إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

قصة الغجر أو ( تشاتشان ) - للكاتب : نودار دومبادزه

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • قصة الغجر أو ( تشاتشان ) - للكاتب : نودار دومبادزه

    قصة الغجر أو ( تشاتشان )
    للكاتب : نودار دومبادزه

    الغجر- نودار دومبادزه
    موقع التواصل - منقول





    موقع التواصل - منقول

    في منطقة «غوريا » يطلقون على الغجر اسم «تشاتشان ». كانت هذه الكلمة تُستعمل، في الوقت نفسه في الحياة اليومية مرادفة لكلمات : نصّاب، غشّاش، ماكر. ولذا اعتبرت النبأ الذي شاع في أرجاء قريتنا، في يوليو ( تموز ) من عام 1943، عن ظهور التشاتشان في «زينوباني» وانتشارهم في دغل «لاشيس غيلي» الساحلي ـ اعتبرت ذلك ناقوس خطر يعلن عن غزوٍ لقطّاع الطرق .
    تسلّحت، من باب الحيطة، وأنا أتوجه لاستطلاع المعسكر غير المرغوب فيه، بمدية جدي القديمة وبندقيته «الدك» التي لم يطلق منها أحد؛ وحتى لو توافرت الرغبة، لما استطاع الإطلاق، لأن أحدا لم يصرف أي جهد أو وقت لإعادة وضع الزناد الذي كان قد انفصل عن مكانه في أثناء آخر طلق أُجري منها عام 1905 .
    تسللتُ إلى معسكر الدخلاء، تفرست فيه بانتباه ورأيت أحبتي الغجر السمر المرحين الصخّابين .
    أما الغجر فقد فرحوا، بدورهم، كثيرا لظهور فتىً يتحدث الروسية في مثل هذا القفر، في تلك القرية الضائعة في الجبال. فرحوا كثيرا حتى كادوا يتبنونني في الحال .
    مضى اليوم الأول في نصب المخيم وإقامة ورشة الحدادة وتهيئة مرابط الخيول. وفي الصباح التالي، حين نفخ الرجال كير الحدادة، وتهيئوا لطرق البلطات والمناجل والمقشات والملاقط والسلاسل، انتشرت نساء المخيم : الزوجات الغجريات، الأخوات والبنات ـ بعضهن ممشوقات القامة كأعواد القصب، وبعضهن الأخريات منتفخات البطون، في الشهر الأخير، وهن جميعا جميلات، ساحرات . يحملن بين أذرعهن أطفالهن الرضع، أشباه العراة، وانقضوا على االبساتين والحوا كير كالجراد. ولولا وجود وثبات نسائنا الغوريات، المتينات كالجوز، الماهرات للغاية في الذود عن أملاكهن لما بقي، حتى حلول المساء، شيء على الأشجار، بما في ذلك الورق !
    ـ أيها المتشردات، النصابات، التشاتشانيات، أتردن أن تلتهمن كل شيء دفعةً واحدة ؟ اتركن شيئاً، على الأقل، ليوم الغد ! ـ هاجمت نساؤنا الغجريات الحافيات. وتراجعت، يا للعجب، الغجريات الجامحات اللواتي لم يعتدن إطاعة الأوامر مبعدات، عن الأشجار والحوا كير، أولادهن الذين استباحوها إلى أبعد الحدود .
    قيل وكُتب عن الغجر الكثير، صُوّروا وعُرضوا، ووضع عنهم الكثير من الأعمال الفنية، وها أنا ذا أعنون قصتي بعنوان مماثل، أي أن شيئا جديدا لا يُنتظر مني. لكن، مع ذلك، أظن أن ما حدث في قريتنا خلال أسبوعين من صيف عام 1943 جدير بالسرد ..
    في ذلك الزمن العصيب، إن لم تكن القرية كلها، فنصفها على الأقل كان في ثياب الحداد. معلوم أن الناس في القرى الجورجية يستقرون بدواعي الرحم العائلي، ففيها الكثير من الأقرباء، أبناء الدم. ولذا كانت نعية أحد أعضاء أسرةٍ ما تحمل الحزن والدموع لخمس أو ست عائلات أخريات تقريبا .
    و هكذا، في مثل تلك القرية المتشحة بثياب الحداد وَجَدَ الغجرُ الدخلاء أنفسهم. لكن يجب إعطاؤهم ما يستحقون : لقد حرصوا على أن يقلصوا، إلى أدنى حدٍ، من مرحهم الفطري ورقصهم الصاخب وأغانيهم، بل وحتى سعيهم المعهود للاستيلاء على ما تقع عليه اليد بسهولة( 1 ) .
