أو ماذا تُخفي الغابة التي تغلغل فيها طلباً للمأوى والغذاء؟ فالعالم ملآن بالمفاجآت. وكل المفاجآت في نظره قاتلة له: سواء أكانت عضّة الأفعى المجلجلة التي اقتربت من قدميه زاحفة بين الأعشاب بشكل خفيّ, أو الصاعقة التي تضيء العاصفة وتحرق الأشجار, أو الأرض التي تشرع بغتة بالاهتزاز فتنفلق وتتصدّع إلى شقوق تئطّ وتريد أن تبتلعه. وقد كان انعدامُ الثقة والأمان, والخوفُ من كلّ شيء, حالته الطبيعيّةَ والمزمنة, أمرُّ ما كان يُريحه منه لمدد قصيرة للغاية, غيرُ هذه الغرائز التي يُشبعها حينما ينام أو يجامع أو يبتلع أو يتغوّط. أوَ كان يحلم أم لا؟ إن كان يحلم فإنّ أحلامه لا بدّ لها من أن تكون مبتذلة أو وحشية كما هي حياته ذاتها, وصورةً من سعيه الدائم ليؤمنّ الغذاء أو ليقتل قبل أن يُقتل.
    يقول علماء الإناسة إن الزينة كانت بعد الغداء, الحاجة الأكثر إلحاحاً عند البدائي. لأنّ الزينة في هذه الحالة من التطوّر البشري, كانت طريقة أخرى في الدفاع عن النفس, كانت كلمة سرّ وتعزيمة ورُقية وسحراً لطرد العدوّ المرئيّ وغير المرئيّ وإبطال قواه, كيما يشعر في نفسه أنّه جزء من القبيلة ليكسب شجاعة ويتحصّن من الخوف الشديد الذي يرافقه كظلّه ليلَ نهار.
    وكان ظهور اللغة الخطوةَ الحاسمة في خروج الكائن الإنساني من حيوانيّته وكان انطلاق ولادته الحقيقية, وإن تكنْ كلمة «ظهور» زائفة, لأنها تُرجع عمليّةً دامت قروناً, إلى نوعٍ من فعل مفاجئ أو إلى لحظات عجائبية. لكن, لمّا حلّ محلّ الحركات والزمجرات والإشارات عند هذه التجمّعات القبلية البدائيّة, أصواتٌ مفهومة ومفردات تعبّر عن صور هي بدورها تعكس أشياءَ وحالاتٍ روحيةً وانفعالات ومشاعر, فقد عبرنا بلا ريب, تخوماً واجتزنا هوّة بين الكائن البشري والحيوان, ما كان بالإمكان اجتيازها. وقد أخذ العقل يحل محلّ الغريزة على أنّه الأداة الرئيسة لفهم العالم ومعرفته, ومعرفة الأشياء الأخرى. لقد زوّد الكائنَ البشري بقدرة منحته سيطرة لا يمكن تصوّرها على الموجودات. فاللغة تجريد, وهي عمليّة ذهنيّة معقّدة تصف ما هو موجود وتحدّده مُطلقةً عليه أسماءً تتفكّك بدورها إلى أصوات ـ أحرف ومقاطع ومفردات ـ, إذا التقطها السامع تُشكّل في وعيه مباشرة تلك الصورةَ التي أوحت بها موسيقى الكلمات. وباللغة صار الإنسان كائناً بشرياً, وأخذت الزمرة البدائية تصبح مجتمعاً, أي جماعة من الناس مفكرة لكونها متكلّمة.
    نحن على أبواب الحضارة, لكنّنا لمّا ندخلْها. فالكائنات البشرية تتكلّم وتتواصل, وهذه الشراكة الخفيّة التي تُقيمها اللغة فيما بينهم, تضاعف من قوّتهم, أي, من قدرتهم على الدفاع عن أنفسهم وإلحاق الأذى. لكن, يصعب عليّ حتى الآن الكلام عن حضارة منطلقة إزاء مشهد هؤلاء الرجالِ والنساء شبه العراة والموشومين بصور على أجسادهم, والمملوئين بالتمائم, والذين يزرعون الغابة بالأفخاخ ويسمّمون سهامهم ليبيدوا كثيراً من القبائل الأخرى, ويضحّون بالرجال والنساء منهم إلى آلهتهم البربرية أو يأكلونهم كيما يستولوا على عقولهم وفنونهم السحرية وقوّتهم.
    وإن فكرة ظهور الحضارة تتطابق في نظري مع الاحتفال الذي يُقام في الكهف أو في فسحة من الغابة حيث نرى رجال القبيلة ونساءها مُقعين أو جالسين متحلّقين حول نار تُخيف الحشرات أو الأرواحَ الشريرة, متنبّهين مشدوهين ذاهلين, في حالة ليس من المبالغة أن نسمّيها حالة وجْد ديني, وحالمين أيقاظاً بسحر الكلمات التي يسمعونها, والتي تخرج من فم رجل أو امرأة, قد يكون عدلاً أن نسمّيه, وإن تكنْ تسمية غير كافية, ساحراً أو (شامانَ), أو متطبّباً. هو وإن يكن أيضاً شيئاً من ذلك كلِّه, فإنه لا أكثر ولا أقلّ من فرد يحلم أيضاً وينقل أحلامه أيضاً إلى الآخرين, كيما يحلموا على إيقاع واحد معه أو معها: إنه قاصّ القصص.
