في ذِكْرَى مَصْرَعِه 48: غِيفَارَا صَدِيق الطّبَقات الكّادِحَة والفِئات المقهورة
محمّد محمّد خَطاّبي
في التاسع من تشرين الأوّل/اكتوبر من عام 1967 لقي إرنيستو تشي غيفارا مصرعَه في أدغال بوليفيا، وفي التاريخ نفسه من العام الجاري 2015 مرّت الذكرى 48 لمقتله، وهو يُصدّر لمختلف مناطق العالم المقهورة – حسب ما كان يعتقده – ثورة على الظلم والتفاوت بين الطبقات الاجتماعية بين الناس، هذا الرّجل الأسطورة الذي غدا – في عُرف الكثيرين – رمزاً للكفاح والتمردّ والانتفاض في وجه الظلم، والتظلّم في مختلف أنحاء المعمورة، كان مقتنعاً بضرورة نقل الكفاح المسلّح إلى مختلف مناطق وأصقاع العالم الثالث، ولهذه الغاية أسّس جماعات تمرّد، وخلق حركات عصيان ومواجهة، وزرع بؤرَ حرب العصابات، أو في مختلف بلدان أمريكا اللاتينية وأفريقيا، وبتعاون مع الجيش البوليفي ووكالة الاستخبارات الأمريكية تم ّنصب كمين له في بوليفيا منذ ثمانية وأربعين سنة خلت فأردوه.
بوليفيا كوبا الأرجنتين… وتشي
ولقد أحيت كلّ من بوليفيا والأرجنتين وكوبا مؤخراً هذه الذكرى تحت رعاية الرئيس البوليفي إيفو موراليس نفسه، حيث دشّن مؤسّسة تربوية وتعليمية كبرى في مدينة «فايّي غراندي» تحمل اسم غيفارا تضمّ مدينة جامعية، من المنتظر أن يستفيد منها حوالي 1700 طالب، وقد شاركت الأرجنتين في هذا الاحتفال بوفد مهم يرأسه السفير الأرجنتيني في العاصمة البوليفية «لا باث»، كما حضر هذا الاحتفال مَنْ تُطلق عليهم كوبا «الأبطال الخمسة» الكوبييّن الذي قضوا زهاء 17 سنة في المعتقلات الأمريكية، والذين أطلق سراحهم بعد إعادة تطبيع العلاقات الدبلوماسية بين كوبا والولايات المتحدة الأمريكية في كانون الأول/ديسمبر المنصرم. كما شارك في هذه التظاهرة قائد عسكري كوبي كان قد وقع في الأسر خلال الحرب الصومالية الإثيوبية وظلّ معتقلاً ما ينيف على 11 سنة، وقد ألقيت كلمات حماسية من طرف ممثلي هذه البلدان الثلاثة ذكّرت بما سمَوْه «كفاح تشي غيفارا من أجل التحرير والانعتاق، الذي قدّم به خيرَ مثالٍ للعالم في هذا القبيل». وكانت رئيسة الأرجنتين كريستينا فرنانديث كيرشنير قد أرسلت لوحة تذكارية وُضعت في المكان الذي عثر فيه على جثة غيفارا ورفاقه، كما قام الوفد الكوبي بإزاحة لوحة تذكارية أخرى وُضعت هي الأخرى في المكان نفسه، بالإضافة إلى مجسّم تذكاري كبير كان قد وُضع بجانب ضريح أقيم في هذه المدينة لغيفارا. ويعرف اليوم الذي يُخلّد ذكرى مصرع غيفارا وهو الثامن من اكتوبر بـ»يوم المكافح البطولي».
ألحقت بشخصية تشي غيفارا صفتان تقومان على طرفيْ نقيض، وخلقت لدى الرأي العام العالمي اتجاهين إثنين متباينين، فمن جهة أصبح غيفارا لدى فئات عريضة من الناس رمزاً للثورة والتمرّد في مختلف أرجاء المعمورة ضد الظلم والتفاوت الطبقي والاجتماعي، فأصبح اسمُه يُقرن بالطبقات الكادحة، والفئات المقهورة، في حين يعتبره آخرون مجرم حرب، تقع على عاتقة تهمة اقترافه العديد من عمليات التقتيل الجماعي في مختلف البلدان، وعلى وجه الخصوص في أمريكا الجنوبية، وبعض البلدان الأفريقيّة .
