إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

مقدمة في الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي - إعداد: نبيل سلامة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • مقدمة في الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي - إعداد: نبيل سلامة

    الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي







    إعداد: نبيل سلامة

    اكتشف سورية


    مقدمة


    لستُ أدري بمَ أبدأ حديثي عن شخص مثل شخص محي الدين بن عربي أو من هو معروف باسم «الشيخ الأكبَر». في الحقيقة، إن قلمي يطأطئ رأسه خجَلاً أمامَ هذه القامَة الروحية العليا. والحق أن هذا الشخص لو وُلِدَ في الهند لسمَّوْه هناك بالمهاتما أي «الروح العظمى»، أو باسم راما كريشنا التي تشير إلى المتَّحِد بالله الذي يُصبِح صورةً حيةً له على الأرض، هكذا يفكِّر الهندوس واليوغيون في الهند الروحانية.

    تزداد حيرةُ قلمي، أفهل هذا الشخص من طينتنا نحن البشر أم من طينة إلهية؟! ولعلَّني لا أستغرب قوله بأنه خاتَمُ الأنبياء، لكن المشكل الذي يطرح نفسه أنني أراه أو يتراءى لي أكثر من وليّ، فهو شخص، كيان قائم في ذاته، منارةٌ من أعلى منارات الإسلام عبر التاريخ وفي الكون، منارة تشعّ حقائق وأسرار الإسلام، أو الأصحّ هو القول إن ابن عربي بحرٌ كوني يدفع بأمواجه على عتبات الكون الدُّرَر، والجواهر، وتفيض منه الأنوار!!
    وأنا لستُ سوى دويدة صغيرة تحاوِل أن تستكشِف جبلاً، فماذا بوسعها أن تقول، وكل ما سوف تقوله سوف يظل القليل القليل.. لكن، ثمة واقِعَة استطعتُ تلمّسها عند ابن عربي ألا وهي ما هو أشبه بالعقدة الكونية التي يلتقي فيها الإسلام الشيعي بالإسلام السني، وأيضاً بالأديان كلها، وينتهي إلى إدراك حقيقة مفادها أن الشيعة والسنة هما وجهان لحقيقة واحدة هي الإسلام، لا يستطيع وجه واحد منهما احتكار الإسلام لنفسه، فهما وجهان يتكاملان ليجعلا من الإسلام منارةً كونية، ورسالة حضارية، فالتشيّع هو بشكل أو بآخَر إبراز الجانِب الصوفي من الإسلام كما نراه يتألّق في العرفان الإسماعيلي، والسنّة بدورها بإخلاصها وحبّها للرسول الكريم الذي يتحوّل ليصير تصوّفاً يتبع الشريعة، لكن هذه الأخيرة عمِل شيخنا الأكبر على تأويلها ليس من حيث التقليل من قيمتها وإنما إبراز الجانب الجوهري منها وإدراكه، الأمر الذي يجعل من الشريعة إطاراً لا أكثر نستطيع تلمّس الإلهي من خلاله، والحقّ أن رحيل ابن عربي إلى المشرق لم يأتِ عبثاً، فهو ترك الغرب، واتّجه إلى المشرق، ليؤكِّد لنا على عظمة المشرق الروحية، لأن الغرب قد غرق في أوحال المادة والترف والعنف ونسِيَ هو الأخير رسالته الحضارية التي أتى بها علماؤه وفلاسفته وفنانوه العظماء!!
