Announcement

Collapse
No announcement yet.

د. يوسف حطيني - مَلامِحُ الشَّخصيّةِ في القِصَّةِ القَصِيرةِ جِدّاً

Collapse
X
 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts

  • د. يوسف حطيني - مَلامِحُ الشَّخصيّةِ في القِصَّةِ القَصِيرةِ جِدّاً

    مَلامِحُ الشَّخصيّةِ في القِصَّةِ القَصِيرةِ جِدّاً



    د. يوسف حطيني
    الجزأ الأول

    أولاً ـ نقاط الاتصال والانفصال:
    لا يمكن لامرئ أن يتخيّل قصة دون شخصيات، أياً كان نوعها وشكل حضورها، ذلك أنّ الشخصية هي التي تصنع الحدث، والحدث هو لبّ الحكاية التي لا تقوم قصة من دونها. وينبغي ألا يقود ذلك إلى نوع من المبالغة، كالادعاء بأن الشخصية أهم أركان القص، فليس ثمة ركن أهم من آخر، بل إن الأركان تتضافر فيما بينها لتقديم بنية القصة ورؤيتها . كما أن هذا الحضور للشخصية لا يشترط فيه أن يكون مفصّلاً: جسمياً ونفسياً وبيئياً، ولا ينقل للقارئ، بالضرورة، شخصية من لحم ودم، كما يحبّ بعض النقاد أن يقولوا حين يمتدحون تفاصيل صفات الشخصية عند قاص أو روائي معين، فالشخصية في نهاية الأمر ليست من لحم ودم، بل من أحرف وكلمات، يسهم القارئ في حمل إشاراتها، وتحويلها من ثمّ إلى واقع إبداعي، يختلف باختلاف القارئ وثقافته وبيئته.
    على أن القصة القصيرة جداً لا تقدّم من الشخصية سوى ضروراتها القصوى؛ إذ ربما تكتفي من البطل بنظرة من عينيه، أو إشارة من إصبعه، أو كلمة من شفتيه، ويبدو عندها رسم الشخصية أكثر اختزالاً، وأندر تنوعاً، وأقل عدداً مما نراه في القصة القصيرة.
    وإذا كنّا نجد في الرواية شخصيات مرسومة جسدياً ونفسياً وبيئياً، عبر طرق البناء المختلفة من وصف وحوار ونجوى وحركة... إلخ فإن ذلك يغدو في القصة القصيرة مقتصراً على شخصية البطل في معظم الأحوال، أمّا في القصة القصيرة جداً فإن وصف الشخصيات، بما فيها البطل، يشبه إشارات برقية، يلتقطها القارئ ليجمع نثار الصفات والسلوكيات. وكثيراً ما يبحث القارئ في القصة القصيرة جداً عن وظائف الشخصيات المختلفة إلى جانب الشخصية الرئيسية (كالشخصية المساعدة والمكمّلة والطيفية) فلا يجدها، حتى إنه قد لا يجد الشخصية المضادة التي تعوّق مشروع الشخصية الرئيسية؛ إذ يكتفي القاص حين ذاك بتصوير ظرف مضاد أو بيئة مضادة.
    وإذا أراد الناقد أن يقدّم نماذج الشخصيات ووظائفها وطرق بنائها في القصة القصيرة جداً، فإنه لا يستطيع أن يجد ذلك التنوع في قصة محددة، لذلك سيكون لزاماً عليه أن يلجأ إلى عدّة قصص حتى يتمكن من التمثيل لكلّ ذلك.
    والشخصية في القصة القصيرة جداً هي، في معظم الأحوال، مجرد حامل لوظيفة فعلية، فلا يحتمل قِصَرُ النص تنوّع وظيفتها وتغيّر شكلها، ومن هنا فإنّ المنوط بالكاتب أن يعي وظيفة شخصيته، ويستثمر العنصر الأنسب فيها لبناء الحكاية، سواءٌ أكان هذا العنصر مظهراً أو جوهراً أو سلوكاً أو حديثاً أو نجوى....