لقد أصبحت صورته الشهيرة التي كان قد التقطها له المصوّر ألبرتو كوردا، واحدة ًمن الصور الأكثر شهرةً وانتشاراً في العالم على الإطلاق، كما أنّها تعتبر واحدة من الصّور الأكثر استنساخاً في مختلف أشكالها الأصلية ومتغيراتها، حيث استُعملت، وما فتئت تُستعمل في العديد من التجمّعات والتظاهرات والمسيرات والإحتجاجات السياسية والنقابية والعمّالية والاجتماعية، وسواها، كما أنها استغلّت من جهة أخرى في عالم الإشهار، والدعايات، والإعلانات، وغدت تبعاً لذلك واحدةً من أشهر أيقونات رموز الحركات المتمرّدة والثائرة، في مختلف أرجاء المعمورة.
ملاحظاته الفكريّة
لتشي غيفارا كتاب سجّل فيه «ملاحظاته الفكرية والفلسفية». وهي عبارة عن مخطوطات، وانطباعات، ومذكرات ومراسلات وخواطر وآراء وتعاليق وحواشٍ فلسفية وتأمّلات فكرية ونظرية، قامت بجمعها وتصنيفها الباحثة الجامعية الكوبية ماريا ديل الكارمن أرييت، وكتب مقدّمتها المؤرّخ الكوبي فيرناندو مارتينيس إيريديا، ويعالج تشي غيفارا فيها العديدَ من القضايا، والمواضيع المهمّة التي كانت تستأثر باهتمامه، وتشغل باله في تلك المرحلة المبكّرة من عمره، وفي طليعتها فلسفة كارل ماركس، حيث كان يقوم في كلّ مناسبة، أو كلّما سنحت له ذلك الظروف بقراءة وتحليل وانتقاد أعمال المفكرين الكلاسيكيين من الماركسييّن واللينينيين، كما كان يُعنى كذلك ببعض مؤلفات الكتّاب والمفكرين الذين كان تشي غيفارا يعتبرهم اشتراكيين هراطقة أو مارقين أو رجعيّين في نظره.
ملاحظات وخواطر ومذكرات إرنيستو تشي غيفارا وآراؤه في هذا القبيل، عبارة عن تعليقات فلسفية وتأمّلات نظرية مقسّمة إلى أقسام ثلاثة كبرى وهي قراءاته في مرحلة الشباب، والدفاتر والمذكرات التي كتبها في أفريقيا وبراغ وكوبا (1965- 1966)، ثم خواطره ويومياته وملاحظاته المكتوبة في آخر المطاف في بوليفيا (1966-1967).
رسالته الشّهيرة
في عام 1965 كان تشي غيفارا قد وجّه رسالةً شهيرةً إلى الزعيم الكوبي التاريخي أَرْمَانْدُو إنْرِيكِي هَارْتْ، الذي كان يترقّب وصول تشي غيفارا في «تنزانيا» بعد أن باءت الثورة في الكونغو بالفشل. وبعد أن دخل الثائر الأرجنتيني خلسةً إلى بوليفيا في ذلك الإبّان كتب يقول في الرسالة الذّائعة الصّيت إيّاها الآنفة الذّكر أعلاه: «لقد حشرتُ أنفي- بعد هذه الفترة الطويلة من الإجازات – في عالم الفلسفة، الشيء الذي كنت أنوي القيام به منذ مدّة بعيدة، وكان العائق الأوّل الذي يواجهني في هذا الصدد هو أنه في كوبا لم يُنشر شيء يُذكر، أو ذو أهمية حول هذا الموضوع، باستثناء بعض المراجع السّوفييتية التي لا تشجّع، ولا تمنح، أو تُفسح مجالاً حقيقياً للتفكير والتأمّل، ذلك أنّ «الحزبّ الشيوعي كان قد ناب عنك في ذلك، وأنت ما عليك سوى الانضباط والانصياع».
ويضيف تشي غيفارا في رسالته بلغة لا تخلو من السخرية والتهكّم والازدراء قائلًا: «كمذهب يبدو في الظاهر وكأنّه مناهض ومضادّ للماركسية، وأكثر من ذلك فإنهم في كثير من الأحيان يسبّبون لك الأذىَ، والأضرار والمضايقات والمتاعب».