    ولكن، ما هي قصّة هذا المشرِق؟! إننا عندما نتحدّث عن الفلسفات الشرقية، فغالباً ما نتطرّق إلى الفلسفة العربية أو الهندية أو الصينية أو اليابانية، ولكننا ويا للأسف ننسى أمراً هاماً وأساسياً، ألا وهو الفلسفة الإيرانية التي تألّقَت على يد الملا صدر الدين الشيرازي في القرن السابع عشر، ولا ننسى أن إيران كانت نبعاً تدفّقَت منه أرواحٌ عظمى قديماً مثل زرادشت الذي ربما كان على أحر من الجمر بانتظار وصول إشعاع الإسلام مروراً بماني الذي أكرمته إيران آنذاك أيما إكرام، ومع وصول الإسلام أخيراً إلى إيران تدفّقَت ينابيع هائلة خرج منها السهروردي الإشراقي في القرن الثاني عشر، ولعل أحد معاصري ابن عربي كان روزبهان البقلي الشيرازي (تُوفّيَ سنة 1209م) وكان ممن يُسَمّون في عرف التصوف بـ «أرباب الهوى» وهو الذي مهّد إلى ظهور شاعر إيراني آخر اعتبره غوته الألماني أحد أعظم أربعة شعراء في العالَم ألا وهو حافظ الشيرازي، كما لن ننسى بالطبع أبي يزيد البسطامي بشطحاته الصوفية الشهيرة، ولن ننسى فريد الدين العطار النيسابوري الذي توفي سنة 1220م والذي حمَل جلال الدين الرومي حين كان طفلاً بين ذراعيه وتنبّأ له بمستقبل صوفي كبير، وترك فريد الدين العطار النيسابوري أثراً عظيماً في التصوف، وهو «منطق الطير». وبالفعل حصل ما تنبّأ به النيسابوري، فها هي ذي قمة من قمم الروحانية في الإسلام تتألق في شخص مولانا جلال الدين الرومي الذي أتى من فارس هرباً من اجتياح المغول، وتذكر بعض المراجِع بأنه تم لقاء بين هذين الجبَلين في بلاد الأناضول وأنا أقصد بالجبل الآخر الشيخ محي الدين بن عربي.
    والحق أن آسيا الوسطى أو ما نسميها الآن بتركيا لم تعرف التصوف الحقيقي ولا حتى روحانية الإسلام، وكان تاريخها مفعماً بالمجازر التي ارتكبتها بحق شعوب أخرى، واشتهرَت بأطماعها في البلاد التي تجاورها، ومنها أتى العثمانيون الذين أغرقوا منطقتنا العربية بالظلمات على مدى عصور طويلة، وليس هذا فحسب بل إن ما يُسمّى الآن بتركيا قد قامت باحتكار مولانا جلال الدين الرومي على الرغم أن أعظمَ ما كتبَه (وهو «المثنوي») قد تمّ نظمه شعراً باللغة الفارسية، وانتماؤه إلى فارس لا إلى تركيا.


