إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

ابن رشد - ضرورة النظر العقلي في الشريعة وللمشرع 3 - د. محمود خضرة‏

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • ابن رشد - ضرورة النظر العقلي في الشريعة وللمشرع 3 - د. محمود خضرة‏

    ضرورة النظر العقلي في الشريعة وللمشرع -3-
    الدكتور : محمود خضرة


    على الرغم من أن ابن رشد كما رأينا كان يمارس الفلسفة في ظل سلطة تحميه إلا أنه كان يدرك أنه يتوجه بفكره إلى مجتمع يسيطر عليه الفقهاء وينظر تحت تأثيرهم إلى الفلسفة على أنها بدعة، وإن من يتعاطاها مبتدع أو زنديق أو ملحد. وهنا أدرك ابن رشد أنه لن يكون للنظر العقلي أية مشروعية في هذا المجتمع إلا عبر طريق الدين، وإلا من خلال البرهان على أن هدف النظر العقلي هو تحقيق القيم والمثل التي جاء بها الدين.ورأى أن الفقهاء ينطلقون في عدائهم للفلسفة من مواقف براغماتية هي:[إن مالا يبنى عليه عمل غير مطلوب في الشرع">(11)،[وإن كل علم لا يفيد عملاً فليس في الشرع مايدل على استحسانه">(12)، [وإن الشريعة أمية لم تخرج عما ألفته العرب">(13) والمقصود بأمية الشريعة هي:[ إن الفلسفة غير مطلوبة لأنها صعبة المنال كي يتعرف بواسطتها على آيات الله ودلائل توحيده للعرب الناشئين في محض الأمية">(14).‏
    يرد ابن رشد على حجج الفقهاء هذه بأن الشريعة استحسنت كل علم على الإطلاق كما في قوله تعالى:[أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وماخلق الله من شيء">(15) وقوله أيضاً: [فاعتبروا يا أولي الأبصار">(16)، [الآية الأولى تدل على النظر في جميع الموجودات، والآية الثانية تنص على وجوب استعمال القياس العقلي أو العقلي والشرعي معاً">(17) إن رد ابن رشد استناداً إلى النص القرآني يبدو في غاية المعاصرة العلمية، فالحقيقة كنتاج للنظر العقلي تبقى مقدسة سواء أجتنينا منها الفائدة العلمية مباشرة أم لم نجنها وقدسية الحقيقة تنبع من كونها يقينية، ومن كونها إن الله أمر بالبحث عنها والإسلام وشريعته حثا على العلم بصيغة العموم ودون التفريق بين علم وآخر، وإن حقيقة النظر العقلي (الفلسفة) وهي بغاية الاهتداء إلى الخالق. يقول ابن رشد: [إن فعل الفلسفة ليس شيئاً أكثر من النظر في الموجودات واعتبارها من حيث دلالتها على الصانع، أعني من جهة ماهي مصنوعات... وكلما كانت المعرفة بصنعتها أتم كانت المعرفة بالصانع أيضاً أتم">(18).‏
    ومن يحتج على ضرورة النظر العقلي في الشريعة وللمشرع على أنها بدعة، لم يعرفها المصدر الأول من الإسلام فحجته باطلة يقول ابن رشد:[وليس لقائل أن يقول: إن هذا النوع من النظر في القياس العقلي بدعة، إذ لم يكن في الصدر الأول، فإن النظر في القياس وأنواعه هو شيء استنبط بعد الصدر الأول وليس يرى أنه بدعة، فكذلك يجب أن نعتقد النظر في القياس العقلي">(19).‏
    إن حجة ابن رشد بالغة الإفحام للذين ينكرون دور العقل، فقد أخذوا بالقياس الفقهي بعد الصدر الأول عندما تعقدت مشاكل الحياة، فكيف حق لهم استعمال العقل هناك، ولماذا يرفضونه هنا الآن وقد تعقدت مشاكل الحياة أكثر وتتعقد باستمرار في كل مرحلة زمنية لاحقة.‏