    وإذا كانت الرواية والقصة القصيرة تفترض شخصية تغيّر شكل الحدث من المستقرّ إلى نقيضه، فإن من المفترض في القصة القصيرة جداً أن تبدأ بالنقيض الذي تحمله الشخصية المأزومة منذ اللحظة الأولى، تاركة للقارئ مهمة تخيّل الاستقرار القبلي.
    وإذا أخفق القاص في تقديم الشخصية وسط أزمتها، فإن ذلك سيقود الحكاية إلى نوع من الترهّل الذي لا يناسب هذا الجنس الأدبي الساعي لالتقاط الحالة الطارئة. ولعلنا نشير هنا إلى قصة "عجوز" لمحمد محقّق التي لم تنجح في تقديم الحكاية، فقد بدأ الكاتب برصد الشخصية في لحظة استقرار، تيمّناً ببعض القصص القصيرة، وأنهى قصته في سياق محدود من الكلمات، إخلاصاً للقصة القصيرة جداً، فوقع بين ضغط الحجم واستقرار الشخصية، وهذا ما قاده إلى تقديم حالة سردية لا ترقى إلى الحكاية، على الرغم من أنّ الحكائية قلما تفلت من بين يدي هذا القاص في قصصه الأخرى. تقول القصة:
    "في دهشة عقارب الصمت
    تجلس على عتبة الليل
    تحاور وحدتها الموحشة
    وتحتضن الماضي الدفين ".
    مثل هذا الاستقرار في التقديم الافتتاحي للشخصية قاد القاصة عائشة الكعبي في قصة "ترقّب" إلى إنتاج حالة سردية مشابهة، لا تقدّم حكاية، لأنها غير قابلة للتطور، وكان من الممكن أن تفعل ذلك لو أنها بدأت مع الشخصية في ذروة أزمتها، أو لو أنها خرجت إلى سرد القصة القصيرة، لتنسج على مهل أزمة قابلة للتطوير:
    "من خلف ستارة بيضاء، أستشعر ارتجاجات باب غرفتي..
    حين تقرع أبواب الغرفة المجاورة ".
    إن السرد الافتتاحي للشخصية في القصة القصيرة جداً شيء يشبه فن الكاريكاتير، يختار فيه الفنان أكثر ملامح الشخصية مناسبة للدلالة، من أجل إظهار تناقضها وأزمتها، بالمقارنة مع السياق الطبيعي، ليخلق من خلال ذلك صدمة للمتلقي تقوده إلى التأمّل في المعاني الكامنة وراء ذلك الملمح البارز.
    في قصة "تباعد" لسناء بلحور يولد الرجل كبيراً، مما يشكّل مفارقة ناجحة، بالمقارنة مع السياق الطبيعي، صالحةً للبناء عليها، من خلال حدث غرائبي؛ حيث يبدأ هذا الرجل بالعودة خلفاً نحو الشباب:
    "ولد شيخاً... خافوا منه ومقتوه... وتخلّوا عنه...
    كان كلّما قطع أشواطاً من الزمان، شبّ واعترته طراوة وحسن... آنذاك أحاطوا به، أحبوه، لكن... تخلّى عنهم ".
    ويلاحظ أنّ القصة القصيرة جداً قلّما تطرح شخصيات محايدة، أو شخصيات تنمو وفقاً لتطور ظروف تفصيلية، بل تطرح شخصيات نامية تتعرض لظرف مضاد (لا لظروف مضادة) لتنتقل من حالة الأزمة إلى حالة الفعل السردي الذي يقودها إلى اكتمالها الفني.
    في قصة "مغتصبة" ينجح مأمون حرش في رصد شخصيتين في أوج أزمتهما، ويستنتج القارئ ما سبق عقدة الحكاية من أحداث قادت إلى تلك الأزمة، وأمام ظرف المواجهة تنفرج الأزمة عن نفاق اجتماعي يغفر للذكر ما لا يغفره للأنثى:
    "تدخلُ حريقاً،
    ويدخل حمّاماً...
