إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

القاص ( سمير عزت نصار) باحث وأديب أردني

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • القاص ( سمير عزت نصار) باحث وأديب أردني



    سمير عزت نصار
    ولد سمير عزت نصار في عنبتا بتاريخ 28/1/1935، حصل على ليسانس في الأدب الإنجليزي، عمل معلماً للغة الإنجليزية في المدارس الثانوية في الجزائر وليبيا، وفي الترجمة في شركات كبرى في ليبيا، ويعمل حالياً مديراً لدار النسر للترجمة والنشر، وهو عضو رابطة الكتاب الأردنيين، واتحاد الأدباء والكتاب العرب.
    مؤلفاته:

    1. تموجات مهيبة (قصص) عمان: دار النسر، 1992.
    2. وقال الطائر الذبيح لا (قصص) عمان: دار النسر، 1992.
    3. أوديب 48 (مسرحية) عمان: دار النسر، 1993.
    4. فارس الأميرة السمراء (رواية) عمان: دار النسر، 1993.
    5. أسرة الظلام (قصص) عمان: دار النسر، 1993.
    6. عريس فدوى (مسرحية) عمان: دار النسر، 1994.
    7. عنتر الأسمر وغرماؤه (مسرحية) عمان: دار النسر، 1994.
    8. جيمس بوند يرتدي جلباباً (رواية) عمان: دار النسر، 1995.
    9. قلعتنا تصافح قصركم (رواية) عمان: دار النسر، 1996.
      بالإضافة إلى ترجمته وإصداره عن دار النسر حوالي مائة كتاب في مجالات الرواية والقصة القصيرة والنص المسرحي لأبرز أدباء العالم.

    قصة:
    سمكة صغيرة جميلة وبريئة
    سمير عزت نصار

    ببطء وحرص متناهين، وضع شعبان الحوض الزجاجي شبه الكروي على سطح الطاولة الأملس. سحب كرسياص وجلس عليه. رسم على شفتيه ابتسامة اندماج عاطفي وهو يتأمل السمكة الصغيرة الذهبية اللون وهي تثير مويجات في الماء وعلى سطح الماء داخل الحوض الزجاجي. كانت تلك المويجات ضئيلة خفيفة، لا تكاد العين تلحظها إلا إذا أمعنت النظر في محتوى الإناء.
    همست عيناه: ما أرشق حركاتها! ما أصفى انعكاس النور على جسمها الحرشفي! تمتمت شفتاه: أيتها الكتلة البريئة الصغيرة الصغيرة الصغيرة، كم أتمنى أن أكون الماء الذي تسبحين فيه فيرتعش كياني. أحس برعشات كهربائية لذيذة تسري في جسده وهو يتأمل مويجات الماء المتزاحمة. آه! آه! ها هي أمنيتي تتحقق: سمكة ذهبية صغيرة صغيرة، خفيفة خفيفة، ريشة تطير في الماء داخل أناء كروي صافي البلور تحرك ذيلها فأحس حركته تنتقل إلى أحاسيسه، تحرك جسدها النحيل والصغير، فأجابب السائل على حركتها باهتزاز بلوري الصفاء. خاطبها هامساً: سمكتي الذهبية، لن أفارقك ولن تفارقيني. سأعيش أيامك ولياليك وستعيشين أيامي وليالي.
    تحركت –رسمت مويجات على الماء. تحركت مرة أخرى، ومرة ومرة ومرات. حدّق في الحركة، في الذهب، في المويجات، ثم عاد وحدّق في الجسم الرقيق الصغير. دار الجسم دورة. ثم دورة، وواجهه الرأس الدقيق. حدّق في الرأس بنشوة المتأمل كلوحة فنية تصوِّر طبيعةً تحمل تفاصيلها الغموض. فتحت فمها، بانت أسنانها الصغيرة الرفيعة. رق همسه وهو يخاطبها: ما الذي تريدين قوله؟ هل لديك ما تودين نقله إلي؟ تكلمي يا عزيزتي، تكلمي. أنا مصغ إليك. كلي آذان صاغية إليك. كادت قهقهة عربيدة تنطلق من فيه وهو يحدق في الفم الذي يجاهد في نقل الكلمات التي ستحمل السر الرهيب. السر الرهيب؟! تكلمي أيتها العفريتة! أيتها الشيطانة الصغيرة! ها ها. تكلمي أيتها اللعبة الذهبية.
