Announcement

Collapse
No announcement yet.

الأديب ( وليم جميل هلسه ) كاتب وقاص أردني

Collapse
X
 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts

  • الأديب ( وليم جميل هلسه ) كاتب وقاص أردني

    وليم هلسه

    ولد وليم جميل هلسه في بيت لحم عام 1951، حصل على شهادة الدراسة الثانوية العامة.
    عمل في جريدة الدستور، ثم في مؤسسة الإسكان حتى تقاعد عام 2002، وهو عضو في رابطة الكتاب الأردنيين، واتحاد الكتاب العرب.
    مؤلفاته:
    17 قصة قصيرة (قصص: مشترك) رابطة الكتاب الأردنيين، عمان، 1976.
    الجدران المثقوبة (قصص) رابطة الكتاب الأردنيين، عمان، 1981.
    القصة القصيرة في الأردن (قصص: مشترك) دار البيرق، عمان، 1983.
    الرحيل إلى الداخل (قصص) المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1997.
    قصة:
    الرحيل إلى الداخل
    وليم هلسه
    كان مساء شتائياً بارداً، المطر يسقط رذاذاً ناعماً يبلل الوجوه والأشياء... الصمت الهادئ يلف كل أنحاء المدينة، والضباب يحجب الرؤية في الضواحي، العمارات والشوارع مبللة، تبدو الأشياء وكأنها تعمدت بالمياه... بالصمت والعتمة...
    كانا يسيران معاً، برغم برودة الجو، كانا يحسان بدفء لذيذ وغريب، يسري في جسديهما، قالت له وهما يسيران من الدوار الثالث باتجاه الأول:
    -كيف قررت أن ترحل؟
    تطلع في عينيها... وقال عندما أصبحا أمام أحد المطاعم:
    * انظري... كم هي جميلة أضواء الشموع!
    نظرت باتجاه الشموع.. كان ينظر في وجهها.. أحسَّ بأنفاسها الحارة تدفئ وجهه وتتسرب في خلاياه..
    أعادت السؤال مرة ثانية:
    -لماذا قررت الرحيل؟
    تحسَّس بطاقة السفر في جيبه... أحسَّ بأن شيئاً حارقاً قد لسع يده، سحبها... ودفن يده اليمنى في خاصرتها اليسرى، ضمها إليه بقوة.
    تنهد طويلاً.. أحسَّ بعطرها يتمدد أكبر من رائحة المطر والبرد والشجر... في روما –حيث يريد أن يرحل- لا تستطيع أن تحس رائحة المطر أو العطر... مطر روما بدون رائحة... بدون هذا الدفء الذي يتسرب إلى عظامك وكل خلايا الجسد.
    ***
    وصلا الدوار الأول، جذبه صوت فيروز الذي يتسرب من المقهى المتربع فوق الرصيف... استأذنته بالانصراف... لم يستطع أن يحدد هل يقبل أن تذهب قبل أن يتحدثا... أمسك يدها وهمس لها أن تبقى.
    دخلا معاً إلى المقهى... كان الدفء، وفيروز تغني عن الوطن الذي يهاجر، و "لا تندهي ما في حدا"، أحسَّ بالوحشة والخوف من الوحدة، حتى في أغاني فيروز هناك خوف ووحدة وعتمة!!
    قالت له بعد أن جلسا...
    -يولد النهار كل نهار... والشمس تشرق كي صباح... برغم الليل والعتمة... يولد الضياء... حملق في عينيها... رأى حزناً كبيراً... وخلف الحزن بدأت دمعة بالتكون... قالت.
    -الأزهار تتفتح دوماً... برغم البرد والمطر... حتى أثناء هطول المطر. تولد أزهار جديدة!
    بدأ يحس بالخوف من قرار الرحيل... بطاقة السفر في جيبه بدأت تكبر... تتضخم.. أحسَّ بأنها تضغط على صدره وقلبه...الاختناق... هل يكون هكذا؟! مرة أحسَّ أنه يختنق عندما كان يسير مع صديقته الإيطالية في أحد شوارع روما... هل هذا هو الخوف؟ مد يده وأمسك براحة كفها المسترخية على الطاولة... أحسَّ مجدداً بالدفء والأمان.
    -أضافت:
    -كيف ترحل... وتترك السنين والذكريات وكل الأشياء الجميلة؟
