إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

الرجل الكفاءة ( د. مسعود بوبو ) ــ د.علي عقلة عرسان

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الرجل الكفاءة ( د. مسعود بوبو ) ــ د.علي عقلة عرسان

    :الرجل الكفاءة
    ــ د.علي عقلة عرسان


    بسم الله الرحمن الرحيم

    "أينما كنتم يدرككّم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة" تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور" /سورة الملك- الآية2.

    بطاقة صغيرة:

    مسعود سعيد بوبو مواليد حبسْكة من أعمال محافظة اللاذقية في الأول من شهر آب 1938، دكتوراة في علوم اللغة العربية من جامعة الإسكندرية -أستاذ في جامعة دمشق، ودرس في جامعتي البعث وصنعاء- عضو مجلس اتحاد الكتاب العرب وعضو هيئة تحرير مجلة التراث العربي -عضو مجمع اللغة العربية بدمشق- والمدير العام لهيئة الموسوعة العربية.

    له من المؤلفات:

    - نافذة على اللغة -دار البعث 1983- دمشق

    - أثر الدخيل على العربية الفصحى في زمن الاحتجاج- وزارة الثقافة 1983

    - دراسات في اللغة- جامعة دمشق "كتاب جامعي 1983- 1984".

    - أبحاث في اللغة والأدب -دار شمال للطباعة والنشر- دمشق 1994

    - في فقه اللغة العربية -جامعة دمشق- مطبعة ابن حيان 1995

    - الصوت والصدى- اتحاد الكتاب العرب 1999

    أيها الحضور الكرام

    تجمعنا اليوم ذكرى رجل عزيز على قلوبنا، له مكانة في النفس وموقع بيننا سيبقى محتاجاً إلى من يشغله بكفاءة الراحل العزيز الدكتور مسعود بوبو، الذي غاب عنا فجاءه وترك فينا إحساساً مراً بالفقد، وضربة سكين من الأسى يتجدد الإحساس بها في عمق القلب. نديا ذهب كما الصباح الذي تفاجئه هجمة القيظ، أخضر الروح مضى وهو في توقد الرغبة للعطاء، وها نحن اليوم أمام حقيقة الرحيل المتجدد لكل حي، وأمام دروس متجددة للأحياء يلقيها ذاك الأستاذ المتجهم الذي لا يكل ولا يمل ولا يتوقف عن أداء عمله: الموت.

    لقد قال راحلنا يوماً كلاماً في صديق عزيز عليه وعلي، أجدني أردده لأمرين: لأنه يليق بمقامي معه كما كان مقامه مع صاحبه، ولأنه شديد التعبير عن مسعود بوبو وأسلوبه ورؤيته في نثره الأدبي.

    قال في الراحل الشاعر مسعود جوني:

    "ها هو ذا صوت دافئ يغلق نافذة السهر ويرحل.. يطلق فرسه في حقول قمح تخضبت بألوان الفجر والشفق.. وحيدة كقمر مجفل خلف السحب، يتيح للبخور أن يتقد ويتغلغل في شرفات البيوت وأصداغ الأمهات، يترك في "مشقيتا" رفوف القبرات تعلو وتعلو وهي تصلي.. ثم تهوي نيازك في القميص الجوي الرقيق.. يترك زغرودة من عصافير ذبيحة على سكاكين الأسيجة، وتغمض التنانير عيونها على الرماد.. ومن جديد يصير الطريق صعباً إليك يا صديقي.. يصير غمامة من الأسى والاختناق. فأية مسافة هذه التي كموج البحر وأنت لم تنتقل إلا من العين إلى القلب.

    سلاماً يا صديقي.. سلاماً، لمن تركَنا نتأمل كيف ترحل الأصوات، وتبقى حقول القصب." [1]

    قبل أيام من سفره إلى باريس للعلاج مر بي مرور مودع، لم أر وجهه من قبل على نحو ما رأيته في تلك الدقائق القصار. تبادلنا كلمات قليلة قبل أن يقول لي: أنا ذاهب إلى العلاج. لم أكن أعرف أنه مريض أصلاً ولكن خضرة مشوبة باصفرار رسمت شيئاً يقينياً أمام عيني. وفي عينيه قرأت رسالة: قد لا أعود وقد يكون هذا لقاؤنا الأخير.

