Announcement

Collapse
No announcement yet.

الأديبة ( هدى إبراهيم أمــون ) باقة ورد -2-..في عيد الحبّ - شعر * خواطر* وقصة قصيرة- 2007 م ..

Collapse
X
 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts

  • الأديبة ( هدى إبراهيم أمــون ) باقة ورد -2-..في عيد الحبّ - شعر * خواطر* وقصة قصيرة- 2007 م ..

    الأديبة ( هدى إبراهيم أمــون ) باقة ورد -2-..في عيد الحبّ - شعر * خواطر* وقصة قصيرة- 2007 م ..

    هدى إبراهيم أمــون

    باقة ورد
    في عيد الحبّ

    شعر * خواطر* وقصة قصيرة

    2007 م










    أنت لا تدرك معاناتي

    خرجت سيّدة من منزل زوجها حاملة حقائب اللاعودة..
    اسـتقلت قطار اللادموع ودخلت محكمة المجتمع بقلب ثابت
    حزنه وقور .. جلست في ركن النسيان وتوارت في عزلة المنسييّن لتذرف الدموع على كل عام مضى من عمرها الضائع أملاً أن تغسل بدموعها بعضاً من أحزان ذلك العمر الحزين..

    نهض المجتمع يحاكمها : (( لماذا فارقت زوجاً لا يريد فراقك )) ؟

    تهادت دموعها كأشرعة تهمّ بالرحيل فأجابت : (( أنت لا تدرك معاناتي .. وكم آلمتني الأشواك في دروبه الجافّة .. لكن بساتين صبري كانت في ذروة عطائها فاستطعت تحمّل رجل لا يرغب بتحمّل تبعات أخطائه بل يلقي بحملها الثقيل على شجرة أنثوية الأغصان يشعر بامتلاكها ويرضيه شعوره هذا فيتمادى به ليراها كشيء بلا روح يقتنيه هو ويرميه متى شاء .. وكأن هذا الزوج لم يزل يحيا في عهد الطفولة – في حضن الأم – لأن نظرته للزوجة والأبناء نظرة غير ناضجة .. وسلوكه يوحي بأن قيَّمه تنبع وتصب في أناه فقط وكأن طاقته موجهة نحو رغباته .. ومعاناته كلها بسبب أن تلك الرغبات ليست دائماً سهلة المنال فتجعله يعاني لدرجة المرض ، وتغصبه لدرجة الجنون ، فينفث دخان غضبه في وجه من يعاشره دوماً .. دونما شفقة أو رحمة ، ويقدم على مجزرة ذبح الأحاسيس لمن حوله دون أيّ إحساس ملحوظ بالذنب أو أيّ إدراك بأنه مدين لهم باعتذار إنسانيّ حنون ..

    وتقول أيها المجتمع بأنّه لا يريد فراقي ‍‍ وهاأنا أُؤكِّد صحة قولك : (( إنّه حقا لا يريد فراقي ! ! ولكن ليس لأنني حبيبته .. فحبّه لي هو ذلك الشعور بالامتلاك لا أكثر .. إنني إحدى ممتلكاته الهامّه فأنا منفضة تبغه النفسيّ فبمن سيطفئ سجائر انفعالاته وإحباطاته إن تخلى عنّي ؟‍! وكم حاولت بحناني أن يكتنفنا شعور الصداقة ويحتضن علاقتنا .. لنتشارك معاً هموم الحياة بأفراحها وأحزانها .. وكم تمنيت أن يعي مكنونات روحي وأمانيّ الطاهرة لحياتنا المشتركة .. وحاولت كثيراً جعله يعي ذلك .. لكن محاولاتي قد باءت بالفشل .. ممّا أذبل بساتين صبري وأدخل خضرتها إلى دنيا اليباس .

    حينئذ خيّم صمتٌ وقورٌ على محكمة المجتمع وأغلق أفواه الأسئلة والأجوبة .ثم نهضت السيّدة ماضية إلى الحياة.


    @@@


    قـــــدر

    خرجت من منزلي صباحاً .. رأيت الضباب يلامس المنازل غامراً الطرقات برماديته الموشاة بألوان الأبواب والنوافذ والجدران ..

    كنت أسرع في السير ، وشعرت بشخص ما يدفعني .. ويوجهني للمضي قدماً .. التفتُّ خلفي .. فلم أره .. وكان الضباب يحيط بي من كل جانب .. أحسست بالخوف والتردد يهيمنان علي .. وألفيتُ نفسي مندفعة للسير إلى الأمام .. عدتُ للنظر خلفي ، فلم أر غير الضباب سرتُ ، وأنا لا أعلم إلى أين ستفضي بي دربي .. ووصلت لمفترق طرق .. زال الضباب ، وأشرقت شمس الكون وإذ بي أرى أمامي ثلاثة دروب .. الأول : طريق أملس أنيق .. رأيت الناس يتدافعون لعبوره ..

    والثاني : طريق مائل .. التواءاته كالحسناء الراقصة .. شاهدت الناس يختلسون النظر يمنة ويسرة ، ثم يخفون سيرهم إليه ..

    أما الدرب الثالث : فقد اندفعتُ إليه بقوة .. وكان وعراً مليئاً بالمنحدرات والصخور .. تنمو فيه شجيرات شوكية .. اضطربت أفكاري ، وغزاني الألم .. وإذ بالشخص غير المرئي يمسك بجذعي ، ويحثني إلى السير في هذا الدرب الوعر بمنحدراته وصخوره وأشواكه .. وكلما خطوت فيه وحاولت نزع بعض أشواكه أتعثر ، وأرتطم بإحدى الصخور .. فيخاصرني شخصي ذاك ويساعدني لأقف من جديد ، وأتابع مسيري .. سئمت وعورة دربي ، ورغبت بمعرفة ذلك الشخص غير المرئي الذي يحث بي الخطا في ذلك الدرب .. وحين ارتطام .. كانت يداه تخاصرانني .. سارعت بوضع يديّ فوق يديه بإرادة قوية لمعرفته .. أحسست بيديه تختلجان .. التفتُ إليه .. وإذ بي أرى طيفاً يخرج من ظلي ويحدق بي ، ثم ينطق بكلمتين فقط : - أنا قدرك .. ثم يعود ويدخل ظلي .

    @@@

    آه يا خريف العمر !


    افترق قلبان : أحدهما طار غرباً ، والآخر شرقاً ، وباعدت بينهما الحياة التي راح الزمن يطوي جبالها ووديانها وبحورها غير آبه بالقلبين المتباعدين .. لأنهما يمتلكان مقدرة التحليق .. ترنمت فصول الحياة بألحان مشرقة .. لونها الربيع بسحر وروده ، والصيف بعذوبة سمره ..

    والشتاء بعزف دموعه على أوتار الأرض التي كساها الربيع حباً للجمال والصيف عشقاً للألفة ، وعلّم الشتاء الوجود كيف تلد الدموع فرحاً ..

    وحين أحرق الخريف ثوب الطبيعة .. أظهر حكمة عريها .. فبدت حزينة ، وهي تستعيد ذكريات ملابسها المزركشة بالحياة ..

    وقف الخريف يتأمل طبيعته العارية .. وإذ به يلمح بين جنباتها قلباً مجنحاً يخفق ألماً وحين نظر لأعماقه ألفاها تحوي ذكرى قلب آخر كان قد فارقه منذ زمن ، وبقي له في حناياه ركنٌ دافئٌ والآن وبعد أن أحرق الخريف ذلك القلب مع ما أحرق من ممتلكات الطبيعة التي ازدانت به زمناً طار القلب المحب يبحث عن أطلال رفيقه بين جنبات الخريف ، ليبوح لتلك الأطلال بحزنه لفراقه .. وندمه لطول بعده عنه .. وحبه الذي أخفاه عنه طيلة فصول الحياة .


    @@@

    كاتـب

    لملم الليل غيومه الداكنة وسحب أذيالها عن سماء مدينة كاتب هرم أرهقه الظلام ورمى به غبار الأيّام على سرير المرض .. فتراءت له أشباح الوداع وجعلته ينظر لما حوله بذعر ثم نادى ولداه الشابان بصوت واهن .. ليخبرهما بقرب رحيله .. لكنه وجد نفسه مسترسلاً في تفسير فقره المادّي لهما : (( أرجو أن تعذراني يا ولديّ الحبيبان فلن أورثكما سوى كتبي .. التي أعلم أنها ليست بثروة ماديّة تُغني فقركما .. فما من أحد – طوال عمري – قد رغب في مسح الغبار عنها أو عن اسم من كتبها .. وهاأنذا يا صغيريّ أرى طريقي الآن يدعوني لأمضي إلى العالم الآخر فقد رغبت روحي بلقاء والدتكما الراحله .. ونهض الكاتب وسار بوقار .. وسار خلفه ولداه وبعض المقربين والأصدقاء إلى مكان يتساوى فيه الناس جميعاً واقترب من دَرَجٍ يهبط إلى الأسفل بجانبه سهم قد كُتب عليه ( إلى العالم الآخر ) وما إن همّ بالهبوط ، حتَّىتوقفت بالقرب منه عربة ترجل منها بعض الرجال برفقتهم سيّدة إعلاميّة شابة .. استوقفت الكاتب : (( أرجو أن تنتظر قليلاً فأنا أرغب بالحديث معك .. التفت إليها الكاتب الهرم .. فقالت : (( لقد أنجزنا برنامجاً أسميناه ( كُتّاب ) وقد خصصنا عنك حلقة كاملة )) .. في البداية بدا السرور الشديد على ملامح الكاتب ثم سُحب ذلك السرور عن محيّاه حين نظر إلى وضعه وإلى المكان الذي يهمّ بالهبوط إليه .. فألقى بنظراته الحزينه على الإعلاميّه وتكلم بأسى : (( الآن يا ابنتي ؟‍! وأنا في هذه الحالة المزرية ؟‍! )) ثم أشاح بوجهه عنها ورفع يده مودعاً وتابع هبوطه إلى العالم الآخر .. حينئذ دهشت الإعلاميّة وبدا عليها الغضب فنظرت إلى ولديّ الكاتب وقالت : (( ما هذا ؟‍! هيّا أعيداه .. إننا نحتاجه الآن )) .

    فبدا الذهول على ملامح الشابين وتكلما بصوت حادٍّ جهوريّ : (( الآن ؟‍‍!!(( لقد تأخرتم كثيراً.

    @@@

    الرياح

    خرج الوالدان من المشفى يحملان مولودتهما البريئة .. نظرت الوالدة بشغف أُمومِيٍّ للطفلة الرقيقة الملامح وخاطبت زوجها بهلع : (( أرجو أن تدثرها جيداً يا عزيزي .. لا أريدها أن تصل إلى المنزل وقد أمرضتها الرياح فتبدأ يومها الأول في الحياة وهي بحالة مرض .. )) .