    إن ابن رشد كفيلسوف ومسؤول وكقاض وفقيه، ومرب ومواطن ومسلم، كل هذا كان يفرض عليه النظر العقلي في الشرع، في سلوكه اليومي، ولهذا يقول:[يجب على المؤمن بالشرع أن يستنبط من الأمر بالنظر في الموجودات وجوب معرفة القياس العقلي وأنواعه.">(20). وممارسة ابن رشد للنظر العقلي في سلوكه اليومي جعله يكتشف مشاكل مواطنيه عبر صلته بهم كقاض أو كأستاذ وجعله ذلك يلتمس لهم بالعقل الأعذار في أخطائهم، فيروى عنه أنه طيلة قضائه لم يتعمد الحكم بالموت على أحد ولا قطع يد أحد ولعله هنا كان يسلك مسلك الخليفة العادل الفاروق عمر رضي الله عنه في البحث عن أسباب الجريمةِ، وتعطيل النص القرآني القاضي بقطع يد السارق، وكان يأخذ بالقاعدة الفقهية الشهيرة [ادرؤوا الحدود بالشبهات"> حتى لا يؤخذ المتهم بالظن.‏
    إن ابن رشد في إلحاحه على ضرورة النظر العقلي في الشريعة لم يكن ينطلق فقط في مشاكل العصر فحسب بل من فهمه لجوهر الإسلام على أنه قائم على التسامح:[وماجعل عليكم في الدين من حرج">، وإنه دين يسر وليس دين عسر. وهذا التسامح لصالح الكثرة الغالبة من المسلمين لايخل بشرع الإسلام و قانونيته في العقاب والثواب الدنيوي والأخروي، وهذا التسامح ليس مرحلة آنية لعصر معين، بل هو مبدأ ثابت يتجدد مع تجدد مشاكل الحياة التي تفهم بالنظر العقلي وتقدم لها الحلول، فوقائع الحياة المتغيرة هي التي تلزم الفقيه بالأخذ بالنظر العقلي وتجديد أحكامه، ولا يرى ابن رشد مانعاً من أن نأخذ منهج العقل للنظر في شريعتنا من أناس يختلفون عنا في الملة. مادام هذا المنهج يؤدي بنا إلى الوصول إلى الحقيقة يقول ابن رشد:[.... إن الآلة التي تصح بها التزكية ليس يعتبر في صحة التزكية بها كونها آلة المشارك في الملة أو غير مشارك، إذا كانت فيها شروط الصحة">(21).‏
    إن إصرار ابن رشد على ضرورة استخدام النظر العقلي (الفلسفة) في الشريعة والمشرع إنما ينبغي في تصوري من أمرينِ اثنين أولهما: رفضه الشديد لكل ألوان التعصب، [لأن التعصب يؤدي بالمتعصب إلى إغلاق كل أبواب الحرية والانفتاح على الآخر، مادام هذا المتعصب يعتقد أنه وحده يمتلك الحقيقة المطلقة">(22). ورفض ابن رشد للتعصب ينسجم مع الأمر الآخروهو إيمانه بوحدة العقل البشري. لأن الأسس والمقاييس التي يستند إليها هذا العقل في معرفة الواقع والوصول إلى الحقائق هي واحدة. ووحدة العقل البشري تؤدي إلى وحدة الحقيقة.‏
    لقد وجد ابن رشد وهو يتبنى العقلانية أنه مضطر إلى إعمال النظر العقلي في الشريعة. وبدت له فلسفة أرسطو قمة العقلانية، لكن المشكلة الصعبة في التوفيق بينهما، لاسيما ومجتمعه يرفض الفلسفة رفضاً قاطعاً، ويبدو أن صعوبة المشكلة قادته إلى الفصل بينهما، وإنما لا يلتقيان إلا في الغاية وهي الكشف عن الحقيقة المطلقة، فالعلاقة بينهما هي علاقة التساوي في الهدف وليست علاقة الاندماج، لأنه لا يوجد أية مشابهة بين عالميهما. كما لا يوجد