    الجرح يتسع... ينزف أكثر... هذا الوجع الذي يعيشه ما كان يريد لأحد أن يطلع عليه... ولكنها –لا يدري لماذا- تصر على معرفة أدق التفاصيل عن قرار الرحيل... وعن الوجع الذي كان سببه فيه.. وأن تعرف الحزن الذي يعيشه منذ فترة!
    ***
    ما عاد قادراً على الاستمرار... فَقَد القدرة والرغبة في العيش.. صديقته الإيطالية تنتظره في مطار المدينة التي يسعى إليها، بكل الحب والشوق والانطلاق... تنتظره ليمارسا معاً نوع الحياة التي يريدها بالضبط. التراكمات اليومية للتفاصيل الدقيقة تشكل عبئاً عليه، مشاكل عديدة لا يستطيع أن يحلها، ثم أنه يكره هذا المقهى... والأصدقاء... والتسكع في الشوارع المليئة بالقمامة ويكره عيون تراقبه... فَقَدَ حتى القدرة على الضحك بصوت مرتفع!
    تناول يدها الممدودة أمامه على طاولة وقبَّلها... قال:
    * أنت عنصر رئيسي في تكويني... لا أستطيع الفكاك أبداً... مزروعة في كل الدروب... ولكن العيون أيضاً مزروعة في الدروب... الكل هنا يبحث عن محطة يتنهي بها... ولكنني أبحث عن مكان ابتدئ فيه.. وتكون البداية التي أُريدها... هل تستطيعين أن تفهميني؟
    -قراراك –قالت- يعني الانتهاء... يعني الهروب.. يعني الخلاص... بدلاً من المواجهة... ماذا تحب هناك؟
    قبَّل يدها ثانية... وتركها تستريح بين يديه... قال:
    * ليكن الخلاص... فقد أرهقتني المواجهة: لا أستطيع الاستمرار.
    ملأته الدهشة... تضخمت بطاقة السفر أمام عينيه... حجبت الرؤية، للحظة شعر بأن رفيقته قد غادرت المقهى، كلماتها الأخيرة تكبر... وتزداد حدة.. تطغى على صوت فيروز... فرك عينيه ليتحقق. هل تركته حقاً وانصرفت؟ تكبر الأصوات، تصم الآذان!
    قالت قبل أن تغادر:
    -تستطيع أن ترحل كما تريد... ولكن تذكر أن الشمس تشرق هنا كل صباح مرة جديدة؟
    ***
    الرحيل... الشمس.. النهار.. طنين الأصوات يصم أُذنيه، ما عاد يسمع شيئاً.. كلماتها تكبر أكثر.. ترسم فوق مساحات الدماغ.. أحسَّ أنه يختنق.. غادر المقهى..
    تتقلص الشوارع!... تنكمش المدينة.. وتكبر بطاقة السفر... تصبح أكبر حجماً من بنايات المدينة... تغطي مساحة الشوارع فيها.
    تقوده قدماه إلى وسط المدينة يتذكر المقهى الذي كان يتحاور فيه مع الأصدقاء كل مساء... يدخل... يسمع صوتها ينشد قرار الرحيل الذي كتبه عندما قرر أن يرحل.. ووزعه على الأصدقاء.
    الرحيل... تكبر الكلمة... تصبح إخطبوطاً يتمدد فوق كل المدينة.. فوق كل الأشياء التي ترتبط معه، يكره أن يرحل، يخاف، هذا الخوف اللعين يتسرب إلى داخله بوحشية... يملأه تماماً، يخرج من المقهى لا يدري كيف يسير... يصل إلى غرفته... يسمع مجدداً صوتها... الرحيل... الشمس... النهار... روما.. الكلمات مطارق تضرب جمجمته من الداخل... يستلقي... يسقط في دائرة اللاوعي، ترتسم عيناها فوق الجدران، تحدق فيه وتدعوه بصمت إلى البقاء.
    ***
    استيقظ في صباح اليوم التالي... لم يستطع أن يرتب في ذاكرته أحداث الأمس... كان متأكداً من شيء واحد فقط... أنه لم يعد يرغب في الرحيل... فقد كان متعباً... منهكاً... وأقنعته هي بالبقاء أحبها.. قال:
    * أتمنى أن تكون موجودة الآن.. أضمها.. أُقبِّلها... أحملها بين ذراعي... ونفرح معاً!
    نظر إلى ساعته كانت تتجاوز منتصف النهار بقليل... بطاقة السفر تتمدد فوق مكتبه... موعد الطائرة في العاشرة والنصف مزَّق البطاقة وأحرق قصاصاتها... أشعل سيجارة... وتنهد بارتياح... فقد أنتهى موعد الرحيل.
    *من مجموعة "الرحيل إلى الداخل".
Working...
X