    لم أعهد أبا وجد من قبل حزيناً، ولم أقرأ من قبل على وجهه كلمة يأس؛ وفي تلك اللحظات الكابية من صباح دمشقي مشرق، كانت على وجهه آيات من سكينة وهدوء، وفي عينيه بدت سماء روحه ملبدة بغيوم كثيفة؛ وفي كلماته ثقة بالله وتوكل عميق الغور. ولما كان رحمه الله صموتاً وصبوراً ورزيناً وهادئاً فإنني لم أتبين قلقاً تتصدع تحت زلزلته الروح.

    "قد لا نلتقي مرة أخرى، فليسامح كل منا الآخر"، ما الذي يقوله أبو وجد وكيف يقوله ولماذا يقوله بهذه الطريقة الجادة؟! لم أستطع أن أخفي قلقي وكنت أستمد من تسليمه بقدر الله قوة. مضى ولم نلتق مرة أخرى كما يلتقي الأحياء.

    في ركن من هضبة تجاور بحر اللاذقية، وتحت شجرة خضراء لم أعد أتذكر نوعها، ربما كانت شجرة صنوبر، كان لقاؤنا الأخير.. روح ماضية إلى خالقها راضية مرضيّة وروح تنتظر دورها في العتمة على مفترق الدروب. ترك أبو وجد لنا مرارة في الحلق ومثلاً في الرجولة والدأب وتواضع العلماء، ولكن غيابه رغم مآثره ترك حسرة في النفس. وعلى تلك الهضبة التي ابتلعت أجساداً بلا عدد كان يمر أمامي ضاحكاً وفي يده مسبحة جميلة، فأنظر إلى القبر حيث أرى التابوت مسجى أمامي، فأحار وأرتد إلى ذاتي دافعاً عني صورة الشؤم التي تلاحقني قائلاً: مسعود لم يمت.. ها هو بفرح الطفل وابتسامة مميزة يختال أمامي حاملاً المجلد الأول من

    الموسوعة العربية، ويقول بعزم الرجال، لقد أنجزنا عملاً ممتازاً والمجلد الثاني في المطبعة وسوف أحمله إليكم بعد وقت قريب. تمضي الصورة الرافلة بالشموخ ليقف بصري من بعد على أيدٍ تحمل الجسد من التابوت وتواريه التراب!؟ ما هذا الذي نحن فيه!!؟
    يدفِّن بعضنا بعضاً وتمشي

    أواخرنا على هام الأوالي

    من تراب إلى تراب، يحيينا ويميتنا، ويرسل فينا آياته ولا نكاد نعي من أمرنا شيئاً، سادرين في غينا ترانا وقودها ولا نكاد نتبين من نحن ولا نكاد نُبين. يلهينا التكاثر عن المآثر، والإنسان ما بقي قيمة وما يعيش عيشاً حقاً إلا إذا كان قيمة أو ترك في الناس قيمة... تضج من حولي المقبرة.. ألا خلق المرء ما أكفره، ألا خلق المرء ما أكفره.

    عشرات الوجوه عن يمين وشمال، الأرض، التي تبتلعنا واحداً بعد الآخر تفغر فاها ولا ترتوي، ونحن أكف في القبر وأخرى تنوش السماء وتربط خيوط الرجاء إلى كل سفح إلى كل ماء. نظرت صديقي في القبر وقدمي على حافة ذلك الذي سيبتلعني.. كاد الحزن يسيل نهر احتجاج وإلى السماء رنت عيناي ثم عادتا أكثر استقراراً في الجسد الذي ينتظر دوره. فالموت حق.. الموت حق.

    منَ الحلق تبتدئُ الغرْغرَةْ

    ومنها إلى وحشةِ مقفِرَهْ

    يتوهُ بها جحفلُ العارفينَ

    وتُفضي إلى وحشةِ المقبرَهْ

    منَ الحلق تبتدئُ الغرْغَرَهْ

    ومنها إلى وحشةِ المقبرَهْ

    منَ الحلق تبتدئ الغرْغَرَة

    منَ الحلق تبتدئ الغرْغَرَة


    وفي القلبِ ترنيمة منْ ضياءٍ،

    لوجهِ الرجاءِ، لوجهِ السَّماءْ،

    صديقي: تموتُ الرؤى في العيون،

    ولا تنتهي صَبَوَاتُ الشَّبابْ

    وتُفْضِي الدُّرُوبُ إلى حالتينِ:

