Announcement

Collapse
No announcement yet.

العبقري جورج فايدو (1862 – 1921)… ومسرح الفودفيل

Collapse
X
 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts

  • العبقري جورج فايدو (1862 – 1921)… ومسرح الفودفيل

    جورج فايدو… عبقري مسرح الفودفيل





    مشهد من مسرحية «خيط في الرجل» لـجورج فايدو
    أبو بكر العيادي
    يستمد مسرح الفودفيل اسمه وجذوره من أغان نورمندية كانت رائجة في فرنسا منذ عدة قرون في جهة «فال دو فير»، أغان خفيفة ساخرة، وأحيانا مبتذلة حدّ السماجة يصدح بها بعضهم في المآدب ومجالس اللهو. وبمرور الوقت حُرّفت التسمية، فصارت «فو دو فير « ثم «فو دو فيل» قبل أن يقع إقرار «فودفيل»، دون أن تتخلى عن شكلها ولا عن مضمونها الأصليين حتى بداية القرن التاسع عشر، حين أصبحت تعني كوميديا شعبية هزلية ليس لها غايات سيكولوجية أو أخلاقية، تكثر فيها التطورات المفاجئة والوضعيات الملتبسة وتعدد المواقف الجريئة التي يفرزها تباين الانتماء الطبقي وتشابك المصالح وتعقّد العلاقات الغرامية. وقد برع في هذا اللون من المسرح كثيرون أهمهم أوجين لابيش (1815 – 1888) وخصوصا جورج فايدو (1862 – 1921) موضوع هذه الورقة.
    يعتبر فايدو سيد المسرح الهزلي، تأليفا وإخراجا، وأعماله تعتبر من كلاسيكيات الفودفيل، ولا تزال تلقى النجاح في عروضها الدائمة، لأنها تركز على الملهاة الإنسانية، وتعري رثاثة القيم البورجوازية ورياء العلاقات العاطفية في مواقف ترقى بالظرف إلى مستوى من الإبداع بديع، كما هو الشأن في مسرحية «خيط في الرِّجل» التي تعرض حاليا في الكوميديا الفرنسية.
    يستقي فايدو مادة مسرحياته من حياته الليلية الصاخبة، ومن المعيش اليومي، ومن كل ما يلتقطه من أحاديث وطرائف وأخبار غريبة تستحلي نشرها الجرائد، ويتسلى بها القراء دون أن يعيروها كبير اهتمام، مع تركيز واضح على العلاقات الغرامية والخيانة الزوجية وما ينتابها من وضعيات مضحكة، يكون فيها الخادع مخدوعا دون أن يعلم. تعلقت همته بهذا اللون من المسرح منذ الصغر، بعد أن هجر الدراسة والتحق بالفنون الدرامية.
    لم ينجح في التمثيل، فمال إلى التأليف، وكتب عام 1882- وهو لا يزال في سن التاسعة عشرة – مسرحية بعنوان « من الشباك» تولى إخراجها بنفسه، ثم «خياط السيدات» عام 1886، ولم يلق النجاح إلا عام 1892 في مسرحيته الثالثة «سيدي يصطاد» التي فتحت له باب المجد، فصارت مسرحياته حدثا ينتظره الباريسيون وعشاق المسرح الهزلي، مثل «سيدة ماكسيمز» و»فندق التبادل الحرّ « و»احرص على أميلي» و»خيط في الرِّجْل» التي حازت عام 2011 على جائزة موليير لأفضل عرض، مثلما حاز كريستيان هيك الذي قام فيها بدور البطولة على جائزة أحسن ممثل.
    تنطلق المسرحية بمأزق يواجه بوا دانغان : كيف السبيل للتخلص من عشيقته لوسيات غوتييه، المغنية في أحد مقاهي الكونسيرتو، والبارونة دوفرجيه تلح على حضورها حفل عقد قران ابنتها فيفيان معه ؟ وكيف يخفي على لوسيات مشروع زواجه الذي سيغير وضعه من حال إلى حال، وخبر زواجه منشور في جريدة لوفيغارو، متداوَلٌ بين الناس ؟ وكيف يفلح في صون علاقتهما وهي عرضة لإغراءات الجنرال إيرّيغا الذي لا يدّخر جهدا ولا مالا لنيل رضاها ؟ وكيف يحوز قلب فيفيان وهي لا ترى فيه إلا غرًّا قليل التجربة، مهذبا زيادة عن اللزوم، وتمنّي النفس برجل مجرب يفتنها ويأخذ بمجامع قلبها ويفتح لها مستقبلا بسعة الحلم ؟ والجميع إما ساعون وراء المال، أو هم يكنزونه في خزائنهم.
    طوال فصول ثلاثة تتعدد المواقف الملتبسة التي توحي بوشك انكشاف سرّ بوا دانغان وافتضاح أمره، خصوصا وأن الجريدة حاضرة بين أيدي الجميع، عند مرمى البصر بالنسبة إلى لوسيات، حيث ينتاب المتفرجَ في كل مرة إحساسٌ بأنها ستنتبه إليها لا محالة، ولكنها تحاذيها دون أن ترعيها نظرة. وتتوالى المفاجآت والتقلبات – بين ظهور وتخفٍّ – بشكل مثير للضحك، يتناوب على إثارته أولئك الشخوص، وكذلك بعض الخدم الذين يعدّ حضورهم ركيزة من ركائز مسرح الفودفيل.
    «خيط في الرجل» هي مسرحية مذهلة، ناجحة بكل المقاييس، تصور شخوصا تتقاذفها منظومة معينة، وتجرجرها حكاية داخل إطار محدد.
    شخصيات في عالمٍ المالُ فيه قِبلةٌ وغاية، يلهثون خلفه، كل على طريقته، بلا خُلق ولا وازع، يستهينون من أجله بالعواطف والقيم، بالأمانة والسلوك القويم. ويبوء سعيهم بالإخفاق الذريع، فتتوالى خيباتهم في سلسلة تتناسل من رحم بعضها البعض، وتتشابك ببعضها البعض بشكل يثير الضحك. وقد نجح المخرج جيروم ديشان في تجسيد النسق الآلي السريع الذي يَسِم مسرح فايدو، حيث الموقف يصبّ في الموقف بوتيرة فائقة، والممثلون في حركة دائبة لا تهدأ البتّة، وفُسح الاستراحة معدومة، عملا بمقولة فايدو نفسه : « لا ينبغي للمتفرج أن يلتقط أنفاسه أبدا !»
    يقول ديشان : «تتجلى عبقرية فايدو في قدرته على بناء عمل ذي معمار متماسك، يشدّ بعضه بعضا، فهو لا يترك أي شيء للصدفة، يدوّن كل صغيرة وكبيرة، حتى أدنى نفَس، بل إن التوجيهات التي يكتبها لكي يتقيد بها الممثلون والمخرج تحتل نفس ما يحتله الحوار من مساحة.
Working...
X