    فابتسم الزوج قائلاً : (( لا تخافي يا عزيزتي فلن يكون حرصك على ابنتنا أشدّ من حرصي عليها .. )) ثم هاقد قارب وصولنا إلى العربة .. لكنّ الوالدة استمرت بمراقبة المولودة .. فهمست : (( انظر من هذا الجانب يا عزيزي تحت الغطاء .. تبدو لي وجنتها الملساء الصغيرة .. أرجوك دثرها جيداً .. فالرياح لا ترحم عودها الطري )) . وبدا صوت الأمّ حنوناً عاطفيّاً ..

    فاستجاب الوالد، ودثر الصغيرة فحجب عنها الرياح التي ما عادت تدخل إليها إلاّ من ثقب صغير تركه لها لتتنفس من خلاله .

    وما إن شعر الوالدان بالاطمئنان لدفء صغيرتهما في أحضانهما .. حتى هجمت طلقة ناريّة ضاريه .. واخترقت أنسجة الجسد الطفلة الغضّ وسكنته .. فشهقت الوالدة بألم وسقطت من الإغماء ..

    وصرخ الوالد بصوت بكائي مقهور : (( لقد تعلّمنا جيداً كيف نحميكِ من الرياح السماويّة كي لا تصلي لمنزلك مريضة وأنت في أول أيّام حياتك .. لكن سامحينا يا صغيرتنا سامحينا .. لم نتعلم بشكل جيد كيف نحميكِ من رياح الغدر والعدوان البشرية .. كي تصلي للمنزل .. كي تصلي آه آه .. )) .

    @@@

    الصامت

    اجتمع الأحبّة والأصحاب في جوٍّ من المرح .. وبينما هم في أحاديثهم المسلّية .. دخل عليهم مغادراً صمته .. جلس بينهم .. بوجهه المتجهّم الغاضب .. هم يتحاورون ويضحكون .. وهو يكفهر بحنق .. وحين سألوه : ما به ؟ أجاب : لا شيء .. أنا أفضّل الصمت وأهوى الصمت .

    فقالوا : ما دمت هكذا ألن يزعجك جلوسك بيننا ؟! فنظر إليهم بتعالٍ ، وقالت نظراته :

    - في دنياي الصامتة لا أستطيع التسلط على أحد .. أمّا بينكم فيمكنني التسلّط عليكم وتفريقكم بغضبي .. وتحويل مشاعر البهجة لديكم إلى كآبة .. فأسلّي نفسي بإزعاجكم .. أما في عالمي الصامت فمن أين لي أن أحظى بمتعة كهذه ؟! فبدا الحزن في أعينهم التي قرأت نظراته ، ثم نهضوا ومضى كلّ في طريقه ، بعد أن رشقوه بنظراتهم العاتبة المتسائلة عن حقيقة ذلك الصامت الحاقد ، الذي ينظر بسطحيّة بغيضة إلى الضحك ، فيعتقد أنّه دليل السعادة ، ولا يدرك أنه قد يكون متنفّساً لنفسٍ تغمرها الأحزان .

    &&&

    ذكرى باردة

    في الليلة الأولى من الشهر الأول من عام ( 2006 ) كان البرد قارساً .. فهبّت على سورية نسائم شتائيّه قادمة من مرتفعات مغطاة بالثلوج .. وسرت الأنسام حاملة صقيعها إلى كل الأماكن .. وهطل المطر بغزارة .. سرت البرودة إلى كل الأحياء وتسرب بعضها إلى منزل تدفئه المحبّه .. جلست فيه سيّدة تحمل بيدها صورة زوجها الشهيد التي تتحدث إليها كلّ يوم .. لكن في هذا اليوم بدت ملامحها أشدّ حزناً .. فحدّثت صورته بصوت حزين :

    - كنت تصادق ذلك الرجل روحياً .. برغم عدم معرفتك له شخصياً .. فهكذا – نحن لا نتوقع الخيانة من أخوتنا في بلدنا الحبيب .. ونصدم من أية خيانة تواجهنا وكأنّها الخيانة الأولى في العالم .. وكنت تقول : (( كثيراً ما يبحث الأعداء عن النفوس الوضيعة التي تمتهن الخيانة ولكنهم لن يجدوا ضالتهم في بلدنا )) .

    لكن ذلك الرجل .. يبيع أمّته للأعداء مقابل فتات أموالهم . ولم يزل قولك ماثلاً في ذهني يطمئنني : (( بلدنا قويّه وقد اعتادت عبر الزمن التصدي للمؤامرات التي تحوكها الأيدي القذرة وتمكنت من القضاء عليها )) . فلا تخشى سرقة حديقة ألعاب أطفالنا أو ضحكة بريئة من ضحكاتهم .. أو رفرفة الطيور والفراشات فوق ربانا .. فبلدنا قوية ويستوطنها الأمان .

    وهذا المطر الغزير خلف نافذتنا يوحي بتلاشي السحب التي تحجب وجه السماء الأزرق الذي سنراه في الصباح مشرقاً بشمسه الباسمه فلا تقلق علينا يا حبيبي يا من نستمد منك التفاؤل والقوة فلن تذهب تضحيتك سدى . ألم يبع ذلك الخائن بلده ليحمي أمواله القذرة ؟ ألن يجعل أولاده وأحفاده يشعرون بالذل حين تذكرّه ؟ لكن أنت أيها الحبيب ضحيت بروحك الطاهرة لتحمي بلدك ولتجعل أولادك وأحفادك يحيون بعزّة وكرامة مدى الحياة .. أمّا ذلك الخائن فأين سيهرب من خيانته التي وضعته على دفّة آلام في بحر من الذل ولن تدري إلى أين ستتجه به .. ولن يبقى منه سوى ذكرى باردة حين تعبر ذهن المواطن السوري ستشعره ببعض البرودة التي سيتخلّص منها بالتدثر الجيّد بعباءة وطنه التي تحتضنه .. ويتشدّد هو في التمسك بها بكل ما يملك من عزّة وكرامة الإنسان الحق الذي يتمثل بك أيها الحبيب .

    وأعادت السيّدة صورة الشهيد إلى مكانها ثم اتجهت ببصرها نحو النافذة وهي تصغي لصوت المطر المنهمر بغزارة .

    &&&

    حين يصمت المكان


    جلس في غرفته وحيداً .. يستعيد ذكريات حياته التي كانت تحفل بالأصدقاء والأهل والأبناء والزوجة .. شعر بوحشة وكآبة فالبيت ساكن صامت بلا حياة .. وحين يصمت المكان يعلو صوت الذاكرة والفكر ..

    نظر لمرآته .. وراح يتحدث لذاته : (( كنت أريد بقاءهم قربي .. فلماذا تركوني لوحدتي المضجرة هذه ؟.. )) .

    خرج من ذاكرته صوت أحد أحبته قائلاً : (( لقد جعلتنا في حالة انزعاج دائم بسبب معاملتك وأحاديثك المليئة بالاتهامات التي كلتها علينا فرداً فرداً .. وكنت لا تكتفي بتوجيه التهمة .. فهذا أمر لا يرضي غرورك بأنك متميّز وقادر على الغوص غير العادي في أعماق السيكولوجيا حتى لتخال نفسك طبيباً نفسيّاً .. فتحاول بإلحاح غير طبيعي إقناع محادثك بصحة التهمة التي تكيلها له .. ولا تسمح بأن يدافع عن نفسه وكأن لكلامك قدسيّة تجعله غير قابل للنقاش .. غير آبه لما قد تفعله تُهمك المقززه بشعوره .. )) .

    أزاح وجهه عن المرآة وقطّب جبينه .. ونهض .. ثم سار بضع خطوات أمام نافذته الموصدة .. واقترب منها .. ووضع يده بتردد على مزلاج النافذة ليديره .. وحين شعر بأنفاسه تضيق .. فتح النافذة بقوّة على مصراعيها .. وأخذ نَفَساً عميقاً .. ثم شُغل بمنظر المارّه .. الذين يسيرون جماعات وفرادى .. وراح يتأملهم .. فبدا له من يسير بمفرده مقطّب الجبين .. معظم الوقت .. أو شارداً .. أما الجماعات فملامحهم توحي بالألفة والودّ .. وجعلته أصوات ضحكهم المرح يبتسم .. وحين أدرك ذاته المتألمه .. تجهّم وجهه ونظر إلى سريره الخالي .. وناجى زوجته : (( حتى أنت تخليّت عنّي ؟! )) .

    أغلق النافذة وخرج من غرفته .. وسار بمحاذاة أسرّة أولاده بألم .. انزلقت الدموع من عينيه .. فخرج .. إلى حديقة منزله .. جفّف دموعه وشكا للأزهار ظلم الأحبّة والخلان : (( حتى زوجتي وأولادي .. قد طاب لهم البعد عنّي .. هبّت نسائم عطرية من الورود وذكرته بقول أحد أحبتّه : (( سيجعلك وحيداً تعلقك غير الطبيعي باللاشعور ونبشك الدائم بقمامته .. أمّا إن أردت أن تبقى محاطاً بودّ وألفة الأحباب والأصحاب فعليك أن تمنح الشعور حقه وتوليه اهتمامك .. فأنت تتغاضى عنه دوماً .. وتقفز إلى اللاشعور بشكل مباشر وبدون مقدمات .. لتحلّل الأمور كما يشاء خيالك .. فإنّ إبقاء فكرك تائهاً في مستنقعات اللاشعور قد يسّبب لك يوماً الوحدة القاتلة .. )) .

    اقترب من إحدى الورود .. أمسك أوراقها بلطف وقال : (( إنني أريد لأحبّتي السعادة والحياة السوّية فأنا أنبّههم لعُقَدٍ يجهلونها .. )) .

    سرت نسمة هامسة فوق الوردة : (( أنت لا تنبّهنا بل تتّهمنا .. وتسيء لإحساسنا بأسلوبك الخاطئ .. فكيف تريدنا أن نقنع منك بأن لدينا مشاكل نفسيّه وأنت تُشعرنا بوضع غير صحيح لديك في هذا الجانب ؟

    قطَّب جبينه .. وسار في الحديقة صامتاً .. لبعض الوقت .. يبتسم تارة .. ويقطّب جبينه تارة أخرى .. ثم قرّر الخروج من داره ومن دائرة فكره إلى نور الشمس وضياء الشعور . متمنياً أن يلقى أحبّته في حالة انتظار عودته الواعية الحميمة إليهم، ليبدأ تعايشه معهم بأسلوب حياتي وفكريّ جديد.

    فراحت خطاه تلتهم الزمن بلهفة وانفعال خشية عدم وصوله في الأوان.