    في الحقيقة، قد لعلعتْ في بعض الأحيان، هنا وهناك، لعنات الجورجيين وشتائم الغجر، لكن الأمر لم يصل إلى درجة الصدام الحاد .
    تصادق الغجر معي بسرعة. علاوة على ذلك، ما إن عرفوا أنني يتيم، حتى اقترحوا عليّ بجدّية الالتحاق بهم، إلى مخيمهم، للأبد ـ ( قد تصبح يوما بارونا غجريا ! ) لكنني فضلت دور راعي عنزات الجدة واكتفيت بوظيفة مترجم بين سكان القرى والنساء الغجريات، وطبعا مجانا. كانت الغجريات، بدورهن، يدرسنني، في الأماسي، الأغاني الغجرية والمقاطع الرقصية والعزف على القيثارة دون مقابل .
    أما الرجال الذين كانوا يعملون، بشكل رئيسي، بتجارة الحاجات الريفية، ليسوا بحاجة إلى ترجمان. فمن المعروف أن لغة التبادل والتجارة ـ لغة متداولة عالمية، بها بدأ المجتمع البشري وجوده، وبها يفكر أن ينهيه .
    ـ يا بني، أحضر لي قارئة بخت غجرية جيدة، وسأكافئك ! فلتقرأ لي البخت .. لم أتلقَّ، منذ زمن بعيد، رسائل من ابني «فانيا» ـ رجتني الجارة، فأحضرت لها غجرية «جيدة» .
    ـ اسمع، أحضر لي تلك التي بصّرت لـ «أغرافينا»، لقد تنبأت بأخبار طيبة .. أحضرها إلي فأنت تعلم معي لا يضيع التعب ! ـ توسلت إلي امرأة أخرى، فأحضرت لها «المتنبئة». لقد بصرت البصارات الغجريات، إن لم يكن لكل أسرة فعلى الأقل لنصف أسر قريتنا المتعطشات للعزاء ضامنات لهن عودة الأزواج والأولاد، والأخوة والآباء، والأصهار والخطاب سليمين معافين ..لقد أدخلن إلى قلوب المعذبين الكثير من الأمل، وجففن لدى الكثير من الباكين دموع الحزن واليأس، ونفخن في الكثير من المواقد التي كانت قد خمدت منذ أمد وأشعلن فيها النار .. ورضين لقاء ذلك بأشياء زهيدة تافهة ـ نشقة سعوط، بيضتين، نصف قرص من الجبن، شطيرة من خبز «متشادي»، زجاجة من خمر «أوديسا»، وفي بعض الأحيان كأس من مياه النبع، لا أكثر .
    و عن إحدى تلك «التنبؤات» أود أن أخبركم :
    ذات صباح دخلت الجارة «دزنيلادزه» فناء بيتنا ونادت على جدتي .
    ـ ماذا تريدين يا «نينا» ؟ ـ ردت الجدة على ندائها .
    ـ أعيريني أيتها الحبيبة، صبيك !
    ـ خذيه للأبد، إذا ما وجدت هذا الطائش ! ففائدتي منه فائدة الحليب من التيس ! يتسكع، المتبطل، مع الغجر طوال اليوم ويطنطن على القيثارة ! بالأمس أتى بخمسة من الحفاة الميؤوس منهم، قضى أولئك المشردون على آخر رأس بصل في الحاكورة وآخر حبة كرز في البستان .
    ـ يا إلهي ! ولم يبقوا شيئاً ؟
    ـ كيف لا، أبقوا حفنة من القمل!
    ـ على أية حال أعيريني الصبي !
    ـ أقول لك : إن وجدته خذيه، «صحتين وعافية» !
    هذا الحديث سمعته بأذني، إذ كنت أجلس على أحد الأغصان، ساعياً وراء حبة كرزٍ سلمت بأعجوبة من هجوم الغجر ليلة أمس. نزلت عن الشجرة ومثلت أمام عيني الجارة :
    ـ ما القضية أيتها الجدة، نينا، لأي أمر احتجتني ؟
    ـ أنقذني يا بني ! أحضر لي أجود الجيدات من الغجر ولتبصّر لي .. غريشا .. فتاي الغالي ـ امتلأت عينا الجدة بالدموع وتهدج صوتها .