    الشيخ الأكبر


    نعود إلى وليِّنا ابن عربي فوجوده في بلاد الأناضول لم يكن له من معنى أكثر من حمله نور الإسلام الروحي إلى تلك البقعة الفقيرة روحياً، وبالتالي فإن مقامه بمدينة قونية كان له أهمية عظمى في مصير ووجهة الحياة الروحية للتصوف في المشرق الإسلامي بكامله. فهناك التقى تلميذه صدر الدين القونوي الذي كان صديقاً لمولانا جلال الدين الرومي. وتلميذ ابن عربي (أي صدر الدين القونوي) شاء أن يموت ويُسَجّى بثياب معلمه ابن عربي، هذا من جهة، ولن ننسى عظمة قامة ابن عربي حين نتذكّر أن شيخاً كبيراً في عالَم الصوفية والفتوّة والجهاد وهو الأمير عبد القادر الجزائري لم يشأ أن يُدفَن إلا إلى جانب من اعتبره معلِّمَه ومُلهِمَه الروحي، وهو الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي. وكان الأمير عبد القادر الجزائري قد علّمَنا أن الجهاد على أرض الواقِع ملازِم للجهاد الروحي للمتصوف، هذا الجهاد الذي يُسمّى بالفتوة في صوفية الملاماتية علماً أن الشيخ الأكبر كان قد اعتبر نفسه ملاماتياً. وعلّمَنا الأمير عبد القادر الجزائري معاني الفتوة بأن هنالك جهادين، جهاد زائف وهو عنف أناني لا يعرف معاني الجهاد والتضحية، ويأخذ معاني التعصب والأخذ بالثأر، وجهاد آخَر وهو الجهاد الحقيقي الذي يرتبِط بمعرفة العدو الحقيقي، ومواجهته ضمن حضور التجربة الصوفية، أي الوعي الذي انطلاقاً منه وحده فقط ندرك بأن الشيطان يتنكّر بهيئة ملاك من نور، وينفث فينا سموم البغضاء والتفرقة ويزيّن لنا بأنها جهاد وهي جهل لا جهالة بعده.
    أعود إذن إلى نقطة كنت أشرت إليها، هي أن ابن عربي يشكل عقدة كونية يلتقي فيها التصوف الشيعي والعرفان الإسماعيلي بالتصوف السني، وليس عبثاً استضافة ابن عربي من قِبَل عائلة نبيلة إيرانية تنحدِر من أصفهان حيث التقى فتاة كانت ابنة الشيخ الذي استضافه، فمثّلَت هذه الفتاة لابن عربي ما مثّلَته بياتريس لدانتي، وكما يعبّر هنري كوربان «لقد كانت وظلّت بالنسبة لابن عربي المظهَر الدنيوي للصورة المتجلاة للحكمة الخالِدَة، وإليها يدين بتعلمه لمذهب العاشقين».
    فكما أشرت، أنه في شخص ابن عربي يتصالَح التشيّع أو الشيعة مع السنة، ويلتقيان في ألَق صوفي. وفيما يسميه دارسو ابن عربي مرحلة النضج عنده، يشير هنري كوربان إلى بعض فصول كتاب «الفتوحات المكية» التي تعبق بالشذى الشيعي مثلما هو الحال في الفصل الرابع والثلاثين من طبعة القاهرة المجلد الأول الصفحة 195 والذي يتناول فيه «سر سلمان» (سلمان الفارسي أو سلمان بك) يقول هنري كوربان: «ابن عربي يربط بسلمان أولئك الذين يسميهم التصوف "أقطاباً" باعتبارهم ورثة له وهو يتأول بكلمات لا يمكن لأي شيعي إلا أن يصدق عليها، الآية 35 من سورة الأحزاب، التي هي أحد أسس التشيّع (وهي الآية التي تُقدِّس الأربعة عشر المعصومين: النبي الكريم، وابنته فاطمة، والأئمة الاثني عشرة)».
    أخيراً وليس آخراً..
    ماذا بوسعي أن أكتب أو أعبِّر عن عظيم وطأت قدماه تراب
    دمشق فحوّلَته ذهباً، لم يشأ ابن عربي أن يترك دمشق التي عاين بولس نور المسيح على أبوابها، دمشق التي قامت عليها مآذن الجامِع الأموي، والتي تكاد تصبح أسطورة للأساطير كلها، فشهِدَت علماء كبار وشيوخ طرق وأولياء وقديسين، لم يشأ هذا العظيم أن يترك دمشق جائعة فترك رفاته فيها ومع رفاته ترك بركته على هذه المدينة المقدّسَة، ولعلّه بين الحين والآخَر يطوف في سمائها، يحرسها أو يحرس العباد المخلصين والطيّبين والمسالِمين والودعاء من كل حدب وصوب، ولعله يذرف دموعاً روحية على ترابها ليجعله خصباً ويهيّئه لولادات روحية لا تنضب!!
    ولعله تتناهى إلى مسامع قلوبنا وهو يردد أبياته الشهيرة لا في سماء دمشق فحسب بل في سماء سورية، وفي سماء الكون كله يقول فيها:
    لقد صار قلبي قابلاً كل صورة ..|.. فمرعى لغزلان ودير لرهبان
    وبيت لأوثانٍ وكعبة طائف ..|.. وألواح توراة ومصحف قرآن
    أدين بدين الحب أنّى توجّهت ..|.. ركائبه فالحب ديني وإيماني



يعمل...
X