    &&&

    البيت

    وتمضي الحافلة بعجلاتها السريعة .. غير آبهة بما تدهسه من الماضي الساكن في أعماقنا أو حاضرٍ عابرٍ من حياتنا المسافرة .. هذا ما فكر به سرحان،حين كانت الحافلة التي تقلُّه تسرع بعجلاتها .. وقد نسي نفسه،وشرد بأفكاره بعيداًعنها.. ليتذكر عروسه اللطيفة وهو يدعوها للدخول إلى منزله المتواضع : (( هذا هو البيت إنّه كما ترين غير مطليّ ولم تزل أرضه من الإسمنت فقط ، ولكن كل ما تشاهدينه الآن سيتغيّر خلال شهرين فقط لأنني سأجعله لأجلك لامعاً برّاقاً )) .

    ابتسمت العروس ونظرت إلى سرحان بمودّة .. خفّفت الحافلة سرعتها لتسمح لقطتين مسرعتين بعبور الطريق .. نظر سرحان حوله في الحافلة .. فلفت انتباهه وجود شاب وفتاة يجلسان متقابلين .. يتأملّها الشاب بإعجاب كبير يبدو على محيّاه كما يبدو على الفتاة رضا وقبولٌ بهذا الإعجاب ولكنها توجه نظرهانحو النافذة .. ابتسم سرحان ورجعت به الذكرى إلى الوراء، بعكس اتجاه الحافلة.. دخل إلى منزله ذات يوم ، وحال زوجته لا ينبئ بخير .. فسارع بالجلوس قربها مستفسراً عن حالها .. فأجابت : (( لماذا تأخرت عليّ .. لقد أحزنتني الوحدة، وأضجرني الملل )) . فقال سرحان : (( كلُّ هذا لأنني تأخرت ؟! اطمئنّي يا عزيزتي لن يصيبك الملل بعد اليوم لأنني قرّرت أن أحوّل إحدى غرف البيت لمحل تجاري تديرينه أنت فيشغلك عن التفكير بالوحدة أو الملل )) . فدهشت الزوجة : أتريدني أن أصبح بائعة ؟! وهذا البيت ألن تصلح لي مظهره كما وعدتني ؟ .. يبتسم سرحان : (( طبعاً طبعاً يا عزيزتي سوف أصلح مظهره ،وأجعله لك بعد مدّة وجيزة لامعاً برّاقاً فلا تخشي على هذا الأمر واصبري قليلاً .. )) .

    وتستمر العجلات .. تدور وتدور .. ويدور معها الزمن .. ويلتفت سرحان باتجاه الشاب والفتاة فيرى الفتاة تتأمل الشاب وهو منشغل عنها ببعض أوراق يحملها وبدا في عيني الفتاة طيف ابتسامة حنون يداعب ملامح الشاب الذي سرّها ما أبداه نحوها من إعجاب .. وحين التفت إليها الشاب سارعت بتوجيه نظرها إلى النافذة .. فابتسم الشاب .. ولمعت عيناه ببريق جذاب .. ودمعت عينا سرحان وطارت به الدموع إلى ذلك المحل التجاري .. حيث تجلس زوجته المسنّه والتي بدا عليها الانزعاج وهو يقترب فيجلس إلىجوارها ويسألهاعمّا قد باعته في هذا اليوم، ويفتح دفتر حساباته ويتأمله كعادته .. سألها عمّا أذنبه بحقها .. فأجابت والحزن يَهدِّج صوتها .. (( لقد أضعت لي شبابي وعمري .. لم أستمتع بهما، ولم أشعر بوجودي في الحياة كامرأة جميلة .. لأنني دائماً وحيدة ومهملة .. وجاء أولادنا .. وكبروا .. ومثلي كانوا يشعرون بإهمالك وبُعدِك .. لقد كنتَ دائماً تعيش في عالم غير عالمنا .. لماذا ؟!.. لماذا لم تَعِش معنا وتشاركنا بأفراحنا وأحزاننا الصغيرة .. ولم تشغلك يوماً اهتماماتنا ولم تأبه لتفكيرنا وأحلامنا ورغباتنا .. أين أنت منَّا؟ كانت الابنة تحلم بالأب الصديق، والابن بالأب الحنون أما أنا فأغلقت الصمت على حزني واستسلمت لرتابة أيّامي .. تلك التساؤلات كان الأولاد يلقونها علي، وكنت أتمحَّلُ لك اللأعذار ..وأقول: إن عملك يأخذ كلّ وقتك .. والآن كبر الأولاد ومضى كلٌّ في سبيله.. .. أمّا أنا والبيت فلم نزل نعاني شدّة إهمالك .. ذلك البيت الذي لم يكن يعني لك يوماً أكثر ممّا يعنيه أيّ فندق لأيّ زائر غريب فأنا لم أطلب منك أن تطليه لي بأفخر أنواع الطلاء .. أردت فقط أن يصبح ناصعاً مشرقاً .. ولم أطلب منك أن ترصف لي أرضه بالرخام الأصليّ اللامع البرّاق.. وإنما أردت أن يصبح زاهياً مبهجاً لترتاح نفسي لمنظره وأنا أستقبل ضيوفي الذين يعلمون أننا لسنا فقراء مدقعين مع أنّ مظهر منزلنا يوحي بذلك بالرّغم من أنني وأنتَ نعمل ونجني المال الذي يكفي لإسعادنا .. إنك تجعلني أحيا مع الوعود الكاذبة .. فأمضي عمري مع الأوهام .. إلى أن انتابتني الكآبةوساءت أحوالي النفسيّة فابتعدت عن صديقاتي وأقاربي وجيراني وامتنعت عن زيارتهم لئلاّ يدخلوا بيتي ويلاحظوا إهمالك المُزري لي وله)).

    ويبدو التأثر على وجه سرحان : (( هل هذا ما يزعجك ؟ لا أعلم بماذا أجيبك .. ولا أعلم كيف مضى العمر كلَّه على هذا النحو .. و أعدك الآن أنّه الشهر الأخير الذي أطلب منك فيه أن تصبري عليّ قليلاً .. وسوف أجعل لك بيتنا أجمل بيوت الحيّ وسترينه لامعاً برّاقاً مبهجاً بأفضل ممّا ترغبين )) .

    هدأت العجلات قليلاً .. مسح سرحان دموعه وعاد للنظر باتجاه الشابين العاشقين .. كان الشاب ينظر للفتاة نظرة مودّة، وكانت هي تنظر باتجاه النافذة، لكن انتباهها يبدو من خلال ابتسامة عينيها متجهاً نحو الشاب .. وفجأة تنظر إلىعينيه.. وجري حوار النظرات المدهش .. الذي يعرفه سرحان جيداً .. إنه حوار يَعِدُ ببداية قصة حب بدأت أو بقصة حياة جديدة بدأت .

    عاد سرحان لشروده، وتذكر كيف دخل أخيراً محلّ الرخام الثمين وابتاعه .. قال للبائع : (( أريده رخاماً أصليّاً لامعاً برّاقاً )) .. فأجابه البائع : (( على الرحب والسعة )) . فابتسم سرحان لشعوره بأنه ينفذ وعداً قديماً آن أوان تحقيقه برغم أن الحزن كان يطغى على روحه وأعماقه وهو ينفذ وعده القديم .. توقفت الحافلة في مفترق طرق .. بقي سرحان في مكانه يتأمل الشابان العاشقان إلى أن ترجلا ونزلا من الحافلة .. وسارا كلٌّ في طريق وأعينهما تطالبهما بالسير في طريق واحدة .. حمل سرحان بعض الورود والرياحين ونزل من الحافلة وسار باتجاه المكان الذي يتساوى فيه الناس جميعاً وينتهون إليه .. مضى باتجاه جدث هو البيت الأخير الرخامي اللامع الذي شاده لزوجته المتوفاة .. وضع الورود والرياحين على مثواها .. وراح يتلمسه بيديه والدموع تهل من عينيه .. فجأة يتراءى له وجه زوجته على جدار المثوى وهي تنظر إليه بعينيها الجميلتين نظرات عتب وتكلّمه بهدوء حزين : (( أهذا هو البيت اللامع البرّاق الذي طالما وعدتني به ؟! )) .

    @@@

    لوتس

    جلست الشابة (الموسيقيّة) لوتس على شرفة منزلها .. ترشف قهوتها بصمت وتتأمّل الطريق المليء بالناس والحياة بعينين ساهمتين .. تتراءى لها صور لا يراها سواها .. وتستمع لمقطوعات موسيقيّة تعزفها لها الذاكرة على آلات ترنّم عليها الزمن بحزن .. بدأت بالإعجاب المتبادل السريع .. ثم بخطوبة رشيقة لم تمكث سوى خمسة عشر يوماً .. انتقلت منها لعقد قران طائر لسرعته في زف لوتس لتسافر لمدينة زوجها والبدء معه بالحياة الزوجيّة التي طالما دندندت ألحان عالمها بالأحلام الرومانسيّة ..

    رشفت قهوتها .. وطعم الألم ما زال عالقاً في أعماقها جرّاء آخر حديث بينهما فحين فارقته وطال مكوثها لدى ذويها .. جاء يكلمها عن الحب برومانسيّة المجرمين قال : (( عودي إليّ وكل ما أزعجتك به سأصب عليه " أسيداً " )) .

    ما جعلها تشعر أنها قد فعلت الصواب بهجره .. فالمستقبل معه مريب .. وتتلاحق ذكريات حياتها الزوجيّة الحزينة التي بدأ يومها الأول بنغمات تراقص الأحلام برومنسيّه .. وانتهى بارتباك نغماته ما جعل الأحلام تتعثر حين قال : (( كانت خطوبتنا قصيرة .. فلم أرك بمفردك ما يكفي لأخبرك بكلّ شيء عنّي .. فأنا مريض قليلاً .. أعاني من عجز جنسيّ .. ولكنني أُعالج وقد أشفى .. لكن إن لم أشف فهل ستستمرّين معي ؟..

    أدهشها تأخره الكبير في طرح موضوع كهذا .. لأن إخفاء المواضيع الأساسيّة بين شريكين يوحي بنوايا الخبث والأنانيّة .. لكن نقاء سريرتها وظنها الحسن كانا يغلبان عليها أجابته : اطمئن يا عزيزي هذا الأمر لن يؤثّر على حبّي لك .. فالصداقة والتفاهم والحب .. أهم روابط تجمع بين اثنين ..

    بقي الفنجان في يدها واستمرّت عيناها في فضائهما الخاص .. والألحان تسمو حيناً وتئنّ حيناً كهبوب الريح .. فقد استمرت أيّاماً وهي تحاول إسعاد نفسها وجعلها تتقبّل حياتها الجديده والتغنّي بالأوهام لاستجداء السعادة من العمر .. وذات نهار مشمس .. صعدت سطح المنزل لاستكمال بعض الأعمال المنزليّه .. وحين عودتها وجدت الباب مغلقاً قرعت الجرس .. وإذ بالزوج الغاضب يفتح الباب ويفاجئها بسؤاله : أين كنت ومع من ؟. هيّا أجيبي ؟..

    أذهلها سؤاله وهالتها ملامحه المخيفة .. أجابت : وأين سأكون بملابسي البيتيّة هذه .. وسلّة الملابس بيدي ؟!..