    بعد الخروج..
    هي.. يلفظها المجتمع...
    وهو.. تضوع رائحته وتنقاد له أخرى ".


    ونشير هنا إلى أنّ الشخصية خيار فني يبدعه خيال الكاتب، دون سلطة من أحد، باستثناء سلطة النص، الذي يجعل الشخصية حرّة بمقدار ما تسمح اشتراطاتها الفنية البنائية والفكرية. في قصة "النصّاب" يسند القاص والناقد حميد ركاطة أفعالاً متعددة (حرّة) للجماهير المحكومة بأيديولوجية التبعية والعمى المطلق، فتقف بحريتها الكاملة، في لهيب الحَرّ، منتشية بكلمات الزعيم، سابحة في أحلامها الوردية، فيما يعبث هو، حرّاً، في حريتها المقيّدة بشرط الرؤية التي تحكم هذه القصة:
    "وهو يخطب فيها، كانت الجماهير تنتشي بروعة الكلمات، وتداري لهيب الحرّ، وعناء الوقوف منذ ساعات مبكرة من الصباح سابحة في أحلام عالم مشرع الأبواب والنوافذ، عابق بأريج الحدائق وأزكى الجنان.
    على طاولة المفاوضات كان الزعيم يبيع أحلامهم، ووعودهم، ويعقد بجرة قلم أكبر الصفقات ."
    ثانياً ـ في البحث عن وظائف الشخصيات:
    يمكن لأي ناقد أن يدرس الوظائف المتنوعة للشخصيات في رواية ما، إذ سيجد فيها شخصيات فاعلة، وأخرى مساعدة، وثالثة معيقة، ورابعة مكمّلة، وخامسة طيفية، دون أن يعاني في البحث عن التمثيل النظري الذي يدور في فلكه. غير أن الأمر يبدو أصعب في القصة القصيرة في ظل عدد محدود من الشخصيات، ولكنه يغدو ضرباً من الخيال حين يتعلّق الأمر بالقصة القصيرة جداً؛ إذ من المستبعد جداً أن تتوفر هذه الأنواع من الشخصيات، أو أن يتوفر عددها من أجل القيام بحدث (أو بعدد محدود من الأحداث) يقود الحكاية بشكل مباشر نحو نهايتها. لذلك كان لا بد من البحث عن تلك الوظائف في عدد من القصص، إذ قد تكتفي القصة القصيرة جداً بثلاثة أنواع من هذه الشخصيات، وقد تكتفي بالشخصية الفاعلة والمعيقة، وربما تكتفي بشخصية واحدة، تضعها في مواجهة ظرفها المضاد.
    أ ـ الشخصية الفاعلة:
    نقصد ها هنا بالشخصية الفاعلة تلك الشخصية التي تقوم بالحدث الأساسي (أو الأحداث الأساسية) لتقود الحكاية نحو النهاية، ويمكن التمثيل لهذا النوع من الشخصيات، بشخصية (أقوى الرجال) في قصة "الولادة" لزكريا تامر، وهي تبرز قدرة تلك الشخصية القوية الماكرة على الفعل المتوالي الذي لا يعرف حدوداً، من خلال الاستيلاء على ما تريد، والحصول على كل شيء، بما في ذلك الإنسان:
    "استولى أقوى الرجال وأغناهم وأمكرهم على أراض ذات سهول وجبال وأودية، واستولى على سماء وشمس وقمر ونجوم تتلألأ حين يسود الظلام، واستولى على غيوم ترحل من مكان إلى مكان، واستولى على ربيع وصيف وخريف وشتاء، واستولى على قطط وكلاب وطيور، واستولى على صحارى وبحار وبحيرات وأنهار، ثم تفحّص ملياً ما استولى عليه، فرأى أنه أصبح مالكاً لوطن لا ينقصه إلا الرجال والنساء والأطفال، فظفر توّاً بما ينقصه وبغير جهد ".