    و هل كان بإمكاني رفض طلبها !؟
    درت في الحال وجريت نحو المخيم. كنت أركض وأنا أفكر، من بإمكاني أن أحضر إلى تلك المرأة التعيسة، وأي معنى للتبصير إذا كانت النعية والرسالة المدماة المرسلة إلى أسرته المنتزعة من جيب غريشا الذي مزقته إحدى الرصاصات ـ إذ كانتا مركونتين منذ عامين على الرف أمام الأيقونة في البيت .. منذ عامين ! بأي شيء تأمل ؟ بمعجزة ؟ بأن يبعث من بين الأموات ؟ لكن هل يمكنك منع قلب الأم وحجزه في إطار ما ؟ ما دامت لم تر بأم عينيها ابنها الميت سيظل شعاع الأمل ـ الأمل الضئيل يضيء ويدفئ في الخفاء قلبها العجوز . ـ كان المخيم خالياً. لم يكن فيه من أحد سوى ابنة قائد الغجر «نيقولا» الحامل .
    كان الجميع قد تفرقوا، كل إلى مقصده. ركعت على ركبتي أمامها متوسلاً إليها:
    ـ أوكسانا، أرجوك، فلنمض إلى القرية .. إلى عجوز تعيسة !
    ـ ما بالك أيها الفتى ؟ هل خبلت ؟ أكاد لا أقوى على الوقوف، قد أضع اليوم أو غداً مولودي، إلى أين سأجر نفسي ؟
    ـ لمدة نصف ساعة، أوكسانا، أيتها الغالية. تلك العجوز تثير الشفقة !
    ـ ألديها شيء ما يؤكل؟ ـ تساءلت أوكسانا دون مبالاة .
    ـ يوجد، على ما يبدو، طالما أنها تدعوك ! ـ أجبتها مرتاباً إذ أنني أعلم جيداً أن واقعاً مريراً يخيم على قريتنا كبقية القرى في سني الحرب العجاف .
    ـ «لى ما يبدو» ؟! أو لم يبد لك أنني أتنفس بصعوبة ؟
    نهضت الغجرية آنة. طرحت شالها على كتفيها ومشت معي .
    فرحت الجدة «نينا» لظهوري كما لو كنت إشارة قادمة من السماء، لكن عند مرأى «أوكسانا» قلقت .
    ـ من أحضرت إلي، فليأخذك الشيطان ! إذا ما جاءها المخاض بغتة، أين سأجد لها قابلة ؟!
    ـ لا تخافي أيتها الجدة، وهي تعرف أمرها أكثر منك !
    ـ ماذا تقول ؟ ـ سألتني أوكسانا .
    ـ تقول أنك ما زلت فتية على مهنة «التبصير» قلت لها كاذباً .
    ـ هذا ليس شأنها .. قل لها أن تحضر طستاً وماء وحفنة من الملح وخاتماً ذهبياً وثلاث قطع من السكر.
    ترجمت .
    ـ أجنت المرأة أم ماذا .؟ أخذت الجدة نينا تولول ـ ثلاث قطع من السكر معاً ؟ فأنا لم أرها منذ ثلاثة أعوام .
    مرة أخرى ترجمت. قهقهت أوكسانا وضحكت طويلا حتى كادت أنفاسها تنقطع .
    أحضرت الجدة كل شيء ماعدا السكر، ثم نزعت خاتم الزواج الذهبي من إصبعها بصعوبة وقدّمته إلى أوكسانا. فقدت الغجرية بحذر على كرسي ثلاثي القوائم، أمام الموقد. صبت الماء في الطست ونثرت فيه حفنة من الملح .
    ـ وكيف سيتم الأمر من غير سكر ؟ ـ قلقت الجدة نينا .
    ـ من دون سكر لا يجوز. ـ أعلنت أوكسانا ..
    ـ يا إلهي، ماذا عليّ أن أفعل ؟ ـ كانت العجوز مستعدة للبكاء .
    دست أوكسانا يدها في جيبها المخفي بين طيّات تنورتها الواسعة المزركشة، وأخرجت ثلاث قطع من القند (2 ) وألقت بها في الطست .
    ـ أيها الرب ذو القدرة الكلية، أنعمْ على هذه المرأة الرؤوفة بالخير والمسرة ! ـ ورسمت الجدةنينا علامة الصليب على أوكسانا .
    جفلت الغجرية وقالت :
    ـ ما هذا الذي تفعله؟
    ـ إنها تباركك !
    ـ هكذا!؟
    حركت أوكسانا الماء بيدها طويلا. حين ذاب الملح والقند، رمت الخاتم في الطست .