    كقطعة مغناطيسية كبيرة تجذب قطعة معدن صغيرة، جذبت عيناها عبينيه، فتحول نظره إلى تينك العينين. أنمحت الإبتسامة عن شفتيه، ابتلع القهقهة التي كادت أن تنطلق من فمه، مضغها بصعوبة ثم ابتلعها وغص بها. سقطت عواطف الاندماج والتجاذب العاطفي، تهشمت على صلابة أرضية الغرفة. علا همسة وتتابع لهاثة: يا لها من نظرات مرعبة! لماذا تنظرين إليّ هكذا؟ إنني أحبك، أحبك. ولِمَ هذه الكراهية التي تطل من عينينك؟ لِمَ هذا الحقد المدمر؟! تخلّصني من هذه الكراهية. ارمِ بهذا الحقد إلى الجحيم. يا لها من نظرات نفّاذة، ممغنطة، تصلب كل من يقترب من مجالها.
    حاول تحويل نظراته عن تلك العينين الوحشيتين. حاول مرة أخرى، عبثاً يحاول. لم يستطع. لهث مستجدياً: إرحميني أيتها السمكة الرقيقة الصغيرة. أرحميني أيتها السمكة الرقيقة الصغيرة الطيبة. ارحميني أيتها السمكة الرقيقة الصغيرة الطيبة البريئة. لم يستطع تحويل نظراتها عنه. لم يستطع تحويل نظراته عنها. حدّقت فيه. حدّق فيها. حدّقت، حدّق. فقد إحساسه بما يحيط به، لم يعد يحس إلا بوجودها الصغيرة الرقيق. فقد إحساسه بجسدة: تضخم إحساسه بها، بجسدها الرقيق الصغير. لقد كبر جسدها، تضخم. يا الله! كيف تكبر إلى هذا الحد بهذه السرعة! لونها يفقد بريقه الذهبي، لونها يقتم أكثر فأكثر. يا لم من إنسان سيء الحظ يا شعبان. جئت بسمكة صغيرة رقيقةبريئة، وها هي تكبر وتكبر، ونهار لونها يتحول إلى ليل: ليل حالك الظلة، ليل مرعب. ياه! آه! وزعانفها! زعانفها تتمدد وتتمدد. ستخرج من فتحة الإناء الكروي. كم زعنفة لها؟ لم تعد زعانف. الزعانف غضاريف صلبة. لكنها الآن ليست غضاريف صلبة. إنها مرنة. طويلة. تتلوى وتمتد إلى الأمام. أي شيء هي؟ رأيت مثل هذه الزعانف – لا ليست زعانف، رأيت مثل هذه الأشياء. أين؟ آه، نعم. إنها مجسات. نعم! مجسات أخطبوط. لا، لا يمكن هذا. المجسات أطراف، زوائد، تلتصق بجسم أخطبوط. لا يمكن أن تكون هذه مجسات. فالسمكة صغيرة وجميلة وبريئة، إنها ليست أخطبوطاً. إنها زعانف. زعانف؟ تكبر وتتمدد. إلى أين؟ تمد نفسها، تخرج من فوهة الحوض الكروي. إلى أين أيتها الزعانف؟ أيتها المجسات؟ إلى أين؟ إليّ؟ إليّ أنا؟ لِمَ يا سمكتي الحبيبة؟ أية إساءة وجهتها إليك؟ لا يا سمكتي الجميلة؟ أي خطأ ارتكبته بحقك؟ لِمَ يا سمكتي البريئة؟ بريئة؟ سمكة؟ أخطبوط؟ سمكة! سمكة؟
    رأي السمكة: الجسم الصغير الرقيق البريء يكبر. والزعانف تتضاعف عدداً وحجماً. الجسم الصغير الرقيق يصبح أخطبوطاً هائل الحجم، ومجساته تنقض عليه، تسحبه إلى الفم المنقاري الشكل الحوتي الحجم، سليتهمه خلال ثوان معدودات. حاول الصراخ. تمطت الصرخة في فمه، تمطت ثم رقدت ساكنة. لقد صرعتها قوة جبارة. حاول الصراخ مرة أخرى. لا فائدة. حاول الهرب من المجسات التي بدأت تتنفس هواء الغرفة بعد أن تحررت من سجن جدران الإناء الكروي، لكن حركته كتفت بحبال من رعب سرى في جميع أوصاله، فشلها وأبطل مرونتها. جمدها في مكانها. حاول الحركة مرة أخرى. لا. لا فائدة.