    وفي قصة "المولود الجديد" لآمنة برواضي يغدو الرجل/ الذكر فاعلاً في مقابل شخصية المرأة/ الأنثى التي تبحث عن ظلال فاعليتها، في حضوره دون جدوى، فتخفق في امتحان الفاعلية، لأنها امرأة تعيش في مجتمع ذكوري:
    "بعد عودتها من زيارة الطبيب، سألته:
    ماذا لو كان المولود أنثى؟
    أجاب، وهو مقطب الجبين:
    بذلك تصبحين أمّاً لثلاث بنات.
    صمتت... ثم قالت:
    وماذا لو كان ذكراً؟
    ابتسم وقال:
    سيحمل اسمي، ويرث أموالي من بعدي...
    تراجعت إلى الوراء وسرحت ببصرها في سقف الغرفة ".


    ب ـ الشخصية المساعدة:
    تستحقّ الشخصية المساعدة جدارة الانتماء إلى هذا النوع من الشخصيات حين تناط بها وظيفة ما، أو فعل ما يسهم في خدمة مشروع البطل الأساسي، سواء أتمّ ذلك بتخطيط منها، أم بمحض المصادفة، ولعلنا نشير هنا إلى قصة بعنوان "إنشاد" لجمعة الفاخري، إذ يتجمّع عدد من الشخصيات المساعدة للإسهام في قيادة الحكاية نحو منتهاها:
    "نفخ الراعي في نايه.. غنّت البلابل.. رقصت الأزاهير.. انتعش الربيع.. انتشت الشياه.. اخضرّت أنامله.. أطلّت من ثقوب الناي حقول أزاهير..! "وثمة شخصية مساعدة بارزة في قصة (مسرحية) لمصطفى لغتيري إذ يتدخل السارد، ليدوّن تسويغاً لتصفيق المرأة التي شاهدت المسرحية، إنها المؤلفة التي وجدت في الممثلة شخصية تساعدها على الانتقام الرمزي، إثر خيانة تعرّضت لها من قبل عشيقها، ولم تستطع أن تردّ عليها بشكل مناسب إلا على الورق:
    "من مقعدها في الصف الأمامي ، كانت المرأة تتابع بشغف أحداث المسرحية. أعجبها رد فعل الممثلة حينما اكتشفت خيانة عشيقها. حين انتهت المسرحية، لم تتوقف المرأة عن التصفيق إعجابا بالممثلة.. المرأة المصفقة هي كاتبة المسرحية، و أحداثها مستوحاة من حياتها. ص54
    ج ـ الشخصية المعيِقة:
    تقوم هذه الشخصية بوظيفة أساسية هي إعاقة وصول الشخصية الفاعلة إلى قيادة الحدث نحو الحكاية، بل على العكس تماماً تقف دائماً على النقيض من مشروعها، وتقوم بأفعال مضادة، بحيث يمكن أن نعدّها بطلاً مضاداً. غير أنها لا تقوم في القصة القصيرة جداً إلا بعدد محدود من الأحداث، بسبب طبيعة التكثيف الذي يتحكم ببنية النص، ولكنها قد تكون قادرة على إدارة دفة الحكاية بالاتجاه الذي تريد.
    في قصة "أنا" لعدنان كنفاني، تتلبس الشخصية المعيقة شكل مظلة، تجمع الخير الذي ينتظره الناس بفارغ الصبر، إلى الزعيم الأوحد، وتحرم كل أولئك من إتمام حكايتهم على الوجه الذي يشتهون:
    "تلبدت السماء بالغيوم واسودت.. لمع البرق، وقصف الرعد، وهطل المطر بعد طول انحباس.. خرج الناس من بيوتهم للاستمتاع بالخير المنتظر.
    فجأة انتصبت مظلة كبيرة.. كبيرة جداً.. غطت سماء المدينة، وساقت الماء الهاطل بغزارة إلى مكان واحد ".
