إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

الماغوط - الكويت

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الماغوط - الكويت

    سعدية مفرح -الماغوط - الكويت

    سعدية مفرح

    (الكويت)


    'سأدخن همومي وجراحي كما لو كنت في نزهة على شاطئ البحر ووراء القضبان اعقد لقصائدي شرائط

    وجدائل مدرسية بيضاء وأطلقها من النافذة، ثم أتابع خطوات السجان وهو يذهب ويجيء أمام زنزانتي كأنها آثار قلمي..'.

    وفعلا.. فعل محمد الماغوط كل ذلك قبل أن يضع النقطة الأخيرة على السطر الأخير في قصيدته الأخيرة،

    ويغادرنا ساخرا من كل شيء، عاريا من كل شيء، وغير واثق سوى من قدرة الشعر على اجتراح معجزات

    لم يعد لها مكان في زمان رمادي لا يحب المعجزات ولا يحترم المؤمنين بها وحتى عبر القصيد وحده.

    رحل محمد الماغوط إذا، بعد أن كتب كثيرا من الشعر الذي لا يشبه أي شعر آخر وبعد أن عاش حياة مزدحمة

    بالمعاني والمواقف والكلمات المفاجئة حتى لمن اخترعها، ربما لأنها كانت دائما تأتي في سياق الدهشة الشعرية

    القادرة على التجاوز بطاقتها الذاتية بعيدا عن رؤى الآخرين وأفكارهم ونظرياتهم ومجلاتهم التي بشروا بواسطتها بالشعر الجديد.

    كان الماغوط الذي رحل مساء أمس الأول وهو مازال في أوائل سبعيناته شاعرا قادرا على تجاوز نفسه الشاعرة في

    كل كتاب جديد بل في كل قصيدة جديدة، وربما كل كلمة من كلماته التي ينتقيها بعناية وحرفية رغم أنها تبدو عفوية

    إلى الدرجة التي قد يشك بوجودها في معجم اللغة أولئك المتشككون بكل ما هو خارج هذا المعجم، لكن الماغوط

    المنشغل بمتابعة وقع خطوات السجان وهو يذهب ويجيء أمام زنزانته كأنها آثار قلمه، لا يعير انتباها لكل ذلك، بل

    لعلنا لا نبالغ كثيرا إذا قلنا انه ومنذ أن قرر أن يكون شاعرا كان! وبهذا فلم يجد أمامه بدا من أن يضع قلمه محورا

    لكل شيء، وهدفا لكل شيء وربما سببا لكل شيء أيضا.

    في قصائده الكثيرة ومسرحياته الساخرة وسيناريوهاته الموغلة في الحياة، حاول الماغوط أن يرسم ذاته الحزينة في ضوء

    القمر، مستعيدا في كل كلمة يدونها جزئية من جزئيات الوجع المهيمن على الروح، مستفيدا من قدرته الخرافية على استرجاع

    لحظات الحياة كلها، بأحداثها المهمة، ودقائقها غير المهمة، وألوانها المتناسقة والمتنافرة وأصواتها الصاخبة والهادئة، ومعانيها

    الضاربة في غيابات البشرية في تعميد ذلك الرسم بماء الموهبة الخالصة لوجه الشعر والإبداع والحقيقة

    التي ظل يبحث عنها طويلا عبر إنتاج المزيد من الأسئلة.

    لكن شاعر الأسئلة والحزن رحل، وظلت أسئلته الحقيقية دون أجوبة حقيقية، وظل الحزن الكبير عنوانا للشاعر

    الذي كان يؤمن بأن الفرح ليس مهنته، ولذلك حاول تكريس ذاته للكتابة مهنة وموهبة، بداية ونهاية، قرارا وخيارا

    ، فتوزعت روحه القلقة على كل محطات الكلام شعرا ونثرا، قصيدة ورواية ومسرحية ومسلسلا تلفزيونيا، وفيلما

    سينمائيا ومقالا وخاطرة وقبل كل شيء وبعد كل شيء حزنا متشظ بين الأسطر، وسخرية صاخبة اقترحت له

    أحد أهم عناوينه الإنسانية البارزة باعتباره الشاعر الساخر جدا في جغرافيا عربية لم تعد تحتفي بالشعر، أو تعترف بالسخرية.

    'بعد أن اكتب كل ما يروى لي

    أقص دفاتري على شكل زورق وأشرعة وصوار

    وألقيها في عباب المجهول

    ثم انصرف إلى الصحراء

    لا عرف ماذا افعل بها

    أو معها..'.

    لكن الماغوط الذي كتب كل ما روي له، وقص دفاتره على شكل زورق وأشرعة وصوار، ثم ألقاها في عباب المجهول..

    لم ينصرف إلى الصحراء بأسئلته اللحوحة، فقد كان الموت واقفا على باب غرفته ذات الجدران الملايين

    بانتظار رأسه الممتلئ حتى آخره بالأحلام والأمنيات.

    فهل مات الماغوط فعلا؟

    هل انتهت تلك الرحلة المضنية التي بدأها الشاعر الحزين مشتبكا مع الحياة في كل تضاريسها الزائفة

    والحقيقية منغمسا في ذهول الحبر، وحرقة الدمع ورهافة الشعر الجميل حيث الحرية هي اختصاصه الوحيد؟

    ربما.. لكن ما بقي من الماغوط كثير جدا.. أكثر من دواوينه، ومسرحياته ومسلسلاته، أكثر من مقالاته.. أكثر من كل كلماته..

    فقد بقي فيه ما توزع في اقتراحات أجيال من الشعراء تأثروا بحزنه كما تأثروا بقصيدته وانداحوا في بحر أحلامه كما انداحوا

    في بحر كلماته، وحاولوا التجاوز لأنهم تعلموا منه أن التجاوز فعل أصيل من أفعال الشعر والحياة أيضا.

    أقسى ما في الوجود

    أن لا يكون هناك ما تنتظره

    أو تتذكره

    أو تحلم به!!'

    ولان الماغوط لم يعد أمامه ما ينتظره أو يتذكره أو يحلم به، وفقا لاشتراطات المرض القاسية، واقتراحات

    الدواء الأكثر قسوة، فقد رحل مفضلا أن يبحث له في خضم الموت عن مهنة تليق بالشعراء بدلا من الفرح المتأبي والحزن المستكين.

    رحل الماغوط أذن بعد أن ساهم في جعل الحياة أكثر خفة وبساطة، وبعد أن ساهم في جعلنا أكثر قدرة على احتمالها،

    ولكن قبل أن يضع النقطة الأخيرة على السطر الأخير في قصيدته الأخيرة.. الأثيرة!

    القبس 5 أبريل 2006

يعمل...
X