Announcement

Collapse
No announcement yet.

خمسون عامًا تفصل بين قبّعتين ماري القصّيفي ( القبّعة البيضاء - القبّعة السوداء )

Collapse
X
 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts

  • خمسون عامًا تفصل بين قبّعتين ماري القصّيفي ( القبّعة البيضاء - القبّعة السوداء )

    ‏‎Tantawi Art‎‏.


    ‏‎Marie Kossaifi‎‏


    خمسون عامًا تفصل بين قبّعتين!
    ماري القصّيفي
    خمسون عامًا تفصل بين صاحبة القبّعة البيضاء وصاحبة القبّعة السوداء!
    خمسون عامًا مضت على الطفلة التي كانت تقف خائفة على درج تمثال الشهداء في ساحة البرج!
    خمسون عامًا!
    نصف قرن من الزمن!
    نصف عمر في حسابات الأعمار والأمنيات!
    والطفلة التي كانت تريد أن تتمسّك بشيء يقيها السقوط أمام المصوّر الغريب، جلست في ثيابها السوداء تستريح في منتصف الطريق!
    ***
    كانت الطفلة يومذاك برفقة أمّها، في طريقهما إلى مستشفى الجامعة الأميركيّة، في تلك السنة التي انتشر فيها، وقبلها، وبعدها، شلل الأطفال، فباءت رجلها اليمنى بالفشل في مواجهة طغيان الوباء، وفي غياب اللقاح، بينما حقّق سائر جسمها نجاحًا في المقاومة. ومنذ ذلك الحين وهي تشعر بأنّها قادرة على الانتصار!
    تنظر الطفلة البيضاء، وهي تجاهد لتبقى واقفة، إلى الكاميرا، فترى امرأة ترتدي ملابس سوداء أنيقة. وبطريقة ما، تعرف أنّ هذه ستكون صورتها بعد خمسين عامًا! وبطريقة ما، تعرف أنّ المشوار سيكون طويلًا ومرهقًا ومؤلمًا!
    وتخاف!
    خمسون عامًا نصفُها الأوّل في عالم المستشفيات والعمليّات الجراحيّة والأوجاع، ونصفها الثاني في عالم الحرب والخوف والموت، وبين هذين العالمين كان عليها أن تشقّ طريقها لتحقّق شيئًا ما، لتقف من دون أن تقع، لتتعلّم كيف تنهض بعد أن تقع، لتمشي من دون عكّاز، لتمشي نحو هدف، لتعوّض على الوالدين صدمتهما بما أصاب ابنتهما البكر، لتكون الأخت الكبرى لشقيقتين وشقيقين أُهملوا مرّات بسببها وبغير إرادة أحد، لتكون هي، لتتصالح مع طفولتها، لتصالح عقلها مع جسمها، لتطوي الصفحات بعد أن تنتهي من القراءة، لتكتب عن مراهقتها التي تأخّر موعد وصولها، عن الحبّ الذي يصل دائمًا بعد انتهاء الدوام، عن الصداقات التي نحرها الطموح، عن الخيبات التي جعلتها على ما هي عليه، وعن الألم الذي أحاط بها في المستشفيات وأنساها غالبًا ما هي فيه! وعن الكتب! خصوصًا عن الكتب والكلمات والدفاتر البيضاء التي كانت بلون ثيابها، قبل أن يتسلّل الأسود إلى الأوراق والخزانة!
    ***
    الطفلة التي كانت خائفة من الذهاب يومذاك إلى المستشفى، حيث عليها أن تخضع لجلسات طويلة من العلاج الفيزيائيّ، تعرف الآن كم كانت شجاعة! وكم كان حظّها كبيرًا في أن تنجو ممّا كان يمكن أن يقضي عليها كما قضى على ملايين الأطفال في العالم! وكم كان والداها، على تواضع إمكاناتهما، رؤيويّين في تأمين أنواع علاجات خشي سواهما من الأهالي التفكير في احتمال أن تنفع أولادهم، خصوصًا في غياب دولة قادرة على أن تتعامل مع وباء عالميّ كهذا!
    ***
    صاحبة القبّعة السوداء تنظر إلى الكاميرا وترى طفلة خائفة في ثياب بيضاء، تقف بصعوبة على أولى درجات سلّم الحياة. تمدّ لها يدًا تبدّد خوفها من السقوط، غير أنّ الصغيرة ترفض، وتصرّ على أن تكون وحدها في الصورة، وتنجح، وتبقى واقفة، وتمشي بلا عكّاز، وتقطع مسافة خمسين سنة، وحين تجلس لتستريح، تفكّر في موضوع كتابها الجديد!



Working...
X