أمّا الحاجز الآخر التي واجهني- يقول غيفارا- «فهو ليس أقلّ أهميّةً من سابقه، إنه يتمثّل في عدم معرفتي ودرايتي للّغة الفلسفية، لقد تصارعتُ بكلّ ما أوتيتُ من قوّة وضراوة مع المُعلّم الفيلسوف الألماني جورج فريدريش هِيغل، ولكنّه لم يُمهلني طويلاً، إذ في الجولة الأولى أوقعني بضربةٍ قاضيةٍ طريحاً مُجندلاً على الأرض».
كان تشي غيفارا شديدَ الانتقاد في ذلك الإبّان كذلك لخطط ومشاريع تلقين الفلسفة في النظام التعليمي للاتحاد السوفييتي آنذاك، كان قد اقترح على الزعيم الكوبي المذكور أرماندو إنريكي هارت، الذي كان قد تمّ تعيينه سكرتيراً عاماً لمنظمة الحزب الشيوعي الكوبي أن يعمل على إعداد برنامج جديد لدراسة الفلسفة في كوبا، إننا نجده يقول له في هذا الصدد: «لقد أعددْتُ برنامجاً دراسياً خاصّاً بي يمكن دراسته وتحليله وتحسينه لوضع لبنة أولى لبناء مدرسة حقيقية للتفكير»، ويعلّق غيفارا على ذلك قائلاً: «لقد قدّمنا الكثير، وينبغي علينا الآن كذلك أن نطلق العنان لتفكيرنا وعقولنا».
هَوَسُ الاطّلاع والتّحصيل
كان تشي غيفارا شديدَ العناية بالتحصيل والاطّلاع، ويولي اهتماماً خاصاً للقراءة، والمطالعة، وكان قد نشر مقالات ودراسات حول مختلف الكتب والمؤلّفات التي قرأها قبل رحيله، مثل تعليقاته على الكتب التي كان قد قرأها في أفريقيا وبراغ وبوليفيا ما بين 1965 و1967، حيث اغتيل في قرية «لاَ إِغِيرَا» في بوليفيا. وكان غيفارا قد أطلق على هذه القراءات «قراءات الشباب» التي يعالج فيها مطالعاته الأولى المبكّرة من عمره القصير، إذ لم يمهله القدر كثيراً في رحلة عمره القصيرة والمثيرة .
ويشير الباحث مَاوْريسْيو بيسينت إلى: «أنّ الذي يثير الانتباه في هذا الخصوص هو مدى اهتمامات غيفارا الواسعة والمتشعّبة، والعدد الهائل من الكتّاب والمؤلفين الذين قرأ لهم في هاتين السنتين ونصف السنة. فإلى جانب البندقية – عندما كان في الكونغو- كان يحمل كذلك أجندةً صغيرةً يسجّل فيها عناوين، وبعض ملخّصات جميع الكتب التي قرأها والتعليقات التي دوّنها بشأنها، فما بين شهري نيسان/أبريل تشرين الثاني/نوفمبر من عام 1965 دوّن فيها «الأعمالَ الكاملة» للينين، وAتاريخ العصور الوسطى» لكُوسمسنسكي، ثم المجلد الرابع من «الأعمال المختارة» لماو تسي تونغ، و«الأعمال الكاملة» للشاعر الكوبي المعروف خوسّيه مارتي، وأوْرُورا رُوخا، وبيّو باروخا، وكتابي»الإلياذة» و»الأوديسة» لهوميروس، ومسرحية «ليلة القتلة» للكاتب الدّرامي الكوبي خوسّيه تريانا. وما بين شهري آب/أغسطس وايلول/سبتمبر من عام 1966 حيث كان غيفارا قد عاد إلى كوبا يتدرّب ويهيّئ نفسه في سريّة تامة للمغامرة البوليفية التي لقي فيها مصرعَه، تجدر الإشارة في هذا السياق أنه سجّل في أجندته كذلك أسماءَ بعض الكتّاب والمؤلفين الآخرين أمثال: بابيني، وشكسبير، وماركس وأنغلز وسواهم.