    لطم صوتٌ ظهرة، فهز جسده، وارتعش. دبت الحياة فيه. عادت أنفاسه إلى انطلاقها الحر، فكت القيود التي تكبل أوصاله وجسمه. رأت عيناه ما يحيط به من مرئيات. رأت الطاولة والحوض الكروي. سمعت أذناه صوت أبيه الجهوري. سمع آخر كلمة:
    -... أبلة؟
    التفت إلى مصدر الصوت، رأت عيناه الجسم العريض. فتح فمه عدة مرات، لم يخرج منه أي صوت. أخيراً، خرج الصوت متحشرجاً.
    -نعم؟
    -ماذا تفعل هنا؟ تحدّق في إناء السمكة كأبلة؟
    أشار شعبان بأصبع مرتعشة إلى الإناء.
    -انظر إليها يا أبي.
    نظر أبوه إلى حيث يشير اصبع ابنه.
    -السمكة؟
    -نعم.
    ردد ثانية والرعب يرعش صوته:
    -نعم. السمكة. انظر إليها يا أبي.
    -إنني انظر إليها يا غبي. ما بها؟ سمكة رقيقة صغيرة.
    -لا تنخدع برقتها وصغرها. وقعت في شراكها قبلك.
    -يا لك من أبلة. قم وأعمل عملاً نافعاً.
    -لا يا أبي.
    -لا؟ أترف –أترف.
    -إنها ليس رقيقة ولا صغيرة ولا بريئة.
    -ولا بريئة؟
    وحفرت السخرية في صوت والد شعبان قبراً لآماله:
    -هي مذنبة إذاً. ما هي جريمتها؟
    -....
    -ها ها ها. ما هي الجريمة التي ارتكبتها؟
    -إنها –إنها.
    -ليست إنها –
    -إنها تكبر-
    -وعقلك يصغر.
    أدار الرجل الضخم ظهره العريض، وتلاشى صوته من الغرفة وهو يغادرها.
    هرب الاطمئنان من نفس شعبان بعد أن استقر هناك طيلة فترة وجود والده معه. عادت السمكة لتسيطر على حواسه، فانجذبت عيناه نحوها، وتجمد وجهه عن الحركة وهو يحدق فيها. وتردد صوته هامساً لأبيه الذي لم يعد له وجود أمام وجود السمكة: تخذلني هكذا يا أبي؟ أنت الذي أعتبره ملجأي وملاذي الأول؟! إن لم تفهمني أنت، فمن سيفهمني؟ انظر إليها الآن. ألا تصدقني؟ عيناك ستصدقاني لو نظرتا إليها. ها هو جسمها يكبر، وها هي زعانفها تندفع، إنها ليست زعانف، إنها مطارق طويلة ضخمة، تطول كل إنسان. عاد الرعب ليسكن في نفسه من جديد، وارتسمت صورة الوحش في عينيه.
    هدهد صوت حنون الطفلَ الرضيع. تمتم عقله وهو يتعلق بالقشة في بحر الخوف:
    -أمي؟
    -نعم يا روح أمك؟
    -انظري إليها يا أمي.
    -إلى مَنْ يا روح أمك؟
    -إلى السمكة.
    -ياه! كم هي جميلة ورقيقة وصغيرة.
    -حتى أنتِ؟
    -حتى أنا؟ ماذا يا ابني الحبيب؟
    -حتى أنت: خُدعتِ.
    -خُدعت؟ ما الذي خدعني؟ من الذي خدعني؟
    -خُدعتِ كما خدع أبي؟
    -وأبوك خُدع أيضاً؟ مَنْ الذي خدعه؟ ليس من السهل على أي إنسان أن يخدع أباك.
    أشار أصبعها المرتعش إلى الإناء الكروي.
    -ها ها ها. سلامة عقلك يا بني. سمكة صغيرة-
    -لا. لا تقولي هذا. إنها تتكور-
    -تتكور؟!