    فأدخلها للمنزل وتابع صراخه : ألم تواعدي أحدهم ؟ أجيبي ؟ لا تحتالي عليّ .. لمَ صعدت سطح المنزل أثناء غيابي وكان بإمكانك انتظار عودتي ؟.. ألم تعديني بالبقاء في المنزل ؟ عليك أن تحذري الخيانة .. فإن نظرة منك لكائن من يكون .. أخي .. قريبي .. صديقي .. لهي بمثابة خيانة بشعة لن أغفرها لك أبداً .. واحذري أن تكذبي عليّ يوماً .. ومن الآن فصاعداً سأقفل جميع الأبواب .. فكوني هادئة .. لقد بنيت منزلي في أطراف المدينة بعيداً عن الضوضاء .. حرصاً عليك من كل الناس وليس لي من جوار هنا سوى هذه الأشجار الكثيفة التي تحيط بالمنزل من كل جانب وهي خير لي ولك من كل الناس .. أمّا بالنسبة للأعمال التي تستوجب الصعود لسطح المنزل .. فلن تكون سوى بحضوري ..

    تناثرت بعض قطرات القهوة بينما كانت تعيد الفنجان لموضعه .. وتواترت موسيقا الذاكرة .. بين الصخب والأنين في ذهنها المرهف .. فقد فوجئت في أحد الأيّام بمجموعة من الأسلحة في غرفة النوم .. فسألته عنها .. وكانت إجابته : بسبب انفراد المنزل بين الأشجار .. فقد يختبئ خلفها شرّ ما .. وقد أحتاجها أيضاً لأعاقب بها من يرغب الاستهانة بي .. هذا إن لم أجعله يفضل الانتحار .. هل تفهمين ؟..

    نظرت إلى يمين شرفتها .. فشعرت بنظراتها تلقي بها إلى وادٍ سحيق .. فأبعدت يدها المتكئة على سور الشرفة واتكأت بها على ذراع الكرسي لتغلُّب الخوف عليها .. انتابتها ذكريات كالألحان الناشزة .. شعرت ذات يوم بالشوق لأهلها .. وعبّرت عن ذلك .. فاضطرب وتغيّرت ملامحه وصرخ : لن تزوري بمفردك أحداً .. أهلي .. أهلك .. أختي .. أختك .. وبمجرد ذهابك وحيدة .. سأتهمك بالسرقة والخيانه وسأنهي علاقتي بك بإذلالك أمام جميع الناس بمن فيهم أهلك وقد لا تشفى ثائرة غضبي من تحطيمك فأفعل بأهلكِ مالا تتوقعين .. فاحذري إغضابي ..

    اتكأت برأسها المثقل على سور الشرفة .. والذكرى لا تثبت على وتيرة واحدة .. فحين الغرق في لُجّة شجوها الحزين .. تطلّ الذكريات المفرحة من أحد جوانبها .. كي لا تسيطر الكآبة بظلمتها على النفوس المتعبة .. كان ثمّة زيارة مشتركة قصيرة .. استطاعت خلالها لوتس .. بث مواجعها لشقيقتها الكبرى رغد .. وإخبارها عن خشيتها الهروب من جحيمها بسبب تهديدات زوجها المرعبة .. ما أحزن رغد وسبب لها صدمة عميقة...

    رفعت لوتس رأسها .. وأصلحت جلستها .. وشعرت كأنها تستمع لألحان تتهادى كضحكات الأطفال البريئة .. فبدت بتسامتها كشراع يمحو الأسى في شطآن عينيها .. وهي تستعيد ماروته رغد عن خطّتها مع الشقيق الأكبر رؤوف : اتفقنا بألاّ نعلمك بخطتنا لئلاّ يبدو عليك ما يثير شكوك زوجك – السيّء الظن بشكل مرضيّ – وكان يجب عليّ أولاً التأكد من أنّك حقاً ترغبين الانفصال ولا قدرة لك على التحمل لأن الطلاق يا شقيقتي العزيزة بغيض علينا وعلى المجتمع وعلى الله تعالى ولكن عندما تصبح الحياة سجناً كئيباً فما على الإنسان سوى بالمطالبة بالحرّية .. وثانياً : أقدم لرؤوف سيجارة أجنبيّة وأنت تعلمين أنه لا يتقبل التبغ الأجنبي .. وأطلب منه أن يدخن ومعنى ذلك أن يبدأ بخطة خروجك من المنزل برفقتنا .. دون أن يثير زوجك المتاعب ..

    رشفت قهوتها وعاد شراع البسمة لعذوبة عينيها .. هاهي رغد تحمل علبة التبغ وتقول لرؤوف : " دخّن يا أخي دخّن " أخذ رؤوف السيجارة ونظراته مثبتّة على عينيّ رغد .. في حوار خفيّ بينهما .. ثم أشعل السيجارة ووضعها أمامه وبدأ بمحادثة زوج شقيقته : إن السبب الثاني لزيارتنا بعد شوقنا لكم هو مرض شقيقنا الصغير ودخوله المشفى لإجراء عمليّة جراحيّة .. وهو راغب برؤية لوتس قبل إجراء العمليّة وعلينا أن نحقق له رغبته .. فهذا أمر ضروري .. ويستحق اهتمامنا .. أليس كذلك ؟ فأجابه زوج لوتس : طبعاً .. طبعاً .. إنه لضروريّ حقاً ..

    أعادت لوتس فنجانها ونهضت باسمة برغم آلامها .. لتحاول نفض غبار الألم عن حياتها .. والمضيّ قدُماً .. وهي مؤمنة أن موسيقا الحياة تلد كلُّ يوم أنغاماً جديدة تجعل الجرح يلتئم وتبعث في أعماق النفس إنساناً جديداً يدرك معنى البهجة بعد الألم .. فالشعور بالحرية أعظم ما يبهج الإنسان لأنّه يجعل طاقته بأوج قوّتها ويستطيع حينئذ مواجهة كل أنواع الظلم .. فحين نملك أنفسنا نملك عالمناكله .


    &&&


    العكاز

    بينما هي ممِّددة على سرير المرض .. وإذ بقشعريرة البرد القادم من ذكرياتها تلفح جسدها ، فتسحب الغطاء الأبيض بيديها المتعبتين وتتدثر به جيداً أعادها البرد لذلك اليوم حين شعرت بصداع لا يشبه أيَّ صداع ، وهي تحاول صِّم أذنيها عن سماع ضجيج البهجة الهادر من عرس زوجها الذي برد حبه لها منذ تعرضها لحادث جعلها عاجزة عن القيام بكثير من واجباتها الزوجية ، فأضحت تعرج بانحناءة شديدة من جذعها كله . ضغطت بالغطاء على أذنيها لتمنع عنهما البرد المتسرب من ذكرى آلمتها ، وهزت كيانها حين قال لها زوجها الحبيب الذي أحبته بجنون المراهقة ونضج المرأة : لن تستطيعي إنجاب ولد آخر غير ولدنا مازن .. وأنا أريد أن يكون لدي أولاد كثر .. لهذا قررت الزواج .. وأنت ستمكثين في هذا المنزل مع مازن ولن ابخل عليكما بشيء .

    وتذكرت ما حل بها ، وكيف دار بها الوجود ولم يقف .. وهي ترى غرورها يتحطم ، وعظمتها تهوي قرب مشاعرها القادمة من برج سماوي عظيم . وصبرت وهي تروي بركان آلامها برؤية ابنها ينمو أمامها حتى أضحى قادراً على السير . أبعدت عنها الغطاء الدافئ .. حركت رأسها على الوسادة ، وعقدت حاجبيها وهي تستعيد تلك الوقفة التي وقفتها أمام زوجها وهي بحالة انفعال هستيري وقالت : لن أرضى بخيانتك لي .. أبداً لن أرضخ للذل .. فما تفعله بي هو الذل بعينه ولن أبقى لديك ذليلة .. ولو قدر لنا تبادل الأدوار لما جعلتك تشعر بعجزك لحظة ، وكنت حرست حبنا برهافة الإحساس ورقة الشعور ، وأبعدت عنك الشعور بالذل الذي أغرقتني أنت فيه .. أنا الآن أمقتك ، وأمقت رؤيتك .. أغمضت عينيها بشدة فعصرت غيمة الدموع وبللت وجنتيها الشائختين حين تذكرت كيف أمسكت بذراع الصغير ، وخرجت ، وهي تقول لزوجها : لي أقارب كثر في كثير من المدن ولن نحتاج لنقودك أنا وولدي أبداً ، وإن حاولت استعادة ولدي مني ستراني بصورة غريبة عن مخيلتك .. سأقتلك .. أجابها : سأدع لك مازن شفقة عليك لا خوفاً منك .

    والتفتت تجاه السيروم المعلق بذراعها وكلمة شفقة تتكرر في كل أرجاء الغرفة الصغيرة .. هاجمها البرد من جديد .. فعادت تستنجد بالغطاء ليشعرها بالدفء وشريط ذاكرة تنقلها من منزل لآخر يدور برأسها . كانت تطرق على الأرض بعصاها .. فينظر إليها طفلها بذعر وتئن الأرض من وقع غضبها عليها وخطا عصاها .. وكم انهالت مراراً على وجنة الأرض طرقاً بتلك العصا الحاقدة وكأن الأرض هي كل المذنبين بحقها .. وصغيرها يتألم من عزم قبضتها على ذراعه الصغيرة وهي تسحبه ليسرع في خطاه . أزاحت الغطاء عن كاهلها العليل ، وتنهدت بألم ووجهت نظرها إلى نافذة غرفتها في المشفى والظلام الصاعد من يأسها يتاخم سواد الليل في الخارج ، وقد تراءت لها تلك الوجوه التي طالما رجتها بالعودة إلى السكنى بالقرية .. ليحظى ابنها مازن بحقه في التعليم والحياة المستقرة المريحة .. وطالما أجابت هي : لا أستطيع رؤيته يسكن مع امرأة أخرى .. لا أتحمل السكن معه في البلد نفسه وهو يحيا مع سواي .. لقد دمرني .. حطمي . وبالنسبة لتعلم مازن لا أريد أن يخشى عليه أحد ، فأنا أجيد القراءة والكتابة والحساب .. وولدي لن يحتاج معلماً سواي .. سأكون منهله الوحيد وسأكفيه من العلم .

    سمعت أصداء أصوات قادمة من ظلام النافذة : - كيف ترضين أن يحمل حطامك ولدٌ مثل مازن ويعاني وحده في تجواله بك إلى مختلف أصقاع المنازل والأراضي ؟! وتكرر الصوت من الاتجاهات كافة : - يحمل حطامك مازن وحده في الأصقاع !

    وبحركة هستيرية تنم عن اضطرابها النفسي أمسكت الغطاء وتذكرت تسلطها على مازن وحيدها – الذي عانى من فوقيتها واستبدادها ، والذي شب على قهره النفسي جراء معاناته تلك – وصرخت بانفعال وهي ترتجف برداً : - لا يا مازن أنا والدتك .. هذا حرام .. لا تعاملني بهذه القسوة .

