إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

هنا يرقد آخر الأطفال في العالم

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • هنا يرقد آخر الأطفال في العالم

    هنا يرقد آخر الأطفال في العالم

    زينب عساف
    "شخّوا على قبري" (محمد الماغوط، "ملحق النهار"، 3 آذار 2001)، هكذا ختمتَ الكلام أيها الشاعر، غير آبه لما سيقال، ناسفاً كل الرثاء المقبل.
    حسناً، ماذا تريد بعد؟ أيها البدوي الأحمر، أغفر لنا، سنسجن كل الشتائم والكلمات العارية الشوهاء التي تتدافع الآن للحاق بك، وسنسمح فقط للكلمات"المهذّبة" الباردة كتابوت مغلّف بعلم وطنك، بالمرور. ستكرهنا وتكره كلماتنا ومراسمنا، وسنحبّك كما يليق بنبي ملعون حشا مسدسه بالدموع وأطلق النار. أذكرك الآن كما رأيتك للمرة الأولى (أكتشف أنها الأخيرة اليوم) حين كرّمتكَ مؤسسة سلطان العويس الثقافية في دبي، قبل أسابيع قليلة. للحظ مآثره يقولون، وسخفه أقول. لماذا؟ كيف أصف تكريم أكبر المتسكعين العرب؟ درع ووسام فوق قلب لا يزال يحمل "آثار الأقدام"؟ متسكعنا الأكبر ينهي حياته بتكريم؟ يومها قال المثقفون الذين حضروا اللقاء: "يستأهل الماغوط!". ووقفت أنت بقامتك المنحنية وعباءتك السوداء ملوّحاً للكاميرا بيد، ومثبّتاً عكازك كعقب بندقية باليد الأخرى. خلناك جندياً مهزوماً، أو أليفاً ومدجّناً، عندما رأيناك في الفندق وقبعتك الشهيرة منحنية قليلاً، لكنك حرصت على السخرية من مراسم تكريمك كما تسخر الآن من شعائر دفنك. تركت الندوة المخصصة للمكرمين وخرجت أكثر من مرة، تارة للتدخين، وطوراً لالتقاط الصور التذكارية مع المعجبين. ضجِراً كنت ومتبرّماً كعادتك، عرفناك حينها: محمد الماغوط المتشرّد، محمد الماغوط العصي على التكريم وعلى الموت. يؤسفني أن تكون مقالتي الأولى عنك مقالة رثاء. لكني أبتسم إذ أتخيلك الآن رافعاً رجلك من بين أقمشة الكفن البيضاء، ورافعاً إصبعك الوسطى في وجه العالم والمعزين. أيها الشاعر، سنكتب على قبرك ما كتبته على قبر زوجتك الشاعرة سنية صالح: "هنا يرقد محمد الماغوط، آخر الأطفال في هذا العالم".
    في أحد اجتماعات مجلة "شعر"، قرأ الشاعر أدونيس بعض القصائد من دون أن يكشف عن اسم الشاعر، فراح المستمعون يتساءلون: "لمن هذا الشعر المترجم؟ لرامبو أم لبودلير؟". بعضهم ظنّها قصائد حديثة غير منشورة لأدونيس، الذي سرعان ما أشار إلى شاب مجهول، أشعث الشعر، قائلاً: "هو الشاعر". لتردّد بيروت من بعده: "هو الشاعر". أما هو فأعلن: "كتبت لأنجو"، مدركاً أنه لن ينجو أبداً.
    يقول الماغوط انه أصبح شاعراً حين رأى مستقبله "على نعل شرطي" أثناء تجربته في سجن المزّة وهو بعد في ريعان الشباب. كان ذلك في العام 1955، حين أمضى تسعة أشهر، كانت كافية لتغيير مسار حياته. لن يحلم ابن السلمية (قرب حماه) بمتابعة دراسته في كلية الزراعة بعد ذلك التاريخ، بل سيحزم حقائبه نحو عاصمة الشعر والأدب: بيروت. وعلى الرغم من أن تهمة سياسية هي التي ألقت به في زنزانة، إلا أنه لم يأخذ انتماءه الحزبي على محمل الجد يوماً: "لم أكن قابضاً الحزب القومي (السوري الإجتماعي) ولم أصمد من أجله، بل لأن طبعي عنيد". وإذا كان قد ألّف أولى مسرحياته في السجن، إلا أن أولى قصائده ظهرت في العام 1958 وهو حر، في العدد الخامس من مجلة "شعر".
    عُرف عن الماغوط حبّه للعزلة، لذلك ابتعد عن أجواء المثقفين وجلساتهم ومناقشاتهم، ليحافظ على نقائه، وهو"لم يحب أو يكره أحداً في حياته سوى الفقراء". غادر بيروته، التي كانت تمتد بين شارعي الحمراء وبلس والروشة، إثر صدور قرار بإبعاده عنها، وعاد إلى الشام حيث استقرّ حتى نهاية حياته، كمن يعود إلى فتاة أحبّها في صغره ورآها بعد خمسين عاماً فلم يعرفها. قاتل المرض طويلاً، وتمسّك بالتدخين وشرب الخمر، محتقراً جسده الذي لم يعد يطاوعه ومعترفاً بالقطيعة بين هذا الجسد وعقله.
    الماغوط ابن الحداثة الشعرية اللبنانية، هو أحد أهم رواد قصيدة النثر العربية، وشاعر التسكع من دون منازع. أحدث ديوانه الأول، "حزن في ضوء القمر" (دار "مجلة شعر"، 1959) انقلاباً حقيقياً في مسيرة القصيدة العربية، ما زلنا نحسّ ارتداداته في إنتاجات الأجيال اللاحقة من الشعراء الشباب. لقد كتب الماغوط ديوانه بجوعه وحرمانه من خلال لغة واضحة "كسهل البقاع"، نافذة "كأنين الهواء القارس"، ومتوهجة كـ"عاصفة من النجوم"، مستحضراً كل حسراته وآلامه التي خوّضت فيها طفولته، وجرع شبابه كأسها، وأمته التي "تشهق بالألم والحرير". لقد أسس الماغوط لقصيدته منذ ديوانه الأول، أو بالأحرى أسس لطريقة جديدة في الكتابة. وتتالت دواوينه: "غرفة بملايين الجدران" (1960)، "الفرح ليس مهنتي" (1970)... صحيح أن شاعرنا لم يجعل من الفرح مهنته، لكنه لم يترك في جسد الكتابة مكاناً لم يطبع عليه بصماته. فقد كتب في المسرح: "العصفور الأحدب"، "المهرج"، "ضيعة تشرين"، "كاسك يا وطن"... وكتب رواية وحيدة هي "الأرجوحة" (1974). إضافة إلى العديد من المسلسلات التلفزيونية والأفلام السينمائية.
    الشاعر الذي سمّى أحد كتبه "سأخون وطني"، سمّى ابنته: شام. خيانته على الورق، بقيت على الورق. لقد هجا الماغوط وطنه من فرط محبته له. رفسه وبكى على ركبتيه. لقد رحل محمد الماغوط الشاعر الذي قال إنه كان في طفولته يأكل التراب.
    ولكن: هل أخذ الماغوط حقاً حصته من تراب وطنه؟
يعمل...
X