    في قصة "صداقة العمر" لنور الدين كرماط يستطيع اللص أن يسطو على بيت صديقه، ويجمع في كيسه كل ما يلمع، ولكنّ الجار شكّل بطلاً مضاداً لأحلامه، إذ أعاق اكتمال فرحته بالنصر المؤزر، حين اكتشف اللص لا الجار، أنّ صديق عمره قد بادله خيانة الثقة بما لا يحتمل من ألوان القهر، إذ رأى زوجته بين أحضان ذلك الجار:
    "حمل اللص كل ما يلمع في كيسه، لمّا همّ بالخروج سمع صوتاً نسوياً يتهادى من غرفة النوم في دلع. نظر من ثقب الباب فاكتشف بأن جوهرته تلمع أكثر بين يدي جاره صديق العمر ".
    والواقع أنّ هذه القصة تعدّ مثالاً جيداً جداً على التكثيف الذي تتطلبه القصة القصيرة جداً، فهي لا تقول إلا ما هو ضروري، بل إنها لا تقول ما هو ضروري إلا في مكانه، ولو اضطر كاتبها إلى تأجيل تعبير (صديق العمر) للنهاية، من أجل أن يمنح القصة اكتمال بنائها ومفارقتها ودلالتها المتفجرة من تلكما الكلمتين.
    د ـ الشخصية المكمّلة:
    نعني بالشخصية المكمّلة تلك الشخصية التي لا تناط بها وظيفة حكائية، ولا تقوم بأي حدث، بل تنعكس عليها أفعال الشخصيات، أو تسهم في إكمال بيئة القص، أو ترد في ذاكرة الأبطال على نحو ما، ويمكن في هذا الإطار أن نشير إلى شخصية الشرطي التي يستعين بها عماد ندّاف لإكمال قصة "حزن الحمار" فنياً ورؤيوياً:
    "الحمار كان متضايقاً جداً من صاحبه! لم يتناول شيئاً من التبن الذي وضعه له أمامه، ولم يقترب من كومة قشر البطيخ التي رماها قربه بسخاء!!
    كان صاحبه قد شتمه قائلاً: امش جيداً أيها الخَنوع!
    لم ترق كلمة الخَنوع للحمار، وكان يشاهد صاحبه، وهو يقدم الطاعة للشرطي، ويتوسله كل يوم!! ".
    أما القاص أحمد جميل الحسن فإنه يستثمر استثماراً حسناً شخصية طارئة على حكاية قصته "دمية" هي شخصية الدمية ذاتها، إذ تخترق فجأة نظام الحكاية الأليفة، لتحوّلها إلى حكاية مدهشة، على الرغم من أنها (أي اللعبة) مجرد حامل دلالي:
    "دمرت الطائرات الإسرائيلية البيت على أصحابه، بدأت عملية الإنقاذ وانتشال الجثث، وخلال ذلك شوهدت قدم صغيرة تحت طرف السرير..
    رفعوا السرير.. وجدوا تحته طفلة مضرجة بدمها، تحتضن دميتها لتحميها من الطائرات ."
    هـ ـ الشخصية الطيفية:
    هي شخصية يقتصر دورها على الحضور الطيفي، على شكل حلم أو تخيّل أو ذكرى، ويمكن لهذه الشخصية أن تسهم في تفعيل الحدث، وفي صناعة الحكاية، وربما تسهم أيضاً في تغيير وجهتها. ويمكن أن نمثّل لها بشخصية الجدة في قصة "موت جدتي" لفاطمة المزروعي؛ إذ ينوب الطيف عن الجدة في إتمام مهمة السرد التي ألفتها الشخصية الرئيسة في القصة: "أضع رأسي على المخدة، أنتظرها بفارغ الصبر لتراني قبل أن أنام. أتحرّك في سريري وبداخلي لهفة.. كل ليلة يتكرر المشهد.. بعد زمن، أصبح طيفها ـ فقط ـ هو الذي يسرد الحكاية .