أية مشابهة أو مماثلة بين المسائل التي يثيرها كل منهما. فمسألة الذات الإلهية لا يجوز أن تدرس عن طريق المشابهة والمماثلة مع الذات الإنسانية، لأن مثل هذه المشابهة بين الله والإنسان تنزل الله إلى مرتبة الإنسان، وترفع الإنسان إلى مرتبة الله(23) وكذلك الأمر في فعل الله وفعل الإنسان(24) وعلم الله وعلم الإنسان(25)، إذ لا يجوز عند ابن رشد قياس فعل الله على فعل الإنسان ولا علم الله على علم الإنسان.‏
    فالفلسفة والدين مفصولان ولكل منهما مبادئه وأصوله. ولهذا لا يجوز أن تخلط مبادئي بمبادئ الفلسفة. لكن رجل الدين يفهم الفلسفة ضمن حقلها بعد أن يسلم بمبادئها. والفيلسوف يفهم الدين ضمن حقله بعد أن يسلم بمبادئ الدين.‏
    يقول ابن رشد:[إن الحكماء من الفلاسفة لا يجوز عندهم التكلم ولا الجدال في مبادئ الشريعة وذلك لأنه لماكانت كل صناعة لها مبادئ، وواجب على الناظر في تلك الصناعة أن يسلم بمبادئها ولا يتعرض لها بنفي ولا إبطال، كانت الصناعة العملية الشرعية أحرى بذلك">(26).‏
    وعلى الرغم من استقلالية كل من الدين والفلسفة أحدهما عن الآخر، إلا أن الدين يجب أن يدرس في حقله الخاص بالمنهج العقلي، وهو المنهج نفسه الذي تدرس به الفلسفة، ويحاول ابن رشد في تآليفه الخاصة(كتبه الأربعة) أن يضبط العلاقة بين الدين والفلسفة بحسب ناظمين ثابتين وهما: إن الحق لا يناقض الحق، والحكمة هي الأخت الرضيعة للشريعة، وإنهما يلتقيان في الهدف وهو الوصول إلى الحقيقة المطلقة، ولهذا لا يجوز عند ابن رشد تحريم الفلسفة باسم الدين ولا مهاجمة الدين باسم الفلسفة لأن مثل هذا الرأي، كما يقول ابن رشد:[هو إما رأي مبتدع في الشريعة لا من أصلها وإما رأي خطأ في الحكمة أعني تأويل خطأ عليها.">(27)‏
    والسؤال الآن ماذا كان يريد ابن رشد من كل هذا الجهد الفكري الذي بذله من أجل إثبات مكانة الفلسفة ثم الإصرار الشديد على ضرورة فصلها عن الدين، ثم إخضاع الشريعة لمنهجها العقلي؟.‏
    الجواب فيما افترض هو: إذا قلنا إن جملة العلوم الاجتماعية وعلى رأسها علم السياسة، وقيادة المجتمع هي كلها ضمن إطار الفلسفة، وإذا بنينا الحكم على قوله بضرورة فصل الدين عن الفلسفة وتابعنا الاستنتاج المنطقي إلى نهايته، أمكننا القول: إن ابن رشد كان يميل إلى ضرورة فصل الدين عن الدولة. وبنى هذا الاستنتاج على جملة قضايا.‏
    أولها : أثر ابن رشد في فلاسفة اللاتين المسيحيين وبعدهم في فلسفة عصر النهضة الذين ناضلوا لفصل الدين عن الدولة.‏
    ثانيها : إن الفقهاء في عصر ابن رشد يدركون أنه في الإسلام لا يجوز فصل الدين عن الدولة، ومن المحتمل أن يكونوا قد اشتموا في فلسفته مايوحي لهم بهذه الخطورة. ومن المحتمل أن يكون أحد أسباب نقمتهم عليه.‏
    وثالثها: ‏ليس صعباً على القارئ لفلسفة ابن رشد أن يجد فيها الكثير من المعاصرة والتحرير الفكري، وعلى رأسها مثلاً مناداته بحرية المرأة، وهو بحق يعتبر أول رائد في هذا المجال.‏
    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــ

يعمل...
X