    -وزعانفها تتمدد وتتطاول.
    -ماذا تقول يا بني؟
    -وتتخذ شكلاً غريباً ورهيباً.
    -هذه المسكينة الصغيرة. تتخذ شكلاً رهيباً؟
    -نعم يا أمي. امعني النظر فيها.
    -اسم الله على عقلك يا بني –اسم الله على نظرك.
    -نظري سليم.
    -اسم الله على عقلك.
    -عقلي سليم.
    اقتربت منه، أحاطته بذراعيها المعروقتين، وأخذت تتمتم بكلمات هامسة وقد ارتسم على وجهها خشوع عميق. صاح منتفضاً، حاول إبعاد ذراعيها عنه، لكنهما تثبتتا بموضعيهما بينما انثالت الكلمات متساقطة من فمها الذي يوتره الخضوع.
    -لا داعي لكل هذا يا أمي.
    -.......
    -قلت لك لا داعي لكل هذا. لم أعد طفلاً صغيراً يا أمي.
    -ما أردده يعنيك على كل مصاعب الحياة، كبيراً كنت أم صغيراً.
    تملكه غضب جازف:
    -أمي. أقول لك أن الشمكة-
    -آه-
    -السمكة تكبر والزعانف-
    -نعم يا بني، فهمت. تكبر وتتضخم-
    -أوه يا أمي. أوه يا أمي. أنت تحاولين – حسناً، حسناً، اذهبي إلى عملك يا أمي-
    -أتريد شيئاً يا حبيبي؟
    -شكراً لك. لا أريد شيئاً.
    وجرجرت مع ثوبها الطويل الزاحف على الأرض، جرجرت كلماتها وهي تغادر الغرفة:
    -الله معك يا بني.
    لم يلتفت إليها وهي تغلق الباب، ولم يسمع صوت الباب وهو ينطبق. إنه يعيش مع سمكته المتوحشة، ويسمع صوته معاتباً أباه وأمه.
    -لا فائدة. لا فائدة. إنكما لا تريان ما أراه.
    ساد الغرفة صمت حاد، توترت عضلات لا مرئية في جسمه وهو يراقب التطورات الخطيرة التي تتجسد أمامه في لكرة الزجاجية. غزا الرعب كل أجزاء جسده وأحاسيسه. انتصب شعر رأسه وجحظت عيناه. صاح حاثاً نفسه: إلى متى؟ إلى متى أصبر عليها؟ هل أدعك تكبرين فتلتهمينني؟ إلى متى سأصبر عليكِ؟ إلى متى؟!
    -إلى متى؟
    -شعبان!
    ارتعض جسمه، التفت إلى الصوت الرقيق. رَبّتَ الجمال الواقف خلفه على توترات جسمه فاسترخت، وداعب الجمال نفسه الشعر المنتصب وتخلله بأصابعه الحنون، فتهادي مسترخياً، ورقد لى فراش رأسه.
    -شعبان! مع مَنْ تتكلم؟
    -سناء؟
    -شعبان! مالك؟
    -....
    -رد عليّ يا شعبان.
    -سناء، تعالي يا حبيبتي.
    -ما بالك يا شعبان؟ يبدو عليك الانشغال. ماذا تفعل هنا؟ وحيداً؟
    -أنا-
    -الباب مغلق عليك في هذه الغرفة وأنا أبحث عنك؟ ماذا تفعل؟
    -إنها تقلقني يا سناء.
    -تقلقك؟ مَنْ التي تقلقك؟ مَنْ التي تشغلك عني؟
    -إنها-
    -وأنا بريئة، أصدق بأنه لا يوجد من تقلقك وتشغلك سواي-
    -إنها هي الـ-
    -مَنْ هي؟ قل أيها الخـ-
    -السمكة-
    -السمكة؟!
    -نعم، السمكة.
    -السمكة؟! ما هي علاقتك بالسمكة؟ قل لي يا شعبان.
    -إنها-

    -تغلق على نفسك الباب وتشغل نفسك بسمكة صغيرة تافهة؟

    -لا. لا. ليست صغيرة.
    -صغيرة وتافهة ولا يعدى حجمها هذا الحجم.