    أمّا مهنّد العزب فهو يبتدع في قصة "موعد" شخصية طيفية، لتزور البطل بعد وفاته، ليبقى بعد وفاته في انتظارٍ افتراضيٍّ لزيارة افتراضية: "قبيل وفاته أوصى: إذا جاءت حبيبتي لكي تراني لآخر مرة، أفسحوا لها الطريق، فنحن لم نلتقِ أبداً، لأنها كانت من نسج خيالي ".
    و ـ الشخصية الرمزية:
    إن الشخصية الرمزية هي تلك الشخصية التي يصنعها الكاتب، ليبحث القارئ عن شخصية، أو شخصيات، تقابلها في الواقع، أي أن بناءها يدفع القارئ ليبحث عن ظلالها خارج القص، بسبب قدرتها الإحالية على الواقع السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي إلخ.. ويمكن أن نشير هنا إلى قصة بعنوان "الشهادة" لزكريا تامر، وهي قصة تحيل بقوة على مصر، إذ يسمّي القاص بطلة القصة بهية، ويحيل من خلال الأحداث على ما يشبه توقيع اتفاقية كامب ديفيد في سياق انتقادي مثير، يدين الاتفاقية التي وقعها السادات، مثلما يدين تهافت بعض الدول العربية على إقامة علاقات مع العدو الصهيوني:
    "تباهت بهية أمام نساء حارتها بحفاظها على شرفها وشرف الحارة التي ولدت فيها، وحكت ما جرى لها أمس عندما كانت تتنزه في أحد البساتين القريبة، فالرجل المجهول الذي اغتصبها شهر سكيناً تذبح جملاً، وأمرها بأن تخلع كل ثيابها، ولكنها لم تخلع جواربها متحدية أمر الرجل وسكينه، فشهقت نساء الحارة معجبات بها، وانتشرن في البساتين عازمات على ألا يخلعن الجوارب" .
    في قصة "قاراقوش" يحشد عدنان كنفاني شخصيات الغابة ممثلة بحيواناتهـا المختلفة في وحدة قصصية مركزة من أجل أن يقدم قصة عميقة الدلالة، تحيل على شخصيات بشرية تنتمي إلى واقعنا، مستفيداً من اسم العلم التاريخي في إسباغ صفة الظلم على الطاغية، وهنا تصبح الشخصيات حوامل رمزية لدلالات أكثر اتساعاً. يقول كنفاني في قصة "قاراقوش":
    "فرامان سلطاني شديد اللهجة يقول: كل حمار (مهما كان تصنيفه) ينهق في الأماكن العامة يتعرض لعقوبة الخوزقة.
    ساد الهرج والمرج وتزاحمت وحوش الغابة وطيورها وحشراتها تغادر مواطنها هرباً..
    قال حمار يخاطب أرنباً هارباً: لماذا تهرب والفرامان يخصنا دون سوانا؟
    ضحك الأرنب ساخراً، وأجاب: في غابة مثل هذه، كلنا حمير.
    وانطلق يركض على غير هدى ".
    ثالثاً ـ بناء الشخصية:
    لا تبتدع القصة القصيرة جداً طرقاً جديدة في تقديم ملامح الشخصية القصصية، ولكنها تقترح اختياراتٍ أقل عدداً وأكثر تركيزاً من تلك الطرق، فقد يكتفي الكاتب بتسمية الشخصية مستنداً إلى رصيد اجتماعي أو تاريخي، وقد يكتفي بالحوار أو النجوى، أو بالوصف الجسدي لتقديمها، وهكذا تبدو الشخصية، دون إلحاف منه في تتبع ملامحها، وحيدة الاتجاه في غالب الأحيان. وها هنا تقع مسؤولية اختيار الطريقة المناسبة لتقديم الشخصية على الكاتب: أيقدّمها من خلال اسمها أم صفاتها الجسدية أم النفسية أم ثقافتها أم خلفيتها الاجتماعية أو السياسية أو الفكرية إلخ... لأن جمع هذه الطرق لتقديم الشخصية سيجعلها شخصية روائية، لا شخصية من شخصيات القصة القصيرة جداً.

Working...
X