    وإذْ يترك من يكونون هناك لخيالهم العنان مسحورين بما يسمعون, ويخرجون من حيواتهم الهشّة (ليعيشوا حياة أخرى) ـ حياة مكذوبة ـ يبنونها بتواطؤ صامت مع الرجل والمرأة, التي أو الذي يتكلّم بصوت عالٍ وسط المسرح, فإنّهم يقومون من غير أن يتنبّهوا لذلك, بالشغل الإنساني الأخصّ, الشغل الذي يحدّد بأكثر الطرق أصالة وتفرّداً, هذه الطبيعةَ البشرية التي ما تزال في طور التشكّل حينئذ: وهي الخروج من الذات ومن الحياة كما هي مُعطاة, بوساطة حركة فانتازيّة, ليعيشوا دقائق معدودات أو ساعات, معادلاً للواقع الواقعي الذي لم يكن من اختيارنا, بل فُرض علينا بشكل مشؤوم بحكم الولادة والظروف, حياة نشعر بها عاجلاً أو آجلاً أنها عبوديّة وسجن نرغب في أن نهرب منه. ومن يكونوا هناك مستمعين إلى (الحكواتي) وتهدهدهم الصور التي تسكبها عليهم كلماته, كانوا أعدّوا من قبلُ في وحدتهم وخلوتهم الحميمة في لحظات أو هبّات, هذه التعزيماتِ وإنكارَ الحياة الواقعية متخيّلين حالمين. لكنّ تحويل ذلك إلى نشاط جماعي اجتماعي ومؤسّساتي, هو خطوة فارقة في عمليّة أنسنة الإنسان البدائي, وفي تفعيل أو انطلاقة حياته الروحية, وولادة الثقافة وطريق الحضارة الطويل.
    وإن إبداع قصص وقصِّها على آخرين ببلاغة كبيرة وكأنّما الغاية منها أن يجعلها هؤلاء قصصهم ويضمّوها إلى ذاكرتهم, بالتالي إلى حيواتهم, هو قبل كلّ شيء طريقة حصيفة, وفي الظاهر بريئة, في التمرّد على الواقع الواقعي. ولأي شيء نعارضه ونضيف إليه هذا الواقعَ التخييلي, واقع الأكذوبة, إذا كان هذا الواقع يملأ جوانحنا؟ إنّ الأمر يتعلّق بلا ريب بالحفاظ على الشيء الوحيد الموجود في نظر أولئك الأجداد ذوي الحيوات التي صارت شبه حيوانية بسبب الروتين الكامن في البحث عن القوت اليومي, وبسبب الصراع من أجل البقاء. لكنّ تصوّر حياة أخرى وتقاسمَ هذا الحلم مع آخرين لم يكن في أساسه تسلية بريئة, لأنّها تُلهب الخيال وتُطلق الرغبات بطريقة تجعل الهوّة تكبر بين ما نحن عليه وما نرغب في أن نكون, بين ما هو مُعطى لنا وما نرغب فيه ونطمح إليه, وهو أكثر من ذلك كثيراً دائماً. ومن هذا الخلل ومن هذه الهوّة القائمة بين حقيقة حيواتنا التي نعيشها, وتلك التي نستطيع تحويلها وعيشها بشكل مكذوب, تنبع هذه العلامة الجوهريةُ لِمَا هو إنساني, والتي هي عدم الامتثال وعدم الرضا والتمرّد والمجازفةُ في رفض الحياة كما أعُطيت لنا, وهي الإرادة في النضال من أجل تحويلها, ولكي تقترب أكثر ما تقترب من تلك التي نختارها طبقاً لأخيلتنا الفانتازية.
    لمّا ظهر قصاصو القصص في القبيلة البشرية, وهم يظهرون دائماً ودون استثناء في تلك الجماعات البدائية التي تتطوّر إلى ثقافات وحضارات, بدأت تلك القبيلةُ بشكل لا محيد عنه في التطوّر وتجاوز العقبات وإثراء معارفها وتقنياتها مدفوعة من غير أن تدري بهؤلاء السحرة الفعّالين الذين يملؤون أماسيَهم أو لياليهم الفارغة بقصص مبتكرة.
    كيف كان قصّاصو القصص أولئك الأوائل المجهولون والبعيدون والقديمون تقريباً قِدَمَ اللغات التي ساعدتهم على صياغتها, وسمحت لهم بالوجود؟ وأيّ قصص كان يقصّها زملاء ما قبل التاريخ وأجنّة الروائيين في المستقبل, وشاخصتهم الهادية؟ وماذا كانت تعني لحيوات أولئك الرجال والنساء في فجر التاريخ, تلك القصصُ الأولى والحكايات التي كانت تخلق إلى جانب الحياة الواقعية وداخلها, حياةً أخرى موازية وغير منظورة, حياةً مكذوبة مشكّلة من الكلمات, لكنها ثرّة ومتنوّعة وكثيفة, وإن يكن من الصعب دائماً قياس ثرائها. حياة مُشتبِكة وذائبة في حياة أخرى, حياةِ الحقيقة التي تصيبها هذه الحياة الموازية(1)بشكل ناعم وخفيّ بالعدوى, وتلوّثها وتصحّحها وتوجّهها وتلوّنها وتكملها وتعارضها؟
    منذ شهر آب عام 1958 طرحتُ على نفسي كثيراً من هذه الأسئلة وتصوّرتُ الأجوبة الممكنة عنها, بفضل تجربة عشتها من غير أن أشكّ حينئذ في الأهمية التي ستكون لها في حياتي, حتّى إني كتبت رواية أخذت مني عامين كاملين, وهي «الحكواتي», وكانت تحقيقاً خياليّاً لعصور فجر الحضارة لمّا ظهرت مع قصّاصي القصص بذورُ ما سوف نسمّيه بمرّ السنين وظهور الكتابة, أدباً.