    وشعرت بصوته المقهور الغاضب قريباً من مسمعها يقول : - لقد حولتني عكازا تلقين ثقل آلامك عليه طيلة حياتي ، فلم يظلمك والدي أكثر مما ظلمتني أنت ، أنا ضحية أنانيتكما .. لقد حرمتني من العلم والاستقرار والزوجة .. وكنت كلما ابدي إعجاباً بفتاة ألقى منك صراخاً مزعجاً محدداً ( هذه يا غبي لن ترضى بمثلك لأنك لا شيء .. ثم أنت لن تقوى على العيش بدوني وأنا لن أحيا بدونك ) . فلماذا أنا لا شيء ولماذا أنت لن تستطيعي الحياة بدوني ؟ ألأنني لست سوى عكازا لك ؟! لم أرفض لك طلباً يوماً وكنت عكازك مرغماً ، لأنني لم ألق منك السعادة ، بل كنت تضغطين علي بقسوتك وتقدمين لي كل ما يهين ويذل ويرهق برغم أني ابنك الوحيد .. وعندما يفرغ جيبك مما يمنحك إياه أقاربك من المال ، كنت تقومين بتعليمي كيفية التسوُّل لإحضار المال اللازم لك لمتابعة رحلة الشقاء التي فرضتها عليّ بأنانيتك ، وأصبحت رجلاً لا يشعر برجولته .. ثقتي مهزوزة بك بنفسي وبكل الناس . فقد جعلتني لا أخطو .. لا أضحك أو أبكي إلا بأمرك أنت .. لقد حولتني بالفعل عكازا لا غير .. وهاأنا أستجدي محادثة الحسناوات بالتسوُّل منهن وهذا ما جعلني أجرؤ على التسول .. فمعظم وقتي وأجمله حين ادعك وحيدة بلا عكاز وأهرع إلى إحدى المدارس أقف قرب بابها .. تنظر إلي الحسناء ألتهم نظرتها وأنا أُلحِن صوتي كي تمنحني عطفها ، وأطلب منها بعض المال ، أبوح لها بجوعي المفرط .. آه .. أنت لست أمّاً .. أنت كل أعدائي .. هات هذه العصا .. أسقطي أرضاً .. أريد رؤيتك بلا عكّاز .. يجب أن تمضي بقية عمرك زاحفة من دوني . جحظت عيناها وصرخت : لا يا مازن .. وانتبهت لحاضرها وإذ بها محاطة بطاقم طبّي .. وأطل بينهم وجه مازن باكياً رأته وغشاوة الموت تحجب عنها رؤيته .. أسدلوا الغطاء فوق وجهها .. صرخ مازن : - أمّاه .. أنا سبب موتك كيف أستطيع العيش وحيداً عالمٍ كهذا ؟! أنا الآن بلا أمّ فماذا سيحل بي ؟! وبدا صوته البكائي خشناً ضخماً طفولياً .


    & & &

    سيرين والذراع الطويلة

    صعدت شمس الصباح فوق سطح البحر .. وأشرقت على زرقته ، تغسل وجهها وخصلات أشعتها ، بمياهه الهائلة .. التي تداعب الريح .. فتعلو الأمواج برهبة حيناً وتضطرب متهالكة أحياناً .. كأفكار " سيرين " عاشقة الصباح والبحر .. أخذت الأمواج العالية تنثر رذاذها فوق رمال الشاطئ التي غطت قدمي " سيرين " وهي تجلس وحيدة تتأمل البحر بعينيها الدامعتين .. وتحملها أفكارها في جولة إلى حنايا الذاكرة .. فترى " فارساً " حبيب أيامها .. يسير قربها .. تتألق السعادة من عينيه بألق الحب .. الذي يحاكي بريق عينيها .. جلسا على شرفة الحب .. يرشفان كلماته .. يتناولان نرنيماته .. بروحيهما العطشاوين الجائعتين .. لكل ما يحمله عالم الحب ..

    اقترب رذاذ الموج وداعبتها قطراته .. وحين امتزجت تلك القطرات بدموعها خبرت أعماقها .. فهمست تسأل : - أين فارس منك الآن ؟

    - لقد سحبته " الذراع الطويلة " إلى الخلف .. وحين التفتُ إليه لأحثه على المقاومة .. تحولت أحزاني هتوناً .. لأنني رأيت الاستسلام يسيطر على نظراته ، ويحتل عينيه .. فجرّ أذيال استسلامه ، واختفى .

    غاصت قطرات المياه .. لتعود ، وتمتطي عباب الريح بموجة جديدة ، وتستطلع خفايا " سيرين " عبر دموعها : - لمن تكون تلك الذراع الطويلة ؟

    وضعت " سيرين " رأسها على ركبتها ، وأغمضت عينيها ، فرأت أفكارها تحضر مرآة الذاكرة وتوجهها لموقع من الطفولة .. فتظهر طفلة شقراء في الثامنة من عمرها تقف وحيدة أمام مفترق لعدة طرق ، والشمس تلمع حرير شعرها .. ودموع عينيها المنهمرة .. لأن شقيقتها اختفت عن ناظريها ، فشعرت بالوحدة تتحول وحشاً مخيفاً وما درت أيّ الطرق تسلك لتصل إلى مدرستها .. وفجأة امتدت إليها ذراع طويلة أوصلتها إلى المدرسة ، عرف منها صاحب الذراع اسمها وعرّفها على اسمه " عدي " وقبل دخولها إلى المدرسة ألقت عليه نظرة شكر وامتنان ..

    حمل " عدي " تلك النظرة في عقله كما شاء هواه .. وراح يرسل مجساته على دروب حياتها .. باهتمام العاشق .. عانقها الصبا .. احتضنتها الجامعة .. سطعت ابتسامتها بين الدموع .. حملت بين راحتيها حفنة رمل .. ونثرتها بحركة عبثية تداعب بها مياه البحر الفضولية .. وكانت المرأة موجهة على حياتها الجامعية التي بدأتها بسوار الحب من باقة شباب وشابات .. ومع استمرار الأيام .. شكلت باقتها الخاصة .. وفي كل حضور حميمي .. تزهو ثمار مرح جديد .. فتنتعش الصداقة ..

    جالت الأفكار في دروب الذاكرة .. وتوقفت حيث بدا " فارس " يقف متكئاً على جذع زمن الحب .. يرسل لعيني " سيرين " وميض الفصول المتآلفة ورحابة الوديان حين ترتدي وشاح الربيع المزركش .. وكانت " سيرين " في حالة مرح بصحبة ورودها الأثيرة .. فخبأت رسالته تحت ثوب النبض .. فتفتح في قلبها برعم الحب الذي رعته وروته بزخات اهتمامها .. وحين التقته .. انساب كلامه نغمات موسيقية لم تلثم ثغر الوجود بعد .. وأحاديثه .. قصائد حب .. لم تراقص الحياة بعد .. رفرفت الساعات والأيام .. مغرّدة بترانيم حب أزلية ..

    في فضاء الحب .. كان إحساسهما .. يراقص الأنسام والزهور .. وحدهما والغيم الأبيض في تلك المساحة الخضراء من الكون .. وإذ بنظرة ثاقبة تسلط حقدها عليهما .. وذراع طويلة تحاول الإحاطة بذلك الإحساس الذي يتراقص هناءة .. تلك الذراع التي استطالت كثيراً وازدادت مجسّاتها خطراً .. وأضحت تعتقل كل أخبار " سيرين " ليهنأ بها " عدي " ويُرضي بها خبثه .. شعرت " سيرين " بصداع طالما أحضر كآبته معه .. فاستنجدت نظراتها بالمدى .. الذي أرسل لها موجة راقصة تطاير رذاذها عالياً ليداعبها فرفعت رأسها ويديها لاستقبال مياهه المنعشة .. التي غسلت شعرها والتصقت بخلاياها .. لتعلم ما بها بفضول نبيل .. فهمست : - وكيف استطاع " عديّ " أن يفعل ما فعله .

    اتجهت الأفكار بهدوء إلى مكان رغبت الذاكرة تعتيمه .. حيث تقبع " سراب " إحدى صديقات " سيرين " في الجامعة والتي سلبتها من حضورها المرح بين صديقاتها وقتاً طويلاً .. وثارت نقمة الصديقات على تلك السراب .. لأن سرقة الوقت – وخاصة في عمر الصداقة – جريمة من الصعب غفرانها .. التفّ " عدي " حول " سراب " كأفعى ساحرة .. واستطاع ولوج قلبها وامتلاكه استسلمت " سراب " لهذا المالك .. ولأشواكه وأفاعيه .. والذي استطاع بإبر تسلطه وخبثه .. توجيهها حسب مشيئته .. وليس أخطر من فعل اليد الخبيثة حين تمتد إلى العقل وتعبث به وهي ممسكة بالقلب ..

    دخلت " سراب " عالم " سيرين " الخاص .. وألقت بشباك الصداقة عليها نالت عطفها ومؤازرتها حين فتحت أمامها دفتر آلامها المصورة التي رسمها حبّها لـ " عديّ " .. ووجدت " سيرين " حمامة سلام ونبل بريش إنساني وحين يكون النبل عنواناً لشخصية الإنسان فمن العسير التخلي عنه .. ذلك النبل الذي جعل " عديّ " يكشر عن شراسته فهو لا يرغب بحقن التوعية التي تصدر من " سيرين " وتبرعم أفكاراً خضراء تغني حقل " سراب " المجدب في رأسها .. لأن غباءها يرضي خبث رغباته .

    في أحد دروب الذاكرة سارت " سراب " برفقة " سيرين " وكان " عديّ " ينتظر .. ممسكاً بخطواتهما .. وبدربهما .. وحين رآهما .. كادت نظراته تلتهم " سيرين " فاستغاثت نظرتها بـ " سراب " التي حركت بصرها بينهما بيد الشك : - هل من معرفة سابقة بينكما ؟.. افترّ ثغر " عدي " عن ابتسامة تعانق الخبث وأجاب : - نعم ومنذ زمن .. ونفت " سيرين " معرفته : - لا أذكر أنني عرفتك يوماً .. في كل أزمنتي . وكادت تخرج مخالب عقله من جمجمته .. حين جوبه بتجاهلها الصريح له ،ولكنه كظم أنياب غضبه .. الذي تحول إلى بركان جهدَ في السيطرة على حممه التي عقدت العزم على أن تحرق كل أفراح " سيرين " .