يبدو إرنيستو تشي غيفارا في هذه المذكّرات، أو الخواطر، أو الملاحظات التي خلّفها لنا وكأنّه قد أشهر الحربَ الضّروس ضد التحجّر والجمود، إننا نجده بعد قراءته لكتاب «نهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية» لأنغلز يقول على سبيل المثال: «لقد قدّم العلماءُ عطاءات ثمينةً في الحقل العلمي، وفي مجال الاقتصاد، إلاّ أنّ القاعدة المثالية التي ينطلق منها هؤلاء العلماء تُفضي بهم إلى سبل الحيرة والضلال والتساؤل، ينبغي معالجة المشاكل التي تَتْرَى، وتطرح أمام أنظارنا بروح متفتّحة بناءً على مبدأ اللاّأدرية العلمية الدّقيقة».
الكلمة والسّلاح
يؤكّد الباحث نيستور كُوهَان أنّ: «غيفارا في خواطره وملاحظاته وكتاباته يؤمن بالإنسان الجديد، كما أنه لا يرفض كلّ ما هو رأسمالي، علماً بأننا أمام رجل يمارس الماركسية، وهو يصارع بدون هوادة من أجل تحرير وفكّ الاشتراكية من قيودها المذهبيّة المكبَّلة والجامدة، كما أنه واجه بقوّة وصلابة وضراوة الميول والاتجاهات البيروقراطية التي تعمل على تجميد الثورة وتقليصها، وحصرها في بلد واحد وحبسها بين الدهاليز والممرّات الوزارية، وكان يومئ بذلك عن عدم قبوله بشكلٍ كلّي للنموذج السّوفييتي آنذاك على ما يبدو».
تقرّبنا كتابات تشي غيفارا من حياته الخاصّة، كما أنّها تدنينا من أعماله الأولى واهتماماته، ومشاغله وأحلامه المبكّرة. وتقول الباحثة الكوبية ماريا ديل الكارمن أرييت في هذا الصدد: «لقد جاءت قراءات ثم كتابات إرنيستو تشي غيفارا لتملأ فراغاً حول كلّ ما كناّ نعرفه عن أفكاره الفلسفية، وصلته أو علاقته بالماركسية» وتضيف أنّ هذه النصوص تعرّفنا عن قرب بمختلف مراحل حياة إرنيستو غيفارا، بدءاً بمرحلة المراهقة عنده، وبشرَخ شبابه الأوّل، ثم دراساته للأعمال النظرية التي طفق الخوضَ فيها غداة وصوله إلى بوليفيا».
لقد كان إرنيستو تشي غيفارا يحمل في يدٍ البندقيةَ، ويحمل في اليد الأخرى القلمَ أيّ (السلاح والكلمة)، حيث كان يعتبر هاذين العنصرين أداتين أساسيتين لا مناص منهما لتحقيق النّصرعنده، وكانت مشاريعه الثورية تتوازَى، وتنسجم مع تطلّعاته واهتماماته، وانشغالاته الفكرية والفلسفية على حدٍّ سواء.
«تشي» هو الاسم أو اللقب المُختصر الذي عُرف به إرنيستو تشي غيفارا في العالم أجمع، أتمّ دراسةَ الطبّ عام 1953 ثمّ سخّر حياته وأوقفها على الثورة الكوبية، وكان صديقاً حميماً للزعيم الكوبي فيديل كاسترو، منذ أن انخرط في المكسيك ضمن البعثة الثورية المسمّاة «يَاتيِ غْرَانْما» التي حرّكت وحفزت عام 1956 الكفاحَ النهائي من أجل التحريرالوطني للجزيرة الكاريبيّة كوبا. و في 8 أكتوبر 1967 جُرح غيفارا خلال المعركة في بوليفيا إلى جانب رفيقين له، وبعد أن أُلْقِيَ عليه القبض، عُذّب ثمّ أُعْدِم في التاسع من أكتوبر من السنة نفسها.
وفي عام 1997 تمّ العثور على رفاته الذي تمّ نقله إلى كوبا، حيث دُفن بكلّ المراسيم الشرفية المَهيبة في ضريح يُسمّى «سانتا كلارا» بهذه الجزيرة الكاريبية الصّاخبة الغريبة الأطوار، وكان إرنيستو تشي غيفارا قد وُلد في 14 من شهر حزيران/يونيو 1928 بروساريو في الأرجنتين.