    حدث ذلك في كوخ واسع عند يارينا كوتشا ـ بحيرة يارينا ـ في أنحاء بوكايّبا في الأمازون البيرويّة عام 1958. أنا كنت أحد أفراد بعثة صغيرة كانت نظّمتها جامعة سان ماركوس ومعهد بيرانو الألسني من أجل د. خوان كوماس العالم المكسيكي ذي الأصل الإسباني, الذي كان يريد زيارة قبائل مارنيون الأعلى. وكانت البعثة ستنطلق في اليوم التالي من يارينا كوتشا التي كانت مركز عمليّات معهد بيرانو الألسني, حيث كان معنا هنا تلك الليلة مؤسّسهُ غيّرمو تاونِِسنْد, صديقُ لاثرو كارديناس وكاتب سيرته. حدث الاجتماع بعد عشاء باكر. أتذكّر أن ألسُنيين عدّة ـ ألسنيين ومبشّرين في آن واحد, لأن المعهد إذْ كان يعلّم لغة السكان الأصلاء ويُعدّ نحواً وقاموس مفردات لها, كان يهدف في آن واحد إلى ترجمة الكتاب المقدّس إلى هذه اللغات ـ, قدّموا لنا عروضاً حول جماعات الأغوارونا, والهوامبيسا والتشابرا التي سنزورها في رحلتنا. لكنّ ذلك كلّه كان يختلط في ذاكرتي ويمّحي منها تلك الليلة, لأنّ الباعث على الإثارة ولا يمكن له أن يُنسى في تلك الجلسة حدث في النهاية لمّا تناول الكلام الزوجان واين وبيتّي اُسْنيل. W.B. Snell. كان هذان الزوجان الألسُنيّان ما يزالان شابّين, وكان قضيا سنوات عدّة ـ هو منذ 1951 وهي منذ 1952 ـ مع جماعة صغيرة من الماتشيغوا في منطقة تحدّها أنهار الأوروبامبا والبوكرْتامبو وميتشاغوا, جماعة كانت عاشت حتّى وصولهما من غير أيّ احتكاك «بالحضارة».
    يشرح لنا بيتّي وواين اسنيل الإستراتيجية الحذرة التي طوّراها ليتغلّبا على عدم ثقة الماتشيغويّين: فقد تجرّدا من ثيابهما ليقتربا من أكواخهم تاركيْن لهم هدايا, مثلاً؛ ثم انسحبا كيما يعلموا أنّهما جاءا بنيّة السلام. إلى أن قبلوا بهما وآووهما. وشرحا أيضاً صعوبات العيش في المسكن الجديد في الأوقات الأولى, وحماستهما لمّا أخذا يتعلّمان شيئاً فشيئاً عادات مضيفيهم وطقوسهم متآلفَيْن مع اللغة المَتْشيغوية.
    لكنّ ما حفظته ذاكرتي من تلك الليلة على شكل أكثر حيّويّة وتشويقاً, كان ذكرى لن تمّحي أبداً, بل تستردّ كلّما مرّ عليها الزمن, بريقَها المُعدي. وكانت تلك الذكرى وليدة ما حكاه لنا في لحظة معيّنة واين اسْنيل. كان وحيداً مع الماتشيغويّين, لأنّ بيتي كانت خرجت في سفر, ربّما إلى المركز في يارينا كوتشا. فلاحظ اضطراباً مفاجئاً غير معهود يسري وسْط الجماعة. فماذا حدث؟ لِمَ كانوا جميعاً رجالاً ونساءً، صغاراً وشيوخاً مُثارين؟ فبيّنوا له أنَّ (الحكواتي) سيصل عمّا قريب (نطق واين اُسْنيل كلمة ماتشيغويّة, وقال إن المعادل لها يمكن أن يكون «الحكواتي»). فدعاه الماتشيغويّون إلى الاستماع إليه معهم. هذه اللحظة من قصّته ما سوف يحرمني من النوم ليالي كثيرة والتي سأسترجعها مئات المرّات كيما أسمعها مرّة أخرى وأتخيّلها, والتي سأخضِعها لفحص دقيق مَرَضي, والتي سأتصور أثناءها في مثل ردّ الطرف فقط, الشهور والسنين القادمات بألف طريقة مختلفة. ولم يكن واين يتذكّر جيّداً بالتمام ـ نعم بالتمام ـ تلك الليلةَ التي قضاها جالساً على الأرض في فسحة في الغابة ومحاطاً بجماعة الماتشغويّين كلّهم, مستمعاً إلى الحكواتي. وما يتذكّره بوجه خاصّ, كان الخشوعَ واللهفة التي كانوا يستمعون بها إليه, والشراهةَ التي كانوا يتشرّبون بها كلماته, وفرحَهم الكبير بما كان يقصّه وضحكهم له, وانفعالهم به وحزنهم. لكنْ, أيّ شيء كان يقصّه عليهم (الحكواتي)؟ كان واين يعرف اللغة, لكنّه ما كان يفهم كلّ ما كان يقول. لكنه كان كافياً كيما يدرك أن ذلك المونولوغ كان خبيصاً حقيقياً من أشياء متنافرة: من حكايات عن سفره في الغابة, وعن العائلات والقرى التي كان يزورها, إلى نمائم وأخبار عن أولئك الماتشيغويّين الآخرين المبعثرين في أرجاء الغابات الأمازونيّة الشاسعة, وعن طقوس وأساطير وإشاعات, هي يقيناً, من اختراعه أو من اختراع آخرين, كل ذلك مختلط ومتشابك وممتزج ببعضه, وهو أمر ما كان يبدو أنه يُزعج في أيّ حال مستمعيه الذين كانوا يُحيون تلك الليلة في حالة من التوهّج الروحي على خلاف واين اسنيل الذي كانت تؤلمه عظامه كلّها وعضلاته بسبب جلسته غير المريحة؛ لكنّه ما كان يجرؤ على الانصراف كيلا يجرح حساسيّة سامعيه الآخرين. ولمّا رحل الحكواتي ظلّ أفراد الجماعة كلّها يتذّكرون مجيئه طيلة أيام كثيرة مستذكرين ومكرّرين ما كان قصّه عليهم.