    أشارت يدها اليمنى إلى السمكة داخل الحوض شبه الكروي. ومدت سبابه هذه اليد، وحظ إبهامها على خط المفصل الثاني منها.
    -لا يزيد طولها عن عقلتيّ هذه السبابة.
    إرتعد جسمه. رفع يديه وقد تلون وجهه بصفرة عميقة:
    -لا. لا تقولي هذا. إنها كبيرة كبيرة كبيرة-
    -أتمزح يا شعبان أم تهزأ مني؟
    -لا يا سناء. دققي النظر. إنها أخطبوط في طور التكوين-
    -أخطبوط؟!
    -وسرعان ما يكتمل تكوينه-
    -وتعرضه في حوض في حديقة الحيوان ليتفرج الناس عليه.
    -لا تسخري يا سناء. إنه خطير-
    -عقلك هو الخطير-
    -انتبهي يا سناء-
    -أنتَ مَن يجب عليه أن ينتبه.
    -قلت-
    -قلت لك: دعك من لعب الأطفال هذا وانتبه إليّ. أريد أن أخرج معك.
    -معي؟
    -نعم. معك. أريد أن أحدثك-
    -آسف يا سناء. لا وقت لدي.
    -لا وقت لديك؟!
    علا صوتها: نمرة تنقض بصوتها على فريستها.
    -لا تقل هذا لي. قلت لك قم يعني قم.
    -سناء، رجاءً.
    -قلت لك قم.
    امتزج الرعب بخيبة الأمل في نفسه فظهرا على وجهه لوحة بؤس عميق.
    -سناء، حاول أن تفهميني. إن في هذا الحوض حطراً كبيراً. السمكة تكبر ونحن عنها غافلون. الكل مُهدَّد بخطر الفناء ما دامت هذه السمكة على قيد الحياة.
    -الكل؟ مَنْ-
    -الكل، أنت، أنت، عائلتانا، بلدتنا، بلادنا-
    -السمكة الصغيرة-
    -لا ترددي هذا، هي ليست سمكة صغيرة.
    -وتهدد البلاد والعباد؟!
    -والعالم بأسره.
    -العالم بأسره والكون بأسره.
    -ها ها ها. لا بد أنك تمزح وتمرح.
    -افهميني يا سناء.
    -ماذا أفهم منك يا شعبان؟ أتريدني أن أفهم بأن سمكة صغيرة بحجم عقلتيّ أصبع تهدد العالم بأسره وتشغلك كل هذا الشغل عني؟
    -قلت لك ألف مرة أنها ليست سمكة صغية، إنها أخطبوط في طور التكوين-
    -إن الأخطبوط في رأسك أنت فقط-
    -لم لا تصدقيني؟!
    -أصدقك. أصدقك. إنها أخطبوط كامل التكوين وليس أخطبوطاً في طور التكوين، كما تقول-
    -أوه، لا تحاولي التظاهر بتصديقي كما فعلت أمي-
    -قلت لك إنني أصدقك، أخطبوط في طور التكوين كما تقول.
    تقدمت من الطاولة والعزم الشديد يرتسم على وجهها.
    -أصدقك، وأصدقك بأن هذه السمـ الأخطبوط يشكل خطراً على العالم كله. إذا كان الأمر كذلك، لِمَ لا تدعني أحطم الحوض، فينسكب الماء وتخرج السمـ الأخطبوط إلى الهواء الطلق، فيلاقي حتفه قبل أن يكتمل نموه ويصبح خطراً على العالم؟!