    ـ أهو ذهبٌ خالص ؟ ـ تساءلت .
    ـ ذهب خالص ! ـ قالت الجدة باعتزاز .
    ـ عمن سأبصّر؟
    ـ عن ابني، ابني غريشا !
    زرّت أوكسانا عينيها وراحت تتمتم بشيء ما بلغتها الغجرية .
    ـ ترجمْ ! ـ رجتني العجوز .
    ـ أنا لا أفهم، فهي تتكلم بلغتها ـ قلت شارحا .
    همهمت أوكسانا طويلا، ثم صمتت فجأة والتفتت نحو الجدة نينا وقالت بالروسية :
    ـ أراه .. هو حي .. بين ناس غرباء .. يريد أن يرجع إلى وطنه .. لا يطلقون سراحه .. ها .. ها ..إنه في الأسر ! أتفهمين ؟
    ـ بني ! ـ رفعت العجوز يديها ـ المهم أن يحيا، فحسب !..
    ـ على رأسه عصابة .. عصابة مدماة ..
    ما هذا ؟! آ .. آ ..ا، كان جريحا .. أجل كان جريحا، لكنه حي ..
    تطلعت الجدة نينا إلى الغجرية بعين الريبة، ثم نهضت بسرعة. اقتربت من الأيقونة، ثم عادت إلينا وقدّمت إلى أوكسانا الرسالة، رسالة ابنها، ذاتها التي لم تُرسل والملطخة بدمٍ جاف .
    ـ وهذه ؟! كيف سنتعامل مع هذه ؟!
    شحبت أوكسانا .
    ـ إلى أين قدتني أيها الأبله ؟! ـ همست قائلة .
    بماذا كان يمكن أن أجيب ؟
    استغرقت أوكسانا في التفكير. تطلعنا، أنا والجدة نينا، إليها بنفاد صبر .
    بعد صمت طويل رفعت الغجرية رأسها .
    ـ كانت الرسالة مرسلة مع شخص آخر، وذلك الشخص هو مَن قُتِل. كانت الرسالة مضمومة في جيب ذاك الرجل الآخر .. ابنك ما يزال حيا ..
    خرّتْ الجدة نينا على ركبتيها أمام أوكسانا :
    ـ استحلفك بالله ! بابنك الذي تنتظرين ! ..
    ـ ماذا ؟!
    ترجمتُ .
    صُعقت أوكسانا. شحبت، جمد وجهها واتسعت عيناها. غطت بطنها بيديها كما لو أنها تحميه، ثم بدأت تمسده بتؤدة. همست شفتا المرأة بشيء ما باللغة غير المفهومة. خيّل إليّ أنها تصلي مستغفرة ربها بحرارة ونكران للذات عن الجريمة المقترفة .. ثابت إلى رشدها تدريجيا، استكانت ثم طفحت على وجهها المورد طمأنينة رائعة. بعدئذٍ ابتسمت وقالت :
    ـ اشرح للعجوز أن ابنها حي. هو ذا الدليل : لقد بدأ المخاض لديّ، سألد صبيا وسأدعوه غريشكا !
    و فيما كنت أترجم بصوت مرتجف ما قيل للجدة نينا التي كانت تلثم قدمي الغجرية الحافيتين، كان صراخ أوكسانا المفتت للقلب يطغى على كل ما حولنا .
    بعد مضي نصف ساعة اجتمع في فناء دار «دزنيلادزه» سكان المخيم الغجري وقرية «زينوباني» جميعا .
    فوق أيديهم المشرعة عاليا أخرج الغجر ابنة قائدهم أوكسانا وابنها غريشكا كأنهما العذراء وابنها المسيح الصغير .
    و بقيت معهم. حتى الصباح لم تنقطع الرقصات ، حول النار الهائلة المضرمة، والأغاني ورنين الأقداح والقبلات والمعانقات والصخب والصراخ، بل وحتى العراكات قصيرة الأجل .
    لكن، مع ذلك، ليس هذا هو المهم، ولا حتى إهداء الجدة نينا خاتم زواجها لأوكسانا. المهم هو ما تلا ذلك .
    استيقظت القرية ذات صباح ورأت دغل «لاشيسغيلي» خاليا .
    اتضح أن الغجر تأهبوا ليلا للرحيل مختطفين عنزة وخنوصين (3 ) وعجلا وما يزيد عن العشرين دجاجة وبعضا من أمتعة سكان القرية .. وكان هناك غجر !! .. ضاع أثرهم ..