    وعلى غرار ما يحدث لي مع كلّ التجارب التي أعيشها تقريباً, وتتحوّل من ثمّ إلى مادّة أوّلية لرواياتي وأعمالي المسرحية, فإن ما سمعته تلك الليلة في آب 1958 في بيت على ضفاف يارينا كوتشا من الزوجين اسْنيل ظلّ أولاً مخزّناً بشكل ثابت في ذاكرتي وكنت أتذكّره في الأشهر والسنين التاليات في مدريد لمّا كنت أكتب روايتي الأولى, وفي باريس لمّا كنت أكتب روايتي الثانية, وفي ليما أو في لندن أو في الولايات المتحدة لمّا كنت أكتب روايتي الثالثة والرابعة, أو في برشلونة أو في البرازيل وليما مرّة أخرى, بينما كنت أتابع كتابة قصص أخرى. وتمرّ الأعوام وتلك الذكرى تعود مرّة بعد أخرى بقوّة وإلحاح أكبر دائماً, مُرافقةً بنيّتي في أن أكتب ذات مرّة رواية انطلاقاً من تلك الصور التي تركها في ذاكرتي الزوجان اسنيل في سفري الأول إلى الأمازون.
    لا أدري لِمَ تتحوّل في أحيان كثيرة بعض الأشياء التي عشتها إلى حوافز قوية جدّاً ـ هي مطالب في المستقبل(1)ـ كيما أبتكر انطلاقاً منها قصصاً تخيّلية. لكن, في حالة الحكواتي الماتشيغويّ, أعتقد أنّني أعرف لِمَ أثّرتْ فيّ كثيراً صورةُ هذه الجماعة الصغيرة من الرجال والنساء الخارجين حديثاً, أو هم في مرحلة الخروج من مرحلة ما قبل التاريخ, وقد أثارتهم وسحرتهم طيلة ليلة كاملة قصصُ هذا الحكواتي المتجوّل. لأنّ ذلك الرجل الذي كان يجوب الغابات ذاهباً آيباً وسْط العائلات والقرى الماتشيغويّة, كان الحيَّ الباقي من عالم مُغرق في القِدم, وكان سفيرَ الأجداد البعيدين, وبرهاناً ملموساً على أنّ هناك في هذا القاع المشوّش البعيد من التاريخ البشري, أو حتّى قبل بداية التاريخ كائناتٍ بشريةً كانوا يمارسون ما أزعم أني أقوم به اليوم في حياتي, أي تكريسها لإبداع قصص وقصّها, ولأنّ ذلك الحكواتي وصِلتَه الحميمة بأبناء جماعته كان, فوق ذلك, البرهانَ الملموس في بدايات المصير البشري, على الوظيفة المهمّة للغاية التي كان يؤدّيها التخييل, هذه الحياة المكذوبة التي حلم بها واخترعها قصّاصو قصص في جماعة جدّ بدائيّة ومعزولة عمّا نسمّيه الحضارة. لا شكّ في أن ذلك الأمرَ كان أبعد من أن يكون مجردّ تسلية, وإن يكن الاستماع إلى الحكواتي في نظر الماتشيغويّين تسلية عليا ومشهداً خلب عقولهم وجعلهم يعيشون أثناء استماعهم إليه, حياةً أكثر ثراء وتنوّعاً من حيواتهم اليوميّة المبتذلة. وبفضل نظام هؤلاء الحكواتيّين, وهو نظام يقوم على القرابة وينقل ويجلب أخباراً تعنيهم جميعاً, اكتسب الماتشيغويون المتناثرون فوق منطقة واسعة في جماعات صغيرة تكاد تكون على غير احتكاك فيما بينها, وعياً بأنّهم ينتمون إلى ثقافة واحدة وشعب واحد ويحفظون حيّاً بفضل تلك الحكايات ماضيَاً وتاريخاً وميثولوجيا وتراثاً لأن من الواضح جداً أن خطاب الحكواتي الماتشيغوي, مكوّنٌ بشهادة واين اسنيل, من ذلك كلّه, وكأنّه معطف مصنوع من قطع شتّى.