    اندفعت نحو الطاولة وقد مدت يديها أمامها. فَزَّ شعبان واقفاً عن الكرسي والهلع يرتسم على وجهه، مد ذراعيه حاجزاً يحول بينها وبين الوصول إلى الطاولة. أحتضنتها الذراعان، وتمتمت شفتاه المرتعشتان:
    -لا يا سناء، لا فائدة. إنْ بقي الأخطبو –بقيت السمكة في الحوض أو خرجت منه، فإنها ستبقى على قيد الحياة، لن يقتلها الهواء، سيزيد الهواء الطلق من إمكانية نموها وتطورها وتضخمها و-
    -لا فائدة منك يا شعبان-
    وابتعدت عن ذراعيه الممتدتين، وعن جسمه المرتجف. استدرات واتجهت نحو الباب، بينما بقيت ذراعاه معلقتين في الهواء، وجسمه منتصباً في المكان الذي تركته فيه، ووجهه يطل على الطاولة، الحوض شبه الكروي، الماء، السمكة. اصطدمتْ بجسم والد شعبان الضم بعد أن فتحت الباب وحاولت الاندفاع إلى خارج الغرفة. من خلال ستارة الدموع التي انسدلت على عينيها، رأت صف الرجال الذين تبعوا أبا شعبان محاولين عبور فتحة الباب وراءه إلى داخل الغرفة. أفسحت سناء الطريق لهم مرتدة إلى الخلف قليلاً. أشار أبو شعبان بسبابة يمناه التي يكسو ظاهرها شعر غزير إلى الطاولة، إلى الحوض شبه الكروي، إلى السمكة وهي في الماء.
    -هل هي. أترونها؟ تعالو وأقنعوا هذا الأرعن بسخافة ما يقوله.
    التفت شعبان نحو القادمين وقد ملأوا أرجاء الغرفة. رمى بجسمه على الكرسي. إمحى القلق والرعب عن صفحة وجه. رسمت نظراتهم صورة اطمئنان زائف على جبهته. رددت عيناه أغنية فرح صاخب: ها أنتم تحضرون بأنفسكم. سترون الخطر بأم أعينكم. ستشاهدون هذا الخطر الذي يهدد وجودكم كلكم.
    خاطبه أبوه بلهجته الحازمة:
    -جئتك بمن سيقنعك بزيف ادعاءاتك.
    لم توِحِ كلمات شعبان بالثقة ولم تنقل اقتناعه المطلق:
    -سيخبرك من أحضرتَهم يا أبي بأن السمكة خدعتك. سيشهد أصحابك على صحة ما قلته لك، وسيكشفون لك عن الخطر البالغ الذي يهددنا كلنا.
    راقبتْ سناء أم شعبان تتقدم عشرات من نساء الحي. دخلت النساء حبة القتال، ستنطلق الألسنة الحادة، سنقضي أيام وأيام ولن ينتهي النقاش. لن يصلن إلى نتيجة تضع حداً لهذا الوضع الأليم. زعق صوت الأم كأنها تعبر عن حزنها لفقدها وحيدها:
    -ها هو، اسم الله عليه. لم يصدق اباه ولم يصدقني. قلت له أن السمكة رقيق وصغير-
    وقف يواجهها ويواجههن، ماداً يديه نحوهن مستجدياً:
    -دعيهن يحكمن بأنفسهن يا أمي. لهن أعين ترى، وألسن تعبر عما ترى أعينهن.
    فكرت سناء وستار الدموع يعاود الانسدال أمام عينيها، فترى من بين شقوق هذا الستار سعيداً، شقيق شعبان، يتقدم طابوراً من شباب الحي والمدينة، حاشراً نفسه ومَنْ معه في الغرفة: إلى متى ستستمر هذه المهزلة؟! خاطب سعيد جمهوره وهو يشير إلى أخيه:
    -أقدم إليكم أخي شعبان، لقد اكتشف اكتشافاً عبقرياً جديداً. سيكشف لكم عن سر عظيم.
    اعترض صوت شعبان وقد غشيته خيبة أمل عميقة:
    -ليس هذا باكتشاف عظيم، ولا اكتشاف عبقري. إنها ظاهرة سترونها يا أخي بأم أعينكم. إذا لم تضعوا حداً لها، فعليكم وعلى الحي وعلى المدينة والبلاد والعالم السلام.
    حين انضمت عبلة، أخت شعبان، إلى الكتل البشرية في الغرفة جارة خلفها شعرات الفتيات، حاولت سناء الخروج من الغرفة: الكتل البشرية متراصة، فالتصقت بسناء أجسام من اليمين ومن اليسار، من الأمام والخلف، والجو خانق، رائحة رجال ونساء، رائحة أطفال وأولاد، رائحة فتيان وفتيات تملأ الغرفة، والصوت يصم الآذان، همهمة رجال وتمتمة نساء، زعيق أطفال ونداء أولاد، وهمس فيتان وهمس فتيات يكتم كل الأصوات ويعلو عليها فلا يتيح للأذن أية فرصة للراحة. اندفعت سناء يميناً محاولة اختراق الطوق البرشي، ارتدت يساراً، ارتمت على الجدار البشري فدفعها إلى الأمام. صد الخط الأمامي من كتل الناس سناء عن التقدم إلى هدفها، فاستقرت في مكانها دون حراك. كفت عن المحاولة، حرقت وجهها قطرات دموع، وحرقت نفسها فكرة يائسة: لا فائدة، لا فائدة. لا مفر. لن أستطيع الخروج. ستدوسني الأقدام.