    الآن، في أيامنا هذه، قد تبدو أرزاقٌ كهذه زهيدة، تدفع القارئ للابتسام، لكن في ذلك الزمن كانت تُعتبر ثروةً حقيقية ! وأية ثروة ! فمن أجل خنوص واحد كان الجار مستعدا لانتزاع حنجرة جاره !
    ملاحقة الغجر مع خيولهم المجنونة أمرٌ لم يخطر ببال أحد. وفوق هذا، لم يكن أحد يدري أيّ طريق سلكوا .
    و فيما كانت القرية تجيش ..
    و فيما كانت القرية تتململ ..
    و فيما كانت القرية تتشاور ..
    وصل رجل إلى زينوباني مسءً، وأبلغ : لقد قبضت الشرطة على الغجر في تشوخاتاوري . ضبطوهم مع المسروقات. وعلى المتضررين من سكان زينوباني مراجعة مركز الناحية .
    تحرك نصف القرية إلى تشوخاتاوري، بعضهم طلبا لممتلكاتهم المسروقة وأغلبهم بدافع الفضول .
    كان الغجر يحتشدون في فناء مبنى الشرطة .
    عندما رأونا ارتبكوا وحوّلوا أعينهم عنا .
    كنت أحترق خجلا وأرغب في البكاء متمنيا، لعلكم لا تصدقون ذلك، أن أكون وسط هؤلاء الغجر وليس بين أهل قريتي !فكرتُ : «أحقاً لا يدري الناس أن الغجر ليسوا لصوصا ؟! هم هكذا مخلوقون ! يمرون من أمام أمتعة الآخرين، فتعلق تلك الأشياء بهم من تلقاء نفسها، كما لو كانت تعلق بالمغناطيس. » لكن لم يكن، ثمة، مَن أستطيع البوح إليه بذلك، ثم مَن كان سيأخذ أفكاري على محمل الجد ؟
    بعد مضي ساعة خرج أخيرا إلى الشرفة قائدُ الشرطة «كيكيتيا أوسيبايشفيلي». استند بمرفقه إلى الدرابزون وشمل المحتشدين بنظره ثم سأل :
    ـ أيها الريفيون، أتتعرفون على هؤلاء الناس ؟
    ـ كيف لا نعرفهم، وقد أمضوا بيننا في زينوباني أسبوعين اثنين ؟ ـ أجاب عن الجميع عمدتنا وحكيمنا «ليفارسي برجياني».
    ـ والأرزاق هذه، أهي لكم ؟ ـ أشار قائد الشرطة كيكيتيا بيده إلى زاوية الفناء، حيث رُبط القطيع المسروق إلى السياج، وجُمعت الأشياء المنهوبة في كومة .
    ـ هذا لي !
    ـ وهذا لي !
    ـ هو ذا لي !
    و هرع الناس إلى الحيوانات والأشياء التي تخصهم .
    ـ عودوا إلى أماكنكم، أيها البلداء ! ـ صرخ ليفارسي، فترك الريفيون ممتلكاتهم، كما لو أنهم رشقوا بالماء المغلي، وانسحبوا بسرعة إلى الوراء .
    ـ ما الأمر، أيها المحترم كيكيتيا، علام دعوتنا ؟ ـ توّجه برجياني بكلامه إلى قائد الشرطة .
    ـ ما لك، أيها العجوز، هل أصبت بالصمم ؟ قيل لكم : استردوا ما يخصكم، وسأتدبر أمري مع هؤلاء اللصوص !
    ـ أية ممتلكات، أيها المحترم كيكيتيا ؟
    ـ كيف، أية ممتلكات ؟ ممتلكاتكم، وهل ثمة غيرها ؟
    ـ كانت لنا ..
    ـ اسمع ! لا تجنني، ماذا يعني «كانت» ؟
    ـ يعني أننا بادلناها بمختلف الأشياء ـ بالسلاسل والبلطات .. أتسمعُ، يا أرسين غودافادزه، أين خنوصك ؟
    ـ ذاك المصلوم الأذن ـ وأشار بيده إلى الخنوص .
    ـ وبأي شيء بادلته ؟ بالسلسلة والملقط فيما يبدو ؟
    ـ تماما يا ليفارسي ! بالسلسلة والملقط .
    ـ خنوص مقابل سلسلة وملقط ؟ أجننت ؟ ـ صرخ أوسيبايشغيلي .
    ـ هذا أمرٌ يخص صاحبه، أيها المحترم كيكيتيا ! ـ أجابه أرسين بوقار وانتحى جانبا .