    في عام 1985 بدأتُ العملَ منهجيّاً في رواية (الحكواتي). وكنت قرأت في تلك الأثناء وسجّلت المقالات والأعمالَ الإتنولوجية والفولكلورية والاجتماعية التي استطعت أن أستعين بها على ما يتعلّق بالماتشيغويّين. ولم أتفرّغ لذلك العمل إلا في ذلك الحين؛ فكنت أقضي ساعات طويلة في المكتبة طالباً نصيحة أنتروبولوجيّين ومبشّرين دومنيكانيّين كان لهم وما يزال لهم بعثات تبشيرية في الأراضي الماتشيغوية. وقمت, فوق ذلك, لمّا أكملت النسخة الأولى من روايتي, برحلة إلى الأمازون مع بيْثِنْتِه ولورينثو سيسلو وعامل الإناسة لويس رومان الذين كانوا يقومون منذ بعض الوقت بعمل اجتماعي وبحث عن جماعات ماتشيغويّة في الأوروباندا الأعلى والأوسط وروافده. لقد زرت بعض هذه الجماعات واستطعت أن أتحدّث إلى السكان الأصليّين والمولّدين والمبشّرين في المنطقة. وكنت زرت من قبلُ في عام 1981 بمعونة المعهد الألسني في بيرانو أولى القرى الماتشيغويّة التي دخلت التاريخ: لوث نويبا (أو النور الجديد), ونويبوموندو (أو العالم الجديد) حيث سُررت بلقاء الزوجين اسنيل اللذين لم أرهما مرّة أخرى منذ تلك الليلة من عام 1958. وما زلت أتذكّر الدهشة على وجهيهما كليهما, لمّا قلت لهما في نويبالوث, وأنا أتناول مغليّ عشبة لويسا والبرغش يلتهم عقبيّ, إن ما سمعته من حكايتهما منذ ثلاثة وعشرين عاماً خلت, عن الماتشيغويين وبالتحديد عن الحكواتي, قد رافقني هذه المدّة كلّها, وإنّي عزمت على أن أكتب رواية مُستلهمة من هذا الشخص بطلِ قصّتهما. لم يستطع الزوجان اسْنيل أن يُصدّقا ما قلته لهما. فقد صار لديهما طبعة من الكتاب المقدّس باللغة الماتشيغويّة, أطلعاني عليها. وكلاهما نشر أعمالاً لغوية ونحوية ومعجم مفردات حول هذه الجماعة التي كانا يريان الآن في عام 1981 أفرادها سعداء متجمّعين في بلدات, ويقومون بأنشطة زراعيّة, وينتخبون قادة (كاثيكِس Caciques), وهو شيء لم يكن موجوداً عندهم قطّ.
    كان هذا البحث كلّه مشوّقاً. وإنّي أتذكّر العامين الأخيرين اللذين كرّستهما (للحكواتي) بحنين. لكنّ المفاجأة الكبرى خلال هذا البحث كانت قِلّة ما وجدته في كثير ممّا قرأته حول «الحكواتيّين», أو قصّاصي القصص الماتشيغويين. ولم أستطع فهم ذلك. لقد وردتْ عرضاً بعضُ الإشارات إليهم لدى بعض المؤرّخين العابرين في القرن 19 كالفرنسي شارل فيينِه, وفي تقارير المبشّرين الدومينيكانيّين أو مذكّراتهم. ـ لكن, لم أجد شيئاً تقريباً لدى الأنثربولوجيّين الذين قاموا بأعمال حول الماتشيغويّين المعاصرين. ولقد استنتج بعض النّقاد الذين درسوا روايتي مثل بينيديك آندرسون الذي خصّها بدراسة نفّاذة, أنّ مسألة (الحكواتيّين) من اختراعي ما دام علماء الاجتماع لم يوثّقوها. وأيّ شيء أريده أكثر من اختراعي هذه الشخصيَّة العظيمة!. لئن خانتني الذاكرة أحياناً مرّات عدّة سيّئة وجعلتني أخلط ذكريات عشتها بذكريات ابتدعتها في معرض تصوّري رواية, فإني في هذه الحالة, أضع يدي في النار وأقسم على إنّ قصة (الحكواتي) تلك سمعتها من واين اُسْنيل كما حفظتها ذاكرتي حتى اليوم وبعد نصف قرن.
    لمّا لقيت الزوجين مرّة أخرى عام 1981 في قرية نويبالوث بصعوبة تذكّر الزوج الاجتماع الليلي في يارينا كوتشا عام 1958 (وكان تذكّره لي أقلّ). ولمّا ذكرتُ له (الحكواتي) تبادل هو وزوجته بيتي و(الكاثيكِه) الشابّ أو رئيس الجماعة, جملاً بالماتشيغويّة, وتشاوروا, وأخيراً, نطقوا بالاتفاق فيما بينهم, هذا الاسمَ الذي طبعتُه في تقديمي لرواية (الحكواتي El Hablador): كِنْكيتساتاتا ـ سيريرا. قالوا, نعم, يمكن ترجمته إلى المهذار أو الحكواتي. لكن, لم يستطع أحد منهم ثلاثتهم أن يمدّني بمعطيات أكثر دقّة حول «الحكواتيّين». وكنت أحصل دائماً من الماتشغويّين الذين تحدّثت إليهم مباشرة أو عبر مترجمين في الأورومبابا الأعلى والأوسط, على أجوبة متهرّبة كلّما سألتهم عن الحكواتيّين. إذاً, أكنتُ أحلم بذلك حلماً؟ أنا على ثقة من أن ذلك لم يكن حلماً. وأنا على ثقة أيضاً من أنّ الحكواتيّين ليسوا مخلوقات اخترعها خيالي. هم موجودون. وفي هذا الوقت عينه, يطوف البعض منهم في الغابات, أو يتكلّم في فسحات الغابات أو قرى القبيلة أمام حلقة من البشر السذّج والمدهوشين.