محمّد محمّد خَطاّبي
في التاسع من تشرين الأوّل/اكتوبر من عام 1967 لقي إرنيستو تشي غيفارا مصرعَه في أدغال بوليفيا، وفي التاريخ نفسه من العام الجاري 2015 مرّت الذكرى 48 لمقتله، وهو يُصدّر لمختلف مناطق العالم المقهورة – حسب ما كان يعتقده – ثورة على الظلم والتفاوت بين الطبقات الاجتماعية بين الناس، هذا الرّجل الأسطورة الذي غدا – في عُرف الكثيرين – رمزاً للكفاح والتمردّ والانتفاض في وجه الظلم، والتظلّم في مختلف أنحاء المعمورة، كان مقتنعاً بضرورة نقل الكفاح المسلّح إلى مختلف مناطق وأصقاع العالم الثالث، ولهذه الغاية أسّس جماعات تمرّد، وخلق حركات عصيان ومواجهة، وزرع بؤرَ حرب العصابات، أو في مختلف بلدان أمريكا اللاتينية وأفريقيا، وبتعاون مع الجيش البوليفي ووكالة الاستخبارات الأمريكية تم ّنصب كمين له في بوليفيا منذ ثمانية وأربعين سنة خلت فأردوه.
بوليفيا كوبا الأرجنتين… وتشي
ولقد أحيت كلّ من بوليفيا والأرجنتين وكوبا مؤخراً هذه الذكرى تحت رعاية الرئيس البوليفي إيفو موراليس نفسه، حيث دشّن مؤسّسة تربوية وتعليمية كبرى في مدينة «فايّي غراندي» تحمل اسم غيفارا تضمّ مدينة جامعية، من المنتظر أن يستفيد منها حوالي 1700 طالب، وقد شاركت الأرجنتين في هذا الاحتفال بوفد مهم يرأسه السفير الأرجنتيني في العاصمة البوليفية «لا باث»، كما حضر هذا الاحتفال مَنْ تُطلق عليهم كوبا «الأبطال الخمسة» الكوبييّن الذي قضوا زهاء 17 سنة في المعتقلات الأمريكية، والذين أطلق سراحهم بعد إعادة تطبيع العلاقات الدبلوماسية بين كوبا والولايات المتحدة الأمريكية في كانون الأول/ديسمبر المنصرم. كما شارك في هذه التظاهرة قائد عسكري كوبي كان قد وقع في الأسر خلال الحرب الصومالية الإثيوبية وظلّ معتقلاً ما ينيف على 11 سنة، وقد ألقيت كلمات حماسية من طرف ممثلي هذه البلدان الثلاثة ذكّرت بما سمَوْه «كفاح تشي غيفارا من أجل التحرير والانعتاق، الذي قدّم به خيرَ مثالٍ للعالم في هذا القبيل». وكانت رئيسة الأرجنتين كريستينا فرنانديث كيرشنير قد أرسلت لوحة تذكارية وُضعت في المكان الذي عثر فيه على جثة غيفارا ورفاقه، كما قام الوفد الكوبي بإزاحة لوحة تذكارية أخرى وُضعت هي الأخرى في المكان نفسه، بالإضافة إلى مجسّم تذكاري كبير كان قد وُضع بجانب ضريح أقيم في هذه المدينة لغيفارا. ويعرف اليوم الذي يُخلّد ذكرى مصرع غيفارا وهو الثامن من اكتوبر بـ»يوم المكافح البطولي».
ألحقت بشخصية تشي غيفارا صفتان تقومان على طرفيْ نقيض، وخلقت لدى الرأي العام العالمي اتجاهين إثنين متباينين، فمن جهة أصبح غيفارا لدى فئات عريضة من الناس رمزاً للثورة والتمرّد في مختلف أرجاء المعمورة ضد الظلم والتفاوت الطبقي والاجتماعي، فأصبح اسمُه يُقرن بالطبقات الكادحة، والفئات المقهورة، في حين يعتبره آخرون مجرم حرب، تقع على عاتقة تهمة اقترافه العديد من عمليات التقتيل الجماعي في مختلف البلدان، وعلى وجه الخصوص في أمريكا الجنوبية، وبعض البلدان الأفريقيّة .