    تنقلت الأفكار في حنايا الذاكرة .. فرأت في دربها صورة " سراب " فقالت : - حمقاء وأضحت عاشقة .. ويل لبراءة الحب ونقاء الصداقة من حماقتها .. ولمعت صورة " فارس " فنظرت الأفكار بحزن وقالت : - كيف يدافع عن الحب من أسكن الخوف في قلبه ..؟! وتبدّت صورة " عدّي " التي عبثت بها الذاكرة تهيئة لرميها .. فقالت الأفكار : - ضمن الأسرة المفككة الأوصال والغريبة الأطوار تنمو شخصيات مريضة .. فها هو " عديّ " يبدو هزيلاً لولا إحاطته بمجسّاته الخطيرة .. وأفاعيه التي يستخدمها بديلاً ليديه .. والتي أجاد استخدامها للسيطرة على " فارس " الذي غاص في أعماق الذاكرة .. وسقط في أعماق الحياة ..

    نهض العقل باسطاً ذاكرته ناطقاً بفكره : - إن الشيطان.. يسرح ويمرح في دنيا بني الإنسان كما يشاء، ويداعب أفاعيه بالجبناء من البشر ..

    ثم استرخت الأفكار متكئة على الذاكرة .. بعد أن بعثرتْ بعضاً من تخومها .. وهدأ الصداع .. فشعرت " سيرين " بالنشاط يسري في دمها ويحرّكها لتسير بضع خطوات في المياه الزرقاء .. باسطة ذراعيها للأمواج المتلاحقة .. المخلصة دائماً لبحرها والتي باحت لها الدموع بما يعتري الأعماق .. فانسكبت هامسة : - غير جدير بك من دُرفت لأجله .. فأجابتها الدموع : - إنني عابرة من عالم الحب وسكنايّ في المقلة يأسرني فأداعب الأهداب وأنزلق لأروي الحب الذي يستحق الحياة .. في حالة الفرح أجعله نضراً .. وفي حالة الحزن أنعشه كي لا يفنى .. وأعادتها مياه البحر إلى رمال زمنها اللامعة تحت الشمس الصباحية .. فتمدّدت وجعلت قدماها تغتسلان بمياهه وروحها بأنسامه .. وشعرت بضوضاء الصيف المحبّبة حولها .. فنهضت بكل كيانها .. تلبي دعوة الصيف لمشاركة الناس بهجتهم وحبورهم .

    @@@

    سندريلاّ واللص


    يتجدد الكون بفصوله .. كما يتجدد الإنسان بمراحله العمريّه فالإنسان هو قوام الكون ، ولا أهميّة للكون بدون الإنسان ، فإن إنسانيته كمطر ربيعي يتحدر على أزهار السعادة ، التي أذبلها الحزن ، ليبدّد أشواك الشقاء الإنساني المدمّرة .

    ويزهر الياسمين بقلوبنا دوماً بفرح ، أمّا ذبوله الحزين فهو مؤقت إلى حين تعود إليه أزهاره البيضاء الآسرة من جديد ..

    وهكذا نمضي في حياتنا ، تعبرنا الأحزان كما تعبرنا الأفراح . كان هذا ما كتبته سندريلاّ في دفتر مذكراتها .. ثم أغلقته وسارت تجاه غرفة ابنتها الشابّة الصغيرة ياسمين .. فرأتها متكئة على وسادتها تقرأ قصة الأطفال (( سندريلاّ والأمير )) .. فابتسمت لوالدتها : (( هل بسبب هذه القصة أمّاه سمّيت سندريلاّ ؟ )) . فبدا الحزن على وجه سندريلاّ : (( إن هذه القصة يا ابنتي .. تثير أحزاني )) ، دهشت ياسمين ، فجلست والدتها قربها تروي : (( كان "سالم "شابّاً لطيفاً وقد أحبني بجنون منذ كنّا أطفالاً .. وأوّل هديّة قدمها لي في عيد ميلادي كانت قصة (( سندريلاّ والأمير )) بسبب اسمي .. وحينها ابتسم " سالم" بمودّة : (( ما دمتِ أنت سندريلاّ فلا بد أنني الأمير .. فلا يوجد من يحبّك أكثر لأن حبّي لك يفوق حبّي لنفسي )) .. وكبر ذلك الحب وأضحى كنهر هادر يريد اقتلاعي من جذوري لأمضي معه .. لكنني أحجمت عنه ورددته بسطحيّة هائلة ، لأنني لم أكن أدرك المعنى الحقيقي للحب ، فلم أقدّر حبّه الرائع لي . فأجبته ذات يوم : (( لا يمكن أن تكون أميري الذي أحلم به ، لأنك لست غنيّاً فليس لديك ما تقدمه لي من مال أو ذهب )) ، فتحوّل حبّه لنهر يفيض بالأحزان ، وابتعد عن حياتي ، واحترت حينذاك بأمري هل كنتُ جادّة في كلامي مع سالم أم كنت في حالة مزاح .. لكن هذا ما قد جرى واستمرّت حيرتي إلى أن وجدت أميري الغنيّ " والدك " فاتسعت دهشة ياسمين : (( والدي ؟‍! والدي الذي برغم وجوده في الحياة أشعر أنني بلا أب وأغبط صديقاتي على آبائهن ؟‍! هل بالغنى المادي وحده تتحقق السعادة ؟‍‍! دمعت عينا الأم : (( إنّه حقاً لم يدرك يوماً المعنى الصحيح للأبوّة ، وأنّ الأب ليس فقط ذلك الرجل الذي يقدّم المال لأولاده .. فهنالك ما هو أهمّ من المال عليه تقديمه أولاً ليستحق أبوّته .. يا لخيبتي يا ابنتي ! كنت أرى الحياة ماديّة لدرجة لم أجد فيها أقل ثمناً من الإنسان وقد علمتني الحياة ما هو عكس ذلك أما والدك فهذه نظرته الدائمة للحياة .. فها نحن وحيدتان وله هو حياته الخاصة والتي يقصينا عنها دوماً ، ولا يمنحنا سوى المال .. حدّثته يوماً عن رغبتي في العمل ، فاعترض على هذه الفكرة وحاربها بشدّة .. فماذا سيكون دوره في حياتي ؟ وهو الذي يمنحني المال ولا شيء سوى المال .. وكان العمل هامّاً ليشعرني أنني أحيا .. فالعمل حياة ووجود .. لكن هذا الأمر لم يكن يعني له شيئاً كسائر الأمور التي تعنيني ولا يهتم لها .. وأصبحت الآن لا أراه مختلفاً عن أيّ (( روبوت )) آخر .

    وفي لحظاتي الحزينة تمطر أعماقي بذكرياتي الماضية فأتذكر سالم ويتجلّى لي بحبّه الكبير .. لقد تخلّيت عنه .. وأدركت بعد فوات الأوان أنّه كان أمير حياتي فقد امتلك ما هو أثمن من المال ، آه .. لم أكن أعلم أنّ لحظة حب صادقة تعادل كلّ ما احتواه الكون من ذهب أو مال .

    وتساءلت ياسمين : (( وماذا حلّ بسالم )) ؟

    انثالت الدموع من عين الأم : (( لا أعلم )) .

    في زاوية أخرى من المدينة .. كان الياسمين يعرّش على شبّاك أحد المنازل البسيطة .. وكان "سالم" يجلس وحيداً مع ماضي ذكرياته .. فتهلّ الدموع من عينيه أحياناً .. ثم يبتسم بأسى أو يكفهرّ غضباً فينهض ويتأمّل الياسمين المتدلّي أمام نافذته فيرتاح قليلاً .. ثم تطرق رأسه مطرقة كلام قديم سمعه من حبيبته سندريلاّ : (( لا يمكن أن تكون أميري الذي أحلم به فلست غنيّاً لتقدم لي المال أو الذهب )) وتذكر كيف رحل إلى مدينة أخرى .. وزاح يطارد النساء الحسان لا حبّاً بهن بل حقداً دفيناً يسقطه عليهن .. فقد كان وجه سندريلاّ يتراءى له في كلّ وجه نسائيّ جميل تتزين صاحبته بالحلّي في عنقها أو ساعديها ، فيلقي حقده عليها .. هاهي شابّة جميلة تطلّ من ذاكرته .. تسير بمفردها في الطريق وتتزيّن بقلادة ذهبيّة كبيرة .. يقترب منها "سالم" بدرّاجته الهوائيّة ويمدّ يده إلى قلادتها يقتطعها ويسرع بدّراجته تاركاً الحسناء تسقط أرضاً باكية . ثم يزوره طيف تلك السيّدة الحنون التي أبقاها زوجها في ذلك المحل التجاريّ تنتظره وحيدة وهي تحمل طفلهما الرضيع وترتدي من الذهب الشيء الكثير .

    وطلب منها ألاّ تبيع أحداً شيئاً إلى حين عودته السريعة .. وكان "سالم" أشد سرعة منه فقد اقتحم ذلك المحل التجاري بسرعة خاطفة ووجّه سكّينه تجاه الرضيع الذي تحمله السيّدة يهددها به، إلى أن قدّمت له كل ما لديها من ذهب وكل ما يوجد في المحل أو في حقيبة يدها من مال .. مقابل إبعاده السكين عن طفلها الرضيع الذي قبّله "سالم" قبل خروجه من المحل بودّ أثار دهشة السيّدة الحنون ..

    ابتسم سالم بأسى : (( لقد اعتقدت تلك السيّدة في ذلك اليوم أنني سأقتل الصغير .. إنّها لا تعلم أنّني أقدّس الأطفال .. ولكن آه يا لغبائي وهمجيّتي كيف هدّدتها بالطفل ؟ آه وألف آه .. كان عليّ جمع كنزي بأسرع ما يمكن .. يا لكنزي التعس !.. أما تلك السيّدة الشابّة ذات العينين القاسيتين .. والتي جعلتني أثوب إلى رشدي وأدرك أن درب اللصوصية ليس دربي .. فلن أنساها ما حييّت .. لقد راقب "سالم" تلك السيّدة جيداً ولم يستطع سرقة حليّها في الطريق ، ومن خلال ملاحقته لها وتجسّسه عليها علم أن هنالك أوقاتاً تمضيها وحيدة في منزلها .. فتنكر بزيّ امرأة مسكينة وجلس قرب باب شقتها يطرقه .. إلى أن فتحت السيدة الباب وأدخلته منزلها وقد أبقت باب شقتها مفتوحاً .. وهي تحسب أنها تصنع معروفاً مع امرأة مسكينة جائعة وحين سقط الوشاح الأنثوي عن رأس "سالم" وظهر على حقيقته يطالبها بما تملكه من ذهب أو مال .. بدا الخوف الشديد على ملامح السيّدة أما عيناها فقد ازدادت جرأتهما وقوتهما فحاولت الصراخ إلاّ أنّ الاضطراب والخوف قد جعلا صوتها يختفي .. فما كان منها إلاّ أن أنشبت أظافرها وأسنانها وغرستهم بذراعيّ فهمي وأصابع كفه التي كاد أن يخسر بعضها .. فقد سال دمه بغزاره وعلا صراخه مستجيراً بمن ينقذه .. إلى أن دخل جوار السيّدة إلى منزلها وأمسكو بسالم .. وزُجّ في السجن لينال عقابه .. وفي بداية سجنه كان حقده على سندريلاّ يتضاعف .. فقد حمّلها مسؤوليّة ما آلت إليه حاله .. ومن ثمّ أخذ يلوم نفسه : (( لا يوجد مذنب سواي .. فالإنسان هو المسؤول أولاً وأخيراً على كلّ ما يقوم به من أعمال .. أين كان عقلي ؟ أين ذهبت رصانتي ؟ كيف سمحتُ أن يغادر ني كبريائي .. آه أردت الانتقام لنفسي من سندريلاّ فأهنت نفسي كثيراً وأنا أجمع كنزاً من الألم فقد ألقت سندريلاّ بحبي الكبير لها في الرمال .. فخسرت أنا تقديري لنفسي بغبائي هكذا ببساطة .. ولا يعادل خسارتي تلك كلّ ما في الكون من ذهب .. آه سندريلاّ .. من الذي فعل بي ذلك ؟ أنتِ ؟ أم الحبّ .. حبّي الجنوني لكِ ؟ أم التهوّر وقصر النظر والفهم السطحي للغنى وللحياة ؟ يا لي من مسكين خاسر .. أغلق سالم نافذة ذكرياته وذبل ياسمينه على نافذته بحزن .. ثم أزهر من جديد .. فالكون لا يتوقف عن التجدد ولكلّ زمن ياسمينه المبهج . ففي إحدى الصباحات الربيعيّة .. وقف "سالم" وجهاً لوجه أمام سندريلاّ في مكتبة عامّة ثم راقبا معاً طفلاً يهدي صديقته قصة سندريلاّ والأمير فابتسما في البداية واتسعت ابتسامتهما ثم تحولت لضحكات صاخبة مرحة حزينة ساخرة .