    ولِمَ يُخفونهم؟ ولِمَ لم يتكلّموا عنهم مرة أخرى إلى الغرباء؟ ولِمَ تحفّظ الإخباريّون الماتشيغويّون الذين قدّموا مادة ضخمة للإتنولوجيّين والأنثروبولوجيّين حول طقوسهم وأساطيرهم, ومعتقداتهم وعاداتهم وماضيهم, تحفّظوا على مؤسسة مثّلت دون أدنى ريب وما زالت تمثّل شيئاً مركزيّاً في حياة الجماعة؟ ربّما للسبب الذي بيّنتُه في روايتي: الحكواتي, لأفسّر هذا الصمت العنيد حوله: ذلك من أجل الإبقاء عليه في دائرة السرّ الخاصّ بأشياء القبيلة المقدّسة, يحميه ميثاق ضمني أو تابو, واعتباره شيئاً ما ينتمي إلى أكثر الأشياء حميميّة وخصوصية في الثقافة الماتشيغوية, شيئاً ما شعر معه الماتشيغويّون الذين جُرّدوا في مجرى تاريخهم من أشياء كثيرة ـ من الأراضي والمزروعات والآلهة والحيوانات ـ, شعروا بطريقة حدسيّة وصحيحة أنهم يجب أن يصونوه من التلوّث والابتذال الذي يُخرجه من طبيعته ويجرّده من سبب وجوده, يجب الإبقاء على الروح الماتشيغويّة حيّة, على الشيء الخاصّ بهم الذي لا يمكن نقله, والإبقاء على طبيعته الروحيّة, وواقعه السحري والأسطوري, لأنّ الحكواتي يمثل ذلك كلّه في نظرهم. أو إنّ فضول علماء الاجتماع لم يُولِ قطّ قصّاصي القصص البدائيّين هؤلاء الأهمية الواجبة, وإن يكن البعض منهم قد اهتّم بفلكلورهم وميثيولوجيّتهم كما فعل الأب خواكين بارّيالِس الذي جمع وترجم بعض القصائد والأساطير الماتشيغوية الجميلة.
    على كلّ حال, هناك شيء معروف عالميّاً وهو التخييل, هذا الواقع الآخر الذي أبدعه الكائن البشري انطلاقاً من تجربته المعيشة والمعجونة بخميرة رغباته غير المُشبعة, وبالخيال, وهو يرافقنا كملاكنا الحارس منذ أعماق ما قبل التاريخ لمّا بدأنا طريقنا المتعرّج الذي سيقودنا في نهاية القرون إلى السفر نحو النجوم، والسيطرة على الذرّة, وإلى فتوح عجيبة في مجال المعرفة والهمجيّة التخريبيّة, وإلى اكتشاف حقوق الإنسان والحريّة وإلى خلق الفرد المتفوّق. على الأرجح لم يكن أيّ من هذه الاكتشافات والتقدّم في مجالات التجربة كلها, ممكناً لو لم نلتفت ملايين السنين إلى الوراء, ونكتشف أجدادنا في عصر الكهف والعصا منكبّين على هذه المبادرة الساذجة والطفليّة, حينما يكونون حقّاً في ساعة الذروة من الذعر في الليل البهيم وقد التصقت أجسامهم بأجسام بشر آخرين بحثاً عن الدفء, ثم يشرعون في الهيمان والسفر ذهنيّاً قبل أن يغلبهم النوم, إلى عالَم مختلف, وإلى حياة أقلّ قسوة وأقلّ خطراً, أو أجزى لهم وأسهل منالاً من الحيوات التي يتيحها لهم الواقع الذي يعيشونه. وقد كان هذا السفر الذهني وما يزال مبدأَ أفضل ما حدث للمجتمع البشري؛ وقد كان أيضاً سبباً لكثير من المآسي بلا ريب؛ لأنّ استسلامنا لسحر الخيال مدفوعين برغباتنا لا يكشف لنا فقط عمّا في القلب البشري من غيريّة وكرم وتضامن, وإنّما يكشف لنا أيضاً عمّا فيه من هذه الشياطين والشهوات المدمّرة واللاعقلانيّة الشرسة التي تعشّش في العادة مختلطة بأطيب أحلامنا.
    وكان الأدب الابنَ المتأخّر لذلك الشغل البدائي في ابتكار قصص وقصّها, فأنْسنَ النوعَ وجعله صافياً, وحوّل الغريزة في التكاثر إلى ينبوع لذّة وإلى احتفال فنّي ـ الإيروسية ـ, وأطلق بني البشر على درب الحضارة؛ وهو شكل ناعم وراقٍ لم يكن ممكناً إلا بالكتابة التي ظهرت في التاريخ بعد آلاف كثيرة من السنين من ظهور اللغات. أغيّر الأدب ـ أو الكتابة ـ بشكل جوهريّ السفر نحو التخييل الذي بدأت به الشعوب البدائيّة معاً كلّما اجتمعوا لسماع قصص يقصّها قصّاصوهم؟ لم يغيّر فيه بشكل جوهري. فقد أعطت الكتابة القصص شكلاً أكثر تضامّاً وعناية, وجعلتها أكثر شخصانية, ومعقّدة ومعدّة إعداداً بتنويعها وتدقيقها حتّى زوّدت بعضَها بصعوبات جعلتها خارج متناول القارئ العام والعادي, شيء ما كان يمكن تصوّره في نوع التخييل الشفوي الموجّه إلى الجماعة.
    من جهة أخرى منحت الكتابة التخييل ثباتاً ودواماً لا يمكن أن تحظى به قصص الخيال الشفوية المنقولة من الآباء إلى الأبناء ومن جيل إلى جيل, ومن شعب إلى شعب ومن ثقافة إلى ثقافة، قصص تتعدّد وتتحوّل حتى لا تبدو أنها صادرة عن جذع مشترك, ولا تحتفظ بأدنى رابطة في ما بينها, كما تدلّ على ذلك المجموعاتُ التي ضمّت هذه القصصَ والأساطير والبطولات التي حفظها التراث الشفوي على مدى السنين.