لقد أصبحت صورته الشهيرة التي كان قد التقطها له المصوّر ألبرتو كوردا، واحدة ًمن الصور الأكثر شهرةً وانتشاراً في العالم على الإطلاق، كما أنّها تعتبر واحدة من الصّور الأكثر استنساخاً في مختلف أشكالها الأصلية ومتغيراتها، حيث استُعملت، وما فتئت تُستعمل في العديد من التجمّعات والتظاهرات والمسيرات والإحتجاجات السياسية والنقابية والعمّالية والاجتماعية، وسواها، كما أنها استغلّت من جهة أخرى في عالم الإشهار، والدعايات، والإعلانات، وغدت تبعاً لذلك واحدةً من أشهر أيقونات رموز الحركات المتمرّدة والثائرة، في مختلف أرجاء المعمورة.
ملاحظاته الفكريّة
لتشي غيفارا كتاب سجّل فيه «ملاحظاته الفكرية والفلسفية». وهي عبارة عن مخطوطات، وانطباعات، ومذكرات ومراسلات وخواطر وآراء وتعاليق وحواشٍ فلسفية وتأمّلات فكرية ونظرية، قامت بجمعها وتصنيفها الباحثة الجامعية الكوبية ماريا ديل الكارمن أرييت، وكتب مقدّمتها المؤرّخ الكوبي فيرناندو مارتينيس إيريديا، ويعالج تشي غيفارا فيها العديدَ من القضايا، والمواضيع المهمّة التي كانت تستأثر باهتمامه، وتشغل باله في تلك المرحلة المبكّرة من عمره، وفي طليعتها فلسفة كارل ماركس، حيث كان يقوم في كلّ مناسبة، أو كلّما سنحت له ذلك الظروف بقراءة وتحليل وانتقاد أعمال المفكرين الكلاسيكيين من الماركسييّن واللينينيين، كما كان يُعنى كذلك ببعض مؤلفات الكتّاب والمفكرين الذين كان تشي غيفارا يعتبرهم اشتراكيين هراطقة أو مارقين أو رجعيّين في نظره.
ملاحظات وخواطر ومذكرات إرنيستو تشي غيفارا وآراؤه في هذا القبيل، عبارة عن تعليقات فلسفية وتأمّلات نظرية مقسّمة إلى أقسام ثلاثة كبرى وهي قراءاته في مرحلة الشباب، والدفاتر والمذكرات التي كتبها في أفريقيا وبراغ وكوبا (1965- 1966)، ثم خواطره ويومياته وملاحظاته المكتوبة في آخر المطاف في بوليفيا (1966-1967).
رسالته الشّهيرة
في عام 1965 كان تشي غيفارا قد وجّه رسالةً شهيرةً إلى الزعيم الكوبي التاريخي أَرْمَانْدُو إنْرِيكِي هَارْتْ، الذي كان يترقّب وصول تشي غيفارا في «تنزانيا» بعد أن باءت الثورة في الكونغو بالفشل. وبعد أن دخل الثائر الأرجنتيني خلسةً إلى بوليفيا في ذلك الإبّان كتب يقول في الرسالة الذّائعة الصّيت إيّاها الآنفة الذّكر أعلاه: «لقد حشرتُ أنفي- بعد هذه الفترة الطويلة من الإجازات – في عالم الفلسفة، الشيء الذي كنت أنوي القيام به منذ مدّة بعيدة، وكان العائق الأوّل الذي يواجهني في هذا الصدد هو أنه في كوبا لم يُنشر شيء يُذكر، أو ذو أهمية حول هذا الموضوع، باستثناء بعض المراجع السّوفييتية التي لا تشجّع، ولا تمنح، أو تُفسح مجالاً حقيقياً للتفكير والتأمّل، ذلك أنّ «الحزبّ الشيوعي كان قد ناب عنك في ذلك، وأنت ما عليك سوى الانضباط والانصياع».
ويضيف تشي غيفارا في رسالته بلغة لا تخلو من السخرية والتهكّم والازدراء قائلًا: «كمذهب يبدو في الظاهر وكأنّه مناهض ومضادّ للماركسية، وأكثر من ذلك فإنهم في كثير من الأحيان يسبّبون لك الأذىَ، والأضرار والمضايقات والمتاعب».