    @@@

    حين تحوَّلت " ريتا" إلى عاصفة

    انحنت كتفا " ريتا " لثقل الحمل الذي وضعه الواقع على كاهلها ، فسارت تنوء بحملها .. قرب إحدى وهدأت الحاضر .. ناداها دفء الشمس ، فلبت النداء وجلست على مقعد .. تطل من خلاله على جدول الحياة المتماوج .. علقت ذراعيها على كتف المقعد ، وأرخت رأسها مسدلة جفنيها عن سحر ذلك الجدول تقدم منها الحاضر – وقد أدهشه تغاضيها عن مفاتن ممتلكاته – لمس رأسها المتعب بيده الشفافة وحين تأمله .. بدا له ماضيها ببلدانه وشطآنه في ذاكرتها المرئية .. في أحد تلك البلدان .. فُتح باب .. خرجت منه شابة بعمر الياسمين .. تتزين ببعض مساحيق التجميل .. لأول مرة .. تسير بدون صحبة الأهل لأول مرة أيضاً .. وحين رآها الناس .. بعضهم قال : الله .. ما أجملها ! وقال آخرون : - يالها من متباهية بجمالها ! وراح يختلق عنها ما يشاء .. يفرغ عقده تجاه الجمال .. أخفت " ريتا " حزنها في عينيها ، وتابعت سيرها . في إحدى ساحات الماضي .. وقفت " ريتا " محاطة بعدة فتيات .. تقدم لهن ورود الصداقة العبقة بأريج الطيبة والنقاء .. وبدا ما يعتمل داخل نفوسهن التي حول بعضها شعور انعدام الثقة بالنفس .. إلى بؤرة حسد مظلمة يسكنها الغبار بجراثيمه التي يأكل بعضها بعضاً .. تحاول بعض النفوس كبحه ونفوس أخرى .. تسرّب من نظراتها .. من منافذ كلماتها .. قرأت " ريتا " صفحة النفوس عبر العيون .. فاعتصر الحزن قلبها ، وارتداه ثوباً دافئاً .. شعرت بحزنها بقية النفوس الطيبة التي تحيط بها .. فقدمت لها .. ورود المحبة والوفاء .. فعادت البهجة إلى السُّكنى في عينيها ..

    أضحى الحاضر أسير تأمله الذي شاغله عن نفسه بعالم الذاكرة ، فرأى في نهاية أحد طرقها حادث صداقة مؤسفاً .. فعاد لبداية الطريق .. كانت " ريتا " تسير مع إحدى صديقاتها بمرح .. فرآها حبيب تلك الفتاة الذي بدا من المتسكعين في الحياة ، وبينه وبين الحب عداء .. فقد نسي حبيبته وغرس اهتمامه وروداً متنوعة على دروب " ريتا " التي ألقت على غرسه .. فيضاً من الازدراء والرفض .

    وجه الحاضر نظره لصديقة " ريتا " فبدا ما تعلمه عن معدن " ريتا " النبيل وطيبتها وقصة حبها المثالي الوحيد .. برغم ذلك سمحت لذرّات الغبار أن تضع قرطاً من الآراء الفارغة في أذنها ، فأعطت بذلك أهمية لتلك الذرّات التي انتفخت ، وراحت تفرغ محتواها .. هنا .. وهناك وحولت الغيرة تلك الصديقة إلى ذرّة غبار .. تبحث مع صديقاتها عن أي شيء يمكن أن يغمر " ريتا " بالحزن .

    سلط الحاضر بصره إلى درب تنيره قناديل الحب .. يفصل رياح الشتاء الباردة المحملة بالثلج والغيوم الدامعة .. عن فيوض الربيع وأنسام وروده العطرة التي نثرها على أشجاره ومروجه .. تسير فيه " ريتا " مع حبيب شغل مساحات عالمها، بدا لها عظيماً بحجم إحساسها بالحب ورومانسيتها .. ولكن ما وجده من مثالية ونضج في تفكيرها .. قد عكر ماهيّة الأنوثة في مخيلته ونبّه نواياه خشية انهدام طموحاتها .. فحزم حقائب إعجابه ، وانتقل لحقل مثمر آخر بحثاً عن شيء تقتاته نواياه الطموحة فرغ من الحب ذلك الدرب الذي رطبته دموعها .. فنمت أزهار بيضاء قرب أشواك الثرثرة التي سارت عليها " ريتا " برزانة وألم جال الحاضر بنظره إلى حيث تبدو جبال الذاكرة .. فرأى أحد تلك الجبال وقد تدلى منه سلم يصل إلى وديان وخلجان بعيدة .. وها هي " ريتا " تهبط السلم .. بضع درجات وإذ بها ترى أحد الأبواب يُفتح أمامها .. تدخله .. فتجد مسرحاً فاتحاً صدره لعرض يدور فيه حوار بين الفن والثقافة والمجتمع .. وجمهور كبير يصغي باهتمام .. وجدت كرسياً فارغاً دعاها إليه أحد الحضور والذي سر كثيراً من القدر الذي ترك بجواره كرسياً فارغاً ليدعوها إليه.. جلست تصغي للحوار الشيق رغم شعورها بعينيه قد تحولتا لحارسين أمينين لها وحدها .. في نهاية العرض ، ألقت " ريتا " نظرة- من عينيها العطشاوين إلى الحنان – على عينيه .. لتُلقيَ سهوباً من الألفة ،ورياضاً من الحنان .. وبريقاً من دفء الحب قد سطع وحمل كل تلك المفاتن وتسلل داخلاً قلبها المعتم لينيره .. فاشرق الأمل في عينيها .. وحين نهضا .. استعرضت فصول العام سحرها أمامهما .. وهما من عشاق استعراض الفصول .. وفي مسرح الحياة .. وقف طالباً يدها .. ليمنحها وروده .. حملت ورود أحلامها وسارت معه بشموخ .. أفضت بها دربه إلى .. صحراء مقفرة .. نباتاتها شوكية كقاطنيها مياهها عكرة .. كان رجلاً لطيفاً معها .. فقد آلمه إحساسه بخيبة قد سببها لها فأسف لذلك بشدة ، وبدأ بترتيب المكان من أجل راحتها قدر استطاعته .. وراحت تساعده لجعل المكان أكثر راحة لهما معاً .. ولكن قيظ الأعوام المندلع لا يرحم .. فمن أي النيران تهلّ الراحة ؟!.. نادت الصبر بإنشاد فلباها رحمة ببراعمها .. وأحضر حكمته لتساعدها بتصفية المياه العكرة ونثرها رذاذاً منعشاً على زغب أسرتها الصغيرة .. فتخف بذلك وطأة القيظ المستعر ..

    بحث الصبر الرحيم برفقة صديقته الحكمة .. عن طريقة يستطيعان بها الولوج إلى أعماق ذلك الرجل اللطيف.. لكنهما لم يفلحا .. فقد سد منافذ روحه شعوره بعدم الرضا .. ودفعه الإحباط إلى صخرة البعد .. فوجد السفر فاغراً فمه انزلق داخل الفمّ الرهيب الذي ابتلعه . ولم يستطع الوجود إعادته ..

    تاركاً وحدتها وبراعمها في مجابهة غير متكافئة مع الصحراء ونباتاتها الشوكية البشرية .. الجارحة .. ومياهها العكرة التي جفت بعد رحيله .. ترى هل عودته ممكنة ؟.. هذا ما فكرت به وهي تحتضن براعمها وتصعد السلم .. إلى أن وصلت أرضاً خضراء يرويها جدول الحياة الخيّر بعبوره بها .. يمتلكها الواقع – ذلك الجبّار الذي لا يرحم ولا يتغير إلا بمشيئة الحاضر صنيع الإنسان .

    سارت قليلاً فشعرت بمعرفة جيدة تربطها بهذه الأماكن .. حملها الفرح مسرعاً بها في أحد الأزقة إلى منزل .. تسكن فيه طفولتها .. وكل مراحلها العمرية القديمة .. قرب وجوه أليفةٍ .. حبيبةٍ .. اشتاقت إلى لثمها .. دخلته مع صغارها .. وإذ بالوجوه الحبيبة الأليفة .. ترحب بها وحدها وتغض الطرف عن براعمها البريئة فالمنزل لا يتسع لهم .. أمسك الواقع أطفالها ليعيدهم لتلك الصحراء .. فهبت "ريتا " الأم وتحولت لعاصفة .. ابتلعت أطفالها في ملابسها .. ورشقت بقرارها على تلك الوجوه الأليفة : - سأذهب إلى الغابة ، وأعمل بها ، وأبحث لي ولصغاري عن مسكن هناك ، قد أجد الرحمة فيها .. من يعلم ؟

    صرخت الوجوه الأليفة : - لا يوجد في الغابة رحمة لا تكوني حمقاء .

    انتفضت الأم " العاصفة " : - ولا يوجد في تلك الصحراء رحمة .. وأكون حمقاء وغير جديرة بأمومتي إن رميت بصغاري إليها ..

    أنتم تجهلون الغابة لشدة خوفكم منها وبعدكم عنها ..