    ـ والخنوص الثاني ؟ لمن ؟ ـ سأل كيكيتيا .
    ـ لا مالك له ! ـ أجاب أحدهم من بين الحشد .
    ـ لمن العنزة ؟ ـ تابع قائد الشرطة أسئلته .
    ـ وما أدراني ! ـ تقدمت الجدة نينا، مع أن أحدا لم يسألها شيئا، وانتحت جانبا أيضا. فتبعتها العنزة ثاغية .
    ـ ولماذا تمشي العنزة نحوك ؟ ـ ارتاب أوسيبايشغيلي. العنزة هكذا هي عنزة !، حيوان غبي، ولذا تمشي .. ـ ردت الجدة نينا .
    ـ أيتها الفلاحات ! ـ توجه ليفارسي بكلامه إلى النساء ـ وأنتن، كما أذكر، دفعتن دجاجات لقاء «فتح الفال»، أليس كذلك ؟
    ـ تماما، ليفارسي، دفعنا دجاجة في كل مرة، ودجاجتين عن كل تنبؤ جيد ـ أجابت النساء بصوت واحد كالجوقة .
    ـ يعني هذا أن لا شيء فُقِدَ من أيّ منكم ؟ لأيّ شيطانٍ، إذاً، انجررتم إلى هنا في هكذا ساعة متأخرة من الليل ؟ آ ..أ ..؟ ـ سأل كيكيتيا وقد اختلط عليه الأمر .
    ـ ليس للأمر من أهمية .. قالوا : تدعوكم الشرطة .. فكرنا ـ ربما كان هناك نبأ غير مرض .. فالحرب على أية حال ... ـ دافع ليفارسي برجياني عن أهل قريته .
    ـ وهذا العجل، لا مالك له ؟ ـ قام قائد الشرطة بمحاولته الأخيرة .
    ـ ـ لا، إنه عجلي، لقد أهديته لقائد الغجر ـ أجاب ليفارسي .
    ـ علام هذا ؟ هل قائد الغجر إشبينك ؟
    ـ لماذا إشبين ؟ ولدت ابنته عندنا في القرية وأسمت ابنها باسم «غريشا دزنيلادزه» .. هو في الجبهة .. ولهذا أهديت العجل. ماذا في الأمر ؟ ألا يجوز هذا ؟
    راقب الغجر هذا المشهد وحدقوا في كلا الطرفين دهشين، تارة فينا وتارة أخرى في قائد الشرطة. أحسوا أن شيئاً ما غريباً عجيباً يحدث، لكن ما هو على وجه التحديد، هذا ما لم يفهموه .
    ـ حسن ـ قرر أخيراً أوسيبايشغيلي ـ فضحتموني أظهرتموني مضحكاً أمام هؤلاء الغجر ؟ معكم الله ! لكن لا تفكروا بأنني سأقدم لكم باصاً ! عودوا أدراجكم إلى قريتكم «زينوباني» سيراً على الأقدام ! أدار ظهره إلينا ثم توجه بقوله إلى قائد الغجر : نيقولا، تابعوا طريقكم أيها الأعزاء واعذروني من فضلكم لهذه الإعاقة، ليس لديهم أي ادعاء ضدكم !
    وخرج الريفيون والغجر معاً من فناء مبنى الشرطة .
    وقفنا صامتين، الطرف مقابل الآخر، ثم خرج من بين جمهور الغجر «نيقولا ». اقترب من «ليفارسي برجياني»، عانقه. توقف هكذا ما يقارب الدقيقة ثم استدار ومضى إلى عربته المسقوفة، قفز إلى مقعد الحوذي و.. انطلق معسكر الغجر في طريقه المتربة مصحوباً بالصفير والصراخ وأزيز السياط .
    ابتعد الغجر الأعزاء على قلبي، رامحين، اختفى عن الأنظار أحبتي الغجر ـ المرحون الذين لا يعرفون الاكتئاب، ذوو الأيدي النظيفة، الحدادون الضجاجون، الراقصون والبصارات. حملوا معهم جزءاً يسيراً من خيراتنا وتركوا في دغل «لاشيسغلي» ناراً عظيمة من الأمل التي ما تزال تتقد في صدري حتى الآن .
    مضى الغجر .. أما نحن فعدنا أدراجنا، حزينين لكننا راضين كل الرضا، سعيدين بسلوكنا، عبر منحنيات طريق «زينوباني» المرتفعة التي لا نهاية لها ...
    ت: أحمد ناصر
يعمل...
X