أمّا الحاجز الآخر التي واجهني- يقول غيفارا- «فهو ليس أقلّ أهميّةً من سابقه، إنه يتمثّل في عدم معرفتي ودرايتي للّغة الفلسفية، لقد تصارعتُ بكلّ ما أوتيتُ من قوّة وضراوة مع المُعلّم الفيلسوف الألماني جورج فريدريش هِيغل، ولكنّه لم يُمهلني طويلاً، إذ في الجولة الأولى أوقعني بضربةٍ قاضيةٍ طريحاً مُجندلاً على الأرض».
كان تشي غيفارا شديدَ الانتقاد في ذلك الإبّان كذلك لخطط ومشاريع تلقين الفلسفة في النظام التعليمي للاتحاد السوفييتي آنذاك، كان قد اقترح على الزعيم الكوبي المذكور أرماندو إنريكي هارت، الذي كان قد تمّ تعيينه سكرتيراً عاماً لمنظمة الحزب الشيوعي الكوبي أن يعمل على إعداد برنامج جديد لدراسة الفلسفة في كوبا، إننا نجده يقول له في هذا الصدد: «لقد أعددْتُ برنامجاً دراسياً خاصّاً بي يمكن دراسته وتحليله وتحسينه لوضع لبنة أولى لبناء مدرسة حقيقية للتفكير»، ويعلّق غيفارا على ذلك قائلاً: «لقد قدّمنا الكثير، وينبغي علينا الآن كذلك أن نطلق العنان لتفكيرنا وعقولنا».
هَوَسُ الاطّلاع والتّحصيل
كان تشي غيفارا شديدَ العناية بالتحصيل والاطّلاع، ويولي اهتماماً خاصاً للقراءة، والمطالعة، وكان قد نشر مقالات ودراسات حول مختلف الكتب والمؤلّفات التي قرأها قبل رحيله، مثل تعليقاته على الكتب التي كان قد قرأها في أفريقيا وبراغ وبوليفيا ما بين 1965 و1967، حيث اغتيل في قرية «لاَ إِغِيرَا» في بوليفيا. وكان غيفارا قد أطلق على هذه القراءات «قراءات الشباب» التي يعالج فيها مطالعاته الأولى المبكّرة من عمره القصير، إذ لم يمهله القدر كثيراً في رحلة عمره القصيرة والمثيرة .
ويشير الباحث مَاوْريسْيو بيسينت إلى: «أنّ الذي يثير الانتباه في هذا الخصوص هو مدى اهتمامات غيفارا الواسعة والمتشعّبة، والعدد الهائل من الكتّاب والمؤلفين الذين قرأ لهم في هاتين السنتين ونصف السنة. فإلى جانب البندقية – عندما كان في الكونغو- كان يحمل كذلك أجندةً صغيرةً يسجّل فيها عناوين، وبعض ملخّصات جميع الكتب التي قرأها والتعليقات التي دوّنها بشأنها، فما بين شهري نيسان/أبريل تشرين الثاني/نوفمبر من عام 1965 دوّن فيها «الأعمالَ الكاملة» للينين، وAتاريخ العصور الوسطى» لكُوسمسنسكي، ثم المجلد الرابع من «الأعمال المختارة» لماو تسي تونغ، و«الأعمال الكاملة» للشاعر الكوبي المعروف خوسّيه مارتي، وأوْرُورا رُوخا، وبيّو باروخا، وكتابي»الإلياذة» و»الأوديسة» لهوميروس، ومسرحية «ليلة القتلة» للكاتب الدّرامي الكوبي خوسّيه تريانا. وما بين شهري آب/أغسطس وايلول/سبتمبر من عام 1966 حيث كان غيفارا قد عاد إلى كوبا يتدرّب ويهيّئ نفسه في سريّة تامة للمغامرة البوليفية التي لقي فيها مصرعَه، تجدر الإشارة في هذا السياق أنه سجّل في أجندته كذلك أسماءَ بعض الكتّاب والمؤلفين الآخرين أمثال: بابيني، وشكسبير، وماركس وأنغلز وسواهم.