    لكن, إذا أسقطنا الفروق الشكلية والتحوّل الذي يخضع له الأدب الشفويّ لا محالة, نجد خطّاً من الاستمراريّة لا تخطؤه العين, بين هذا الأدب والأدب المقروء, وبين التخييل المحكيّ والمسموع والمقروء, على الأقلّ فيما يمثله كلاهما في المُنطلق والهدف: أي الحركة الذهنيّة للكائن البشريّ البائس للخروج من القفص الذي تجري فيه حياته ويبلغ حريّة ومبادرة تجعله يهرب من المكان والزمان الذي يجري فيه وجوده, وتوسّع تجاربه وتعمّقها فتجعله يعيش كما في تحوّل سحريّ, أفعالاً أخرى ومغامرات وعواطف وتسمح له أن يسيطر على كل صنف من الأهداف حتى أكثرها غرابة وخطورة, تلك التي تضمّها إلى حياته قصصُ الخيال المُتصوّرة والمحكية ـ قصص أخيلة مقنعة ـ والمسموعة أو المقروءة.
    وهذه الحياة المكذوبة التي هي التخييل, والتي نعيشها إذا سافرنا وحيدين أو بصحبة آخرين (مستمعين إلى الحكواتيين أو قارئين قصاصين وروائيين) نحو هذه العوالم التي خلقها الخيال والشهوات البشرية, لا ينبغي لنا أن نعدّها مجرّد ردٍّ على الحياة الحقيقية فقط, الحياة التي نعيشها موضوعياً, وإن تكن هذه الحياة ما يميل إلى دراستها في العادة علماءُ الاجتماع الذين يفيدون من الأدب الشفوي والمكتوب ويرون فيه وثيقة سوسيولوجية وتاريخية لمعرفة صميم مجتمع ما. والتخييل, في الحقيقة, ليس هو الحياة, وإنما ردّ على الحياة التي بنتها الكائنات البشرية, مُضيفاً إليها شيئاً لا تملكه الحياة, يكون تكملة لها أو بُعداً هو بالتحديد ما اخترعه التخييل, وهو بالضبط العنصر القصصي في الرواية, وهو ما تفتقر إليه الحياة الواقعيّة, لكننا نرغب في أن تملكه, تمتلك, مثلاً نظاماً ومبدأً وغايةً وتماسكاً وألفَ شيء آخر, ولامتلاكه يجب أن نخترعه كيما نعيشه في الحلم المضيء الذي يعيش فيه التخييل.
    هذا موضوع طويل ومعقّد لا ينبغي لي ولا أستطيع أن أتوسّع فيه هنا, وإنّما اقتصر على الإشارة إليه في هذا المخطّط الموجز للعصور القديمة, وأبيّن سبب وجود التخييل في حياة الكائنات البشرية. ومن الخطأ الاعتقاد أنّنا نحلم بذات الطريقة التي نعيش فيها. بل على العكس, نحن نتخيّل ونحلم مالا نعيشه, لأنّنا لا نعيشه ونرغب في أن نعيشه, لذلك نبتكره: لنعيشه على شكل مكذوب بفضل السرابات المغوية لمن يقصّ القصص التخيّليّة. وهذه الحياة الأخرى, الحياة المكذوبة التي ترافقنا منذ أن نباشر السفر الطويل الذي هو التاريخ البشري, لا تعكس صورتنا كمرآة أمينة, وإنّما كمرآة سحرية تكشف باختراقها مظاهرنا عن حياتنا الحقيقية, عن حياة غرائزنا وشهواتنا ورغباتنا, حياة مخاوفنا وذعرنا, حياة الأشباح التي تسكننا. ذلك كلّه نحن أيضاً. لكنّنا نُخفيه وننكره في حياتنا العامّة, وبفضل ذلك كلّه يصبح التعايش والحياة الاجتماعية ممكنة, حياة اجتماعية يجب أن نضحّي من أجلها بأشياء كثيرة كيلا تنفجر الجماعة المتحضّرة إلى فوضى وفسق وعنف. لكنّ هذه الحياة المنكورة والمقموعة التي هي نحن أيضاً, تخرج طافية دائماً ونعيشها بطريقة ما في القصص التي تستهوينا, لا لأنها مرويّة بطريقة جيّدة, بل لأننا بفضلها نلتقي بوجه خاص, الجانب الضائع من شخصيّتنا, وجورج باتاي Bataille. يسمّيه الجانب الملعون.
    التخييل هو أشياء كثيرة في آن واحد: فهو تسلية وسحر ولعب, وتعزيم وتعويض, وعَرَض لعدم الامتثال والتمرّد, وشهوةٌ وحريّة ولذّة, لذّة عظمى, وهو بلا ريب, علامة جوهريّة ومطلقة للشأن البشري, وهو خير ما يعبّر عن وضعنا ويبرزه ككائنات مُميّزة, الكائنات الوحيدة على هذا الكوكب وفي العالم المعروف حتى الآن على الأقلّ, القادرة بفضل هذا السلاح الناعم, ألا وهو التخييل, على السخرية من التقييدات الطبيعية لوضعنا الذي يحكم علينا أن تكون لنا حياة واحدة وهدف واحد وظرف واحد.