    تفتح الأرض ثغرها باسمة بزهورها إلى جانب أنياب أشواكها .. في الغابة نجد كل الأضداد .. سألقي بخوفي هنا وأذهب بدونه لأجعل أولادي يفخرون لكوني والدتهم .. ستحرسهم مقلتي حتى تجف قطرات نبضي .. فمن أجلهم أحيا ..

    ويبتسم الحاضر الفتي لأم استحقت أمومتها عن جدارة ، ويقدم هديته لها .. ابتسامة حب وسعادة وتقدير أطلت عليها من عيون أطفالها إنها أروع هدية تقدم لأم ..

    ألفتها بلسماً خفف أثقال الواقع المضنية فأصبحت كريشة علقت على كتفها .. وجعلت الإرهاق يلملم شتاته ويرحل ثم عادت إلى طبيعتها ..(( " ريتا " المشرقة)) .


    @@@

    وخرج طفل الذاكرة

    جلس جابر ابن السبعين سنة على كرسيه وحيداً في غرفته ، وراحت ذاكرته تحوم حوله .. جعلته يرى زمن الطفولة بكل ما حوى من براءة وشقاوة .. أفراح وآلام .. ثم داعبت مخيلته ، وكشفت لعينيه الشائختين عن سحر مفاتنها .. فمثلت سنو المراهقة والشباب أمامه ببهجة أيامها وفيض أحلامها فدمعت عيناه بانفعال ممتع .. والتقط قلبه هاتيك الذكريات .. وازدادت نبضاته ، وضخ دماً مفعماً بروح الشباب .. جعل ابن السبعين ينهض من جلسته .. وراح يذرع الغرفة جيئة وذهاباً مبتسماً حيناً مقطباً ضارباً كفاً بكف حيناً آخر وحالماً برومانسية أحياناً .. وفجأة يسمع ارتجاج النافذة الذي جعل ذكرياته تعود لمكمنها – تلك الذكريات التي أعادت له زوجته الحبيبة شابة جميلة عاشقة ، وأعادته شاباً عاشقاً – وثارت ثائرة غضبه حين دخل غرفة زوجته المريضة ورأى كرة القدم الفوضوية تغيظه برجها الرهيب للنافذة .. الذي جعل آلام البائسة الحبيبة تستيقظ من جديد ..

    كان أولئك أطفال حيه الشعبي الذين لم يجدوا مرتعاً للعبهم خيراً من الشارع .. فتتطاير كرتهم من نافذة لأخرى .. تلك الكرة التي باتت تعلم الكثير عن أسرار النوافذ .. في زاوية الشارع قرب شجرة توت كبيرة .. تبدو نافذة بسيطة لامرأة تعيش وحيدة مع صغارها في أولى مراحل طفولتهم .. تحاول معهم ليناموا .. كي يتسنى لها الجلوس مع أقمشة تخيطها ، وتطعم من أجورها صغارها الذين باشر النوم شدهم إليه بهدوء .. وتهتز النافذة بعنف تحت وقع ضربات الكرة الطائشة .. فينهض الصغار وينهض معهم غضب الوالدة وحزنها فتقترب من النافذة وتصرخ معترضة على لاعبي الشارع الصغار . وهناك نافذة لطالب في مرحلة الامتحان الأخير للثانوية .. يدرس ويتألم من ضجيج الكرة المشاغبة .. ويود لو يخرج لمعاقبة الأطفال الصاخبين في الشارع لكن الحياء يمنعه .. ومن محل أنيق تطل على اللاعبين الصغار شابةٌ تحذرهم أن كرتهم اللامبالية .. تشكل خطراً حقيقياً على واجهة محلها الزجاجية .. فتسمع منهم ألفاظاً تغيظ والشارع لا يجيد التربية .. فقط الإنسان .. هو الذي يربي ..

    ومن منزل جابر تئن نافذة أضنتها الكرة .. تخفي خلفها امرأة أعياها المرض وأذبلها في فراشها وحتى حبوب النوم قل تأثيرها في جعل آلام تلك المرأة تنام .. وركلت الكرة نافذة المرأة المريضة بجرأة فظة واطلعت على خباياها وآلامها .. هنا خرج جابر ثائراً .. بعد أن أجرمت الكرة بحق زوجته المريضة وحطمت له .. لحظة هدوء .. كانت تعني لديه الكثير .. صرخ بالأطفال الصاخبين .. فضحكوا .. تحدث معهم بلطف فتمادوا بسخريتهم .. هددهم بذويهم .. فقذفته ألفاظهم بالألقاب المزرية والسباب والشتائم .. مما استفز طفل ذاكرته ليخرج منها ويرتديه .. فبدا طفلاً هرماً مشاكساً .. وقررت طفولته الهرمة إخافة جرأة الأطفال المتمادية .. وحين اقترب من اللاعبين المشاغبين تصدى له أحدهم ساخراً منه ليشعره أنه شجاع ولا يعرف الخوف .. فهمست السبعون سنة في أذن الصبي : - عليك أن تخشى الأشخاص الغاضبين ولا سيما إن كنت أنت من سبب ذلك الغضب .. فضحك الصبي ساخراً مع أترابه .. وحصل بعد تلك السخرية .. الصراع غير المتكافئ الذي هزم بعده الصغير المتحدي لطفولة جابر الهرمة .. فشحب جابر الذي غادره طفل الذاكرة إلى مكمنه .. وعاد إليه رشده وصوابه .. وشعر أنه مجرم حقيقي وراح يُسائل نفسه .. كيف ضرب طفلاً صغيراً ؟.. كيف استطاعت شيخوخته الإقدام على مثل ذلك العمل القبيح ؟.. لن يغفر لنفسه حتى وإن غفر له الوجود فعلته تلك .. فلو كان ذلك الصغير ابنه أو حفيده .. لما كان درى ماذا سيفعل بضاربه .. قد لا يكتفي بسجنه واستفاق من شعوره بالندم وهو يجلس في سيارة الشرطة للمثول أمام المحكمة التي برغم رهبتها جعلت جابراً المستسلم .. النادم .. يجلس برفقة ذاكرته .. التي عادت وكشفت لشيخوخته عن سحر مرحلة الصبا وروعتها .. وهو يتأمل ملامح وجه جميل لامرأة حسناء في المحكمة .. وقد منعه شروده الممتع من سماع الكثير من التفاصيل التي جرت من حوله وأيقظه من ذلك الشرود صوت تلك الحسناء التي غيبه وجهها عن واقعه وتراءت له ملامحها كملامح زوجته حين كانت بكامل جمالها وشبابها وخال أنها أمامه بسحرها وصحتها وهو الشاب العاشق ينظر إليها .. قالت : ستنام عندنا .. وظل جابر مشدود النظر إلى محياها .. فقفز قلبه من صدره سعادة ، وحلم بذراعيها تستضيفانه .. فشعر بالهناء والرضا .

    وحين اقتاده رجل إلى مكان نومه .. استيقظ من غفلة أحلامه وراح يتأمل الحجرة الصغيرة التي تحوي أكثر من عشرة أشخاص .. وجوههم غريبة .. مريبة .. جلس في ركن صغير من الغرفة .. سعلت شيخوخته .. فبادر أحدهم بالسؤال : - ما جرمك يا عجوز ؟.. فوجد نفسه يروي له قصة مرض زوجته وإزعاج الأولاد في الشارع لها وله وسبابهم وشتائمهم .. وكيف أراد إخافتهم فحصل ما حصل .. فعلق الشخص قائلاً : - كنت عادلاً في معاقبة ذلك الصبي فلا داعي للندم والتفت لرفاقه وقال : - أليس كذلك يا شباب ؟ وقهقه .. فقهقه جميع من في الغرفة .. ما عدا جابراً الذي ارتاب كثيراً وانكمش على ذاته في غربته تلك نامت ذاكرته .. واختبأت أحلامه في نوم الذاكرة .. لكنه بقي مستيقظاً يراقب أحد أشخاص الحجرة .. وهو يحمل حبلاً نزعه من سترته .. وراح يربط به رقبته ويقول : - هاأنذا أمثل حكم الإعدام .. ثم يشد الحبل حتى يتقيأ .. ويشرب الماء بكثرة حتى يتبول على ملابسه .. ثم يهرول راكضاً بعبثيته غير العاقلة .

    في ذلك الوسط الغريب .. لم يستطع جابر إغماض عينيه المرهقتين قالت أفكاره : - مالك والأولاد .. دعهم يلعبون كما يشاؤون .. فلا بد أن تلحظ الدولة مشاكلهم وتصدر قوانين تعاقب من خلالها الأهالي الذين يلقون بأطفالهم إلى الشارع . وقالت أحزانه : - ما الذي حل في تلك المسكينة التي بقيت ومرضها في غرفتها . فطمأنتها الأفكار : - لا بد أن الأحفاد والأبناء سيهتمون بها كثيراً لأنها وحيدة الآن . وقالت السبعون سنة : لا بد أن أخرج من هذا الجحيم غداً .. فلن يتخلى عني أبنائي الذين استطاعوا إقناع أهل الصبي بإسقاط حقهم الشخصي فهل يصعب عليهم إقناع الحق العام بإسقاط حقه أيضاً ؟ فراوده بعض الاطمئنان .. وحاولت عيناه النوم .. وإذ بباب الغرفة يفتح ويدخل منه الصباح بنوره المشرق .. ويهدر الصوت : جابر الجابر .. إفراج .. فاستيقظت الذاكرة التي كررت كلمة " إفراج " في أذني جابر فخرجت الأحلام من مخبئها وأيقظت الشاب النائم في الذاكرة .. فنهض جابر بكليته .. ليستقبل فجر حريته .


    @@@



    الفهرس

    1- حبّك والبحر...................................2

    2- ذكرى........................................ 5

    3- ليلة عيد..................................... 7

    4- حبّي المجنون...............................11

    5- في عيد الحب.............................. 13

    6- مصادفة.................................... 16

    7- حبك قدري................................. 19

    8- أجمل أعوامي.............................. 20

    9- يارا ولينا.................................. 22

    10- كيف ننسى الحب؟!....................... 25

    11- نافذة..................................... 28

    12- بيتك..................................... 30

    13- السجينة.................................. 31

    14- هروب قدريّ..............................34

    15- شعاع الأمل............................. 37

    16- عصفورا قلبي.......................39

    17- تأمّل................................41

    18- الطيف المرعب..................... 44

    19- البعوضة المبتهجة...................46

    20- ثلاثة ملائكة.........................48

    21- أنت لا تدرك معاناتي.................51

    22- قدر..................................54

    23- آه يا خريف العمر!...................56

    24- كـاتب...............................58

    25- الرياح................................61

    26- الصامت..............................63

    27- ذكرى باردة..........................65

    28- حين يصمت المكان...................68

    29- البيت................................72

    30- لوتس................................78

    31- العكاز................................85

    32- سيرين والذراع الطويلة................91

    33- سندريلاّ واللص........................99

    34- حين تحوَّلت "ريتا" إلى عاصفة........107

    35- وخرج طفل الذاكرة...................115


Working...
X