يبدو إرنيستو تشي غيفارا في هذه المذكّرات، أو الخواطر، أو الملاحظات التي خلّفها لنا وكأنّه قد أشهر الحربَ الضّروس ضد التحجّر والجمود، إننا نجده بعد قراءته لكتاب «نهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية» لأنغلز يقول على سبيل المثال: «لقد قدّم العلماءُ عطاءات ثمينةً في الحقل العلمي، وفي مجال الاقتصاد، إلاّ أنّ القاعدة المثالية التي ينطلق منها هؤلاء العلماء تُفضي بهم إلى سبل الحيرة والضلال والتساؤل، ينبغي معالجة المشاكل التي تَتْرَى، وتطرح أمام أنظارنا بروح متفتّحة بناءً على مبدأ اللاّأدرية العلمية الدّقيقة».
الكلمة والسّلاح
يؤكّد الباحث نيستور كُوهَان أنّ: «غيفارا في خواطره وملاحظاته وكتاباته يؤمن بالإنسان الجديد، كما أنه لا يرفض كلّ ما هو رأسمالي، علماً بأننا أمام رجل يمارس الماركسية، وهو يصارع بدون هوادة من أجل تحرير وفكّ الاشتراكية من قيودها المذهبيّة المكبَّلة والجامدة، كما أنه واجه بقوّة وصلابة وضراوة الميول والاتجاهات البيروقراطية التي تعمل على تجميد الثورة وتقليصها، وحصرها في بلد واحد وحبسها بين الدهاليز والممرّات الوزارية، وكان يومئ بذلك عن عدم قبوله بشكلٍ كلّي للنموذج السّوفييتي آنذاك على ما يبدو».
تقرّبنا كتابات تشي غيفارا من حياته الخاصّة، كما أنّها تدنينا من أعماله الأولى واهتماماته، ومشاغله وأحلامه المبكّرة. وتقول الباحثة الكوبية ماريا ديل الكارمن أرييت في هذا الصدد: «لقد جاءت قراءات ثم كتابات إرنيستو تشي غيفارا لتملأ فراغاً حول كلّ ما كناّ نعرفه عن أفكاره الفلسفية، وصلته أو علاقته بالماركسية» وتضيف أنّ هذه النصوص تعرّفنا عن قرب بمختلف مراحل حياة إرنيستو غيفارا، بدءاً بمرحلة المراهقة عنده، وبشرَخ شبابه الأوّل، ثم دراساته للأعمال النظرية التي طفق الخوضَ فيها غداة وصوله إلى بوليفيا».
لقد كان إرنيستو تشي غيفارا يحمل في يدٍ البندقيةَ، ويحمل في اليد الأخرى القلمَ أيّ (السلاح والكلمة)، حيث كان يعتبر هاذين العنصرين أداتين أساسيتين لا مناص منهما لتحقيق النّصرعنده، وكانت مشاريعه الثورية تتوازَى، وتنسجم مع تطلّعاته واهتماماته، وانشغالاته الفكرية والفلسفية على حدٍّ سواء.
«تشي» هو الاسم أو اللقب المُختصر الذي عُرف به إرنيستو تشي غيفارا في العالم أجمع، أتمّ دراسةَ الطبّ عام 1953 ثمّ سخّر حياته وأوقفها على الثورة الكوبية، وكان صديقاً حميماً للزعيم الكوبي فيديل كاسترو، منذ أن انخرط في المكسيك ضمن البعثة الثورية المسمّاة «يَاتيِ غْرَانْما» التي حرّكت وحفزت عام 1956 الكفاحَ النهائي من أجل التحريرالوطني للجزيرة الكاريبيّة كوبا. و في 8 أكتوبر 1967 جُرح غيفارا خلال المعركة في بوليفيا إلى جانب رفيقين له، وبعد أن أُلْقِيَ عليه القبض، عُذّب ثمّ أُعْدِم في التاسع من أكتوبر من السنة نفسها.
وفي عام 1997 تمّ العثور على رفاته الذي تمّ نقله إلى كوبا، حيث دُفن بكلّ المراسيم الشرفية المَهيبة في ضريح يُسمّى «سانتا كلارا» بهذه الجزيرة الكاريبية الصّاخبة الغريبة الأطوار، وكان إرنيستو تشي غيفارا قد وُلد في 14 من شهر حزيران/يونيو 1928 بروساريو في الأرجنتين.