    لذلك، لا ضير في أن نقول إن الحريّة لا توجد من دون التخييل, ومن دونه لكانت المغامرة البشرية رتيبة ومتطابقة كحياة الحيوان. والحلم بحيوات مختلفة عن حياتنا هو طريقة متمرّدة في السلوك. طريقة رمزيّة في إبداء عدم الرضا عمّا نحن فيه وعمّا نعمله, لذلك,هو يعني أن نُدخل في وجودنا عنصرين مغويين: القلق والتخيّل. وإن رغبتنا في أن نكون آخر, أو آخرين, وإن يكن بالطريقة المؤقتة التي ننكبّ فيها على الشعبذات وألعاب الأقنعة التخييليّة, هي البدء في سفر لا عودة منه نحو أماكن مجهولة, وهي بطولة عقلية تحتوي بالقوّة على المغامرة البشرية العجيبة كلها, تلك التي يسجّلها التاريخ. ولكان من الصعوبة بمكان أن توجد هذه البطولات والاكتشافات كلها في مجال المادّة والفضاء والذهن والجسم, وفي الجغرافيا والشعور وما تحت الشعور, ولَمَا كنّا بلغنا في مجال الفنون, على غرار ما بلغناه في مجال العلوم والتقنية, الإنجازات الباهرةَ لدانتي وشكسبير, وبوتِشلّي, ورمبرانت, وموزار وبيتهوفن لو لم نشرع قبل ذلك كله, في أن نحلم بقصص تكون أحياناً جدّ مُقنعة كالكيخوته ومدام بوفاري, حتى تحثّ بعض القرّاء على الرغبة في أن يحوّلوها إلى وقائع, وتحثّ قراء آخرين على العمل باندفاع وعبقرية كيما تأخذ الحياة الواقعية بالاقتراب أكثر فأكثر من الحياة التي نخلقها بالفانتازيا.
    إذا كان التخييل نافعاً في تهدئة مخاوفنا ورغباتنا, فإنه جعلنا في آن واحد أكثر بُعداً عن الامتثال وأكثر طموحاً, وأعطى حرّيتنا معنىً متعالياً, لمّا ولّد فينا الإرادة في العيش بطريقة مختلفة عن الحياة التي تُرغمنا الظروف عليها. إناّ وإن تخلّينا خلال مجرى الحدث البشري, عن أشياء كثيرة ـ عن أوهام وتاباوت,ومخاوف وعادات, ومعتقدات وآلهة وشياطين كانت عقبات أخرى في طريقنا لبلوغ قمم جديدة من التقدّم والحضارة ـ, فقد ظللنا أوفياء لهذا الطقس القديم الذي بدأ بممارسته ـ لحسن حظّنا ـ الأجدادُ في بداية التاريخ: وهو الحلم معاً وقد جذبتهم كلمات حالم آخر ـ الحكواتي ـ أو القصّاص أو الراوية, أو الشاعر أو المسرحي أو الروائي ـ كيما نشفي بهذه الطريقة مخاوفنا ونهرب من الحرمان ونحقّق تطلّعاتنا الخفيّة ونهزأ بالشيخوخة ونهزم الموت, ونعيش الحبّ والشفقة والقسوة والإفراط الذي يطالبنا به الملائكة والشياطين الذين نجرّهم معنا مُضاعفين بتلك الطريقة حيواتنا بدفء النار التي تطلق شرر هذه الحياة الأخرى غير الملموسة والساحرة والضرورية والتي هي التخييل.
    وإن موضوع التخييل والحياة ثابتةٌ تظهر في الأدب منذ أزمنة بعيدة. وإنّ هناك أعمالاً أخرى كثيرة إضافة إلى العملين اللذين ذكرناهما ـ الكيخوته ومدام بوفاري ـ قد أعادت خلق هذا الموضوع واستغلّته بألف طريقة مختلفة. لكنه لم يظهر عند أيّ مؤلف معاصر بهذه القوّة والأصالة ظهوره في روايات / خوان كارلوس أونيتّي J.C.Onetti, وقصصه, أعمال نستطيع القول عنها دون مبالغة مفرطة إنّها مُتصوّرة بكاملها تقريباً لتبيّن الطريقة الناعمة والخصبة في أننا نحن ـ الكائنات البشرية ـ جئنا لنبنيَ إلى جانب الحياة الحقيقية حياة موازية لها مكوّنة من الكلمات والصور المكذوبة كما هي مُقنعة, تلك التي نلجأ إليها هرباً من المصاعب والتقييد الذي تعارض به الحياةُ المعطاة كما هي, حرّيتَنا وأحلامَنا.

    ماريو بارغاس إيّوسا(1) Mario Vargas Ilosa
    سفر إلى التخييل عالم خ.ك. أونيتّي Viaje a la ficcion
    ت. علي ابراهيم أشقر El mundo de J.C.Onetti
    (1) روائي وقاصّ ومسرحي وناقد بيروي معاصر. وُلد في أركييا عام 1936. درس الحقوق. وكانت أطروحته لنيل الدكتوراه عن أدب ماركث. نال جوائز أدبيّة عدّة, تُوجّت بجائزة نوبل عام 2010. من كتبه: المدينة والكلاب ـ البيت الأخضر ـ الحكواتي ـ السمكة في الماء ...الخ.
    (1) يستعمل المؤلف الضمير (هي) في إشارة لهذه الحياة. وقد أثبتنا الاسم المعنيّ صريحاً كيلا يقع لبس ـ المترجم.
    (1) fatédicas (1) في الأصل, أي تنبّؤية ـ المترجم.
يعمل...
X