    واجه شعبان الجوع الغفيرة من رجال ونساء، من شباب وشابات، من أولادوبنات، أضاء وجهه نور ساطع، نور أمل، وتسلل فرح خفي إلى نفسه: لقد نجح. فكر بنشوة مدرس: سيرون الحقيقة، سيقتنعون بوجهة نظري. سيعملون على وضع حد لهذا الخطر. نظر إلى الحوض شبه الكروي: يا لها من خبيثة هذه السمكة، أصبحت أخطبوطاً ضخماً، مجساته اكتملت استدارتها واستطال طولها وتضخم حجمها. إنها تتحرك حركات تشنجية باحثة عن فريسة. نظر إلى الأخطبوط الضخم، نظر إلى المجسات وهي تفتش عن جسم بشري. هتفت عيناه برعب صاعق: ها هو أحد المجسات يمسك بأحد الحاضرين. حدّق شعبان في الجسم الحوتي الضخامة. كلعبة صغيرة، حمل أحد المجسات كتلة بشرية ودفع بها نحو الفم المنقاري الفاغر. ياه! أيها الناس! أيها العالم! أختفت الكتلة البشرية في الجوف اللانهائي. تحرك مجس آخر. إنقض على كتلة أخرى. مل تلك اللعبة البشرية وقذف بها في فراغ الفم الفاغر حيث غارت في أعماق الجوف.
    وقف شعبان مواجهاً الجموع الغفيرة، فارداً ذراعيه، محتضناً هؤلاء الضحايا، الضحايا المرشحين لأن يملوا على أجنحة تلك المجسات لتغور في متاهة الجوف الأخطبوطي. دعاهم جسمه الهزيل المرتجف لأن يلتجئوا إليه، إلى حبه وحنانه، حاول فتح فمنه ليخاطبهم، فتحه، بعد أن بذل جهداً أسطورياً، حاول إخراج كلمات الحب والعطف، امتنعت عن الخروج، صدتها قوة غاشمة. حاول مرة أخرى، وحاول مرة ومرات. أخيراً، نطق، انثال الكلام:
    -ألم تروا؟
    -........
    واجهته وجوه بيضاء، وجوه صماء، وجوه بكماء، جدار وجوه لا يرتسم على سطحه ما ينم عن تجاوب. حاول تلوين هذه الوجوه، حاول إسماعها كلماته، حاول إقناعها بأن تنطق بما تخفيه من آراء.
    -ألم أقل كم؟ ها أنتم ترون نتيجة تراخيكم واستهتاركم. لقد بدأت السمكة –الأخطبوط بالتهامكم واحداً واحداً. لن تبقي منكم أحداً: صغيراً أو كبيراً، بنتاً أو ولداً، فتاة أو فتى، امرأة أو رجلاً. لقد حذرتكم فضربتم بتحذيري عرض الحائط. لقد حدثتكم عن الخطر فاستهترتم بحديثي. لقد أريتكم إلى أي مدى ستتطور الأمور فلم تأخذوا قولي مأخذ الجد. ها هي سمكتكم الرقيقة الصغيرة-
    قاطعوا أفكاره المتسارعة بصوت يكاد يكون صوت إنسان واحد بالرغم من اختلاف طبقات أصواتهم:
    --والجميلة.
    تابع والرعب يهطل منه مطراً غزيراً:
    -تتحول إلى وحض يلتهمكم واحداً واحداً.
    لكن صوت جوقتهم علا على صوته.
    -لكنها بريئة.
    نظر إليهم والدهشة تضبب وجهه وتقطر من كلماه.
    -وتقولون أنها بريئة؟ لماذا هي بريئة؟
    -لأنها ميتة.
    *من مجموعة "تموجات مهيبة"
يعمل...
X