    نعيمُ القلوبِ وأخرى العَذْابْ

    وتبقى صديقي فضاءَ اليقينِ،

    وتبقى صديقي حضورَ الغيابْ

    ****

    على الغيم ألقيْتُ شبّابتيّ

    وودَّعْتُ كلَّ فتونِ الخضابْ

    ولوّحْتُ بالكفِّ للمتعبينَ

    ويسَّرْتُ للريح سَوْقَ السَّحابْ

    وقلْتُ لمنْ يألفُ المشيتين:

    طريقي صعودٌ وسعيُكَ خابْ

    عجيبُ الوعورةِ دربُ الصعودِ

    ولكنْ... لكلِّ فتى مبتغاهْ

    فهذا يحبُّ رطيبَ الظلامْ

    وذاكَ يحبُّ شَفِيفَ الحياةْ

    ومرجٌ عليه رفيفُ الصباح

    ولغوٌ على الشّفَّتينِ مُذابْ

    ومرجٌ ذوى مثلَ كفِّ المريض

    عَلاهُ السَّوادُ وبومُ الخرابْ

    ****

    منَ الحلق تبتدئُ الغرْغَرَهْ


    ومنها إلى وحشةِ مقفِرَهْ

    يتوهُ بها جحفلُ العارفينَ

    وتُفضي إلى وحشةِ المقبرَهْ

    منَ الحلق تبتدئُ الغَرْغَرَهْ

    ومنها إلى وحشةِ المقبرَهْ

    منَ الحلق تبتدئ الغرْغَرَة

    منَ الحلق تبتدئ الغرْغَرَة

    رحم الله فقيدنا الغالي فقد كان يتحلى بخلق قويم، وكان عف اللسان، حريصاً على أداء عمله بإتقان، يترفع عما يتهالك عليه الناس، ويشتد أحياناً حتى على نفسه؛ وفي اللحظات التي تقتضي حضور الحق والحجة والرأي تجده حاضراً معبراً عن موقفه بوضوح وحزم وبساطة. في إنتاجه تجد الباحث الرصين والمجتهد المثابر؛ وحين تقرأ نثر الرجل المعبر عن ذاته ورؤيته ورأيه، ولا سيما في كتابه الصوت والصدى، تجد العبارة الرقيقة والأسلوب المتين والصور الجميلة التي تبث قدرة فائقة على التخييل؛ وهو لا يقدم كلاماً موشى من دون فكر وعمق، إنه صاحب رأي وموقف قبل أن يكون سكاب كلام كثير في إهاب من القول جميل.

    لقد رحل الباحث والكاتب مسعود بوبو في ذروة عطائه، اختطف جسده الموت وبقي لنا منه ما لن يأتي عليه الموت، بقيت شمائل وقيم وسلوك ومواقف، وبقي عطاء يغني مكتبتنا العربية، ويفيد أجيالنا ويبقى حاضراً ومؤثراً فيها، وبقي مشروع علينا أن نؤكد أهمية وضرورة متابعة إنجازه: الموسوعة العربية التي أخذت من أساتذتنا ومنهم الدكتور مسعود بوبو الكثير من الجهد والوقت، ولا أظن إلا أنها ستوضع في أيدٍ أمينة تتابع إنجازها على الوجه الأكمل.

    أيها الكرام

    لقد فقدنا في اتحاد الكتاب العرب زميلاً عزيزاً وكاتباً متميزاً، وخسارته تركت في النفوس مرارة، ولكن من منا يملك أمر نفسه، ويملك أن يستعصي على الطلب عندما يكون الطالب هو صاحب الوديعة الذي يمنح الحياة ويقضي بالموت. إننا لا نملك إلا أن نعبر عن الحزن والأسف، ونلتمس العزاء فيما ترك الراحل من أثر وسلوك، وما أنجز من عمل. ونتوجه بالدعاء له بأن يحسن الله إليه، وأن يدخله فسيح جناته، وأن يلهم أهله وأصدقاءه الصبر والسلوان من بعده، إنه سميع مجيب.

    وإنا لله وإنا إليه راجعون.
يعمل...
X